فصل: تفسير الآية رقم (28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى يُنَزّلُ الغيث‏}‏ أي المطر الذي يغيثهم من الجدب ولذلك خص بالنافع منه فلا يقال غيث لكل مطر، وقرأ الجمهور ‏{‏يُنَزّلٍ‏}‏ مخففاً‏.‏

‏{‏مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ‏}‏ يئسوا منه، وتقييد تنزيله بذلك مع تحققه بدونه أيضاً لتذكير كمال النعمة؛ وقرأ الأعمش‏.‏ وابن وثاب ‏{‏قَنَطُواْ‏}‏ بكسر النون ‏{‏وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ‏}‏ أي منافع الغيث وآثاره في كل شيء من السهل والجبل والنبات والحيوان أو رحمته الواسعة المنتظمة لما ذكر انتظاماً أولياً، وقيل‏:‏ الرحمة هنا ظهور الشمس لأنه إذا دام المطر سئم فتجىء الشمس بعده عظيمة الموقع ذكره المهدوي وليس بشيء، ومن البعيد جداً ما قاله السدي من أن الرحمة هنا الغيث نفسه عدد النعمة نفسها بلفظين، ‏{‏وأياً ما كان فضمير‏}‏ رحمته لله عز وجل، وجوز على الأول كونه للغيث‏.‏

‏{‏مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولى‏}‏ الذي يتولى عباده بالإحسان ونشر الرحمة ‏{‏الحميد‏}‏ المستحق للحمد على ذلك لا غيره سبحانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والارض‏}‏ على ما هما عليه من تعاجيب الصنائع فإنها بذاتها وصفاتها تدل على شؤونه تعالى العظيمة، ومن له أدنى إنصاف وشعور يجزم باستحالة صدورها من الطبيعة العديمة الشعور‏.‏

‏{‏وَمَا بَثَّ فِيهِمَا‏}‏ عطف على ‏{‏السموات‏}‏ أي ومن آياته خلق ما بث أو عطف على ‏{‏خُلِقَ‏}‏ أي ومن آياته ما بث‏.‏ و‏{‏مَا‏}‏ تحتمل الموصولية والمصدرية والموصولية أظهر ولا حاجة عليه إلى تقدير مضاف أي خلق الذي بث خلافاً لأبي حيان ‏{‏مِن دَابَّةٍ‏}‏ أي حيوان له دبيب وحركة، وظاهر الآية وجود ذلك في السموات وفي الأرض وبه قال مجاهد وفسر الدابة بالناس والملائكة، ويجوز أن يكون للملائكة مشي مع الطيران، واعترض ذلك ابن المنير بأن إطلاق الدابة على الأناسي بعيد في عرف اللغة فكيف بالملائكة وادعى أن الأصح كون الدواب في الأرض لا غير؛ وما في أحد الشيئين يصدق أنه فيهما في الجملة، فالآية على أسلوب ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 22‏]‏ وذلك لقوله تعالى في البقرة ‏(‏164‏)‏‏}‏‏:‏ ‏{‏وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلّ دَابَّةٍ‏}‏ فإنه يدل على اختصاص الدواب بالأرض لأن مقام الإطناب يقتضي ذكره لو كان لا للعمل بمفهوم اللقب الذي لا يقول به الجمهور والجواب أن التي في البقرة لما كانت كلاماً مع الغبي والفهم والمسترشد والمعاند جىء فيه بما هو معروف عند الكل وهو بث الدواب في الأرض وأما ههنا فجىء به مدمجاً مختصراً لما تكرر في القرآن ولا سيما في هذه السورة من كمال قدرته على كل ممكن فقيل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ ءاياته خَلْقُ السموات والارض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا‏}‏ مؤثراً على لفظ الخلق ليدل على التكثير الدال على كمال القدرة وبين بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن دَابَّةٍ‏}‏ تعميماً وتغليباً لغير ذوي العلم في السماوي والأرضي تحقيقاً للمخلوقية فقد ثبت في صحاح الأحاديث ما يدل على وجود الدواب في السماء من مراكب أهل الجنة وغيرها، وكذلك ما يدل على وجود ملائكة كالأوعال بل لا يبعد أن يكون في كل سماء حيوانات ومخلوقات على صور شتى وأحوال مختلفة لا نعلمها ولم يذكر في الأخبار شيء منها فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏ وأهل الأرصاد اليوم يتراءى لهم بواسطة نظاراتهم مخلوقات في جرم القمر لكنهم لم يحققوا أمرها لنقص ما في الآلات على ما يدعون، ويحتمل أن يكون فيما عدا القمر ونفي ذلك ليس من المعلوم من الدين بالضرورة ليضر القول به، وقيل‏:‏ المراد بالسموات جهات العلو المسامتة للأقاليم مثلاً وفي جو كل إقليم بل كل بلدة بل كل قطعة من الأرض حيوانات لا يحصي كثرتها إلا الله تعالى بعضها يحس بها بلا واسطة آلة وبعضها بواسطتها، وقيل‏:‏ المراد بها السحب وفيها من الحيوانات ما فيها وكل ذلك على ما فيه لا يحتاج إليه، وكذا لا يحتاج إلى ما ذهب إليه كثير من أن المراد بالدابة الحي مجازاً إما من استعمال المقيد في المطلق أو إطلاق الشيء على لازمه أو المسبب على سببه لأن الحياة سبب للدبيب وإن لم تكن الدابة سبباً للحي فيكون مجازاً مرسلاً تبعياً لأن الاحتياج إلى ذلك عدول عن الظاهر ولا يعدل عنه إلا إذا دل دليل على خلافه وأين ذلك الدليل‏؟‏ بل هو قائم على وجود الدواب في السماء كما هي موجودة في الأرض‏.‏

‏{‏وَهُوَ على جَمْعِهِمْ‏}‏ أي حشرهم بعد البعث للمحاسبة ‏{‏إِذَا يَشَاء‏}‏ ذلك ‏{‏قَدِيرٌ‏}‏ تام القدرة كاملها، و‏{‏إِذَا‏}‏ متعلقة بما قبلها لا بقدير لأن المقيد بالمشيئة جمعه تعالى لا قدرته سبحانه وهي كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع، ومنه قوله‏:‏

وإذا ما أشاء أبعث منها *** آخر الليل ناشطاً مذعوراً

وقول صاحب الكشف‏:‏ لقائل أن يفرق بين إذا وإذا ما الظاهر أنه ليس في محله وقد نص الخفاجي على عدم الفرق وجعل القول به توهماً، وكذا نص على أنها تدخل على الفعلين ظرفية كانت أو شرطية، وقيد ذلك الطيبي بما إذا كانت بمعنى الوقت كما هنا، وضمير ‏{‏جَمْعِهِمْ‏}‏ قيل للسموات والأرض وما فيهما على التغليب وهو كما ترى، وقيل‏:‏ للدواب المفهوم مما تقدم وضمير العقلاء للتغليب المناسب لكون الجمع للمحاسبة، وقيل‏:‏ للناس المعلوم من ذلك ولعله الأولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ‏}‏ أي مصيبة كانت من مصائب الدنيا كالمرض وسائر النكبات ‏{‏فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ أي فبسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، و‏{‏مَا‏}‏ اسم موصول مبتدأ والمبتدأ إذا كان موصولاً صلته جملة فعلية تدخل على خبره الفاء كثيراً لما فيه من معنى الشرط لإشعاره بابتناء الخبر عليه فلذا جىء بالفاء هنا‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ وأبو جعفر في رواية‏.‏ وشيبة ‏{‏بِمَا‏}‏ بغير فاء لأنها ليست بلازمة وإيقاع المبتدأ موصولاً يكفي في الإشعار المذكور، وحكي عن ابن مالك أنه قال‏:‏ اختلاف القراءتين دل على أن ما موصولة فجىء تارة بالفاء في خبرها وأخرى لم يؤت بها حطاً للمشبه عن المشبه به، وجوز كون ما شرطية واستظهره أبو حيان في القراءة بالفاء وجعلها موصولة في القراءة الأخرى بناءً على أن حذف الفاء من جواب الشرط مخصوص بالشعر عند سيبويه نحو‏:‏

من يفعل الحسنات الله يشكرها *** والأخفش‏.‏ وبعض نحاة بغداد أجازوا ذلك مطلقاً، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 121‏]‏‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ حذف الفاء من الجواب حسن إذا كان الشرط بلفظ الماضي ويعلم منه مزيد حسن حذفها هنا على جعل ما موصولة ‏{‏وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ أي من الذنوب فلا يعاقب عليها بمصيبة عاجلاً قيل وآجلاً‏.‏

وجوز كون المراد بالكثير الكثير من الناس والظاهر الأول وهو الذي تشهد له الأخبار‏.‏ روى الترمذي عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يصيب عبداً نكبة فما فوقها أو دونها إلا بذنب وما يعفو الله تعالى عنه أكثر وقرأ ‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ‏}‏»

وأخرج ابن المنذر‏.‏ وجماعة عن الحسن قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏وَمَا أصابكم‏}‏ الخ، قال عليه الصلاة والسلام «والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرق ولا نكبة حجر ولا عثرة قدم إلا بذنب وما يعفو الله عز وجل عنه أكثر»، وأخرج ابن سعد عن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنهما كانت تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول بذنبي وما يغفره الله تعالى أكثر، ورؤى على كف شريح قرحة فقيل‏:‏ بم هذا‏؟‏ فقال‏:‏ بما كسبت يدي، وسئل عمران بن حصين عن مرضه فقال‏:‏ إن أحبه إلى أحبه إلى الله تعالى وهذا بما كسبت يدي، والآية مخصوصة بأصحاب الذنوب من المسلمين وغيرهم فإن من لا ذنب له كالأنبياء عليهم السلام قد تصيبهم مصائب، ففي الحديث «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» ويكون ذلك لرفع درجاتهم أو لحكم أخرى خفيت علينا، وأما الأطفال والمجانين فقيل غير داخلين في الخطاب لأنه للمكلفين وبفرض دخولهم أخرجهم التخصيص بأصحاب الذنوب فما يصيبهم من المصائب فهو لحكم خفية، وقيل‏:‏ في مصائب الطفل رفع درجته ودرجة أبويه أو من يشفق عليه بحسن الصبر ثم أن المصائب قد تكون عقوبة على الذنب وجزاء عليه بحيث لا يعاقب عليه يوم القيامة، ويدل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده‏.‏

والحيكم الترمذي‏.‏ وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ ألا أخبركم بأفضل آية في كتاب الله تعالى حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ‏{‏وسأفسرها لك يا علي ما أصابك من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله تعالى أكرم من أن يثنى عليكم العقوبة في الآخرة وما عفا الله تعالى عنه في الدنيا فالله سبحانه أكرم من أن يعود بعد عفوه، وزعم بعضهم أنها لا تكون جزاء لأن الدنيا دار تكليف فلو حصل الجزاء فيها لكانت دار جزاء وتكليف معا وهو محل فما هي إلا امتحانات، وخبر علي كرم الله وجهه يرده وكذا ما صح من أن الحدود أي غير حد قاطع الطريق مكفرات وأي محالية في كون الدنيا دار تكليف ويقع فيها بعض الأشخاص ما يكون جزاء له على ذنبه أي مكفراً له‏.‏

