فصل: تفسير الآية رقم (6)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ الخ دليل آخر على الوحدة والقهر‏.‏

وترك عطفه على ‏{‏خُلِقَ السموات‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 5‏]‏ للإيذان باستقلاله في الدلالة ولتعلقه بالعالم السفلي، والبداءة بخلق الإنسان لأنه أقرب وأعجب بالنسبة إلى غيره باعتبار ما فيه من العقل وقبول الأمانة الإلهية وغير ذلك حتى قيل‏:‏ وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

والمراد بالنفس آدم عليه السلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا‏}‏ أي حواء فإنها خلقت من قصيري ضلعه عليه السلام اليسرى وهي أسفل الأضلاع على معنى أنها خلقت من بعضها أو خلقت منها كلها وخلق الله تعالى لآدم مكانها عطف على محذوف هو صفة ثانية لنفس أي من نفس واحدة خلقها ثم جعل منها زوجها، أو على ‏{‏واحدة‏}‏ لأنه في الأصل اسم مشتق فيجوز عطف الفعل عليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ اليل سَكَناً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 96‏]‏ ويعتبر ماضياً لأن اسم الفاعل قد يكون للمضي إذا لم يعمل أي من نفس وحدت ثم جعل منها زوجها ورجح بسلامته من التقدير الذي هو خلاف الأصل أو على ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ لتفاوت ما بينهما في الدلالة فإنهما وإن كانتا آيتين دالتين على ما مر من الصفات الجليلة لكن خلق حواء من الضلع أعظم وأجلب للتعجب ولذا عبر بالجعل دون الخلق فثم للتراخي الرتبي، ويجوز فيه كون الثاني أعلى مرتبة من الأول وعكسه، وقيل إنه تعالى أخرج ذرية آدم عليه السلام من ظهره كالذر ثم خلق منه حواء فالمراد بخلقهم منه إخراجهم من ظهره كالذر فالعطف على ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ وثم على ظاهرها، وهذا لا يقبل إلا إذا صح مرفوعاً أو في حكمه، وقد تضمنت الآية ثلاث آيات خلق آدم عليه السلام بلا أب وأم وخلق حواء من قصيراه وخلق ذريته التي لا يحصى عددها إلا الله عز وجل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الانعام ثمانية أزواج‏}‏ استدلال بنوع آخر من العالم السفلي، والإنزال مجاز عن القضاء والقسمة فإنه تعالى إذا قضى وقسم أثبت ذلك في اللوح المحفوظ ونزلت به الملائكة الموكلة بإظهاره، ووصفه بالنزول مع أنه معنى شائع متعارف كالحقيقة والعلاقة بين الإنزال والقضاء الظهور بعد الخفاء ففي الكلام استعارة تبعية، وجوز أن يكون فيه مجاز مرسل، ويجوز أن يكون التجوز في نسبة الإنزال إلى الأنعام والمنزل حقيقة أسباب حياتها كالأمطار ووجه ذلك الملابسة بينهما، وقيل يراد بالأزواج أسباب تعيشها أو يجعل الإنزال مجازاً عن إحداث ذلك بأسباب سماوية وهو كما ترى، وقيل الكلام على ظاهره والله تعالى خلق الأنعام في الجنة ثم أنزلها منها ولا أرى لهذا الخبر صحة، والأنعام الإبل والبقر والضان والمعز وكانت ثمانية أزواج لأن كلاً منها ذكر وأنثى، وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر مراراً من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخْلُقُكُمْ فِى بُطُونِ أمهاتكم‏}‏ بيان لكيفية خلق من ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيه من عجائب القدرة، وفيه تغليبان تغليب أولى العقل على غيرهم وتغليب الخطاب على الغيبة كذا قيل، والأظهر أن الخطاب خاص وصيغة المضارع للدلالة على التدرج والتجدد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلْقاً مّن بَعْدِ خَلْقٍ‏}‏ مصدر مؤكد أن تعلق من بعد بالفعل وإلا فغير مؤكد أي يخلقكم فيها خلقاً مدرجاً حيواناً سوياً من بعد عظام مكسوة لحماً من بعد عظام عارية من بعد مضغ غير مخلقة من بعد علقة من بعد نطفة فقوله سبحانه‏:‏ «خلقا من بعد خلق» لمجرد التكرير كما يقال مرة بعد مرة لا أنه مخصوص بخلقين‏.‏

وقرأ عيسى‏.‏ وطلحة ‏{‏يَخْلُقُكُمْ‏}‏ بادغام القاف في الكاف ‏{‏فِى ظلمات ثلاث‏}‏ ظلمة البطن والرحم والمشيمة، وقيل ظلمة الصلب والبطن والرحم، والجار والمجرور متعلق بيخلقكم، وجوز الشهاب تعلقه بخلقاً بناء على أنه غير مؤكد وكونه بدلاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى بُطُونِ أمهاتكم‏}‏ ‏{‏ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ‏}‏ إشارة إليه تعالى باعتبار أفعاله المذكورة على وجه بدل على بعد منزلته تعالى في العظمة والكبرياء، واسم الإشارة مبتدأ والاسم الجليل خبره و‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ خبر بعد خبر والاسم الجليل نعت أو بدل وهو الخبر أي ذلكم العظيم الشأن الذي عددت أفعاله الله مربيكم فيما ذكر من الأطوار وفيها بعدها ومالككم المستحق لتخصيص العبادة به سبحانه ‏{‏لَهُ الملك‏}‏ على الإطلاق في الدنيا والآخرة ليس لغيره تعالى شركة ما في ذلك بوجه من الوجوه والجملة خبر آخر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ جملة متفرعة على ما قبلها ولم يصرح معها بالفاء التفريعية اعتماداً على فهم السامع‏.‏ وفي إرشاد العقل السليم أنه خبر آخر، والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنّي تُصْرَفُونَ‏}‏ لترتيب ما بعدها على ما ذكر من شؤونه عز وجل أي فكيف تصرفون عن عبادته تعالى مع وفور موجباتها ودواعيها وانتفاء الصارف عنها بالكلية إلى عبادة غيره سبحانه من غير داع إليها مع كثرة الصوارف عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تَكْفُرُواْ‏}‏ به تعالى مع مشاهدة ما ذكر من موجبات الإيمان والشكر ‏{‏فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ‏}‏ أي فاخبركم أنه عز وجل غنى عن إيمانكم وشكركم غير متأثر من انتفائهما ‏{‏وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر‏}‏ لما فيه من الضرر عليهم ‏{‏وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ‏}‏ أي الشكر ‏{‏لَكُمْ‏}‏ لما فيه من نفعكم، ومن قال بالحسن والقبح العقليين قال‏:‏ عدم الرضا بالكفر لقبحه العقلي والرضا بالشكر لحسنه العقلي، والرضا إما بمعنى المحبة أو بمعنى الإرادة مع ترك الاعتراض ويقابلة السخط كما في «شرح المسايرة» فعباده على ظاهره من العموم، ومنهم من فسره بالإرادة من غير قيد ويقابله الكره وهؤلاء يقولون قد يرضى بالكفر أي يريده لبعض الناس كالكفرة ونقله السخاوي عن النووي في كتابه «الأصول والضوابط»‏.‏ وابن الهمام عن الأشعري‏.‏ وإمام الحرمين كذا قاله الحفاجي في حواشيه على تفسير البيضاوي‏.‏ والذي رأيته في الضوابط وهي نسخة صغيرة جداً ما نصه مسألة مذهب أهل الحق الإيمان بالقدر وإثباته وأن جميع الكائنات خيرها وشرها بقضاء الله تعالى وقدره وهو مريد لها كلها ويكره المعاصي مع أنه سبحانه مريد لها لحكمة يعلمها جلا وعلا، وهل يقال إنه تعالى يرضي المعاصي ويحبها فيه مذهبان لأصحابنا المتكلمين حكاهما إمام الحرمين وغيره، قال إمام الحرمين في الإرشاد‏:‏ مما اختلف فيه أهل الحق إطلاق المحبة والرضاء، فقال بعض أصحابنا لا يطلق القول بأن الله تعالى يحب المعاصي ويرضاها لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر‏}‏ ومن حقق من أتنا لم يلتفت إلى تهويل المعتزلة بل قال الله تعالى يريد الكفر ويحبه ويرضاه والإرادة والمحبة والرضا بمعنى واحد قال‏:‏ والمراد بعباده في الآية الموفقون للإيمان وأضيفوا إلى الله تعالى تشريفاً لهم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 6‏]‏ أي خواصهم لأكلهم اه فلا تغفل عن الفرق بينه وبين ما ذكره الخفاجي، وحكى تخصيص العباد في البحر عن ابن عباس‏.‏

وقيل يجوز مع ذلك حمل العباد على العموم ويكون المعنى ولا يرضى لجميع عباده الكفر بل يرضاه ويريده لبعضهم نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تُدْرِكُهُ الابصار‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏ على قول، ولعلامة الأعصار صاحب الكشف تحقيق نفيس في هذا المقام لم أره لغيره من العلماء الأعلام وهو أن الرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدي بنفسه فإذا قلت‏:‏ رضيت عن فلان فإنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا في مقابلة سخطت عليه وبينهما فرقان أنك إذا قلت‏:‏ رضيت عن فلان بإحسانه لم يتعين الباء للسببية بل جاز أن يكون صلة مثله في رضيت بقضاء الله تعالى وإذا قلت‏:‏ سخطت عليه باساءته تعين السببية فكان الأصل ههنا ذكر الصلة لكنه كثر الحذف في الاستعمال بخلافه ثمت إذ لا حذف، وإذا قيل‏:‏ رضيت به فهذا يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيداً للمعنى ليكون أبلغ تقول‏:‏ رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله عز وجل ربا وقاضياً، وقريب منه سمعت حديث فلان وسمعته يتحدث وإذا عدى بنفسه جاز دخوله على الذات كقولك‏:‏ رضيت زيداً وإن كان باعتبار المعنى تنبيهاً على أن كله مرضى بتلك الخصلة وفيه مبالغة وجاز دخوله على المعنى كقولك‏:‏ رضيت إمارة فلان، والأول أكثر استعمالاً وهو على نحو قولهم‏:‏ حمدت زيداً وحمدت علمه، وأما إذا استعمل باللام تعدى بنفسه كقولك رضيت لك هذا فمعناه ما سيجيء إن شاء الله تعالى قريباً، وإذا تمهد هذا لاح لك أن الرضا في الأصل متعلقة المعنى وقد يكون الذات باعتبار تعلقه بالمعنى أو باعتبار التمهيد فهذه ثلاثة أقسام حققت بأمثلتها وأنه في الحقيقة حالة نفسانية تعقب حصول ملائم مع ابتهاج به واكتفاء فهو غير الإرادة بالضرورة لأنها تسبق الفعل وهذا يعقبه، وهذا المعنى في غير المستعمل باللام من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين، وأما فيه فإنما اشتبه الأمر لأنك إذا قلت‏:‏ رضيت لك التجارة فالمراضي بالتجارة هو مخاطبك وإنما أنت بينت له أن التجارة مما يحق أن يرضى به وليس المعنى رضيت بتجارتك بل المعنى استحمادك التجارة له فالملاءمة ههنا بين الواقع عليه الفعل والداخل عليه اللام ثم إنه قد يرضى بما ترضاه له إذا عرف وجه الملاءمة وقد لا يرضى، وفيه نجوز إما لجعل الرضا مجازاً عن الاستحماد لأن كل مرضى محمود أو لأنك جعلت كونه مرضياً له بمنزلة كونه مرضياً لك فاعلم أن الرضا في حق الله تعالى شأنه محال لأنه سبحانه لا يحدث له صفة عقيب أمر البتة فهو مجاز كما أن الغضب كذلك إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده وإما من أسماء الأفعال إذا أريد الاستحماد وأن مثل قوله تعالى‏:‏

