فصل: تفسير الآية رقم (24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب يَوْمَ القيامة‏}‏ استئناف جار مجرى التعليل لما قبله من تباين حال المهتدي والضال، والكلام في الهمزة والفاء والخبر كالذي مر في نظائره، ويقال هنا على أحد القولين‏:‏ التقدير أكل الناس سواء فمن شأنه أن يتقي بوجهه الذي هو أشرف أعضائه يوم القيامة العذاب السيء الشديد لكون يده التي بها كان يتقي المكاره مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه ولا حتاج إلى الاتقاء بوجه من الوجوه فالوجه على حقيقته وقد يحمل على ذلك من غير حاجة إلى حديث كون اليد مغلولة تصويراً لكمال اتقائه وجده فيه وهو أبلغ، وفي هذا المضمار يجري قول الشاعر‏:‏ يلقى السيوف بوجهه وبنحره *** ويقيم هامته مقام المغفر

وجوز أن يكون الوجه بمعنى الجملة والمبالغة عليه دون المبالغة فيما قبله‏.‏ وقيل‏:‏ الاتقاء بالوجه كناية عن عدم ما يتقي به إذ الاتقاء بالوجه لا وجه له لأنه مما لا يتقي به، ولا يخلو عن خدش، وإضافة سوء إلى العذاب من إضافة الصفة إلى الموصوف و‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ معمول يتقي كما أشرنا إلى ذلك‏.‏ وجوز أن يكون من تتمة سوء العذاب، والمعنى أفمن يتقي عذاب يوم القيامة كالمصر على كفره، وهو وجه حسن والوجه حينئذ كما في الوجه السابق إما الجملة مبالغة في تقواه وإما على الحقيقة تصويراً لكمال تقواه وجده فيها وهو أبلغ‏.‏ والمتبادر إلى الذهن المعنى السابق، والآية قيل نزلت في أبي جهل ‏{‏وَقِيلَ لِلظَّلِمِينَ‏}‏ عطف على يتقي أي ويقال لهم من جهة خزنة النار، وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق والتفرر؛ وقيل الواو للحال والجملة حال من ضمير ‏{‏يَتَّقِى‏}‏ بإضمار قد أو بدونه، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالظلم والإشعار بعلة الأمر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏ أي وبال ما كنتم تكسبون في الدنيا على الدوام من الكفر والمعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ استئناف مسوق لبيان ما أصاب بعض الكفرة من العذاب الدنيوي إثر بيان ما يصيب الكل من العذاب الأخروي أي كذب الذين من قبلهم من الأمم السالفة ‏{‏فأتاهم العذاب‏}‏ المقدر لكل أمة منهم ‏{‏مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ من الجهة التي لا يحتسبون ولا يخطر ببالهم إتيانه منها لأن ذلك أشد على النفس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَذَاقَهُمُ الله الخزى‏}‏ أي الذل والصغار ‏{‏وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم‏}‏ كالمسخ والخسف والقتل والسبي والإجلاء وغير ذلك من فنون النكال، والفاء تفسيرية مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستجبنا لَهُ فنجيناه‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 76‏]‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الاخرة‏}‏ المعد لهم ‏{‏أَكْبَرَ‏}‏ لشدته وسرمديته ‏{‏لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي لو كانوا من شأنهم أن يعلموا شيئاً لعلموا ذلك واعتبروا به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآَنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان‏}‏ العظيم الشأن ‏{‏مِن كُلّ مَثَلٍ‏}‏ يحتاج إليه الناظر في أمور دينه ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ أي كي يتذكروا ويتعظوا أو مرجوا تذكرهم واتعاظهم، والرجاء بالنسبة إلى غيره تعالى والتعليل أظهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏قُرْآَنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ حال من هذا والاعتماد فيها على السفة أعني عربياً وإلا فقرآناً جامداً لا يصلح للحالية وهو أيضاً عين ذي الحال فلا يظهر حاله فالحال في الحقيقة ‏{‏عَرَبِيّاً‏}‏ وقررناً للتمهيد ونظيره جاء زيد رجلاً صالحاً، قيل وذلك بمنزلة عربياً محققاً‏.‏

وجوز أن يكون منصوباً بمقدر تقديره أعني أو أخص أو أمدح ونحوه، وأن يكون مفعول ‏{‏يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ وهو كما ترى ‏{‏غَيْرَ ذِى عِوَجٍ‏}‏ لا اختلال فيه بوجه من الوجوه وهو أبلغ من مستقيم لأن عوجاً نكرة وقعت في سياق النفي لما في غير من معناه، والاستقامة يجوز أن تكون من وجه دون وجه ونفي مصاحبة العوج عنه يقتضي نفي اتصافه به بالطريق الأولى فهو أبلغ من غير معوج، والعوج بالكسر يقال فيما يدرك بفكر وبصيرة والعوج بالفتح يقال فيما يدرك بالحس، وعبر بالأول ليدل على أنه بلغ إلى حد لا يدرك العقل فيه عوجاً فضلاً عن الحسن، وتمام الكلام مر في الكهف‏.‏ وقيل المراد بالعوج الشك واللبس، وروى ذلك عن مجاهد وأنشدوا قول الشاعر‏:‏

وقد أتاك يقين غير ذي عوج *** من الإله وقول غير مكذوب

ولا استدلال به على أن العوج بمعنى الشك لأن عوج اليقين هو الشك لا محالة، والقول في وجه الاستدلال أن الشاعر فهم هذا المعنى من الآية لأنه اقتباس وإذا فهمه الفصيح مع صحة التجوز كان محملاً تعسف ظاهر لأنه لم يتبين أنه اقتبسه منها ولو سلم يكون محتملاً لما يحتمله العوج في النظم الذي لا عوج فيه، وقد يقال‏:‏ مراد من قال أي لا لبس فيه ولا شك نفي بعض أنواع الاختلال، وعلى ذلك ما روى عن عثمان بن عفان من أنه قال‏:‏ أي غير مضطرب ولا متناقض وما قيل أي غير ذي لحن‏.‏ وأخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ غير ذي عوج غير مخلوق ولعله إن صح الخبر تفسير باللازم فتأمل‏.‏

‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ‏}‏ علة أخرى مترتبة على الأولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَاء متشاكسون‏}‏ إيراد لمثل من الأمثال القرآنية بعد بيان أن الحكمة في ضربها هو التذكر والاتعاظ بها وتحصيل التقوى، والمراد بضرب المثل ههنا تطبيق حالة عجيبة بأخرى مثلها وجعلها مثلها، و‏{‏مَثَلاً‏}‏ مفعول ثان لضرب و‏{‏رَجُلاً‏}‏ مفعوله الأول أخر عن الثاني للتشويق إليه وليتصل به ما هو من تتمته التي هي العمدة في التمثيل أو ‏{‏مَثَلاً‏}‏ مفعول ضرب و‏{‏رَجُلاً‏}‏ الخ بدل منه بدل منه بدل كل من كل‏.‏

وقال الكسائي‏:‏ انتصب ‏{‏رَجُلاً‏}‏ على إسقاط الخافض أي مثل في رجل وقيل غير ذلك وقد تقدم الكلام في نظيره‏.‏ و‏{‏فِيهِ‏}‏ خبر مقدم و‏{‏شُرَكَاء‏}‏ مبتدأ و‏{‏متشاكسون‏}‏ صفته والنكرة وإن وصفت يحسن تقديم خبرها‏.‏ والجملة صفة ‏{‏رَجُلاً‏}‏ والرابط الهاء أو الجار والمجرور في موضع الصفة له و‏{‏شُرَكَاء‏}‏ مرتفع به على الفاعلية لاعتماده على الموصوف، وقيل ‏{‏فِيهِ‏}‏ صلة شركاء وهو مبتدأ خبره متشاكسون، وفيه أنه ليس لتقديمه نكتة ظاهرة‏.‏

والمعنى ضرب الله تعالى مثلاً للمشرك حسبما يقول إليه مذهبه من ادعاء كل من معبوديه عبوديته عبداً يتشارك فيه جماعة متشاجرون لشكاسة أخلاقهم وسوء طبائعهم يتجاذبونه ويتعاورونه في مهماتهم المتباينة في تحيره وتوزع قلبه ‏{‏وَرَجُلاً‏}‏ أي وضرب للموحد مثلاً رجلاً ‏{‏سلاما‏}‏ أي خالصاً ‏{‏لِرَجُلٍ‏}‏ فرد ليس لغيره سبيل إليه أصلاً فهو في راحة عن التحير وتوزع القلب وضرب الرجل مثلاً لأنه أفطن لما شقى به أو سعد فإن الصبي والمرأة قد يغفلان عن ذلك‏.‏