وعن الحسن تفسير المصيبة بالحد قال‏:‏ المعنى ما أصابكم من حد من حدود الله تعالى فإنما هو بكسب أيديكم وارتكابكم ما يوجبه ويعفو الله تعالى عن كثير فيستره على العبد حتى لا يحد عليه، وهو مما تأباه الأخبار ومع هذا ليس بشيء ولعله لم يصح عن الحسن‏.‏

وفي الانتصاف أن هذه الآية تلبس عندها القدرية ولا يمكنهم ترويج حيلة في صرفها عن مقتضى نصها فإنها حملوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48‏]‏ على التائب وهو غير ممكن لهم ههنا فإنه قد أثبت التبعيض في العفو ومحال عندهم أن يكون العفو هنا مقيداً بالتوبة فإنه يلزم تبعيضها أيضاً وهي عندهم لا تتبعض كما نقل الإمام عن أبي هاشم وهو رأس الاعتزال والذي تولى كبره منهم فلا محل لها إلا الحق الذي لا مرية فيه وهو رد العفو إلى مشيئة الله تعالى غير موقوف على التوبة‏.‏ وأجيب عنهم بأن لهم أن يقولوا‏:‏ المراد ويعفو عن كثير فلا يعاقب عليه في الدنيا بل يؤخر عقوبته في الآخرة لمن لم يتب‏.‏ وأنت تعلم ما دل خبر علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِى الارض‏}‏ أي جاعلين الله سبحانه وتعالى عاجزاً عن أن يصيبكم بالمصائب بما كسبت أيديكم وإن هربتم في أقطار الأرض كل مهرب، وقيل‏:‏ المراد أنكم لا تعجزون من في الأرض من جنوده تعالى فكيف من في السماء ‏{‏وَمَا لَكُمْ مِن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِىّ‏}‏ من متول بالرحمة يرحمكم إذا أصابتكم المصائب وقيل يحميكم عنها ‏{‏وَلاَ نَصِيرٍ‏}‏ يدفعها عنكم، والجملة كالتقرير لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ أي أن الله تعالى يعفو عن كثير من المصائب إذ لا قدرة لكم أن تعجزوه سبحانه فتفوتوا ما قصى عليكم منها ولا لكم أيضاً من متول بالرحمة غيره عز وجل ليرحمكم إذا أصابتكم ولا ناصر سواه لينصركم منها ولهذا جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أن هذه أرجى آية في القرآن للمؤمنين، ويقوى أمر الرجاء على ما قيل‏:‏ أن معنى ‏{‏مَا أَنتُمْ‏}‏ الخ ما أنتم بمعجزين الله تعالى في دفع مصائبكم أي أنه سبحانه قادر على ذلك

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته الجوار‏}‏ أي السفن الجواري أي الجارية فهي صفة لموصوف محذوف لقرينة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى البحر‏}‏ وبذلك حسن الحذف وإلا فهي صفة غير مختصة والقياس فيها أن لا يحذف الموصوف وتقوم مقامه، وجوز أبو حيان أن يقال‏:‏ إنها صفة غالبة كالابطح وهي يجوز فيها أن تلى العوامل بغير ذكر الموصوف، و‏{‏فِى البحر‏}‏ متعلق بالجواري وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كالاعلام‏}‏ في موضع الحال‏.‏

وجوز أن يكون الأول أيضاً كذلك، والاعلام جمع علم وهو الجبل وأصله الأثر الذي يعلم به الشيء كعلم الطريق وعلم الجيش وسمى الجبل علماً لذلك ولا اختصاص له بالجبل الذي عليه النار للاهتداء بل إذا أريد ذلك قيد كما في قول الخنساء‏:‏

وإن صخر التأتم الهداة به *** كأنه علم في رأسه نار

وفيه مبالغة لطيفة، وحكى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماسمعه‏:‏ قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت على رأسه ناراً‏.‏ وقرأ نافع وأبو عمرو الجواري بياء في الوصل دون الوقف‏.‏

وقرأ ابن كثير بها فيهما والباقون بالحذف فيهما والإثبات على الأصل والحذف للتخفيف، وعلى كل فالأعراب تقديري وسمع من بعض العرب الأعراب على الراء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح‏}‏ التي تجري بها ويعدم سبب تموجها وهو تكاثف الهواء الذي كان في المحل الذي جرت إليه وتراكم بعضه على بعض وسبب ذلك التكاثف إما انخفاض درجة حرارة الهواء فيقل تمدده ويتكاثف ويترك أكثر المحل الذي كان مشغولاً به خلياً وإما تجمع فجائي يحصل في الأبخرة المنتشرة في الهواء فيخلو محلها، وهذا على ما قيل أقوى الأسباب فإذا وجد الهواء أمامه فراغاً بسبب ذلك جرى بقوة ليشغله فتحدت الريح وتستمر حتى تملأ المحل وما ذكر في سبب التموج هو الذي ذكره فلاسفة العصر‏.‏ وأما المتقدمون فذكروا أشياء أخر، ولعل هناك أسباباً غير ذلك كله لا يعلمها إلا الله عز وجل، والقول بالأسباب تحريكاً واسكاناً لا ينافي إسناد الحوادث إلى الفاعل المختار جل جلاله وعم نواله‏.‏

وقرأ نافع ‏{‏الرياح‏}‏ جمعا ‏{‏فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ على ظَهْرِهِ‏}‏ فيصرن ثوابت على ظهر البحر أي غير جاريات لا غير متحركات أصلاً، وفسر بعضهم ‏{‏يظللن‏}‏ بيبقين فيكون ‏{‏فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ‏}‏ حالا والأول أولى‏.‏

وقرأ قتادة ‏{‏فَيَظْلَلْنَ‏}‏ بكسر اللام والقياس الفتح لأن الماضي مكسور العين فالكسر في المضارع شاذ، وقال الزمخشري‏:‏ هو من ظلل يظل بالفتح والكسر نحو ضل بالضاد يضل ويضل، وتعقبه أبو حيان بأنه ليس كما ذكر لأن يضل بالفتح من ضللت بالكسر ويضلل بالكسر من ضللت بالفتح وكلاهما مقيس ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكر من السفن المسخرة في البحر تحت أمره سبحانه وحسب مشيئته تعالى‏:‏ ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ عظيمة كثيرة على عظمة شؤنه عز وجل ‏{‏لّكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ لكل من حبس نفسه عن التوجه إلى ما لا ينبغي ووكل همته بالنظر في آيات الله تعالى والتفكر في آلائه سبحانه فالصبر هنا حبس مخصوص والتفكر في نعمه تعالى شكر‏.‏

ويجوز أن يكون قد كني بهذين الوصفين عن المؤمن الكامل لأن الإيمان نصفه صبر ونصفه شكر‏.‏

وذكر الإمام أن المؤمن لا يخلو من أن يكون في السراء والضراء فإن كان في الضراء كان من الصابرين وان كان في السراء كان من الشاكرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ يُوبِقْهُنَّ‏}‏ عطف على ‏{‏يُسْكِنِ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 33‏]‏ أي أو يهلكهن بارسال الريح العاصفة المغرقة، والمراد على ما قال غير واحد اهلاك أهلها إما بتقدير مضاف أو بالتجوز باطلاق الملح على حاله أو بطريق الكناية لأنه يلزم من إهلاكها إهلاك من فيها والقرينة على إرادة ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ وأصله أو يرسلها أي الريح فيوبقهن لأنه قسيم يسكن فاقتصر فيه على المقصود من إرسالها عاصفة وهو إما إهلاكهم أو انجاؤهم المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ‏}‏ إذا المعنى أو يرسلها فيوبق ناساً بذنوبهم وينج ناساً على طريق العفو عنهم وبهذا ظهر وجه جزم ‏{‏يعف‏}‏ لأنه بمعنى ينج معطوف على يوبق، ويعلم وجه عطف بالواو لأنه مندرج في القسيم وهو ارسالها عاصفة، وعلى هذا التفسير تكون الآية متضمنة لإسكانها ولإرسالها عاصفة مع الإهلاك والإنجاء وإرسالها باعتدال معلوم من قوله سبحانه الجواري فإنها المطلوب الأصلي منها‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ التحقيق أن ‏{‏يعف‏}‏ عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُسْكِنِ الريح‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 33‏]‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ ولذا عطف بالواو لا بأو والمعنى إن يشأ يعاقبهم بالإسكان أو الاعصاف وإن يشأ يعف عن كثير‏.‏

وجوز بعضهم حمل ‏{‏يُوبِقْهُنَّ‏}‏ على ظاهره لأن السفن من جملة أموالهم التي هلاكها والخسارة فيها بذنوبهم أيضاً وجعل الآية مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أصابكم مّن مُّصِيبَةٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ الخ‏.‏

وقرأ الأعمش ‏{‏يَعْفُوَ‏}‏ بالواو الساكنة آخره على عطفه على مجموع الشرط والجواب دون الجواب وحده كما في قراءة الجزم، وعن أهل المدينة أنهم قرؤوا ‏{‏يَعْفُوَ‏}‏ بالواو المفتوحة على أنه منصوب بأن مضمرة وجوباً بعد الواو والعطف على هذه القراءة على مصدر متصيد مت الكلام السابق كأنه قيل‏:‏ يقع وهو من العطف على المعنى وهذا مذهب البصريين في مثل ذلك وتسمى هذا الواو واو الصرف لصرفها عن عطف الفعل المجزوم قبلها إلى عطف مصدر على مصدر، ومذهب الكوفيين أن الواو بمعنى أن المصدرية ناصبة للمضارع بنفسها‏.‏

واختار الرضى أن الواو أما واو الحال والمصدر بعدها مبتدأ خبره مقدر والجمالة حالية أو واو المعية وينصب بعدها الفعل لقصد الدلالة على معية الأفعال كما أن الواو في المفعول معه دالة على مصاحبة الأسماء فعدل به عن الظاهر ليكون نصاً في معنى الجمعية، والمشهور اليوم على ألسنة المعربين مذهب البصريين وعليه خرج أبو حيان النصب في هذه القراءة وكذا خرج غير واحد ومنهم ازلجاج النصب في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَعْلَمَ الذين يجادلون فِى ءاياتنا مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ‏}‏ أي من مهرب ومخلص من العذاب على ذلك، وجعلوا الجزاء بمنزلة الإنشاء كالاستفهام فكأنه تقدم أحد الأمور الستة ولم يرتض ذلك الزمخشري وقال‏:‏ فيه نظر لما أورده سيبويه في الكتاب قال‏:‏ واعلم أن النصب بالفاء والواو في قوله‏:‏ إن تأتني آتك وأعطيك ضعيف وهو نحو من قوله‏:‏

