فصل: الجزء السابع عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


‏{‏قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ أي تذكراً قليلاً تتذكرون‏.‏ وقرأ الجمهور‏.‏ والأعرج‏.‏ والحسن‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة بياء الغيبة والضمير للناس أو الكفار، قال الزمخشري‏:‏ والتاء أعم، وعلله «صاحب التقريب» بأن فيه تغليب الخطاب على الغيبة، وقال القاضي‏:‏ إن التاء للتغليب أو الالتفات أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة أي بتقدير قل قبله، وآثر العلامة الطيبي الالتفات لأن العدول من الغيبة إلى الخطاب في مقام التوبيخ يدل على العنف الشديد والإنكار البليغ، فهذه الآية متصلة بخلق السماوات وهو كلام مع المجادلين‏.‏ وتعقبه «صاحب الكشف» بأنه يجوز أن يجعل ما ذكر نكتة التغليب فيكون أولى لفائدة التعميم أيضاً فليفهم، والظاهر أن التغليب جار على احتمال كون الضمير للناس واحتمال كونه للكفار لأن بعض الناس أو الكفار مخاطب هنا؛ والتقليل أيضاً يصح إجراؤه على ظاهره لأن منهم من يتذكر ويهتدي، وقال الجلبي‏:‏ الضمير إذا كان للناس فالتقليل على معناه الحقيقي والمستثنى هم المؤمنون وإذا كان للكفار فهو بمعنى النفي، ثم الظاهر أن المخاطب من خاطبه صلى الله عليه وسلم من قريش فمن قال‏:‏ المخاطب هو النبي عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصبر‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 55‏]‏ ولا يناسب إدخاله فيمن لم يتذكر فقدسها ولم يتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الساعة لاَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا‏}‏ أي في مجيئها أي لا بد من مجيئها ولا محالة لوضوح الدلالة على جوازها وإجماع الأنبياء على الوعد الصادق بوقوعها‏.‏ ويجوز أن يكون المعنى أنها آتية وأنها ليست محلاً للريب أي لوضوح الدلالة إلى آخر ما مر، والفرق أن متعلق الريب على الأول المجيء وعلى هذا الساعة والحمل عليه أولى‏.‏

‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لا يصدقون بها لقصور نظرهم على ما يدركونه بالحواس الظاهرة واستيلاء الأوهام على عقولهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ أي اعبدوني أثبكم على ما روي عن ابن عباس‏.‏ والضحاك‏.‏ ومجاهد‏.‏ وجماعة‏.‏ وعن الثوري أنه قيل له‏:‏ ادع الله تعالى فقال‏:‏ إن ترك الذنوب هو الدعاء يعني أن الدعاء باللسان ترجمة عن طلب الباطن وأنه إنما يصح لصحة التوجه وترك المخالفة فمن ترك الذنوب فقد سأل الحق بلسان الاستعداد وهو الدعاء الذي يلزمه الإجابة ومن لا يتركها فليس بسائل وإن دعاه سبحانه ألف مرة؛ وما ذكر مؤيد لتفسير الدعاء بالعبادة ومحقق له فإن ترك الذنوب من أجل العبادات وينطبق على ذلك كمال الانطباق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين‏}‏ أي صاغرين أذلاء‏.‏

وجوز أن يكون المعنى اسألوني أعطكم وهو المروى عن السدي فمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى‏}‏ يستكبرون عن دعائي لأن الدعاء نوع من العبادة ومن أفضل أنواعها، بل روى ابن المنذر‏.‏ والحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أفضل العبادة الدعاء وقرأ الآية، والتوعد على الاستكبار عنه لأن ذلك عادة المترفين المسرفين وإنما المؤمن يتضرع إلى الله تعالى في كل تقلباته، وفي إيقاع العبادة صلة الاستكبار ما يؤذن بأن الدعاء باب من أبواب الخضوع لأن العبادة خضوع ولأن المراد بالعبادة الدعاء والاستكبار إنما يكون عن شيء إذا أتى به لم يكن مستكبراً‏.‏

قال في «الكشف»‏:‏ وهذا الوجه أظهر بحسب اللفظ وأنسب إلى السياق لأنه لما جعل المجادلة في آيات الله تعالى من الكبر جعل الدعاء وتسليم آياته من الخضوع لأن الداعي له تعالى الملتجىء إليه عز وجل لا يجادل في آياته بغير سلطان منه البتة، والعطف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ‏}‏ من عطف مجموع قصة على مجموع أخرى لاستئوائهما في الغرض، ولهذا لما تمم هذه القصة أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمْ‏}‏ إلى قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60-68‏]‏ صرح بالغرض في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون فِى ءايات الله‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 69‏]‏ كما بني القصة أولاً على ذلك في قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يجادلون فِى ءايات الله بِغَيْرِ سلطان‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏ ولو تؤمل في هذه السورة الكريمة حق التأمل وجد جل الكلام مبنياً على رد المجادلين في آيات الله المشتملة على التوحيد والبعث وتبيين وجه الرد في ذلك بفنون مختلفة، ثم انظر إلى ما ختم به السورة كيف يطابق ما بدئت من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 4‏]‏ وكيف صرح آخراً بما رمز إليه أولاً لتقضي منه العجب فهذا وجه العطف انتهى‏.‏

وما ذكره من أظهرية هذا الوجه بحسب اللفظ ظاهر جداً لما في الأولى من ارتكاب خلاف الظاهر قبل الحاجة إليه في موضعين في الدعاء حيث تجوز به عن العبادة لتضمنها له أو لأنه عبادة خاصة أريد به المطلق، وفي الاستجابة حيث جعلت الإثابة على العبادة لترتبها عليها استجابة مجازاً أو مشاكلة بخلاف الثاني فإن فيه ارتكاب خلاف الظاهر وهو التجوز في موضع واحد وهو ‏{‏عَنْ عِبَادَتِى‏}‏ ومع هذا هو بعد الحاجة فلم يكن كنزع الخف قبل الوصول إلى الماء بل قيل‏:‏ لا حاجة إلى التجوز فيه لأن الإضافة مراد بها العهد هنا فتفيد ما تقدم، لكن كونه أنسب بالسياق أيضاً مما لا يتم في نظري، وأياً ما كان ‏{‏فأستجب‏}‏ جزم في جواب الأمر أي إن تدعوني أستجب لكم والاستجابة على الوجهين مشروطة بالمشيئة حسبما تقتضيه أصولنا، وقد صرح بذلك في استجابة الدعاء قال سبحانه‏:‏

‏{‏فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 41‏]‏ والاستكبار عن عبادة الله تعالى دعاء كانت أو غيره كفر يترتب عليه ما ذكر في الآية الكريمة‏.‏

وأما ترك ذلك لا عن استكبار فتفصيل الكلام فيه لا يخفى، والمقامات في ترك الدعاء فقيل‏:‏ متفاوتة فقد لا يحسن كما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من لم يدع الله تعالى يغضب عليه» أخرجه أحمد‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ والحاكم عن أبي هريرة مرفوعاً، وقد يحسن كما يدل عليه ما روي من ترك الخليل عليه السلام الدعاء يوم ألقي في النار وقوله علمه بحالي يغني عن سؤالي، وربما يقال‏:‏ ترك الدعاء اكتفاء بعلم الله عز وجل دعاء والله تعالى أعلم‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وأبو جعفر ‏{‏سَيَدْخُلُونَ‏}‏ مبنياً للمفعول من الإدخال واختلفت الرواية عن عاصم‏.‏، وأبي عمرو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ لتستريحوا فيه بأن أغاب سبحانه فيه الشمس فجعله جل شأنه بارداً مظلماً وجعل عز وجل برده سبباً لضعف القوى المحركة وظلمته سبباً لهدو الحواس الظاهرة إلى أشياء أخرى جعلها أسباباً للسكون والراحة ‏{‏والنهار مُبْصِراً‏}‏ يبصر فيه أو به فالنهار إما ظرف زمان للإبصار أو سبب له‏.‏

