فصل: تفسير الآية رقم (5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ‏}‏ أي أغطية متكاثفة ‏{‏مّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ‏}‏ من الإيمان بالله تعالى وحده وترك ما ألفينا عليه آباءنا و‏{‏مِنْ‏}‏ على ما في «البحر» لابتداء الغاية ‏{‏وَفِى ءاذانِنَا وَقْرٌ‏}‏ أي صمم وأصله الثقل‏.‏

وقرأ طلحة بكسر الواو وقرىء بفتح القاف ‏{‏وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ غليظ يمنعنا عن التواصل ومن للدلالة على أن الحجاب مبتدأ من الجانبين بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ولم يبق ثمت فراغ أصلاً‏.‏

وتوضيحه أن البين بمعنى الوسط بالسكون وإذا قيل‏:‏ بيننا وبينك حجاب صدق على حجاب كائن بينهما استوعب أولاً، وأما إذا قيل‏:‏ من بيننا فيدل على أن مبتدأ الحجاب من الوسط أعني طرفه الذي يلي المتكلم فسواء أعيد ‏{‏مِنْ‏}‏ أو لم يعد يكون الطرف الآخر منتهى باعتبار ومبتدأ باعتبار فيكون الظاهر الاستيعاب لأن جميع الجهة أعني البين جعل مبتدأ الحجاب فالمنتهى غيره البتة، وهذا كاف في الفرق بين الصورتين كيف وقد أعيد البين لاستئناف الابتداء من تلك الجهة أيضاً إذ لو قيل‏:‏ ومن بيننا بتغليب المتكلم لكفى، ثم ضرورة العطف على نحو بيني وبينك إن سلمت لا تنافي إرادة الإعادة له فتدبر، وما ذكروه من الجمل الثلاث تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وأرادوا بذلك إقناطه عليه الصلاة والسلام عن اتباعهم إياه عليه الصلاة والسلام حتى لا يدعوهم إلى الصراط المستقيم‏.‏

وذكر أبو حيان أنه لما كان القلب محل المعرفة والسمع والبصر معينان على تحصيل المعارف ذكروا أن هذه الثلاثة محجوبة عن أن يصل إليها مما يلقيه الرسول صلى الله عليه وسلم شيء ولم يقولوا على قلوبنا أكنة كما قالوا‏:‏ وفي آذاننا وقر ليكون الكلام على نمط واحد في جعل القلوب والآذان مستقر الأكنة والوقر وإن كان أحدهما استقرار استعلاء والثاني استقرار احتواء إذ لا فرق في المعنى بين قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة والدليل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ أن يفقهوه ولو قيل إنا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى فالمطابقة حاصلة من حيث المعنى والمطابيع من العرب لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني، واختصاص كل من العبارتين بموضعه للتفنن على أنه لما كان منسوباً إلى الله تعالى في سورة بني إسرائيل والكهف كان معنى الاستعلاء والقهر أنسب، وههنا لما كان حكاية عن مقالهم كان معنى الاحتواء أقرب، كذا حققه بعض الأجلة ودغدغ فيه، وتفسير الأكنة بالأغطية هو الذي عليه جمهور المفسرين فهي جمع كنان كغطاء لفظاً ومعنى‏:‏ وقيل‏:‏ هي ما يجعل فيها السهام‏.‏

أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عن مجاهد أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ‏}‏ قالوا كالجعبة للنبل ‏{‏فاعمل‏}‏ على دينك وقيل في إبطال أمرنا ‏{‏إِنَّنَا عاملون‏}‏ على ديننا وقيل‏:‏ في إبطال أمرك والكلام على الأول متاركة وتقنيط عن اتباعه عليه الصلاة والسلام، ومقصودهم أننا عاملون، والأول‏:‏ توطئة له، وحاصل المعنى أنا لا نترك ديننا بل نثبت عليه كما نثبت على دينك، وعلى الثاني‏:‏ هو مبارزة بالخلاف والجدال، وقائل ما ذكر أبو جهل ومعه جماعة من قريش‏.‏

ففي خبر أخرجه أبو سهل السري من طريق عبد القدوس عن نافع بن الأزرق عن ابن عمر عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية أقبلت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم‏:‏ ما يمنعكم من الإسلام فتسودوا العرب‏؟‏ فقالوا‏:‏ يا محمد ما نفقه ما تقول ولا نسمعه وان على قلوبنا لغلفا وأخذ أبو جهل ثواباً فمده فيما بينه وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ يا محمد قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، وفيه فلما كان من الغد أقبل منهم سبعون رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد اعرض علينا الإسلام فلما عرض عليهم الإسلام أسلموا عن آخرهم فتبسم النبي عليه الصلاة والسلام وقال‏:‏ الحمد الله بالأمس تزعمون أن على قلوبكم غلفا وقلوبكم في أكنة مما أدعوكم إليه وفي آذانكم وقرأ وأصبحتم اليوم مسلمين فقالوا‏:‏ يا رسول الله كذبنا والله بالأمس لو كذلك ما اهتدينا أبداً ولكن الله تعالى الصادق والعباد الكاذبون عليه وهو الغني ونحن الفقراء إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ لست ملكاً ولا جنياً لا يمكنكم التلقي منه، وهو رد لقولهم‏:‏ ‏{‏بيننا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏يوحى إِلَىَّ أَنَّمَا إلهكم إله وَاحِدٌ‏}‏ أي ولا أدعوكم إلى ما عنه العقول وإنما أدعوكم إلى التوحيد الذي دلت عليه دلائل العقل وشهدت له شواهد السمع، وهذا جواب عن قولهم‏:‏ ‏{‏قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏فاستقيموا إِلَيْهِ‏}‏ فاستووا إليه تعالى بالتوحيد واخلاص العبادة ولا تتمسكوا بعرا الشرك وتقولوا لمن يدعوكم إلى التوحيد‏:‏ قلوبنا في أكنة الخ ‏{‏واستغفروه‏}‏ مما سلف منكم من القول والعمل وهذا وجه لا يخلو عن حسن في ربط الأمر بما قلبه، وفي إرشاد العقل السليم أي لست من جنس مغاير لكم حتى يكون بيني وبينكم حجاب وتباين مصحح لتباين الأعمال والاديان كما ينبىء عنه قولكم‏:‏ ‏{‏فاعلم إِنَّنَا عاملون‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ بل إنما أن بشر مثلكم مأمور بما آمركم به حيث أخبرنا جميعاً بالتوحيد بخطاب جامع بيني وبينكم، فإن الخطاب في ‏{‏ألهاكم‏}‏ محكى منتظم للكل لا أنه خطاب منه عليه الصلاة والسلام للكفرة كما في مثلكم وهو مبني على اختيار الوجه الأول في ‏{‏فاعلم إِنَّنَا عاملون‏}‏ ولا بأس به من هذه الجهة نعم فيه قصور من جهة أخرى، وقال صاحب الفرائد‏:‏ ليس هذا جواباً لقولهم إذ لا يقتضي أن يكون له جواب، وحاصله لا تتركهم وما يدينون لقولهم ذلك المقصود منه أن تتركهم، سلمنا أنه جواب كلن المراد منه أني بشر فلا أقدر أن أخرج قلوبكم من الأكنة وأرفع الحجاب من البين والوقر من الآذان ولكني أوحى إلي وأمرت بتبليغ ‏{‏أَنَّمَا إلهكم إله واحد‏}‏ وللإمام كلام قريب مما ذكر في حيز التسليم، وكلا الكلامين غير واف بجزالة النظم الكريم، وجعله الزمخشري جواباً من أن المشركين طالما يتمسكون في رد النبوة بأن مدعيها بشر ويجب أن يكون ملكاً ولا يجوز أن يكون بشراً ولذا لا يصغون إلى قول الرسول ولا يتفكرون فيه فقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ إني لست بملك وإنما أنا بشر من باب القلب عليهم لا القول بالموجب ولا من الأسلوب الحكيم في شيء كما قيل كأنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ما تمسكتم به في رد نبوتي من أني بشر هو الذي يصحح نبوتي إذ لا يحسن في الحكمة أن يرسل إليكم الملك فهذا يوجب قبولكم لا الرد والغلو في الأعراض‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يُوحِى إِلَىَّ إِنَّمَا إلهكم‏}‏ تمهيد للمقصود من البعثة بعد إثبات النبوة أولاً مفصلاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 1‏]‏ الآيات ومجملاً ثانياً بقوله‏:‏ ‏{‏يوحى إِلَىَّ‏}‏ ثم قيل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا إلهكم‏}‏ بياناً للمقصود فقوله ‏{‏يُوحَى‏}‏ إلى مسوق للتمهيد، وفيه رمز إلى إثبات النبوة، وهذا المعنى على القول بأن المراد من ‏{‏فاعمل‏}‏ الخ فاعمل في إبطال أمرنا إننا عاملون في إبطال أمرك ظاهر، وأما على القول الأول فوجهه أن الدين هو جملة ما يلتزمه المبعوث إليه من طاعة الباعث تعالى بواسطة تبليغ المبعوث فهو مسبب عن نبوته المسببة عن دليلها فأظهروا بذلك أنهم منقادون لما قرر لديهم آباؤهم من منافاة النبوة للبشرية وأنه دينهم فقيل لهم ما قيل، وهو على هذا الوجه أكثر طباقاً وأبلغ، وهذا حسن دقيق وما ذكر أولا أسرع تبادراً، وفي الكشف أن ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يوحى إِلَىَّ‏}‏ في مقابلة إنكارهم الاعجاز والنبوة وقوله‏:‏ ‏{‏فاستقيموا‏}‏ يقابل عدم القبول وفيه رمز إلى شيء مما سمعت فتأمل، وقرأ ابن وثاب‏.‏ والأعمش ‏{‏قَالَ إِنَّمَا‏}‏ فعلا ماضياً، وقرأ النخعي‏.‏ والأعمش ‏{‏يُوحَى‏}‏ بكسر الحاء على أنه مبني للفاعل أي يوحي الله إلى أنما الهكم إله واحد‏.‏