‏{‏رَّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏ إما من باب المشاكلة وإما من باب المجاز المذكور، وأن مثل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ متعين أن يكون من ذلك الباب بالنسبة إلى من يصح اتصافه بالرضا حقيقة أيضاً فإذن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر‏}‏ كلام وارد على نهجه من غير تأويل دال على أنه جل شأنه لا يستحمد الكفر لعباده كما يستحمد الاسلام لهم ويرتضيه، وأما أنه لا يرد الكفر أن يوجد فليس من هذا الباب في شيء ولا هو من مقتضيات هذا التركيب وأن الخروج إلى تخصيص العباد من ضيق العطن وأن قول المحققين رضي الله تعالى عنهم‏:‏ إن الطاعات برضى الله تعالى والمعاصي ليست كذلك ليس لهذه الآية بل لأن الرضا بالمعنى الأصلي يستحيل عليه تعالى وقد أخبر أنه رضي عن المؤمنين بسبب طاعتهم في مواضع عديدة من كتابه الكريم‏.‏

والزخشري عامله الله تعالى بعدله فسر الرضا في نحوه بالاختيار وهو لا ينفك عن الإرادة، وأنت تعلم سقوطه مما حقق هذا ثم إنا نقول‏:‏ لما أرشد سبحانه إلى الحق وهدد على الباطل إكمالاً للرحمة على عباده كلهم الفريقين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءانٍ‏}‏ إلى قوله سبحانه ‏{‏تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ تنبيهاً على الغني الذاتي وأنه سبحانه تعالى أن يكون أمره بالخير لانتفاعه به ونهيه عن الشر لتضرره منه، ثم في العدول عن مقتضى الظاهر من الخطاب إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر‏}‏ ما ينبه على أن عبوديتهم وربوبيته جل شأنه يقتضي أن لا يرضى لهم ذلك، وفيه أنهم إذا اتصفوا بالكفر فكأنهم قد خرجوا عن رتبة عبوديته تعالى وبقوا في الذل الدائم ثم قيل ‏{‏يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ للتنبيه على مزيد الاختصاص فهذا هو النظم السري الذي يحاردون إدراك طائفة من لطائفة الفكر البشري والله تعالى أعلم اه‏.‏ وهو كلام رصين وبالقبول قمين إلا أنه ربما يقال إنه‏:‏ لا يتمشى على مذهب السلف حيث أنهم لا يؤولون الرضا في حقه تعالى وكونه عبارة عن حالة نفسانية إلى آخر ما ذكر في تفسيره إنما هو فينا وحيث أنه ذاته تعالى مباينة لسائر الذوات فصفاته سبحانه كذلك فحقيقة الرضا في حقه تعالى مباينة لحقيقته فينا وأين التراب من رب الأرباب، وقد تقدم الكلام في هذا المقام على وجه يروي الأوام ويبرىء السقام فنقول عمد التأويل لا يضر فيما نحن بصدده فالرضا ان أول أو لم يؤول غير الإرادة لحديث السبق والتأخر الساق، وممن صرح بذلك ابن عطية قال‏:‏ تأمل الإرادة فإن حقيقتها إنما هي فيما لم يقع بعد والرضا حقيقته إنما هي فيما وقع واعتبر هذا في آيات القرآن تجده وإن كانت العرب قد تستعمل في أشعارها على جهة التجوز هذا بدل هذا‏.‏

وقد ذهب إلى المغايرة بينهما بما ذكر هنا ابن المنير أيضاً إلا أنه أول الرضا وذكر أنه لا يتأتى حمله في الآية على الإرادة وشنع على الزمخشري في ذلك جزاء ما تكلم على بعض أهل السنة المخالفين للمعتزلة في زعمهم اتحاد الرضا والإرادة وأنه تعالى قد يريد ما لا يفعله العبد وقد يفعل العبد ما لا يريده عز وجل فقال‏:‏ هب أن المصر على هذا المعتقد على قلبه رين أو في ميزان عقله غين اليس يدعى أو يدعي له أنه الخريت في معابر العبارات فكيف هام عن جادة الإجادة في بهماء وأعار منادي الحذاقة أذنا صماء اللهم إلا أن يكون الهوى إذا تمكن أرى الباطل حقاً وغطى على مكشوف العبارة فسحقا سحقاً أليس مقتضى العربية فضلاً عن القوانين العقلية أن المشروط مرتب على الشرط فلا يتصور وجود المشروط قبل الشرط عقلاً ولا مضيه واستقبال الشرط لغة ونقلاً واستقر باتفاق الفريقين أهل السنة وأهل البدعة أن إرادة الله تعالى لشكر العباد مثلاً مقدمة على وجود الشكر منهم فحينئذ كيف ينساغ حمل الرضا على الإرادة وقد جعل في الآية مشروطاً وجزاء وجعل وقوع الشكر شرطاً ومجزيا واللازم من ذلك عقلاً تقدم المراد وهو الشكر على الإرادة وهي الرضا ولغة تقدم المشروط على الشرط فإذا ثبت بطلان حمل الرضا على الإرادة عقلاً ونقلاً تعين المحمل الصحيح له وهو المجازاة على الشكر بما عهد أن يجازي به المرضى عنه من الثواب والكرامة فيكون معنى الآية والله تعالى أعلم وان تشكروا يجازكم على شكركم جزاء المرضى عنه، ولا شك أن المجازاة مستقبلة بالنسبة إلى الشكر فجري الشرط والجزاء على مقتضاهما لغة وانتظم ذلك بمقتضى الأدلة العقلية على بطلان تقدم المراد على الإرادة عقلاً، ومثل هذا يقال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر‏}‏ أي لا يجازي الكافر مجازاة المرضى عنه بل مجازاة المغضوب عليه من النكال والعقوبة انتهى‏.‏

لا يقال‏:‏ حيث كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنكُمْ‏}‏ جزاء باعتبار الأخبار كما أشير إليه فيما سلف فليكن قوله تعالى ‏{‏يَرْضَهُ لَكُمْ‏}‏ جزاء بذلك الاعتبار فحينئذ لا يلزم أن يكون نفس الرضا مؤخراً لأنا نقول‏:‏ مثل هذا الاعتبار شائع في الجملة الاسمية المتحقق مضمونها قبل الشرط نحو ‏{‏وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدُيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 17‏]‏ وفي الفعل الماضي إذا وقع جزاء نحو ‏{‏إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 77‏]‏ وأما في الفعل المضارع فليس كذلك والذوق السليم يأبى هذا الاعتبار فيه ومع هذا أي حاجة تدعو إلى ذلك هنا ولا أراها إلا نصرة الباطل والعياذ بالله تعالى، ثم أنه يعلم من مجموع ما قدمنا حقية ما قالوا من أنه لا تلازم بين الإرادة والرضا كما أن الرضا ليس عبارة عن حقيقة الإرادة لكن ابن تيمية وتلميذه ابن القيم قسما الإرادة إلى قسمين تكوينية وشرعية، وذكراً أن المعاصي كالكفر وغيره واقعة بإرادة الله تعالى التكوينية دون إرادته سبحانه الشرعية وعلى هذا فالرضا لا ينفك عن الإرادة الشرعية فكل مراد لله تعالى بالإرادة الشرعية مرضى له سبحانه وهذا التقسيم لا أتعقله إلا أن تكون الإرادة الشرعية هي الإرادة التي يرتضي المراد بها فتدبر هذا، وقرأ ابن كثير‏.‏ ونافع في رواية، وأبو عمرو‏.‏ والكسائي ‏{‏يَرْضَهُ‏}‏ باشباع ضمة الهاء، والقاعدة في أشباع الهاء وعدمه أنها إن سكن ما قبلها لم تشبع نحو عليه وإليه وإن تحرك أشبعت نحو به وغلامه وههنا قبلها ساكن تقديراً وهو الألف المحذوفة للجازم فإن جعلت موجودة حكماً لم تشبع كما في قراءة ابن عامر‏.‏

وحفص وإن قطع النظر عنها أشبعت كما في قراءة من سمعت وهذا هو الفصيح وقد تشبه وتختلس في غير ذلك وقد يحسن أشباعها مع فقد الشرط لنكتة، وقرأ أبو بكر ‏{‏يَرْضَهُ‏}‏ بسكون الهاء ولم يرضه أبو حاتم وقال‏:‏ هو غلط لا يجوز، وفيه أنه لغة لبني كلاب، وبني عقيل إجراء للوصول مجرى الوقف‏.‏

‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ بيان لعدم سراية كفر الكافر إلى غيره، وقد تقدم الكلام في هذه الجملة وكذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ‏}‏ من مرض وغيره من المكاره ‏{‏دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ‏}‏ راجعاً ممن كان يدعوه في حالة الرخاء من دون الله عز وجل لعلمه بأنه بمعزل من القدرة على كشف ضره وهذا وصف للجنس بحال بعض أفراده كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏، واستظهر أبو حيان أن المراد بالإنسان جنس الكافر، وقيل‏:‏ هو معين كعتبة بن ربيعة ‏{‏ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مّنْهُ‏}‏ أي أعطاه نعمة عظيمة من جنابه من الخول بفتحتين وهو تعهد الشيء أي الرجوع إليه مرة بعد أخرى واطلق على العطاء لما إن المعطي الكريم يتعهد من هو ربيب احسانه ونشو امتنانه بتكرير العطاء عليه مرة بعد أخرى، وقال بعضهم‏:‏ معنى دخولة‏}‏ في الأصل أعطاه خولا بفتحتين أي عبيداً وخدماً أو أعطاه ما يحتاج إلى تعهده والقيام عليه ثم عمم لمطلق العطاء، وجوز الزمخشري كونه من خال يخول خولاً بسكون الواو إذا افتخر، واعترض بأنه صرح في الصحاح أن خال بمعنى افتخر يائي والخيلاء بمعنى التكبر يدل عليه دلالة بينة، وأيضاً خول متعد إلى مفعولين وأخذه منه لا يقضي أن يتعدى للمفعول الثاني‏.‏

