فصل: تفسير الآية رقم (21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا‏}‏ فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقبحاً واجلب للخزي والعقوبة مما يشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطهما وفيه نظر ولعل إرادة فالظاهر أولى، ولعل تخصيص السؤال بالجلود لأنها بمرأى منهم بخلاف السمع والبصر أو لأنها هي مدركة العذاب بالقوة المودعة فيها كما يشعر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏ قاله الجلبي، ثم نقل عن العلامة الثاني في ذلك أن الشهادة من الجلود أعجب وأبعد إذ ليس شأنها الإدراك بخلاف السمع والبصر، وتعقبه بقوله‏:‏ فيه نظر فإن الجلد محل القوة اللامسة التي هي أهم الحواس للحيوان كما أن السمع والبصر محل السامعة والباصرة والذي ينطق الأعيان دون الأعراض ثم إن اللامسة تشتمل على الذائقة التي هي الأهم بعد اللامسة، ثم قال‏:‏ ويلوح مما قررناه وجه آخر للتخصيص فإن الأهمية للإنسان والاشتمال على أهم من غيرها يصلح أن يكون مخصصاً، فانقلاب ما يرجون منه أكمل النفع أعجب ومثله أحق بالتوبيخ من غيره‏.‏ واعترض عليه بأن رده على العلامة لم يصادف محزه إذ ليس المراد مما ذكره من أنها ليس من شأنها الإدراك إلا إدراك أنواع المعاصي التي يشهد عليها كالكفر والكذب والقتل والزنا مثلاً وإدراك مثلها منحصر في السمع والبصر‏.‏

وأنت تعلم بعد طي كشح البحث في هذا الجواب أن ما ذكره العلامة لا يناسب ظاهر السؤال أعني ‏{‏لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا‏}‏ وأولى ما قيل من أوجه التخصيص‏:‏ أن المدافعة عن الجلود أزيد من المدافعة عن السمع والبصر فإن جلد الإنسان الواحد لو جزىء لزاد على ألف سمع وبصر وهو يدافع عن كل جزء ويحذر أن يصيبه ما يشينه فكانت الشهادة من الجلود عليهم أعجب وأبعد عن الوقوع‏.‏

وفي الحديث «إن أول ما ينطق من الإنسان فخذه اليسرى ثم تنطق الجوارح فيقول‏:‏ تباً لك فعنك كنت أدافع»، ووجه إفراد السمع قد مر أول التفسير، ووجه الاقتصار على السمع والبصر والجلد أشار إليه أبو حيان قال‏:‏ لما كانت الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس وكان الذوق مندرجاً في اللمس إذ بمماسة جلد اللسان الرطب للمذوق يحصل إدراك طعم المذوق وكان حس الشم ليس فيه تكليف لا أمر ولا نهي وهو ضعيف اقتصر من الحواس على السمع والبصر واللمس، وللبحث فيه مجال‏.‏ وكأني بك تختار أن المراد بالجلود ما سوى السمع والأبصار وأن ذكر السمع لما أنه وسيلة إدراك أكثر الآيات التنزيلية وذكر الأبصار لما أنها وسيلة إدراك أكثر الآيات التكوينية‏.‏

وقد أشير إلى كل في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فهديناهم‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 17‏]‏ على وجه، وأن شهادتهما فيما يتعلق بالكفر، فيشهد السمع عليهم أنهم كذبوا بالآيات التنزيلية التي جاء بها الرسل وسمعوها منهم، والأبصار أنهم لم يعبئوا بالآيات التكوينية التي أبصروها وكفروا بما تدل عليه، ولعل شهادة الجلود فيما يتعلق بما سوى الكفر من المعاصي التي نهى عنها الرسل عليهم السلام كالزنا مثلاً، وجوز أن تكون شهادة السمع بإدراك الآيات التنزيلية والأبصار بإدراك الآيات التكوينية والجلود بالكفر بما يقتضيه كل وبالمعاصي الأخر، ولا بعد في شمول ‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 20‏]‏ لإدراك الآيات والإحساس بها بقسميها فتدبر‏.‏

ولعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَ شَهِدتُّمْ‏}‏ سؤال عن العلة الموجبة، وصيغة جمع العقلاء في ‏{‏شَهِدتُّمْ‏}‏ وما بعد مع أن المراد منه ليس من ذوي العقول لوقوع ذلك في موقع السؤال والجواب المختصين بالعقلاء‏.‏ وقرأ زيد بن علي ‏{‏لَمْ‏}‏ بضمير المؤنثات ‏{‏عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا الله الذى أَنطَقَ كُلَّ شَىْء‏}‏ أي أنطقنا الله تعالى وأقدرنا على بيان الواقع فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح وما كتمنا، وحيث كان معنى السؤال لأي علة موجبة شهدتم‏؟‏ صلح ما ذكر جواباً له، وقيل‏:‏ لا قصد هنا للسؤال أصلاً وإنما القصد إلى التعجب ابتداءً لأن التعجب يكون فيما لا يعلم سببه وعلته فالسؤال عن العلة المستلزم لعدم معرفتها جعل مجازاً أو كناية عن التعجب، فقد قيل‏:‏ إذا ظهر السبب بطل العجب فكأنه قيل‏:‏ ليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء؛ وأياً ما كان فالنطق على معناه الحقيقي كما هو الظاهر وكذا الشهادة، ولا يقال‏:‏ الشاهد أنفسهم والسمع والأبصار والجلود آلات كاللسان فما معنى ‏{‏شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا‏}‏ لأنه يقال‏:‏ ليس المراد هذا النوع من النطق الذي يسند حقيقة إلى جملة الشخص ويكون غيره آلة بلا قدرة وإرادة له في نفسه حتى لو أسند إليه كان مجازاً كإسناد الكتابة إلى القلم بل هو نطق يسند إلى العضو حقيقة فيكون نفسه ناطقاً بقدرة وإرادة خلقهما الله تعالى فيه كما ينطق الشخص بالآلة، وكيف لا وأنفسهم كارهة لذلك منكرة له، وقيل‏:‏ الناطق هم بتلك الأعضاء إلا أنهم لا يقدرون على دفع كونها آلات ولذا نسبت الشهادة عليهم إليها وليس بشيء، وجوز بعضهم أن يكون النطق مجازاً عن الدلالة فالمراد بالشهادة ظهور علامات على الأعضاء دالة على ما كانت ملتبسة به في الدنيا بتغيير أشكالها ونحوه مما يلهم الله تعالى من رآه أنها تلبست به في الدنيا لارتفاع الغطاء في الآخرة، وهو خلاف ظاهر الآيات والأحاديث ولا داعي إليه، وعلى الظاهر لا بد من تخصيص ‏{‏كُلّ شَىْء‏}‏ بكل حي نطق إذ ليس كل شيء ولا كل حي ينطق بالنطق الحقيقي ومثل هذا التخصيص شائع، ومنه ما قيل في

‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 284‏]‏ و‏{‏تُدَمّرُ كُلَّ شَىْء‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 5‏]‏، وجوز أن يكون النطق في ‏{‏أَنطَقَنَا‏}‏ بمعناه الحقيقي ويحمل النطق في ‏{‏أَنطَقَ كُلَّ شَىْء‏}‏ على الدلالة فيبقى العام على عمومه ولا يحتاج إلى التخصيص المذكور ويكون التعبير بالنطق للمشاكلة وهو خلاف الظاهر، والموصول المشعر بالعلية يأباه إباءً ظاهراً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ يحتمل أن يكون من تمام كلام الجلود ومقول القول ويحتمل أن يكون مستأنفاً من كلامه عز وجل والأول أظهر، والمراد على كل حال تقرير ما قبله بأن القادر على الخلق أول مرة قادر على الإنطاق، وصيغة المضارع إذا كان الخطاب يوم القيامة مع أن الرجع فيه متحقق لا مستقبل لما أن المراد بالرجع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالبعث بل ما يعمه وما يترتب عليه من العذاب الخالد المترقب عند التخاطب على تغليب المتوقع على الواقع، وجوز أن تكون لاستحضار الصورة مع ما في ذلك من مراعاة الفواصل

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم وَلاَ جُلُودُكُمْ‏}‏ حكاية لما سيقال لهم يومئذٍ من جهته تعالى بطريق التوبيخ والتقريع تقريراً لجواب الجلود، واستظهر أبو حيان أنه من كلام الجوارح و‏{‏أَن يَشْهَدَ‏}‏ مفعول له بتقدير مضاف أي ما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أو كراهة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك أي ليس استتاركم للخوف مما ذكر أو لكراهته ‏{‏ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مّمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي ولكن لأجل ظنكم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً مما تعملون وهو ما عملتم خفية فلا يظهره سبحانه يوم القيامة وينطق الجوارح به فلذا سعيتم في الاستتار عن الخلق دون الخالق عز وجل أو هو بتقدير حرف جر متعلق بتستترون فقيل‏:‏ هو الباء والمستتر عنه الجوارح، والمعنى ما استترتم عنها بملابسة أن تشهد عليكم أي تتحمل الشهادة إذ ما ظننتم أنها تشهد عليكم بل ظننتم أن الله سبحانه لا يعلم فلذا لم يكن استتاركم بهذا السبب، وقيل‏:‏ هو عن والمعنى لم يمكنكم الاستتار عن الجوارح لئلا تتحمل الشهادة عليكم حين ترتكبون ما ترتكبون لكن ظننتم ما ظننتم‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏أَن تَشْهَدَ‏}‏ مفعول له والمستتر عنه الجوارح أي ما تستترون عن جوارحكم مخافة أن تشهد عليكم لكن ظننتم الخ، وقيل‏:‏ إن ‏{‏تَسْتَتِرُونَ‏}‏ ضمن معنى الظن فعدى تعديته أي ما كنتم تستترون ظانين شهادة الجوارح عليكم، ويؤيده قول قتادة‏:‏ أي ما كنتم تظنون أن تشهد عليكم الخ، والحق أن هذا بيان لحاصل المعنى‏.‏