‏{‏وَوَيْلٌ لّلْمُشْرِكِينَ‏}‏ من شركهم بربهم عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكواة‏}‏ لبخلهم وعدم اشفاقهم على الخلق وذلك من أعظم الرذائل ‏{‏وَهُمْ بالاخرة هُمْ كافرون‏}‏ مبتدأ وخبر وهم الثاني ضمير فصل و‏{‏بالاخرة‏}‏ متعلق بكافرون، والتقديم للاهتمام ورعاية الفاصلة، والجملة حال مشعرة بأن امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في الدنيا وإنكارهم للآخرة، وحمل الزكاة على معناها الشرعي مما قاله ابن السائب، وروي عن قتادة‏.‏ والحسن‏.‏ والضحاك، ومقاتل، وقيل‏:‏ الزكاة بالمعنى اللغوى أي لا يفعلون ما يزكي أنفسهم وهو الإيمان والطاعة‏.‏

وعن مجاهد‏.‏ والربيع لا يزكون أعمالهم، وأخرج ابن جرير‏.‏ وجماعة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ في ذلك أي لا يقولون لا إله إلا الله وكذا الحكيم الترمذي‏.‏ وغيره عن عكرمة فالمعنى حينئذ لا يطهرون أنفسهم من الشرك، واختار ذلك الطيبي قال‏:‏ والمعنى عليه فاستقيموا إليه التوحيد واخلاص العبادة له تعالى وتوبوا إليه سبحانه مما سبق لكم من الشرك وويل لكم إن لم تفعلوا ذلك كله فوضع موضعه منع إيتاء الزكاء ليؤذن بأن الاستقامة على التوحيد واخلاص العمل لله تعالى والتبري عن الشرك هو تزكية النفس، وهو أوفق لتأليف النظم، وما ذهب إليه حبر الأمة إلا لمراعاة النظم

‏[‏بم وجعل قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ أي غير مقطوع مذكوراً على جهة الاستطراد تعريضاً بالمشركين وان نصيبهم مقطوع حيث بم يزكوا أنفسهم كما زكوا، واستدل على الاستطراد بالآية بعد، وفي الكشف القول الأول أظهر والمشركون باق على عمومه لا من باب إقامة الظاهر مقام المضمر كهذا القول وأن الجملة معترضة كالتعليل لما أمرهم به وكذلك ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ الآية لأنه بمنزلة وويل للمشركين وطوبى للمؤمنين، وفيهما من التحذير والترغيب ما يؤكد أن الأمر بالإيمان والاستقامة تأكيداً لا يخفى حاله على ذي لب، وكذلك الزكاة فيه على الظاهر، وخص من بين أوصاف الكفرة منعها لما أنها معيار على الإيمان المستكن في القلب كيف، وقد قيل‏:‏ المال شقيق الروح بل قال بعض الأدباء‏:‏

وقالوا شقيق الروح مالك فاحتفظ *** به فأجبت المال خير من الروح

أرى حفظه يقضي بتحسين حالتي *** وتضييعه يفضي لتسآل مقبوح

والصرف عن الحقيقة الشرعية الشائعة من غير موجب لا يجوز كيف ومعنى الايتاء لا يقر قراره، نعم لو كان بدله يأتون كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 54‏]‏ لحسن لا يقال‏:‏ إن الزكاة فرضت بالمدينة والسورة مكية لأنا نقول‏:‏ إطلاق الاسم على طائفة مخرجة من المال على وجه من القربة مخصوص كان شائعاً قبل فرضيتها بدليل شعر أمية بن أبي الصلت الفاعلون للزكوات، على أن هذا الحق على هذا الوجه المعروف فرض بالمدينة، وقد كان في مكة فرض شيء من المال يخرج إلى المستحق لا على هذا الوجه وكان يسمى زكاة أيضاً ثم نسخ انتهى‏.‏

ومنه يعلم سقوط ما قاله الطيبي‏.‏ بقي مخالفة الحبر وهي لا تتحقق إلا إذا تحقق الرواية عنه وبعده الأمر أيضاً سهل، ولعله رضي الله تعالى عنه كان يقرأ لا يأتون من الاتيان إذ القراءة المشهورة تأبى ذلك إلا بتأويل بعيد، والعجب نسبة ما ذكر عن الحبر في البحر إلى الجمهور أيضاً، وحمل الآية على ذلك مخلص بعض ممن لا يقول بتكليف الكفار بالفروع لكن لا يخفى حال الحمل وهي على المعنى المتبادر دليل عليه ومن لا يقول به قال‏:‏ هم مكلفون باعتقاد حقيتها دون إيقاعها والتكليف به بعد الإيمان فمعنى الآية لا يؤتون الزكاة بعد الإيمان، وقيل‏:‏ المعنى لا يقرون بفرضيتها، والقول بتكليف المجنون أقرب من هذا التأويل، وقيل كلمة ‏{‏وَيْلٌ‏}‏ تدل على الذم لا التكليف وهو مذموم عقلاً، وفيه بحث لا يخفى؛ هذا وقيل‏:‏ في ‏{‏مَمْنُونٍ‏}‏ لا يمن به عليهم من المن بمعنى تعداد النعم، وأصل معناه الثقل فأطلق على ذلك لثقله على المممنون عليه، وعن ابن عباس تفسيرهبالمنقوص، وأنشدوا لذي الأصبع العدواني‏:‏

أني لعمرك ما بأبي بذي غلق *** عن الصديق ولا زادي بممنون

والآية على ما روي عن السدى نزلت في المرضى والهرمي إذا عجزوا عن كمال الطاعات كتب لهم من الأجر في المرض والهرم مثل الذي كان يكتب لهم وهم أصحاء وشبان ولا تنقص أجورهم وذلك من عظيم كرم الله تعالى ورحمته عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الارض فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ إلى آخر الآيات والكلام فيها كثير ومنه ما ليس بالمشهور ولنبدى بما هو المشهور وبعد التمام نذكر الآخر فنقول‏:‏ هذا إنكار وتشنيع لكفرهم، وان واللام إما لتأكيد الإنكار وتقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة لا لانكار التأكيد وأما للإشعار بأن كفرهم من البعد بحيث ينكر العقلاء وقوعه فيحتاج إلى التأكيد، وعلق سبحانه كفرهم بالموصول لتفخيم شأنه تعالى واستعظام كفرهم به عز وجل، والظاهر أن المراد بالأرض الجسم المعروف، وقيل‏:‏ لعل المراد منها ما في جهة السفل من الإجرام الكثيفة واللطيفة من التراب والماء والهواء تجوزاً باستعمالها في لازم المعنى على ما قيل بقرينة المقابلة وحملت على ذلك لئلا يخلو الكلام عن التعرض لمدة خلق ما عدا التراب، ومن خلقها في يومين أنه سبحانه خلق لها أصلاً مشتركاً ثم خلق لها ثوراً بها تنوعت إلى أنواع، والويم في المشهور عبارة عن زمان كون الشمس فوق الأفق واريد منه ههنا الوقت مطلقاً لأنه لا يتصور ذلك قبل خلق السماء والكواكب والأرض نفسها ثم إن ذلك الوقت يحتمل أن يكون بمقدار اليوم المعروف ويحتمل أن يكون أقل منه أو أكثر والأقل أنسب بالمقام، وأياً ما كان فالظاهر أن اليومين ظرفان لخلق الأرض مطلقاً من غيرتوزيع‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ إنه تعالى خلق أصلها ومادها في يوم وصورها وطبقاتها في آخر، وقال في إرشاد العقل السليم المراد بخلق الأرض تقدير وجودها أي حكم بأنها ستوجد في يومين مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ والمراد بكفرهم به تعالى الحادهم في ذاته سبحانه وصفاته عز وجل وخروجهم عن الحق اللازم له جل شأنه على عباده من توحيهده واعتقاد ما يليق بذاته وصفاته جل جلاله فلا ينزهونه تعالى عن صفات الأجسام ولا يثبتون له القدرة التامة والنعوت واللائقة به سبحانه وتعالى ولا يعترفون بإرساله تعالى الرسل وبعثه سبحانه الأموات حتى كأنهم يزعمون انه سبحانه خلق العباد عبثاً وتركهم سدى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً‏}‏ عطف على تكفرون داخل معه في حكم الإنكار والتوبيخ، وجعله حالاً من الضمير ‏{‏خُلِقَ‏}‏ لا يخفى حاله، وجمع الأنداد باعتبار ما هو الواقع لا بأن يكون مدار الإنكار هو التعدد أي وتجعلون له أنداداً واكفاء من الملائكة والجن وغيرهم والحال أنه لا يمكن أن يكون له سبحانه ند واحد ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإيذان ببعد منزلته في العظمة، وافراد الكاف لما أن المراد ليس تعيين المخاطبين، وهو مبتدأ خبره ما بعده أي ذلك العظيم الشأن الذي فعل ما ذكر في مدة يسيرة ‏{‏رَبّ العالمين‏}‏ أي خالق جميع الموجودات ومربيها دون الأرض خاصة فكيف يتصور أن يكون شيء من مخلوقاته ندا له عز وجل

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ‏}‏ على ما اختاره غير واحد عطف على ‏{‏خَلَقَ الارض‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ داخل في حكم الصلة، ولا ضير في الفصل بينهما بالجملتين المذكورتين لأن الأولى متحدة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَكْفُرُونِ‏}‏ بمنزلة إعادتها والثانية معارضة مؤكدة لمضمون الكلام فالفصل بهما كلا فصل، وفيه بلاغة من حيث المعنى لدلالته على أن المعطوف عليه أي ‏{‏خَلَقَ الارض‏}‏ كاف في كونه تعالى رب العالمين وأن لا يجعل له ند فكيف إذا انضمت إليه هذه المعطوفات‏.‏

وتعقب بأن الاتحاد لا يخرجه عن كونه فاصلاً مشوشاً للذهن مورثاً للتعقيد فالحق والأقرب أن تجعل الواو اعتراضية وكل من الجملتين معترض ليندفع بالاعتراض الاعتراض أو يجعل ابتداء كلام بناء على أنه يصدر بالواو يقال‏:‏ هو معطوف على مقدر كخلق، واختار هذا الأخير صاحب الكشف فقال‏:‏ أوجه ما ذكر فيه أنه عطف على مقدر بعد ‏{‏رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ أي خلقها وجعل فيها رواسي فكأنه ساق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الارض فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ أولاً رداً عليهم في كفرهم ثم ذكره ثانياً تتميماً للقصة وتأكيداً للإنكار، وليس سبيل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ رَبُّ‏}‏ سبيل الاعتراض حتى تجعل الجملة عطفاً على الصلة ويعتذر عن تخلل ‏{‏تجعلون‏}‏ عطفاً على ‏{‏وَلاَ تَكْفُرُونِ‏}‏ باتحاده بما قبله على أسلوب ‏{‏وَصُدَّ سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 217‏]‏ وذلك لأنه مقصود لذاته في هذا المساق وهو ركن للإنكار مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذى خَلَقَ الارض‏}‏ وأكد على ما لا يخفى على ذي بصيرة‏.‏