وأجيب عن الأول بأن الزمخشري من أئمة النقل وقد ثبت عنده وأصله من الخال الذي هو العلامة، وقد نقل فيه الواو والياء ثم قيل لسيما الجمال والخير خال من ذلك وأخذ منه الخيال وأما الاختيال بمعنى التكبر فهو مأخوذ من الخيال لأنه خال نفسه فوق قدره أو جعل لنفسه خال الخير كما يقال‏:‏ أعجب الرجل فقد وضح أن الاشتقاق يناسبهما ولا ينكر ثبوت الياء بدليل الخيلاء لكن لا مانع من ثبوت الياء أيضاً وليس الاختيال مأخوذاً من الخيلاء بل الخيلاء هو الاسم منه فلا يصلح مانعاً لكن يصلح مثبتاً للياء، وعن الثاني بأنه ليس المراد أن خول مضعف خال بمعنى افتخر حتى يشكل تعديته للمفعول الثاني بل أنه موضوع في اللغة لمعنى أعطى وما ذكر بيان لما أخذ اشتقاقه وأصل معناه الملاحظ في وضعه له ومثله كثير فاصل خوله جعله مفتخراً بما أنعم عليه ثم قطع النظر عنه وصار بمعنى أعطاه مطلقاً ‏{‏نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ‏}‏ أي نسي الضر الذي كان يدعو الله تعالى إلى إزالته وكشفه ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ التخويل فما واقعة على الضر ودعا من الدعوة وهو يتعدى بإلى يقال دعا المؤذن الناس إلى الصلاة ودعا فلان الناس إلى مأدبته والدعوة مجاز عن الدعاء، والمعنى على اعتبار المضاف كما أشير إليه، ويجوز أن يراد بما معنى من للدلالة على الوصفية والتفخيم واقعاً عليه تعالى كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمَا خَلَقَ الذكر والانثى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 3‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ أَنتُمْ عابدون مَا أَعْبُدُ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 3‏]‏ والدعاء على ظاهره وتعديته بإلى لتضمينه معنى الإنابة أو التضرع والابتهال، والمعنى نسى ربه الذي كان يدعو منيباً أو متضرعاً إليه وهو وجه لا بأس به، وما قيل من أنه تكلف إذ لا يقال دعا إليه بمعنى دعاه ولا حاجة إلى جعل ما بمعنى من مردود لحسن موقف التضمين واستعمال ما في مقام التفخيم‏.‏ وفي الإرشاد أن في ذلك الجعل إيذاناً بأن نسيانه بلغ إلى حيث لا يعرف مدعوه ما هو فضلاً من أن يعرفه من هو، وقيل‏:‏ ما مصدرية أي نسي كونه يدعو، وقيل‏:‏ هي نافية وتم الكلام عند قوله تعالى ‏{‏نَسِىَ‏}‏ أي نسي ما كان فيه من الضر ثم نفي أن يكون دعاء هذا الكافر خالصاً لله تعالى من قبل أي من قبل الضر ولا يخفى ما فيه ‏{‏وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً‏}‏ شركاء في العبادة، والظاهر من استعمالاتهم اطلاق الأنداد على الشركاء مطلقاً، وفي البحر أنداداً أى أمثالاً يضاد بعضها ويعارض، قال قتادة‏:‏ أي الرجال يطيعهم في المعصية، وقال غيره أوثاناً ‏{‏لِيُضِلَّ‏}‏ الناس بذلك ‏{‏عَن سَبِيلِهِ‏}‏ عز وجل الذي هو التوحيد‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو، وعيسى ‏{‏لِيُضِلَّ‏}‏ بفتح الياء أي ليزداد ضلالاً أو ليثبت عليه وإلا فاصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور، واللام لام العاقبة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ بيد أن هذا أقرب إلى الحقيقة لأن الجاعل ههنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال وأن لم يعرف بجهله إنهما اضلال وضلال وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلاً‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تهديداً لذلك الجاعل وبياناً لحاله ومآله ‏{‏تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً‏}‏ أي تمتعاً قليلاً أو زماناً قليلاً ‏{‏إِنَّكَ مِنْ أصحاب‏}‏ أي ملازميها والمعذبين فيها على الدوام، وهو تعليل لقلة التمتع وفيه من الاقناط من النجاة وذم الكفر ما لا يخفى كأنه قيل‏:‏ إذ قد أبيت ما أمرت به من الإيمان والطاعة فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءانَاء اليل‏}‏ الخ من تمام الكلام المأمور به في قول، وأم إما متصلة قد حذف معادلها ثقة بدلالة مساق الكلام عليه كأنه قيل له تأكيداً للتهديد وتهكماً به أأنت أحسن حالاً ومآلا أم من هو قائم بمواجب الطاعات ودائم على وظائف العبادات في ساعات الليل التي فيها العبادة أقرب إلى القبول وأبعد عن الرياء حالتي السراء والضراء لا عند مساس الضر فقط كدأ بك حال كونه ‏{‏ساجدا وَقَائِماً‏}‏ وإلى كون المحذوف المعادل الأول ذهب الأخفش ووافقه غير واحد ولا بأس به عند ظهور المعنى لكن قال أبو حيان‏:‏ إن مثل ذلك يحتاج إلى سماع من العرب، ونصب ‏{‏ساجدا وَقَائِماً‏}‏ على الحالية كما أشير إليه أي جامعاً بين الوصفين المحمودين وصاحب الحال الضمير المستتر في ‏{‏قَانِتٌ‏}‏‏.‏

وجوز كون الحال من ضمير ‏{‏يَحْذَرُ‏}‏ الآتي قدم عليه ولا داعي لذلك‏.‏ وقرأ الضحاك ‏{‏ساجد وقائم‏}‏ برفع كل على أنه خبر بعد خبر، وجوز أبو حيان كونه نعتاً لقانت وليس بذاك، والواو كما أشير إليه للجمع بين الصفتين، وترك العطف على ‏{‏أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ‏}‏ قيل لأن القنوت مطلق العبادة فلم يكن مغايراً للسجود والقيام فلم يعطفا عليه بخلاف السجود والقيام فإنهما وصفان متغايران فلذا عطف أحدهما على الآخر، وتقديم السجود على القيام لكونه أدخل في معنى العبادة، وذهب المعظم إلى أنه أفضل من القيام لحديث «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْذَرُ الاخرة‏}‏ حال أخرى على التداخل أو الترادف أو استئناف وقع جواباً عما نشأ من حكاية حاله كأنه قيل ما باله يفعل ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ يحذر الآخرة أي عذاب الآخرة كما قرأ به ابن جبير‏.‏

‏{‏وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبّهِ‏}‏ فينجو بذلك مما يحذره ويفوز بما يرجوه كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضمير الراجي لا أنه يحذر ضر الدنيا ويرجو خيرها فقط، واما منقطعة وما فيها من الاضراب للانتقال من التبكيت بتكليف الجواب الملجيء إلى الاعتراف بما بينهما من التباين البين كأنه قيل‏:‏ بل أمن هو قانت الخ، وقدر الزمخشري كغيره مثلك أيها الكافر‏.‏ وقال النحاس‏:‏ أم بمعنى بل ومن بمعنى الذي والتقدير بل الذي هو قانت الخ أفضل مما قبله‏.‏ وتعقبه في البحر بأنه لا فضل لمن قبله حتى يجعل هذا أفضل بل يقدر الخبر من أصحاب الجنة لدلالة مقابلة أعني ‏{‏إنك مِنْ أصحاب النار‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 8‏]‏ عليه ولا يبعد أن يقدر أفضل منك ويكون ذلك من باب التهكم‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ ونافع‏.‏ وحمزة‏.‏ والأعمش‏.‏ وعيسى‏.‏

وشيبة‏.‏ والحسن في رواية ‏{‏مِن‏}‏ بتخفيف الميم وضعفها الأخفش وأبو حاتم ولا التفات إلى ذلك، وخرجت على إدخال همزة الاستفهام التقريري على من والمقابل محذوف أي الذي هو قانت الخ خير أم أنت أيها الكافر، ومثله في حذف المعادل قوله‏:‏

دعاني إليها القلب إني لأمره *** سميع فما أدرى أرشد طلابها

فإنه أراد أم غي، وقال الفراء‏:‏ الهمزة للنداء كأنه قيل يا من هو قانت وجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ خطاباً له، وضعف هذا القول أبو علي الفارسي وهو كذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ على معنى قل له أيضاً بياناً للحق وتصريحاً به وتنبيهاً على شرف العلم والعمل دهَلْ يَسْتوي الَّذينَ يَعْلُمونَ‏}‏ فيعملون بمقتضى علمهم ويقنتون الليل سجداً وركعاً يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم ‏{‏‏}‏ فيعملون بمقتضى علمهم ويقنتون الليل سجداً وركعاً يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم ‏{‏والذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ فيعلمون بمقتضى جهلهم وضلالهم كدأبك أيها الكافر الجاعل لله تعالى أنداداً والاستفهام للتنبيه على أن كون الأولين في أعلى معارج الخير وكون الآخرين في أقصى مدارج الشر من الظهور بحيث لا يكاد يخفى على أحد من منصف ومكابر، ويعلم مما ذكرنا أن المراد بالذين يعلمون العاملون من علماء الديانة وصرح بإرادة ذلك بعض الأجلة على تقديري الاتصال والانقطاع وأن الكلام تصريح بنفي المساواة بين القانت وغيره المضمنة من حرفي الاستفهام أعني الهمزة وأم على الاتصال أو من التشبيه على الانقطاع وعلى قراءة التخفيف أيضاً قال‏:‏ وإنما عدل إلى هذه العبارة دلالة على أن ذلك مقتضى العلم وأن العلم الذي لا يترتب عليه العمل ليس بعلم عند الله تعالى سواء جعل من باب إقامة الظاهر مقام المضمر للاشعار المذكور أو استئناف سؤال تبكيتي توضيحاً للأول من حيث التصريح ومن حيث أنهم وصفوا بوصف آخر يقتضي اتصافهم بتلك الأوصاف ومباينتهم لطبقة من لا يتصف‏.‏ وهذا أبلغ وأظهر لفظاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ وجوز أن يكون الكلام وارداً على سبيل التشبيه فيكون مقرراً لنفي المساواة لا تصريحاً بمقتضى الأول أي كما لا استواء بين العالم وغيره عندكم من غير ريبة فكذلك ينبغي أن لا يكون لكم ارتياب في نفي المساواة بين القانت المذكور وغيره، وكونه للتصريح بنفي المساواة وحمل الذين يعلمون على العاملين من علماء الديانة على ما سمعت مما لا لا ينبغي أن يختار غيره لتكثير الفائدة، وأما من ارتاب في ذلك الواضح فلا يبعد منه الارتياب في هذا الواضح أيضاً فجوابه أن الاستنكاف عن الجهل مركوز في الطباع بخلاف الأول، ويشعر كلام كثير ان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَم مَّنْ هُوَ‏}‏ الخ غير داخل في حيز القول والمعنى عليه كما في الأول بتغيير يسير لا يخفى، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه تلا ‏{‏أَم مَّنْ هُوَ قَانِتٌ‏}‏ الآية فقال‏:‏ نزلت في عثمان بن عفان، وأخرج ابن سعد في طبقاته، وابن مردويه‏.‏

وابن عساكر عن ابن عباس أنها نزلت في عمار بن ياسر، وأخرج جويبر عنه أنها نزلت في عمار‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وسالم مولى أبي حذيفة، وعن عكرمة الاقتصار على عمار، وعن مقاتل المراد بمن هو قانت عمار‏.‏ وصهيب‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وأبو ذر، وفي رواية الضحاك عن ابن عباس‏.‏ أبو بكر‏.‏ وعمر، وقال يحيى بن سلام‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن المراد المتصف بذلك من غير تعيين ولا يمنع من ذلك نزولها فيمن علمت وفيها دلالة على فضل الخوف والرجاء، وقد أخرج الترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه عن أنس قال‏:‏ دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال‏:‏ كيف تجدك‏؟‏ قال‏:‏ أرجو وأخاف فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الذي يرجو وآمنه الذي يخاف، وفيها رد على من ذم العبادة خوفاً من النار ورجاء الجنة وهو الإمام الرازي كما قال الجلال السيوطي، نعم العبادة لذلك ليس إلا مذمومة بل قال بعضهم بكفر من قال‏:‏ لولا الجنة والنار ما عبدت الله تعالى على معنى نفي الاستحقاق الذاتي، وفيها دلالة أيضاً على فضل صلاة الليل وأنها أفضل من صلاة النهار، ودل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَسْتَوِى‏}‏ الخ على فضل العلم ورفعة قدره وكون الجهل بالعكس‏.‏ واستدل به بعضهم على أن الجاهل لا يكافىء العالمة كما أنه لا يكافىء بنت العالم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الالباب‏}‏ كلام مستقل غير داخل عند الكافة في الكلام المأمور وارد من جهته تعالى بعد الأمر بما تضمن القوارع الزاجرة عن الكفر والمعاصي لبيان عدم تأثيرها في قلوب الكفرة لاختلال عقولهم كما في قوله‏:‏ عوجوا فحيوا لنعمي دمنة الدار *** ماذا تحيون من نؤى وأحجار