وألحق بالحجاز فاستريحا *** فهذا تجوز ولا بحد الكلام ولا وجهه إلا أنه في الجزاء صار أقوى لأنه ليس بواجب أنه يفعل إلا أن يكون من الأول فعل فلما ضارع الذي لا يوجبه كالاستفهام ونحوه أجازوا فيه هذا على ضعف، ولا يجوز أن تحمل القراءة المستفيضة على وجه ضعيف ليس بحد الكلام ولا وجهه ولو كانت من هذا الباب لما أخلى سيبويه منها كتابه وقد ذكر نظائرها من الآيات المشكلة انتهى، وخرج هو النصب في ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ على العطف على علة مقدرة قال‏:‏ أي لينتقم منهم ويعلم الذين الخ، وكم من نظير له في القرآن العظيم إلا أن ذلك مع وجود حرف التعليل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِنَجْعَلَهُ ءايَةً لّلْنَّاسِ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 21‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الله السموات والارض بالحق يَتَأَخَّرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ يبعد هذا التقدير أنه ترتب على الشرط اهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن لينتقم منهم‏.‏

وأجيب بأن الآية مخصوصة بالمجرمين فالمقصود الهلاك ويجوز أن يقدر ليظهر عظيم قدرته تعالى ويعلم الذين يجادلون فلا يرد عليه ما ذكر ويحسن ذلك التقدير في توجيه النصب في ‏{‏يَعْفُوَ‏}‏ على ما روي عن أهل المدينة إذا خدش التوجيه السابق بما نقل عن سيبويه فيقال‏:‏ إنه عطف على تعليل مقدر أي لينتقم منهم ويعفو عن كثير، وقراءة النصب في ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ هي التي قرأ بها أكثر السبعة‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ والأعرج‏.‏ وشيبة‏.‏ وزيد بن علي بالرفع، وقرر في الكشف وجهه بأنه على عطف يعلم على مجموع الجملة الشرطية على معنى ومن آياته الدالة على كمال القدرة السفن في البحر ثم ذكر وجه الدلالة وأنها مسخرة تحت أمره سبحانه تارة بتضمن نفع من فيها وتارة بالعكس ثم قال جل وعلا ويعلم الذين يعاندون ولا يعترفون بآيات الله تعالى الباهرة بدل قوله سبحانه فيها بالضمير الراجع إلى الآية المبحوث عنها شهادة بأنها من آيات الله تعالى وزيادة للتحذير وذم الجدال فيها وليكون على أسلوب الكناية على نحو العرب لا حفر الذمم فكأنه لما قيل‏:‏ ‏{‏إن يشأ يسكن الريح‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 33‏]‏ وذكر سبب الدلالة صار في معنى يعلمها ويعترف بها المتدبرون في آياتنا المسترشدون ويعلم المجادلون فيها المنكرون ما لهم من محيص، وجاز أن يجعل عطفاً على قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمِنْ ءاياته الجوار‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 32‏]‏ وتجعل هذه وحدها آيات لتضمنها وجوهاً من الدلالة أقميت مقام المضمر، والمعنى ومن آياته الجوار ويعلم المجادلون فيها، واعترض بين المعطوف والمعطوف عليه ببيان وجه الدلالة ليدل على موجب وعيد المجادل وعلى كونه آية بل آيات، ونقل عن أن الحاجب أنه يجوز أن يكون الرفع بالعطف على موضع الجزاء المتقدم باعتبار كونه جملة لا باعتبار عطف مجرد الفعل ليجب الجزم فتكون الجملتان مشتركتين في المسببية، وفيه بحث يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى، وقرىء ‏{‏وَيَعْلَمَ‏}‏ بالجزم‏.‏

وخرج على العطف على ‏{‏يعف‏}‏ وتسببه عن الشرط باعتبار تضمن الأخبار عن علم المجادلين بما يحل بهم في المستقبل الوعيد والتحذير كما قيل‏:‏

سوف ترى إذا انجلى الغبار *** أفرس تحتك أم حمار

ومرجع المعنى على ذلك أنه تعالى إن يشأ يعصف الريح فيغرق بعضاً وينج آخرين عفواً ويحذر جماعة أخرى‏.‏

واعترض بأن التخصيص بالمجادلين في هذا التحذير غير لائح، وأيضاً علمهم بأن لا محيص من عذاب الله تعالى على تقدير عصف الريح بأهل السفن على سبيل العبرة ولا اختصاص لها بهم ولا بهذا المقدور خاصة‏.‏

وأجيب عن الأول بأن التخصيص بالمجادلين لأنهم أولى بالتحذير، وعن الأخير بأنه أريد أن البر والبحر لا ينجيان من بأسه عز وجل فهو تعميم، واختار في الكشف كون التخريج على أن الآية في الكافرين بمعنى إن يشيعصف الريح فيغرق بعضهم وينج آخرين منهم عفواً ويعلموا ما لهم من محيص فلا يغتروا بالنجاة والعفو في هذه المرة، فالمجادلون هم الكثير الناجون أو بعضهم وهو على منوال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أخرى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 69‏]‏ الآية، ومن مجموع ما سمعت يلوح لك ضعف هذه القراءة ولهذا لم يقرى بها في السبعة، والظاهر على القراءات الثلاث أن فاعل ‏{‏يَعْلَمُ الذين‏}‏ وجملة ‏{‏مَا لَهُمْ مّن مَّحِيصٍ‏}‏ سادة مسد المفعولين‏.‏ وفي الدر المصون أن الجملة في قراءة الرفع تحتمل الفعلية وتحتمل الاسمية أي وهو يعلم الذين، ولا يخفى أن الظاهر على الاهتمال الثاني كون «الذين» مفعولاً أولاً والجملة مفعولاً ثانياً والفاعل ضمير تعالى المستتر، وأوجب بعضهم هذا على قراءة الجزم وعطف «يعلم» على «يعف» لئلا يخرج الكلام عن الانتظام ويظهر قصد التحذير لشيوع أن علم الله تعالى يكون كناية عن المجازاة وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا أُوتِيتُمْ مّن شَىْء‏}‏ أي شيء كان من أسباب الدنيا، والظاهر أن الخطاب للناس مطلقاً، وقيل‏:‏ للمشركين، وما موصولة مبتدأ والعائد محذوف أي أوتيتموه والخبر ما بعد، ودخلت الفاء لتضمنها معنى الشرط، وقال أبو حيان‏:‏ هي شرطية مفعول ثان لأوتيتم و‏{‏مِن شَىْء‏}‏ بيان لها وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فمتاع الحياة الدنيا‏}‏ أي فهو متاعها تتمتعون به مدة حياتكم فيها جواب الشرط، والأول أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا عِندَ الله‏}‏ من ثواب الآخرة ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ ذاتاً لخلوص نفعه ‏{‏وأبقى‏}‏ زماناً حيث لا يزول ولا يفنى لأن الظاهر أن ‏{‏مَا‏}‏ فيه موصولة وإنما لم يؤت بالفاء في خبرها مع أن الموصول المبتدأ إذا وصل بالظرف يتضمن معنى الشرط أيضاً لأن مسببية كون الشيء عند الله تعالى لخيريته أمر معلوم مقرر غني عن الدلالة عليه بحرف موضوع له بخلاف ما عند غيره سبحانه والتعبير عنه بأنه عند الله تعالى دون ما ادخر لذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ إما متعلق بابقى أو اللام لبيان من له هذه النعمة فهو خبر مبتدأ محذوف أي ذلك للذين آمنوا‏.‏

