فصل: تفسير الآية رقم (21)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ ءاتيناهم كتابا مّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ‏}‏ إضراب عن نفي أن يكون لهم بذلك علم من طريق العقل إلى إبطال أن يكون لهم سند من جهة النقل؛ فأم منقطعة لا متصلة معادلة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اشهدوا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏ كما قيل لبعده‏.‏

وضمير ‏{‏قَبْلِهِ‏}‏ للقرآن لعلمه من السياق أو الرسول عليه الصلاة والسلام، وسين مستمسكون للتأكيد لا للطلب أي بل أآتيناهم كتاباً من قبل القرآن أو من قبل الرسول صلى الله عليه وسلم ينطق بصحة ما يدعونه فهم بذلك الكتاب متمسكون وعليه معولون، وقوله جل وعلا‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّهْتَدُونَ‏}‏ إبطال لأن يكون لهم حجة أصلاً أي لا حجة لهم على ذلك عقلية ولا نقلية وإنما جنحوا فيه إلى تقليد آبائهم الجهلة مثلهم، والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي كالرحلة للرجل العظيم الذي يقصد في المهمات يقال‏:‏ فلان لا أمة له أي لا دين ولا نحلة، قال الشاعر‏:‏

وهل يستوى ذو أمة وكفور *** وقال قيس بن الحطيم‏:‏

كنا على أم آبائنا *** ويقتدي بالأول الآخر

وقال الجبائي‏:‏ الأمة الجماعة والمراد وجدنا آباءنا متوافقين على ذلك، والجمهور على الأول وعليه المعول، ويقال فيها إمة بكسر الهمزة أيضاً وبها قرأ عمر بن عبد العزيز‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ والجحدري‏.‏

وقرأ ابن عياش ‏{‏أُمَّةٍ‏}‏ بفتح الهمزة، قال في «البحر»‏:‏ أي على قصد وحال، و‏{‏على أُمَّةٍ وَإِنَّا‏}‏ قيل خبر إن لأن، وقيل‏:‏ على آثارهم صلة ‏{‏مُّهْتَدُونَ‏}‏ ومهتدون هو الخبر، هذا وجعل الزمخشري الآية دليلاً على أنه تعالى لم يشأ الكفر من الكافر وإنما شاء سبحانه الايمان، وكفر أهل السنة القائلين بأن المقدورات كلها بمشيئة الله تعالى، ووجه ذلك بأن الكفار لما ادعوا أنه تعالى شاء منهم الكفر حيث قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء الرحمن‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ الخ أي لو شاء جل جلاله منا أن نترك عبادة الأصنام تركناها رد ‏{‏الله‏}‏ تعالى ذلك عليهم وأبطل اعتقادهم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ الخ فلزم حقيقة خلافه وهو عين ما ذهب إليه، والجملة عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 15‏]‏ أو على ‏{‏جَعَلُواْ الملائكة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏ الخ فيكون ما تضمنته كفراً آخر ويلزمه كفر القائلين بأن الكل بمشيئته عز وجل، ومما سمعت يعلم رده، وقيل‏:‏ في رده أيضاً‏:‏ يجوز أن يكون ذلك إشارة إلى أصل الدعوى وهو جعل الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً دون ما قصدوه من قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء‏}‏ الخ وما ذكر بعد أصل الدعوى من تتمتها فإنه حكاية شبهتهم المزيفة لأن العبادة للملائكة وإن كانت بمشيئته تعالى لكن ذلك لا ينافي كونها من أقبح القبائح المنهي عنها وهذا خلاف الظاهر‏.‏

وقال بعض الأجلة‏:‏ إن كفرهم بذلك لأنهم قالواه على جهة الاستهزاء، ورده الزمخشري بأن السياق لا يدل على أنهم قالوه مستهزئين؛ على الله تعالى قد حكى عنهم على سبيل الذم والشهادة بالكفر أنهم جعلوا له سبحانه جزأ وأنه جل وعلا اتخذ بنات واصطفاهم بالبنين وأنهم جعلوا الملائكة المكرمين أناثاً وأنهم عبدوهم وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم فلو كانوا ناطقين بها على طريق الهزء لكان النطق بالمحكيات قبل هذا المحكي الذي هو إيمان عنده لوجدوا بالنطق به مدحاً لهم من قبل أنها كلمات كفر نطقوا بها على طريق الهزء فبقي أن يكونوا جادين ويشترك كلها في أنها كلمات كفر، فإن جعلوا الأخير وحده مقولاً على وجه الهزء دون ما قبله فما بهم إلا تعويج كتاب الله تعالى ولو كانت هذه كلمة حق نطقوا بها هزأ لم يكن لقوله سبحانه‏:‏

‏{‏مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ الخ معنى لأن الواجب فيمن تكلم بالحق استهزاء أن ينكر عليه استهزاؤه ولا يكذب، ولا يخفى أن رده بأنه لا يدل عليه السياق صحيح، وأما ما ذكر من حكاية الله سبحانه والتعويج فلا لأنه تعالى ما حكى عنهم قولاً أولاً بل أثبت لهم اعتقاداً يتضمن قولاً أو فعلاً وقد بين أنهم مستخفون في ذلك العقد كما أنهم مستخفون في هذا القول فقوله‏:‏ لو نطقوا الخ لا مدخل له في السابق وليس فيه تعويج البتة من هذا الوجه وكذلك قوله‏:‏ لم يكن لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا لَهُم‏}‏ الخ معنى مردود لأن الاستهزاء باب من الجهل كما يدل عليه قول موسى عليه السلام ‏{‏أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين‏}‏ وقد تقدم في البقرة ‏(‏67‏)‏‏}‏، وأما الكذب فراجع إلى مضمونه والمراد منه كما سمعت فمن قال لا إله إلا الله استهزاء مكذب فيما يلزم من أنه اخبار عن إثبات التعدد لأنه إخبار عن التوحيد فافهم كذا في «الكشف»‏.‏