وهو أيضاً كالتوطئة لأفراد المؤمنين بعد بالخطاب والاعراض عن غيرهم أي إنما يتعظ بهذه البيانات الواضحة أصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وأما هؤلاء فبمعزل عن ذذلك‏.‏ وقرىء ‏{‏يُذْكَرِ‏}‏ بالادغام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 11‏]‏

‏{‏قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏10‏)‏ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ياأهل عِبَادِ الذين ءامَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ‏}‏ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكر المؤمنين ويحملهم على التقوى والطاعة إثر تخصيص التذكر بأولي الألباب وفيه إيذان بأنهم هم أي قل لهم قولي هذا بعينه وفيه تشريف لهم باضافتهم إلى ضمير الجلالة ومزيد اعتناء بشأن المأمور به فإن نقل عين أمر الله تعالى أدخل في إيجاب الامتثال به، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ‏}‏ إلى آخره تعليل للأمر أو لوجوب الامتثال به، والجار والمجرور متعلق بمحذوف هو خبر مقدم وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِى هذه الدنيا‏}‏ متعلق بأحسنوا واسم الإشارة للاحضار، وقوله تبارك وتعالى ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ مبتدأ وتنوينه للتفخيم أي للمحسنين في الدنيا حسنة في الآخرة أي حسنة والمراد بها الجنة، وقوله عزو جل‏:‏ ‏{‏وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ‏}‏ جملة معترضة ازاحة لما عسى أن يتوهم من التعلل في التفريط بعدم التمكن في الوطن من رعاية الأوامر والنواهي على ما هي عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ من تتمة الاعتراض فكأنه قيل‏:‏ اتقوا ربكم فإن للمحسنين في هذه الدنيا الجنة في الأخرى ولا عذر للمفرطين في الإحسان بعدم التمكن في الأوطان فإن أرض الله تعالى واسعة وبلاده كثيرة فليتحولوا إن لم يتمكنوا عنها وليهاجروا إلى ربهم لنيل الرضوان فإن لهم في جنب ذلك ما يتقاصر عنه الجنة ويستلذ له كل محنة وكأنه لما أزاح سبحانه علتهم بأن في أرض الله تعالى سعة وقع في خلدهم هل نكون نحن ومن يتمكن من الإحسان في بلدته فارغ البال رافغ الحال سواء بسواء فأجيبوا إنما يوفى الصابرون الذين صبروا على الهجرة ومفارقة المحاب والاقتداء بالأنبياء والصالحين أجرهم بغير حساب، وأصله إنما توفون أجوركم بغير حساب على الخطاب وعدل عنه إلى المنزل تنبيهاً على أن المقتضى لذلك صبرهم فيفيد أنكم توفون أجوركم بصبركم كما وفى أجر من قبلكم بصبرهم وهو محمول على العموم شامل للصبر على كل بلاء غير مخصوص بالصبر على المهاجرة لكنه إنما جيء به في الآية لذلك وليشمل الصابرين على ألم المهاجرة شمولاً أوليا، والجار والمجرور في موضع الحال إما من الأجر أي إنما يوفون أجرهم كائناً بغير حساب وذلك بأن يغرف لهم غرفاً ويصب عليهم صبا، واما من الصابرين أي إنما يوفون ذلك كائنين بغير حساب عليه، والمراد على الوجهين المبالغة في الكثرة وهو المراد بقول ابن عباس لا يهتدي إليه حساب الحساب ولا يعرف، وجوز جعل احال من الصابرين على معنى لا يحاسبون أصلاً، والمتبادر ما يفيد المبالغة في كثرة الأجر، ومعنى القصر ما يوفى الصابرون أجرهم إلا بغير حساب جعل الجار والمجرور حالاً من المنصوب أو المرفوع لأن القصر في الجزء الأخير، وفيه من الاعتناء بأمر الأجر ما فيه، وأما اختصاصه بالصابرين دون غيرهم فمن ترتب الحكم على المشتق، هذا ونقل عن السدى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى هذه الدنيا‏}‏ متعلق بحسنة من حيث المعنى فقيل‏.‏

هو حينئذ حال من ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ ورد بأنها مبتدأ ولا يجوز الحال منه على الصحيح، فإن قيل‏:‏ يلتزم جعلها فاعل الظرف قيل‏:‏ لا يتسنى إلا على مذهب الأخفش وهو ضعيف‏.‏

وقيل حال من الضمير المستتر في الخبر الراجع إلى ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ وقال الزمخشري‏:‏ هو بيان لحسنة والتقدير هي في الدنيا، والمراد بها الصحة والعافية أي للمحسنين صحة وعافية في الدنيا، قال في الكشف‏:‏ وإنما آثر كونه بياناً مع جواز كونه حالاً عن الضمير الراجع إلى ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ في الخبر لأن المعنى على البيان لا على التقييد بالحال وذلك لأن المعنى على هذا الوجه أن للمحسنين جزاء يسيراً في الدنيا هو الصحة والعافية وإنما توفية أجورهم في الآخرة ولو قيد بالحال لم يلائم على ما لا يخفى، وحق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ‏}‏ على هذا أن يكون اعتراضاً إزاحة لما قد يختلج في بعض النفوس من خلاف ذلك الجزاء بواسطة اختلاف الهواء والتربة وغير ذلك مما يؤدي إلى آفات في البدن فقيل وأرض الله تعالى واسعة فلا يعدم أحد محلاً يناسب حاله فليتحول عنه إليه إن لم يلائمه ثم يكون فيه تنبيه على أن من جعل الأرض ذات الطول والعرض قطعاً متجاورات تكميلاً لانتعاشهم وارتياشهم يجب أن تقابل نعمه بالشكر ليعدوا من المحسنين ثم قيل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون‏}‏ أي توفية الأجر لهؤلاء المحسنين إنما يكون في الآخرة والذي نالوه في الدنيا عاجل حظهم وأما الأجر الموفى بغير حساب فذلك للصابرين، ومن سلبناه تلك العاجلة تمحيصاً له وتقريباً وفي ذلك تسلية لأهل البلاء وتنشيط للعباد على مكابدة العبادات وتحريض على ملازمة الطاعات ثم قال‏:‏ وهذا أيضاً وجه حسن دقيق والرجحان للأول من وجوه‏.‏

أحدها‏:‏ أن الاعتراض لإزاحة العلة في التفريط أظهر لأنه المقصود من السياق على ما يظهر من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوا رَبَّكُمُ‏}‏‏.‏ الثاني‏:‏ أنه المطابق لما ورد في التنزيل من نحو ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله واسعة فتهاجروا فِيهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 97‏]‏ ‏{‏إِنَّ أَرْضِى وَاسِعَةٌ فَإِيَّاىَ فاعبدون‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 56‏]‏ الثالث‏:‏ أن تعلق الظرف بالمذكور المتقدم هو الوجه ما لم يصرف صارف‏.‏

الرابع‏:‏ أنه على ذلك التقدير ليس بمطرد ولا أكثري فإن الحسنة بذلك المعنى في شأن المخالفين أتم والقول بأنها استدراج في شأنهم لا حسنة ليس بالظاهر فقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 131‏]‏ انتهى، ولعمري أن ما رجحه بالترجيح حقيق وما استحسنه واستدقه ليس بالحسن ولا الدقيق، والذي نقله الطبرسي عن السدي تفسير الحسنة في الدنيا بالثناء الحسن والذكر الجميل والصحة والسلامة، وفسرها بعضهم بولاية الله تعالى وعليه فليس للمخالفين منها نصيب، وفي الآية أقوال أخر فعن عطاء أرض الله تعالى المدينة قال أبو حيان‏:‏ فعلى هذا يكون ‏{‏أَحْسَنُواْ‏}‏ هاجروا و‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ راحة من الأعداء، وقال قوم‏:‏ أرض الله تعالى الجنة، وتعقبه ابن عطية بأنه تحكم لا دليل عليه‏.‏

وقال أبو مسلم‏:‏ لا يمتنع ذلك لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى ثم بين سبحانه أنه من اتقى له في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة ثم بين جل شأنه أن أرض الله واسعة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثَنَا الارض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَاء‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السموات والارض *أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 133‏]‏ والرجحان لما سمعت أولاً، واختير فيه شمول الحسنة لحسنات الدنيا والآخرة، والمراد بالإحسان الإتيان بالأعمال الحسنة القلبية والقالبية، قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسيره في حديث جبريل عليه السلام‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والآية على ما في بعض الآثار نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة وفيها من الدلالة على فضل الصابرين ما فيها ‏{‏قُلْ إِنّى أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين‏}‏ أي من كل ما يخل به من الشرك والرياء وغير ذلك؛ أمر عليه الصلاة والسلام ببيان ما أمر به نفسه من الإخلاص في عبادة الله عز وجل الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه وتمهيداً لما يعقبه مما خوطب به المشركون‏.‏