والرواسي الجبال من رسا إذا ثبت، والمراد بجعلها إبداعها بالفعل، وفي الإرشاد المراد تقدير الجعل لا الجعل بالفعل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن فَوْقِهَا‏}‏ متعلق بجعل أو بمحذوف صفة لرواسي أي كائنة من فوقها والضمير للأرض وفي ذلك استخدام على ما قيل في المراد منها لأن الجبال فوق الأرض المعروفة لا فوق جميع الأجسام السفلية والبسائط العنصرية، وفائدة ‏{‏مّن فَوْقِهَا‏}‏ الإرشاد إلى أنها جعلت مرتفعة عليها لا تحتها كالأساطين ولا مغروزة فيها كالمسامير لتكون منافعها معرضة لأهلها ويظهر للنظار ما فيها من مراصدالاعتبار ومطارح الأفكار؛ ولعمري أن في ارتفاعها من الحكم التكوينية ما تدهش منه العقول، والآية لا تأبى أن يكون في المغمور من الأرض في الماء جبالاً كما لا يخفى والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏وبارك فِيهَا‏}‏ أي كثر خيرها، وفي الإرشاد قدر سبحانه أن يكثر خيرها بأن يكثر فيها أنواع النباتات وأنواع الحيوانات التي من جملتها الإنسان ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها‏}‏ أي بين كميتها وأقدارها، وقال في الإرشاد‏:‏ أي حكم بالفعل بأن يوجد فيما سيأتي لأهلها من الأنواع المختلفة أقواتها المناسبة لها على مقدار معين تقتضيه الحكمة والكلام على تقدير مضاف، وقيل‏:‏ لا يحتاج إلى ذلك والإضافة لأدنى ملابسة، وإليه يشير كلام السدى حيث قال‏:‏ أضاف الأقوات إليها من حيث هي فيها وعنها برزت، وفسر مجاهد الأقوات بالمطر والمياه‏.‏

وفي رواية أخرى عنه وإليه ذهب عكرمة‏.‏ والضحاك أنها ما خص به كل إقليم من الملابس والمطاعم والنباتات ليكون الناس محتاجين بعضهم لبعض وهو مقتض لعمارة الأرض وانتظام أمور العالم، ويؤيد هذا قراءة بعضهم ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها‏}‏ ‏{‏فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ‏}‏ متعلق بحصول الأمور المذكورة لا بتقديرها على ما في إرشاد العقل السليم، والكلام على تقدير مضاف أي قدر حصولها في تتمة أربعة أيام؛ وكان الزجاج يعلقه بقدر كما هو رأي الإمام أبي حنيفة في القيد إذا وقع متعاطفات نحو أكرمت زيداً وضربت عمراً ورأيت خالداً في الدار، والشافعي يقول‏:‏ المتعقب للجمل يعود إليها جميعاً لأن الأصل اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في المتعلقات فيكون القيد هنا عائداً إلى جعل الرواسي وما بعده وهو الذي يتبادر إلى فهمي ولا بد من تقدير المضاف الذي سمعت وقد صرح الزجاج بتقديره ولم يقدره الزمخشري وجعل الجار متعلقاً بمحذوف وقع خبراً لمبتدأ محذوف أي كل ذلك من خلق الأرض وما بعده كائن في أربعة أيام على أنه فذلكة أي كلام منقطع أتى به لجمل ما ذكر مفصلاً مأخوذة من فذلكة الحساب وقولهم‏:‏ فذلك كذا بعد استقرار الجمع فما نحن فيه الحق فيه أيضاً جملة من العدد بجملة أخرى وجعله كذلك لا يمنع عطف ‏{‏فِيهَا رَوَاسِىَ رَوَاسِىَ‏}‏ على مقدر لأن الربط المعنوي كاف‏.‏

والقول بأن الفذلكة تقتضي التصريح بذكر الجملتين مثل أن يقال‏:‏ سرت من البصرة إلى واسط في يومين ومن واسط إلى الكوفة في يومين فذلك أربعة أيام وههنا لم ينص إلا على أحد المبلغين غير سديد لأن العلم بالمبلغين في تحقيق الفذلكة كاف على أن المراد أنه جار مجراها وإنما لم يجز الحمل على أن جعل الرواسي وما ذكر عقيبه أو تقدير الأقوات في أربعة أيام لأنه يلزم أن يكون خلق الأرض وما فيها في ستة أيام وقد ذكر بعده أن خلق السموات في يومين فيكون المجموع ثمانية أيام‏.‏

وقد تكرر في كتاب الله تعالى أن خلقهما أعني السموات والأرض في ستة أيام وقيدت الأيام الأربعة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَآء‏}‏ فإنه مصدر مؤكد لمضمر هو صفة لأيام أي استوت سواء أي استواء كما يدل عليه قراءة زيد بن علي، والحسن‏.‏ وابن أبي إسحق‏.‏ وعمرو بن عبيد‏.‏ وعيسى‏.‏ ويعقوب ‏{‏سَوَآء‏}‏ بالجر فإنه صريح في الوصفية وبذلك يضعف القول بكونه حالاً من الضمير في ‏{‏أقواتها‏}‏ مع قلة الحال من المضاف إليه في غير الصور الثلاثة ولزوم تخالف القراءتين في المعنى‏.‏

ويعلم من ذلك أنه على قراءة أبي جعفر بالرفع يجعل خبراً لمبتدأ محذوف أي هي سواء وتجعل الجملة صفة لأيام أيضاً لا حالاً من الضمير لدفع التجوز فإنه شائع في مثل ذلك مطرد في عرفي العرب والعجم فتراهم يقولون‏:‏ فعلته في يومين ويريدون في يوم ونصف مثلاً وسرت أربعة أيام ويريدون ثلاثة ونصفاً مثلاً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحج أَشْهُرٌ معلومات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 197‏]‏ فإن المراد بالأشهر فيه شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر وذلك لأن الزائد جعل فرداً مجازاً‏.‏

ثم أطلق على المجموع اسم العدد الكامل فالمعنى ههنا في أربعة أيام لا نقصان فيها ولا زيادة وكأنه لذلك أوثر ما في التنزيل على أن يقال‏:‏ وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كما قيل أولاً ‏{‏خَلَقَ الارض فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9‏]‏ وحاصله أنه لو قيل ذلك لكان يجوز أن يراد باليومين الأولين والآخيرين أكثرهما وإنما لم يقل خلق الأرض في يومين كاملين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين كاملين أو خلق الأرض في يومين وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في يومين تلك أربعة سواء لأن ما أورده سبحانه أخصر وأفصح وأحسن طباقاً لما عليه التنزيل من مغاصات القرائح ومصاك الركب ليتميز الفاضل من الناقص والمتقدم من الناكص وترتفع الدرجات وتتضاعف المثوبات‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ إن في النظم الجليل دلالة أي مع الاختصار على أن اليومين الأخيرين متصلان باليومين الأولين لتبادره من جعلهما جملة واحدة واتصالهما في الذكر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّلسَّائِلِينَ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع خبراً لبمتدأ محذوف أي هذا الحصر في أربعة كائن للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها، ولا ضير في توالي حذف مبتدأين بناء على ما آثره الزمخشري في الجار والمجرور قبل، وقيل هو متعلق بقدر السابق أي وقدر فيها أقواتها لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها من المقتاتين، وقيل‏:‏ متعلق بمقدر هو حال من الأقوات، والكل لا يستقيم إلا على ما آثره الزجاج دون ما آثره الزمخشري لأن الفذلكة كما يعلم مما سبق لا تكون إلا بعد تمام الجملتين فلا يجوز أن تتوسط بين الجلمة الثانية وبعض متعلقاتها وقيل متعلق بسواء على أنه حال من الضمير والمعنى مستوية مهيأة للمحتاجين أو به على قراءة الرفع وجعله خبر مبتدأ محذوف أي هو أي أمر هذه المخلوقات ونفعها مستو مهيأ للمحتاجين إليه من البشر وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏ أي قصد إليها وتوجه دون إرادة تأثير في غيرها من قولهم‏:‏ استوى إلى مكان كذا إذا توجه إليه لا يلوى على غيره‏.‏

وذكر الراغب أن الاستواء متى عدى بعلى فبمعنى الاستيلاء كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الرحمن عَلَى العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ وإذا عدى بإلى فبمعنى الانتهاء إلى الشيء إما بالذات أو بالتدبير، وعلى الثاني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏ الآية، وكلام السلف في الاستواء مشهور‏.‏

وقد ذكرنا فيما سلف طرفا منه ويشعر ظاهر كلام البعض أن في الكلام مضافاً محذوفاً أي ثم استوى إلى خلق السماء ‏{‏وَهِىَ دُخَانٌ‏}‏ أمر ظلماني ولعله أريد به مادتها التي منها تركبت وأنا لا أقول بالجواهر الفردة لقوة الأدلة على نفيها ولا يلزم من ذلك محذور أصلا كما لا يخفى على الذكي المنصف، وقيل‏:‏ إن عرشه تعالى كان قبل خلق السموات والأرض على الماء فاحدث الله تعالى في الماء سخونة فارتفع زبد ودخان فاما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله تعالى فيه اليبوسة وأحدث سبحانه منه الأرض وأما الدحان فارتفع وعلا فخلق الله تعالى منه السموات‏.‏

وقيل‏:‏ كان هناك ياقوتة حمراء فنظر سبحانه إليها بعين الجلال فذابت وصارت ماء فأزبد وارتفع منه دخان فكان ما كان، وأياً ما كان فليس الدخان كائناً من النار التي هي إحدى العناصر لأنها من توابع الأرض ولم تكن موجودة إذ ذاك على قول كما ستعرف إن شاء الله تعالى، وعلى القول بالوجود لم يذهب أحد إلى تكون ذلك من تلك النار والحق الذي ينبغي أن لا يلتفت إلى ما سواه أن كرة الناء التي يزعمها الفلاسفة المتقدمون ووافقهم كثير من الناس عليها ليست بموجودة ولا توقف لحدوث الشهب على وجودها كما يظهر لذي ذهن ثاقب‏.‏