وقرأ عبد الله‏.‏ وابن عباس‏.‏ وعكرمة‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ الزهري‏.‏ والحسن بخلاف عنه‏.‏ والجحدري‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏سالماً‏}‏ اسم فاعل من سلم أي خالصاً له من الشركة‏.‏ وقرأ ابن جبير ‏{‏قِيلاً سلاما‏}‏ بكسر السين وسكون اللام، وقرىء ‏{‏سلاما‏}‏ بفتح فسكون وهما مصدران وصف بهما مبالغة في الخلوص من الشركة‏.‏

وقرىء ‏{‏ورجل سالم‏}‏ برفعهما أي وهناك رجل سالم، وجوز أن لا يقدر شيء ويكون رجل مبتدأ وسالم خبره لأنه موضع تفصيل إذ قد تقدم ما يدل عليه فيكون كقول امرىء القيس‏:‏

إذا ما بكى من خلفها انحرفت له *** بشق وشق عندنا لم يحول

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً‏}‏ إنكار واستبعاد لاستوائهما ونفي له على أبلغ وجه وآكده وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور بحيث لا يقدر أحد أن يتفوه باستوائهما أو يتلعثم في الحكم بتباينهما ضرورة أن أحدهما في لوم وعناء والآخر في راحة بال ورضاء، وقيل ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين والآخر في أسفل سافلين، وأياً ما كان فالسر في إبهام الفاضل والمفضول الإشارة إلى كمال الظهور عند من له أدنى شعور‏.‏

وانتصاب ‏{‏مَثَلاً‏}‏ على التمييز المحول عن الفاعل إذ التقدير هل يستوي مثلهما وحالهما، والاقتصار في التمييز على الواحد لبيان الجنس والاقتصار عليه أولاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً‏}‏ وقرىء ‏{‏مثلين‏}‏ أي هل يستوي مثلاهما وحالاهما، وثني مع أن المقصود من التمييز حاصل بالإفراد من غير لبس لقصد الإشعار بمعنى زائد وهو اختلاف النوع، وجوز أن يكون ضمير يستويان للمثلين لأن التقدير فيما سبق مثل رجل ومثل رجل أي هل يستوي المثلان مثلين وهو على نحو كفى بهما رجلين وهو من باب لله تعالى دره فارساً ويرجع ذلك إلى هل يستويان رجلين فيما ضرب من المثال ولما كان المثل بمعنى الصفة العجيبة التي هي كالمثل كان المعنى هل يستويان فيما يرجع إلى الوصفية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ الحمد للَّهِ‏}‏ تقرير لما قبله من نفي الاستواء بطريق الاعتراض وتنبيه للموحدين على أن مالهم من المزية بتوفيق الله تعالى وأنها نعمة جليلة تقتضي الدوام على حمده تعالى وعبادته أو على أن بيانه تعالى بضرب المثل أن لهم المثل الأعلى وللمشركين مثل السوء صنع جميل ولطف تام منه عز وجل مستوجب لحمده تعالى وعبادته، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ إضراب وانتقال من بيان عدم الاستواء على الوجه المذكور إلى بيان أن أكثر الناس وهم المشركون لا يعلمون ذلك مع كمال ظهوره أو ليسوا من ذوي العلم فلا يعلمون ذلك فيبقون في ورطة الشرك والضلال، وقيل المراد أنهم لا يعلمون أن الكل منه تعالى وأن المحامد إنما هي له عز وجل فيشركون به غيره سبحانه فالكلام من تتمة ‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ ولا اعتراض، ولا يخفى أن بناء الكلام على الاعتراض كما سمعت أولى

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ‏}‏ تمهيد لما يعقبه من الاختصام يوم القيامة‏.‏ وفي «البحر» أنه لما لم يلتفتوا إلى الحق ولم ينتفعوا بضرب المثل أخبر سبحانه بأن مصير الجميع بالموت إلى الله تعالى وأنهم يختصمون يوم القيامة بين يديه وهو عز وجل الحكم العدل فيتميز هناك المحق والمبطل‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ إنه لما ذكرت من أول السورة إلى هنا البراهين القاطعة لعرق الشركة المسجلة لفرط جهل المشركين وعدم رجوعهم مع جهده صلى الله عليه وسلم في ردهم إلى الحق وحرصه على هدايتهم اتجه السؤال منه عليه الصلاة والسلام بعد ما قاساه منهم بأن يقول ما حالي وحالهم‏؟‏ فأجيب بأنك ميت وإنهم ميتون الآية‏.‏

وقرأ ابن الزبير‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وعيسى‏.‏ واليماني‏.‏ وابن أبي غوث‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏إِنَّكَ‏}‏ والفرق بين ميت ومائت أن الأول‏:‏ صفة مشبهة وهي تدل على الثبوت ففيها إشعار بأن حياتهم عين الموت وأن الموت طوق في العنق لازم والثاني‏:‏ اسم فاعل وهو يدل على الحدوث فلا يفيد هنا مع القرينة أكثر من أنهم سيحدث لهم الموت، وضمير الخطاب على ما سمعت للرسول صلى الله عليه وسلم قال أبو حيان‏:‏ ويدخل معه عليه الصلاة والسلام مؤمنو أمته، وضمير الجمع الغائب للكفار وتأكيد الجملة في ‏{‏أَنَّهُمْ مَّيّتُونَ‏}‏ للإشعار بأنهم في غفلة عظيمة كأنهم ينكرون الموت وتأكيد الأولى دفعاً لاستبعاد موته عليه الصلاة والسلام، وقيل للمشاكلة، وقيل إن الموت مما تكرهه النفوس وتكره سماع خبره طبعاً فكان مظنة أن لا يلتفت إلى الإخبار به أو أن ينكر وقوعه ولو مكابرة فأكد الحكم بوقوعه لذلك ولا يضر في ذلك عدم الكراهة في بعض لخصوصية فيه كسيد العالمين صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ‏}‏ على تغليب المخاطب على الغيب‏.‏

‏{‏يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ أي مالك أموركم ‏{‏تَخْتَصِمُونَ‏}‏ فتحتج أنت عليهم بأنك بلغتهم ما أرسلت به من الأحكام والمواعظ التي من جملتها ما في تضاعيف هذه الآيات واجتهدت في دعوتهم إلى الحق حق الاجتهاد وهم قد لجوا في المكابرة والعناد ويعتذرون بالأباطيل مثل ‏{‏أَطَعْنَا سَادَتَنَا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 67‏]‏ و‏{‏وَجَدْنَا ءابَاءنَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 53‏]‏ ‏{‏غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 106‏]‏ والجمع بين ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ و‏{‏عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ لزيادة التهويل ببيان أن اختصامهم ذلك في يوم عظيم عند مالك لأمورهم نافذ حكمه فيهم ولو اكتفى بالأول لاحتمل وقوع الاختصام فيما بينهم بدون مرافعة أو بمرافعة لكن ليست لدى مالك لأمورهم، والاكتفاء بالثاني على تسليم فهم كون ذلك يوم القيامة معه بدون الاحتمال لا يقوم مقام ذكرهما لما في التصريح بما هو كالعلم من التهويل ما فيه، وقال جمع‏:‏ المراد بذلك الاختصام العام فيما جرى في الدنيا بين الأنام لا خصوص الاختصام بينه عليه الصلاة والسلام وبين الكفرة الطغام، وفي الآثار ما يأبى الخصوص المذكور‏.‏

أخرج عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن عساكر عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏إِنَّكَ مَيّتٌ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏ الخ فقالوا‏:‏ وما خصومتنا ونحن إخوان فلما قتل عثمان بن عفان قالوا هذه خصومة ما بيننا‏.‏ وأخرج سعيد بن منصور عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ كنا نقول‏:‏ ربنا واحد وديننا واحد فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا‏:‏ نعم هو هذا‏.‏