وفيه أيضاً أن قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء الرحمن‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ الخ فهم منه كونه كفراً من أوجه‏.‏ أحدها‏:‏ أنه اعتذار عن عبادتهم الملائكة عليهم السلام التي هي كفر وإلزام أنه إذا كان بمشيئته تعالى لم يكن منكراً‏.‏

والثاني‏:‏ أن الكفر والايمان بتصديق ما هو مضطر إلى العلم بثبوته بديهة أو استدلالاً متعلقاً بالمبدأ والمعاد وتكذيبه لا بإيقاع الفعل على وفق المشيئة وعدمه‏.‏

والثالث‏:‏ أنهم دفعوا قول الرسل بدعوتهم إلى عبادته تعالى ونهيهم عن عبادة غيره سبحانه بهذه المقالة ثم أنهم ملزمون على مساق هذا القول لأنه إذا استند الكل إلى مشيئته تعالى شأنه فقد شاء إرسال الرسل وشاء دعوتهم للعباد وشاء سبحانه جحودهم وشاء جل وعلا دخولهم النار فالإنكار والدفع بعد هذا القول دليل على أنهم قالوه لا عن اعتقاد بل مجازفة، وإليه الإشارة بقوله تعالى في مثله‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 149‏]‏ وفيه أنهم يعجزون الخالق بإثبات التمانع بين المشيئة وضد المأمور به فيلزم أن لا يريد إلا ما أمر سبحانه به ولا ينهى جل شأنه إلا وهو سبحانه لا يريده وهذا تعجيز من وجهين‏.‏ إخراج بعض المقدورات عن أن يصير محلها وتضييق محل أمره ونهيه؛ وهذا بعينه مذهب إخوانهم من القدرية؛ ولهذه النكتة جعل قولهم‏:‏ ‏{‏وَقَالُواْ لَوْ شَاء الرحمن مَا عبدناهم‏}‏

‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ معتمد الكلام ولم يقل‏:‏ وعبدوا الملائكة وقالوا‏:‏ لو شاء ونظير قولهم في أنه إنما أتى به لدفع ما علم ضرورة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاء رَبُّنَا لاَنزَلَ ملائكة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 14‏]‏ فالدفع كفر والتعجيز كفر في كفر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ يحتمل أن يرجع إلى جميع ما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 15‏]‏ إلى هذا المقام ويحتمل أن يرجع إلى الأخير فقد ثبت أنهم قالوه من غير علم وهو الأظهر للقرب وتعقيب كل بإنكار مستقل وطباقه لما في الأنعام، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 116‏]‏ على هذا التكذيب المفهوم منه راجع إلى استنتاج المقصود من هذه اللزومية فقد سبق أنها عليهم لا لهم ولوح إلى طرف منه في سورة الأنعام أو إلى الحكم بامتناع الانفكاك مع تجويز الحاكم الانفكاك حال حكمه فإن ذلك يدل على كذبه وإن كان ذلك الحكم في نفسه حقاً صحيحاً يحق أن يعلم كما تقول زيد قائم قطعاً أو البتة وعندك احتمال نقيضه‏.‏

وليس هذا رجوعاً إلى مذهب من جعل الصدق بطباقه للمعتقد فافهم، على أنه لما كان اعتذاراً على ما مر صح أن يرجع التكذيب إلى أنه لا يصلح اعتذاراً أي أنهم كاذبون في أن المشيئة تقتضي طباق الأمر لها، وهذا ما آثره الإمام‏.‏ والعلامة‏.‏ والقاضي، والظاهر ما قدمناه‏.‏ وتعقيب الخرص على وجه البيان أو الاستئناف عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 20‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏116‏)‏‏}‏ دليل على ما أشرنا فقد لاح للمسترشد أن الآية تصلح حجة لأهل السنة لا للمعتزلة؛ وقال في آية سورة الأنعام‏:‏ إن قولهم هذا إما لدعوى المشروعية رداً للرسل أو لتسليم أنهم على الباطل اعتذاراً بأنهم مجبورون، والأول باطل لأن المشيئة تتعلق بفعلهم المشروع وغيره فما شاء الله تعالى أن يقع منهم مشروعاً وقع كذلك وما شاء الله تعالى أن يقع لا كذلك وقع لا كذلك‏.‏

ولا شك أن من توهم أن كون الفعل بمشيئته تعالى ينافي مجيء الرسل عليهم السلام بخلاف ما عليه المباشر من الكفر والضلال فقد كذب التكذيب كله وهو كاذب في استنتاج المقصود من هذه اللزومية وظاهر الآية مسوق لهذا المعنى، والثاني على ما فيه من حصول المقصود وهو الاعتراف بالبطلان باطل أيضاً إذ لا جبر لأن المشيئة تعلقت بأن يشركوا اختياراً منهم والعلم تعلق كذلك فهو يؤكد دفع القدر لا أنه يحققه وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 149‏]‏ ثم إنهم كاذبون في هذا القول لجزمهم حيث لا ظن مطلقاً فضلاً عن العلم وذلك لأن من المعلوم أن العلم بصفات الله سبحانه فرع العلم بذاته جل وعلا والايمان بها كذلك والمحتجون به كفرة مشركون مجسمون، ونقل العلامة الطيبي نحواً من الكلام الأخير عن إمام الحرمين عليه الرحمة في الإرشاد اه‏.‏