‏{‏فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا‏}‏ بما خلقت فيكما من المنافع فليس المعنى على اتيان ذاتهما وإيجادهما بل اتيان ما فيهما مما ذكر بمعنى إظهاره والأمر للتسخير قيل ولا بد على هذا أن يكون المترتب بعد جعل السموات سبعاً أو مضمون مجموع الجمل المذكورة بعد الفاء وإلا فالأمر بالاتيان بهذا المعنى مترتب على خلق الأرض والسماء‏.‏

وقال بعض‏:‏ الكلام على التقديم والتأخير والأصل ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقضاهن سبع سموات الخ فقال لها وللأرض ائتيا الخ وهو أبعد عن القيل والقال إلا أنه خلاف الظاهر أو كوناً واحدثا على وجه معين وفي وقت مقدر لكل منكما فالمراد اتيان ذاتهما وإيجادهما فالأمر للتكوين على أن خلق وجعل وبارك وقدر بالمعنى الذي حكيناه عن ارشاد العقل السليم ويكون هذا شروعاً في بيان كيفية التكوين أثر بيان كيفية التقدير، ولعل تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها لما أن بيان اعتنائه تعالى بأمر المخاطبين وترتيب مبادىء معايشهم قبل خلقهم ما يحملهم على الإيمان ويزجرهم عن الكفر والطغيان، وخص الاستواء بالسماء مع أن الخطاب المترتب عليه متوجه إليهما معا اكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها كأنه قيل‏:‏ فقيل لها وللأرض التي قدر وجودها ووجود ما فيها كوناً واحدثا وهذا الوجه هو الذي قدمه صاحب الإرشاد وذكره غيره احتمالاً وجعل الأمر عبارة عن تعلق إرادته تعالى بوجودهما تعلقاً فعلياً بطريق التمثيل من غير أن يكون هناك آمر ومأمور كما قيل في قوله تعالى‏:‏

‏{‏كُنَّ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 68‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏طَوْعاً أَوْ كَرْهاً‏}‏ تمثيلاً لتحتم تأثير قدرته تعالى فيهما واستحالة امتناعهما من ذكل لا إثبات الطوع والكره لهما، وهما مصدران وقعا موقع الحال أي طائعتين أو كارهتين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ أي منقادين تمثيلاً لكمال تأثرهما عن القدرة الربانية وحصولهما كما أمرا به وتصويراً لكون وجودهما كما هما عليه جارياً على مقتضى الحكمة المبالغة فإن الطوع منبىء عن ذلك والكره موهم لخلافه، وقيل‏:‏ ‏{‏طَائِعِينَ‏}‏ بجمع المذكر السالم مع اختصاصه بالعقلاء باعتبار كونهما في معرض الخطاب والجواب ولا وجه للتأنيث عند اخبارهم عن أنفسهم لكون التأنيث بحسب اللفظ فقط

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِى يَوْمَيْنِ‏}‏ تفسيراً وتفصيلاً لتكوين السماء المجمل المعبر عنه بالأمر وجوابه لا أنه فعل مترتب على تكوينهما أي خلقهن خلقاً ابداعياً وأتقن أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة في وقتين وضمير ‏{‏هُنَّ‏}‏ اما للسماء على المعنى لأنه بمعنى السموات ولذا قيل‏:‏ هو اسم جمع فسبع حال من الضمير وإما مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز فهو له وان تأخر لفظاً ورتبة لجوازه في التمييز نحو ربه رجلاً وهو وجه عربي‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ انتصب ‏{‏سَبْعَ‏}‏ على الحال وهو حال مقدرة، وقال بعضهم‏:‏ بدل من الضمير، وقيل‏:‏ مفعول به والتقدير قضى منهن سبع سموات، وقال الحوفي‏:‏ على أنه مفعول ثان على تضمين القضاء معنى التصيير ولم يذكر مقدار زمن خلق الأرض وخلق ما فيها اكتفاء بذكره في بيان تقديرهما، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا‏}‏ عطفاً على ‏{‏قضاهن‏}‏ أي خلق في كل منها ما استعدت له واقتضت الحكمة أن يكون فيها من الملائكة والنيرات وغير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تعالى كما يقتضيه كلام السدى‏.‏ وقتادة فالوحي عبارة عن التكوين كالأمر مقيد بما قيد به المعطوف عليه من الوقت أو أوحى إلى أهل كل منها أو أمره وكلفهم ما يليق بهم من التكاليف كما قيل‏:‏ فالوحي بمعناء المشهور من بين معانيه ومطلق عن القيد المذكور أو مقيد به فيما أرى، واحتمال التقييد والاطلاق جار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السماء الدنيا بمصابيح‏}‏ أي من الكواكب وهي فيها وان تفاوتت في الارتفاع والانخفاض على ما يقتضيه الظاهر أو بعضها فيها وبعضها فيما فوقها لكنها لكونها كلها ترى متلألئة عليها صح كوم تزيينها بها، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز مزيد العناية، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحِفْظاً‏}‏ فهو مفعول مطلق لفعل مقدر معطوف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زَيَّنَّا‏}‏ أي وحفظناها حفظاً، والضمير للسماء وحفظها اما من الآفات أو من الشياطين المسترقة للسمع وتقدم الكلام في ذلك وقيل الضمير للمصابيح وهو خلاف الظاهر، وجوز كونه مفعولاً لأجله على المعنى أي معطوفاً على مفعول له يتضمنه الكلام السابق أي زينة وحفظاً، ولا يخفى أنه تلكف بعيد لا ينبغي القول به مع ظهور الأول وسهولته كما أشار في البحر‏.‏

وجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى جميع الذي ذكر بتفاصيله أي ذلك المذكور ‏{‏تَقْدِيرُ العزيز العليم‏}‏ أي البالغ في القدرة والبالغ في العلم، ثم قال صاحب الإرشاد بعد ما سمعت مما حكى عنه‏:‏ فعلى هذا لا دلالة في الآية الكريمة على الترتيب بين إيجاد الأرض وإيجاد السماء وإنما الترتيب بين التقدير أي تقدير إيجاد الأرض وما فيها وإيجاد السماء وأما على تقدير كون الخلق وما عطف عليه من الأفعال الثلاثة على معانيها الظارة فهي تدل على تقدم خلق الأرض وما فيها وعليه اطباق أكثر أهل التفسير، ولا يخفى عليك ان حمل تلك الأفعال على ما حلمها عليه خلاف الظاهر كما هو مقربة، وعدم التعرض لخلق الأرض وما فيها بالفعل كما تعرض لخلق السموات كذلك لا يلائم دعوى الاعتناء التي أشار إليها في بيان وجه تخصيص البيان بما يتعلق بالأرض وما فيها على أن خلق ما فيها بالفعل غير ظاهر من قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ لا سيما وقد ذكرت الأرض قبل مستقلة وذكر ما فيها مستقلاً فلا يتبادر من الأرض هنا إلا تلك الأرض المستقلة لا هي مع ما فيها، وأمر تقدم خلق الأرض وتأخره سيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه‏.‏

وقيل‏:‏ إن اتيان السماء حدوثها واتيان الأرض أن تصير مدحوة وفيه جمع بين معنيين مجازيين حيث شبه البروز من العدم وبسط الأرض وتمهيدها بالاتيان من مكان آخر وفي صحة الجمع بينهما كلام على أن في كون الدحو مؤخراً عن جعل الرواسي كلاماً أيضاً ستعرفه إن شاء الله تعالى، وقيل‏:‏ المراد لتأت كل منكما الأخرى في حدوث ما أريد توليده منكما وأيد بقراءة ابن عباس‏.‏ وابن جبير‏.‏ ومجاهد ‏{‏أَتَيَا وَلَقَدْ ءاتَيْنَا‏}‏ على أن ذلك من المواتات بمعنى الموافقة، قال الجوهري‏:‏ تقول آتيته على ذلك الأمر مواتاة إذا وافقته وطاوعته لأن المتوافقين يأتي كل منهما صاحبه وجعل ذلك من المجاز المرسل وعلاقته اللزوم، وقال ابن جنى‏:‏ هي المسارعة وهو حسن أيضاً ولم يجعله أكثر الأجلة من الايتاء لأنه غير لائح وجعله ابن عطية منه وقدر المفعول أي أعطيا من أنفسكما من الطاعة ما أردته منكما وما تقدم أحسن وما أسلفناه في أول الأوجه من الكلام يأتي نحوه هنا كما لا يخفى‏.‏

واختلف الناس في أمر التقدم والتأخر في خلق كل من السموات وما فيها والأرض وما فيها وذلك للآيات والأحاديث التي ظاهرها التعارض فذهب بعض إلى تقدم خلق الأرض لظاهر هذه الآية حيث ذكر فيها أولاً خلق الأرض وجعل الرواسي فيها وتقدير الأقوات ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ الخ وأبى أن يكون الأمر بالاتيان للأرض أمر تكوين، ولظاهر قوله تعالى في آية البقرة‏:‏ ‏{‏خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِى الارض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ وأول آية النازعات أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أأنتم أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السماء بناها رَفَعَ رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضحاها والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا ومرعاها والجبال أرساها متاعا لَّكُمْ ولانعامكم‏}‏

‏[‏النازعات‏:‏ 27-33‏]‏ لما أن ظاهره يدل على تأخر خلق الأرض وما فيها من الماء والمرعى والجبال لأن ذلك إشارة إلى السابق وهو رفع السمك والتسوية، والأرض منصوب بمضمر على شريطة التفسير أي ودحا الأرض بعد رفع السماء وتسويتها دحاها الخ بأن الأرض منصوب بمضمر نحو تذكر وتدبر أو اذكر الأرض بعد ذلك لا بمضمر على شريطة التفسير أو به وبعد ذلك إشارة إلى المذكور سابقاً من ذكر خلق السماء لا خلق السماء نفسه ليدل على أنه متأخر في الذكر عن خلق السماء تنبيهاً على أنه قاصر في الأول لكنه تتميم كما تقول جملاً ثم تقول بعد ذلك كيت وكيت وهذا كثير في استعمال العرب والعجم، وكأن بعد ذلك بهذا المعنى عكسه إذا استعمل لتراخي الرتبة والتعظيم؛ وقد تستعمل ثم أيضاً بهذا المعنى وكذا الفاء، وبعضهم يذهب في الجواب إلى ما قاله ابن عباس‏.‏