وأياً ما كان فإسناد الإبصار له بجعله مبصراً إسناد مجازي لما بينهما من الملابسة، وفيه مبالغة وأنه بلغ الإبصار إلى حد سرى في نهار المبصر، ولذا لم يقل‏:‏ لتبصروا فيه على طرز ما وقع في قرينه، فإن قيل‏:‏ لم لم يقل جعل لكم الليل ساكناً ليكون فيه المبالغة المذكورة وتخرج القرينتان مخرجاً واحداً في المبالغة، قلت‏:‏ أجيب عن ذلك بأن نعمة النهار أتم وأعظم من نعمة الليل فسلك مسلك المبالغة فيها، وتركت الأخرى على الظاهر تنبيهاً على ذلك، وقيل‏:‏ إن النعمتين فرسا رهان فدل على فضل الأولى بالتقديم وعلى فضل الأخرى بالمبالغة وهو كما ترى، وقيل‏:‏ لم يقل ذلك لأن الليل يوصف على الحقيقة بالسكون فيقال‏:‏ ليل ساكن أي لا ريح فيه ولا يبعد أن يكون السكون بهذا المعنى حقيقة عرفية‏.‏ فلو قيل‏:‏ ساكناً لم يتميز المراد نظراً إلى الإطلاق وإن تميز نظراً إلى قرينة التقابل‏.‏

وكان رجحان هذا الأسلوب لأن الكلام المحكم الواضح بنفسه من أول الأمر هو الأصل لا سيما في خطاب ورد في معرض الامتنان للخاصة والعامة، وهم متفاوتون في الفهم والدراية الناقصة والتامة، وفي «الكشف» لما لم يكن الإبصار علة غائية في نفسه بل العلة ابتغاء الفضل كما ورد مصرحاً به في سورة القصص بخلاف السكون والدعة في الليل صرح بذلك في الأول ورمز في الثاني مع إفادة نكتة سرية في الإسناد المجازي‏.‏

وقال الجلبي‏:‏ إذا حملت الآية على الاحتباك، وقيل‏:‏ المراد جعل لكم الليل مظلماً لتسكنوا فيه والنهار مبصراً لتنتشروا فيه ولتبتغوا من فضل الله تعالى فحذف من الأول بقرينة الثاني ومن الثاني بقرينة الأول لم يحتج إلى ما ذكر في تعليل ترك المبالغة في القرينة الأولى، وهذا هو المشهور في الآية والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

‏{‏إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ‏}‏ لا يوازيه فضل ولقصد الإشعار به لم يقل المفضل ‏{‏عَلَى الناس‏}‏ برهم وفاجرهم ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ‏}‏ لجهلهم بالمنعم وإغفالهم مواقع النعم، وتكرير الناس لتخصيص الكفران بهم، وذلك من إيقاعه على صريح اسمهم الظاهر الموضوع موضع الضمير الدال على أنه من شأنهم وخاصتهم في الغالب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏ذلكم‏}‏ المتصف بالصفات المذكورة المقتضية للألوهية والربوبية ‏{‏الله رَبُّكُمْ خالق كُلّ شَىْء لاَّ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ أخبار مترادفة تخصص اللاحقة السابقة وتقلل اشتراكها في المفهوم نظراً إلى أصل الوضع وتقررها، وجوز في بعضها الوصفية والبدلية، وأخر ‏{‏خالق كُلّ شَىْء‏}‏ عن ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 102‏]‏ في آية سورة الأنعام، وقدم هنا لما أن المقصود ههنا على ما قيل الرد على منكري البعث فناسب تقديم ما يدل عليه، وهو أنه منه سبحانه وتعالى مبدأ كل شيء فكذا إعادته‏.‏

وقرأ زيد بن علي ‏{‏خالق‏}‏ بالنصب على الاختصاص أي أعني أو أخص خالق كل شيء فيكون ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ استئنافاً مما هو كالنتيجة للأوصاف المذكورة فكأنه قيل‏:‏ الله تعالى متصف بما ذكر من الصفات ولا إله إلا من اتصف بها فلا إله إلا هو ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ فكيف ومن أي جهة تصرفون من عبادته سبحانه إلى عبادة غيره عز وجل‏.‏ وقرأ طلحة في رواية ‏{‏يُؤْفَكُونَ‏}‏ بياء الغيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بئايات الله يَجْحَدُونَ‏}‏ أي مثل ذلك الإفك العجيب الذي لا وجه له ولا مصحح أصلاً يؤفك كل من جحد بآياته تعالى أي آية كانت لا إفكاً آخر له وجه ومصحح في الجملة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض قَرَاراً‏}‏ أي مستقراً ‏{‏والسماء‏}‏ أي قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه، وهو تشبيه بليغ وفيه إشارة لكريتها‏.‏ وهذا بيانل فضله تعالى المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بالحق وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ بيان لفضله تعالى المتعلق بأنفسهم، والفاء في ‏{‏فَأَحْسَنَ‏}‏ تفسيرية فالمراد صوركم أحسن تصوير حيث خلق كلاً منكم منتصب القامة بادي البشرة متناسب الأعضاء والتخطيطات متهيأ لمزاولة الصنائع واكتساب الكمالات‏.‏ وقرأ الأعمش‏.‏ وأبو رزين ‏{‏صُوَرَكُمْ‏}‏ بكسر الصاد فراراً من الضمة قبل الواو، وجمع فعلة بضم الفاء على فعل بكسرها شاذ ومنه قوة وقوى بكسر القاف في الجمع‏.‏ وقرأ فرقة ‏{‏صُوَرَكُمْ‏}‏ بضم الصاد وإسكان الواو على نحو بسرة وبسر ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ أي المستلذات طعماً ولباساً وغيرهما وقيل الحلال ‏{‏ذلكم‏}‏ الذي نعت بما ذكر من النعوت الجليلة ‏{‏الله رَبُّكُمُ‏}‏ خبران لذلكم ‏{‏فَتَبَارَكَ الله‏}‏ تعالى بذاته ‏{‏رَبّ العالمين‏}‏ أي مالكهم ومربيهم والكل تحت ملكوته مفتقر إليه تعالى في ذاته ووجوده وسائر أحواله جميعها بحيث لو انقطع فيضه جل شأنه عنه آنا لعدم بالكلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الحى‏}‏ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية ‏{‏لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ إذ لا موجود يدانيه في ذاته وصفاته وأفعاله عز وجل ‏{‏فادعوه‏}‏ فاعبدوه خاصة لاختصاص ما يوجب ذلك به تعالى‏.‏

وتفسير الدعاء بالعبادة هو الذي يقتضيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ أي الطاعة من الشرك الخفي والجلي وأنه الأليق بالترتب على ما ذكر من أوصاف الربوبية والألوهية، وإنما ذكرت بعنوان الدعاء لأن اللائق هو العبادة على وجه التضرع والانكسار والخضوع ‏{‏الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ أي قائلين ذلك‏.‏

أخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال‏:‏ من قال لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فادعوه مُخْلِصِينَ‏}‏ الخ‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن سعيد بن جبير نحو ذلك، وعلى هذا ‏{‏يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ الخ من كلام المأمورين بالعبادة قبله، وجوز كونه من كلام الله تعالى على أنه إنشاء حمد ذاته سبحانه بذاته جل شأنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنّى نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَمَّا جَاءنِى البينات مِن رَّبّى‏}‏ من الحجج والآيات أو من الآيات لكونها مؤيدة لأدلة العقل منبهة عليها فإن الآيات التنزيلية مفسرات للآيات التكوينية الآفاقية والأنفسية ‏{‏وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبّ العالمين‏}‏ أي بأن انقاد له تعالى وأخلص له عز وجل ديني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن تُرَابٍ‏}‏ في ضمن خلق آدم عليه السلام منه حسبما مر تحقيقه ‏{‏ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ‏}‏ أي ثم خلقكم خلقاً تفصيلياً من نطفة أي من منى ‏{‏ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ‏}‏ قطعة دم جامد ‏{‏ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً‏}‏ أي أي أطفالاً وهو اسم جنس صادق على القليل والكثير‏.‏