أخرج أحمد‏.‏ والبخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وجماعة عن ابن مسعود قال‏:‏ كنت مستتراً بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر قرشي وثقفيان أو ثقفي وقرشيان كثير لحم بطونهم قليل عفة قلوبهم فتكلموا بكلام لم أسمعه فقال أحدهم‏:‏ أترون الله يسمع كلامنا هذا‏؟‏ فقال الآخر‏:‏ إنا إذا رفعنا أصواتنا يسمعه وإذا لم نرفع لم يسمع فقال الآخر‏:‏ إن سمع منه شيئاً سمعه كله قال‏:‏ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أبصاركم إلى قَوْلُهُ سبحانه مّنَ الخاسرين‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 23‏]‏ فالحكم المحكي حينئذٍ يكون خاصاً بمن كان على ذلك الاعتقاد من الكفر لكنه قيل في الفكرة‏.‏ وفي «الإرشاد» لعل الأنسب أن يراد بالظن معنى مجازي يعم معناه الحقيقي وما يجري مجراه من الأعمال المنبئة عنه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 3‏]‏ ليعم ما حكى من الحال جميع أصناف الكفرة فتدبر‏.‏ وفي الآية تنبيه على أن المؤمن ينبغي أن لا يمر عليه حال إلا بملاحظة أن عليه رقيباً كما قال أبو نواس‏:‏

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل *** خلوت ولكن قل على رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة *** ولا أن ما يخفى عليه يغيب

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَذَلِكُمْ‏}‏ إشارة إلى ظنهم المذكور في ضمن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ظَنَنتُمْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 22‏]‏ وما فيه من معنى البعد للإيذان بغاية بعد منزلته في الشر والسوء، وهو مبتدأ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ظَنُّكُمُ الذى ظَنَنتُم بِرَبّكُمْ‏}‏ بدل منه، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أردياكم‏}‏ أي أهلككم خبره، وجوز أن يكون ‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ‏}‏ خبراً و‏{‏أَرْدَاكُمْ‏}‏ خبراً بعد خبر‏.‏ ورده أبو حيان بأن ‏{‏ذلكم‏}‏ إشارة إلى ظنهم السابق فيصير التقدير وظنكم بربكم أنه لا يعلم ظنكم بربكم فما استفيد من الخبر هو ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز كقولهم‏:‏ سيد الجارية مالكها وقد منعه النحاة‏.‏ وأجيب بأنه لا يلزم ما ذكر لجواز جعل الإشارة إلى الأمر العظيم في القباحة فيختلف المفهوم باختلاف العنوان ويصح الحمل كما في هذا زيد، ولو سلم فالاتحاد مثله في قوله‏:‏

أنا أبو النجم وشعري شعري *** مما يدل على الكمال في الحسن كما في هذا المثال أو في القبح كما في الجملة المذكورة، وقيل‏:‏ المراد منه التعجب والتهكم، وقد يراد من الخبر غير فائدة الخبر ولازمها‏.‏ واختار بعضهم في الجواب ما أشار إليه ابن هشام في شرح بانت سعاد وبسط الكلام فيه من أن الفائدة كما تحصل من الخبر تحصل من صفته وقيده كالحال، وجوز في جملة ‏{‏أَرْدَاكُمْ‏}‏ أن تكون حالاً بتقدير قد أو بدونه، والموصول في جميع الأوجه صفة ‏{‏ظَنُّكُمُ‏}‏ وقيل‏:‏ الثلاثة أخبار فلا تغفل ‏{‏فَأَصْبَحْتُم‏}‏ بسبب ذلك الظن السوء الذي أهلككم ‏{‏مّنَ الخاسرين‏}‏ إذ صار ما أعطوا من الجوارح لنيل السعادة في الدنيا والآخرة لأن بها تعيشهم في الدنيا وإدراكهم ما يهتدون به إلى اليقين ومعرفة رب العالمين الموصل للسعادة الأخروية سبباً للشقاء في الدارين حيث أداهم إلى كفران نعم الرازق والكفر بالخالق والانهماك في الغفلات وارتكاب المعاصي واتباع الشهوات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ‏}‏ أي محل ثواء وإقامة أبدية لهم بحيث لا براح لهم منها، وترتيب الجزاء على الشرط لأن التقدير إن يصبروا والظن أن الصبر ينفعهم لأنه مفتاح الفرج لا ينفعهم صبرهم إذا لم يصادف محله فإن النار محلهم لا محالة، وقيل‏:‏ في الكلام حذف والتقدير أو لا يصبروا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَاء عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 16‏]‏ وقيل‏:‏ المراد فإن يصبروا على ترك دينك واتباع هواهم فالنار مثوى لهم وليس بذاك، والالتفات للإيذان باقتضاء حالهم أن يعرض عنهم ويحكي سوء حالهم للغير أو للإشعار بإبعادهم عن حيز الخطاب وإلقائهم في غيابة دركات النار ‏{‏وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ‏}‏ أي يسألوا العتبى وهي الرجوع إلى ما يحبونه جزعاً مما هم فيه ‏{‏فَمَا هُم مّنَ المعتبين‏}‏ أي المجابين إليها‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ المراد إن يعتذروا فما هم من المعذورين‏:‏ وقرأ الحسن‏.‏ وعمرو بن عبيد‏.‏ وموسى الأسواري ‏{‏وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ‏}‏ مبنياً للمفعول ‏{‏فَمَا هُم مّنَ المعتبين‏}‏ اسم فاعل أي إن طلب منهم أن يرضوا ربهم فما هم فاعلون ولا يكون ذلك لأنهم قد فارقوا الدنيا دار الأعمال كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس بعد الموت مستعتب» ويحتمل أن تكون هذه القراءة بمعنى قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ‏}‏ أي قدرنا، وفي «البحر» أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا وقيل‏:‏ سلطنا ووكلنا عليهم ‏{‏قُرَنَاء‏}‏ جمع قرين أي أخداناً وأصحاباً من غواة الجن، وقيل‏:‏ منهم ومن الإنس يستولون عليهم استيلاء القيض وهو القشر على البيض، وقيل‏:‏ أصل القيض البدل ومنه المقايضة للمعاوضة فتقييض القرين للشخص إما لاستيلائه عليه أو لأخذه بدلاً عن غيره من قرنائه ‏{‏فَزَيَّنُواْ لَهُم‏}‏ حسنوا وقرروا في أنفسهم ‏{‏مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من أمر الآخرة حيث ألقوا إليهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ من أمر الدنيا من الضلالة والكفر واتباع الشهوات، وقال الحسن‏:‏ ما بين أيديهم من أمر الدنيا وما خلفهم من أمر الآخرة، وقال الكلبي‏:‏ ما بين أيديهم أعمالهم التي يشاهدونها وما خلفهم ما هم عاملوه في المستقبل ولكل وجهة‏.‏ ولعل الأحسن ما حكي عن الحسن ‏{‏وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول‏}‏ أي ثبت وتقرر عليهم كلمة العذاب وتحقق موجبها ومصداقها وهي قوله تعالى لإبليس‏:‏ ‏{‏فالحق والحق أَقُولُ لاَمْلاَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 84، 85‏]‏‏.‏

‏{‏فِى أُمَمٍ‏}‏ حال من الضمير المجرور أي كائنين في جملة أمم، وقيل‏:‏ ‏{‏فِى‏}‏ بمعنى مع ويحتمل المعنيين قوله‏:‏ إن تك عن أحسن الصنيعة مأ *** فوكاً ففي آخرين قد أفكوا

وفي «البحر» لا حاجة للتضمين مع صحة معنى في، وتنكير ‏{‏أُمَمٌ‏}‏ للتكثير أي في أمم كثيرة ‏{‏قَدْ خَلَتْ‏}‏ أي مضت ‏{‏مِن قَبْلِهِمْ مّنَ الجن والإنس‏}‏ على الكفر والعصيان كدأب هؤلاء ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ خاسرين‏}‏ تعليل لاستحقاقهم العذاب والضمير لهم وللأمم، وجوز كونه لهم بقرينة السياق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ من رؤساء المشركين لأعقابهم أو قال بعضهم لبعض‏:‏ ‏{‏لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان‏}‏ أي لا تنصتوا له‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ «كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة إذا قرأ القرآن يرفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون‏:‏ لا تسمعوا لهذا القرآن ‏{‏والغوا فِيهِ‏}‏ وأتوا باللغو عند قراءته ليتشوش على القارىء، والمراد باللغو ما لا أصل له وما لا معنى له، وكان المشركون عند قراءته عليه الصلاة والسلام يأتون بالمكاء والصفير والصياح وإنشاد الشعر والأراجيز، وقال أبو العالية‏:‏ أي قعوا فيه وعيبوه، وفي كتاب ابن خالويه قرأ عبد الله بن بكر السهمي‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وأبو السمال‏.‏ والزعفراني‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ وعيسى بخلاف عنهما ‏{‏والغوا‏}‏ بضم الغين مضارع لغا بفتحها وهما لغتان يقال لغى يلغي كرضى يرضي ولغا يلغو كعدا يعدو إذا هذى، وقال صاحب اللوامح‏:‏ يجوز أن يكون الفتح من لغى بالشيء يلغي به إذا رمى به فيكون ‏{‏فِيهِ‏}‏ بمعنى به أي ارموا به وانبذوه ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ أي تغلبونه على قراءته أو تطمون أمره وتميتون ذكره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي فوالله لنذيقن هؤلاء القائلين، والإظهار في مقام الإضمار للإشعار بالعلية أو جميع الكفار وهم يدخلون فيه دخولاً أولياً‏.‏

‏{‏عَذَاباً شَدِيداً‏}‏ لا يقادر قدره ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذى كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي جزاء سيآت أعمالهم التي هي في أنفسها أسوأ فأفعل للزيادة المطلقة، وقيل‏:‏ إنه سبحانه لا يجازيهم بمحاسن أعمالهم كإغاثة الملهوفين وصلة الأرحام وقرى الأضياف لأنها محبطة بالكفر، والعذاب إما في الدارين أو في إحداهما، وعن ابن عباس عذاباً شديداً يوم بدر وأسوأ الذي كانوا يعملون في الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إِشارة إلى ما ذكر من الجزاء وهو مبتدأ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَزَاء أَعْدَاء الله‏}‏ خبره أي ما ذكر من الجزاء جزاء معد لأعدائه تعالى، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏النار‏}‏ عطف بيان لجزاء أو بدل أو خبر لمبتدأ محذوف‏.‏

وجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك و‏{‏جَزَاء‏}‏ مبتدأ و‏{‏النار‏}‏ خبره، والإشارة حينئذٍ إلى مضمون الجملة السابقة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ‏}‏ جملة مستقلة مقررة لما قبلها، وجوز أن يكون ‏{‏النار‏}‏ مبتدأ وهذه الجملة خبره أي هي بعينها دار إقامتهم على أن في للتجريد كما قيل‏:‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏ وقول الشاعر‏:‏ وفي الله إن لم ينصفوا حكم عدل *** وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله مبالغة فيها، وجوز أن يقال‏:‏ المقصود ذكر الصفة والدار إنما ذكرت توطئة فكأنه قيل‏:‏ لهم فيها الخلود، وقيل‏:‏ الكلام على ظاهره والظرفية حقيقية، والمراد أن لهم في النار المشتملة على الدركات دار مخصوصة هم فيها خالدون والأول أبلغ‏.‏

‏{‏جَزَاء أَعْدَاء الله النار لَهُمْ‏}‏ منصوب بفعل مقدر أي يجزون جزاءً أو بالمصدر السابق فإن المصدر ينتصب بمثله كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاء مَّوفُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 63‏]‏ والباء الأولى متعلقة بجزاء والثانية بيجحدون قدمت عليه لقصد الحصر الإضافي مع ما فيه من مراعاة الفواصل أي بسبب ما كانوا يجحدون بآياتنا الحقة دون الأمور التي ينبغي جحودها، وجعل بعضهم الجحود مجازاً عن اللغو المسبب عنه أي جزاءً بما كانوا بآياتنا يلغون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وهم متقلبون فيما ذكر من العذاب‏.‏

‏{‏رَبَّنَا أَرِنَا الذين *أضلانا مِنَ الجن والإنس‏}‏ يعنون فريقي شياطين النوعين المقيضين لهم الحاملين لهم على الكفر والمعاصي بالتسويل والتزيين، وعن علي كرم الله وجهه‏.‏ وقتادة أنهما إبليس‏.‏ وقابيل فإنهما سببا الكفر والقتل بغير حق‏.‏ وتعقب بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه فإن قابيل مؤمن عاص، والظاهر أن الكفار إنما طلبوا إراءة المضلين بالكفر المؤدي إلى الخلود وكونهم رئيس الكفرة ورئيس أهل الكبائر خلاف الظاهر، وقرأ ابن كثير‏.‏ وابن عامر‏.‏ ويعقوب‏.‏ وأبو بكر ‏{‏أَرِنَا‏}‏ بالتخفيف كفخذ بالسكون في فخذ، وفي «الكشاف» ‏{‏أَرِنَا‏}‏ بالكسر للاستبصار وبالسكون للاستعطاء ونقله عن الخليل، فمعنى القراءة عليه أعطنا اللذين أضلانا ‏{‏نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا‏}‏ ندوسهما بها انتقاماً منهما، وقيل‏:‏ نجعلهما في الدرك الأسفل من النار ليشتد عذابهما فالمراد نجعلهما في الجهة التي تحت أقدامنا، وقرىء في السبعة ‏{‏اللذين‏}‏ بتشديد النون وهي حجة على البصريين الذين لا يجوزون التشديد فيها في حال كونها بالياء وكذا في اللتين وهذين وهاتين ‏{‏لِيَكُونَا مِنَ الاسفلين‏}‏ ذلاً ومهانة أو مكاناً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله‏}‏ شروع في بيان حسن أحوال المؤمنين في الدنيا والآخرة بعد بيان سوء حال الكفرة فيهما أي قالوه اعترافاً بربوبيته تعالى وإقراراً بوحدانيته كما يشعر به الحصر الذي يفيده تعريف الطرفين كما في صديقي زيد ‏{‏ثُمَّ استقاموا‏}‏ ثم ثبتوا على الإقرار ولم يرجعوا إلى الشرك، فقد روي عن الصديق رضي الله تعالى عنه أنه تلا الآية وهي قد نزلت على ما روي عن ابن عباس ثم قال‏:‏ ما تقولون فيها‏؟‏ قالوا‏:‏ لم يذنبوا قال‏:‏ قد حملتم الأمر على أشده قالوا‏:‏ فما تقول‏؟‏ قال‏:‏ لم يرجعوا إلى عبادة الأوثان‏.‏ وعن عمر رضي الله تعالى عنه استقاموا لله تعالى بطاعته لم يروغوا روغان الثعالب، وعن عثمان رضي الله تعالى عنه اخلصوا العمل، وعن الأمير علي كرم الله تعالى وجهه أدوا الفرائض، وقال الثوري‏:‏ عملوا على وفاق ما قالوا، وقال الفضيل‏:‏ زهدوا في الفانية ورغبوا في الباقية، وقال الربيع‏:‏ اعرضوا عما سوى الله تعالى، وفي «الكشاف» أي ثم ثبتوا على الإقرار ومقتضياته وأراد أن من قال‏:‏ ربي الله تعالى فقد اعترف أنه عز وجل مالكه ومدبر أمره ومربيه وأنه عبد مربوب بين يدي مولاه فالثبات على مقتضاه أن لا تزل قدمه عن طريق العبودية قلباً وقالباً ولا يتخطاه وفيه يندرج كل العبادات والاعتقادات ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لمن طلب أمراً يعتصم به‏:‏ ‏"‏ قل ربي الله تعالى ثم استقم ‏"‏ وذكر أن ما ورد عن الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم جزئيات لهذا المعنى ذكر كل منها على سبيل التمثيل ولا يخفى أن كلام الصديق رضي الله تعالى عنه يبعد كون ما ذكره على سبيل التمثيل، ولعل ‏{‏ثُمَّ‏}‏ على هذا للتراخي الرتبي فإن الاستقامة عليه أعظم وأصعب من الإقرار وكذا يقال على أغلب التفاسير السابقة، وجوز أن تكون للتراخي الزماني لأنها تحصل بعد مدة من وقت الإقرار، وجعلت على تفسير الاستقامة بأداء الفرائض أو بالعمل للتراخي الرتبي أيضاً بناء على أن الإقرار مبدأ الاستقامة على ذلك ومنشؤها، وهذا على عكس التراخي الرتبي الذي سمعته أولاً لأن المعطوف عليه فيه أعلى مرتبة من المعطوف إذ هو العمدة والأساس، وعلى ما تقدم المعطوف أعلى مرتبة من المعطوف عليه كما لا يخفى ‏{‏تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ‏}‏ من الله ربهم عز وجل ‏{‏الملائكة‏}‏ قال مجاهد‏.‏ والسدي‏:‏ عند الموت، وقال مقاتل‏:‏ عند البعث، وعن زيد بن أسلم عند الموت وفي القبر وعند البعث، وقيل‏:‏ تتنزل عليهم يمدونهم فيما يعن ويطرأ لهم من الأمور الدينية والدنيوية بما يشرح صدورهم ويدفع عنهم الخوف والحزن بطريق الإلهام كما أن الكفرة يغويهم ما قيض لهم من قرناء السوء بتزيين القبائح، قيل‏:‏ وهذا هو الأظهر لما فيه من الإطلاق والعموم الشامل لتنزلهم في المواطن الثلاثة السابقة وغيرها، وقد قدمنا لك أن جميعاً من الناس يقولون‏:‏ بتنزل الملائكة على المتقين في كثير من الأحيايين وأنهم يأخذون منهم ما يأخذون فتذكر‏.‏

‏{‏أَلاَّ تَخَافُواْ‏}‏ ما تقدمون عليه فإن الخوف غم يلحق لتوقع المكروه ‏{‏وَلاَ تَحْزَنُواْ‏}‏ على ما خلفتم فإنه غم يلحق لوقوعه من فوات نافع أو حصول ضار وروى هذا عن مجاهد، وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ لا تخافوا رد حسناتكم فإنها مقبولة ولا تحزنوا على ذنوبكم فإنها مغفورة، وقيل‏:‏ المراد نهيهم عن الغموم على الإطلاق‏.‏

والمعنى أن الله تعالى كتب لكم الأمس من كل غم فلم تذوقوه أبداً‏.‏ و‏{‏ءانٍ‏}‏ إما مصدرية و‏{‏لا‏}‏ ناهية أو نافية وسقوط النون للنصب والخبر في موضع الإنشاء مبالغة، وإما مخففة من الثقيلة و‏{‏تَتَنَزَّلُ‏}‏ مضمن معنى العلم ولا ناهية وأن في الوجهين مقدرة بالباء أي بأن لا تخافوا أو بأنه لا تخافوا والهاء ضمير الشأن‏.‏ وإما مفسرة و‏{‏تَتَنَزَّلُ‏}‏ مضمن معنى القول ولا ناهية أيضاً‏.‏

وفي قراءة عبد الله ‏{‏لا تَخَافُواْ‏}‏ بدون ‏{‏ءانٍ‏}‏ أي يقولون لا تخافوا على أنه حال من الملائكة أو استئناف‏.‏

‏{‏وَأَبْشِرُواْ بالجنة التى كُنتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏ أي التي كنتم توعدونها في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام، هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة

‏[‏بم وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا‏}‏ إلى آخره من بشاراتهم في الدنيا أي أعوانكم في أموركم نلهمكم الحق ونرشدكم إلى ما فيه خيركم وصلاحكم، ولعل ذلك عبارة عما يخطر ببال المؤمنين المسترين على الطاعات من أن ذلك بتوفيق الله تعالى وتأييده لهم بواسطة الملائكة عليهم السلام، ويجوز على قول بعض الناس أن تقول الملائكة لبعض المتقين شفاها في غير تلك المواطن‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الحياة الدنيا‏}‏ ‏{‏وَفِي الاخرة‏}‏ نمدكم بالشفاعة ونتلقاكم بالكرامة حين يقع بين الكفرة وقرنائهم ما يقع من الدعاوي والخصام‏.‏