فقد روى الحاكم‏.‏ والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ فقال‏:‏ رأيت أشياء تختلف علي في القرآن قال‏:‏ هات ما اختلف عليك من ذلك فقال‏:‏ اسمع الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الارض حتى بَلَغَ طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9-11‏]‏ فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماء ثم قال سبحانه في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏أَمِ السماء بناها ثُمَّ قَالَ والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27 30‏]‏ فبدأ جل شأنه بخلق السماء قبل خلق الأرض‏.‏ فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ أما خلق الأرض في يومين فإن الأرض خلقت قبل السماء وكانت السماء دخاناً فسواهن سبع سموات في يومين بعد خلق الأرض، وأما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والارض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها‏}‏ يقول جعل فيها جبلاً وجعل فيها نهراً وجعل فيها شجراً وجعل فيها بحوراً انتهى، قال الخفاجي‏:‏ يعني أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا‏}‏ بدل أو عطف بيان لدحاها بمعنى بسطها مبين للمراد منه فيكون تأخرها في هذه الآية ليس بمعنى تأخر ذاتها بل بمعنى تأخر خلق ما فيها وتكميله وترتيبه بل خلق التمتع والانتفاع به فإن البعدية كما تكون باعتبار نفس الشيء تكون باعتبار جزئه الأخير وقيده المذكور كما لو قلت‏:‏ بعثت إليك رسولاً ثم كنت بعثت فلاناً لينظر ما يبلغه فبعت الثاني وإن تقدم لكن ما بعث لأجله متأخر عنه فجعل نفسه متأخراً‏.‏ فإن قلت‏:‏ كيف هذا مع ما رواه ابن جرير‏.‏ وغيره وصححوه عن ابن عباس أيضاً أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السموات والأرض فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال وما فيهن من المنافع يوم الثلاثاء وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب فهذه أربعة فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذى خَلَقَ الارض فِى يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِىَ مِن فَوْقِهَا وبارك فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أقواتها فِى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لّلسَّائِلِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 9، 10‏]‏ وخلق يوم الخميس السماء وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة»

فإنه يخالف الأول لاقتضائه خلق ما في الأرض من الأشجار والأنهار ونحوها قبل خلق السماء قلت‏:‏ الظاهر حمله على أنه خلق فيما ذكر مادة ذلك وأصوله إذ لا يتصور العمران والخراب قبل خلق السماء فعطف عليه قرينة لذلك فلا تعارض بين الحديثين كما أنه ليس بين الآيات اختلاف انتهى كلام الخفاجي، ولا يخفى أن قول ابن عباس السابق نص في أن جعل الجبال في الأرض بعد خلق السماء وهو ظاهر آية النازعات إذ كان بعد ذلك معتبراً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والجبال أرساها‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 32‏]‏ وآية حم السجدة ظاهرة في أن جعل الجبال قبل خلق السموات، ثم إن رواية ابن جرير المذكورة عنه مخالفة لخبر مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال‏:‏ خلق الله تعالى التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الإثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل ‏"‏ واستدل في «شرح المهذب» بهذا الخبر على أن السبت أول أيام الأسبوع دون الأحد ونقله عن أصحابه الشافعية وصححه الأسنوي وابن عساكر، وقال العلامة ابن حجر‏:‏ هو الذي عليه الأكثرون وهو مذهبنا يعني الشافعية كما في الروضة وأصلها بل قال السهيلي في روضه لم يقل بأن أوله الأحد إلا ابن جرير، وجرى النووي في موضع على ما يقتضي أن أوله الأحد فقال‏:‏ في يوم الإثنين سمي به لأنه ثاني الأيام‏.‏ وأجيب بأنه جرى في توجيه التسمية المكتفى فيه بأدنى مناسبة على القول الضعيف‏.‏

وانتصر القفال من الشافعية لكون أوله الأحد بأن الخبر المذكور تفرد به مسلم وقد تكلم عليه الحفاظ‏.‏ على ابن المديني‏.‏ والبخاري‏.‏ وغيرهما وجعلوه من كلام كعب وأن أبا هريرة إنما سمعه منه ولكن اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعاً‏.‏ وأجيب بأن من حفظ الرفع حجة على من لم يحفظه والثقة لا يرد حديثه بمجرد الظن ولأجل ذلك أعرض مسلم عما قاله أولئك واعتمد الرفع وخرج طريقه في «صحيحه» فوجب قبولها‏.‏ وذكر أحمد بن المقري المالكي أن الإمام أحمد رواه أيضاً في مسنده عن أبي هريرة مرفوعاً بلفظ شبك بيدي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏

‏"‏ خلق الله تعالى الأرض يوم السبت ‏"‏ الحديث، وفي «الدر المنثور» عدة أخبار عن ابن عباس ناطقة بأن مبدأ خلق الأرض كان يوم الأحد، وفيه أيضاً أخرج ابن جرير عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «جاء اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد أخبرنا ما خلق الله تعالى من الخلق في هذه الأيام الستة فقال‏:‏ خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد والإثنين وخلق الجبال يوم الثلاثاء وخلق المدائن والأقوات والأنهار وعمرانها وخرابها يوم الأربعاء وخلق السموات والملائكة يوم الخميس إلى ثلاث ساعات يعني من يوم الجمعة وخلق في أول ساعة الآجال وفي الثانية الآفة وفي الثالثة آدم قالوا‏:‏ صدقت أن تممت فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يريدون فغضب فأنزل الله تعالى ‏{‏وما مسنا من لغوب فاصبر على ما يقولون‏}‏»واليهود قاطبة على أن أول الأسبوع يوم الأحد احتجاجاً بما يسمونه التوراة وظاهره الاشتقاق يقتضي ذلك‏.‏

ومن ذهب إلى أن الأول السبت قال‏:‏ لا حجة في ذلك لأن التسمية لم تثبت بأمر من الله تعالى ولا من رسوله صلى الله عليه وسلم فلعل اليهود وضعوا أسماء الأسبوع على ما يعتقدون فأخذتها العرب عنهم ولم يرد في القرآن إلا الجمعة والسبت وليسا من أسماء العدد على أن هذه التسمية لو ثبتت عن العرب لم يكن فيها دليل لأن العرب تسمى خامس الورد ربعاً وتاسعه عشراً وهذا هو الذي أخذ منه ابن عباس قوله الذي كاد ينفرد به أن يوم عاشوراء هو يوم تاسع المحرم وتاسوعاء هو يوم ثامنه، ولا يخفى أن الجواب الأول خارج عن الانصاف فلأيام الأسبوع عند العرب أسماء أخر فيها ما يدل على ذلك أيضاً، وهي أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار، ولا يسوغ لمنصف أن يظن أن العرب تبعوا في ذلك اليهود وجاء الإسلام وأقرهم على ذلك، وليت شعري إذا كانت تلك الأسماء وقعت متابعة لليهود فما الأسماء الصحيحة التي وضعها واضع لغة العرب غير تابع فيها لليهود، والجواب الثاني خلاف الظاهر جداً‏.‏

ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أن خلق السماء مقدم على إيجاد الأرض فضلاً عن دحوها واختاره الإمام ونسبه بعضهم إلى المحققين من المفسرين وأولوا الآية بأن الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد بل هو عبارة عن التقدير، والمراد به في حقه تعالى حكمه تعالى أن سيوجد وقضاؤه عز وجل بذلك مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ ولا بد على هذا من تأويل ‏{‏جَعَلَ‏}‏ و‏{‏بارك‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 10‏]‏ بنحو ما سمعت عن الإرشاد، وجوز أن يبقى خلق وكذا ما بعده على ما يتبادر منه ويكون الكلام على إرادة الإرادة كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏إذا اقتمتم الصلاة‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ أي بالذي أراد خلق الأرض في يومين وأراد أن يجعل فيها رواسي وقالوا‏:‏ إن ثم للتفاوت في الرتبة المنزلة منزلة التراخي الزماني كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏ فإن اسم كان ضمير يرجع إلى فاعل ‏{‏فَلاَ اقتحم‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 11‏]‏ وهو الإنسان الكافر وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 13-16‏]‏ تفسير للعقبة، والترتيب الظاهري يوجب تقديم الايمان عليه لكن ثم هنا للتراخي في الرتبة مجازاً، وفي «الكشف» أن ما نقله الواحدي لا إشكال فيه ويتعين ‏{‏ثُمَّ‏}‏ في هذه السورة والسجدة على تراخي الرتبة وهو أوفق لمشهور قواعد الحكماء لكن لا يوافق ما جاء من أن الابتداء من يوم الأحد كان، وخلق السموات وما فيها من يوم الخميس والجمعة وفي آخر يوم الجمعة ثم خلق آدم عليه السلام، وفي «البحر» الذي نقوله‏:‏ إن الكفار وبخوا وقرعوا بكفرهم بمن صدرت عنه هذه الأشياء جميعها من غير ترتيب زماني وأن ‏{‏ثُمَّ‏}‏ لترتيب الأخبار لا لترتيب الزمان والمهلة كأنه قال سبحانه بالذي أخبركم أنه خلق الأرض وجعل فيها رواسي وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ثم أخبركم أنه استوى إلى السماء فلا تعرض في الآية لترتيب الوقوع الترتيب الزماني، ولما كان خلق السماء أبدع في القدرة من خلق الأرض استؤنف الاخبار فيه بثم فهي لترتيب الاخبار كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 17‏]‏ بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ اقتحم العقبة‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 11‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 154‏]‏ بعد قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 151‏]‏ ويكون قوله جل شأن ‏{‏فَقَالَ لَهَا وَلِلاْرْضِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ بعد أخبار تعالى بما أخبر به تصويراً لخلقهما على وفق إرادته تعالى كقولك أرأيت الذي أثنيت عليه فقلت له إنك عالم صالح فهذا تصوير لما أثنيت به وتفسير له فكذلك أخبر سبحانه بأنه خلق كيت وكيت فأوجد ذلك إيجاداً لم يتخلف عن أرادته انتهى، وظاهر ما ذكره في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَالَ لَهَا‏}‏ الخ أن القول بعد الإيجاد، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون ذلك للتمثيل أو التخييل للدلالة على أن السماء والأرض محلاً قدرته تعالى يتصرف فيهما كيف يشاء إيجاداً وإكمالاً ذاتاً وصفة ويكون تمهيداً لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَقَضَاهُنَّ‏}‏ أي لما كان الخلق بهذه السهولة قضى السموات واحكم خلقها في يومين فيصح هذا القول قبل كونهما وبعده، وفي أثنائه إذ ليس الغرض دلالة على وقوع‏.‏