وأخرج عبد بن حميد‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ لقد لبثنا برهة من دهرنا ونحن نرى أن هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين من قبل ‏{‏إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ‏}‏ ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون قلنا‏:‏ كيف نختصم ونبينا واحد وكتابنا واحد حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف فعرفت أنها نزلت فينا، وفي رواية أخرى عنه بلفظ نزلت علينا الآية ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ وما ندري فيم نزلت قلنا‏:‏ ليس بيننا خصومة فما التخاصم حتى وقعت الفتنة فقلت‏:‏ هذا الذي وعدنا ربنا أن نختصم فيه‏.‏

وأخرج أحمد‏.‏ وعبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ والترمذي وصححه‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ وأبو نعيم في الحلية، والبيهقي في البعث والنشور عن الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَيّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبّكُمْ تَخْتَصِمُونَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 30‏]‏ قلت‏:‏ يا رسول الله أينكر علينا ما يكون بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب قال‏:‏ نعم ينكر ذلك عليكم حتى يؤدي إلى كل ذي حق حقه قال الزبير‏:‏ فوالله إن الأمر لشديد‏.‏

وزعم الزمخشري أن الوجه الذي يدل عليه كلام الله تعالى هو ما ذكر أولاً واستشهد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 32‏]‏ الخ وبقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذى جَاء بالصدق‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏ الخ لدلالتهما على أنهما اللذان تكون الخصومة بينهما، وكذلك ما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً‏}‏ ‏(‏الزمر؛ 29‏)‏‏}‏ الخ‏.‏ وتعقب ذلك في «الكشف» فقال‏:‏ أقول قد نقل عن جلة الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ما يدل على أنهم فهموا الوجه الثاني أي العموم بل ظاهر قول النخعي قالت الصحابة‏:‏ ما خصومتنا ونحن إخوان يدل على أنه قول الكل فالوجه إيثار ذلك‏.‏

وتحقيقه أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِى هذا القرءان‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 27‏]‏ كلام مع الأمة كلهم موحدهم ومشركهم وكذلك قوله تعالى ‏{‏ضرب الله مثلاً رجلاف ورجلاً بل أكثرهم‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 29‏]‏ دون بل هم كالنص على ذلك فإذا قيل‏:‏ ‏{‏إنك ميت‏}‏ وجب أن يكون على نحو ‏{‏يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ أي إنكم أيها النبي والمؤمنون وأبهم ليعم القبيلين ولا يتنافر النظم فقد روعي من مفتتح السورة إلى هذا المقام التقابل بين الفريقين لا بينه عليه الصلاة والسلام وحده وبين الكفار ثم إذا قيل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ‏}‏ على التغليب يكون تغليباً للمخاطبين على جميع الناس فهذا من حيث اللفظ والمساق الظاهر ثم إذا كان الموت أمراً عمه والناس جميعاً كان المعنى عليه أيضاً، وأما حديث الاختصام والطباق الذي ذكره فليس بشيء لأنه لعمومه يشمله شمولاً أولياً كما حقق هذا المعنى مراراً‏.‏ والتعقيب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 32‏]‏ للتنبيه على أنه مصب الغرض وأن المقصود التسلق إلى تلك الخصومة، ولا أنكر أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ يدل على أن الاختصام يوم القيامة ولكن أنكر أن يختص باختصام النبي صلى الله عليه وسلم وحده والمشركين بل يتناوله أولاً وكذلك اختصام المؤمنين والمشركين واختصام المؤمنين بعضهم مع بعض كاختصام عثمان رضي الله تعالى عنه يوم القيامة وقاتليه، وهذا ما ذهب إليه هؤلاء وهم هم رضي الله تعالى عنهم انتهى، وكأنه عنى بقوله ولا أنكر الخ رد ما يقال إن ‏{‏عِندَ رَبّكُمْ‏}‏ يدل على أن الاختصام يوم القيامة، وقد صرح في «النظم الجليل» بذلك فيكون تأكيداً مشعراً بالاهتمام بأمر ذلك الاختصام فليس هو إلا اختصام حبيبه صلى الله عليه وسلم مع أعدائه الطغام، ووجه الرد أنه إن سلم أن فائدة الجمع ما ذكر فلا نسلم استدعاء ذلك لاعتبار الخصوص بل يكفي للاهتمام دخول اختصام الحبيب مع أعدائه عليه الصلاة والسلام فتأمله، ثم أنت تعلم أنه لو لم يكن في هذا المقام سوى الحديث الصحيح المرفوع لكفى في كون المراد عموم الاختصام فالحق القول بعمومه وهو أنواع شتى، فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية‏:‏ يخاصم الصادق الكاذب والمظلوم الظالم والمهتدي الضال والضعيف المستكبر، وأخرج الطبراني‏.‏

وابن مردويه بسند لا بأس به عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أول من يختصم يوم القيامة الرجل وامرأته والله ما يتكلم لسانها ولكن يداها ورجلاها يشهدان عليها بما كان لزوجها وتشهد يداه ورجلاه بما كان لها ثم يدعى الرجل وخادمه بمثل ذلك ثم يدعى أهل الأسواق وما يوجد ثم دانق ولا قراريط ولكن حسنات هذا تدفع إلى هذا الذي ظلمه وسيئات هذا الذي ظلمه توضع عليه ثم يؤتى بالجبارين في مقامع من حديد فيقال أوردوهم إلى النار فوالله ما أدري يدخلونها أو كما قال الله ‏{‏وإن منكم إلا واردها‏}‏ ‏"‏ وأخرج البزار عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يجاء بالأمير الجائر فتخاصمه الرعية ‏"‏ وأخرج أحمد‏.‏ والطبراني بسند حسن عن عقبة بن عامر قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أول خصمين يوم القيامة جاران ‏"‏ ولعل الأولية إضافية لحديث أبي أيوب السابق‏.‏

وجاء عن ابن عباس اختصام الروح مع الجسد أيضاً بل أخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ليختصمن يوم القيامة كل شيء حتى الشاتان فيما انتطحا ‏"‏

تم الجزء الثالث والعشرون ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع والعشرون وأوله ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله‏}‏ بأن أضاف إليه سبحانه وتعالى الشرك أو الولد ‏{‏وَكَذَّبَ بالصدق‏}‏ أي بالأمر الذي هو عين الحق ونفس الصدق وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏إِذْ جَاءهُ‏}‏ أي في أول مجيئه من غير تدبر فيه ولا تأمل فإذ فجائية كما صرح به الزمخشري لكن اشترط فيها في المغنى أن تقع بعد بينا أو بينما ونقله عن سيبويه فلعله أغلبي، وقد يقال‏:‏ هذا المعنى يقتضيه السياق من غير توقف على كون إذ فجائية، ثم المراد أن هذا الكاذب والمكذب أظلم من كل ظالم ‏{‏أَلَيْسَ فِى جَهَنَّمَ مَثْوًى للكافرين‏}‏ أي لهؤلاء الذين افتروا على الله سبحانه وتعالى وسارعوا إلى التكذيب بالصدق، ووضع الظاهر موضع الضمير للتسيجل عليهم بالكفر، والجمع باعتبار معنى ‏{‏مِنْ‏}‏ كما أن الافراد في الضمائر السابقة باعتبارلفظها أو لجنس الكفرة فيشمل أهل الكتاب ويدخل هئلاء في الحكم دخولاً أولياً، وأياً ما كان فالمعنى على كفاية جهنم مجازاة لهم كأنه قيل‏:‏ أليست جهنم كافية للكافرين مثوى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 8‏]‏ أي هي تكفي عقوبة لكفرهم وتكذيبهم، والكفاية مفهومة من السياق كما تقول لمن سألك شيئاً‏:‏ ألم أنعم عليك تريد كفاك سابق أنعامي عليك، واستدل بالآية على تفكير أهل البدع لأنهم مكذبون بما علم صدقه‏.‏