وعدم التصريح بالآمر لتعين أنه الله عز وجل، وقيل‏:‏ للإشارة إلى أن هذا الأمر مما ينبغي امتثاله سواء صدر منه تعالى أم صدر من غيره سبحانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَأُمِرْتُ لاِنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين‏}‏ أي وأمرت بذلك لأجل أن أكون مقدم المسلمين في الدنيا والآخرة لأن إحراز قصب السبق في الدين بالإخلاص فيه وإخلاصه عليه الصلاة والسلام أتم من إخلاص كل مخلص فالمراد بالأولية الأولية في الشرف والرتبة، والعطف لمغايرة الثاني الأول بتقييده بالعلة والإشعار بأن العبادة المذكورة كما تقتضي الأمر بها لذاتها تقتضيه لما يلزمها من السبق في الدين، وإلى حذف متعلق الأمر وكون اللام تعليلية ذهب البصريون في هذه الآية ونحوها؛ وذهب غيرهم إلى أنها زائدة، واستدل له بتركها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 91‏]‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 104‏]‏ ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ وكل ذلك محتمل لتقدير اللام فلا تغفل؛ ولا تزاد إلا مع أن لفظاً أو تقديراً دون الاسم الصريح وذلك لأن الأصل في المفعول به أن يكون اسماً صريحاً فكأنها زيدت عوضاً من ترك الأصل إلى ما يقول مقامه كما يعوض السين في اسطاع عوضاً من ترك الأصل الذي هو أطوع، وهذه الزيادة وإن كانت شاذة قياساً إلا أنها لما كثرت استعمالاً جاز استعمالها في القرآن والكلام الفصيح، ومثل هذا يقال في زيادتها مع فعل الإرادة نحو أردت لأن أفعل‏.‏ وجعل الزمخشري وجه زيادتها معه أنها لما كان فيها معنى الإرادة زيدت تأكيداً لها وجعل وجهاً في زيادتها مع فعل الأمر أيضاً لا سيما والطلب والإرادة عندهم من باب واحد، وفي المعنى أوجه أن أكون أول من أسلم في زماني ومن قومي أي إسلاماً على وفق الأمر، وأن أكون أول الذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاماً، وأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره لأكون مقتدى بي قولي وفعلي جميعاً ولا تكون صفتي صفة الملوك الذين يأمرون بما لا يفعلون، وأن أفعل ما أستحق به الأولية والشرف من أعمال السابقين دلالة على السبب وهي الأعمال التي يستحق بها الشرف بالمسبب وهو الأولية والشرف المذكور في «النظم الجليل» ذكر ذلك الزمخشري‏.‏ وفي «الكشف» المختار من الأوجه الأربعة الوجه الثاني فإنه المكرر الشائع في القرآن الكريم وفيه سائر المعاني الأخر من موافقة القول الفعل ولزوم أولية الشرف من أولية التأسيس مع أنه ليس فيه أنه أمر بأن يكون أشرف وأسبق فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ إِنَّهُ رَبّى‏}‏ بترك الإخلاص والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك، وجوز العموم أي أخاف إن عصيته بشيء من المعاصي ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ هو يوم القيامة، ووصفه بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال، وهو مجاز في الظرف أو الإسناد وهو أبلغ ولذا عدل عن توصيف العذاب بذاك والمقصود من قول ذلك لهم تهديدهم والتعريض لهم بأنه عليه الصلاة والسلام مع عظمته لو عصى الله تعالى ما أمن العذاب فكيف بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ الله أَعْبُدُ‏}‏ لا غيره سبحانه لا استقلالاً ولا اشتراكاً ‏{‏مُخْلِصاً لَّهُ دِينِى‏}‏ حال من فاعل ‏{‏أَعْبُدُ‏}‏ فقيل مؤكدة لما أن تقديم المفعول قد أفاد الحصر وهو يدل على إخلاصه عن الشرك الظاهر والخفي، وقيل‏:‏ مؤسسة وفسر إخلاص الدين له تعالى بعبادته سبحانه لذاته من غير طلب شيء كقول رابعة‏:‏ سبحانك ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا رجاء ثوابك أو يفسر بتجريده عن الشرك بقسميه وأن يكون معه ما يشينه من غير ذلك كما أشير إليه آنفاً؛ والفرق بين هذا وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنّى أُمِرْتُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 11‏]‏ الخ أن ذاك أمر ببيان كونه عليه الصلاة والسلام مأموراً بعبادته تعالى مخلصاً له الدين وهذا أمر بالإخبار بامتثاله بالأمر على أبلغ وجه وآكده إظهاراً لتصلته صلى الله عليه وسلم في الدين وحسماً لأطماعهم الفارغة حيث أن كفار قريش دعوه صلى الله عليه وسلم إلى دينهم فنزلت لذلك وتمهيداً لتهديدهم بقوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏فاعبدوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ أن تعبدوه ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ عز وجل، وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى كأنهم لما لم ينتهوا عما نهوا عنه أمروا به كي يحل بهم العقاب ‏{‏قُلْ إِنَّ الخاسرين‏}‏ أي الكاملين في الخسران وهو إضاعة ما بهم وإتلاف ما لا بد منه لجمعهم أعاظم أنواع الخسران ‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ‏}‏ باختيارهم الكفر لهما فالمراد بالأهل أتباعهم الذين أضلوهم أي أضاعوا أنفسهم وأضاعوا أهليهم وأتلفوهما ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ حين يدخلون النار حيث عرضوهما للعذاب السرمدي وأوقعوهما في هلكة ما وراءها هلكة؛ ولو أبقى يوم القيامة على ظاهره لأنه يتبين فيه أمرهم ويتحقق مبدأ خسرانهم صح على ما قيل، وقيل‏:‏ المراد بالأهل الاتباع مطلقاً وخسرانهم إياهم لأنهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروا هم كما خسروا أنفسهم وإن كانوا من أهل الجنة فقد ذهبوا عنهم ذهاباً لا إياب بعده، وتعقب بأن المحذور ذهاب من لو آب لانتفع به الخاسر وذلك غير متصور في الشق الأخير، وقيل‏:‏ المراد بالأهل ما أعده الله تعالى لمن يدخل الجنة من الخاصة أي وخسروا أهليهم الذين كانوا يكونون لهم في الجنة لو آمنوا، أخرج عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد عن قتادة قال‏:‏ ليس أحد إلا قد أعد الله تعالى له أهلاً في الجنة إن أطاعه، وأخرج نحوه عن مجاهد، وروي أيضاً عن ميمون بن مهران وكلهم ذكروا ذلك في الآية، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال فيها أيضاً‏:‏ خسروا أهليهم من أهل الجنة كانوا أعدوا لهم لو عملوا بطاعة الله تعالى فغبنوهم، وهو الذي يقتضيه كلام الحسن فقد روي عنه أنه فسر الأهل بالحور العين، ولا يخفى أن حمل الآية على ذلك لا يخلو عن بعد‏.‏

وأياً ما كان فليس المراد مجرد تعريف الكاملين في الخسران بما ذكر بل بيان أنهم المخاطبون بما تقدم إما بجعل الموصول عبارة عنهم أو بجعله عبارة عما هم مندرجون فيه اندراجاً أولياً، وما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين‏}‏ من استئناف الجملة، وتصديرها بحرف التنبيه والإشارة بذلك إلى بعد منزلة المشار إليه في الشر وأنه لعظمه بمنزلة المحسوس وتوسيط ضمير الفصل وتعريف الخسران والإتيان به على فعلان الأبلغ من فعل ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هوله وفظاعته وأنه لا نوع من الخسر وراءه ما لا يخفى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُمْ مّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مّنَ النار‏}‏ إلى آخره نوع بيان لخسرانهم بعد تهويله بطريق الإبهام على أن ‏{‏لَهُمْ‏}‏ خبر لظلل و‏{‏مِنْ‏}‏ فوقهم متعلق بمحذوف حال من ضميرها في الظرف المقدم لا منها نفسها لضعف الحال من المبتدأ، وجعلها فاعل الظرف حينئذٍ اتباع لنظر الأخفش وهو ضعيف، و‏{‏مِنَ النار‏}‏ صفة لظلل‏.‏

والكلام جار مجرى التهكم بهم ولذا قيل لهم وعبر عما علاهم من النار بالظلل أي لهم كائنة من فوقهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض كائنة من النار ‏{‏وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ‏}‏ كائنة من النار أيضاً، والمراد أطباق كثيرة منها وتسميتها ظللاً من باب المشاكلة‏.‏ وقيل هي ظلل لمن تحتهم في طبقة أخرى من طبقات النار ولا يطرد في أهل الطبقة الأخيرة من هؤلاء الخاسرين إلا أن يقال‏:‏ إنها للشياطين ونحوهم مما لا ذكر لهم هنا، وقيل‏:‏ إن ما تحتهم يلتهب ويتصاعد منه شيء حتى يكون ظلة فسمي ظلة باعتبار ما آل إليه أخيراً وليس بذاك، والمراد أن النار محيطة بهم ‏{‏ذلك‏}‏ العذاب الفظيع ‏{‏يُخَوّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ‏}‏ يذكره سبحانه لهم بآيات الوعيد ليخافوا فيجتنبوا ما يوقعهم فيه، وخص بعضهم العباد بالمؤمنين لأنهم المنفعون بالتخويف وعمم آخرون‏.‏

وكذا في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَلِيلاً وإياى فاتقون‏}‏ ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، ويختلف المراد بالأمر على الوجهين كما لا يخفى، وهذه عظة من الله جل جلاله وعم نواله منطوية على غاية اللطف والرحمة‏.‏ وقرىء ‏{‏فِى عِبَادِى‏}‏ بالياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏والذين اجتنبوا الطاغوت‏}‏ الخ قال ابن زيد‏:‏ نزلت في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله‏.‏ زيد بن عمرو بن نفيل، وسلمان، وأبي ذر‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ أشير بها إلى عبد الرحمن بن عوف‏.‏ وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد‏.‏ والزبير وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك فجاءوه وقالوا‏:‏ أسلمت قال نعم وذكرهم بالله تعالى فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة، والطاغوت فعلوت من الطغيان كما قالوا لا فاعول كما قيل بتقديم اللام على العين نحو صاعقة وصاقعة، ويدل على ذلك الاشتقاق وأن طوغ وطيغ مهملان‏.‏

وأصله طغيوت أو طغووت من الياء أو الواو لأن طغى يطغى ويطغو كلاهما ثابتان في العربية نقله الجوهري، ونقل أن الطغيان والطغوان بمعنى وكذا الراغب، وجمعه على الطواغيت يدل على أن الجمع بني على الواو، وقولهم‏:‏ من الطغيان لا يريدون به خصوص الياء بل أرادوا المعنى وهو على ما في «الصحاح» الكاهن والشيطان وكل رأس في الضلال، وقال الراغب‏:‏ هو عبارة عن كل متعد وكل معبود من دون الله تعالى وسمي به الساحر والكاهن والمارد من الجن والصارف عن الخير ويستعمل في الواحد والجمع‏.‏

وقال الزمخشري في هذه السورة‏:‏ لا يطلق على غير الشيطان، وذكر أن فيه مبالغات من حيث البناء فإن صيغة فعلوت للمبالغة ولذا قالوا الرحموت الرحمة الواسعة، ومن حيث التسمية بالمصدر، ومن حيث القلب فإنه للاختصاص كما في الجاه، وقد أطلقه في النساء على كعب بن الأشرف وقال‏:‏ سمي طاغوتاً لإفراطه في الطغيان وعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على التشبيه بالشيطان فلعله أراد لا يطلق على غير الشيطان على الحقيقة، وكأنه جعل كعباً على الأول من الوجهين من شياطين الإنس، وفي «الكشف» كأنه لما رآه مصدراً في الأصل منقولاً إلى العين كثير الاستعمال في الشيطان حكم بأنه حقيقة فيه بعد النقل مجاز في الباقي لظهور العلاقة إما استعارة وإما نظر إلى تناسب المعنى، والذي يغلب على الظن أن الطاغوت في الأصل مصدر نقل إلى البالغ الغاية في الطغيان وتجاوز الحد، واستعماله في فرد من هذا المفهوم العام شيطاناً كان أو غيره يكون حقيقة ويكون مجازاً على ما قرروا في استعمال العام في فرد من أفراده كاستعمال الإنسان في زيد، وشيوعه في الشيطان ليس إلا لكونه رأس الطاغين، وفسره هنا بالشيطان مجاهد، ويجوز تفسيرها بالشياطين جمعاً على ما سمعت عن الراغب ويؤيده قراءة الحسن ‏{‏اجتنبوا‏}‏ ‏{‏الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا‏}‏ بدل اشتمال من الطاغوت وعبادة غير الله تعالى عبادة للشيطان إذ هو الآمر بها والمزين لها، وإذا فسر الطاغوت بالأصنام فالأمر ظاهر ‏{‏وَأَنَابُواْ إِلَى الله‏}‏ وأقبلوا إليه سبحانه معرضين عما سواه إقبالاً كلياً ‏{‏لَهُمُ البشرى‏}‏ بالثواب من الله تعالى على ألسنة الرسل عليهم السلام أو الملائكة عند حضور الموت وحين يحشرون وبعد ذلك‏.‏

‏{‏فَبَشّرْ عِبَادِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ مدح لهم بأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل فإذا اعترضهم أمران واجب وندب اختاروا الواجب وكذلك المباح والندب‏.‏

وقيل يستمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو والانتصار والإغضاء والإبداء والإخفاء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏‏.‏ ‏{‏وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 271‏]‏ والفرق بين الوجهين أن هذا أخص لأنه مخصوص بأوامر فيها تخيير بين راجح وأرجح كالعفو والقصاص مثلاً كأنه قيل يتبعون أحسن القولين الواردين في معين وفي الأول يتبعون الأحسن من القولين مطلقاً كالإيجاب بالنسبة إلى الندب مثلاً‏.‏