وذكر في نكتة تقديم خلق الأرض وما فيها في الذكر ههنا وفي سورة البقرة على خلق السموات والعكس في سورة النازعات أنها يجوز أن يكون أن المقام في الأوليين مقام الامتنان وتعداد النعم فمقتضاه تقديم ما هو أقرب النعم إلى المخاطبين والمقام في الثالثة مقام بيان كمال القدرة فمقتضاه تقديم ما هو أدل على كمالها، وروى عن الحسن أنه تعالى خلق الأرض في موضع بيت المقدس كهيئة الفهر عليها دخان ملتزق بها ثم أصعد الدخان وخلق منه السموات وأمسك الفهر في موضعها وبسط منها الأرض، وذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏كَانَتَا رتقاً فتفقناهما‏}‏ وجعله بعضهم دليلاً على تأخر دحو الأرض عن خلق السماء، وفي «الإرشاد» أنه ليس نصاً في ذلك فإن بسط الأرض معطوف على إصعاد الدخان وخلق السماء بالواو فلا دلالة في ذلك على الترتيب قطعاً، وفي «الكشف» أنه يدل على أن كون السماء دخاناً سابق على دحو الأرض وتسويتها بل ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ يدل على ذلك، وإيجاد الجوهرة النورية والنظر إليها بعين الجلال المبطن بالرحمة والجمال وذويها وامتياز لطيفها عن كثيفها وصعود المادة الدخانية اللطيفة وبقاء الكثيف هذا كله سابق على الأيام الستة وثبت في الخبر الصحيح ولا ينافي الآيات واختار بعضهم أن خلق المادة البعيدة للسماء والأرض كان في زمان واحد وهي الجوهرة النورية أو غيرها وكذا فصل مادة كل عن الأخرى وتمييزها عنها أعني الفتق وإخراج الأجزاء اللطيفة وهي المادة القريبة للسموات وإبقاء الكثيفة وهي المادة القريبة للأرض فإن فصل اللطيف عن الكثيف يستلزم فصل الكثيف عنه وبالعكس، وأما خلق كل على الهيئة التي يشاهد بها فليس في زمان واحد بل خلق السموات سابق في الزمان على خلق الأرض، ولا ينبغي لأحد أن يرتاب في تأخر خلق الأرض بجميع ما فيها عن خلق السموات كذلك، ومتى ساغ حمل ‏{‏ثُمَّ‏}‏ للترتيب في الاخبار هان أمر ما يظن من التعارض في الآيات والاخبار هذا والله تعالى أعلم‏.‏ ولبعض المتأخرين في الآية كلام غريب دفع به ما يظن من المنافاة بين الآيات الدالة على أن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله الذى خَلَقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 4‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏ وهذه الآية التي يخيل منها أن خلق ذلك في ثمانية أيام وهو أن للشيء حكماً من حيث ذاته ونفسه حكماً من حيث صفاته وإضافاته ونسبه وروابطه واقتضاءاته ومتمماته وسائر ما يضاف إليه ولكل من ذلك أجل معدود وحد محدود يظهره سبحانه في ذلك بالأزمان الخاصة به والأوقات المؤجلة له وهي متفاوتة مختلفة، والله تعالى خلق السموات والأرض ومابينهما في حد ذاتها في ستة أيام، وذلك عند نشئها في ذاتها من خلقه سبحانه إياها من البحر الحاصل من ذوبان الياقوتة الحمراء لما نظر إليها جل شأنه بنظر الهيبة فتموج إلى أن حصل منه الزبد وثار الدخان فخلق السماء من الدخان والأرض من الزبد والنجوم من الشعلات المستجنة في زبد البحر والنار والهواء والماء من جسم أكثف من الدخان وألطف من الزبد، والسماء حقيقة وحدانية في ذاتها ولها صلاحية التعدد والكثرة على حسب بدو شأنها في علم الغيب فتعينها بالسبعة على الجهة الخاصة ووقوع كل سماء في محلها الخاص مترتباً عليها حكم خاص يحتاج إلى جعل غير جعلها في نفسها وهو المسمى بالقدر وتعيين الحدود التي هي الهندسة الإيجادية، وهذا لجعل متفرع على الخلق ونحوه غير نحوه قطعاً كما يشعر به قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏ وقد يسمى بالتسوية وبالقضاء أيضاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏ وقوله تعالى هنا‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ إلى قَوْلُهُ سبحانه فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11، 12‏]‏ وأما تقدير أقوات الأرض وإعطاء البركة وتوليد المتولدات فلها أيام معدودات وحدود محدودات لا تدخل في أيام خلق السموات والأرض لأنها لإيجاد أنفسها، فالأيام الأربعة المذكورة في الآية إنما هي لجعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وليست من لك الستة وكذلك اليومان اللذان لتسوية السماء وقضائها سبع سموات خارجان عنها فليس في الآية التي الكلام فيها سوى أن خلق الأرض كان في يومين وأما خلق السموات وما بينها وبين الأرض فلم يذكر في الآية مدة له وإنما ذكر مدة قضاء السموات وهو غير خلقها ومدة جعل الرواسي وتقدير الأقوات وإحداث البركة وذلك غير خلق الأرض وما بينها وبين السماء فلا تنافي بينها وبين الآيات الدالة على أن خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ولا يعكر على ذلك ما روى عن الصادق أن الله سبحانه خلق في يوم الأحد والإثنين الأرضين وخلق أقواتها في يوم الثلاثاء وخلق السموات في يوم الأربعاء ويوم الخميس وخلق أقواتها يوم الجمعة وذلك قول الله سبحانه‏:‏ ‏{‏خُلِقَ السموات والارض وَمَا بَيْنَهُمَا فِى سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 59‏]‏ لأنه بعد تسليم صحته المذكور فيه أن الأقوات قد خلقت في يومين لا أنها قدرت وبين الخلق والتقدير بون بعيد؛ فخلق الأقوات عبارة عن إيجاد ذاتياتها وموادها وعللها وأسبابها فإذا وجدت قدرت وفصلت على الأطوار المعلومة فلا إشكال‏.‏

والعجب ممن استشكل هذا المقام كيف لم ينظر في مدلولات الألفاظ الإلهية بحسب القواعد القرآنية واللغوية فاحتاج في حله إلى تكلفات أمور خفية وارتكاب توجيهات غير مرضية، ثم إن هذا البعض ذكر لليوم ما يزيد على ستين إطلاقاً منها المرتبة ونقل هذا عن شيخه ورأيته في بعض الكتب لغيره، وجواز إرادته في الآية وكذا جوز إرادة غيره من الإطلاقات، وذكر سركون خلق السموات والأرض في ستة أيام وأطال الكلام في هذا المقام، وكان ذلك ضمن رسالة ألفها حين طلبت منه جواباً عما يظن من المنافاة غير ما ذكروه من الجواب عن ذلك، ومن وقف على تلك الرسالة منها قعقعة بلا سلاح وأحس بطيران في جو ما يزعمه تحقيقاً بلا جناح فكم فيها من قول لا سند له ومدعى لم يورد دليله، فعليك بالتأمل التام فيما ذكره المفسرون وما ذكره هذا الرجل من الكلام ولا تك للانصاف مجانباً وللتعصب مصاحباً والله تعالى الموفق‏.‏

وما تقدم من حمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏ على التمثيل هو ما ذهب إليه جماعة من المفسرين، وقالت طائفة‏:‏ إنهما نطقتا نطقاً حقيقياً وجعل الله تعالى لهما حياة وإدراكاً، قال ابن عطية‏:‏ وهذا أحسن لأنه لا شيء يدفعه وإن العبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر، ولا يخفى أن المعنى الأول أبلغ، ومن ذهب إلى أن للجمادات إدراكاً لائقاً بها قال بظاهر الآية ولعلها إحدى أدلته على ذلك‏.‏ وذكر بعضهم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا‏}‏ أنه سبحانه خص كل سماء بما ميزها عن السماء الأخرى من الذاتيات وجعل ذلك وجهاً في جمع السموات وإفراد الأرض‏.‏ وقرأ الأعمش ‏{‏أَوْ كَرْهاً‏}‏ بضم الكاف، قال أبو حيان‏:‏ والأصح أنها لغة في الإكراه على الشيء، والأكثر على أن الكره بالضم معناه المشقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُواْ‏}‏ متصل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ‏}‏ الخ أي فإن أعرضوا عن التدبر فيما ذكر من عظائم الأمور الداعية إلى الايمان أو عن الايمان بعد هذا البيان ‏{‏فَقُلْ‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏أَنذَرْتُكُمْ‏}‏ أي أنذركم، وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الإنذار المنبىء عن تحقق المنذر ‏{‏صاعقة مّثْلَ صاعقة عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ أي عذاباً مثل عذابهم قاله قتادة، وهو ظاهر على القول بأن الصاعقة تأتي في اللغة بمعنى العذاب، ومنع ذلك بعضهم وجعل ما ذكر مجازاً، والمراد عذاباً شديد الوقع كأنه صاعقة مثل صاعقتهم، وأياً ما كان فالمراد أعلمتكم حلول صاعقة‏.‏

وقرأ ابن الزبير‏.‏ والسلمي‏.‏ وابن محيصن ‏{‏صاعقة مّثْلَ صاعقة‏}‏ بغير ألف فيهما وسكون العين وهي المرة من الصعق أو الصعق ويقال‏:‏ صعقته الصاعقة صعقاً فصعق صعقاً بالفتح أي هلك بالصاعقة المصيبة له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ جَاءتْهُمُ الرسل‏}‏ أي جاءت عاداً وثمود ففيه إطلاق الجمع على الإثنين وهو شائع وكذا ‏{‏الرسل‏}‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يراد ما يعم رسول الرسول، وجوز في الأول أن يكون باعتبار أفراد القبيلتين، وذكروا في ‏{‏إِذْ‏}‏ أوجها من الإعراب‏.‏ الأول‏:‏ أنه ظرف لأنذرتكم‏.‏ الثاني‏:‏ أنه صفة لصاعقة الأولى، وأورد عليهما لزوم كون إنذاره عليه الصلاة والسلام والصاعقة التي أنذر بها واقعين في وقت مجيء الرسل عاداً وثمود وليس كذلك‏.‏ الثالث‏:‏ أنه صفة لصاعقة الثانية، وتعقب بأنه يلزم عليه حذف الموصول مع بعض صلته وهو غير جائز عند البصريين أو وصف المعرفة بالنكرة‏.‏ الرابع‏:‏ واختاره أبو حيان أن معمول لصاعقة عاد وثمود بناء على أن المراد بها العذاب وإلا فهي بالمعنى المعروف جثة لا يتعلق بها الظرف وفيه شيء لا يخفى‏.‏ الخامس‏:‏ واختاره غير واحد أنه حال منها لأنها معرفة بالإضافة، وبعضهم يجوز كونه حالاً من الأولى أيضاً لتخصصها بالوصف بالمتخصص بالإضافة فتكون الأوجه ستة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ متعلق بجاءتهم، والضمير المضاف إليه لعاد وثمود، والجهتان كناية عن جميع الجهات على ما عرف في مثله أي أتتهم الرسل من جمع جهاتهم، والمراد بإتيانهم من جميع الجهات بذل الوسع في دعوتهم على طريق الكناية ويجوز أن يراد بما بين أيديهم الزمن الماضي وبما خلفهم المستقبل وبالعكس واستعير فيه ظرف المكان للزمان والمراد جاؤهم بالإنذار عما جرى على أمثالهم الكفرة في الماضي وبالتحذير عما سيحيق بهم في الآخرة‏.‏