وتعقب بأن ‏{‏مَن كَذَّبَ‏}‏ مخصوص بمن كذب الأنبياء شفاها في وقت تبليغهم لا مطلقاً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ جَاءهُ‏}‏ ولو سلم اطلاقه فهم لكونهم يتأولون ليسوا مكذبين وما نفوه وكذبوه ليس معلوماً صدقه بالضرورة إذ لو علم من الدين ضرورة كان جاحدة كافراً كمنكر فرضية الصلاة ونحوها‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ الأظهر أن المراد تكذيب الأنبياء عليهم السلام بعد ظهور المعجزات في أن ما جاؤوا به من عند الله تعالى لا مطلق التكذيب، وكأني بك تختار أن المتأول غير مكذب لكن لا عذر في تأويل ينفي ما علم من الدين ضرورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ الموصول عبارة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس، وفسر الصدق بلا إله إلا الله، والؤمنون داخلون بدلالة السياق وحكم التبعية دخول الجند في قولك‏:‏ نزل الأمير موضع كذا، وليس هذا من الجمع بين الحقيقة والمجاز في شيء لأن الثاني لم يقصد من حاق اللفظ، ولا يضر في ذلك أن المجيء بالصدق ليس وصفاً للمؤمنين الأتباع كما لا يخفى، والموصول على هذا مفرد لفظاً ومعنى، والجمع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ هُمُ المتقون‏}‏ باعتبار دخول الأتباع تبعاً، ومراتب باعتبار دخول الأتباع تبعاف، ومراتب التقوى متفاوتة ولرسول الله صلى الله عليه وسلم أعلاها، وجوز أن يكون الموصول صفة لمحذوف أي الفوج الذي أو الفريق الذي الخ فيكون مفرد اللفظ مجموع المعنى فقيل‏:‏ الكلام حينئذ على التوزيع لأن المجيء بالصدق على الحقيقة له عليه الصلاة والسلام والتصديق بما جاء به وان عمه وأتباعه صلى الله عليه وسلم لكنه فيهم أظهر فليحمل عليه للتقابل، وفي الكشف الأوجه أن لا يحمل على التوزيع غاية ما في الباب ان أحد الوصفين في أحد الموصوفين أظهر، وعليه يحمل كلام الزمخشري الموهم للتوزيع، وحمل بعضهم الموصول على الجنس فإن تعريفه كتعريف ذي اللام يكون للجنس والعهد، والمراد حينئذ به الرسل والمؤمنون‏.‏

وأيد إرادة ما ذكر بقراءة ابن مسعود ‏{‏والذين مَعَاذِيرَهُ لاَ تُحَرّكْ بِهِ‏}‏ وزعم بعضهم أنه أريد والذين فحذفت النون كما في قوله‏:‏ إن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم مالك

وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من اللذان كان الضمير مثنى كقوله‏:‏ إن الذي حانت بفلج دماؤهم *** هم القوم كل القوم يا أم مالك

وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بصحيح لوجوب جمع الضمير في الصلة حينئذ كما في البيت ألا ترى أنه إذا حذفت النون من اللذان كان الضمير مثنى كقوله‏:‏

أبني كليب ان عمى اللذا

قتلا وفككا الاغلالا

وقال علية‏.‏ وأبو العالية‏.‏ والكلبي‏.‏ وجماعة ‏{‏الذى جَاء بالصدق‏}‏ هو الرسول صلى الله عليه وسلم والذي صدق به هو أبو بكر رضي الله تعالى عنه‏.‏ وأخرج ذلك ابن جرير‏.‏ والماوردي في معرفة الصحابة‏.‏ وابن عساكر من طريق أسيد بن صفوان وله صحبة عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقال أبو الأسود‏.‏ ومجاهد في رواية‏.‏ وجماعة من أهل البيت‏.‏

وغيرهم‏:‏ الذي صدق به هو علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وأخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن السدى أنه قال‏:‏ ‏{‏الذى جَاء بالصدق‏}‏ جبريل عليه السلام ‏{‏وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ هو النبي صلى الله عليه وسلم، قيل‏:‏ وعلى الأقوال الثلاثة يقتضي اضمار الذي وهو غير جائز على الأصح عند النحاة من أنه لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته مطلقاً أي سواء عطف على موصول آخر أم لا‏.‏

ويضعفه أيضاً الأخبار عنه بالجمع‏.‏ وأجيب بأنه لا ضرورة إلى الاضمار ويراد بالذي الرسول صلى الله عليه وسلم والصديق أو علي كرم الله تعالى وجههما معاً على أن الصلة للتوزيع، أو يراد بالذي جبريل عليه السلام والرسول صلى الله عليه وسلم معاً كذلك، وضمير الجمع قد يرجع إلى الاثنين وقد أريدا بالذي، ولا يخفى ما ذلك من التكلف والله تعالى أعلم بحال الأخبار، ولعل ذكر أبي بكر مثلا على تقدير الصحة من الاقتصار على بعض أفراد العام لنكتة وهي في أبي بكر رضي الله تعالى عنه كونه أول من آمن وصدق من الرجال، وفي علي كرم الله تعالى وجهه كونه أول من آمن وصدق من الصبيان، ويقال نحو ذلك على تقدير صحة خبر السدى ولا يكاد يصح لقوله تعالى‏:‏ فيما بعد ‏{‏لِيُكَفّرَ‏}‏ الخ، وبما ذكر يجمع بين الأخبار إن صحت ولا يعتبر في شيء منها الحصر فتدبر‏.‏ وقرأ أبو صالح‏.‏ وعكرمة بن سليمان ‏{‏وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ مخففاً أي وصدق به الناس ولم يكذبهم به يعني أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف فالمفعول محذوف لأن الكلام في القائم به الصدق وفي الحديث الصدق، والكلام على العموم دون خصوصه عليه الصلاة والسلام فإن جملة القرآن حفظه الصحابة عنه عليه الصلاة والسلام وأدوه كما أنزل، وقيل‏:‏ المعنى وصار صادقاً به أي بسببه لأن القرآن معجز والمعجز يدل على صدق النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى هذا فالوصف خاص، وقد تجوز في ذلك باستعمال ‏{‏صَدَقَ‏}‏ بمعنى صار صادقاً به ولا كناية فيه كما قيل؛ وقال أبو صالح‏:‏ أي وعمل به وهو كما ترى‏.‏ وقرىء ‏{‏وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ مبنياً للمفعول مشدداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُمْ مَّا يَشَآءونَ عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ بيان لما لأولئك الموصوفين بالمجيء بالصدق والتصديق به في الآخرة من حسن المآب بعد بيان ما لهم في الدنيا من حسن الأعمال أي لهم كل ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار في الآخرة لا في الجنة فقط لما أن بعض ما يشاؤونه من تكفير السيئات والامن من الفزع الأكبر وسائر أهوال القيامة إنما يقع قبل دخول الجنة ‏{‏ذلك‏}‏ الذي ذكر من حصول كل ما يشاؤونه ‏{‏جَزَاء المحسنين‏}‏ أي الذي أحسنوا أعمالهم، والمراد بهم أولئك المحدث عنهم لكن أقيم الظاهر مقام الضمير تنبيهاً على العلة لحصول الجزاء، وقيل‏:‏ المراد ما يعمهم وغيرهم ويدخلون دخولاً أولياً

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏لِيُكَفّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذى عَمِلُواْ‏}‏ الخ متعلق بمحذوف أي ليكفر الله عنهم ويجزيهم خصهم سبحانه بما خص أو بما قبله باعتبار فحواه على ما قيل أي وعدهم الله جميع ما يشاؤونه من زوال المضار وحصول المسار ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا الخ، وليس ببعيد معنى عن الأول، وجوز أن يكون متعلقاً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وذلك جَزَاء المحسنين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 34‏]‏ أي بما يدل عليه من الثبوت أو بالمحسنين كما قال أبو حيان فكأنه قيل‏:‏ وذلك جزاء الذين أحسنوا أعمالهم ليكفر الله تعالى عنهم أسوأ الذي عملوه ‏{‏وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ‏}‏ ويعطيهم ثوابهم ‏{‏بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ وتقديم التكفير على إعطاء الثواب لأن درء المضار أهم من جلب المسار‏.‏

وأقيم الاسم الجليل مقام الضمير الراجع إلى ‏{‏رَّبُّهُمْ‏}‏ لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام، وإضافة ‏{‏أَسْوَأَ وَأَحْسَنُ‏}‏ إلى ما بعدهما من إضافة افعل التفضيل إلى غير المفضل عليه للبيان والتوضيح كما في الأشج أعدل بني مروان ويوسف أحسن أخوته، والتفضيل على ما قال الزمخشري للدلالة على أن الزلة المكفرة عندهم هي الأسوأ لاستعظامهم المعصية مطلقاً لشدة خوفهم، والحسن الذي يعملونه عند الله تعالى هو الأحسن لحسن إخلاصهم فيه‏.‏