وذهب بعض المفسرين على أن هذا من بشاراتهم في أحد المواطن الثلاثة أيضاً على معنى كنا نحن أولياءكم في الدنيا ونحن أولياؤكم في الآخرة، وقيل‏:‏ هذا من كلام الله تعالى دون الملائكة أي نحن أولياؤكم بالهداية والكفاية في الدنيا والآخرة ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا‏}‏ أي في الآخرة ‏{‏مَا تَشْتَهِى أَنفُسُكُمْ‏}‏ من فنون الملاذ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ‏}‏ ما تتمنون وهو افتعال من الدعاء بمعنى الطلب أي تدعون لأنفسكم وهو عند بعض أعم من الأول لأنه قد يقع الطلب في أمور معنوية وفضائل عقلية روحانية، وقيل‏:‏ بينهما عموم وخصوص من وجه إذ قد يشتهي المرء ما لا يطلبه كالمريض يشتهي ما يضره ولا يريده، وكون التمني أعم من الإرادة غير مسلم، نعم قيل‏:‏ إذا أريد بالمتمني ما يصح تمنيه لا ما يتمنى بالفعل فذاك‏.‏

وقال ابن عيسى المراد ما تدعون أنه لكم فهو لكم يحكم ربكم ‏{‏وَلَكُمْ‏}‏ في الموضعين خبر و‏{‏مَا‏}‏ مبتدأ و‏{‏فِيهَا‏}‏ حال من ضميره في الخبر وعدم الاكتفاء بعطف ‏{‏مَا تَدَّعُونَ‏}‏ على ‏{‏مَا تَشْتَهِى‏}‏ للإيذان باستقلال كل منهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏نُزُلاً‏}‏ قال الحسن‏:‏ منا وقال بعضهم‏:‏ ثواباً، وتنوينه للتعظيم وكذا وصفه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ‏}‏ والمشهور أن النزل ما يهيأ للنزيل أي الضيف ليأكله حين نزوله وتحسن إرادته هنا على التشبيه لما في ذلك من الإشارة إلى عظم ما بعد من الكرامة، وانتصابه على الحال من الضمير في الظرف الراجع إلى ‏{‏مَا تَدَّعُونَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 31‏]‏ لا من الضمير المحذوف الراجع إلى ‏{‏مَا‏}‏ لفساد المعنى لأن التمني والإدعاء ليس في حال كونه نزلاً بل ثبت لهم ذلك المدعي واستقر حال كونه نزلاً، وجعله حالاً من المبتدأ نفسه لا يخفى حاله على ذي تمييز‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ ‏{‏نُزُلاً‏}‏ نصب على المصدر، والمحفوظ أن مصدر نزل نزول لا نزل، وجعله بعضهم مصدراً لأنزل، وقيل‏:‏ هو جمع نازل كشارف وشرف فينتصب على الحال أيضاً أي نازلين، وذو الحال على ما قال أبو حيان‏:‏ الضمير المرفوع في ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ ولا يحسن تعلق ‏{‏مّنْ غَفُورٍ‏}‏ به على هذا القول فقيل‏:‏ هو في موضع الحال من الضمير في الظرف فلا تغفل‏.‏

وقرأ أبو حيوة ‏{‏نُزُلاً‏}‏ بإسكان الزاي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مّمَّن دَعَا إِلَى الله‏}‏ أي إلى توحيده تعالى وطاعته والظاهر العموم في كل داع إلى تعالى، وإلى ذلك ذهب الحسن‏.‏ ومقاتل‏.‏ وجماعة، وقيل‏:‏ بالخصوص فقال ابن عباس‏:‏ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنه أيضاً هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقالت عائشة‏.‏ وقيس بن أبي حازم‏.‏ وعكرمة‏.‏ ومجاهد‏:‏ نزلت في المؤذنين، وينبغي أن يتأول قولهم على أنهم داخلون في الآية وإلا فالسورة بكمالها مكية بلا خلاف ولم يكن الأذان بمكة إنما شرع بالمدينة، والتزام القول بتأخر حكمها عن نزولها كما ترى، والظاهر أن المراد الدعاء باللسان، قيل‏:‏ به وباليد كأن يدعو إلى الإسلام ويجاهد، وقال زيد بن علي‏:‏ دعا إلى الله بالسيف، ولعل هذا والله تعالى أعلم هو الذي حمله على الخروج بالسيف على بعض الظلمة من ملوك بني أمية، وكان زيد هذا رضي الله تعالى عنه عالماً بكتاب الله تعالى وله تفسير ألقاه على بعض النقلة عنه وهو في حبس هشام بن عبد الملك وفيه من العلم والاستشهاد بكلام العرب حظ وافر‏.‏

ويقال‏:‏ إنه كان إذا تناظر هو وأخوه محمد الباقر اجتمع الناس بالمحابر يكتبون ما يصدر عنهما من العلم رحمهما الله تعالى ورضي عنهما، والاستفهام في معنى النفي أي لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله ‏{‏وَعَمِلَ صالحا‏}‏ أي عملاً صالحاً أي عمل صالح كان‏.‏

وقال أبو أمامة‏:‏ صلى بين الأذان والإقامة، ولا يخفى ما فيه، وقال عكرمة‏:‏ صلى وصام، وقال الكلبي‏:‏ أدى العرائض والحق العموم ‏{‏وَقَالَ إِنَّنِى مِنَ المسلمين‏}‏ أي تلفظ بذلك ابتهاجاً بأنه منهم وتفاخراً به مع قصد الثواب إذ هو لا ينافيه أو جعل واتخذ الإسلام ديناً له من قولهم‏:‏ هذا قول فلان أي مذهبه ومعتقده، وبعضهم يرجع الوجهين إلى وجه واحد، والمعنى على القول بكون الآية خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم اختار النسبة إلى الإسلام دون عز الدنيا وشرفها وهو قولهم رد ‏{‏لا تسمعوا لهذا القرآن‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ وتعجيب منه، وقرأ ابن أبي عبلة‏.‏ وإبراهيم بن نوح عن قتيبة المبال ‏{‏وَقَالَ إِنّي‏}‏ بنون مشددة دون نون الوقاية‏.‏

واستدل أبو بكر بن العربي بالآية على عدم اشتراط الاستثناء في قول القائل‏:‏ أنا مسلم أو أنا مؤمن‏.‏ وفي الآية إشارة إلى أنه ينبغي للداعي إلى الله تعالى أن يكون عاملاً عملاً صالحاً ليكون الناس إلى قبول دعائه أقرب وإليه أسكن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة‏}‏ جملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد والرب عز وجل ترغيباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر على أذية المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان، والحكم عام أي لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الآثار والأحكام، و‏{‏لا‏}‏ الثانية مزيدة لتأكيد النفي مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ الظل وَلاَ الحرور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 21‏]‏ لأن استوى لا يكتفي بمفرد وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادفع بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة أي ادفع السيئة حيث اعترضتك من بعض أعاديك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقاً أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء فإنه أحسن من مجرد العفو فأحسن على ظاهره والمفضل عليه عام ولذا حذف كما في الله تعالى أكبر، وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال‏:‏ كيف أصنع‏؟‏ للمبالغة والإشارة إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه، وللمبالغة أيضاً وضع ‏{‏أَحْسَنُ‏}‏ موضع الحسنة لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه، ومما ذكرنا يعلم أن ليس المراد بالحسنة والسيئة أمرين معينين‏.‏ وعن علي كرم الله تعالى وجهه الحسنة حب الرسول وآله عليهم الصلاة والسلام والسيئة بغضهم، وعن ابن عباس الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك، وقال الكلبي‏:‏ الدعوتان إليهما، وقال الضحاك‏:‏ الحلم والفحش، وقيل‏:‏ الصبر، وقيل‏:‏ المدارة والغلظة، وقيل غير ذلك، ولا يخفى أن بعض المروي يكاد لا تصح إرادته هنا فلعله لم يثبت عمن روى عنه، وجوز أن يكون المراد بيان تفاوت الحسنات والسيئات في أنفسهما بمعنى أن الحسنات تتفاوت إلى حسن وأحسن والسيئات كذلك فتعريف الحسنة والسيئة للجنس و‏{‏لا‏}‏ الثانية ليست مزيدة وأفعل على ظاهره، والكلام في ‏{‏ادفع‏}‏ الخ على معنى الفاء أي إذا كان كل من الجنسين متفاوت الافراد في نفسه فادفع بأحسن الحسنتين السيء والأسوأ، وترك الفاء للاستئناف الذي ذكرنا وهو أقوى الوصلين ولعل الأول أقرب ‏{‏فَإِذَا الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ‏}‏ بيان لنتيجة الدفع المأمور به أي فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ دخلت ‏{‏كَانَ‏}‏ المفيدة للتشبية لأن العدو لا يعدو ولياً حميماً بالدفع بالتي هي أحسن وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم؛ ولعل ذلك من باب الاكتفاء بأقل اللازم وهذا بالنظر إلى الغالب وإلا فقد تزول العداوة بالكلية بذلك كما قيل‏.‏ إن العداوة تستحيل مودة *** بتدارك الهفوات بالحسنات و‏{‏الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ‏}‏ أبلغ من عدوك ولذا اختير عليه مع اختصاره، والآية قيل‏:‏ نزلت في أبي سفيان ابن حرب كان عدواً مبيناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار عند أهل السنة ولياً مصافياً وكأن ما عنده انتقل إلى ولد ولده يزيد عليه من الله عز وجل ما يستحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا‏}‏ أي ما يلقى ويؤتي هذه الفعلة والخصلة الشريفة التي هي الدفع بالتي هي أحسن فالضمير راجع لما يفهم من السياق، وجوز رجوعه للتي هي أحسن، وحكى مكي أن الضمير لشهادة أن لا إله إلا الله فكأنه أرجع للتي هي أحسن وفسرت بالشهادة المذكورة ومع هذا هو كما ترى، وقيل‏:‏ الضمير للجنة وليس بشيء‏.‏