وقد أطال الأعلام الكلام في هذا المقام وأرى الرجل سقى الله تعالى مرقده صهيب الرضوان قد مخض كل ذلك وأتى بزبده بل لم يترك من التحقيق شيئاً لمن أتى من بعده فتأمل والله عز وجل هو الموفق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وكذلك‏}‏ أي والأمر كما ذكر من عجزهم عن الحجة مطلقاً وتشبثهم بذيل التقليد، وقوله سبحانه‏:‏

‏{‏مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءابَاءنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على ءاثارهم مُّقْتَدُونَ‏}‏ استئناف مبين لذلك دال على أن التقليد فيما بينهم ضلال قديم لأسلافهم وأن متقدميهم أيضاً لم يكن لهم سند منظور إليه وتخصيص المترفين بتلك المقالة للإيذان بأن التنعم وحب البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آَبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ حكاية لما جرى بين المنذرين وبين أممهم عند تعللهم بتقليد آبائهم أي قال‏:‏ كل نذير من أولئك المنذرين لأمته ‏{‏أَوْ لَوْ جِئْتُكُم‏}‏ أي أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم ‏{‏بأهدى‏}‏ بدين أهدى ‏{‏مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءابَاءكُمْ‏}‏ من الضلالة التي ليست من الهداية في شيء، وإنما عبر عنها بذلك مجاراة معهم على مسل الانصاف‏.‏

وقرأ الأكثرون ‏{‏قُلْ‏}‏ على أنه حكاية أمر ماض أوحى إلى كل نذير أي فقيل أو قلنا للنذير قل الخ، واستظهر في «البحر» كونه خطاباً لنبينا صلى الله عليه وسلم، والظاهر هو ما تقدم لقوله تعالى‏:‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون‏}‏ فإنه ظاهر جداً في أنه حكاية عن الأمم السالفة أي قال كل أمة لنذيرها إنا بماأرسلتم به الخ وقد أجمل عند الحكاية للإيجاز كما قرر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏‏.‏

وجعله حكاية عن قومه عليه الصلاة والسلام بحمل صيغة الجمع على تغليبه صلى الله عليه وسلم على سائر المنذرين وتوجيه كفرهم إلى ما أرسل به الكل من التوحيد لإجمالعهم عليهم السلام عليه كما في نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 123‏]‏ تمحل بعيد، وأيضاً يأباه ظاهر قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏فانتقمنا مِنْهُمْ فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المكذبين‏}‏ فإن ظاهره كون الانتقام بعذاب الاستئصال وصاحب البحر يحمله على الانتقام بالقحط والقتل والسبي والجلاء‏.‏

وقرأ أبي‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وابن مقسم‏.‏ والزعفراني‏.‏ وغيرهم ‏{‏أَوْ لَوْ جئناكم‏}‏ بنون المتكلمين وهي تؤيد ما ذهبنا إليه والأمر بالنظر فيما انتهى إليه حال المكذبين تسلية له صلى الله عليه وسلم وإرشاد إلى عدم الاكتراث بتكذيب قومه إياه عليه الصلاة والسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم‏}‏ أي واذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام ‏{‏لاِبِيهِ‏}‏ آزر ‏{‏وَقَوْمِهِ‏}‏ المكبين على التقليد كيف تبرأ مما هم فيه بقوله‏:‏

‏{‏إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ‏}‏ وتمسك بالبرهان، والكلام تمهيد لما أهل مكة فيه من العناد والجسد والإباء عن تدبر الآيات وأنهم لو قلدوا آباءهم لكان الأولى أن يقلدوا آباهم الأفضل الأعلم الذي هم يفتخرون بالانتماء إليه وهو إبراهيم عليه السلام فكأنه بعد تعييرهم على التقليد ويعيرهم على أنهم مسيئون في ترك اختياره أيضاً‏.‏

وبراء مصدر كالطلاق نعت به مبالغة ولذلك يستوي فيه الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث‏.‏

وقرأ الزعفراني‏.‏ والقورصي عن أبي جعفر‏.‏ وابن المنذري‏.‏ عن نافع ‏{‏بَرَاء‏}‏ بضم الباء وهو اسم مفرد كطول وكرام بضم الكاف، وقرأ الأعمش ‏{‏بري‏}‏ وهو وصف كطويل وكريم وقراءة العامة لغة العالية وهذه لغة نجد‏.‏