وعن الزجاج يستمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن‏.‏ وقيل يستمعون القول ممن كان فيتبعون أولاه بالقبول وأرشده إلى الحق ويلزم من وصفهم بذلك أنهم يميزون القبيح من الحسن ويجتنبون القبيح، وأريد بهؤلاء العباد الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم لئلا ينفك النظم فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشّرْ‏}‏ مرتب على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُمُ البشرى‏}‏ ووضع الظاهر موضع الضمير ليشرفهم تعالى بالإضافة إليه ولتكرير بيان الاستحقاق وليدل على أنهم نفادون حرصاً على إثار الطاعة ومزيد القرب عند الله تعالى وفيه تحقيق للإنابة وتتميم حسن، وقيل الوقف على ‏{‏عِبَادِى‏}‏ فيكون الذين مبتدأ خبره جملة قوله تعالى‏:‏

‏{‏أولئك الذين عَبْدُ الله‏}‏ أي لدينه، والكلام استئناف بإعادة صفة من استؤنف عنه الحديث؛ وما تقدم أرجح لما سلف من الفوائد من إقامة الظاهر مقام المضمر والتتميم فإن ذلك دون الوصف لا يتم، ولأن محرك السؤال المجاب بالجملة بعد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ أقوى وذلك الأصل في حسن الاستئناف ‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ أُوْلُواْ الالباب‏}‏ أي هم أصحاب العقول السليمة عن معارضة الوهم ومنازعة الهوى المستحقون للهداية لا غيرهم، وفي الآية دلالة على حط قدر التقليد المحض ولذا قيل‏:‏ شمر وكن في أمور الدين مجتهدا *** ولا تكن مثل عير قيد فانقاد

واستدل بها على أن الهداية تحصل بفعل الله تعالى وقبول النفس لها كما ذهب إليه الأشاعرة

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ العذاب أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِى النار‏}‏ بيان لأضداد المذكورين على طريقة الإجمال وتسجيل عليهم بحرمان الهداية وهم عبدة الطاغوت ومتبعوا خطواتها كما يلوح به التعبير عنهم بمن حق عليه كلمة العذاب فإن المراد بتلك الكلمة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 85‏]‏ والآية على ما قيل نزلت في أبي جهل وأضرابه، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ومن شرطية على ما ذهب إليه الحوفي وغيره وجواب الشرط ‏{‏فَأَنتَ تُنقِذُ‏}‏ الخ والهمزة قبله لاستطالة الكلام على نحو قوله‏:‏ لقد علم الحزب اليمانون أنني *** إذا قلت أما بعد أني خطيبها

لأن دخول الهمزة في الجواب أو الشرط كاف تقول‏:‏ أإن أكرمك تكرمه كما تقول إن أكرمك أتكرمه ولا تكررها فيهما إلا للتأكيد لأن الجملتين أعني الشرط والجزاء بعد دخول الأداة مفردان والاستفهام إنما يتوجه على مضامين الجمل إذا كان المطلوب تصديقاً والإنكار المفاد بالهمزة متعلق بمضمون المعطوف والمعطوف عليه إلا أن المقصود في المعطوف إنكار الجزاء والتقدير أأنت مالك أمر الناس قادر على التصرف فيه فمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه على معنى لست أنت مالك أمر الناس ولا أنت تقدر على الإنقاذ بل المالك والقادر على الإنقاذ هو الله عز وجل، وعدل عن فأنت تنقذه إلى ما في «النظم الكريم» لمزيد تشديد الإنكار والاستبعاد مع ما فيه من الإشارة إلى أنه نزل استحقاقهم للعذاب وهم في الدنيا المشعر به الشرط منزلة دخولهم النار وأنه مثل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم والاجتهاد في دعائهم إلى الإيمان بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها‏.‏ وفي «الحواشي الخفاجية» نقلاً عن السعد أن في هذه الآية استعارة لا يعرفها إلا فرسان البيان وهي الاستعارة التمثيلية المكنية لأنه نزل ما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنِ‏}‏ الخ من استحقاقهم العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار في الآخرة حتى يترتب عليه تنزيل بذله عليه الصلاة والسلام جهده في دعائهم إلى الإيمان منزلة إنقاذهم من النار الذي هو من ملائمات دخول النار ثم قال‏:‏ وقد عرفت من مذهبه أن قرينة المكنية قد تكون تحقيقية كما في نقض العهد انتهى فتأمل‏.‏

وقيل‏:‏ إن النار مجاز عن الضلال من باب إطلاق اسم المسبب على السبب والإنقاذ بدل الهداية من ترشيح المجاز أو مجاز عن الدعاء للإيمان والطاعة وليس بذاك، وجوز أن يكون الجزاء محذوفاً وجملة ‏{‏فَأَنتَ تُنقِذُ‏}‏ الخ مستأنفة مقررة للجملة الأولى والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار‏.‏

ولا فرق بين الوجهين في أن الفاء في الأولى للعطف على محذوف ولا في كون المعنى على تنزيل استحقاق العذاب وهم في الدنيا منزلة دخولهم النار وتمثيل حاله عليه الصلاة والسلام في المبالغة في تحصيل هدايتهم بحال من يريد أن ينقذ من في النار منها، نعم الكلام على الأول جملة وعلى الثاني جملتان، واستظهر أبو حيان أن ‏{‏مِنْ‏}‏ موصولة مبتدأ والخبر محذوف، وحكي أن منهم من يقدره يتأسف عليه ومنهم من يقدره يتخلص منه ومنهم من يقدره فأنت تخلصه، ولا يخفى أن التقدير الأخير أولى، وذكر أن النحاة على أن الفاء في مثل هذا التركيب للعطف وموضعها قبل الهمزة لكن قدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وقال‏:‏ إن القول بأن كلاً منهما في مكانه قول انفرد به الزمخشري فيما علمنا وفي «المغني» ترجيح القول بأن الهمزة مقدمة من تأخير وعليه يقدر المعطوف عليه ما أنت مالك أمرهم أو ما أخبر الله تعالى به واقع لا محالة أو كل كافر مستحق للعذاب أو نحو ذلك مما يناسب المعنى المراد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏لكن الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ‏}‏ استدراك بين ما يشبه النقيضين والضدين وهما المؤمنون والكافرون وأحوالهما، والمراد بالذين اتقوا الموصوفون بما عدد من الصفات الفاضلة، والغرف جمع غرفة وهي العلية أي لهم علالي كثيرة جليلة بعضها فوق بعض ‏{‏مَّبْنِيَّةٌ‏}‏ قيل‏:‏ هو كالتمهيد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَجْرِى مِن تَحْتِهَا‏}‏ أي من تحت تلك الغرف الفوقانيات والتحتانيات ‏{‏الانهار‏}‏ أي مبنية بناءاً يتأتى معه جري الأنهار من تحتها وذلك على خلاف علالي الدنيا فيفيد الوصف بذلك أنها سويت تسوية البناء على الأرض وجعلت سطحاً واحداً يتأتى معه جري الأنهار عليه على أن مياه الجنة لما كانت منحدرة من بطنان العرش على ما في الحديث فهي أعلى من الغرف فلا عجب من جري الماء عليها فوقاً وتحتاً لكن لا بد من وضع يتأتى معه الجري فالوصف المذكور لإفادة ذلك‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ الظاهر أن هذا الوصف تحقيق للحقيقة وبيان أن الغرف ليست كالظلل حيث أريد بها المعنى المجازي على الاستعارة التهكمية، وقال بعض فضلاء إخواننا المعاصرين‏:‏ فائدة التوصيف بما ذكر الإشارة إلى رفعة شأن الغرف حيث آذن أن الله تعالى بانيها وماذا عسى يقال في بناء بناه الله جل وعلا‏.‏

وأقول والله تعالى أعلم‏:‏ وصفت الغرف بذلك للإشارة إلى أنها مهيأة معدة لهم قد فرغ من أمرها كما هو ظاهر الوصف لا أنها تبنى يوم القيامة لهم، وفي ذلك من تعظيم شأن المتقين ما فيه، وفي الآية على هذا رد على المعتزلة وكأن الزمخشري لذلك لم يحم حول هذا الوجه واقتصر على ما حكيناه أولاً مع أن ما قلناه أقرب منه فليحفظ‏.‏

‏{‏وَعَدَ الله‏}‏ مصدر مؤكد لمضمون الجملة قبله فإنه وعد أي وعد ‏{‏لاَ يُخْلِفُ الله الميعاد‏}‏ لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏ استئناف وارد إما لتمثيل الحياة الدنيا في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال بما ذكر من أحوال الزرع تحذيراً من الاغترار بزهرتها أو للاستشهاد على تحقق الموعود من الأنهار الجارية من تحت الغرف بما يشاهد من إنزال الماء من السماء وما يترتب عليه من آثار قدرته سبحانه وإحكام حكمته ورحمته، والمراد بالماء المطر وبالسماء جهة العلو، وقيل‏:‏ الأجرام العلوية وكون إنزال المطر منها باعتبار أنه بأسباب ناشئة منها فإن تصاعد الأبخرة وتكون الغيوم بسبب جذب الشمس واختلاف أوضاعها ونحو ذلك من الأسباب التي يعلمها الله تعالى، وأما كون إنزال المطر نفسه من جرم السماء المعروفة نفسها فكثير ما يرتفع سحاب ويمطر مطراً غزيراً وهناك من هو على ذروة جبل لا سحاب عنده ولا مطر والتزام أن المطر في ذلك نازل من جرم السماء أيضاً على السحاب لكن لا يشاهده من هو مشرف على السحاب وواقف فوق الجبل لا يخفى حاله؛ وقيل‏:‏ المراد بالماء كل ماء في الأرض، والمراد بالإنزال المذكور الإنزال في مبدأ الخليقة وذلك أنه عز وجل لما خلق الأرض خلقها خالية من الماء فأنزل من بحر تحت العرش ماء ‏{‏فَسَلَكَهُ‏}‏ فأدخله ‏{‏يَنَابِيعَ فِى الارض‏}‏ أي في ينابيع أي عيون ومجاري كائنة في الأرض كالعروق في الأجساد فعلى الأول‏:‏ يقتضي ظاهر الآية أن ماء العيون والقنوات من ماء المطر وعلى الثاني‏:‏ ليس منه، وشاع عن الفلاسفة أن ماء العيون وما جرى مجراها من الأبخرة قالوا‏:‏ إن البخار إذا احتبس في الأرض يميل إلى جهة وتبرد بها فتنقلب مياه مختلطة بأجزاء بخارية فإذا كثر بحيث لا تسعه الأرض أوجب انشقاقها فانفجر منها العيون، ورده أبو البركات البغدادي فقال في «المعتبر»‏:‏ السبب في العيون وما يجري مجراها هو ما يسيل من الثلوج ومياه الأمطار لأنا نجدها تزيد بزيادتها وتنقص بنقصانها وأن استحالة الأهوية والأبخرة المنحصرة في الأرض لا مدخل لها في ذلك فإن باطن الأرض في الصيف أشد برداً منه في الشتاء فلو كان سبب هذه استحالتها لوجب أن تكون العيون والقنوات ومياه الآبار في الصيف أزيد وفي الشتاء أنقص مع أن الأمر بخلاف ذلك على ما دلت عليه التجربة، وقال الميبدي‏:‏ الحق أن السبب الذي ذكره صاحب المعتبر معتبر لا محالة إلا أنه غير مانع من اعتبار السبب الذي ذكر يعني ما شاع، واحتجاجه في المنع إنما يدل على أنه لا يجوز أن يكون ذلك هو السبب التام لا على أنه لا يجوز أن يكون ذلك سبباً في الجملة اه‏.‏