وقرأ طلحة‏.‏ وابن كثير في رواية ‏{‏وَمَا‏}‏ من الملاقاة ‏{‏فَخُورٌ إِلاَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏ أي الذين فيهم طبيعة الصبر وشأنهم ذلك ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ‏}‏ ذو نصيب عظيم من خصال الخير وكمال النفس كما روى عن ابن عباس، وقال قتادة‏:‏ ذو حظ عظيم من الثواب، وقيل‏:‏ الحظ العظيم الجنة، وعليهما فهو وعد وعلى الأول هو مدح، وكرر ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا‏}‏ تأكيداً لمدح تلك الفعلة الجملة الجليلة ولأوحد أهل عصره الذي بخل الزمان أن يأتي بمثله صالح أفندي كاتب ديوان الإنشاء في الحدباء في هذه الآية عبارة مختصرة التزم الدقة فيها رحمة الله تعالى عليه وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏ الآية يمكن أن يؤخذ من الأول ما هو من أول الأول لا الثاني للاتفاق فيتحقق الاشرف بعد إعطاء المقام حقه فيتحقق الحابس أنه مجدود فيقف عند الحد المحدود انتهت‏.‏

وأراد والله تعالى أعلم أنه يمكن أن يؤخذ من الأول أي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ‏}‏ ومن الثاني وهو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ‏}‏ ما أي شكل هو من أول ضروب الشكل الأول الأربعة وهو قياس منه مركب من موجبتين كليتين ينتج موجبة كلية بأن يقال‏:‏ كل صابر هو الذي يلقاها وكل من يلقاها فهو ذو حظ عظيم ينتج كل صابر هو ذو حظ عظيم، ولا يمكن أن يؤخذ قياس من الشكل الثاني للاتفاق في الكيف وشرط الشكل الثاني اختلاف المقدمتين فهي كما هو مقرر في محله فيتحقق بعد الأخذ وتركيب المقدمتين الأمر الأشرف أي النتيجة التي هي موجبة كلية وهي أشرف المحصورات الأربع لاشتمالها على الإيجاب الأشرف من السلب والكلية الأشرف من الجزئية بعد إعطاء المقام حقه من جعل الموصول للاستغراق كما أشير إليه ليفيد الكلية فعند ذلك يتحقق ويعلم الحابس أي الصابر أنه مجدود أي ذو جد وحظ فيقف عند الحد المحدود ولا يتجاوز من الصبر إلى غيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ‏}‏ النزغ النخس وهو المس بطرف قضيب أو أصبع بعنف مؤلم استعير هنا للوسوسة الباعثة على الشر وجعل نازغاً للمبالغة على طريقة جد جد فمن على هذا ابتدائية، ويجوز أن يراد به نازغ على أن المصدر بمعنى اسم الفاعل وصفا للشيطان فمن بيانية والجار والمجرور في موضع الحال أو هي ابتدائية أيضاً لكن على سبيل التجريد، وجوز أن يكون المراد بالنازغ وسوسة الشيطان و‏{‏ءانٍ‏}‏ شرطية و‏{‏مَا‏}‏ مزيدة أي وإن ينزغنك ويصرفنك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ من شره ولا تعطه ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ عز وجل ‏{‏هُوَ السميع‏}‏ فيسمع سبحانه استعاذتك ‏{‏العليم‏}‏ فيعلم جل شأنه نيتك وصلاحك، وقيل‏:‏ السمع لقول من أذاك العليم بفعله فينتقم منه مغنياً عن انتقامك، وقيل‏:‏ العليم بنزغ الشيطان، وفي جعل ترك الدفع من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه، ولعل الخطاب من باب إياك أعني واسمعي يا جاره‏.‏

وجوز أن يراد بالشيطان ما يعم شيطان الإنس فإن منهم من يصرف عن الدفع بالتي هي أحسن ويقول‏:‏ إنه عدوك لذي فعل بك كيت وكيت فانتهز الفرصة فيه وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس ولا يظن فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى غير ذلك من الكلمات التي ربما لا تخطر أبداً ببال شيطان الجن نعوذ بالله تعالى السميع العليم من كل شيطان، وفسر عبد الرحمن بن زيد النزغ بالغضب واستدل بالآية على استحباب الاستعاذة عنده‏.‏

وقد روى الحاكم عن سليمان بن صدر قال‏:‏ استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب‏.‏ أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل‏:‏ أمجنوناً تراني‏؟‏ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله»‏.‏

ولعل الغضب من آثار الوسوسة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته‏}‏ الدالة على شؤنه الجليلة جل شأنه‏:‏ ‏{‏وَسَخَّر لَكُمُ‏}‏ في حدوثهما وتعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر ‏{‏والشمس والقمر‏}‏ في استنارتهما واختلافهما في قوة النور والعظم والآثار والحركات مثلاً، وقدم ذكر الليل قيل‏:‏ تنبيهاً على تقدمه مع كون الظلمة عدماً، وناسب ذكر الشمس بعد النهار لأنها آيته وسبب تنويره ولأنها أصل لنور القمر بناء على ما قالوا من أنه مستفاد من ضياء الشمس، وأما ضياؤها فالمشهور أنه غير طارىء عليها من جرم آخر، وقيل‏:‏ هو من العرش، والفلاسفة اليوم يظنون أنه من جرم آخر وادعوا أنهم يرون في طرف من جرم الشمس ظلمة قليلة ‏{‏لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ‏}‏ لأنها من جملة مخلوقاته سبحانه وتعالى المسخرة على وفق إرادته تعالى مثلكم ‏{‏واسجدوا لِلَّهِ الذى خَلَقَهُنَّ‏}‏ الضمير قيل للأربعة المذكورة والمقصود تعليق الفعل بالشمس والقمر لكن نظم معهما الليل والنهار إشعاراً بأنهما منم عداد ما لا يعلم ولا يختار ضرورة أن الليل والنهار كذلك ولو ثنى الضمير لم يكن فيه أشعار بذلك‏.‏

وحكم جماعة ما لا يعقل على ما قال الزمخشري حكم الأنثى فيقال‏:‏ الأقلام بريتها وبريتهن فلا يتوهم أن الضمير لما كان لليل والنهار والشمس والقمر كان المناسب تغليب الذكور، والجواب بأنه لما كن من الآيات عدت كالأناث تكلف عنه غني بالقاعدة المذكورة‏.‏ نعم قال أبوحيان‏:‏ ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك وجمع الكثرة فإن الأفصح في الأول أن يكون بضمير الواحدة تقول الأجذاع انكسرت على الأفصح والأفصح في الثاني أن يكون بضمير الأناث تقول الجذوع انكسرن وما في الآية ليس بجمع قلة بلفظ واحد لكنه منزل منزلة المعبر عنه به، وقيل‏:‏ الضمير للشمس والقمر والأثنان جمع وجمع ما لا يعقل يؤنث، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي ساغ أن يعود الضمير إليهما جمعاً، وقيل‏:‏ الضمير للآيات المتقدم ذكرها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته‏}‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏ فإن السجود أقصى مراتب العبادة فلا بد من تخصيصه به عز وجل، وكان علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن مسعود يسجدان عند ‏{‏تَعْبُدُونَ‏}‏ ونسب القول بأنه موضع السجدة للشافعي، وسجد عند ‏{‏لاَ يَسْئَمُونَ‏}‏ ابن عباس‏.‏ وابن عمر‏.‏ وأبو وائل‏.‏ وبكر بن عبد الله، وكذلك روى عن ابن وهب‏.‏ ومسروق‏.‏ والسلمي‏.‏ والنخعي‏.‏ وأبي صالح‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والحسن‏.‏ وابن سيرين‏.‏ وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم، ونقله في التحرير عن الشافعي رضي الله تعالى عنه‏.‏ وفي «الكشف» أصح الوجهين عند أصحابنا يعني الشافعية أن موضع السجدة ‏{‏لاَ يَسْئَمُونَ‏}‏ كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة، ووجهه أنها تمام المعنى على أسلوب اسجد فإن الاستكبار عنه مذموم، وعلله بعضهم بالاحتياط لأنها إن كانت عند ‏{‏تَعْبُدُونَ‏}‏ جاز التأخير لقصر الفصل، وإن كانت عند ‏{‏يَسْئَمُونَ‏}‏ لم يجز تعجيلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنِ استكبروا‏}‏ تعاظموا عن اجتناب ما نهوا عنه من السجود لتلك المخلوقات وامتثال ما أمروا به من السجود لخالقهن فلا يعبأ بهم أو فلا يخل ذلك بعظمة ربك ‏{‏فالذين عِندَ رَبّكَ‏}‏ أي في حضرة قدسه عز وجل من الملائكة عليهم السلام الذين هم خير منهم ‏{‏يُسَبّحُونَ لَهُ بالليل والنهار‏}‏ أي دائماً وإن لم يكن عندهم ليل ونهار ‏{‏وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ‏}‏ لا يملكون ذلك، وجواب الشرط في الحقيقة ما أشرنا إليه أو نحوه وما ذكر قائم مقامه، ويجوز أن يكون الكلام على معنى الاخبار كما قيل في نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس إنه على معنى فأخبرك إني قد أكرمتك أمس‏.‏

وقرىء ‏{‏لاَ يَسْئَمُونَ‏}‏ بكسر الياء، والظاهر أن الآية في أناس من الكفرة كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله تعالى فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصاً‏.‏ واستدل الشيخ أبو إسحق في المهذب بالآية على صلاتي الكسوف والخسوف قال‏:‏ لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرهما وأخذ من ذلك تفضيلهما على صلاة الاستسقاء لكونهما في القرآن بخلافها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى‏}‏ يا من تصح منه الرؤية‏:‏