وذلك على ما قرر في الكشف لأن التفضيل هنا من باب الزيادة المطلقة من غير نظر إلى مفضل عليه نظراً إلى وصوله إلى أقصر الغاية الكمالية، ثم لما كانوا متقين كاملي التقي لم يكن في عملهم أسوأ إلا فرضاً وتقديراً‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِأَحْسَنِ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ دون أحسن الذي كانوا يعملون يدل على أن حسنهم عند الله تعالى من الأحسن لدلالته على أن جميع أجرهم يجري على ذلك الوجه فلو لم يعملوا إلا الأحسن كان التفصيل بحسب الأمر نفسه ولو كان في العمل الأحسن والحسن وكان الجزاء بالأحسن بأن ينظر إلى أحسن الأعمال فيجري الباقي في الجزاء على قياسه دل أن الحسن عند المجازي كالأحسن، فصح على التقديرين أن حسنهم عند الله تعالى هو الأحسن، ويعلم من هذا أن لا اعتزال فيما ذكره الزمخشري كما توهمه أبو حيان، وأما قوله في الاعتراض عليه‏:‏ إنه قد استعمل ‏{‏أَسْوَأَ‏}‏ في التفضيل على معتقدهم و‏{‏حُسْنُ‏}‏ في التفضيل على ما هو عند الله عز وجل وذلك توزيع في أفعل التفضيل وهو خلاف الظاهر‏.‏ فقد يسلم إذا لم يكن في الكلام ما يؤذن بالمغايرة فحيث كان فيه ههنا ذلك على ما قرر لا يسلم أن التوزيع خلاف الظاهر، وقيل‏:‏ إن ‏{‏أَسْوَأَ‏}‏ على ما هو الشائع في أفعل التفضيل، وليس المراد أن لهم عملاً سيئاً وعملاً أسوأ والمكفر هو الأسوأ فإنهم المتقون الذين وإن كانت لهم سيئات لا تكون سيئاتهم من الكبائر العظيمة، ولا يناسب التعرض لها في مقام مدحهم بل الكلام كناية عن تكفير جميع سيئاتهم بطريق برهاني، فإن الأسوأ إذا كفر كان غيره أولى بالتكفير لا أن ذلك صدر منهم، ولا نسلم وجوب تحقق المعنى الحقيقي في الكناية وهو كما ترى، وقال غير واحد‏:‏ أفعل على ما هو الشائع والأسوأ الكفر السابق على التقوى والإحسان، والمراد تكفير جميع ما سلف منهم قبل الإيمان من المعاصي بطريق برهاني‏.‏

وعلى هذا لا يتسنى تفسير ‏{‏وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏ بعلي كرم الله تعالى وجهه إذ لم يسبق له كفر أصلي ولا يكاد يعبر عن الكفر التبعي بأسوأ العمل، وقيل‏:‏ أفعل ليس للتفضيل أصلاً فأسوأ بمعنى السيء صغيراً كان أو كبيراً كما هو وجه أيضاً في الأشج أعدل بني مروان، وأيد بقراءة ابن مقسم‏.‏ وحامد بن يحيى عن ابن كثير رواية عن البزي عنه ‏{‏أسواء‏}‏ بوزن أفعال جمع سوء، وأحسن عند أكثر أهل هذه الأقوال على بابه على معنى أنه تعالى ينظر إلى أحسن طاعاتهم فيجري سبحانه الباقي في الجزاء على قياسه لطفاً وكرماً، وزعم الطبرسي أن الأحسن الواجب والمندوب والحسن المباح والجزاء إنما هو على الأولين دون المباح، وقيل‏:‏ المراد يجزيهم بأحسن من عملهم وهو الجنة، وفيه ما فيه، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني دون الأول للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة بخلاف السيئة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْمَلُونَ أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ انكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه كأن الكفاية من التحقق والظهور بحيث لا يقدر أحد على أن يتفوه بعدمها أو يتلعثم في الجواب بوجودها، والمراد بعبده إما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما روي عن السدى وأيد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُخَوّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ‏}‏ أي الأوثان التي اتخذوها آلهة؛ فإن الخطاب سواء كانت الجملة استئنافاً أو حالاً له صلى الله عليه وسلم‏:‏ وقد روي أن قريشاً قالت له عليه الصلاة والسلام‏:‏ انا نخاف أن تخبلك آلهتنا وتصيبك معرتها لعيبك إياها فنزلت، وفي رواية قالوا‏:‏ لتكفن عن شتم آلهتنا أو ليصيبنك منها خبل فنزلت، أو الجنس المنتظم له عليه الصلاة والسلام انتظاماً أولياً، وأيد بقراءة أبي جعفر‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وطلحة والأعمش‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏عِبَادِهِ‏}‏ بالجمع وفسر بالأنبياء عليهم السلام والمؤمنين، وعلى الأول يراد أيضاً الأتباع كما سمعت في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذى جَاء بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 33‏]‏ ‏{‏وَيُخَوّفُونَكَ‏}‏ شامل لهم أيضاً على ما سلف والتئام الكلام بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 32‏]‏ إلى هذا المقام لدلالته على أنه تعالى يكفي نبيه صلى الله عليه وسلم منهم دينه ودنياه ويكفي أتباعه المؤمنين أيضاً المهمين وفيه أنه سبحانه يكفيهم شر الكافرين من وجهين من طريق المقابلة ومن انه داخل في كفاية مهمى الرسول عليه الصلاة والسلام وأتباعه، وهذا ما تقتضيه البلاغة القرآنية ويلائم ما بني عليه السورة الكريمة من ذكر الفريقين وأحوالهما توكيداً لما أمر به أولاً من العبادة والإخلاص‏.‏ وقرىء ‏{‏مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ بالإضافة و‏{‏مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ مضارع كافي ونصب ‏{‏عِبَادِهِ‏}‏ فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية كقولك‏:‏ يجاري في يجري وهو أبلغ من كفى لبنائه على لفظ المبالغة وهو الظاهر لكثرة تردد هذا المعنى في القرآن نحو ‏{‏فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 137‏]‏ ويحتمل أن يكون مهموزاً من المكافأة وهي المجازاة، ووجه الارتباط أنه تعالى لما ذكر حال من كذب على الله وكذب بالصدق وجزاء، وحال مقابله أعني الذي جاء بالصدق وصدق به وجزاءه وعرض بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ جَزَاء المحسنين‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 34‏]‏ بأن ما سلف جزاء الكافرين المسيئين لما هو معروف من فائدة البناء على اسم الإشارة ثم عقبه تعالى بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لِيُكَفّرَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 35‏]‏ الخ على معنى ليكفر عنهم ويجزيهم خصهم بما خص فنبه على المقابل أيضاً من ضرورة الاختصاص والتعليل، وفيه أيضاً ما يدل على حكم المقابل على اعتبار المتعلق غير ما ذكر كما يظهر بأدنى التفات أردف بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ‏}‏ وحيث أن مطمح النظر من العباد السيد الحبيب صلى الله عليه وسلم كان المعنى الله تعالى يجازي عبده ونبيه عليه الصلاة والسلام هذا الجزاء المذكور وفيه أنه الذي يجزيه البتة ويلائمه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُخَوّفُونَكَ‏}‏ فإنه لما كان في مقابلة ذم آلهتهم كما سمعت في سبب النزول كان تحذيراً من جزاء الآلهة فلا مغمز بعدم الملاءمة‏.‏ نعم لا ننكر أن معنى الكفاية أبلغ كما هو مقتضى القراءة المشهورة فاعلم ذاك والله تعالى يتولى هداك‏.‏

‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله‏}‏ حتى غفل عن كفايته تعالى عبده وخوف بما لا ينفع ولا يضر أصلاً ‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏ يهديه إلى خير ما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَهْدِ الله‏}‏ فيجعل كونه تعالى كافياً نصيب عينه عاملاً بمقتضاه ‏{‏فَمَا لَهُ مِن مُّضِلّ‏}‏ يصرفه عن مقصده أو يصيبه بسوء يخل بسلوكه إذ لا راد لفعله ولا معارض لإرادته عز وجل كما ينطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ‏}‏ غالب لا يغالب منيع لا يمانع ولا ينازع ‏{‏ذِى انتقام‏}‏ ينتقم من أعدائه لأوليائه، وإظهار الاسم الجليل في موضع الاضمار لتحقيق مضمون الكلام وتربية المهابة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ لظهور الدليل ووضوح السبيل فقد تقرر في العقول وجوب انتهاء الممكنات إلى واجب الوجود، والاسم الجليل فاعل لفعل محذوف أي خلقهن الله ‏{‏قُلْ‏}‏ تبكيتاً لهم ‏{‏أَفَرَايْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ‏}‏ أي إذا كان خالق العالم العلوي والسفلي هو الله عز وجل كما أقررتم فأخبروني أن آلهتكم ان أرادني الله سبحانه بضر هل هن يكشفن عني ذلك الضر، فالفاء واقعة في جواب شرط مقدر؛ وقال بعضهم‏:‏ التقدير إذا لم يكن خالق سواه تعالى فهل يمكن غيره كشف ما أراد من الضر، وجوز أن تكون عاطفة على مقدر أي أتفكرتم بعد ما أقررتم فرأيتم ما تدعون الخ‏.‏ ‏{‏أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ‏}‏ أي أو أن أرادني بنفع ‏{‏هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ‏}‏ فيمنعها سبحانه عني‏.‏ وقرأ الأعرج‏.‏ وشيبة‏.‏ وعمرو بن عبيد‏.‏ وعيسى بخلاف عنه‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وأبو بكر ‏{‏كاشفات‏}‏ بالتنوين فيهما ونصب ما بعدهما وتعليق إرادة الضر والرحمة بنفسه التفيسة عليه الصلاة والسلام للرد في نحورهم حيث كانوا خوفوه معرة الأوثان ولما فيه من الإيذان بامحاض النصحية، وقدم الضر لأن دفعه أهم، وقيل‏:‏ ‏{‏كاشفات‏}‏ على ما يصفونها به من الأنوثة تنبيهاً على كمال ضعفها ‏{‏رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِىَ الله‏}‏ كافي جل شأنه في جميع أموري من إصابة الخير ودفع الشر‏.‏ روي عن مقاتل أنه صلى الله عليه وسلم لما سألهم سكتوا فنزل ذلك‏.‏

‏{‏عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ‏}‏ لا على غيره في كل شيء ‏{‏المتوكلون‏}‏ لعلمهم أن كل ما سواه تحت ملكوته تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ياأهل قَوْمٌ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ‏}‏ على حالتكم التي أنتم عليها من العداوة التي تمكنتهم فيها فإن المكانة نقلت من المكان المحسوس إلى الحالة التي عليها الشخص واستعيرت لها استعارة محسوس لمعقول، وهذا كما تستعار حيث وهنا للزمان بجامع الشمول والإحاطة، وجوز أن يكون المعنى اعملوا على حسب تمكنكم واستطاعتكم‏.‏

وروي عن عاصم ‏{‏مكاناتكم‏}‏ بالجمع والأمر للتهديد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَكَانَتِكُمْ إِنّى عامل‏}‏ وعيد لهم واطلاقه لزيادة الوعيد لأنه لو قيل‏:‏ على مكانتي لتراءى أنه عليه الصلاة والسلام على حالة واحدة لا تتغير ولا تزداد فلما أطلق أشعر بأنه له صلى الله عليه وسلم كل زمان مكانة أخرى وأنه لا يزال يزداد قوة بنصر الله تعالى وتأييده ويؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ فإنه دال على أنه صلى الله عليه وسلم منصور عليهم في الدنيا والآخرة بدليل قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ‏}‏ فإن الأول اشارة إلى العذاب الدنيوي وقد نالهم يوم بدر والثاني إشارة إلى العذاب الأخروي فإن العذاب المقيم عذاب النار فلو قيل إني عامل على مكانتي وكان إذ ذاك غير غالب بل الأمر بالعكس لم يلائم المقصود، و‏{‏مِنْ‏}‏ تحتمل الاستفهامية والموصولية وجملة ‏{‏يُخْزِيهِ‏}‏ صفة ‏{‏عَذَابِ‏}‏ والمراد بمقيم دائم وفي الكلام مجاز في الظرف أو الإسناد وأصله مقيم فيه صاحبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب لِلنَّاسِ‏}‏ لأجلهم فإنه مناط مصالحهم في المعاش والمعاد ‏{‏بالحق‏}‏ حال من مفعول ‏{‏أَنزَلْنَا‏}‏ أو من فاعله أي أنزلنا الكتاب ملتبساً أو ملتبسين بالحق ‏{‏فَمَنُ اهتدى‏}‏ بأن عمل بما فيه ‏{‏فَلِنَفْسِهِ‏}‏ إذ نفع به نفسه ‏{‏وَمَن ضَلَّ‏}‏ بأن لم يعمل بموجبه ‏{‏فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ لما أن وبال ضلاله مقصور عليها ‏{‏وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ‏}‏ لتجبرهم على الهدى وما وظيفتك إلا البلاغ وقد بلغت أي بلاغ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏الله يَتَوَفَّى الانفس‏}‏ أي يقبضها عن الإبدان بأن يقطع تعلقها تعلق التصرف فيها عنها ‏{‏حِينَ مِوْتِهَا‏}‏ أي في وقت موتها ‏{‏والتى لَمْ تَمُتْ‏}‏ أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت ‏{‏فِى مَنَامِهَا‏}‏ متعلق بيتوفى أي يتوفاها في وقت نومها على أن مناما اسم زمان، وجوز فيه كونه مصدراً ميمياً بأن يقطع سبحانه تعلقها بالأبدان تعلق التصرف فيها عنها أيضاً فتوفى الأنفس حين الموت وتوفيها في وقت النوم بمعنى قبضها عن الأبدان وقطع تعلقها بها تعلق التصرف إلا أن توفيها حين الموت قطع لتعلقها بها تعلق التصرف ظاهراً وباطناً وتوفيها في وقت النوم قطع لذلك ظاهراً فقط، وكأن التوفي الذي يكون عند الموت لكونه شيئاً واحداً في أول زمان الموت وبعد مضي أيام منه قيل‏:‏ ‏{‏حِينَ مِوْتِهَا‏}‏ والتوفي الذي يكون في وقت النوم لكونه يتفاوت في أول وقت النوم وبعد مضي زمان منه قوة وضعفاً قيل‏:‏ ‏{‏فِى مَنَامِهَا‏}‏ أي في وقت نومها كذا قيل فتدبره ولمسلك الذهن السليم اتساع، وإسناد الموت والنوم إلى الأنفس قيل‏:‏ مجاز عقلي لأنهما حالا ابدانها لا حالاها، وزعم الطبرسي أن الكلام على حذف مضاف أعني الأبدان، وجعل الزمخشري الأنفس عبارة عن الجملة دون ما يقابل الأبدان، وحمل توفيها على إماتتها وسلب صحة أجزائها بالكلية فلا تبقى حية حساسة داركة حتى كأن ذاتها قد سلبت، وحيث لم يتحقق هذا المعنى في التوفي حين النوم لأن ليس إلا سلب كمال الصحة وما يترتب عليه من الحركات الاختيارية وغيرها قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا‏}‏ أي يتوفاها حين تنام تشبيهاً للنائمين بالموتى، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الذى يتوفاكم باليل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 60‏]‏ حيث لا تميزون ولا تتصرفون كما أن الموتى كذلك، وما يتخايل فيه من الجمع بين الحقيقة والمجاز يدفع بالتأمل؛ وتقديم الاسم الجليل وبناء ‏{‏يَتَوَفَّى‏}‏ عليه للحصر أو للتقوى أو لهما، واعتبار الحصر أوفق بالمقام من اعتبار التقوى وحده أي الله يتوفى الأنفس حقيقة لا غيره عز وجل ‏{‏فَيُمْسِكُ التى‏}‏ أي الأنفس التي ‏{‏قَضَى‏}‏ في الأزل ‏{‏عَلَيْهَا الموت‏}‏ ولا يردها إلى أبدانها بل يبقيها على ما كانت عليه وينضم إلى ذلك قطع تعلق التصرف باطناً، وعبر عن ذلك بالإمساك ليناسب التوفي‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وعيسى‏.‏ وطلحة‏.‏ والأعمش‏.‏ وابن وثاب ‏{‏قَضَى‏}‏ على البناء للمفعول ورفع ‏{‏الموت‏}‏‏.‏