وروى هذا عن الحسن، وجوز كون الضمير المضاف إليه للرسل والمراد جاءتهم الرسل المتقدمون والمتأخرون على تنزيل مجيء كلامهم ودعوتهم إلى الحق منزلة مجيء أنفسهم فإن هوداً‏.‏ وصالحاً كانا داعيين لهم إلى الايمان بهما وبجميع الرسل ممن جاء من بين أيديهم وممن يجيء من خلفهم فكأن الرسل قد جاؤهم وخاطبوهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ الله‏}‏ وروى هذا الوجه عن ابن عباس‏.‏ والضحاك، وإليه ذهب الفراء‏.‏ ونص بعض الأجلة على أن ‏{‏مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ عليه حال من الرسل لا متعلق بجاءتهم، وجمع الرسل عليه ظاهر، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون كون الرسل من بين أيديهم ومن خلفهم كناية عن الكثرة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مّن كُلّ مَكَانٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏ وقال الطبري‏:‏ الضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ لعاد‏.‏ وثمود وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ للرسل وتعقبه في «البحر» بأن فيه خروجاً عن الظاهر في تفريق الضمائر وتعمية المعنى إذ يصير التقدير جاءتهم الرسل من بين أيديهم وجاءتهم من خلف الرسل أي من خلف أنفسهم، وهذا معنى لا يتعقل إلا أن كان الضمير عائداً في ‏{‏مّنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ على الرسل لفظاً وهو عائد على رسل آخرين معنى فكأنه قيل‏:‏ جاءتهم الرسل من بين أيديهم ومن خلف رسل آخرين فيكون كقولهم‏:‏ عندي درهم ونصفه أي ونصف درهم آخر، وبعده لا يخفى‏.‏

وخص بالذكر من الأمم المهلكة عاد وثمود لعلم قريش بحالهما ولوقوفهم على بلادهم في اليمن والحجر، و‏{‏ءانٍ‏}‏ يصح أن تكون مفسرة لمجيء الرسل لأنه بالوحي وبالشرائع فيتضمن معنى القول و‏{‏لا‏}‏ ناهية وأن تكون مصدرية ولا ناهية أيضاً، والمصدرية قد توصل بالنهي كما توصل بالأمر على كلام فيه، وجعل الحوفي ‏{‏لا‏}‏ نافية و‏{‏ءانٍ‏}‏ ناصبة للفعل، وقيل‏:‏ إنها المخففة من الثقيلة ومعها ضمير شأن محذوف، وأورد عليها أنها إنما تقع بعد أفعال اليقين وإن خبر باب أن لا يكون طلباً إلا بتأويل، وقد يدفع بأنه بتقدير القول وإن مجيء الرسل كالوحي معنى فيكون مثله في وقوع أن بعده لتضمنه ما يفيد اليقين كما أشار إليه الرضى وغيره، ولا يخفى ما فيه من التكلف المستغني عنه؛ وعلى احتمال كونا مصدرية وكونها مخففة يكون الكلام بتقدير حرف الجر أي بأن لا تعبدوا إلا الله ‏{‏قَالُواْ لَوْ شَاء رَبُّنَا‏}‏ مفعول المشيئة محذوف وقدره الزمخشري إرسال الرسل أي لو شاء ربنا إرسال الرسل ‏{‏لاَنزَلَ ملائكة‏}‏ أي لأرسلهم لكن لما كان إرسالهم بطريق الإنذار قيل‏:‏ لأنزل، قيل‏:‏ ولم يقدر إنزال الملائكة بناء على أن الشائع تقدير مفعول المشيئة بعد لو الشرطية من مضمون الشرط لأنه عار عن إفادة ما أرادوه من نفي إرساله تعالى البشر والشائع غير مطرد، وقال أبو حيان‏.‏ إنما التقدير لو شاء ربنا إنزال ملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم، وهذا أبلغ في الامتناع من أرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو سبحانه لم يشأ ذلك فكيف يشاؤه في البشر وهو وجه حسن‏.‏

‏{‏فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ‏}‏ أي بالذي أرسلتم به على زعمكم، وفيه ضرب تهكم بهم ‏{‏كافرون‏}‏ لما أنكم بشر مثلنا لا فضل لكم علينا، والفاء فاء النتجية السببية فيكون في الكلام إيماء إلى قياس استثنائي أي لكنه لم ينزل، ويجوز أن تكون تعليلية لشرطيتهم أي إنما قلنا ذلك لأنا منكرون لما أرسلتم به كما ننكر رسالتكم، و‏{‏مَا‏}‏ كما أشرنا إليه موصولة، وكونها مصدرية وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ لقولهم‏:‏ ‏{‏إِلا إله إِلاَّ الله‏}‏ خلاف الظاهر، أخرج البيهقي في «الدلائل»‏.‏ وابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال أبو جهل والملأ من قريش قد التبس علينا أمر محمد صلى الله عليه وسلم فلو التمستم رجلاً عالماً بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة‏:‏ والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر وعلمت من ذلك علماً وما يخفى عليّ إن كان كذلك فأتاه فقال له يا محمد أنت خير أم هاشم أنت خير أم عبد المطلب‏؟‏ فلم يجبه قال‏:‏ فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا فإن كنت إنما بك الرياسة عقدنا ألويتنا لك، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِى الارض‏}‏ شروع في تفصيل ما لكل واحدة من الطائفتين من الجناية والعذاب، ولتفرع التفصيل على الإجمال قرن بفاء السببية، وبدىء بقصة عاد لأنها أقدم زماناً أي فأما عاد فتعظموا في الأرض التي لا ينبغي التعظيم فيها على أهلها ‏{‏بِغَيْرِ الحق‏}‏ أي بغير استحقاق للتعظم‏.‏

وقيل‏:‏ تعظموا عن امتثال أمر الله عز وجل وقبول ما جائتهم به الرسل ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ اغتراراً بقوتهم‏:‏ ‏{‏مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً‏}‏ أي لا أشد منا قوة فالاستفهام إنكاري، وهذا بيان لاستحقاقهم العظمة وجواب الرسل عما خوفوهم به من العذاب، وكانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل ويرفعها بيده ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ‏}‏ أي أغفلوا ولم ينظروا أو ولم يعلموا علماً جلياً شبيهاً بالمشاهدة والعيان ‏{‏إِنَّ الله خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ قدرة فإنه تعالى قادر بالذات مقتدر على ما لا يتناهى قوى على ما لا يقدر عليه غيره عز وجل مفيض للقوة والقدر على كل قوي وقادر، وفي هذا إيماء إلى أن ما خوفهم به الرسل ليس من عند أنفسهم بناء على قوة منهم وإنما هو من الله تعالى خالق القوى والقدر وهم يعلمون أنه عز وجل أشد قوة منهم، وتفسير القوة بالقدرة لأنه أحد معانيها كما يشير إليه كلام الراغب‏.‏

وزعم بعضهم أن القوة عرض ينزه الله تعالى عنه لكنها مستلزمة للقدرة فلذا عبر عنها بها مشاكلة‏.‏

وأورد في حيز الصلة ‏{‏خَلْقَهُمْ‏}‏ دون خلق السموات والأرض لادعائهم الشدة في القوة، وفيه ضرب من التهكم بهم ‏{‏وَكَانُواْ بئاياتنا يَجْحَدُونَ‏}‏ أي ينكرونها وهم يعرفون حقيتها وهو عطف على ‏{‏فاستكبروا‏}‏ أو ‏{‏قَالُواْ‏}‏ فجملة ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ‏}‏ الخ مع ما عطف هو عليه اعتراض، وجوز أن يكون هو وحده اعتراضاً والواو اعتراضية لا عاطفة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً‏}‏ قال مجاهد‏:‏ شديدة السموم فهو من الصر بفتح الصاد بمعنى الحر، وقال ابن عباس‏.‏ والضحاك وقتادة‏.‏ والسدي‏:‏ باردة تهلك بشدة بردها من الصر بكسر الصاد وهو البرد الذي يصر أي يجمع ظاهر جلد الإنسان ويقبضه؛ والأول أنسب لديار العرب، وقال السدي أيضاً‏.‏ وأبو عبيدة‏.‏ وابن قتيبة‏.‏ والطبري‏.‏ وجماعة‏:‏ مصوتة من صريصر إذا صوت، وقال ابن السكيت‏:‏ صرصر يجوز أن يكون من الصرة وهي الصبيحة ومنه ‏{‏فَأَقْبَلَتِ امرأته فِى صَرَّةٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 29‏]‏ وفي الحديث أنه تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا عليهم قدر حلقة الخاتم ولو فتحوا قدر منخر الثور لهلكت الدنيا، وروى أنها كانت تحمل العير بأوقارها فترميهم في البحر ‏{‏فِى أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ‏}‏ جمع نحسة بكسر الحاء صفة مشبهة من نحس نحساً كعلم علماً نقيض سعد سعداً‏.‏