وفي شرح المواقف اختلفوا في أن المياه متولدة من أجزاء مائية متفرقة في عمق الأرض إذا اجتمعت أو من الهواء البخاري الذي ينقلب ماء‏.‏

وهذا الثاني وإن كان ممكناً إلا أن الأول أولى لأن مياه العيون والقنوات والآبار تزيد بزيادة الثلوج والأمطار، والأولى عندي أن يحمل الماء في الآية على المطر ونحوه من الثلج، والآية تدل على أن ذلك الماء يسلكه الله تعالى في ينابيع في الأرض ولا تدل على أن ما في الينابيع ليس إلا ذلك الماء فيجوز أن يكون بعض ما فيها هو الماء المنزل من السماء والبعض الآخر حادثاً من الهواء البخاري بانقلابه ماءً بأسباب يعلمها الله عز وجل، وحمل الإنزال على الإنزال في مبدأ الخليقة على ما سمعت مع كونه مما لم أقف على خبر صحيح يقتضيه خلاف الظاهر في الآية جداً لأن الخطاب في ‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ عام ولا يتأتى العموم في رؤية ذلك، وكأنه يتعين عليه جعل الخطاب خاصاً بسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم والمراد ألم تعلم ذلك بالوحي ومع ذلك لا يخفى حال حمل الآية على ما ذكر، وقريب مما قيل ما حكاه الزمخشري في الآية عن بعض من أن كل ماء في الأرض فهو من السماء ينزل منها إلى الصخرة ثم يقسمه الله تعالى بين البقاع، هذا لكن يعكر على ما اخترناه ظاهر ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال في الآية‏:‏ ليس في الأرض ماءً إلا ما أنزل الله تعالى من السماء ولكن عروق في الأرض تغيره فمن سره أن يعود الملح عذباً فليصعد‏.‏ وأخرج نحوه عن سعيد بن جبير‏.‏ والشعبي، فإن صح هذا الخبر وقلنا إنه في حكم المرفوع فما علينا إذا قلنا بظاهره فالعقل لا يأباه والله تعالى على كل شيء قدير، هذا وجوز أن تكون الينابيع جمع ينبوع بمعنى النابع فإنه كما يطلق على المنبع يطلق على ما ذكر وحينئذٍ تكون منصوبة على الحال، والمعنى فسلكه مياهاً نابعة في الأرض، ولا يخلو من الكدر لأنه لو قصد هذا كان الظاهر أن يقال من الأرض وعلى ما هو المشهور يكون ‏{‏يَنَابِيعَ‏}‏ منصوباً بنزع الخافض كما أشرنا إليه‏.‏

واحتمال كونه منصوباً على المصدرية في إطلاقيه بأن يكون الأصل فسلكه سلوكاً في ينابيع أي مجاري فحذف المصدر وأقيم ما هو في موضع الصفة مقامه أو يكون الأصل فسلكه سلوك ينابيع أي مياه نابعة فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه بعيد كما لا يخفى‏.‏

‏{‏ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ‏}‏ أي بواسطته مراعاة للحكمة لا لتوقف الإخراج عليه في نفس الأمر، وقالت الأشاعرة‏:‏ أي يخرج عنده بلا مدخلية له بوجه من الوجوه سوى المقارنة ‏{‏زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ‏}‏ أي أنواعه وأصنافه من بر وشعير وغيرهما أو كيفياته المدركة بالبصر من خضرة وحمرة وغيرهما أو كيفياته مطلقاً من الألوان والطعوم وغيرهما على ما قيل، وشمل الزرع المقتات وغيره، وثم للتراخي في الرتبة أو الزمان، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة ‏{‏ثُمَّ يَهِيجُ‏}‏ ييبس، وظاهر كلام أهل اللغة أن هذا معنى حقيقي للهيجان، ويفهم من كلام بعض المفسرين أن يهيج بمعنى يثور واستعماله بمعنى ييبس من مجاز المشارفة لأن الزرع إذا يبس وتم جفافه يشرف على أن يثور ويذهب من منابته ‏{‏فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً‏}‏ من بعد خضرته ونضارته‏.‏

وقرىء ‏{‏مصفاراً‏}‏ ‏{‏مُصْفَرّاً ثُمَّ يَجْعَلُهُ حطاما‏}‏ فتاتاً متكسراً كأن لم يغن بالأمس، ولكون هذه الحالة من الآثار القوية علقت بجعل الله تعالى كالإخراج‏.‏ وقرأ أبو بشر ‏{‏ثُمَّ يَجْعَلُهُ‏}‏ بالنصب قال صاحب الكامل‏:‏ وهو ضعيف ولم يبين وجه النصب، وكأنه إضمار أن كما في قوله‏:‏ إني وقتلي سليكاً ثم أعقله *** ولا يخفى وجه ضعفه هنا ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ إشارة إلى ما ذكر تفصيلاً، وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الغرابة والدلالة على ما قصد بيانه ‏{‏لِذِكْرِى‏}‏ لتذكيراً عظيماً ‏{‏لاِوْلِى الالباب‏}‏ لأصحاب العقول الخالصة عن شوائب الخلل وتنبيهاً لهم على حقيقة الحال يتذكرون بذلك حال الحياة الدنيا وسرعة تقضيها فلا يغترون ببهجتها ولا يفتنون بفتنتها أو يجزمون بأن من قدر على إنزال الماء من السماء والتصرف به على أتم وجه قادر على إجراء الأنهار من تحت تلك الغرف، وكأن الأول أولى ليكون ما تقدم ترغيباً في الآخرة وهذا تنفيراً عن الدنيا، وقيل المعنى إن في ذلك لتذكيراً وتنبيهاً على أنه لا بد لذلك من صانع حكيم وأنه كائن على تقدير وتدبير لا عن تعطيل وإهمال وهو بمعزل عما يقتضيه السياق على أن الأنسب بإرادة ذلك ذكر الآثار غير مسندة إليه عز وجل فحيث ذكرت مسندة إليه سبحانه فالظاهر أن يكون متعلق التذكير والتنبيه شؤونه تعالى أو شؤون آثاره حسبما أشير إليه لا وجوده جل وعلا‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام‏}‏ الخ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تخصيص الذكرى بأولى الألباب، والشرح في الأصل البسط والمد للحم ونحوه ويكنى به عن التوسيع، وتجوز به هنا عن خلق النفس الناطقة مستعددة استعداداً تاماً للقبول بجامع عدم التأبي عن القبول وسهولة الحصول وذلك بعد التجوز في الصدر، وإرادة النفس الناطقة منه من حيث أنه محل للقلب وفي تجويفه بخار لطيف يتكون من صفوة الأغذية وبه تتعلق النفس أولاً وبواسطته تتعلق بسائر البدن تعلق التدبير والتصريف، وتلك النفس هي التي تتصف بالإسلام والإيمان، وجعل بعض الأجلة شرح الله صدره استعارة تمثيلية، والهمزة للإنكار دالة على محذوف على أحد القولين المارين آنفاً، والفاء للعطف على ذلك المحذوف، وخبر من محذوف لدلالة ما بعده عليه والتقدير أكل الناس سواء فمن شرح الله تعالى صدره وخلقه مستعداً للإسلام فبقي على الفطرة الأصلية ولم تتغير بالعوارض المكتسبة القادحة فيها ‏{‏فَهُوَ‏}‏ بموجب ذلك مستقر ‏{‏على نُورٍ‏}‏ عظيم ‏{‏مّن رَّبّهِ‏}‏ وهو اللطف الإلهي المشرق عليه من بروج الرحمة عند مشاهدة الآيات التكوينية والتنزيلية والتوفيق للإهتداء بها إلى الحق كمن قسا قلبه وحرج صدره بتبديل فطرة الله تعالى بسوء اختياره واستولى عليه ظلمات الغي والضلال فأعرض عن تلك الآيات بالكلية حتى لا يتذكر بها ولا يغتنمها، وعدل عن فعنده أو فله نور إلى ما في النظم الجليل للدلالة على استمرار ذلك واستقراره في النور وهو مستعار للطف والتوفيق للاهتداء، وقد يقال‏:‏ أمر إليه غير اللطف والتوفيق يدرك به الحق؛ وجاء برواية الثعلبي في «تفسيره»‏.‏ والحاكم في «مستدركه»‏.‏ والبيهقي في «شعب الايمان»‏.‏ وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية ‏{‏أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ‏}‏ الخ فقلنا‏:‏ يا رسول الله كيف انشراح الصدر‏؟‏ قال‏:‏ إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا‏.‏ فما علامة ذلك يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والتأهب للموت قبل نزوله‏.‏ واستشكل ذلك بأن ظاهر الآية ترتب دخول النور على ألا نشرح، لأنه الاستعداد لقبوله وما في الحديث الشريف عكسه والظاهر أن السؤال عما في الآية وأن الجواب بيان لكيفيته‏.‏ وأجيب بأن الإهتداء له مراتب بعضها مقدم وبعضها مؤخر وانشراح الصدر بحسب الفطرة والخلق وبحسب ما يطرأ عليه بعد فيض الألطاف عليه وبينهما تلازم، والمراد بانشراح الصدر في الحديث ما يكون بعد المكن فيه، وفي الآية ما تقدم وقس عليه النور، والجواب من قبيل الأسلوب الحكيم فتأمل‏.‏

‏{‏فَوَيْلٌ للقاسية قُلُوبُهُمْ مّن ذِكْرِ الله‏}‏ أي من أجل ذكره سبحانه الذي حقه أن تلين منه القلوب أي إذا ذكر الله تعالى عندهم أو آياته عز وجل اشمأزوا من ذلك وزادت قلوبهم قساوة‏.‏

وقرىء ‏{‏عَن ذِكْرِ الله‏}‏ والمتواترة أبلغ لأن القاسي من أجل الشيء أشد تأبياً من قبوله من القاسي عنه بسبب آخر، وللمبالغة في وصف أولئك بالقبول وهؤلاء بالامتناع ذكر شرح الصدر لأن توسعته وجعله محلاً للإسلام دون القلب الذي فيه يدل على شدته وإفراط كثرته التي فاضت حتى ملأت الصدر فضلاً عن القلب، وإسناده إلى الله تعالى الظاهر في أنه على أتم الوجوه لأنه فعل قادر حكيم وقابله بالقساوة مع أن مقتضى المقابلة أن يعبر بالضيق لأن القساوة كما في الصخرة الصماء تقتضي عدم قبول شيء بخلال الضيق فإنه مشعر بقبول شيء قليل، وعدل عن التعبير بما يفيد مجعولية القساوة له تعالى وخلقه إياها للإشارة إلى غاية لزومها لهم حتى كأنها لو لم تجعل لتحققت فيهم بمقتضى دواتهم، وإما إسنادها إلى القلوب دون الصدور فللتنصيص على فساد هذا العضو الذي إذا فسد فسد الجسد كله، واعتبر الجمع في هؤلاء الكفرة والإفراد في أولئك المؤمنين حيث قال سبحانه‏:‏ ‏{‏أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ‏}‏ دون أفمن شرح الله صدورهم للإشارة إلى أن المؤمنين وأن تعددوا كرجل واحد ولا كذلك الكفار‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ البعداء المتصفون بما ذكر من قساوة القلوب ‏{‏فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ ظاهر كونه ضلالاً لكل أحد‏.‏