وفي «المصباح»، قال ابن الأنباري‏:‏ يكون الطفل بلفظ واحد للمذكر والمؤنث والجمع ويجوز فيه المطابقة أيضاً؛ وقيل‏:‏ إنه أفرد بتأويل خلق كل فرد من هذا النوع ثم يخرج كل فرد منه طفلاً ‏{‏ثُمَّ لِتَبْلُغُواْ أَشُدَّكُمْ‏}‏ لللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره ثم يبقيكم لتبلغوا وذلك المحذوف عطف على ‏{‏يُخْرِجُكُمْ‏}‏ وجوز أن يكون ‏{‏لِتَبْلُغُواْ‏}‏ عطفاً على علة مقدرة ليخرجكم كأنه قيل‏:‏ ثم يخرجكم لتكبروا شيئاً فشيئاً ثم لتبلغوا أشدكم وكمالكم في القوة والعقل، وكذا الكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً‏}‏ ويجوز عطفه على ‏{‏لِتَبْلُغُواْ‏}‏‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وابن ذكوان‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏شُيُوخاً‏}‏ بكسر الشين‏.‏ وقرىء ‏{‏شَيْخًا‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏طِفْلاً‏}‏ ‏{‏وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل الشيخوخة بعد بلوغ الأشد أو قبله أيضاً ‏{‏وَلِتَبْلُغُواْ‏}‏ متعلق بفعل مقدر بعده أي ولتبلغوا ‏{‏أَجَلاً مُّسَمًّى‏}‏ هو يوم القيامة بفعل ذلك الخلق من تراب وما بعده من الأطوار، وهو عطف على ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ والمراد من يوم القيامة ما فيه من الجزاء فإن الخلق ما خلقوا إلا ليعبدوا ثم يبلغوا الجزاء، وتفسير الأجل المسمى بذلك مروى عن الحسن، وقال بعض‏:‏ هو يوم الموت‏.‏ وتعقب بأن وقت الموت فهم من ذكر التوفي قبله فالأولى تفسيره بما تقدم، وظاهر صنيع الزمخشري ترجيح هذا على ما بين في «الكشف» ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ولكي تعقلوا ما في ذلك التنقل في الأطوار من فنون الحكم والعبر‏.‏

وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال‏:‏ أي ولعلكم تعقلون عن ربكم أنه يحييكم كما أماتكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى يحيى‏}‏ الأموات ‏{‏وَيُمِيتُ‏}‏ الأحياء أو الذي يفعل الإحياء والإماتة ‏{‏فَإِذَا قضى أَمْراً‏}‏ أراد بروز أمر من الأمور إلى الوجود الخارجي ‏{‏فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ من غير توقف على شيء من الأشياء أصلاً‏.‏

وهذا عند الخلف تمثيل لتأثير قدرته تعالى في المقدورات عند تعلق إرادته سبحانه بها وتصوير لسرعة ترتب المكونات على تكوينه من غير أن يكون هناك آمر ومأمور وقد تقدم الكلام في ذلك، والفاء الأولى للدلالة على أن ما بعدها من نتائج ما قبلها من حيث أنه يقتضي قدرة ذاتية غير متوقفة على العدد والمواد، وجوز فيها كونها تفصيلية وتعليلية أيضاً فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يجادلون فِى ءايات الله أنى يُصْرَفُونَ‏}‏ تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الركيكة وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكل القرآن وبسائر الكتب والشرائع وترتيب الوعيد على ذلك، كما أن ما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يجادلون‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏ الخ بيان لابتناء جدالهم على مبنى فاسد لا يكاد يدخل تحت الوجود فلا تكرير فيه كذا في إرشاد العقل السليم‏.‏

وقال القاضي‏:‏ تكرير ذكر المجادلة لتعدد المجادل بأن يكون هناك قوماً وهنا قوماً آخرين أو المجادل فيه بأن يحمل في كل على معنى مناسب ففيما مر في البعث وهنا في التوحيد أو هو للتأكيد اهتماماً بشأن ذلك‏.‏ واختار ما في الإرشاد، أي انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين في آياته تعالى الواضحة الموجبة للإيمان بها الزاجرة عن الجدال فيها كيف يصرفون عنها مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها وانتفاء الصوارف عنها بالكلية‏.‏

‏[‏يم الله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏الذين كَذَّبُواْ بالكتاب‏}‏ أي بكل القرآن أو بجنس الكتب السماوية فإن تكذيبه تكذيب لها في محل الجر على أنه بدل من الموصول الأول أو بيان أو صفة له أو في محل النصب على الذم أو في محل الرفع على أنه خبر محذوف أو مبتدأ خبره ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ وإنما وصل الموصول الثاني بالتكذيب دون المجادلة لأن المعتاد وقوع المجادلة في بعض المواد لا في الكل‏.‏ وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق كما أن صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على تجدد المجادلة وتكررها ‏{‏وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا‏}‏ من سائر الكتب على الوجه الأول في تفسير الكتاب أو مطلق الوحى والشرائع على الوجه الثاني فيه‏.‏

‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ كنه ما فعلوا من الجدال والتكذيب عند مشاهدتهم لعقوباته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

بلفظ المضي للدلالة على تحققه حتى كأنه ماض حقيقة فلا تنافر بين سوف وإذ ‏{‏والسلاسل‏}‏ عطف على ‏{‏الاغلال‏}‏ والجار والمجرور في نية التأخير كأنه قيل‏:‏ إذ الأغلال والسلاسل في أعناقهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُسْحَبُونَ‏}‏ أي يجرون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏فِى الحميم‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يَعْلَمُونَ‏}‏ أو ضمير ‏{‏فِى أعناقهم‏}‏ أو جملة مستأنفة لبيان حالهم بعد ذلك، وجوز كون ‏{‏السلاسل‏}‏ مبتدأ وجملة ‏{‏والسلاسل يُسْحَبُونَ‏}‏ خبره والعائد محذوف أي يسحبون بها‏.‏

وجوز كون ‏{‏الاغلال‏}‏ مبتدأ ‏{‏والسلاسل‏}‏ عطف عليه والجملة خبر المبتدأ و‏{‏فِى أعناقهم‏}‏ في موضع الحال، ولا يخفى حاله، وقرأ ابن مسعود‏.‏ وابن عباس‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وابن وثاب ‏{‏والسلاسل يُسْحَبُونَ‏}‏ بنصب السلاسل وبناء يسحبون للفاعل فيكون السلاسل مفعولاً مقدماً ليسحبون، والجملة معطوفة على ما قبلها، ولا بأس بالتفاوت اسمية وفعلية‏.‏

وقرأت فرقة منهم ابن عباس في رواية ‏{‏والسلاسل‏}‏ بالجر، وخرج ذلك الزجاج على الجر بخافض محذوف كما في قوله‏:‏ أشارت كليب بالأكف الأصابع *** أي وبالسلاسل كما قرىء به أو في السلاسل كما في مصحف أبي، والفراء على العطف بحسب المعنى إذ الأغلال في أعناقهم بمعنى أعناقهم في الأغلال، ونظيره قوله‏:‏ مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة *** ولا ناعب إلا ببين غرابها

ويسمى في غير القرآن عطف التوهم، وذهب إلى هذا التخريج الزمخشري‏.‏ وابن عطية، وابن الأنباري بعد أن ضعف تخريج الزجاج خرج القراءة على ما قال الفراء قال‏:‏ وهذا كما تقول‏:‏ خاصم عبد الله زيداً العاقلين بنصب العاقلين ورفعه لأن أحدهما إذا خاصم صاحبه فقد خاصم الآخر، وهذه المسألة لا تجوز عند البصريين ونقل جوازها عن محمد بن سعدان الكوفي قال‏:‏ لأن كل واحد منهما فاعل مفعول ‏{‏ثُمَّ فِى النار يُسْجَرُونَ‏}‏ يحرقون ظاهراً وباطناً من سجر التنور إذا ملأه إيقاداً ويكون بمعنى ملأه بالحطب ليحميه، ومنه السجير للصديق الخليل كأنه سجر بالحب أي ملىء، ويفهم من «القاموس» أن السجر من الأضداد، وكلا الاشتقاقين مناسب في السجير أي ملىء من حبك أو فرغ من غيرك إليك والأول أظهر‏.‏

والمراد بهذا وما قبله أنهم معذبون بأنواع العذاب سحبهم على وجوههم في النار الموقدة ثم تسليط النار على باطنهم وأنهم يعذبون ظاهراً وباطناً فلا استدراك في ذكر هذا بعد ما تقدم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73 - 74‏]‏