وقرأ الأعمش أيضاً ‏{‏الله إِنّى‏}‏ بنون مشددة دون نون الوقاية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذى فَطَرَنِى‏}‏ استثناء متصل إن قلنا إن ما عامة لذوي العلم وغيرهم وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام وليس هذا من الجمع بين الله تعالى وغيره سبحانه الذي يجب اجتنابه لما فيه من إيهام التسوية بينه سبحانه وبين غيره جل وعلا لظهور ما يدل على خلاف ذلك في الكلام أو منقطع بناء على أن ما مختصة بغير ذوي العلم وأنه لا يناسب التغليب أصلاً وأنهم لم يكونوا يعبدونه تعالى أو أنهم كانوا يعبدونه عز وجل إلا أن عبادته سبحانه مع الشرك في حكم العدم، وعلى الوجهين محل الموصول النصب، وأجاز الزمخشري أن يكون في محل جر على أنه بدل من ما المجرور، بمن، وفيه بحث لأنه يصير استثناء من الموجب ولم يجوزوا فيه البدل، ووجهه أنه في معنى النفي لأن معنى ‏{‏إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26‏]‏ لا أعبد ما تعبدون فهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 32‏]‏ إلا أن ذلك في المفرغ وهذا فيما ذكر فيه المستثنى منه وهم لا يخصونه بالمفرغ ولا بألفاظ مخصوصة أيضاً كأبي وقلما، نعم إن أبا حيان يأبى إلا أنه موجب ولا يعتبر النفي معنى، وأجاز أيضاً أن تكون ‏{‏إِلا‏}‏ صفة بمعنى غير على أن ‏{‏مَا‏}‏ في ما ‏{‏تبعدون‏}‏ نكرة موصوفة والتقدير إنني براءة من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 22‏]‏ واعتبار ما نكرة موصوفة بناء على أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة وكذا اعتبارها بمعنى الجمع بناء على اشتراط كون النكرة الموصوفة بها كذلك، والمسألة خلافية، فمن النحويين من قال إن إلا يوصف بها المعرفة والنكرة مطلقاً وعليه لا يحتاج إلى اعتبار كون ما نكرة بمعنى آلهة، وفي جعل الصلة ‏{‏فَطَرَنِى‏}‏ تنبيه على أنه لا يستحق العبادة إلا الخالق للعابد ‏{‏فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ‏}‏ يثبتني على الهداية فالسين للتأكيد لا للاستقبال لأنه جاء في الشعراء ‏(‏78‏)‏‏}‏ ‏{‏يهدين‏}‏ بدونها والقصة واحدة، والمضارع في الموضعين للاستمرار، وقيل‏:‏ المراد ‏{‏سَيَهْدِينِ‏}‏ إلى وراء ما هداني إليه أولاً فالسين على ظاهرها والتغاير في الحكاية والمحكي بناء على تكرر القصة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلَهَا‏}‏ الضمير المرفوع المستتر لإبراهيم عليه السلام أو لله عز وجل والضمير المنصوب لكلمة التوحيد أعني لا إله إلا الله كما روى عن قتادة‏.‏ ومجاهد‏.‏ والسدي ويشعر بها قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّنِى بَرَاء مّمَّا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 26‏]‏ الخ، وجوز أن يعود على هذا القول نفسه وهو أيضاً كلمة لغة ‏{‏كَلِمَةً باقية فِى عَقِبِهِ‏}‏ في ذريته عليه السلام فلا يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده عز وجل‏.‏

وقرأ حميد بن قيس ‏{‏كَلِمَةَ‏}‏ بكسر الكاف وسكون اللام وهي لغة فيها، وقرىء ‏{‏فِى عَقِبِهِ‏}‏ بسكون القاف تخفيفاً و‏{‏فِى‏}‏ أي من عقبه أي خلفه ومنه تسمية النبي صلى الله عليه وسلم بالعاقب لأنه آخر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏

‏{‏ءاخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ تعليل للجعل أي جعلها باقية في عقبه كي يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحد أو بسبب بقائها فهيم، والضميران للعقب وهو بمعنى الجمع، والأكثرون على أن الكلام بتقدير مضاف أي لعل مشركيهم أو الإسناد من إسناد ما للبعض إلى الكل وأولوا لعل بناء على أن الترجي من الله سبحانه وهو لا يصح في حقه تعالى أو منه عليه السلام لكنه من الأنبياء في حكم المتحقق ويجوز ترك التأويل كما لا يخفى بل هو الأظهر إذا كان ذاك من إبراهيم عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاَء‏}‏ أي أهل مكة المعاصرين للرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَءابَاءهُمْ‏}‏ بالمد في العمر والنعمة ‏{‏حتى جَاءهُمُ الحق‏}‏ دعوة التوحيد أو القرآن ‏{‏وَرَسُولٌ مُّبِينٌ‏}‏ ظاهر الرسالة بما له من المعجزات الباهرات أو مبين للتوحيد بالآيات البينات والحجج القاطعات، والمراد بالتمتيع ما هو سبب له من استمتاعهم بما متعوا واشتغالهم بذلك عن شكر المنعم وطاعته والغاية لذلك فكأنه قيل اشتغلوا حتى جاء الحق وهي غاية له في نفس الأمر لأن مجيء الرسول مما ينبه عن سنة الغفلة ويزجر عن الاشتغال بالملاذ لكنهم عكسوا فجعلوا ما هو سبب للتنصل سبباً للتوغل فهو على أسلوب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 1-4‏]‏، و‏{‏بَلْ مَتَّعْتُ‏}‏ إضراب عن قوله جل شأنه ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 28‏]‏ كأنه قيل بل متعت مشركي مكة وأشغلتهم بالملاهي والملاذ فاشتغلوا فلمن يرجعوا أو فلم يحصل ما رجاه من رجوعهم عن الشرك، وهو في الحقيقة إضراب عن التمهيد الذي يمعت وشروع في المقصود ما رجاه من رجوعهم عن الشرك، وهو في الحقيقة إضراب عن التمهيد الذي سمعت وشروع في المقصود لكن روعي فيه المناسبة بما قرب من جملة الإضراب أعني ‏{‏لَعَلَّهُمْ‏}‏ وفي «الحواشي الشهابية» أنه إضراب عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَهَا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 28‏]‏ الخ أي لم يرجعوا فلم أعاجلهم بالعقوبة بل أعطيتهم نعماً أخر غير الكلمة الباقية لأجل أن يشكروا منعمها ويوحدوه فلم يفعلوا بل زاد طغيانهم لاغترارهم أو التقدير ما اكتفيت في هدايتهم بجعل الكلمة باقية فيهم بل متعتهم وأرسلت رسولاً وقرأ قتادة‏.‏ والأعمش ‏{‏بَلْ مَتَّعْتُ‏}‏ بتاء الخطاب ورواها يعقوب عن نافع وهو من كلامه تعالى على سبيل التجريد لا الالتفات وإن قيل به في مثله أيضاً كأنه تعالى اعترض بذلك على نفسه جل شأنه في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَعَلَهَا‏}‏ الخ لا لتقبيح فعله سبحانه بل لقصد زيادة توبيخ المشركين كما إذا قال المحسن على من أساء مخاطباً لنفسه‏.‏ أنت الداعي لاساءته بالإحسان إليه ورعايته فيبرز كلامه في صورة من يعترض على نفسه ويوبخها حتى كأنه مستحق لذلك، وفي ذلك من توبيخ المسيء ما فيه، وقال «صاحب اللوامح»‏:‏ هو من كلام إبراهيم عليه السلام ومناجاته عز وجل، وقال في «البحر»‏:‏ الظاهر أنه من مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم على معنى قل يا رب متعت، والأول أولى وهو الموافق للأصل المشهور، وقرأ الأعمش ‏{‏مَتَّعْنَا‏}‏ بنون العظمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءهُمُ الحق‏}‏ لينبههم عما هم فيه من الغفلة ويرشدهم إلى التوحيد ‏{‏قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافرون‏}‏ زادوا شرارة فضموا إلى شركهم معاندة الحق والاستحقاق به فسموا القرآن سحراً وكفروا به واستحقروا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين‏}‏ أي من إحدى القريتين مكة والطائف أو من رجالهما فمن ابتدائية أو تبعيضية، وقرىء ‏{‏رَجُلٌ‏}‏ بسكون الجيم ‏{‏عظِيمٌ‏}‏ بالجاه والمال قال ابن عباس‏:‏ الذي من مكة الوليد بن المغيرة المخزومي والذي من الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، وقال مجاهد‏:‏ عتبة بن ربيعة وكنانة بن عبد ياليل، وقال قتادة‏:‏ الوليد بن المغيرة‏.‏ وعروة بن مسعود الثقفي، وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش وكان يقول‏:‏ لو كان ما يقول محمد صلى الله عليه وسلم حقاً لنزل على أو على أبي مسعود يعني عروة بن مسعود وكان يكنى بذلك، وهذا باب آخر من إنكارهم للنبوة وذلك أنهم أنكروا أولاً أن يكون النبي بشراً ثم لما بكتوا بتكرير الحجج ولم يبق عندهم تصور رواج لذلك جاؤا بالإنكار من وجه آخر فتحكموا على الله سبحانه أن يكون الرسول أحد هذين وقولهم هذا القرآن ذكر له على وجه الاستهانة لأنهم لم يقولوا هذه المقالة تسليماً بل إنكاراً كأنه قيل‏:‏ هذا الكذب الذي يدعيه لو كان حقاً لكان الحقيق به رجل من القريتين عظيم وهذا منهم لجهلهم بأن رتبة الرسالة إنما تستدعي عظيم النفس بالتخلي عن الرذائل الدنية والتحلي بالكمالات والفضائل القدسية دون التزخرف بالزخارف الدنيوية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتِ رَبّكَ‏}‏ إنكار فيه تجهيل وتعجيب من تحكمهم بنزول القرآن العظيم على من أرادوا، والرحمة يجوز أن يكون المراد بها ظاهرها وهو ظاهر كلام البحر ونزل تعيينهم لمن ينزل عليه الوحي منزلة التقسيم لها وتدخل النبوة فيها، ويجوز أن يكون المراد بها النبوة وهو الأنسب لما قبل وعليه أكثر المفسرين، وفي إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تشريفه عليه الصلاة والسلام ما فيه، وفي إضافة الرحمة إلى الرب إشارة إلى أنها من فات الربوبية ‏{‏نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ‏}‏ أسباب معيشتهم‏.‏

وقرأ عبد الله‏.‏ وابن عباس‏.‏ والأعمش‏.‏ وسفيان ‏{‏معايشهم‏}‏ على الجمع ‏{‏يُؤْمِنُونَ وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم‏}‏ قسمة تقتضيها مشيئتنا المبنية على الحكم والمصالح ولم نفوض أمرها إليهم علماً منا بعجزهم عن تدبيرها بالكلية وإطلاق المعيشة يقتضي أن يكون حلالها وحرامها من الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ‏}‏ في الرزق وسائر مبادي المعاش ‏{‏درجات‏}‏ متفاوتة بحسب القرب والبعد حسبما تقتضيه الحكمة فمن ضعيف وقوي وغني وفقير وخادم ومخدوم وحاكم ومحكوم ‏{‏لّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً‏}‏ ليستعمل بعضهم بعضاً في مصالحهم ويستخدموهم في مهنهم ويسخروهم في أشغالهم حتى يتعايشوا ويترافدوا ويصلوا إلى مرافقهم لا لكمال في الموسع عليه ولا لنقص في المقتر عليه ولو فوضنا ذلك إلى تدبيرهم لضاعوا وهلكوا فإذا كانوا في تدبير خويصة أمرهم وما يصلحهم من متاع الدنيا وهو على طرف التمام بهذه الحالة فما ظنهم بأنفسهم في تدبير أمر الدين وهو أبعد من مناط العيوق ومن أين لهم البحث عن أمر النبوة والتخير لها من يصلح لها ويقوم بأمرها، والسخري على ما سمعت نسبة إلى السخرة وهي التذليل والتكليف، وقال الراغب‏:‏ السخري هو الذي يقهر أن يتسخر بإرادته، وزعم بعضهم أنه هنا من السخر بمعنى الهزء أي ليهزأ الغني بالفقير واستبعده أبو حيان، وقال السمين‏:‏ إنه غير مناسب للمقام‏.‏