‏{‏وَيُرْسِلُ الاخرى‏}‏ أي الأنفس الأخرى وهي النائمة إلى أبدانها فتكون كما كانت حال اليقظة متعلقة بها تعلق التصرف ظاهراً وباطناً، وعبر بالإرسال رعاية للتقابل ‏{‏إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ هو الوقت المضروب للموت حقيقة وهو غاية لجنس الارسال الواقع بعد الإمساك لا لفرد منه فإني آتي لا امتداد له فلا يغيا، واعتبر بعضهم كون الغاية للجنس لئلا يرد لزوم أن لا يقع نوم بعد اليقظة الأولى أصلاً وهو حسن، وقيل‏:‏ ‏{‏يُرْسِلُ‏}‏ مضمن معنى الحفظ والمراد يرسل الأخرى حافظاً إياها عن الموت الحقيقي إلى أجل مسمى، وروي عن ابن عباس أن في ابن آدم نفساً وروحاً بينهما مثل شعاع الشمس فالنفس هي التي بها العقل والتمييز والورح هي التي بها النفس والتحرك فيتوفيان عند الموت وتتوفى النفس وحدها عند النوم، وهو قول بالفرق بين النفس والروح، ونسبه بعضهم إلى الأكثرين ويعبر عن النفس بالنفس الناطقة وبالورح الامرية وبالروح الالهية، وعن الروح بالروح الحيوانية وكذا بالنفس الحيوانية، والثانية كالعرش للأولى، قال بعض الحكماء المتألهين‏:‏ إن القلب الصنوبري فيه بخار لطيف هو عرش للروح الحيوانية وحافظ لها وآلة يتوقف عليها آثارها، والروح الحيوانية عرش ومرآة للروح الإلهية التي هي النفس الناطقة وواسطة بينها وبين البدن بها يصل حكم تدبير النفس إليه، وإلى عدم التغاير ذهب جماعة، وهو قول ابن جبير واحد قولين لابن عباس، وما روي عنه أولاً في الآية يوافق ما ذكرناه من حيث أن النفس عليه ليست بمعنى الجملة كما قال الزمخشري وادعى أن الصحيح ما ذكره دون هذا المروى بدليل موتها ومنامها، والضمير للأنفس وما أريد منها غير متصف بالموت والنوم وإنما الجملة هي التي تتصف بهما‏.‏

وقال في الكشف‏.‏ ولأن الفرق بين النفسين رأى يدفعه البرهان، وإيقاع الاستيفاء أيضاً لا بد له من تأويل أيضاً فلا ينبغي أن يعدل عن المشهور الملائم يعني حمل التوفي على الاماتة فإن أصله أخذ الشيء من المستوفي منه وافياً كملا وسلبه منه بالكلية ثم نقل عن ذلك إلا الإماتة لما أنه موجود فيها حتى صارت المتبادرة إلى الفهم منه‏.‏، وفيه دغدغة، والذي يشهد له كثير من الآثار الصحيحة أن المتوفى الأنفس التي تقابل الإبدان دون الجملة‏.‏

أخرج الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخلة إزاره فإنه لا يدري ما خلفه عليه ثم ليقل اللهم باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به الصالحين من عبادك، وأخرج أحمد‏.‏ والبخاري‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن أبي شيبة عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ليلة الوادي‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى قبض أرواحكم حين شاء وردها عليكم حين شاء ‏"‏ وأخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك قال‏:‏ «كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فقال‏:‏ من يكلؤنا الليلة‏؟‏ فقلت‏:‏ أنا فنام ونام الناس ونمت فلم نستيقظ إلا بحر الشمس فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام‏:‏ أيها الناس إن هذه الأرواح عارية في أجساد العباد فيقبضها الله إذا شاء ويرسلها إذا شاء»‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن سليم بن عامر أن عمر بن الخطاب قال‏:‏ العجب من رؤيا الرجل أنه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال فتكون رؤياه كأخذ باليد ويرى الرجل الرؤيا فلا تكون رؤياه شيئاً فقال علي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين‏؟‏ يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يَتَوَفَّى الانفس حِينَ مِوْتِهَا والتى لَمْ تَمُتْ فِى مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التى قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الاخرى إلى أَجَلٍ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 24‏]‏ فالله تعالى يتوفى الأنفس كلها فما رأت وهي عنده سبحانه في السماء فهي الرؤيا الصادقة وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها فهي الكاذبة لأنها إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها فعجب عمر من قوله رضي الله تعالى عنهما؛ وظاهر هذا الأثر أن النفس النائمة المقبوضة تكون في السماء حتى ترسل، ومثل ذلك مما يجب تأويله على القول بتجرد النفس ولا يجب على القول الآخر‏.‏ نعم لعلك تختاره وكأنك تقول‏:‏ إن النفس شريفة علوية هبطت من المحل الأرفع وأرسلت من حمى ممنع وشغلت بتدبير منزلها في نهارها وليلها ولم تزل تنتظر فرصة العود إلى ذياك الحمى والمحل الرفيع الأسمى وعند النوم تنتهز تلك الفرصة وتهون عليها في الجملة هاتيك الغصة فيحصل لها نوع توجه إلى عالم النور ومعلم السرور الخالي من الشرور بحيث تستعد استعداداً ما لقبول بعض آثاره والاستضاءة بشيء من أنواره وجعلها كذلك هو قبضها وبه لعمري بسطها وقبضها، فمتى رأت وهي في تلك الحال مستفيضة من ذلك العالم الموصوف بالكمال رؤيا كانت صادقة، ومتى رأت وهي راجعة القهقرى إلى ما ابتليت به من تدبير منزل تحوم فيه شياطين الأوهام وتزدحم فيه أي ازدحام كانت رؤياها كاذبة ثم إنها في كلا الحالين متفاوتة الأفراد فيما يكون من الاستعداد، والوقوف على حقيقة الحال لا يتم إلا بالكشف دون القيل والقال ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ الإشارة إلى ما ذكر من التوفي والإمساك والإرسال، والإفراد لتأويله بالمذكور أو نحوه، وصيغة البعيد باعتبار مبدئه أو تقضي ذكره أو بعد منزلته، والتنوين في ‏{‏ءايات‏}‏ للتكثير والتعظيم أي أن فيما ذكر الآيات كثيرة عظيمة دالة على كمال قدرته تعالى وحكمته وشمول رحمته سبحانه لقوم يتفكرون في كيفية تعلق الأنفس بالأبدان وتوفيها عنها تارة بالكلية عند الموت وإمساكها باقية لا تفنى بفنائها إلى أن يعيد الله تعالى الخلق وما يعتريها من السعادة والشقاوة وأخرى عن ظواهرها فقط كما عند النوم وإرسالها حيناً بعد حين إلى انقضاء آجالها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏أَمِ اتخذوا‏}‏ أي بل اتخذ قريش فأم منقطعة والاستفهام المقدر لإنكار اتخاذهم ‏{‏مِن دُونِ الله شُفَعَاء‏}‏ تشفع لهم عند الله تعالى في رفع العذاب، وقيل‏:‏ في أمورهم الدنيوية والأخروية، وجوز كونها متصلة بتقدير معادل كما ذكره ابن الشيخ في حواشي البيضاوي وهو تكلف لا حاجة إليه، ومعنى ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ من دون رضاه أو إذنه لأنه سبحانه لا يشفع عنده إلا من أذن له ممن أرضاه ومثل هذه الجمادات الخسيسة ليست مرضية ولا مأذونة ولو لم يلاحظ هذا اقتضى أن الله تعالى شفيع ولا يطلق ذلك عليه سبحانه أو التقدير أو اتخذوا آلهة سواه تعالى لتشفع لهم وهو يؤل لما ذكر ‏{‏قُلْ أَوَلَوْ كَانُواْ لاَ يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أي أيشفعون حال تقدير عدم ملكهم شيئاً من الأشياء وعدم وعقلهم إياه، وحاصله أيشفعون وهم جمادات لا تقدر ولا تعلم فالهمزة داخلة على محذوف والواو للحال والجملة حال من فاعل الفعل المحذوف‏.‏ وذهب بعضهم إلى أنها للعطف على شرطية قد حذفت لدلالة ‏{‏لَّوْ كَانُواْ لاَّ يَمْلِكُونَ‏}‏ الخ عليها أي أيشفعون لو كانوا يملكون شيئاً ويعقلون ولو كانوا لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، والمعنى على الحالية أيضً كأنه قيل‏:‏ أيشفعون على كل حال، وقال بعض المحققين من النحاة‏:‏ إنها اعتراضية ويعني بالجملة الاعتراضية ما يتوسط بين أجزاء الكلام متعلقاً به معنى مستأنفاً لفظاً على طريق الالتفات كقوله‏:‏ فأنت طلاق والطلاق ألية *** وقوله‏:‏