‏{‏وعلى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ‏}‏ لا على غيره تعالى أصلاً، وعن على كرم الله تعالى وجهه اجتمع لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله تعالى فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت؛ والموصول في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش وَإِذَا مَا هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏ مع ما بعد اما عطف على الموصول الأول أو هو مدح مرفوع على الخبرية لمبتدأ محذوف أو منصوب بمقدر كاعنى أو أمدح، والواو اعتراضية كما كما ذكره الرضى، وغفل أبو البقاء عن الواو فلم يذكر العطف وذكر بدله البدل، وكبائر الاثم ما رتب عليه الوعيد أو ما يوجب الحد أو كل ما نهى الله تعالى عنه والفواحش ما فحش وعظم قبحه منها، وقيل‏:‏ المراد بالكبائر ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية وبقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا غضبوا هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏ ما يتعلق بالقوة الغضبية وهو كما ترى، والمراد بالاثم الجنس والا لقيل الآثام، و‏{‏إِذَا‏}‏ ظرف ليغفرون و«هم» مبتدأ لا تأكيد لضمير غضبوا ووزه في البحر وجملة يغفرون خبره وتقديمه لإفادة الاختصاص لأنه فاعل معنوي، واختصاصهم باعتبار أنهم احقاء بذلك دون غيرهم فإن المغفرة حال الغضب عزيزة المثال، وفي الآية إيماء إلى أنهم يغفرون قبل الاستغفار، وقيل‏:‏ ‏{‏هُمْ‏}‏ مرفوع بفعل يفسره ‏{‏يَغْفِرُونَ‏}‏ ولما حذف انفصل الضمير وليس بشيء، وجعل أبو البقاء ‏{‏إِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ‏}‏ جواباً لها، وتعقبه أبو حيان بأنه يلزم الفاء حينئذ ولا يجوز حذفها إلا في الشعر، وتقدم لك آنفاً ما ينفعك تذكره فتذكر، وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي «كبير الاثم» بالافراد لإرادة الجنس أو الفرد الكامل منه وهو الشرك، وروي تفسيره به عن ابن هباس رضي الله تعالى عنهما، ولا يلزم التكرار لأن المراد الاستمرار والدوام ‏{‏والذين استجابوا لِرَبّهِمْ وَأَقَامُواْ الصلاة‏}‏ قيل‏:‏ نزلت في الانصار دعاهم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم للإيمان به وطاعته سبحانه فاستجابوا له فاثنى عليهم جل وعلا بما أثنى، وعليه فهو من ذكر الخاص بعد العام لبيان شرفه لإيمانهم دون تردد وتلعثم، والآية إن كانت مدنية فالأمر ظاهر وإذا كانت مكية فالمراد بالانصار من آمن بالمدينة قبل الهجرة أو المراد بهم أصحاب العقبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ‏}‏ أي ذو شورى ومراجهة في الآراء بينهم بناء على أن الشورى مصدر كالبشرى فلا يصح الأخبار لأن الأمر متشاور فيه لا مشاورة إلا إذا قصد المبالغة، وأورد أنه يقال من غير تأويل شأني الكرم والأمر هنا بمعنى الشأن، نعم إذا حمل على القضايا المتشاور فيها احتاج إلى التأويل أو قصد المبالغة، وقيل‏:‏ أن إضافة المصدر للمعوم فلا يصح الأخبار إلا بالتأويل ورد بأن المراد أمرهم فيما يتشاور فيه لا جميع أمروهم وفيه نظر، وقال الراغب‏:‏ المشورة استخراج الرأي بمراجعة البعض إلى البعض من قولهم‏:‏ شرت العسل وأشرته استخرجته والشورى الأمر الذي يتشاور فيه انتهى، والمشهور كونه مصدراً، وجيء بالجملة اسمية مع أن المعطوف عليه جملة فعلية للدلالة على أن التشاور كان حالهم المستمرة قبل الإسلام وبعده، وفي الآية مدح للتشاور لا سيما على القول بأن فيها الأخبار بالمصدر، وقد أخرج البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من أراد أمراً فشاور فيه وقضى هدى لأرشد الأمور»، وأخرج عبد بن حميد‏.‏ والبخاري في الأدب‏.‏ وابن المنذر عن الحسن قال‏:‏ ما تشاور قوم قط إلا هدوا وأرشد أمرهم ثم تلا ‏{‏وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ‏}‏، وقد كانت الشورى بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيما يتعلق بمصالح الحروب، وكذا بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعده عليه الصلاة والسلام، وكانت بينهم أيضاً في الأحكام كقتال أهل الردة وميراث الجد وعدد حد الخمر وغير ذلك، والمراد بالأحكام ما لم يكن لهم فيه نص شرعي وإلا فالشورى لا معنى لها وكيف يليق بالمسلم العدول عن حكم الله عز وجل إلى آراء الرجال والله سبحانه هو الحكيم الخبير، ويؤيد ما قلنا ما أخرجه الخطيب عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ قلت يا رسول الله الأمر ينزل بنا بعدك لم ينزل فيه قرآن ولم يسمع منك فيه شيء قال‏:‏ اجمعوا له العابد من أمتي واجعلوه بينكم شورى ولا تقضوه برأي واحد، وينبغي أن يكون المستشار عاقلاً كما ينبغي أن يكون عابداً، فقد أخرج الخطيب أيضاً عن أبي هريرة مرفوعاً «استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا» والشورى على الوجه الذي ذكرناه من جملة أسباب صلاح الأرض ففي الحديث «إذا كان أمراؤكم خياركم وأغنياؤكم أسخياءكم وأمركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها وإذا كان أمراؤكم شراركم وأغنياؤكم بخلاءكم وأمركم إلى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها» وإذا لم تكن على ذلك الوجه كان افسادها للدين والدنيا أكثر من اصلاحها ‏{‏وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ أي في سبيل الخير لأنه مسوق للمدح ولا مدح بمجرد الإنفاق، ولعل فصله عن قرينة بذكر المشاورة لأن الاستجابة لله تعالى وأقام الصلاة كانا من آثارها، وقيل‏:‏ لوقوعها عند اجتماعهم للصلوات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏والذين إِذَا أَصَابَهُمُ البغى هُمْ يَنتَصِرُونَ‏}‏ أي ينتقمون ممن بغى عليهم على ما جعله الله تعالى لهم ولا يعتدون، ومعنى الاختصاص انهم الاخصاء بالانتصار وغيرهم يعدو ويتجاوز، ولا يراد أنهم ينتصرون ولا يغفرون ليتناقض هو والسابق، فكأنه وصفهم سبحانه بأنهم الأخصاء بالغفران لا يغول الغضب أحلامهم كما يغول في غيرهم وأنهم الأخصاء بالانتصار على ما جوز لهم إن كافؤا ولا يعتدون كغيرهم فهم محمودون في الحالتين بين حسن وأحسن مخصوصون بذلك من بين الناس، وقال غير واحد‏:‏ إن كلاً من الوصفين في محل وهو فيه محمود فالعفو عن العاجز المعترف بجرمه محمود ولفظ المغفرة مشعر به والانتصار من المخاصم المصر محمود، ولفظ الانتصار مشعر به ولو أوقعا على عكس ذلك كانا مذمومين وعلى هذا جاء قوله‏:‏

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا

فوضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى

زقد يحمد كل ويذم باعتبارات أخر فلا تناقض أيضاً سواء اتحد الموصوفان في الجملتين أولا، وقال بعض المحققين‏:‏ الأوجه أن لا يحمل الكلام على التخصيص بل على التقوى أي يفعلون المغفرة تارة والانتصار أخرى لا دائماً للتناقض وليس بذاك، وعن النخفي أنه كان إذا قرأ هذه الآية قال‏:‏ كانوا يكرهون أن يذلوا أنفسهم فيجترىء عليهم الفساق، وفيه إيماء إلى أن الانتصار من المخاصم المصر وإلا فلا إذلال للنفس بالعفو عن العاجز المعترف، ثم إن جملة ‏{‏هُمْ يَنتَصِرُونَ‏}‏ من المبتدأ والخبر صلة الموصول ودإذا‏}‏ ظرف ‏{‏يَنتَصِرُونَ‏}‏ وجوز كونها شرطية والجملة جواب الشرط وجملة الجواب والشرط هي الصلة‏.‏ وتعقبه أبو حيان بما مر آنفاً، وجوز أيضاً كون ‏{‏هُمْ‏}‏ فاعلا لمحذوف وهو كما سمعت في ‏{‏وَإِذَا مَا غَضِبُواْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 37‏]‏ الخ، وقال الحوفي‏:‏ يجوز جعل ‏{‏هُمْ‏}‏ توكيداً لضمير ‏{‏أَصَابَهُمُ‏}‏ وفيه الفصل بين المؤكد والمؤكد بالفاعل ولعله لا يمتنع، ومع هذا فالوجه في الاعراب ما أشرنا إليه أولاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ بيان لما جعل للمنتصر وتسمية الفعلة الثانية وهي الجزاء سيئة قيل للمشاكلة، وقال جار الله‏:‏ تسمية كلتا الفعلتين سيئة لأنها تسوء من تنزل به، وفيه رعاية لحقيقة اللفظ واشارة إلى أن الانتصار مع كونه محموداً إنما يحمد بشرط رعاية المماثلة وهي عسرة ففي مساقها حث على العفو من طريق الاحتياط، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ عَفَا‏}‏ أي عن المسيء إليه ‏{‏وَأَصْلَحَ‏}‏ ما بينه وبين من يعاديه بالعفو والأغضاء عما صدر منه ‏{‏فَأَجْرُهُ عَلَى الله‏}‏ فيجزيه جل وعلا أعظم الجزاء، تصريح بما لوح إليه ذلك من الحث وتنبيه على أنه وإن كان سلوكاً لطريق الاحتياط يتضمن مع ذلك اصلاح ذات البين المحمود حالاً ومالا ليكون زيادة تحريض عليه، وابهام الأجر وجعله حقاً على العظيم الكريم جل شأنه الدال على عظمه زيادة في الترغيب، وجيء بالفاء ليفرعه عن السابق أي إذا كان سلوك الانتصار غير مأمون العثار فمن عفا وأصلح فهو سالك الطريق المأمون العثار المحمود في الدارين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ المتجاوزين الحد في الانتقام، تتميم لذلك المعنى وتصريح بما ضمن من عسر رعاية طريق المماثلة وأنه قلما تخلو عن الاعتداء والتجاوز لا سيما في حال الحرد والتهاب الحمية فيكون دخولاً في زمرة من لا يحبه الله تعالى، ولا حاجة على هذا المعنى إلى جعل ‏{‏فَمَنْ عَفَا‏}‏ الخ اعتراضاً، ثم لو كان كذلك بأن يكون هذا متعلقاً بجزاء سيئة سيئة مثلها على أنه تعليل لما يفهم منه فالفاء غير مانعة عنه كما توهم، وأدخل غير واحد المبتدئين بالسيئة في الظالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ‏}‏ بعد ما ظلم بالبناء للمجهول، وقرىء به فالمصدر مضاف لمفعوله أو هو مصدر المبني للمفعول واللام للقسم، وجوز أن تكون لام الابتداء جيء بها للتوكيد و‏{‏مِنْ‏}‏ شرطية أو موصولة وحمل انتصر على لفظها وحمل ‏{‏فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ‏}‏ أي للمعاقب ولا للعاتب والعائب على معناها، والجملة عطف على ‏{‏من عفا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ وجيء بها للتصريح بأن ما حض عليه إنما حض عليه إرشاداً إلى الأصلح في الأغلب لا أن المنتصر عليه سبيل بوجه حالاً أو مآلا، ولا يهام الحض خلاف ما تضمنته من نفي السبيل على العموم صدرت باللام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس‏}‏ تعيين لمن عليه السبيل بعد نفي ذلك عن المنتصرين، والمراد بالذين يظلمون الناس من يبدؤنهم بالظلم أو يزيدون في الانتقام ويتجاوزون ما حدلهم، وفسر ذلك بعضهم بالذين يفعلون بهم ما لا يستحقونه وهو أعم‏.‏

‏{‏وَيَبْغُونَ فِى الارض بِغَيْرِ الحق‏}‏ أي يتكبرون فيها تجبراً وفساداً ‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بالظلم والبغي بغير الحق ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ بسبب ظلمهم وبغيهم، والمراد بهؤلاء الظالمين الباغين الكفرة‏.‏

وقيل‏:‏ من يعمهم وغيرهم، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الامور‏}‏ تحذير عن الظلم والبغي وما يؤدي إلى العذاب الأليم بوجه، وفيه حض على ما حض عليه أولا اهتماماً به وزيادة ترغيب فيه، فالصبر هنا هو الاصلاح المؤخر فيما تقدم قدم هنا، وعبر عنه بالصبر لأنه من شأن أولى العزم وإشارة إلى أن الاصلاح بالعفو والاغضاء إنما يحمد إذا كان عن قدرة لا عن عجز، و«ذلك» إشارة إلى المذكور من الصبر والمغفرة، و‏{‏عَزْمِ الامور‏}‏ الأمور المعزومة المقطوعة أو العازمة الصادقة، وجوز في ‏{‏مِنْ‏}‏ أن تكون موصولة وأن تكون شرطية، وفي اللام أن تكون ابتدائية وأن تكون فسمية واكتفى بجواب القسم عن جواب الشرط، وإذا جعلت اللام للابتداء و‏{‏مِنْ السماء والارض إِنَّ ذلك‏}‏ جواب الشرط وحذفت الفاء منها، ومن يخص الحذف بالشعر لا يجوز هذا الوجه، وذكر جماعة أن في الكلام حذفاً أي إن ذلك منه لمن عزم الأمور، وعلل ذلك بأن الجملة خبر فلا بد فيها من رابط و‏{‏ذلك‏}‏ لا يصلح له لأنه إشارة إلى الصبر والمغفرة، وكونه مغنيا عنه لأن المراد صبره أو ‏{‏ذلك‏}‏ رابط والإشارة لمن بتقدير من ذوي عزم الأمور تكلف‏.‏