‏{‏الارض خاشعة‏}‏ يابسة متطامنة مستعار من الخشوع بمعنى التذلل ‏{‏فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الماء‏}‏ أي المطر ‏{‏اهتزت وَرَبَتْ‏}‏ أي تحركت بالنبات وانتفخت لأن النبت إذا دنا أن يظهر ارتفعت له الأرض وانتفخت ثم تصدعت عن النبات، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية شبه حال جدوبة الأرض وخلوها عن النبات ثم إحياء الله تعالى إياها بالمطر وانقلابها من الجدوبة إلى الخصب وإنبات كل زوج بهيج بحال شخص كئيب كاسف البال رث الهيئة لا يؤبه به ثم إذا أصابه شيء من متاع الدنيا وزينتها تكلف بأنواع الزينة والزخارف فيختال في مشيه زهواً فيهتز بالإعطاف خيلاء وكبراً فحذف المشبه واستعمل الخشوع والاهتزاز دلالة على مكانه ورجح اعتبار التمثيل‏.‏ وقرىء ‏{‏ربأت‏}‏ أي زادت، وقال الزجاج‏:‏ معنى ربت عظمت وربأت بالهمز ارتفعت ومنه الربيئة وهي طليعة على الموضع المرتفع ‏{‏وَرَبَتْ إِنَّ الذى أحياها‏}‏ بما ذكر بعد موتها ‏{‏يُحْيِىَ الموتى‏}‏ بالبعث ‏{‏أَنَّهُ على كُلّ شَىْء‏}‏ من الأشياء التي من جملتها الإحياء ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ مبالغة في القدرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آَيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آَمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا‏}‏ ينحرفون في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحة والاستقامة فيحملونها على المحامل الباطلة، وهو مراد ابن عباس بقوله‏:‏ يضعون الكلام في غير موضعه، وأصله من ألحد إذا مال عن الاستقامة فحفر في شق ويقال لحد‏.‏ وقرىء ‏{‏يُلْحِدُونَ‏}‏ باللغتين، وقال قتادة‏:‏ هنا الإلحاد التكذيب، وق لمجاهد‏:‏ المكاء والصفير واللغو فالمعنى يميلون عما ينبغي ويليق في شأن آياتنا فيكذبون القرآن أو فيلغون ويصفرون عند قراته، وجوز أن يراد بالآيات ما يشمل جميع الكتب المنزلة وبالإلحاد ما يشمل تغيير اللفظ وتبديله لكن ذلك بالنسبة إلى غير القرآن لأنه لم يقع فيه كما وقع في غيره من الكتب على ما هو الشائع‏.‏

وعن أبي مالك تفسير الآيات بالأدلة فالإلحاد في شأنها الطعن في دلالتها والإعراض عنها، وهذا أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته اليل والنهار والشمس والقمر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الارض خاشعة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 39‏]‏ الخ، وما تقدم أوفق بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فِيهِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 26‏]‏ وبما بعد، والآية على تفسير مجاهد أوفق وأوفق‏.‏

والمراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا‏}‏ مجازاتهم على الإلحاد فالآية وعيد لهم وتهديد، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏أَفَمَن يلقى فِى النار خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِى ءامِناً يَوْمَ القيامة‏}‏ تنبيه على كيفية الجزاء، وكان الظاهر أن يقابل الإلقاء في النار بدخول الجنة لكنه عدل عنه إلى ما في النظم الجليل اعتناء بشأن المؤمنين لأن الأمن من العذاب أعم وأهم ولذا عبر في الأول بالإلقاء الدال على القسر والقهر وفيه بالإتيان الدال على أنه بالاختيار والرضا مع الامن ودخول الجنة لا ينفي أن يبدل حالهم من بعد خوفهم أمناً، وجوز أن تكون الآية من الاحتبارك بتقدير من يأتي خائفاً ويلقى في النار ومن يأتي آمناً ويدخل الجنة فحذف من الأول مقابل الثاني ومن الثاني مقابل الأول وفيه بعد‏.‏ والآية كما قال ابن بحر عامة في كل كافر ومؤمن‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس ‏{‏أَفَمَن يلقى فِى النار‏}‏ أبو جهل ‏{‏مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا‏}‏ أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وغيره عن بشير بن تميم من يلقى في النار أبو جهل ومن يأتي آمنا عمار‏.‏ والآية نزلت فيهما، وقال مقاتل‏:‏ نزلت في أبي جهل وعثمان بن عفان، وقيل‏:‏ فيه وفي عمر، وقيل‏:‏ فيه وفي حمزة، وقال الكلبي‏:‏ فيه وفي الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏اعملوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ تهديد شديد للكفرة الملحدين الذين يلقون في النار وليس المقصود حقيقة الأمر ‏{‏إِنَّهُ بِمَا تَعْلَمُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فيجازيكم بحسب أعمالكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر‏}‏ وهو القرآن ‏{‏لَمَّا جَاءهُمْ‏}‏ من غير أن يمضي عليهم زمان يتأملون فيه ويتفكرون ‏{‏وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ‏}‏ لا يوجد نظيره أو منيع لا تتأتى معارضته، وأصل العز حالة مانعة للإنسان عن أن يغلب، وإطلاقه على عدم النظير مجاز مشهور وكذا كونه منيعاً، وقيل‏:‏ غالب للكتب لنسخه إياها‏.‏ وعن ابن عباس أي كريم على الله تعالى؛ والجملة حالية مفيدة لغاية شناعة الكفر به، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ‏}‏ صفة أخرى لكتاب، وما بين يديه وما خلفه كناية عن جميع الجهات كالصباح والمساء كناية عن الزمان كله أي لا يتطرق إليه الباطل من جميع جهاته، وفيه تمثيل لتشبيهه بشخص حمى من جميع جهاته فلا يمكن أعداءه الوصول إليه لأنه في حصن حصين من حماية الحق المبين، وجوز أن يكون المعنى لا يأتيه الباطل من جهة ما أخبر به من الأخبار الماضية والأمور الآتية‏.‏

وقيل‏:‏ الباطل بمعنى المبطل كوارس بمعنى مورس أو هو مصدر كالعافية بمعنى مبطل أيضاً؛ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنزِيلٌ مّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏ أي محمود على ما أسدي من النعم التي منها تنزيل الكتاب، وحمده سبحانه‏:‏ بلسان الحال متحقق من كل منعم عليه وبلسان القال متحقق ممن وفق لذلك خبر مبتدأ محذوف أو صفة أخرى لكتاب مفيدة لفخامته الإضافية كما أن الصفتين السابقتين مفيدتان لفخامته الذاتية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَأْتِيهِ‏}‏ الخ اعتراض عند من لا يجوز تقديم غير الصريح من الصفات على الصريح كل ذلك لتأكيد بطلان الكفر بالقرآن، واختلفوا في خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ أمذكور هو أو محذوف فقيل‏:‏ مذكور وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 44‏]‏ وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال‏:‏ لم أجد لها نفاذاً فقال له أبو عمرو‏:‏ إنه منك لقريب ‏{‏أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ وذهب إليه الحوفي وهو في مكان بعيد، وذهب أبو حيان إلى أنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ يَأْتِيهِ الباطل‏}‏ بحذف العائد أي الكافرون وحاله أنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل منهم أي متى راموا أبطالاً له لم يصلوا إليه أو يجعل أل في الباطل عوضاً من الضمير به على قول الكوفيين أي لا يأتيه باطلهم أو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا يُقَالُ لَكَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 43‏]‏ الخ والعائد أيضاً محذوف أي ما يقال لك في شأنهم أو فيهم إلا ما قد قيل للرسل من قبلك أي أوحى إليك في شأن هؤلاء المكذبين لك ولما جئت به مثل ما أوحي إلى من قبلك من الرسل وهو أنهم عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الدائم ثم قال‏:‏ وغاية ما في هذين التوجيهين حذف الضمير العائد وهو موجود نحو السمن منوان بدرهم والبركر بدرهم أي منه‏.‏

ونقل عن بعض نحاة الكوفة أن الخبر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ وتعقبه بأنه لا يتعقل، وقيل‏:‏ هو محذوف وخبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ يحذف لفهم المعنى، وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو‏:‏ معناه في التفسير أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وأنه لكتاب عزيز فقال عيسى‏:‏ أجدت يا أبا عثمان‏.‏

وقال قوم‏:‏ تقديره معاندون أو هالكون، وقال الكسائي؛ قد سد مسده ما تقدم من الكلام قبل وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن يلقى‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ وكأنه يريد أنه محذوف دل عليه ما قبله فيمكن أن يقدر يخلدون في النار، ويقدر الخبر على ما استحسنه ابن عطية بعد ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ وفي الكشاف أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ بدل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ فِى ءاياتنا‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 40‏]‏ قال في «البحر»‏:‏ ولم يتعرض بصريح الكلام إلى خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ أمذكور هو أو محذوف لكنه قد يدعى أنه أشار إلى ذلك فإن المحكوم به على المبدل منه هو المحكوم به على البدل فيكون التقديران الذين يلحدون في آياتنا أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم لا يخفون علينا‏.‏ وفي «الكشف» فائدة هذا الإبدال التنبيه على أنه ما يحملهم على الإلحاد إلا مجرد الكفر، وفيه إمداد التحذير من وجوه ما ذكر من التنبيه؛ ووضع الذكر موضع الضمير الراجع إلى الآيات زيادة تحسير لهم، وما في ‏{‏لَّمّاً‏}‏ من معنى مفاجأتهم بالكفر أول ما جاء، وما فيه من التعظيم لشأن الآيات والتمهيد للحديث عن كمال الكتاب الدال على سوء مغبة الملحد فيه، ثم الأشبه أن يحمل كلام الكشاف على أن الخبر محذوف لدلالة السابق عليه ولزيادة التهويل لذهاب الوهم كل مذهب وتكون الجملة بدلاً عن الجملة لأن البدل بتكرير العالم إنما جوز في المجرور لشدة الاتصال انتهى فتأمل والله تعالى الموفق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا يُقَالُ لَكَ‏}‏ إلى آخره تسلية له صلى الله عليه وسلم عما يصيبه من أذية الكفار من طعنهم في كتابه وغير ذلك فالقائل الكفار أي ما يقول كفار قومك في شأنك وشأن ما أنزل إليك من القرآن ‏{‏إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ‏}‏ أي مثل ما قد قال الكفرة السابقون ‏{‏لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ‏}‏ من الكلام المؤذي المتضمن للطعن فيما أنزل إليهم، وهذا نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ ساحر أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 52‏]‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةَ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ قيل‏:‏ تعليل لما يستفاد من السياق من الأمر بالصبر كأنه قيل‏:‏ ما يقال لك إلا نحو ما قيل لأمثالك من الرسل فاصبر كما صبروا إن ربك لذو مغفرة عظيمة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم فينصر أولياءه وينتقم من أعدائهم، أو جواب سؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ ثم ماذا‏؟‏ فقيل‏:‏ إن ربك لذو مغفرة لأوليائه وذو عقاب أليم لأعدائهم وقد نصر لذلك من قبلك من الرسل عليهم السلام وانتقم من أعدائهم وسيفعل ذلك بك وبأعدائك أيضاً، وجوز أن يكون القائل هو الله تعالى والمعنى على ما سمعت عن أبي حيان وقد جعل هذه الجملة خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ أي ما يوحي الله تعالى إليك في شأن الكفار المؤذين لك إلا مثل ما أوحى للرسل من قبلك في شأن الكفار المؤذين لهم من أن عاقبتهم سيئة في الدنيا بالهلاك وفي الآخرة بالعذاب الأليم فاصبر إن ربك الخ، وقد يجعل ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ‏}‏ الخ باعتبار مضمونه تفسيراً للمقول فحاصل المعنى ما أوحى إليك وإلى الرسل إلا وعد المؤمنين بالمغفرة والكافرين بالعقوبة دون العكس الذي يزعمه الكفرة بلسان حالهم فاصبر فسينجز الله تعالى وعده، وقيل‏:‏ المقول هو الشرائع أي ما يوحي إليك إلا مثل ما أوحي إلى الرسل من الشرائع دون أمور الدنيا وقد جرت عادة الكفار بتكذيب ذلك فما عليك إذا كذب كفار قومك واصبر على ذلك، وجعل ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ‏}‏ الخ تعليلاً لما يستفاد من السياق أيضاً، وجعله بعضهم تفسيراً لذلك المقول أعني الشرائع لأنها الأوامر والنواهي الإلهية وهي مجملة فيه، وفيه من البعد ما فيه، وإلى نحو ما ذكرناه أولاً ذهب قتادة‏.‏