‏{‏ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا‏}‏ أي يقال لهم ويقولون، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع، والسؤال للتوبيخ، وضلالهم عنهم بمعنى غيبتهم من ضلت دابته إذا لم يعرف مكانها، وهذا لا ينافي ما يشعر بأن آلهتهم مقرونون بهم في النار لأن للنار طبقات ولهم فيها مواقف فيجوز غيبتهم عنهم في بعضها واقترانهم بهم في بعض آخر، ويجوز أن يكون ضلالهم استعارة لعدم النفع فحضورهم كالعدم فذكر على حقيقته في موضع وعلى مجازه في آخر ‏{‏بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً‏}‏ أي بل تبين لنا اليوم إنا لم نكن نعبد في الدنيا شيئاً يعتد به، وهو إضراب عن كون الآلهة الباطلة ليست بموجودة عندهم أو ليست بنافعة إلى أنها ليست شيئاً يعتد به‏.‏

وفي ذلك اعتراف بخطئهم وندم على قبيح فعلهم حيث لا ينفع ذلك، وجعل الجلبي هذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ يفزعون إلى الكذب لحيرتهم واضطرابهم، ومعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين‏}‏ أنه تعالى يحيرهم في أمرهم حتى يفزعون إلى الكذب مع علمهم بأنه لا ينفعهم، ولعل ما تقدم هو المناسب للسياق‏.‏

ومعنى هذا مثل ذلك الإضلال يضل الله تعالى في الدنيا الكافرين حتى أنهم يدعون فيها ما يتبين لهم أنه ليس بشيء أو مثل ضلال آلهتهم عنهم في الآخرة نضلهم عن آلهتهم فيها حتى لو طلبوا الآلهة وطلبتهم لم يلق بعضهم بعضاً أو مثل ذلك الضلال وعدم النفع يضل الله تعالى الكافرين حتى لا يهتدوا في الدنيا إلى ما ينفعهم في الآخرة، وفي المجمع كما أضل الله تعالى أعمال هؤلاء وأبطل ما كانوا يؤملونه كذلك يفعل بأعمال جميع من يتدين بالكفر فلا ينتفعون بشيء منها، فإضلال الكافرين على معنى إضلال أعمالهم أي إبطالها، ونقل ذلك عن الحسن، وقيل في معناه غير ذلك‏.‏

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى المذكور من سحبهم في السلاسل والأغلال وتسجيرهم في النار وتوبيخهمب السؤال، وجوز على بعض الأوجه أن يكون إشارة إلى إضلال الله تعالى الكافرين، وإلى الأول ذهب ابن عطية أي ذلكم العذاب الذي أنتم فيه ‏{‏بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِى الارض‏}‏ تبطرون وتأشرون كما قال مجاهد‏:‏ ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ وهو الشرك والمعاصي أو بغير استحقاق لذلك، وفي ذكر ‏{‏الارض‏}‏ زيادة تفظيع للبطر ‏{‏وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ‏}‏ تتوسعون في الفرح، وقيل‏:‏ المعنى بما كنتم تفرحون بما يصيب أنبياء الله تعالى وأولياءه من المكاره وبما كنتم تتوسعون في الفرح بما أوتيتم حتى نسيتم لذلك الآخرة واشتغلتم بالنعمة عن المنعم، وفي الحديث «الله تعالى يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين» وبين الفرح والمرح تجنيس حسن، والعدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ لأن ذم المرء في وجهه تشهير له، ولذا قيل‏:‏ النصح بين الملأ تقريع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏ادخلوا أبواب جَهَنَّمَ‏}‏ أي الأبواب المقسومة لكم ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ مقدرين الخلود ‏{‏فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين‏}‏ عن الحق جهنم، وكان مقتضى النظم الجليل حيث صدر بادخلوا أن يقال‏:‏ فبئس مدخل المتكبرين ليتجاوب الصدر والعجز لكن لما كان الدخول المقيد بالخلود سبب الثواء عبر بالمثوى وصح التجاوب معنى، وهذا الأمر على ما استظهره في «البحر» مقول لهم بعد المحاورة السابقة وهم في النار، ومطمح النظر فيه الخلود فهو أمر بقيد الخلود لا بمطلق الدخول، ويجوز أن يقال‏:‏ هم بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا الأبواب المقسومة لهم فكان أمراً بالدخول بقيد التجزئة لكل باب، وقال ابن عطية‏:‏ يقال لهم قبل هذه المحاورة في أول الأمر ادخلوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بتعذيب أعدائك الكفرة ‏{‏حَقّ‏}‏ كائن لا محالة ‏{‏فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ‏}‏ أصله فإن نرك فزيدت ‏{‏مَا‏}‏ لتوكيد ‏{‏ءانٍ‏}‏ الشرطية ولذلك جاز أن يلحق الفعل نون التوكيد على ما قيل‏:‏ وإلى التلازم بين ما ونون التوكيد بعد أن الشرطية ذهب المبرد‏.‏ والزجاج فلا يجوز عندهما زيادة ما بدون إلحاق نون ولا إلحاق نون بدون زيادة ما ورد بقوله‏:‏ فإما تريني ولي لمة *** فإن الحوادث أودي بها

ونسب أبو حيان على كلام فيه جواز الأمرين إلى سيبويه والغالب أن إن إذا أكدت بما يلحق الفعل بعدها نون التوكيد على ما نص عليه غير واحد ‏{‏بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ‏}‏ وهو القتل والأسر ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ قبل ذلك ‏{‏فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ يوم القيامة فنجازيهم بأعمالهم، وهو جواب ‏{‏نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ وجواب ‏{‏نُرِيَنَّكَ‏}‏ محذوف مثل فذاك، وجوز أن يكون جواباً لهما على معنى أن نعذبهم في حياتك أو لم نعذبهم فإنا نعذبهم في الآخرة أشد العذاب ويدل على شدته الاقتصار على ذكر الرجوع في هذا المعرض‏.‏ والزمخشري آثر في الآية هنا ما ذكر أولاً وذكر في الرعد في نظيرها أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 40‏]‏ ما يدل على أن الجملة المقرونة بالفاء جواب على التقديرين، قال في «الكشف»‏:‏ والفرق أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ‏}‏ عدة للإنجاز والنصر وهو الذي همه عليه الصلاة والسلام وهم المؤمنين معقود به لمقتضى هذا السياق فينبغي أن يقدر فذاك هناك ثم جىء بالتقدير الثاني رداً لشماتتهم وإنه منصور على كل حال وإتماماً للتسلي، وأما مساق التي في الرعد فلا يجاب التبليغ وإنه ليس عليه غير ذلك كيفما دارت القضية، فمن ذهب إلى إلحاق ما هنا بما في الرعد ذهب عنه مغزى الزمخشري انتهى فتأمل ولا تغفل‏.‏

وقرأ أبو عبد الرحمن‏.‏ ويعقوب ‏{‏يَرْجِعُونَ‏}‏ بفتح الياء، وطلحة بن مصرف‏.‏ ويعقوب في رواية الوليد بن حسان بفتح تاء الخطاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً‏}‏ ذوي خطر وكثرة ‏{‏مِن قَبْلِكَ‏}‏ من قبل إرسالك‏.‏

‏{‏مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا‏}‏ أوردنا أخبارهم وآثارهم ‏{‏عَلَيْكَ‏}‏ كنوح وإبراهيم‏.‏ وموسى عليهم السلام‏.‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏}‏ وهم أكثر الرسل عليهم الصلاة والسلام، أخرج الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «قلت يا رسول الله كم عدة الأنبياء‏؟‏ قال مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً الرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً» والظاهر أن المراد بالرسول في الآية ما هو أخص من النبي، وربما يوهم صنيع القاضي أن المراد به ما هو مساو للنبي‏.‏