هذا واختار العلامة الطيبي أن تسمية الفعلية الثانية التي هي الجزاء سيئة من باب التهجين ودن المشاكلة، وزعم أن المجازي مسيء وبنى على ذلك ربط جملة ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ بما قبل فقال‏:‏ يكن أن يقال لما نسب المجازي إلى المساءة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏(‏الشورة 40‏)‏‏}‏ والمسيء في هذا المقام مفسداً لما في البيت بدليل ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ‏}‏ علل مفهوم ذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ كأنه قيل‏:‏ من أخرج نفسه بالعفو والاصلاح من الانتساب إلى السيئة والإفساد كان مقسطاً إن الله يحب المقسطين فوضع موضعه ‏{‏فَأَجْرُهُ عَلَى الله‏}‏ ومن اشتغل بالمجازاة وانتسب إلى السيئة وأفسد ما في البين وحرم نفسه ذلك الأجر الجزيل كان ظالماً نفسه ‏{‏إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين‏}‏ فالآية واردة إرشاداً للمظلوم إلى مكارم الأخلاق وإيثار طريق المرسلين‏.‏

وقال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظالمة‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏ الخ خطاب للولاة والحكام وتعليم فعل ما ينبغي فعله بدليل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 42‏]‏ حيث أعاد السبيل المنكر بالتعريف وعلق به ‏{‏يَظْلِمُونَ الناس‏}‏ وفسره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ‏}‏ الخ تعليم لهم أيضاً طريق الحكم يعني أن صاحب الحق إذا عدل من الأولى وانتصر من الظالم فلا سبيل لكم عليه لما قد رخص له ذلك وإذا اختار الأفضل فلا سبيل لكم على الظالم لأن عفو المظلوم من عزم الأمور فتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان انتهى، ولا يخفى ما فيه‏.‏

وفي «الكشف» أن جعل ما ذكر خطاباً للولاة والحكاه يوجب التعقيد في الكلام فالمعول عليه ما قدمناه، وقد جاءت أخبار كثيرة في فضل العافين عمن ظلمهم، أخرج البيهقي في «شعب الايمان» عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ قال موسى ابن عران عليه الصلاة والسلام يا رب من أعز عبادك عندك‏؟‏ قال‏:‏ من إذا قدر غفر ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في الشعب عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إذا وقف العباد للحساب نادى مناد ليقم من أجره على الله تعالى فليدخل الجنة ثم نادى الثانية ليقم من أجره على الله تعالى قالوا‏:‏ ومن ذا الذي أجره على الله تعالى‏؟‏ قال‏:‏ العافون عن الناس فقام كذا وكذا ألفاً فدخلوا الجنة بغير حساب ‏"‏

وأخرج أحمد وأبو داود عن أبي هريرة أن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله تعالى عنه والنبي جالس فجعل عليه الصلاة والسلام يعجب ويتبسم فلما أكثر رد عليه بعض قوله‏:‏ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقام فلحقه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ يا رسول الله كان يشتمني وأنت جالس فلما رددت عليه بعض قوله غضبت وقمت قال‏:‏ إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله‏:‏ وقع الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان ثم قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ ثلاث من الحق ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله تعالى ألا أعز الله عز وجل بها نصره وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله تعالى بها كثرة وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله تعالى بها قلة ‏"‏ استشكل هذا الخبر بأنه يشعر بعتب أبي بكر رضي الله تعالى عنه وهو نوع من السبيل المنفي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مّن سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏ وأجيب بأنا لا نسلم ذلك وليس فيه أكثر من تنبيهه رضي الله تعالى عنه على ترك الأولى وهو شيء والعتب شيء آخر، وكذا لا يعد لوما كما لا يخفى‏.‏

ومن الناس من خص السبيل في الآية بالإثم والعقاب فلا إشكال عليه أصلاً، وقيل‏:‏ هو باق على العموم إلا أن الآية في عوام المؤمنين ومن لم يبلغ مبلغ أبي بكر رضي الله تعالى عنه فإن مثله يلام بالشتم وإن كان بحق بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأذن له به قالا أو حالاً بل لاح عليه صلى الله عليه وسلم ما يشعر باستحسان السكوت عنه وحسنات الأبرار سيآت المقربين‏.‏

وقد أمر صلى الله عليه وسلم بعض الأشخاص برد الشتم على الشاتم، أخرج النسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ دخلت على زينب رضي الله تعالى عنها وعندي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبلت علي تسبني فوزعها النبي عليه الصلاة والسلام فلم تنته فقال لي‏:‏ سبيها فسببتها حتى جف ريقها في فمها ووجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل سروراً، ولعله كان هذا منه عليه الصلاة والسلام تعزيزاً لزينب رضي الله تعالى عنها بلسان عائشة رضي الله تعالى عنها لما أن لها حقاً في الرد ورأي المصلحة في ذلك وقد ذكر فقهاؤنا أن للقاضي أن يعزر من استحق التعزير بشتم غير القذف وكذا للزوج أن يعزر زوجته على شتمها غير محرم إلى أمور أخر فتأمل‏.‏

وظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ يقتضي رعاية المماثلة مطلقاً، وفي تفسير الإمام أن الآية تقتضي وجوب رعاية المماثلة في كل الأمور إلا فيما خصه الدليل لأنه لوحملت المماثلة فيها على المماثلة في أمر معين فهو غير مذكور فيها فيلزم الاجمال وعلى ما قلنا يلزم تحمل التخصيص ومعلوم أن دفع الإجمال أولى من دفع التخصيص‏.‏

والفقهاء أدخلوا التخصيص فيها في صور كثيرة تارة بناء على نص آخر أخص وأخرى بناء على القياس، ولا شك أن من ادعى التخصيص فعليه البيان والمكلف يكفيه أن يتمسك بها في جميع المطالب‏.‏

وعن مجاهد‏.‏ والسدي إذا قال له‏:‏ أخزاه الله تعالى فليقل أخزاه الله تعالى وإذا قذفه قذفاً يوجب الحد فليس له ذلك بل الحد الذي أمر الله تعالى به، ونقل أبو حيان عن الجمهور أنهم قالوا إذا بغي مؤمن على مؤمن فلا يجوز له أن ينتصر منه بنفسه بل يرفع ذلك إلى الإمام أو نائبه، وفي «مجمع الفتاوي» جاز المجازاة بمثله في غير موجب حد للإذن به ‏{‏ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل‏}‏ والعفو أفضل ‏{‏فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ وقال ابن الهمام‏:‏ الأولى أن الإنسان إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه قالوا‏:‏ لو قال له‏:‏ يا خبيث الأحسن أن يكف عنه ويرفعه إلى القاضي ليؤدبه بحضوره ولو أجاب مع هذا فقال‏:‏ بل أنت لا بأس‏.‏

وفي «التنوير» وشرحه ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضاً يعزران كما لو تشاتما بين يدي القاضي ولم يتكافآ، وأنت تعلم ما يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا لنص، وظاهر كلام العلامة الطيبي أن المظلوم إذا عفا لا يلزم الظالم التعزير بضرب أو حبس أو نحوه، وذكر فقهاؤنا أن التعزير يغلب فيه حق العبد فيجوز فيه الإبراء والعفو واليمين والشهادة على الشهادة وشهادة رجل وامرأتين ويكون أيضاً حقاً لله تعالى فلا عفو فيه إلا إذا علم الإمام انزجار الفاعل إلى آخر ما قالوا، ويترجح عندي أن الإمام متى رأى بعد التأمل والتجرد عن حظوظ النفس ترك التعزير للعفو سبباً للفساد والتجاسر على التعدي وتجاوز الحدود عزر بما تقتضيه المصلحة العامة وليبذل وسعه فيما فيه إصلاح الدين وانتظام أمور المسلمين وإياه أن يتبع الهوى فيضل عن الصراط المستقيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىّ مّن بَعْدِهِ‏}‏ أي ما له من ناصر يتولاه من بعد خذلان أن الله تعالى إياه فضمير ‏{‏بَعْدِهِ‏}‏ لله تعالى بتقدير مضاف فيه، وقيل للخذلان المفهوم من ‏{‏يُضْلِلِ‏}‏ والجملة عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 42‏]‏ وكنى بمن عن الظالم الباغي تسجيلاً بأنه ضال مخذول أو أتى به مبهماً ليشمله شمولاً أولياً فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَمَن صَبَرَ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 43‏]‏ الخ اعتراض لما أشرنا إليه ‏{‏وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب‏}‏ أي حين يرونه، وصيغة الماضي للدلالة على التحقق ‏{‏يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدّ‏}‏ أي رجعة إلى الدنيا ‏{‏مّن سَبِيلٍ‏}‏ حتى نؤمن ونعمل صالحاً وجوز أن يكون المعنى هل إلى رد للعذاب ومنع منه من سبيل، وتنكير ‏{‏مَرَدَّ‏}‏ وكذا ‏{‏سَبِيلٍ‏}‏ للمبالغة والجملة حال وقيل مفعول ثان لترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا‏}‏ أي على النار المدلول عليها بالعذاب، والجملة كالسابقة ‏{‏خاشعين‏}‏ متضائلين متقاصرين ‏{‏مَّنَ الذل‏}‏ أي بسبب الذل لعظم ما لحقهم فمن سببية متعلقة بخاشعين وهو وكذا ما بعده حال‏.‏

وجوز أن يعلق الجار بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُنظَرُونَ‏}‏ ويوقف على ‏{‏خاشعين‏}‏ ‏{‏مِن طَرْفٍ خَفِىّ‏}‏ والأول أظهر، والطرف مصدر طرف إذا حرك عينه ومنه طرفة العين، والمراد بالخفي الضعيف، ومن ابتدائية أي يبتدىء نظرهم من تحريك لأجفانهم ضعيف بمسارقة كما ترى المصبور ينظر إلى السيف وهكذا نظر الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها ويملأ عينيه منها كما يفعل في نظهر إلى المحاب، ويجوز أن تكون من بمعنى الباء‏.‏