وقرأ عمرو بن ميمون‏.‏ وابن محيصن‏:‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ والوليد بن مسلم ‏{‏سِخْرِيّاً‏}‏ بكسر السين والمراد به ما ذكرنا أيضاً، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَحْنُ قَسَمْنَا‏}‏ الخ ما يزهد في الانكباب على طلب الدنيا ويعين على التوكل على الله عز وجل والانقطاع إليه جل جلاله‏:‏

فاعتبر نحن قسمنا بينهم *** تلقه حقاً وبالحق نزل

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ‏}‏ أي النبوة وما يتبعها من سعادة الدارين، وقيل‏:‏ الهداية والايمان، وقال قتادة‏.‏ والسدي‏:‏ الجنة ‏{‏خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ من حطام الدنيا الدنية فالعظيم من رزق تلك الرحمة دون ذلك الحطام الدنىء الفاني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ‏}‏ استئناف مبين لحقارة متاع الدنيا ودناءة قدره عند الله عز وجل، والمعنى أن حقارة شأنه بحيث لولا كراهة أن يجتمع الناس على الكفر ويطبقوا عليه لأعطيناه على أتم وجه من هو شر الخلائق وأدناهم منزلة، فكراهة الاجتماع على الكفر هي المانعة من تمتيع كل كافر والبسط عليه لا أن المانع كون متاع الدنيا له قدر عندنا، والكراهة المذكورة هي وجه الحكمة في ترك تنعيم كل كافر وبسط الرزق عليه فلا محذور في تقديرها؛ وليس ذلك مبنياً على وجوب رعاية المصلحة وإرادة الايمان من الخلق ليكون اعتزالاً كما ظن‏.‏ وكأن وجه كون البسط على الكفار سبباً للاجتماع على الكفر مزيد حب الناس للدنيا فإذا رأوا ذلك كفروا لينالوها، وهذا على معنى أن الله تعالى شأنه علم أنه لو فعل ذلك لدعا الناس إذ ذاك حبهم للدنيا إلى الكفر، فلا يقال‏:‏ إن كثيراً من الناس اليوم يتحقق الغنى التام لو كفر ولا يكفر ولو أكره عليه بالقتل، وكون المراد بالأمر الواحد الذي يقتضيه كونهم أمة واحدة فإنه بمعنى اجتماعهم على أمر واحد الكفر بقرينة الجواب، و‏{‏لِبُيُوتِهِمْ‏}‏ بدل اشتمال من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَن يَكْفُرُ‏}‏ واللام فيهما للاختصاص أو هما متعلقان بالفعل لا على البدلية ولام لمن صلة الفعل لتعديه باللام فهو بمنزلة المفعول به ولام ‏{‏لِبُيُوتِهِمْ‏}‏ للتعليل فهو بمنزلة المفعول له، ويجوز أن تكون الأولى للملك والثانية للاختصاص كما في قولك‏:‏ وهبت الحبل لزيد لدابته وإليه ذهب ابن عطية، ولا يجوز على تقدير اختلاف اللامين معنى البدلية إذ مقتضى إعادة العامل في البدل الاتحاد في المعنى وإلى هذا ذهب أبو حيان، وقال الخفاجي‏:‏ لا مانع من أن يبدل المجموع من المجموع بدون اعتبار إعادة، والسقف جمع سقف كرهن جمع رهن، وعن الفراء أنه جمع سقيفة كسفن جمع سفينة، والمعارج جمع معرج وو عطف على ‏{‏سَقْفاً‏}‏ أي ولجعلنا لهم مصاعد عليها يعلون السطوح والعلالي وكأن المراد معارج من فضة بناء على أن العطف ظاهر في التشريك في القيد وإن تقدم، وقال أبو حيان‏:‏ لا يتعين ذلك، وقرأ أبو رجاء ‏{‏سَقْفاً‏}‏ بضم السين وسكون القاف تخفيفاً وفي «البحر» هي لغة تميم‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو بفتح السين والسكون على الأفراد لأنهم اسم جنس يطلق على الواحد وما فوقه وهو المراد بقرينة البيوت؛ وقرىء بفتح السين والقاف وهي لغة في سقف وليس ذلك تحريك ساكن لأنه لا وجه له‏.‏

وقرىء ‏{‏سقوفاً‏}‏ وهو جمع سقف كفلوس جمع فلس، وقرأ طلحة ‏{‏معاريج‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ‏}‏ أي ولجعلنا لبيوتهم، وتكرير ذكر بيوتهم لزيادة التقرير ولأنه ابتداء أية ‏{‏أبوابا وَسُرُراً‏}‏ أي من فضة على ما سمعت، وقرىء ‏{‏سرراً‏}‏ بفتح السين والراء وهي لغة لبني تميم وبعض كلب وذلك في جمع فعيل المضعف إذا كان اسماً باتفاق وصفة نحو ثوب جديد وثياب جدد باختلاف بين النحاة ‏{‏وَجَدْنَا عَلَيْهَا‏}‏ أي على السرر ‏{‏يَتَّكِئُونَ‏}‏ كما هو شأن الملوك لا يهمهم شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَزُخْرُفاً‏}‏ قال الحسن‏:‏ أي نقوشاً وتزاويق، وقال ابن زيد‏:‏ الزخرف أثاث البيت وتجملاته وهو عليهما عطف على ‏{‏سَقْفاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏]‏، وقال ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ والشعبي‏.‏ والسدي‏.‏ والحسن أيضاً في رواية الزخرف الذهب، وأكثر اللغويين ذكروا له معنيين هذا والزينة فقيل الظاهر أنه حقيقة فيهما، وقيل‏:‏ إنه حقيقة في الزينة ولكون كمالها بالذهب استعمل فيه أيضاً، ويشير إليه كلام الراغب قال‏:‏ الزخرف الزينة المزوقة ومه قيل للذهب زخرف، وفي «البحر» جاء في الحديث ‏"‏ إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان ‏"‏، وقال ابن عطية‏:‏ الحسن أحمر والشهوات تتبعه؛ ولبعض شعراء المغرب‏:‏