ترى كل من فيها وحاشاك فانيا *** وقد تجىء بعد تمام الكلام كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وفي احتياج أداة الشرط في مثل هذا التركيب إلى الجواب خلاف وعلى القول بالاحتياج هو محذوف لدلالة ما قبل عليه وتحقيق الأقوال في كتب العربية‏.‏

وجوز أن يكون مدخول الهمزة المحذوف هنا الاتخاذ أي قل لهم أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئاً من الأشياء فضلاً عن أن يملكوا الشفاعة عند الله تعالى ولا يعقلون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لِلَّهِ الشفاعة جَمِيعاً‏}‏ لعله كما قال الإمام رد لما يجيبون به وهوان الشفعاء ليست الأصنام أنفسها بل أشخاص مقربون هي تماثيلهم، والمعنى أنه تعالى مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة ما إلا أن يكون المشفوع مرتضى والشفيع مأذوناً له وكلاهما مفقودان ههنا، وقد يستدل بهذه الآية على وجود الشفاعة في الجملة يوم القيامة لأن الملك أو الاختصاص الذي هو مفاد اللام هنا يقتضي الوجود فالاستدلال بها على نفي الشفاعة مطلقاً في غاية الضعف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهُ مُلْكُ السموات والارض‏}‏ استئناف تعليلي لكون الشفاعة جميعاً له عز وجل كأنه قيل‏:‏ له ذلك لأنه جل وعلا مالك الملك كله فلا يتصرف أحد بشيء منه بدون إذنه ورضاه فالسماوات والأرض كناية عن كل ما سواه سبحانه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّهُ مُلْكُ‏}‏ الخ وكأنه تنصيص على مالكية الآخرة التي فيها معظم نفع الشفاعة وإيماء إلى انقطاع الملك الصوري عما سواه عز وجل‏.‏

وجوز أن يكون عطفاً على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّهِ الشفاعة‏}‏ وجعله في «البحر» تهديداً لهم كأنه قيل‏:‏ ثم إليه ترجعون فتعلمون أنهم لا يشفعون لكم ويخيب سعيكم في عبادتهم، وتقديم ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ للفاصلة وللدلالة على الحصر إذ المعنى إليه تعالى لا إلى أحد غيره سبحانه لا استقلالاً ولا اشتراكاً ترجعون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ‏}‏ أي مفرداً بالذكر ولم تذكر معه آلهتهم، وقيل‏:‏ أي إذا قيل لا إله إلا الله ‏{‏اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ أي انقبضت ونفرت كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولو على أدربارهم نفوراً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 46‏]‏ ‏{‏وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ‏}‏ فرادى أو مع ذكر الله عز وجل ‏{‏إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ لفرط افتتانهم بهم ونسيانهم حق الله تعالى، وقد بولغ في بيان حالهم القبيحة حيث بين الغاية فيهما فإن الاستبشار أن يمتلىء القلب سروراً حتى ينبسط له بشرة الوجه، والاشمئزاز أن يمتلىء غيظاً وغماً ينقبض عنه أديم الوجه كما يشاهد في وجه العابس المحزون، و‏{‏إِذَا‏}‏ الأولى‏:‏ شرطية محلها النصب على الظرفية وعاملها الجواب عند الأكثرين وهو ‏{‏اشمأزت‏}‏ أو الفعل الذي يليها وهو ‏{‏ذُكِرَ‏}‏ عند أبي حيان وجماعة، وليست مضافة إلى الجملة التي تليها عندهم، وكذا ‏{‏إِذَا‏}‏ الثانية‏:‏ فالعامل فيها إما ‏{‏ذُكِرَ‏}‏ بعدها وإما ‏{‏يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ و‏{‏إِذَا‏}‏ الثالثة‏:‏ فجائية رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط كالفاء، فعلى القول بحرفيتها لا يعمل فيها شيء وعلى القول باسميتها وأنها ظرف زمان أو مكان عاملها هنا خبر المبتدأ بعدها، وقال الزمخشري‏:‏ عاملها فعل مقدر مشتق من لفظ المفاجأة تقديره فاجاؤا وقت الاستبشار فهي مفعول به، وجوز أن تكون فاعلاً على معنى فاجأهم وقت الاستبشار، وهذا الفعل المقدر هو جواب إذا الثانية فتتعلق به بناءً على قول الأكثرين من أن العامل في إذا جوابها، ولا يلزم تعلق ظرفين بعامل واحد لأن الثاني منهما ليس منصوباً على الظرفية‏.‏

نعم قيل على الزمخشري‏:‏ إنه لا سلف له فيما ذهب إليه، وأنت تعلم أن الرجل في العربية لا يقلد غيره، ومن العجيب قول الحوفي إن ‏{‏إِذَا‏}‏ الثالثة ظرفية جىء بها تكراراً لإذا قبلها وتوكيداً وقد حذف شرطها والتقدير إذا كان ذلك هم يستبشرون، ولا ينبغي أن يلتفت إليه أصلاً، والآية في شأن المشركين مطلقاً‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس أنه فسر ‏{‏الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ بأبي جهل بن هشام‏.‏ والوليد بن عقبة‏.‏ وصفوان‏.‏ وأبي بن خلف، وفسر ‏{‏الذين مِن دُونِهِ‏}‏ باللات والعزى وكأن ذلك تنصيص على بعض أفراد العام‏.‏ وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن مجاهد أن الآية حكت ما كان من المشركين يوم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏والنجم‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 1‏]‏ عند باب الكعبة‏:‏ وهذا أيضاً لا ينافي العموم كما لا يخفى، وقد رأينا كثيراً من الناس على نحو هذه الصفة التي وصف الله تعالى بها المشركين يهشون لذكر أموات يستغيثون بهم ويطلبون منهم ويطربون من سماع حكايات كاذبة عنهم توافق هواهم واعتقادهم فيهم ويعظمون من يحكي لهم ذلك وينقبضون من ذكر الله تعالى وحده ونسبة الاستقلال بالتصرف إليه عز وجل وسرد ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وينفرون ممن يفعل ذلك كل النفرة وينسبونه إلى ما يكره، وقد قلت يوماً لرجل يستغيث في شدة ببعض الأموات وينادي يا فلان أغثني فقلت له‏:‏ قل يا ألله فقد قال سبحانه‏:‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 186‏]‏ فغضب وبلغني أنه قال‏:‏ فلان منكر على الأولياء، وسمعت عن بعضهم أنه قال‏:‏ الولي أسرع إجابة من الله عز وجل وهذا من الكفر بمكان نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزيغ والطغيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ اللهم فَاطِرَ السموات والارض *عَالِمَ الغيب والشهادة أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِى مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ أمر بالدعاء والالتجاء إلى الله تعالى لما قاساه في أمر دعوتهم وناله من شدة شكيمتهم في المكابرة والعناد فإنه تعالى القادر على الأشياء بجملتها والعالم بالأحوال برمتها، والمقصود من الأمر بذلك بيان حالهم ووعيدهم وتسلية حبيبه الأكرم صلى الله عليه وسلم وأن جده وسعيه معلوم مشكور عنده عز وجل وتعليم العباد الالتجاء إلى الله تعالى والدعاء بأسمائه العظمى، ولله تعالى در الربيع بن خيثم فإنه لما سئل عن قتل الحسين رضي الله تعالى عنه تأوه وتلا هذه الآية، فإذا ذكر لك شيء مما جرى بين الصحابة قل‏:‏ ‏{‏اللهم فَاطِرَ السموات‏}‏ الخ فإنه من الآداب التي ينبغي أن تحفظ، وتقديم المسند إليه في ‏{‏أَنتَ تَحْكُمُ‏}‏ للحصر أي أنت تحكم وحدك بين العباد فيما استمر اختلافهم فيه حكماً يسلمه كل مكابر معاند ويخضع له كل عات مارد وهو العذاب الدنيوي أو الأخروي، والمقصود من الحكم بين العباد الحكم بينه عليه الصلاة والسلام وبين هؤلاء الكفرة‏.‏