وعن ابن عباس ‏{‏خَفِىّ‏}‏ ذليل فالطرف عليه جفن العين، وقيل‏:‏ يحشرون عمياً فلا ينظرون إلا بقلوبهم وذاك نظر من طرف خفي، وهو تأويل متكلف، والجملتان السابقتان أعني ‏{‏تَرَى الظالمين وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ‏}‏ معطوفان على ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ‏}‏ وأصل الكلام والظالمون لما رأوا العذاب يقولون وهم يعرضون عليها خاشعين، ثم قيل‏:‏ ‏{‏وَتَرَى وَتَرَاهُمْ‏}‏ خطاباً لكل من يتأتى مه الرؤية ويعتبر بحالهم زيادة للتهويل كأنه يعجبهم مما هم فيه ليعتبروا واو يبتهجوا، ومنه يظهر أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه ‏{‏وَقَالَ الذين ءامَنُواْ إِنَّ الخاسرين‏}‏ أي أنهم ‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ‏}‏ بالتعريض للعذاب الخالد أو على ما مر في الزمر، وعدل عن أنهم إلى المنزل تسجيلاً عليهم بأكمل الخسران إذ المراد أن الكاملين في صفة الخسران المتصفين بحقيقته ‏{‏يَوْمُ القيامة‏}‏ متعلق بخسروا والقول في الدنيا، وجوز أن يكون متعلقاً بقال، والماضي لتحقق الوقوع أي ويقولون إذا رأوهم على تلك الصفة‏.‏ وفي «الكشف الظاهر» أنه قول يوم القيامة كالخسران من باب التنازع بين الفعلين، وآثر «صاحب الكشاف» على ما يؤذن به صنيعه أن يتعلق بالخسران وحده لأن الأصل في ‏{‏قَالَ‏}‏ الذين آمنوا إن الخاصرين ‏{‏الخ‏}‏ هم الخاسرون كما أن الأصل في ‏{‏بَعْدِهِ وَتَرَى الظالمين‏}‏ والظالمون لما رأوا ثم قيل‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ على نحو ما قيل ‏{‏وَتَرَى‏}‏ الخ وكما أن الرؤية رؤية الدنيا استحضاراف لعذابهم الكائن في الآخرة تهويلاً كذلك القول كأنهم جعلهم حضوراً يعاين عذابهم ويسمع ما يقول المؤمنون فيهم ورد على الخطاب في الرؤية والغيبة في القول لأن معاينة العذاب لما كانت أدخل في التهويل جعل العذاب قريباً مشاهداً وخصوا بالخطاب على سبيل استحضار الحال لمزيد الابتهاج ولم يكن في الخسران ذلك المعنى لأنه أمر معقول والمحسوسات أقوى لا سيما إذا كن موجبات الخسران فجيء به على الأصل من الغيبة، وعدله من المضارع إلى الماضي لأنه قول صادر عن مقتضى الحال قد حق ووقع تفوهوا به أولاً وأسند إلى المؤمنين دلالة على الابتهاج المذكور واغتباطهم بنجاتهم عما هم فيه وإلا فالقول والرؤية لكل من يتأتى منه القول والرؤية، وجعله حالاً كما فعل الطيبي على معنى وتراهم وقد صدق فيهم قول المؤمنين في الدنيا أن الخاسرين الخ من أسلوب قوله‏:‏

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة *** وفيه أنه إنما يرتكب عند تعذر الحقيقة وقد أمكن الحمل على التنازع فلا تعذر‏.‏

ثم أنه على التقدير لا يظهر أنه قول فيها إلا بدليل خارج، وهذا بخلاف اذكره جار الله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 28‏]‏ من تقدير وقد صح عندكم أني قدمت لأن في اللفظ إشعاراً به بينا انتهى، ولعمري لقد أبعد قدس سره المغزى في هذه الآيات العظام وأتى بما تستحسنه النظار من ذي الأفهام فليفهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ إِنَّ الظالمين فِى عَذَابٍ مُّقِيمٍ‏}‏ إما من تمام كلام المؤمنين ويجري فيه ما سمعت من الأصل ونكتة العدول أو استئناف أخبار منه تعالى تصديقاً لذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم‏}‏ برفع العذاب عنهم ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ حسبما يزعمون ‏{‏وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ‏}‏ إلى الهدي أو النجاة، وقيل‏:‏ المراد ما له من حجة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏استجيبوا لِرَبّكُمْ‏}‏ إذا دعاكم لما به النجاة على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏مِن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله‏}‏ الجار والمجرور أما متعلق بمرد ويعامل اسم لا الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه كما نص عليه ابن مالك في «التسهيل»؛ ومنه قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لا مانع لما أعطيت ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 92‏]‏ أي لا يرده الله تعالى بعدما حكم به‏.‏

ومن لم يرض بذلك قال‏:‏ هو خبر لمبتدأ محذوف أي ذلك من الله تعالى، والجملة استئناف في جواب سؤال مقدر تقديره ممن ذلك‏؟‏ أو حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع خبر لا أو متعلق بالنفي أو بما دل عليه كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِمَجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 2‏]‏ وقيل‏:‏ هو متعلق بيأتي، وتعقب بأنه خلاف المتبادر من اللفظ والمعنى، وقيل‏:‏ هو مع ذلك قليل الفائدة، وجوز كونه صفة ليوم، وتعقب بأنه ركيك معنى، والظاهر أن المراد بذلك اليوم يوم القيامة لا يوم ورود الموت كما قيل‏:‏ ‏{‏مَا لَكُمْ مّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ‏}‏ أي ملاذ تلتجئون إليه فتخلصون من العذاب على أن ‏{‏مَلْجَأَ‏}‏ اسم مكان، ويجوز أن يكون مصدراً ميمياً ‏{‏وَمَا لَكُمْ مّن نَّكِيرٍ‏}‏ إنكار على أنه مصدر أنكر على غير القياس ونفى ذلك مع قوله تعالى حكاية عنهم‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ تنزيلاً لما يقع من إنكارهم منزلة العدم لعدم نفعه وقيام الحجة وشهادة الجوارح عليهم أو يقال أن الأمرين باعتبار تعدد الأحوال والمواقف، وجوز أن يكون ‏{‏نَكِيرِ‏}‏ اسم فاعل للمبالغة أي ما لكم منكر لأحوالكم غير مميز لها ليرحمكم وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48 - 49‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ ‏(‏48‏)‏ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ حَفِيظاً‏}‏ تلوين للكلام وصرف له عن خطاب الناس بعد أمرهم بالاستجابة وتوجيه له إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي فإن لم يستجيبوا وأعرضوا عما تدعوهم إليه فلا تهتم بهم فما أرسلناك رقيباً ومحاسباً عليهم ‏{‏إِنْ عَلَيْكَ‏}‏ أي ما عليك ‏{‏إِلاَّ البلاغ‏}‏ لا الحفظ وقد فعلت‏.‏

‏{‏وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً‏}‏ أي نعمة من الصحة والغنى والأمن ونحوها ‏{‏فَرِحَ بِهَا‏}‏ أريد بالإنسان الجنس الشامل للجميع وهو حينئذ بمعنى الأناسي أو الناس ولذا جمع ضميره في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ‏}‏ وليست للاستغراق والجمعية لا تتوقف عليه فكأنه قيل‏:‏ وإن تصب الناس أو الأناسي ‏{‏سَيّئَةٌ‏}‏ بلاء من مرض وفقر وخوف وغيرها ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ بسبب ما صدر منهم من السيئات ‏{‏فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ‏}‏ بليغ الكفر ينسى النعمة رأساً ويذكر البلية ويستعظمها ولا يتأمل سببها بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق لها‏.‏

وأل فيه أيضاً للجنس، وقيل‏:‏ هي فيهما للعهد على أن المراد المجرمون، وقيل‏:‏ هي في الأول للجنس وفي الثاني للعهد، وقال الزمخشري‏:‏ أراد بالإنسان الجمع لا الواحد لمكان ضمير الجمع ولم يرد إلا المجرمين لأن إصابة السيئة بما قدمت أيديهم إنما يستقيم فهيم، ثم قال‏:‏ ولم يقل فإنه لكفور ليسجل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النعم كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إن إنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏ ‏{‏إِنَّ الإنسان لِرَبّهِ لَكَنُودٌ‏}‏ ‏[‏العاديات‏:‏ 6‏]‏ ففهم منه العلامة الطيبي أنها في الأول للعهد وأن المراد الكفار المخاطبون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏استجيبوا لِرَبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 47‏]‏ فإن أعرضوا ‏{‏وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ‏}‏، ووضع المظهر موضع المضمر للإشعار بتصميمهم على الكفران والإيذان بأنهم لا يرعوون مما هم فيه وأنها في الثاني للجنس ليكون المعنى لس ببدع من هذا الإنسان المعهود الإصرار لأن هذا الجنس موسوم بكفران النعم فيكون ذم المطلق دليلاً على ذم المقيد، وفي «الكشف» أنه أراد أن الإنسان أي الأول للجنس الصالح للكل وللبعض وإذا قام دليل على إرادة البعض تعين وقد قام لما سلف أن الإصابة في غير المجرمين للعوض الموفي ولم يذهب إلى أن اللام للعهد وجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ‏}‏ للجنس ليكون تعليلاً للمقيد بطريق الأولى ومطابقاً لما جاء في مواضع عديدة من الكتاب العزيز؛ ولا بأس بأن يجعل إشارة إلى السالف فإنه للجنس أيضاً، ويكون في وضع المظهر موضع المضمر الفائدة المذكورة مراراً بل هو أدل على القانون الممهد في الأصول وبكون كليهما للجنس أقول؛ وإسناد الكفران مع أنه صفة الكفرة إلى الجنس لغلبتهم فهو مجاز عقلي حيث أسند إلى الجنس حال أغلب أفراده لملابسته الأغلبية، ويجوز أن يعتبر أغلب الأفراد عين الجنس لغلبتهم على غيرهم فكيون المجاز لغوياً، وكذا يقال في إسناد الفرح إذا كان بمعنى البطر فإنه أيضاً من صفات الكفرة بل أن كان أيضاً بمعناه المعروف وهو انشراح الصدر بلذة عاجلة وأكثر ما يكون ذلك في اللذات البدنية الدنيوية فإنه وإن لم يكن من خواص الكفار بل يكون في المؤمنين أيضاً اضطراراً أو شكراً إلا أنه لا يعم جميع أفراد الجنس وإن قلت بعمومه لم تحتج إلى ذلك كما إذا فسرته بالبطر على إرادة العهد في الإنسان، وإصابة السيئة بالذنوب غير عامة للأفراد أيضاً فحال إسنادها يعلم مما ذكرنا؛ وتصدير الشرطية الأولى بإذا مع إسناد الإذاقة بلفظ الماضي إلى نون العظمة للتنبية على أن إيصال النعمة محقق الوجود كثير الوقوع وأنه مراد بالذات من الجواب المطلق سبحانه وتعالى كما أن تصدير الثانية بإن وإسناد الإصابة بلفظ المضارع إلى السيئة وتعليلها بأعمالهم للإيذان بندرة وقوعها وأنها بمنزل عن الانتظام في سلك الإرادة بالذات والقصد الأولى، وإقامة علة الجزاء مقام الجزاء مبالغة في ذمهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏للَّهِ مُلْكُ السموات والارض‏}‏ لا لغيره سبحانه اشتراكاً أو استقلالاً ‏{‏يَخْلُقُ مَا يَشَاء‏}‏ من غير وجوب عليه سبحانه ‏{‏يَهَبُ لِمَن يَشَاء إناثا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذكور‏}‏‏.‏