وأياً ما كان لا دلالة في الآية على عدم علمه صلى الله عليه وسلم بعدد الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام كما توهم بعض الناس، ورد لذلك خبر الإمام أحمد وجرى بيننا وبينه من النزع ما جرى، وذلك لأن المنفي القص وقد علمت معناه فلا يلزم من نفي ذلك نفي ذكر أسمائهم، ولو سلم فلا يلزم من نفى ذكر الأسماء نفى ذكر أن عدتهم كذا من غير تعرض لذكر أسمائهم، على أن النفي بلم وهي على الصحيح تقلب المضارع ماضياً فالمنفي القص في الماضي ولا يلزم من ذلك استمرار النفي فيجوز أن يكون قد قصوا عليه عليه الصلاة والسلام جميعاً بعد ذلك ولم ينزل ذلك قرآناً، وأظهر من ذلك في الدلالة على عدم استمرار النفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رُسُلاً قَدْ قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ‏}‏ لتبادر الذهن فيه إلى أن المراد لم نقصصهم عليك من قبل لمكان ‏{‏قصصناهم عَلَيْكَ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 164‏]‏ وبالجملة الاستدلال بالآية على أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم عدة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ولا علمها بعد جهل عظيم بل خذلان جسيم نعوذ بالله تعالى من ذلك، وأخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه‏.‏ عن علي كرم الله تعالى وجهه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏}‏ قال‏:‏ بعث الله تعالى عبداً حبشياً نبياً فهو ممن لم يقصص على محمد صلى الله عليه وسلم، وعن ابن عباس بلفظ «إن الله تعالى بعث نبياً أسود في الحبش فهو ممن لم يقصص عليه عليه الصلاة والسلام» والمراد بذلك على نحو ما مر أنه لم تذكر له صلى الله عليه وسلم قصصه وآثاره ولا أوردت عليه أحواله وأخباره كما كان في شأن موسى وعيسى وغيرهما من المرسلين عليهم الصلاة والسلام، ولا يمكن أن يقال‏:‏ المراد أنه لم يذكر له صلى الله عليه وسلم بعثة شخص موصوف بذلك إذ لا يساعد عليه اللفظ، وأيضاً لو أريد ما ذكر فمن أين علم علي كرم الله تعالى وجهه أو ابن عباس ذلك وهل يقول باب مدينة العلم على علم لم يفض عليه من تلك المدينة حاشاه ثم حاشاه وكذا ابن عمه العباس عبد الله‏.‏

واستشكل هذا الخبر بأن فيه رسالة العبد وقد قالوا العبد لا يكون رسولاً، وأجيب بأن العبد فيه ليس بمعنى المملوك وهو الذي لا يكون رسولاً لنقصان تصرفه ونفرة النفوس عن اتباعه بل هو أحد العبيد بمعنى السودان عرفاً ولو قيل‏:‏ إن العبد بهذا المعنى لا يكون رسولاً أيضاً لنفرة النفوس عن اتباعه كنفرتها عن اتباع المملوك قلنا‏:‏ على تقدير تسليم النفرة إنما هي فيما إذا كان الإرسال لغير السودان وأما إذا كان الإرسال للسودان فليست هناك نفرة أصلاف، وظاهر لفظ ابن عباس أن ذلك الأسود إنما بعث في الحبش والتزام أنه لا يكون رسول من السودان أولاد حام مما لا يساعد عليه الدليل لأنه إن كانت النفرة مانعة من الإرسال فهي لا تتحقق فيما إذا كان الإرسال إلى بني صنفه؛ وإن كان المانع أنه لا يوجد متأهر للإرسال في بني حام لنقصان عقولهم وقلة كما لهم فدعوى ذلك جهل والله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته وكم رأينا في أبناء حام من هو أعقل وأكمل من كثير من أبناء سام ويافث، وإن كان قد ورد فأطع من نبينا صلى الله عليه وسلم أنه لا يكون من أولئك رسول فليذكر وأنى به ثم أن أمر النبوة فيمن ذكر أهون من أمر الرسالة كما لا يخفى، وكأنه لمجموع ما ذكرنا قال الخفاجي عليه الرحمة‏:‏ في صحة الخبر نظر ‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ‏}‏ أي وما صح وما استقام لرسول من أولئك الرسل ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً‏}‏ بمعجزة ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ فالمعجزات على تشعب فنونها عطايا من الله تعالى قسمها بينهم حسبما اقتضته مشيئته المبنية على الحكم البالغة كسائر القسم ليس لهم اختيار في إيثار بعضها والاستبداد بإتيان المقترح بها ‏{‏فَإِذَا جَاء أَمْرُ الله‏}‏ بالعذاب في الدنيا والآخرة ‏{‏قُضِىَ بالحق‏}‏ بإنجاء المحق وإثابته وإهلاك المبطل وتعذيبه ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ‏}‏ أي وقت مجىء أمر الله تعالى اسم كان استعير للزمان ‏{‏المبطلون‏}‏ المتمسكون بالباطل على الإطلاق فيدخل فيهم المعاندون المقترحون دخولاً أولياً ومن المفسرين من فسر المبطلين بهم وفسر أمر الله بالقيامة، ومنهم من فسره بالقتل يوم بدر وما ذكرنا أولى‏.‏

وأبعد ما رأينا في الآية أن المعنى فإذا أراد الله تعالى إرسال رسول وبعثة نبي قضى ذلك وأنفذه بالحق وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الانعام‏}‏ المراد بها الإبل خاصة كما حكي عن الزجاج واختاره صاحب الكشاف، واللام للتعليل لا للاختصاص فإن ذلك هو المعروف في نظير الآية أي خلقها لأجلكم ولمصلحتكم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا‏}‏ الخ تفصيل لما دل عليه الكلام إجمالاً، ومن هنا جعل ذلك بعضهم بدلاً مما قبله بدل مفصل من مجمل بإعادة حرف الجر، و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية أي ابتداء تعلق الركوب بها أو تبعيضية وكذا ‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ وليس المراد على إرادة التبعيض أن كلاً من الركوب والأكل مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن كل بعض منها صالح لكل منهما‏.‏ نعم كثيراً ما يعدون النجائب من الإبل للركوب، والجملة على ما ذهب إليه الجلبي عطف على المعنى فإن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا‏}‏ في معنى منها تركبون أو إن منها تأكلون في معنى لتأكلوا منها لكن لم يؤت به كذلك لنكتة‏.‏

وقال العلامة التفتازاني‏:‏ إن هذه الجملة حالية لكن يرد على ظاهره أن فيه عطف الحال على المفعول له ولا محيص عنه سوى تقدير معطوف أي خلق لكم الأنعام منها تأكلون ليكون من عطف جملة على جملة‏.‏

وتعقبه الخفاجي بقوله‏:‏ لم يلح لي وجه جعل هذا الواو عاطفة محتاجة إلى التقدير المذكور مع أن الظاهر أنها واو حالية سواء قلنا إنها حال من الفاعل أو المفعول والمنساق إلى ذهني العطف بحسب المعنى، ولعل اعتباره في جانب المعطوف أيسر فيعتبر أيضاً في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَكُمْ فيِهَا منافع‏}‏ أي غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار والجلود ويقال‏:‏ إنه في معنى ولتنتفعوا بمنافع فيها أو نحو ذلك ‏{‏وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ أي أمراً ذا بال تهتمون به وذلك كحمل الأثقال من بلد إلى بلد، وهذا عطف على ‏{‏لتركبوا منها‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 79‏]‏ جاء على نمطه، وكان الظاهر المزاوجة بين الفوائد المحصلة من الأنعام بأن يؤتى باللام في الجميع أو تترك فيه لكن عدل إلى ما في «النظم الجليل» لنكتة‏.‏

قال صاحب الكشف‏:‏ إن الأنعام ههنا لما أريد بها الإبل خاصة جعل الركوب وبلوغ الحاجة من أتم الغرض منها لأن جل منافعها الركوب والحمل عليها، وأما الأكل منها والانتفاع بأوبارها وألبانها بالنسبة إلى ذينك الأمرين فنزر قليل، فأدخل اللام عليهما وجعلا مكتنفين لما بينهما تنبيهاً على أنه أيضاً مما يصلح للتعليل ولكن قاصراً عنهما، وأما الاختصاص المستفاد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ فلأنها من بين ما يقصد للركوب ويعد للأكل فلا ينتقض بالخيل على مذهب من أباح لحمها ولا بالبقر، وقال صاحب الفرائد‏:‏ إنما قيل ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فيِهَا منافع‏}‏ ولم يقل‏:‏ لتأكلوا منها ولتصلوا إلى المنافع لأنهم في الحال آكلون وآخذون المنافع وأما الركوب وبلوغ الحاجة فأمران منتظران فجىء فيهما بما يدل على الاستقبال‏.‏ وتعقب بأن الكل مستقبل بالنسبة إلى زمن الخلق‏.‏