وصبغت درعك من دماء كماتم *** لما رأيت الحسن يلبس أحمرا

وهو على هذا عطف على محل ‏{‏مِن فِضَّةٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏]‏ كأن الأصل سقفاً من فضة وزخرف يعني بعضها من فضة وبعضها من ذهب فنصب عطفاً على المحل، وجوز عطفه على ‏{‏سَقْفاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏]‏ أيضاً‏.‏

‏{‏وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا متاع الحياة‏}‏ أي وما كل ما ذكر من البيوت الموصوفة بالصفات المفصلة إلا شيء يتمتع به في الحياة الدنيا وفي معناه ما قرىء ‏{‏وَمَا كُلُّ ذلك الحياة الدنيا‏}‏ وقرأ الجمهور ‏{‏لَّمّاً‏}‏ بفتح اللام والتخفيف على أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها وما زائدة أو موصولة بتقدير لما هو متاع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَمَامًا عَلَى الذى أَحْسَنَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 154‏]‏ في قراءة من رفع النون، وقرأ رجاء وفي التحرير أبو حيوة ‏{‏لَّمّاً‏}‏ بكسر اللام والتخفيف على أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ هي المخففة واللام حرف جر وما موصولة في محل جر بها والجار والمجرور في موضع الخبر لكل وصدر الصلة محذوف كما سمعت آنفاً‏.‏ وحق التركيب في مثله الاتيان باللام الفارقة فيقال‏:‏ للمامتاع لكنها حذفت لظهور إرادة الاثبات كما في قوله‏:‏

أنا ابن أباة الضيم من آل مالك *** وإن مالك كانت كرام المعادن

بل لا يجوز في البيت إدخال اللام كما لا يخفى على النحوي ‏{‏والاخرة‏}‏ أي بما فيها من فنون النعيم التي لا يحيط بها نطاق البيان ‏{‏عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ خاصة لهم، والمراد بهم من اتقى الشرك، وقال غير واحد‏:‏ من اتقى ذلك والمعاصي، وفي الآية من الدلالة على التزهيد في الدنيا وزينتها والتحريض على التقوى ما فهيا، وقد أخرج الترمذي وصححه‏.‏ وابن ماجه عن سهل بن سعد قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كانت الدنيا تعدل عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء ‏"‏ وعن علي كرم الله تعالى وجهه الدنيا أحقر من ذراع خنزير ميت بال عليه كلب في يد مجذوم، هذا واستدل بعضهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 33‏]‏ على أن السقف لرب البيت الأسفل لا لصاحب العلو لأنه منسوب إلى البيت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَعْشُ‏}‏ أي يتعام ويعرض ‏{‏عَن ذِكْرِ الرحمن‏}‏ وهو القرآن، وإضافته إلى الرحمن للإيذان بنزوله رحمة للعالمين، وجوز أن يكون مصدراً أضيف إلى المفعول أي من يعش عن أن يذكر الرحمن، وأن يكون مصدراً أضيف إلى الفاعل أي عن تذكير الرحمن عباده سبحانه، وقرأ يحيى بن سلام البصري ‏{‏يَعْشُ‏}‏ بفتح الشين كيرض أي يعم يقال‏:‏ عشى كرضى إذا حصلت الآفة في بصره وعشا كغزا إذا نظر نظر العشي لعارض قال الحطيئة‏:‏

متى تأته تعشو إلى ضوء ناره *** تجد خير نار عندها خير موقد

أي تنظر إليها نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء ولو لم يكن كذلك لم يكن لكلمة الغاية موقع وأظهر منه في المقصود قول حاتم‏:‏

أعشو إذا ما جارتي برزت *** حتى يواري جارتي الخدر

لأنه قيد بالوقت وأتى بالغاية وما هو خلقي لا يزول، وقال بعضهم‏:‏ لم أر أحداً يجيز عشوت عنه إذا أعرضت وإنما يقال تعاشيت وتعاميت عن الشيء إذا تغافلت عنه كأنك لم تره ويقال‏:‏ عشوت إلى النار إذا استدللت عليها ببصر ضعيف، وهو مما لا يلتفت إليه ومثله عشى وعشا عرج بكسر الراء لمن به الآفة وعرج بفتحها لمن مشى مشية العرجان من غير عرج على ما في الكشاف، وفيه خلاف لأهل اللغة ففي القاموس يقال‏:‏ عرج أي بالفتح إذا أصابه شيء في رجله وليس بخلقه فإذا كان خلقة فعرج كفرح أو يثلث في غير الخلقة، وقرأ زيد بن علي ‏{‏يعشو‏}‏ بإثبات الواو وخرج ذلك الزمخشري على أن من موصولة لا شرطية جازمة، وجوز أن تكون شرطية والمدة إما للإشباع أو على لغة من يجزم المعتل الآخر بحذف الحركة على ما حكاه الأخفش، ووز كون الفعل مجزوماً بحذف النون والواو ضمير الجمع، وقد روعي فيه معنى من، وتخريج الزمخشري مبني على الفصيح المطرد المتبادر‏.‏