‏{‏أَوْ يُزَوّجُهُمْ ذُكْرَاناً وإناثا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً‏}‏ استئناف بياني أو بيان ليخلق أو بدل منه بدل البعض على ما اختاره القاضي، ولما ذكر سبحانه إذاقة الإنسان الرحمة وإصابته بضدها أتبع جل وعلا ذلك أن له سبحانه الملك وأنه تعالى يقسم النعمة والبلاء كما شاء بحكمته تعالى البالغة لا كما شاء الإنسان بهواه، وفيه إشارة إلى أن إذاقة الرحمة ليست للفرح والبطر بل للشكر لموليها وإصابة المحنة ليست للكفران والجزع بل للرجوع إلى مبليها؛ وتأكيد لإنكار كفرانهم من وجهين‏.‏ الأول‏:‏ أن الملك ملكه سبحانه من غير منازع ومشارك يتصرف فيه كيف يشاء فليس على من هو أحقر جزء من ملكه تعالى أن يعترض ويريد أن يجري التدبير حسب هواه الفاسد‏.‏ الثاني‏:‏ أن هذا الملك الواسع لذلك العزيز الحكيم جل جلاله الذي من شأنه أن يخلق ما يشاء فأنى يجوز أن يكون تصرفه إلا على وجه لا يتصور أكمل منه ولا أوفق لمقتضى الحكمة والصواب، وعند ذلك لا يبقى إلا التسليم والشغل بتعظيم المنعم المبلي عن الكفران والإعجاب، وناسب هذا المساق أن يدل في البيان من أول الأمر على أنه تعالى فعل لمحض مشيئته سبحانه لا مدخل لمشيئة العبد فيه فلذا قدمت الإناث وأخرت الذكور كأنه قيل يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء من الأناسي ما لا يهواه ويهب لمن يشاء منهم ما يهواه فقد كانت العرب تعد الإناث بلاء ‏{‏وَإِذَا بُشّرَ أَحَدُهُمْ بالانثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّا وَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 58‏]‏ ولو قدم المؤخر لاختل النظم، وليس التقديم لمجرد رعاية مناسبة القرب من البلاء ليعارض بأن الآية السابقة ذكرت الرحمة فيها مقدمة عليه فناسب ذلك تقديم الذكور على الإناث، وفي تعريف الذكور مع ما فيه من الاستدراك لقضية التأخير التنبيه على أنه المعروف الحاضر في قلوبهم أول كل خاطر وأنه الذي عقدوا عليه مناهم، ولما قضى الوطر من هذا الأسلوب قيل‏:‏ ‏{‏أَوْ يُزَوّجُهُمْ‏}‏ أي الأولاد ‏{‏ذُكْرَاناً وإناثا‏}‏ أي يخلق ما يهبهم زوجاً لأن التزويج جعل الشيء زوجاً فذكراناً وأناثاً حال من الضمير، والواو قيل للمعية لأن حقه التأخير عن القسمين سياقاً ووجوداً فلا تتأتى المقارنة إلا بذلك، وقيل ذلك لأن المراد يهب لمن يشاء ما لا يهواه ويهب لمن يشاء ما يهواه أو يهب الأمرين معالاً أنه سبحانه يجعل من كل من الجنسين الذكور والإناث على حياله زوجاً ولولا ذلك لتوهم ما ذكر فتأمله، ولتركبه منهما لم يكرر فيه حديث المشيئة، وقدم المقدم على ما هو عليه في الأصل ولم يعرف إذ لا وجه له، ثم قيل‏:‏ ‏{‏وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيماً‏}‏ أي لا يولد له فقيد بالمشيئة لأنه قسم آخر، وكأنه جيء بأو في ‏{‏أَوْ يُزَوّجُهُمْ‏}‏ دون الواو كما في سابقه من حيث أنه قسم الانفراد المشترك بين الأولين ولم يؤت في الأخير لاتضاحه بأنه قسيم الهبة المشتركة بين الأقسام المتقدمة فتأمل، وقيل قدم الإناث توصية برعايتهن لضعفهن لا سيما وكانوا قريبي العهد بالوأد، وفي الحديث

«من ابتلي بشيء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له ستراً من النار» وقيل‏:‏ قدمت لأنها أكثر لتكثير النسل فهي من هذا الوجه أنسب بالخلق المراد بيانه، وقيل‏:‏ لتطييب قلوب آبائهن لما في تقديمهن من التشريف لأنهن سبب لتكثير مخلوقاته تعالى، وقال الثعالبي‏:‏ إنه إشارة إلى ما في تقدم ولادتهن من اليمن حتى أن أول مولود ذكر يكون مشؤماً فيقولون له بكر بكرين؛ وعن قتادة من يمن المرأة تبكيرها بأنثى، وقيل‏:‏ قدمت وأخر الذكور معرفاً للمحافظة على الفواصل، والمناسب للسياق ما علمت سابقاً، وقال مجاهد في ‏{‏أَوْ يُزَوّجُهُمْ‏}‏ التزويج أن تلد المرأة غلاماً ثم تلد جارية، وقال محمد بن الحنفية رضي الله تعالى عنهما‏:‏ هو أن تلد توأماً غلاماً وجارية‏.‏ وزعم بعضهم أن الآية نزلت في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حيث وهب سبحانه لشعيب ولوط عليهم السلام أناثاً ولإبراهيم عليه السلام ذكوراً ولرسوله محمد صلى الله عليه وسلم ذكوراً وإناثاً وجعل عيسى ويحيى عليهما السلام عقيمين اه ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ‏}‏ مبالغ جل شأنه في العلم والقدرة فيفعل ما يفعل بحكمة واختيار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ أي ما صح لفرد من أفراد البشر‏.‏

‏{‏أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء‏}‏ ظاهره حصر التكليم في ثلاثة أقسام‏.‏ الأول‏:‏ الوحي وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ وَحْياً‏}‏ وفسره بعضهم بالإلقاء في القلب سواء كان في اليقظة أو في المنام والإلقاء أعم من الإلهام فإن إيحاء أم موسى إلهام وإيحاء إبراهيم عليه السلام إلقاء في المنام وليس إلهاماً وإيحاء الزبور إلقاء في اليقظة كما روى عن مجاهد وليس بإلهام؛ والفرق أن الإلهام لا يستدعي صورة كلام نفساني فقد وقد وأما اللفظي فلا، وأما نحو إيحاء الزبور فيستدعيه، وقد جاء إطلاق الوحي على الإلقاء في القلب في قول عبيد بن الأبرص‏:‏

وأوحى إلى الله أن قد تأمروا *** بابل أبي أوفى فقمت على رجلي

فإنه أراد قذف في قلبي‏.‏ والثاني‏:‏ إسماع الكلام من غير أن يبصر السامع من يكلمه كما كان لموسى وكذا الملائكة الذين كلمهم الله تعالى في قضية خلق آدم عليه السلام ونحوهم وهو المراد بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ فإنه تمثيل له سبحانه بحال الملك المتحجب الذي يكلم بعض خواصه من وراء حجاب يسمع صوته ولا يرى شخصه‏.‏ والثالث‏:‏ إرسال الملك كالغالب من حال نبينا صلى الله عليه وسلم وهو حال كثير من الأنبياء عليهم السلام،، وزعم أنه من خصوصيات أولي العزم من المرسلين غير صحيح وهو المراد بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً‏}‏ أي ملكاً ‏{‏فَيُوحِىَ‏}‏ ذلك الرسول إلى المرسل إليه الذي هو الرسول البشري ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ أي بأمره تعالى وتيسيره سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا يَشَاء‏}‏ أن يوحيه، وهذا يدل على أن المراد من الأول الوحي من الله تعالى بلا واسطة لأن إرسال الرسول جعل فيه إيحاء ذلك الرسول، وبني المعتزل على هذا الحصر أن الرؤية غير جائزة لأنها لو صحت لصح التكليم مشافهة فلم يصح الحصر، وقال بعض‏:‏ المراد حصر التكليم في الوحي بالمعنى المشهور والتكليم من وراء حجاب وتكليم الرسل البشريين مع أممهم، واستبعد بأن العرف لم يطرد في تسمية ذلك إيحاء، وقال القاضي إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ وَحْياً‏}‏ معناه إلا كلاماً خفياً يدرك بسرعة وليس في ذاته مركباً من حروف مقطعة وهو ما يعم المشافهة كما روى في حديث المعراج وما وعد به في حديث الرؤية والمهتف به كما اتفق لموسى عليه السلام في الطور لكن عطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ عليه يخصه بالأول فالآية دليل على جواز الرؤية لا على امتناعها، وإلى الأول ذهب الزمخشري وانتصر له صاحب الكشف عفا الله تعالى عنه فقال‏:‏ وأما نحن فنقول والله تعالى أعم‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ على التعميم يقتضي الحصر بوجه لا يخص التكلم بالأنبياء عليهم ويدخل فيه خطاب مريم وما كان لأم موسى وما يقع للمحدثين من هذه الأمة وغيرهم فحمل الوحي على ما ذهب إليه الزمخشري أولى‏.‏

ثم أنه يلزم القاضي أن لا يكون ما وقع من وراء حجاب وحياً لا أنه يخصصه لأنه نظير قولك‏:‏ ما كان لك أن تنعم إلا على المساكين وزيد، نعم يحتمل أن يكون زيد داخلاً فيهم على نحو ‏{‏ملائكته‏.‏‏.‏‏.‏ وَجِبْرِيلُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ وهذا يضر القاضي لاقتضائه أن يكون هذا القسم أعني ما وقع من وراء حجاب أعلا المراتب فلا يكون الثاني هو المشافهة، وتقدير إلا وحياً من غير حجاب أو من وراء حجاب خلاف الظاهر وفيه فك للنظم لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ‏}‏ وهو عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ وَحْياً‏}‏ مع كونه خلاف الظاهر‏.‏

وعلى هذا يفسد ما بني عليه من حديث التنزل من القسم الأعلى إلى ما دونه، ومع ذلك لا يدل على عدم وقوع الرؤية فضلاً عن جوازه بل دل على أنها لو وقعت لم يكن معها المكالمة وذلك هو الصحيح لأن الرؤية تستدعي الفناء والبقاء به عز وجل وهو يقتضي رفع حجاب المخاطب المستدعي كوناً وجودياً ثم الكامل لتوفيته حق المقامات الكبرى يكون المحتظى منه بالشهود في مقام البقاء المذكور ومع ذلك لا يمنعه عن حظه من سماع الخطاب لأنه حظ القلب المحجوب عن مقام الشهود، والمقصود أن الذي يصح ذوقاً ونقلاً وعقلاً كون الخطاب من وراء حجاب البتة وهو صحيح لكن لا ينفع منكر الرؤية ولا مثبتها، وأما سؤال الترقي في الأقسام فالجواب عنه أن الترقي حاصل بين الأول والثاني الذي له سمي الكليم كليماً، وأما الثالث‏:‏ فلما كان تكليماً مجازياً أخر عن القسمين ولم ينظر إلى أنه أشرف من القسم الأول فإن ذلك الأمر غير راجع إلى التكليم بل لأنه مخصوص بالأنبياء عليهم السلام انتهى‏.‏