أخرح ابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية‏:‏ ‏{‏مَّا يُقَالُ لَكَ‏}‏ من التكذيب ‏{‏إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ‏}‏ فكما كذبوا كذبت وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر على أذى قومك لك، واختيار ‏{‏أَلِيمٌ‏}‏ على شديد مع أنه أنسب بالفواصل للإيماء إلى أن نظم القرآن ليس كالأسجاع والخطب وأن حسنه ذاتي والنظر فيه إلى المعاني دون الألفاظ، ويحسن وصف العقاب به هنا كون العقاب جزاء التكذيب المؤلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آَذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ جعلناه قُرْءاناً أعْجَمِيّاً‏}‏ جواب لقولهم‏:‏ هلا أنزل القرآن بلغة العجم، والضمير للذكر ‏{‏لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصّلَتْ ءاياته‏}‏ أي بينت لنا وأوضحت بلسان نفقهه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءاعْجَمِىٌّ وَعَرَبِىٌّ‏}‏ بهمزتين الأولى للاستفهام والثانية همزة أعجمي والجمهور يقرؤون بهمزة استفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي إنكار مقرر للتحضيض أي أكلام أعجمي ورسول أو مرسل إليه عربي، وحاصله أنه لو نزل كما يريدون لأنكروا أيضاً وقالوا مالك وللعجمة أو مالنا وللعجمة، والأعجمي أصله أعجم بلا ياء ومعناه من لا يفهم كلامه للكنته أو لغرابة لغته وزيدت الياء للمبالغة كما في أحمري ودواري وأطلق على كلامه مجازاً لكنه اشتهر حتى التحق بالحقيقة، وزعم صاحب اللوامح أن الياء فيه بمنزلة ياء كرسي وهو وهم، وقيل‏:‏ ‏{‏عَرَبِىٌّ‏}‏ على احتمال أن يكون المراد ومرسل إليه عربي مع أن المرسل إليهم جمع فحقه أن يقال‏:‏ عربية أو عربيون لأن المراد بيان التنافي والتنافر بين الكلام وبين المخاطب به لا بيان كون المخاطب به واحداً أو جمعاً، ومن حق البليغ أن يجرد الكلام للدلالة على ما ساقه له ولا يأتي بزائد عليه إلا ما يشد من عضده فإذا رأى لباساً طويلاً على امرأة قصيرة قال‏:‏ اللباس طويل واللابس قصير دون واللابسة قصيرة لأن الكلام لم يقع في ذكورة اللابس وأنوثته فلو قال لخيل إن لذلك مدخلاً فيما سيق له الكلام، وهذا أصل من الأصول يجب أن يكون على ذكر، ويبنى عليه الحذف والإثبات والتقييد والإطلاق إلى غير ذلك في كلام الله تعالى وكل كلام بليغ‏.‏ وقرأ عمرو بن ميمون ‏{‏أَعْجَمِىٌّ‏}‏ بهمزة استفهام بفتح العين أي أكلام منسوب إلى العجم وهم من عدا العرب وقد يخص بأهل فارس ولغتهم العجمية أيضاً فبين الأعجمي والعجمي عموم وخصوص من وجه، والظاهر أن المراد بالعربي مقابل الأعجمي في القراءة المشهورة ومقابله العجمي في القراءة الأخرى‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وأبو الأسود‏.‏ والجحدري‏.‏ وسلام‏.‏ والضحاك‏.‏ وابن عباس‏.‏ وابن عامر بخلاف عنهما ‏{‏أَعْجَمِىٌّ‏}‏ بلا استفهام وبسكون العين على أن الكلام إخبار بأن القرآن أعجمي والمتكلم به أو المخاطب عربي‏.‏

وجوز أن يكون المراد هلا فصلت آياته فجعل بعضها أعجمياً لإفهام العجم وبعضها عربياً لإفهام العرب وروي هذا عن ابن جبير فالكلام بتقدير مبتدأ هو بعض أي بعضها أعجمي وبعضها عربي، والمقصود به من الجملة الشرطية إبطال مقترحهم وهو كونه بلغة العجم باستلزامه المحذور وهو فوات الغرض منه إذ لا معنى لإنزاله أعجمياً على من لا يفهمه أو الدلالة على أنهم لا ينفكون عن التعنت فإذا وجدت الأعجمية طلبوا أمراً آخر وهكذا‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ رداً عليهم ‏{‏هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى‏}‏ يهدي إلى الحق ‏{‏وَشِفَاء‏}‏ لما في الصدور من شك وشبهة ‏{‏والذين لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏فِى ءاذَانِهِمْ‏}‏ على أن ‏{‏يَرْجِعُونَ أَوْ كَصَيّبٍ‏}‏ و‏{‏وَقْرٌ‏}‏ فاعل الظرف، أي مستقر في آذانهم وقر أي صمم منه فلا يسمعونه، وقيل‏:‏ خبر الموصول ‏{‏فِى ءاذَانِهِمْ‏}‏ و‏{‏وَقْرٌ‏}‏ فاعل الظرف، وقيل‏:‏ ‏{‏وَقْرٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أي القرآن و‏{‏أَوْ كَصَيّبٍ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏وَقْرٌ‏}‏‏.‏

ورجح بأنه أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ ومن جوز العطف على معمولي عاملين عطف الموصول على الموصول الأول و‏{‏وَقْرٌ‏}‏ على ‏{‏هُدًى‏}‏ على معنى هو للذين آمنوا هدى وللذين لا يؤمنون وقر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى ءاذَانِهِمْ‏}‏ ذكر بياناً لمحل الوقر أو حال من الضمير في الظرف الراجع إلى ‏{‏وَقْرٌ‏}‏ والأول أبلغ؛ ويرد عليه بعد الإغماض عما في جواز العطف المذكور من الخلاف أن فيه تنافراً بجعل القرآن نفس الوقر لا سيما وقد ذكر محله وليس كجعله نفس العمى لأنه يقابل جعله نفس الهدى فروعي الطباق ولذا لم يبين محله، وأما الوقر إذا جعل نفس الكتاب فهو كالدخيل ولم يطابق ما ورد في سائر المواضع من التنزيل، وهذا يرد على الوجه الذي قبله أيضاً، وجوز ابن الحاجب في الأمالي أن يكون ‏{‏وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ مرتبطاً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُوَ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء‏}‏ والتقدير هو للذين آمنوا هدى وعلى الذين لا يؤمنون عمى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين لاَ يُؤْمِنُونَ فِى ءاذَانِهِمْ وَقْرٌ‏}‏ جملة معترضة على الدعاء، وتعقب بأن هذا وإن جاز من جهة الإعراب لكنه من جهة المعاني مردود لفك النظم، وزعم بعضهم أن ضمير ‏{‏هُوَ‏}‏ عائد على الوقر وهو من العمى كما ترى‏.‏

وأولى الأوجه ما تقدم وجىء بعلى في ‏{‏عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ للدلالة على استيلاء العمى عليهم، ولم يذكر حال القلب لما علم من التعريض في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ هُدًى وَشِفَاء‏}‏ بأنه لغيرهم مرض فظيع ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الموصول الثاني باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشر مع ما فيه من كمال المناسبة للنداء من مكان بعيد أي أولئك البعداء الموصوفون بما ذكر من التصام عن الحق الذي يسمعونه والتعامي عن الآيات التي يشاهدونها ‏{‏يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ تمثيل لهم في عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا له بمن ينادي من مسافة نائية فهو يسمع الصوت ولا يفهم تفاصيله ولا معانيه أو لا يسمع ولا يفهم، فقد حكى أهل اللغة أنه يقال للذي لا يفهم‏:‏ أنت تنادي من بعيد، وإرادة هذا المعنى مروية عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏

ومجاهد، وعن الضحاك أن الكلام على حقيقته وأنهم يوم القيامة ينادون بكفرهم وقبيح أعمالهم بأقبح أسمائهم من بعد حتى يسمع ذلك أهل الموقف فتعظم السمعة عليهم وتحل المصائب بهم، وحاصل الرد أنه هاد للمؤمنين شاف لما في صدورهم كاف في دفع الشبه فلذا ورد بلسانهم معجزاً بيناً في نفسه مبيناً لغيره والذين لا يؤمنون بمعزل عن الانتفاع به على أي حال جاءهم، وقرأ ابن عمر‏.‏ وابن عباس‏.‏ وابن الزبير‏.‏ ومعاوية‏.‏ وعمرو بن العاص‏.‏ وابن هرمز ‏{‏عَمَّ‏}‏ بكسر الميم وتنوينه، وقال يعقوب القاري‏.‏ وأبو حاتم‏:‏ لا ندري نونوا أم فتحوا الياء على أنه فعل ماض، وبغير تنوين رواها عمرو بن دينار‏.‏ وسليمان بن قتيبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ‏}‏ كلام مستأنف مسوق لبيان أن الاختلاف في شأن الكتب عادة قديمة للأمم غير مختص بقومك على منهاج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 43‏]‏ على ما سمعت أولاً أي وبالله لقد آتينا موسى التوراة فاختلف فيها فمن مصدق لها ومكذب وهكذا حال قومك في شأن ما آتيناك من القرآن فمن مؤمن به وكافر ‏{‏وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ‏}‏ في حق أمتك المكذبة وهي العدة بتأخير عذابهم وفصل ما بينهم وبين المؤمنين من الخصومة إلى يوم القيامة بنحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 46‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 61‏]‏ ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ باستئصال المكذبين كما فعل بمكذبي الأمم السالفة ‏{‏وَإِنَّهُمْ‏}‏ أي كفار قومك ‏{‏لَفِى شَكّ مّنْهُ‏}‏ أي من القرآن ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ موجب للقلق والاضطراب، وقيل‏:‏ الضمير الثاني للتوراة والأول لليهود بقرينة السياق لأنهم الذين اختلفوا في كتاب موسى عليه السلام وليس بشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏مَّنْ عَمِلَ صالحا‏}‏ بأن آمن بالكتب وعمل بموجبها ‏{‏فَلِنَفْسِهِ‏}‏ أي فلنفسه يعمله أو فلنفسه نفعه لا لغيره، و‏{‏مِنْ‏}‏ يصح فيها الشرطية والموصولية وكذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا‏}‏ ضره لا على الغير ‏{‏وَمَا رَبُّكَ بظلام لّلْعَبِيدِ‏}‏ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله مبني على تنزيل ترك إثابة المحسن بعمله أو إثابة الغير بعمله وتنزيل التعذيب بغير إساءة أو بإساءة غيره منزلة الظلم الذي يستحيل صدوره عنه تعالى ولم يحتج بعضهم إلى التنزيل، وقد مر الكلام في ذلك وفي توجيه النفي والمبالغة فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آَذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة‏}‏ أي إذا سئل عنها قيل الله تعالى يعلم أو لا يعلمها إلا الله عز وجل فالمقصود من هذا الكلام إرشاد المؤمنين في التقصي عن هذا السؤال وكلا الجوابين يلزمه اختصاص علمها به تعالى‏.‏

أما الثاني فظاهر، وأما الأول فلأنك إذا سئلت عن مسألة وقلت‏.‏ فلان يعلمه كان فيه نفي عنك كناية وتنبيه على أن فلاناً أهل أن يسئل عنه دونك ‏{‏وَمَا تَخْرُجُ مِن ثمرات مّنْ أَكْمَامِهَا‏}‏ أي من أوعيتها جمع كم بالكسر وهو وعاء الثمرة كجف الطلعة من كمه إذا ستره وقد يضم وكم القميص بالضم وقرأ الحسن في رواية والأعمش‏.‏ وطلحة‏.‏ وغير واحد من السبعة ‏{‏مِن ثَمَرَةٍ‏}‏ على إرادة الجنس والجمع لاختلاف الأنواع‏.‏ وقرىء ‏{‏مِن ثمرات‏}‏ من أكمامهن، بجميع الضمير أيضاً وما نافية ومن الأولى مزيدة لتأكيد الاستغراق والنص عليه ومن الثانية ابتدائية وكذا ‏{‏مَا‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ‏}‏ أي حملها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ بِعِلْمِهِ‏}‏ في موضع الحال والباء للملابسة أو المصاحبة والاستثناء من أعم الأحوال أي ما يحدث شيء من خروج ثمرة ولا حمل حامل ولا وضع واضع ملابساً أو مصاحباً بشيء من الأشياء إلا مصاحباً أو ملابساً بعلمه المحيط سبحانه واقعاً حسب تعلقه به، وجوز في الأولى أن تكون موصولة معطوفة على الساعة أي إليه يرد علم الساعة وعلم ما يخرج ومن الأولى بيانية والجار والمجرور في موضع الحال ومن الثانية على حاله، وتأنيث ‏{‏تُخْرِجُ‏}‏ باعتبار المعنى لأن ما بمعنى ثمرة قيل‏:‏ ولا يجوز في ما الثانية ذلك لمكان الاستثناء المفرغ وأجاز بعضهم، ويكفي لصحة التفريغ النفي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَضَعُ‏}‏ وجملة لا تضع إما حال أو معطوفة على جملة ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ الخ، ولا يخفى عليك أن المتبادر في الموضعين النفي ثم إن الاستثناء متعلق بالكل وتبيين القدر المشترك بين الأفعال الثلاثة وجعله الأصل في تعلق المفرغ كما سمعت لإظهار المعنى والايماء إلى أنه لا يحتاج في مثله إلى حذف من الأولين أعني ما تخرج وما تحمل وهو قريب من أسلوب‏:‏

وقد حيل بين العير والنزوان *** لأن خرج زيد معناه حدث خروجه كما أن معنى ذلك فعل الحيلولة وليس ذاك من باب الاستثناء المتعقب لجمل والخلاف في متعلقه في شيء لأن ذلك في غير المفرغ فقد ذكر النحويون في باب التنازع وإن كان منفياً بالا فالحذف ليس إلا ولو كان منه لم يكن من المختلف فيه لاتحاد الجمل في المقصود وظهور قرينة الرجوع إلى الكل، والكلام على ما في شرح التأويلات متصل بأمر الساعة والبعث فإنه لا يعلم هذا كله إلا الله تعالى فذكر هذه الأمور لمناسبتها لعلم الساعة وإن الكل إيجاد بعد العدم بقدرته عز وجل فيكون كالبرهان على الحشر، وجوز أن يكون متصلاً بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته اليل والنهار‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 37‏]‏ الخ وبقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته أَنَّكَ تَرَى الارض خاشعة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 39‏]‏ الخ؛ فالمعنى من آيات ألوهيته تعالى وقدرته أن تخرج الثمرات وتحمل الحوامل وتضع حسب علمه جل وعلا، والأول أقرب‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِى‏}‏ أي بزعمكم كما نص عليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِىَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 62‏]‏ وفيه تهكم بهم وتفريع لهم، و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ منصوب باذكر أو ظرف لمضمر مؤخر قد ترك إيذاناً بقصور البيان عنه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏ وضمير ‏{‏يُنَادِيهِمْ‏}‏ عام في كل من عبد غير الله تعالى فيندرج فيه عبدة الأوثان‏.‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي أولئك المنادون ‏{‏ءاذَنَّاكَ‏}‏ أي أعلمناك والمراد بالإعلام هنا الإخبار لأنه تعالى عالم فلا يصح إعلامه بما هو سبحانه عالم به بخلاف الأخبار فإنه يكون للعالم فكأنه قيل أخبرناك ‏{‏مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ‏}‏ أي بأنه ليس منا أحد يشهد لهم بالشركة فالجملة في محل نصب مفعول ‏{‏آنذاك‏}‏ وقد علق عنها وفي تعليق باب أعمل وأنبأ خلاف والصحيح أنه مسموع في الفصيح، و‏{‏شَىْء شَهِيدٌ‏}‏ فعيل من الشهادة ونفي الشهادة كناية عن التبرؤ منهم لأن الكفرة يوم القيامة أنكروا عبادة غيره تعالى مرة وأقروا بها وتبرؤا عنها مرة أخرى وفسره السمرقندي بالانكار لعبادتهم غير الله تعالى وشركهم كذباً منهم وافتراء كقوله تعالى حكاية عنهم‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ وظاهر ‏{‏ءاذَنَّاكَ‏}‏ يقتضي سبق الإيذان في جواب أين شركائي وإنما سئلوا ثانياً حتى أجابوا بأنه قد سبق الجواب لأنه توبيخ وفي إعادة التوبيخ من تأكيد أمر الجناية وتقبيح حال من يرتكبها ما لا يخفى، واستظهر أبو حيان أن المراد إحداث إيذان لا إخبار عن إيذان سابق على نحو طلقت وأمثاله، وجوز أن يقال‏:‏ إنه إخبار باعلام سابق وذلك الإعلام السابق ما علمه تعالى من بواطنهم يوم القيامة أنهم لم يبقوا على الشرك وعلى تلك الشهادة وكأنه إعلام منهم بلسان الحال وهذا لا يقتضي سبق سؤال ولا جواب وفيه حسن أدب كأنهم يقولون أنت أعلم به ثم يأخذون في الجواب‏.‏

قال في «الكشف»‏:‏ وهذا الوجه هو المختار لاشتماله على النكتة المذكورة وما في الآخرين من سوء الأدب؛ ويحتمل أن يكون المعنى آذناك بأنه ليس منا أحد يشاهدهم فشهيد من الشهود بمعنى الحضور والمشاهدة ونفي مشاهدتهم الظاهر أنه على الحقيقة وذلك في موقف وجعل بعض العبدة مقرين بمعبوداتهم في آخر فلا تنافي بينهما، وقيل‏:‏ هو كناية عن نفي أن يكون له تعالى شريك نحو قولك‏:‏ لا نرى لك مثلاً تريد لا مثل لك لنراه، والكلام في ‏{‏ءاذَنَّاكَ‏}‏ على ما آذناك، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏قَالُواْ‏}‏ للشركاء أي قال الشركاء‏:‏ ليس من أحد يشهد لهم بأنهم كانوا محقين فشهيد من الشهادة لا غير، والمراد التبرؤ منهم وفيه تفكيك الضمائر‏.‏