وقال القاضي‏:‏ تغيير النظم في الأكل لأنه في حيز الضرورة، وقيل في توجيهه‏:‏ يعني أن مدخول الغرض لا يلزم أن يترتب على الفعل، فالتغيير إلى صورة الجملة الحالية مع الإتيان بصيغة الاستمرار للتنبيه على امتيازه عن الركوب في كونه من ضروريات الإنسان‏.‏ ويطرد هذا الوجه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فيِهَا منافع‏}‏ لأن المراد منفعة الشرب واللبس وهذا مما يلحق بالضروريات وهو لا يضر نعم فيه دغدغة لا تخفى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ إن الركوب وبلوغ الحاجة يصح أن يكونا غرض الحكيم جل شأنه لما فيهما من المنافع الدينية كإقامة دين وطلب علم واجب أو مندوب فلذا جىء فيهما باللام بخلاف الأكل وإصابة المنافع فإنهما من جنس المباحات التي لا تكون غرض الحكيم‏.‏ وهو مبني على مذهبه من الربط بين الأمر والإرادة ولا يصح أيضاً لأن المباحات التي هي نعمة تصح أن تكون غرض الحكيم جل جلاله عندهم، ويا ليت شعري ماذا يقول في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 67‏]‏ نعم لو ذكر أنه لاشتماله على الغرض الديني كان أنسب بدخول اللام لكان وجهاً إن تم‏.‏

وقيل‏:‏ تغيير النظم الجليل في الأكل لمراعاة الفواصل كما أن تقديم الجار والمجرور لذلك‏.‏ وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكُمْ فيِهَا منافع‏}‏ فكالتابع للأكل فأجرى مجراه وهو كما ترى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَيْهَا‏}‏ توطئة لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ‏}‏ ليجمع بين سفائن البر وسفائن البحر فكأنه قيل‏:‏ وعليها في البر وعلى الفلك في البحر تحملون فلا تكرار‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم لعل المراد بهذا الحمل حمل النساء والولدان عليها بالهودج وهو السر في فصله عن الركوب، وتقديم الجار قيل‏:‏ لمراعاة الفواصل كتقديمه قبل‏.‏

وقيل التقديم هنا وفيما تقدم للاهتمام؛ وقيل‏:‏ ‏{‏عَلَى الفلك‏}‏ دون في الفلك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏احمل فِيهَا مِن كُلّ زَوْجَيْنِ اثنين‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 40‏]‏ لأن معنى الظرفية والاستعلاء موجود فيها فيصح كل من العبارتين، والمرجح لعلى هنا المشاكلة‏.‏

وذهب غير واحد إلى أن المراد بالأنعام الأزواج الثمانية فمعنى الركوب والأكل منها تعلقهما بالكل لكن لا على أن كلاً منهما مختص ببعض معين منها بحيث لا يجوز تعلقه بما تعلق به الآخر بل على أن بعضها يتعلق به الأكل فقط كالغنم وبعضها يتعلق به كلاهما كالإبل ومنهم من عد البقر أيضاً وركوبه معتاد عند بعض أهل الأخبية، وأدرج بعضهم الخيل والبغال وسائر ما ينتفع به من البهائم في الأنعام وهو ضعيف‏.‏

ورجح القول بأن المراد الأزواج الثمانية على القول المحكي عن الزجاج من أن المراد الإبل خاصة بأن المقام مقام امتنان وهو مقتض للتعميم، والظاهر ذاك، وكون المقام مقام امتنان غير مسلم بل هو مقام استدلال كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏:‏ 17‏]‏ كما يشعر به السياق، ولا يأباه ذكر المنافع فإنه استطرادي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُرِيكُمْ ءاياته‏}‏ أي دلائله الدالة على كمال شؤونه جل جلاله ‏{‏فَأَىُّ ءايات الله‏}‏ أي فأي آية من تلك الآيات الباهرة ‏{‏تُنكِرُونَ‏}‏ فإن كلاً منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكارها من له عقل في الجملة، فأي للاستفهام التوبيخي وهي منصوبة بتنكرون، وإضافة الآيات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة وتهويل إنكارها وتنكير أي في مثل ما ذكر هو الشائع المستفيض والتأنيث قليل ومنه قوله‏:‏ بأي كتاب أم بأية سنة *** ترى حبهم عاراً علي وتحسب

قال الزمخشري‏:‏ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه لأنه اسم استفهام عما هو مبهم مجهول عند السائل والتفرقة مخالفة لما ذكر لأنها تقتضي التمييز بين ما هو مؤنث ومذكر فيكون معلوماً له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُواْ‏}‏ أي أقعدوا فلم يسيروا على أحد الرأيين‏:‏

‏{‏كَانُواْ أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَءاثَاراً فِى الارض‏}‏ الخ استئناف نظير ما مر في نظيره أول السورة بل أكثر الكلام هناك جار ههنا ‏{‏فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏{‏مَا‏}‏ الأولى‏:‏ نافية أو استفهامية في معنى النفي في محل نصب بأغنى، والثانية‏:‏ موصولة في موضع رفع به أو مصدرية والمصدر الحاصل بالتأويل مرفوع به أيضاً أي لم يغن عنهم أو أي شيء أغنى عنهم الذي كسبوه أو كسبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ المعجزات أو الآيات الواضحات الشاملة لذلك ‏{‏فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم‏}‏ ذكر فيه ستة أوجه‏.‏ الأول‏:‏ أن المراد بالعلم عقائدهم الزائغة وشبههم الداحضة فيما يتعلق بالمبدأ والمعاد وغيرهما أو عقائدهم المتعلقة بأحوال الآخرة كما هو ظاهر كلام الكشاف، والتعبير عن ذلك بالعلم على زعمهم للتهكم كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ ادرك عِلْمُهُمْ فِى الاخرة‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 66‏]‏‏.‏

والمعنى أنهم كانوا يفرحون بذلك ويستحقرون له علم الرسل عليهم السلام ويدفعون به البينات‏.‏ الثاني‏:‏ أن المراد به علم الفلاسفة والدهريين من بني يونان على اختلاف أنواعه فكانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء عليهم السلام إلى ما عندهم من ذلك‏.‏ وعن سقراط أنه سمع بموسى عليه الصلاة والسلام، وقيل له‏:‏ لو هاجرت إليه فقال‏:‏ نحن قوم مهذبون فلا حاجة لنا إلى من يهذبنا‏.‏ والزمان متشابه فقد رأينا من ترك متابعة خاتم المرسلين صلى الله عليه وسلم واستنكف عن الانتساب إلى شريعة أحد منهم فرحاً بما لحس من فضلات الفلاسفة وقال‏:‏ إن العلم هو ذاك دون ما جاء به الرسل صلوا ت الله تعالى وسلامه عليهم أجمعين‏.‏ الثالث‏:‏ أن أصل المعنى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات لم يفرحوا بما جاءهم من العلم فوضعوا موضعه فرحوا بما عندهم من الجهل ثم سمي ذلك الجهل علماً لاغتباطهم به ووضعهم إياه مكان ما ينبغي لهم من الاغتباط بما جاءهم من العلم، وفيه التهكم بفرط جهلهم والمبالغة في خلوهم من العلم، وضمير ‏{‏فَرِحُواْ‏}‏ و‏{‏عِندَهُمُ‏}‏ على هذه الأوجه للكفرة المحدث عنهم‏.‏

الرابع‏:‏ أن يجعل ضمير ‏{‏فَرِحُواْ‏}‏ للكفرة وضمير ‏{‏عِندَهُمُ‏}‏ للرسل عليهم السلام، والمراد بالعلم الحق الذي جاء المرسلون به أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به، وخلاصته أنهم استهزؤا بالبينات وبما جاء به الرسل من علم الوحي، ويؤيد هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ‏}‏‏.‏

الخامس‏:‏ أن يجعل الضمير أن للرسل عليهم السلام، والمعنى أن الرسل لما رأوا جهل الكفرة المتمادي واستهزاءهم بالحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم واستهزائهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله تعالى وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم، وحكي هذا عن الجبائي السادس‏:‏ أن يجعل الضميران للكفار، والمراد بما عندهم من العلم علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الاخرة هُمْ غافلون‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ العلم‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 30‏]‏ فلما جاءهم الرسل بعلم الديانات وهي أبعد شيء من علمهم لبعثها على رفض الدنيا والظلف عن الملاذ والشهوات لم يلتفتوا إليها وصغروها واستهزؤا بها واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ففرحوا به، قال صاحب الكشف‏:‏ والأرجح من بين هذه الأوجه الستة الثالث ففيه التهكم والمبالغة في خلوهم من العلم ومشتمل على ما يشتمل عليه الأول وزيادة سالم عن عدم الطباق للواقع كما في الثاني وعن قصور العبارة عن الأداء كالرابع وعن فك الضمائر كما في الخامس، والسادس قريب لكنه قاصر عن فوائد الثالث انتهى فتأمله جداً‏.‏