وتعقب ما اعترض به على القاضي بأنه لا يرد لأن الوحي بذلك المعنى بالتخصيص المذكور والتقييد المأخوذ من التقابل صار مغايراً لما بعده وليس من شيء من القبيلين حتى يذهب إلى الترقي أو التدلي لأنه لا يعطف بأو بل بالواو كما لا يخفى، ولزوم أن لا يكون الواقع من وراء حجاب وحياً غير مسلم لأنه إن أراد أن لا يكون وحياً مطلقاً فغير صحيح لأن قوله تعالى بعده‏:‏ فيوحى بأنه قرينة على أن المراد بالوحي السابق وحي مخصوص كالذي بعده وإن أراد أنه لا يكون من الوحي المخصوص السابق فلا يضره لأنه عين ما عناه، نعم الحصر على ما ذهب إليه القاضي غير ظاهر إلا بعد ملاحظة أنه مخصوص بما كان بالكلام فتدبر، والظاهر أن عائشة رضي الله تعالى عنها حملت الآية على نحو ما حملها المعتزلة، أخرج البخاري‏.‏

ومسلم‏.‏ والترمذي عنها أنها قالت‏:‏ «من زعم أن محمداً رأى ربه فقد كذب ثم قرأت ‏{‏لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 103‏]‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏» وأنت تعلم أن أكثر العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه سبحانه ليلة الإسراء لكثرة الروايات المصرحة بالرؤية نعم ليس فيهيا التصريح بأنها بالعين لكن الظاهر من الرؤية كونها بها، والمروي عن الأشعري وجمع من المتكلمين أنه جل شأنه كله عليه الصلاة والسلام تلك الليلة بغير واسطة ويعزى ذلك إلى جعفر بن محمد الباقر‏.‏ وابن عباس‏.‏ وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم وهو الظاهر للأحاديث الصحاح في مرادة الصلاة واستقرار الخمسين على الخمس وغير ذلك، وعائشة رضي الله تعالى عنها لم تنف الرؤية إلا اعتماداً على الاستنباط من الآيات ولو كان معها خبر لذكرته، واحتجاجها بما ذكر من الآيات غير تام، أما عدم تمامية احتجاجها بآية لا تدركه الأبصار فمشهور، وأما عدم تمامية الاحتجاج بالآية الثانية فلما سمعت عن «صاحب الكشف» قدس سره، وقال الخفاجي بعد تقرير الاحتجاج بأنه تعالى حصر تكليمه سبحانه للبشر في الثلاثة‏:‏ فإذا لم يره جل وعلا من يكلمه سبحانه في وقت الكلام لم يره عز وجل في غيره بالطريق الأولى وإذا لم يره تعالى هو أصلاً لم يره سبحانه غيره إذ لا قائل بالفصل، وقد أجيب عنه في الأصول بأنه يحتمل أن يكون المراد حصر التكليم في الدنيا في هذه الثلاثة أو نقول يجوز أن تقع الرؤية حال التكليم وحياً إذا لوحي كلام بسرعة وهو لا ينافي الرؤية انتهى، ولا يخفى عليك أن الجواب الأول لا ينفع فيما نحن بصدده إلا بالتزام أن ما وقع لنبينا عليه الصلاة والسلام تلك الليلة لا يعد تكليماً في الدنيا على ما ذكره الشرنبلالي في إكرام أولي الألباب لأنه كان في الملكوت الأعلى وأنه يستفاد من كلام «صاحب الكشف» منع ظاهر للشرطية في وجه الاستدلال الذي قرره، وبعضهم أجاب بأن العام مخصص بغير ما دليل وفي «البحر» قيل «قالت قريش‏:‏ ألا تلكم الله تعالى وتنظر إليه إن كنت نبياً صادقاً كما كلم جل وعلا موسى ونظر إليه تعالى فقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لم ينظر موسى عليه السلام إلى الله عز وجل فنزلت ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ الآية ‏"‏ وهذا ظاهر في أن الآية لم تتضمن التكليم الشفاهي مع الرؤية وكذا ما فيه أيضاً كان من الكفار خوض في تكليم الله تعالى موسى عليه السلام فذهبت قريش واليهود في ذلك إلى التجسيم فنزلت فإن عدم تضمنها ذلك أدفع لتوهم التجسيم، وبالجملة الذي يترجح عندي ما قاله «صاحب الكشف» قدس سره أن الآية لا تنفع منكر الرؤية ولا مثبتها وما ذكر من سبب النزول ليس بمتيقن الثبوت، ويفهم من كلام بعضهم أن الوحي كما يكون بالإلقاء في الروع يكون بالخط فقد قال النخعي كان في الأنبياء عليهم السلام من يخط له في الأرض، ومعناه اللغوي يشمل ذلك، فقد قال الإمام أبو عبد الله التيمي الأصبهاني‏:‏ الوحي أصله التفهيم وكل ما فهم به شيء من الإلهام والإشارة والكتب فهو وحي، وقال الراغب‏:‏ أصل الوحي الإشارة السريعة ولتضمن السرعة قيل أمر وحي وذلك يكون بالكلام على الرمز والتعريض، وقد يكون بصوت مجرد عن التركيب وبإشارة ببعض الجوارح وبالكتابة، وقد حمل على ذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبّحُواْ بُكْرَةً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 11‏]‏ فقد قيل رمز وقيل اعتبار وقيل كتب وجعل التسخير من الوحي أيضاً وحمل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحى رَبُّكَ إلى النحل‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 68‏]‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى ما للصوفية قدست أسرارهم من الكلام في هذه الآية، و‏{‏وَحْياً‏}‏ على ما قال الزمخشري مصدر واقع موقع الحال وكذا أن يرسل لأنه بتأويل إرسالاً، و‏{‏مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ ظرف واقع موقع الحال أيضاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى جُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 191‏]‏ والتقدير وما صح أن يكلم أحداً في حال من الأحوال إلا موحياً أو مسمعاً من وراء حجاب أو مرسلاً‏.‏ وتعقبه أبو حيان فقال‏:‏ وقوع المصدر حالاً لا ينقاس فلا يجوز جاء زيد بكاءً تريد باكياً، وقاس منه المبرد ما كان نوعاً للفعل نحو جاء زيد مشياً أو سرعة ومنع سيبويه من وقوع أن مع الفعل موقع الحال فلا يجوز جاء زيد أن يضحك في معنى ضحكاً الواقع موقع ضاحكاً‏.‏

وأجيب عن الأول بأن القرآن يقاس عليه ولا يلزم أن يقاس على غيره مع أنه قد يقال‏:‏ يكتفي بقياس المبرد، وعن الثاني بأنه علل المنع بكون الحاصل بالسبك معرفة وهي لا تقع حالاً، وفي ذلك نظر لأنه غير مطرد ففي شرح التسهيل أنه قد يكون نكرة أيضاً ألا تراهم فسروا ‏{‏ءانٍ يَفْتَرِى‏}‏ بمفترى، وقد عرض ابن جني ذلك على أبي علي فاستحسنه، وعلى تسليم الاطراد فالمعرفة قد تكون حالاً لكونها في معنى النكرة كوحدة، والاقتصار على المنع أولى لمكان التعسف في هذا، واختار غير واحد إن وحياً بما عطف عليه منتصب بالمصدر لأنه نوع من الكلام أو بتقدير إلا كلام وحي و‏{‏مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ صفة كلام أوسماع محذوف وصفة المصدر تسد مسده والإرسال نوع من الكلام أيضاً بحسب المآل والاستثناء عليه مفرغ من أعم المصادر، وقال الزجاج‏:‏ قال سيبويه سألت الخليل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً‏}‏ بالنصب فقال‏:‏ هو محمول على أن سوى هذه التي في قوله تعالى‏:‏ أن يكلمه الله لما يلزم منه أن يقال‏:‏ ما كان لبشر أن يرسل الله رسولاً وذلك غير جائز، والمعنى ما كان لبشر ‏{‏أَن يُكَلّمَهُ الله‏}‏ إلا بأن يوحي أو أن يرسل، وعليه أن يقدر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت‏؟‏ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع‏.‏

وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ‏}‏ نحو أو أن يسمع من وراء حجاب وأي داع إلى ذلك مع ما سمعت‏؟‏ واختلف في الاستثناء هل هو متصل أو منقطع وأبو البقاء على الانقطاع‏.‏ وتعقبه بعضهم بأن المفرغ لا يتصف بذلك والبحث شهير‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة ‏{‏أَوْ مِن وَرَاء‏}‏ بالجمع‏.‏ وقرأ نافع‏.‏ وأهل المدينة ‏{‏حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِىَ‏}‏ برفع الفعلين ووجهوا ذلك بأنه على إضمار مبتدأ أي هو يرسل أو هو معطوف على ‏{‏وَحْياً‏}‏ أو على ما يتعلق به ‏{‏مِن وَرَاء‏}‏ بناءً على أن تقديره أو يسمع من وراء حجاب، وقال العلامة الثاني‏:‏ إن التوجيه الثاني وما بعده ظاهر وهو عطف الجملة الفعلية الحالية على الحال المفردة، وأما إضمار المبتدأ فإن حمل على هذا فتقدير المبتدأ لغو، وإن أريد أنها مستأنفة فلا يظهر ما يعطف عليه سوى ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ الخ وليس بحسن الانتظام‏.‏ وتعقب بأنه يجوز أن يكون تقدير المبتدأ مع اعتبار الحالية بناءً على أن الجملة الاسمية التي الخبر فيها جملة فعلية تفيد ما لا تفيده الفعلية الصرفة مما يناسب حال إرسال الرسول، أو يقال‏:‏ لا نسلم أن العطف على ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ ليس بحسن الانتظام، وفيه دغدغة لا تخفى، وفي الآية على ما قال ابن عطية دليل على أن من حلف أن لا يكلم فلاناً فراسله حنث لاستثنائه تعالى الإرسال من الكلام، ونقله الجلال السيوطي في أحكام القرآن عن مالك وفيه بحث والله تعالى الهادي‏.‏

‏{‏إِنَّهُ عَلِىٌّ‏}‏ متعال عن صفات المخلوقين ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يجري سبحانه أفعاله على سنن الحكمة فيكلم تارة بواسطة وأخرى بدونها إما إلهاماً وإما خطاباً أو إما عياناً وإما خطاباً من وراء حجاب على ما يقتضيه الاختلاف السابق في تفسير الآية‏.‏