وقرأ الحرميان‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ والنخعي‏.‏ وعيسى والأعرج ‏{‏نَّحِسَاتٍ‏}‏ بسكون الحاء فاحتمل أن يكون مصدراً وصف به مبالغة، واحتمل أن يكون صفة مخففاً من فعل كصعب‏.‏ وفي «البحر» تتبعت ما ذكره التصريفيون مما جاء صفة من فعل اللازم فلم يذكروا فيه فعلاً بسكون العين وإنما ذكروا فعلاً بالكسر كفرح وأفعل كأحور وفعلان كشبعان وفاعلاً كسالم، وهو صفة ‏{‏أَيَّامٍ‏}‏ وجمع بالألف والتاء لأنه صفة لما لا يعقل، والمراد بها مشائيم عليهم لما أنهم عذبوا فيها، فاليوم الواحد يوصف بالنحس والسعد بالنسبة إلى شخصية فيقال له سعد بالنسبة إلى من ينعم فيه، ويقال له نحس بالنسبة إلى من يعذب، وليس هذا مما يزعمه الناس من خصوصيات الأوقات، لكن ذكر الكرماني في مناسكه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الأيام كلها لله تعالى لكنه سبحانه خلق بعضها نحوساً وبعضها سعوداً، وتفسير ‏{‏نَّحِسَاتٍ‏}‏ بمشائيم مروى عن مجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ والسدي‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أي شديدة البرد حتى كأن البرد عذاب لهم، وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد‏:‏

كأن سلافه مزجت بنحس *** وقيل‏:‏ نحسات ذوات غبار، وإليه ذهب الجبائي ومنه قول الراجز‏:‏

قد اغتدى قبل طلوع الشمس *** للصيد في يوم قليل النحس

يريد قليل الغبار، وكانت هذه الأيام من آخر شباط وتسمى أيام العجوز، وكانت فيما روي عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء، وروى ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء، وقال السدي‏:‏ أولها غداة يوم الأحد، وقال الربيع بن أنس‏:‏ يوم الجمعة ‏{‏لّنُذِيقَهُمْ عَذْبٌ الخزى فِى الحياة الدنيا‏}‏ أضيف العذاب إلى الخزي وهو الذل على قصد وصفه به لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَعَذَابُ الاخرة أخزى‏}‏ وهو في الأرض صفة المعذب وإنما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة، فإنه يدل على أن ذل الكافر زاد حتى اتصف به عذابه كما قرر في قولهم‏:‏ شعر شاعر، وهذا في مقابلة استكبارهم وتعظمهم‏.‏ وقرىء ‏{‏لتذيقهم‏}‏ بالتاء على أن الفاعل ضمير الريح أو الأيام النحسات ‏{‏أخزى وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ بدفع العذاب عنهم بوجه من الوجوه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم‏}‏ قال ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ والسدي‏:‏ أي بينا لهم، وأرادوا بذلك على ما قيل بيان طريقي الضلالة والرشد كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏ وهو أنسب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستحبوا العمى عَلَى الهدى‏}‏ أي فاختاروا الضلالة على الهدى فالظاهر في أنه بين لهم الطريقان فاختاروا أحدهما، وصرح ابن زيد بذلك فقد حكي عنه أنه قال‏:‏ أي اعلمناهم الهدى من الضلال، وفسر غير واحد الهداية هنا بالدلالة أي فدللناهم على الحق بنصب الحجج وإرسال الرسل فاختاروا الضلال ولم يفسروها بالدلالة الموصلة لإباء ظاهر ‏{‏فاستحبوا‏}‏ الخ عنه‏.‏

واستدل المعتزلة بهذه الآية على أن الإيمان باختيار العبد على الاستقلال بناءً على أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هديناهم‏}‏ دل على نصب الأدلة وإزاحة العلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏استحبوا العمى‏}‏ الخ دل على أنهم بأنفسهم آثروا العمى‏.‏

والجواب كما في «الكشف» أن في لفظ الاستحباب ما يشعر بأن قدرة الله تعالى هي المؤثرة وأن لقدرة العبد مدخلاً ما فإن المحبة ليست اختيارية بالاتفاق وإيثار العمى حباً وهو الاستحباب من الاختيارية، فانظر إلى هذه الدقيقة تر العجب العجاب، وإلى نحوه أشار الإمام الداعي إلى الله تعالى قدس سره، ومعنى كون المحبة ليست اختيارية أنها بعد حصول ما تتوقف عليه من أمور اختيارية تكون بجذب الطبيعة من غير اختيار للشخص في ميل قلبه وارتباط هواه بمن يحبه، فهي نفسها غير اختيارية لكنها باعتبار مقدماتها اختيارية، ولذلك كلفنا بمحبة الله تعالى ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وفي طوق الحمامة لابن سعيد أن المحبة ميل روحاني طبيعي، وإليه يشير قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 189‏]‏ أي يميل فجعل علة ميلها كونها منها، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ الأرواح جنود مجندة ‏"‏ وتكون المحبة لأمور أخر كالحسن والإحسان والكمال، ولها آثار يطلق عليها محبة كالطاعة والتعظيم، وهذه هي التي يكلف بها لأنها اختيارية فاعرفه‏.‏ وقرأ ابن وثاب‏.‏ والأعمش‏.‏ وبكر بن حبيب ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ‏}‏ بالرفع مصروفاً‏.‏

وقد قرأ الأعمش‏.‏ وابن وثاب بصرفه في جميع القرآن إلا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وآتينا ثمود الناقة‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 59‏]‏ لأنه في المصحف بغير ألف‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق‏.‏ وابن هرمز بخلاف عنه‏.‏ والمفضل، قال ابن عطية‏:‏ والأعمش وعاصم‏.‏ وروي عن ابن عباس ‏{‏ثمودا‏}‏ بالنصب والتنوين، وروى المفضل عن عاصم الوجهين والمنع عن الصرف للعلمية والتأنيث على إرادة القبيلة، ومن صرفه جعله اسم رجل، والنصب على جعله من باب الإضمار على شريطة التفسير، ويقدر الفعل الناصب بعده لأن أما لا يليها في الغالب إلا اسم‏.‏ وقرىء بضم الثاء على أنه جمع ثمد وهو قلة الماء فكأنهم سموا بذلك لأنهم كانوا يسكنون في الرمال بين حضرموت وصنعاء وكانوا قليلي الماء ‏{‏الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعقة العذاب الهون‏}‏ أي الذي وهو صفة للعذاب أو بدل منه، ووصفه به مصدراً للمبالغة وكذا إضافة صاعقة إلى العذاب فيفيد ذلك أن عذابهم عين الهون وأن له صاعقة، والمراد بالصاعقة النار الخارجة من السحاب كما هو المعروف، وسبب حدوثها العادي مشهور في كتب الفلسفة القديمة وقد تكلم في ذلك أهل الفلسفة الجديدة المتداولة اليوم في بلاد الروم وما قرب منها فقالوا في كيفية انفجار الصاعقة‏:‏ من المعلوم أن انطلاق الكهربائية التي في السحاب وهي قوة مخصوصة في الأجسام نحو قوة الكهرباء التي بها تجذب التبنة ونحوها إليها إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتتبجس بينهما شرارة كهربائية فتصعق الأجسام الأرضية، وتتفاوت قوة الصاعقة باختلاف الاستحالة البخارية فليست في جميع البلاد والفصول واحدة، وأوضحوا ذلك بكلام طويل من أراده فليرجع إليه في كتبهم، وقيل‏:‏ المراد بالصاعقة هنا الصيحة كما ورد في آيات أخر، ولا مانع من الجمع بينهما‏.‏ وقرأ ابن مقسم ‏{‏الهوان‏}‏ بفتح الهاء وألف بعد الواو ‏{‏بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏ من اختيار الضلالة على الهدى، وهذا تصريح بما تشعر به الفاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَجَّيْنَا‏}‏ من تلك الصاعقة ‏{‏الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ‏}‏ بسبب إيمانهم واستمرارهم على التقوى، والمراد بها تقوى الله عز وجل، وقيل‏:‏ تقوى الصاعقة والمتقى عذاب الله تعالى متق لله سبحانه وليس بذاك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاء الله إِلَى النار‏}‏ شروع في بيان عقوباتهم الآجلة بعد ذكر عقوباتهم العاجلة، والتعبير عنهم بأعداء الله تعالى لذمهم والإيذان بعلة ما يحيق بهم من ألوان العذاب وقيل‏:‏ المراد بهم الكفار من الأولين والآخرين‏.‏

وتعقب بأن قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 25‏]‏ كالصريح في إرادة الكفرة المعهودين، والمراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَى النار‏}‏ قيل‏:‏ إلى موقف الحساب، والتعبير عنه بالنار للإيذان بأن النار عاقبة حشرهم وأنهم على شرف دخولها، ولا مانع من إبقائه على ظاهره والقول بتعدد الشهادة فتشهد عليهم جوارحهم في الموقف مرة وعلى شفير جهنم أخرى، و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ إما منصوب باذكر مقدر معطوف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاعقة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏ أو ظرف لمضمر مؤخر قد حذف إيهاماً لقصور العبارة عن تفصيله، وقيل‏:‏ ظرف لما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ أي يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا وهو كناية عن كثرتهم، وقيل‏:‏ يُساقون ويدفعون إلى النار، والفاء تفصيلية‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏.‏ ونافع‏.‏ والأعرج‏.‏ وأهل المدينة ‏{‏نَحْشُرُ‏}‏ بالنون ‏{‏أَعْدَاء‏}‏ بالنصب وكسر الأعرج الشين‏.‏ وقرىء ‏{‏يُحْشَرُ‏}‏ على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب ‏{‏أَعْدَاء الله‏}‏ وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءوهَا‏}‏ أي النار جميعاً غاية ليحشر أو ليوزعون أي حتى إذا حضروها، و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور لأنها تؤكد ما زيدت بعده فهي تؤكد معنى إذا، و‏{‏إِذَا‏}‏ دالة على اتصال الجواب بالشرط لوقوعهما في زمان واحد، وهذا مما لا تعلق له بالنحو حتى يضر فيه أن النحاة لم يذكروه كما شنع به أبو حيان وأكد لأنهم ينكرونه، وفي الكلام حذف والتقدير حتى إذا ما جاؤها وسؤلوا عما أجرموا فأنكروا‏.‏

‏{‏شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وأبصارهم وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ واكتفى عن المحذوف بذكر الشهادة لاستلزامها إياه، ولا يأبى التقدير تأكيد الاتصال إذ يكفي للاتصال وقوع ذلك في مجلس واحد، والظاهر أن الجلود هي المعروفة، وقيل‏:‏ هي الجوارح كني بها عنها، وقيل‏:‏ كني بها عن الفروج، قيل‏:‏ وعليه أكثر المفسرين منهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏

وفي «الإرشاد» أنه الأنسب بتخصيص السؤال في قوله تعالى‏:‏