وأبو حيان استحسن الوجه السادس وتعقب الوجه الثالث بأنه لا يعبر بالجملة الظاهر كونها مثبتة عن الجملة المنفية إلا في قليل من الكلام نحو شر أهر ذا ناب على خلاف فيه، ولما آل أمره إلى الإثبات المحصور جاز، وأما الآية فينبغي أن لا تحمل على القليل لأن في ذلك تخليطاً لمعاني الجمل المتباينة فلا يوثق بشيء منها، وأنت تعلم أنه لا تباين معنى بين لم يفرحوا بما جاءهم من العلم و‏{‏فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مّنَ العلم‏}‏ على ما قرر‏.‏ نعم هذا الوجه عندي مع ما فيه من حسن لا يخلو عن بعد، وكلام صاحب الكشف لا يخلو عن دغدغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ شدة عذابنا ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِعَذَابٍ بَئِيسٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 165‏]‏ ‏{‏قَالُواْ ءامَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ‏}‏ يعنون الأصنام أو سائر آلهتهم الباطلة‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ أي عند رؤية عذابنا لأن الحكمة الإلهية قضت أن لا يقبل مثل ذلك الإيمان، و‏{‏أيمانهم‏}‏ رفع بيك اسماً لها أو فاعل ‏{‏يَنفَعُهُمْ‏}‏ وفي ‏{‏يَكُ‏}‏ ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد، ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لإفادة معنى نفي الصحة فكأنه لم يصح ولم يستقم حكمة نفع إيمانهم إياهم عند رؤية العذاب، وههنا أربعة فاءات فاء ‏{‏فَمَا أغنى‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 82‏]‏ وفاء ‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 83‏]‏ وفاء ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْاْ‏}‏ وفاء ‏{‏فَلَمْ يَكُ‏}‏ فالفاء الأولى‏:‏ مثلها في نحو قولك‏:‏ رزق المال فمنع المعروف فما بعدها نتيجة مآلية لما كانوا فيه من التكاثر بالأموال والأولاد والتمتع بالحصون ونحوها، والثانية‏:‏ تفسيرية مثلها في قولك‏:‏ فلم يحسن إلى الفقراء بعد فمنع المعروف في المثال فما بعدها إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَاقَ بِهِم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 83‏]‏ إيضاح لذلك المجمل وأنه كيف انتهى بهم الأمر إلى عكس ما أملوه وأنهم كيف جمعوا واحتشدوا وأوسعوا في إطفاء نور الله وكيف حاق المكر السيء بأهله إذ كان في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَا أغنى عَنْهُمْ‏}‏ إيماءً بأنهم زاولوا أن يجعلوها مغنية، والثالثة‏:‏ للتعقيب، وجعل ما بعدها تابعاً لما قبلها واقعاً عقيبه ‏{‏فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ مترتب على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ‏}‏ الخ تابع له لأنه بمنزلة فكفروا إلا أن ‏{‏فَلَمَّا جَاءتْهُمْ‏}‏ الآية بيان كفر مفصل مشتمل على سوء معاملتهم وكفرانهم بنعمة الله تعالى العظمى من الكتاب والرسول فكأنه قيل‏:‏ فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا، ومثلها الفاء الرابعة فما بعدها عطف على آمنوا دلالة على أن عدم نفع إيمانهم ورده عليهم تابع للإيمان عند رؤية العذاب كأنه قيل‏:‏ فلما رأوا بأسنا آمنوا فلم ينفعهم إيمانهم إذ النافع إيمان الاختيار ‏{‏سُنَّتُ الله التى قَدْ خَلَتْ فِى عِبَادِهِ‏}‏ أي سن الله تعالى ذلك أعني عدم نفع الإيمان عند رؤية البأس سنة ماضية في البعاد، وهي من المصادر المؤكدة ك ‏{‏وعد‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 122‏]‏ الله ‏{‏وصبغة الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 138‏]‏ وجوز انتصابها على التحذير أي احذروا يا أهل مكة سنة الله تعالى في أعداء الرسل‏.‏

‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون‏}‏ أي وقت رؤيتهم البأس على أنه اسم مكان قد استعير للزمان كما سلف آنفاً، وهذا الحكم خاص بإيمان البأس وأما توبة البأس فهي مقبولة نافعة بفضل الله تعالى وكرمه، والفرق ظاهر‏.‏

وعن بعض الأكابر أن إيمان البأس مقبول أيضاً ومعنى ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا‏}‏ أن نفس إيمانهم لم ينفعهم وإنما نفعهم الله تعالى حقيقة به، ولا يخفى عليك حال هذا التأويل وما كان من ذلك القبيل والله تعالى أعلم‏.‏

ومن باب الإشارة في بعض الآيات‏:‏ على ما أشار إليه بعض السادات ‏{‏حم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 1‏]‏ إشارة إلى ما أفيض على قلب محمد صلى الله عليه وسلم من الرحمن فإن الحاء والميم من وسط الاسمين الكريمين، وفي ذلك أيضاً سر لا يجوز كشفه ولما صدرت السورة بما أشار إلى الرحمة وأنها وصف المدعو إليه والداعي ذكر بعد من صفات المدعو إليه وهو الله عز وجل ما يدل على عظم الرحمة وسبقها، وفي ذلك من بشار المدعو ما فيه‏.‏

‏{‏الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ الخ فيه إشارة إلى شرف الإيمان وجلالة قدر المؤمنين وإلى أنه ينبغي للمؤمنين من بني آدم أن يستغفر بعضهم لبعض؛ وفي ذلك أيضاً من تأكيد الدلالة على عظم رحمة الله عز وجل ما لا يخفى ‏{‏فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏ بأن يكون غير مشوب بشيء من مقاصد الدنيا والآخرة ‏{‏يُلْقِى الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ قيل‏:‏ في إطلاق الروح إشارة إلى روح النبوة وهو يلقى على الأنبياء، وروح الولاية ويلقى على العارفين، وروح الدراية ويلقى على المؤمنين الناسكين ‏{‏لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 15‏]‏ قيل التلاقي مع الله تعالى ولا وجود لغيره تعالى وهو مقام الفناء المشار إليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ هُم بارزون‏}‏ من قبور وجودهم ‏{‏لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَىْء لّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 16‏]‏ إذ ليس في الدار غيره ديار ‏{‏اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ من التجلي ‏{‏بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ في بذل الوجود للمعبود ‏{‏لاَ ظُلْمَ اليوم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 17‏]‏ فتنال كل نفس من التجلي بقدر بذلها من الوجود لا أقل من ذلك ‏{‏‏.‏ ‏{‏وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الازفة إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كاظمين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 18‏]‏ هذه قيامة العوام المؤجلة ويشير إلى قيامة الخواص المعجلة لهم، فقد قيل‏:‏ إن لهم في كل نفس قيامة من العتاب والعقاب والثواب والبعاد والاقتراب وما لم يكن لهم في حساب، وخفقان القلب ينطق والنحول يخبر واللون يفصح والمشوق يستر ولكن البلاء يظهر، وإذا أزف فناء الصفات بلغت القلوب الحناجر وشهدت العيون بما تخفي الضمائر ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاعين وَمَا تُخْفِى الصدور‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 19‏]‏ خائنة أعين المحبين استحسانهم تعمد النظر إلى غير المحبوب باستحسان واستلذاذ وما تخفيه الصدور من متمنيات النفوس ومستحسنات القلوب ومرغوبات الأرواح ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ قيل أي اطلبوني مني أجبكم فتجدوني ومن وجدني وجد كل شيء فالدعاء الذي لا يرد هو هذا الدعاء، ففي بعض الأخبار من طلبني وجدني ‏{‏إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى‏}‏ دعائي وطلبي ‏{‏سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ‏}‏ الحرمان والبعد مني ‏{‏داخرين‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ ذليلين مهينين ‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ والنهار مُبْصِراً‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 61‏]‏ فيه إشارة إلى ليل البشرية ونهار الروحانية، وذكر أن سكون الناس في الليل المعروف على أقسام فأهل الغفلة يسكنون إلى استراحة النفوس والأبدان، وأهل الشهوة يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم من الرجال والنسوان، وأهل الطاعة يسكنون إلى حلاوة أعمالهم وقوة آمالهم‏.‏