والآية نزلت في علي‏.‏ وحمزة رضي الله تعالى عنه ممن شرح الله تعالى صدره للإسلام وأبو لهب‏.‏ وابنه من القاسية قلوبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث‏}‏ هو القرآن الكريم، وكونه حديثاً بمعنى كونه كلاماً محدثاً به لا بمعنى كونه مقابلاً للقديم، ومن قال بالتلازم من الأشاعرة القائلين بحدوث الكلام اللفظي جعل الأوصاف الدالة على الحدوث لذلك الكلام، وجوز أن يكون إطلاق الحديث هنا على القرآن من باب المشاكلة‏.‏ عن ابن عباس أن قوماً من الصحابة قالوا‏:‏ يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر فنزلت، وعن ابن مسعود أن الصحابة ملوا ملة فقالوا له عليه الصلاة والسلام حدثنا فنزلت أي إرشاداً لهم إلى ما يزيل مللهم وهو تلاوة القرآن واستماعه منه صلى الله عليه وسلم غضاً طرياً‏.‏ وفي إيقاع اسم الله تعالى مبتدأ أو بناء ‏{‏نَزَّلَ‏}‏ عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على أحسنيته وتأكيد لاستناده إلى الله عز وجل وأن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه، أما التفخيم فلأنه من باب الخليفة عند فلان، وأما الاستشهاد على أحسنيته فلكونه ممن لا يتصور أكمل منه بل لا كمال لشيء ما في جنبه بوجه، وأما توكيد الاستناد إليه تعالى فمن التقوى، وأما إن مثله لا يمكن أن يتكلم به غيره سبحانه فلمكان التناسب لأن أكمل الحديث إنما يكون من أكمل متكلم ضرورة، ومذهب الزمخشري أن مثل هذا التركيب يفيد الحصر وأنه لا تنافي بينه وبين التقوى جمعاً فافهم‏.‏

‏{‏كتابا‏}‏ بدل من ‏{‏أَحْسَنَ الحديث‏}‏ أو حال منه كما قال الزمخشري، وليس مبنياً على القول بأن إضافة أفعل التفضيل تفيده تعريفاً كما ظن أبو حيان فإن مطلق الإضافة كافية في صحة الحالية كما لا يخفى على من له أدنى إلمام بالعربية، ووقوعه حالاً مع كونه اسماً لا صفة إما لوصفه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏متشابها‏}‏ أو لكونه في قوة مكتوباً‏.‏

والمراد بكونه متشابهاً هنا تشابه معانيه في الصحة والأحكام والابتناء على الحق والصدق واستتباع منافع الخلق في المعاد والمعاش وتناسب ألفاظه في الفصاحة وتجاوب نظمه في الإعجاز، وما أشبه هذا بقول العرب في الوجه الكامل حسناً وجه متناصف كأن بعضه أنصف بعضاً في القسط من جمال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّثَانِيَ‏}‏ صفة أخرى لكتاباً أو حال أخرى منه، وهو جمع مثنى بضم الميم وفتح النون المشددة على خلاف القياس إذ قياسه مثنيات بمعنى مردد ومكرر لما كرر وثنى من أحكامه ومواعظه وقصصه، وقيل‏:‏ لأنه يثني في التلاوة‏.‏

وجوز أن يكون جمع مثنى بالفتح مخففاً من التثنية بمعنى التكرير والإعادة كما كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارجع البصر كَرَّتَيْنِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ بمعنى كرة بعد كرة وكذلك لبيك وسعديك، والمراد أنه جمع لمعنى التكرير والإعادة كما ثنى ما ذكر لذلك لكن استعمال المثنى في هذا المعنى أكثر لأنه أول مراتب التكرار، ويحتمل أن يراد أن مثنى بمعنى التكرير والإعادة كما أن صريح المثنى كذلك في نحو كرتين ثم جمع للمبالغة، وقيل‏:‏ جمع مثنية لاشتماله آياته على الثناء على الله تعالى أو لأنها تثني ببلاغتها وإعجازها على المتكلم بها، ولا يخفى أن رعاية المناسبة مع ‏{‏متشابها‏}‏ تجعل ذلك مرجوحاً وأنه حسن إذا حمل على الثناء باعتبار الإعجاز، وفي «الكشف» الاقيس بحسب اللفظ أن ‏{‏مَّثَانِيَ‏}‏ اشتقت من الثناء أو الثني جمع مثنى مفعل منهما إما بمعنى المصدر جمع لما صير صفة أو بمعنى المكان في الأصل نقل إلى الوصف مبالغة نحو أرض مأسدة لأن محل الثناء يقع على سبيل المجاز على الثاني والمثنى عليه وكذلك محل الثني انتهى، ووقوعه صفة لكتاب باعتبار تفاصيله وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا تراك تقول‏:‏ القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول‏:‏ هو أحكام ومواعظ وأقاصيص مثاني ونظيره قولك الإنسان عروق وعظام وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة والأصل كتاباً متشابهاً فصلاً مثاني، ويجوز أن يكون تمييزاً محولاً عن الفاعل والأصل متشابهاً مثانيه فحول ونكر لأن الأكثر فيه التنكير وهذا كقولك‏:‏ رأيت رجلاً حسناً شمائل، وقرأ هشام‏.‏

وأبو بشر ‏{‏مَّثَانِيَ‏}‏ بسكون الياء فاحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف وإن يكون منصوباً وسكن الياء على لغة من يسكنها في كل الأحوال لانكسار ما قبلها استثقالاً للحركة عليها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ قيل صفة لكتاباً أو حال منه لتخصصه بالصفة، وقال بعض‏:‏ الأظهر أنه استئناف مسوق لبيان آثاره الظاهرة في سامعيه بعد بيان أوصافه في نفسه ولتقرير كونه أحسن الحديث‏.‏

والإقشعرار التقبض يقال اقشعر الجلد إذا تقبض تقبضاً شديداً وتركيبه من القشع وهو الأديم اليابس قد ضم إليه الراء ليكون رباعياً ودالاً على معنى زائد يقال‏:‏ اقشعر جلده وقف شعره إذا عرض له خوف شديد من أمر هائل دهمه بغتة، والمراد تصوير خوفهم بذكر لوازمه المحسومة ويطلق عليه التمثيل وإن كان من باب الكناية‏.‏

وقيل‏:‏ هو تصوير للخوف بذكر آثارها وتشبيه حالة بحالة فيكون تمثيلاً حقيقة، والأول أحسن لأن تشبيه القصة بالقصة على سبيل الاستعارة ههنا لا يخلو عن تكلف، واستظهر كون المراد بيان حصول تلك الحالة وعروضها لهم بطريق التحقيق، والمعنى أنهم إذا سمعوا القرآن وقوارع آيات وعيده أصابتهم رهبة وخشية تقشعر منها جلودهم وإذا ذكروا رحمة لله تعالى عند سماع آيات وعده تعالى والطافه تبدلت خشيتهم رجاء ورهبتهم رغبة وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله‏}‏ أي ساكنة مطمئنة إلى ذكر رحمته تعالى، وإنما لم يصرح بالرحمة إيذاناً بأنها أول ما يخطر بالبال عند ذكره تعالى لأصالتها كما يرشد إليه خبر سبقت رحمتى غضبي، وذكر القلوب لتقدم الخشية التي هي من عوارضها ولعله إنما لم تذكر هناك على طرز ذكرها هنا لأنها لا توصف بالإقشعرار وتوصف باللين، وليس في الآية أكثر من نعت أوليائه باقشعرار الجلود من القرآن ثم سكونهم إلى رحمته عز وجل، وليس فيها نعتهم بالصعق والتواجد والصفق كما يفعله بعض الناس، أخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر‏.‏

وابن مردويه‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن عساكر عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال‏:‏ قلت لجدتي أسماء كيف كان يصنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اقرؤا القرآن‏؟‏ قالت‏:‏ كانوا كما نعتهم الله تعالى تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم قلت‏:‏ فإن ناساً ههنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم غشية قالت‏:‏ أعوذ بالله تعالى من الشيطان، وأخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عامر عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ جئت أمي فقلت وجدت قوماً ما رأيت خيراً منهم قط يذكرون الله تعالى فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من خشية الله تعالى فقالت‏:‏ لا تقعد معهم ثم قالت‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن ورأيت أبا بكر‏.‏ وعمر يتلوان القرآن ورأيت أبا بكر‏.‏ وعمر يتلوان القرآن فلا يصيبهم هذا أفتراهم أخشى من أبي بكر وعمر، وقال ابن عمر وقد رأى ساقطاً من سماع القرآن فقال إنا لنخشى الله تعالى وما نسقط‏:‏ هؤلاء يدخل الشيطان في جوف أحدهم، وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عن قتادة أنه قال في الآية هذا نعت أولياء الله تعالى قال‏:‏ تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله تعالى ولم ينعتهم الله سبحانه بذهاب عقولهم والغشيان عليهم إنما هذا في أهل البدع وإنما هو من الشيطان، وأخرج ابن أبي شيبة عن ابن جبير‏:‏ قال الصعقة من الشيطان، وقال ابن سيرين‏:‏ بيننا وبين هؤلاء الذين يصرعون عند قراءة القرآن أن يجعل أحدهم على حائط باسطاً رجليه ثم يقرأ عليهم القرآن كله فإن رمي بنفسه فهو صادق، فهذه أخبار ناعية على بعض المتصوفة صعقهم وتواجدهم وضرب رؤسهم الأرض عند سماع القرآن ويقول مشايخهم‏:‏ إن ذلك لضعف القلوب عن تحمل الوارد وليس فاعلو ذلك في الكمال كالصحابة أهل الصدر الأول في قوة التحمل فما هو إلا دليل النقص بدليل إن السالك إذا كمل رسخ وقوي قلبه ولم يصدر منه شيء من ذلك ويقولون‏:‏ ليس في الآية أكثر من إثبات الإقشعرار واللين وليس فيها نفي أن يعتريهم حال آخر بل في الآية إشعار بأن المذكور حال الراسخين الكاملين حيث قال سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم‏}‏ فعبر بالموصول ومقتضى معلومية الصلة أن لهم رسوخاً في الخشية حتى يعلموا بها فلا يلزم من كون حالهم ما ذكر ليس إلا على فرض دلالتها على الحصر كون حال غيرهم كذلك ثم إنه متى كان الأمر ضرورياً كالعطاس لا اعتراض على من يتصف به، وفي كلام ابن سيرين ما يؤيد ذلك، وهذا غاية ما يقال في هذا المجال ونحن نسأل الله تعالى أن يتفضل علينا بما تفضل به على أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ‏{‏ذلك هُدَى الله‏}‏ الإشارة إلى الكتاب الذي شرح أحواله ‏{‏يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء‏}‏ أي من يشاء الله تعالى هدايته بأن يوفقه سبحانه للتأمل فيما في تضاعيفه من شواهد الحقية ودلائل كونه من عنده عز وجل، وجوز أن يكون ضمير ‏{‏يَشَاء‏}‏ لمن والمعنى يهدي به الله تعالى من يشاء هداية الله تعالى وليس بذاك‏.‏

‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله‏}‏ أي يخلق سبحانه فهي الضلال لإعراضه عما يرشده إلى الحق بسوء استعداده ‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ يخلصه من ورطة الضلال، وقيل‏:‏ الإشارة بذلك إلى المذكور من الإقشعرار واللين والمعنى ذلك من ذكر من الخشية والرجاء أثر هداه تعالى يهدي بذلك الأثر من يشاء من عباده ومن يضلله أي ومن لم يؤثر فيه لقسوة قلبه وإصراره على فجوره فما له من هاد أي من مؤثر فيه بشيء قط وهو كما ترى‏.‏