وأهل المحبة يسكنون إلى أنين النفوس وحنين القلوب وضراعة الإسرار واشتعال الأرواح بالأشواق التي هي أحر من النار ‏{‏الله الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض قَرَاراً‏}‏ يشير إلى أنه تعالى جعل أرض البشرية مقراً للروح ‏{‏والسماء‏}‏ بناء أي سماء الروحانية مبنية عليها ‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 64‏]‏ بأن جعلكم مرايا جماله وجلاله، وفي الخبر «خلق الله تعالى آدم على صورته» وفي ذلك إشارة إلى رد ‏{‏أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدماء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 30‏]‏ ولله تعالى من قال‏:‏

ما حطك الواشون عن رتبة *** عندي ولا ضرك مغتاب

كأنهم أثنوا ولم يعلموا *** عليك عندي بالذي عابوا

والكافر لسوء اختياره التحق بالشياطين وصار مظهراً لصفات القهر من رب العالمين ‏{‏وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين‏}‏، ‏[‏الزخرف‏:‏ 76‏]‏ تم الكلام على سورة المؤمن والحمد لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً‏.‏

‏[‏سورة فصلت‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏حم‏}‏ أن جعل اسماً للسورة أو القرآن فهو إما خبر لمحذوف أو مبتدأ خبره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ على المبالغة أو التأويل المشهور، وهو على الأول خبر بعد خبر، وخبر مبتدأ محذوف أن جعل ‏{‏حم‏}‏ مسروداً على نمط التعديد عند الفراء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنَ الرحمن الرحيم‏}‏ من تتمته مؤكد لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أو خبر آخر للمبتدأ المحذوف أو تنزيل مبتدأ لتخصصه بما بعده خبره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏كتاب‏}‏ وحكي ذلك عن الزجاج‏.‏ والحوفي، وهو على الأوجه الأول بدل منه أو خبر آخر أو خبر لمحذوف، وجملة ‏{‏فُصّلَتْ ءاياته‏}‏ على جميع الأوجه في موضع الصفة لكتاب، وإضافة التنزيل إلى ‏{‏الرحمن الرحيم‏}‏ من بين أسمائه تعالى للإيذان بأنه مدار للمصالح الدينية والدنيوية واقع بمقتضى الرحمة الربانية حسبما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 107‏]‏ وتفصيل آياته تمييزها لفظاً بفواصلها ومقاطعها ومبادىء السور وخواتمها، ومعنى بكونها وعداً ووعيداً وقصصاً وأحكاماً إلى غير ذلك بل من أنصف علم أنه ليس في بدء الخلق كتاب اجتمع فيه من العلوم والمباحث المتباينة عبارة وإشارة مثل ما في القرآن‏.‏ وعن السدي ‏{‏فُصّلَتْ ءاياته‏}‏ أي بينت ففصل بين حرامه وحلاله وزجره وأمره ووعده ووعيده، وقال الحسن‏:‏ فصلت بالوعد والوعيد، وقال سفيان‏:‏ بالثواب والعقاب، وما ذكرنا أولاً أعم ولعل ماذ كروه من باب التمثيل لا الحصر، وقيل‏:‏ المراد فصلت آياته في التنزيل أي لم تنزل جملة واحدة وليس بذاك‏.‏ وقرىء ‏{‏فُصّلَتْ‏}‏ بفتح الفاء والصاد مخففة أي فرقت بين الحق والباطل، وقال ابن زيد‏:‏ بين النبي صلى الله عليه وسلم ومن خالفه على أن فصل متعد أو فصل بعضها من بعض باختلاف الفواصل والمعاني على أن فصل لازم بمعنى انفصل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَصَلَتِ العير‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 94‏]‏ وقرىء ‏{‏فُصّلَتْ‏}‏ بضم الفاء وكسر الصاد مخففة على أنه مبني للمفعول والمعنى على ما مر ‏{‏قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ نصب على المدح بتقدير أعني أو أمدح أو نحوه أو على الحال فقيل‏:‏ من ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ لتخصصه بالصفة، وقيل‏:‏ من ‏{‏ءاياته‏}‏ وجوز في هذه الحال أن تكون مؤكدة لنفسها وأن تكون موطئة للحال بعدها، وقيل‏:‏ نصب على المصدر أي يقرؤه قرآناً، وقال الأخفش‏:‏ هو مفعول ثان لفصلت، وهو كما ترى إن لم تكن أخفش، وأياً ما كان ففي ‏{‏قُرْءاناً عَرَبِيّاً‏}‏ امتنان بسهولة قراءته وفهمه لنزوله بلسان من نزل بين أظهرهم ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي معانيه لكونه على لسانهم على أن المفعول محذوف أو لأهل العلم والنظر على أن الفعل منزل منزلة اللازم ولام ‏{‏لِقَوْمٍ‏}‏ تعليلية أو اختصاصية وخصهم بذلك لأنهم هم المنتفعون به والجار والمجرور إما في موضع صفة أخرى لقرآناً أو صلة لتنزيل أو لفصلت قال الزمخشري‏:‏ ولا يجوز أن يكون صفة مثل ما قبله وما بعده أي قرآناً عربياً كائناً لقوم عرب لئلا يفرق بين الصلات والصفات، ولعله أراد لئلا يلزم التفريق بين الصفة وهي قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏ وموصوفها وهو ‏{‏قُرْءاناً‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 3‏]‏ بناءً على أنه صفة له بالصلة وهي ‏{‏لِقَوْمٍ‏}‏ على تقدير تعلقه بتنزيل أو بفصلت وبين الصلة وموصولها بالصفة أي ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ أو ‏{‏فُصّلَتْ‏}‏ و‏{‏لِقَوْمٍ‏}‏ والجمع للمبالغة على حد قولك لمن يفرق بين أخوين‏:‏ لا تفعل فإن التفريق بين الأخوان مذموم أو أراد لئلا يفرق بين الصلتين في الحكم مع عدم الموجب للتفريق وهو أن يتصل ‏{‏مّنَ الرحمن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 2‏]‏ بموصوله ولا يتصل ‏{‏لِقَوْمٍ يعملون‏}‏

وكذلك بين الصفتين وهو ‏{‏عَرَبِيّاً‏}‏ بموصوفه ولا يتصل ‏{‏بَشِيراً‏}‏ والجمع لذلك أيضاً‏.‏ واختار أبو حيان كون الجار والمجرور صلة ‏{‏فُصّلَتْ‏}‏ وقال‏:‏ يبعد تعلقه بتنزيل لكونه وصف قبل أخذ متعلقه إن كان ‏{‏مّنَ الرحمن‏}‏ في موضع الصفة أو أبدل منه ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ أو كان خبراً لتنزيل فيكون في ذلك البدل من الموصول أو الإخبار عنه أخذه متعلقه وهو لا يجوز ولعل ذلك غير مجمع عليه، وكون ‏{‏بَشِيراً‏}‏ صفة ‏{‏قُرْءاناً‏}‏ هو المشهور، وجوز أن يكون مع ما عطف عليه حال من ‏{‏كِتَابٌ‏}‏ أو من ‏{‏ءاياته‏}‏ وقرأ زيد بن علي ‏{‏بَشِيرٍ‏}‏ ونذير برفعهما وهي رواية شاذة عن نافع على الوصفية لكتاب أو الخبرية لمحذوف أي هو بشير لأهل الطاعة ونذير لأهل المعصية ‏{‏فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ‏}‏ عن تدبره وقبوله، والضمير للقوم على المعنى الأول ليعلمون وللكفار المذكورين حكماً على المعنى الثاني، ويجوز أن يكون للقوم عليه أيضاً بأن يراد به ما من شأنهم العلم والنظر ‏{‏فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي لا يقبلون ولا يطيعون من قولك‏:‏ تشفعت إلى فلان فلم يسمع قولي ولقد سمعه ولكنه لما لم يقبله ولم يعمل بمقتضاه فكأنه لم يسمعه وهو مجاز مشهور‏.‏

وفي «الكشف» أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَعْرَضَ‏}‏ مقابل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 3‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ مقابل قوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏بَشِيراً وَنَذِيراً‏}‏ أي أنكروا إعجازه والإذعان له مع العلم ولم يقبلوا بشائره ونذره لعدم التدبر‏.‏