‏{‏الرحمن نُقَيّضْ لَهُ شَيْطَاناً‏}‏ أي نتح له شيطاناً ليستولي عليه استيلاء القيض على البيض وهو القشر الأعلى‏.‏

‏{‏فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ‏}‏ دائماً لا يفارقه ولا يزال يوسوسه ويغويه وهذا عقاب على الكفر بالختم وعدم الفلاح كما يقال‏:‏ إن الله تعالى يعاقب على المعصية بمزيد اكتساب السيآت، وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ والسلمي‏.‏ والأعمش ويعقوب‏.‏ وأبو عمرو بخلاف عنه‏.‏ وحماد عن عاصم‏.‏ وعصمة عن الأعمش وعن عاصم‏.‏ والعليمي عن أبي بكر ‏{‏يقيض‏}‏ بالياء على إسناده إلى ضمير ‏{‏مُّقْتَدِرِ الرحمن‏}‏، وقرأ ابن عباس يقيض بالياء والبناء للمفعول ‏{‏شيطان‏}‏ بالرفع والفعل في جميع القراءات مجزوم ولم نسمع أنه قرىء بالرفع، وفي الكشاف حق من قرأ ‏{‏مِنْ‏}‏ بالواو أن يرفعه أي بناء على تخريجه ذلك على أن من موصولة، وجوز على ذلك أيضاً أن يكون ‏{‏يقيض‏}‏ مرفوعاً لكنه سكن تخفيفاً‏.‏

وفي البحر يجوز أن تكون ‏{‏صَلَحَ مِنْ‏}‏ موصولة وجزم ‏{‏نُقَيّضْ‏}‏ تشبيهاً للموصول باسم الشرط وإذا كان ذلك مسموعاً في الذي وهو لم يكن اسم شرط قط فالأولى أن يكون فيما استعمل موصولاً لا وشرطاً، قال الشاعر‏:‏

لا تحفرن بئراً تريد اخاً بها *** فإنك فيها أنت من دونه تقع

كذاك الذي يبغي على الناس ظالما *** تصبه على رغم عواقب ما صنع

انشدهما ابن الأعرابي وهو مذهب للكوفيين، وله وجه من القياس وهو أنه كما شبه الموصول باسم الشرط فدخلت الفاء في خبره فكذلك يشبه به فينجزم الخبر إلا أن دخول الفاء منقاس إذا كان الخبر مسبباً عن الصلة بشروطه المذكورة في النحو وهذا لا يقيسه البصريون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ‏}‏ أي الشياطين الذين قبض وقدر كل واحد منهم لكل واحد ممن يعشو ‏{‏لَيَصُدُّونَهُمْ‏}‏ أي ليصدون قرناءهم وهم الكفار المعبر عنهم بمن يعش، وجمع ضمير الشيطان لأن المراد به الجنس، وجمع ضمير من رعاية لمعنى كما أفرد أولا رعاية للفظ‏.‏ وفي الانتصاف أن في هذه الآية نكتتين بديعتين الأولى الدلالة على أن النكرة الواقعة في سياق الشرط تفيد العموم وهي مسألة أضطرب فيها الأصوليون وإمام الحرمين من القائلين بإفادتها العموم حتى استدرك على الأئمة اطلاقهم القول بأن النكرة في سياق الإثبات تخص، وقال إن الشرط يعم النكرة في سياقه تعم وقد رد عليه الفقيه أبو الحسن على الأبياري شارح كتابه رداً عنيفاً، وفي هذه الآية للإمام ومن قال بقوله كفاية، وذلك أن الشيطان ذكر فيها منكراً في سياق شرط ونحن نعلم أنه إنما أريد عموم الشياطين لا واحد لوجهين‏.‏ أحدهما أنه قد ثبت أن لكل أحد شيطاناً فكيف بالعاشي عن ذكر الله تعالى والآخر من الآية وهو أنه أعيد عليه الضمير مجموعاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُمْ‏}‏ فإنه عائد إلى الشيطان قولاً واحداً ولولا إفادته عموم الشمول لما جاز عود ضمير الجمع عليه بلا اشكال، فهذه نكتة تجد عند سماعها المخالفي هذا الرأي سكتة‏.‏ والنكتة الثانية أن فيها رداً على من زعم أن العود على معنى من يمنع من العود على لفظها بعد ذلك واحتج لذلك بأنه إجمال بعد تفسير، وهو خلاف المعهود من الفصاحة وقد نقض ذلك الكندي وغيره بآيات، واستخرج جدي من هذه الآية نقض ذلك أيضاً لأنه أعيد الضمير على اللفظ في ‏{‏يَعْشُ وَلَهُ‏}‏ وعلى المعنى في ‏{‏لَيَصُدُّونَهُمْ‏}‏ ثم على اللفظ في ‏{‏حتى إِذَا جَاءنَا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 38‏]‏ وقد قدمت أن الذي منع قد يكون اقتصر بمنعه على مجيء ذلك في جملة واحدة وأما إذا تعددت الجمل واستقلت كل بنفسها فقد لا يمنع ذلك انتهى‏.‏

وفي كون ضمير ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ عائداً على الشيطان قولاً واحداً نظر، فقد قال أبو حيان‏:‏ الظاهر أن ضمير النصب في ‏{‏أَنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ‏}‏ عائد على من على المعنى وهو أولى من عود ضمير ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ على الشيطان كما ذهب إليه ابن عطية لتناسق الضمائر في ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ ومن بعده فلا تغفل ‏{‏عَنِ السبيل‏}‏ المستبين الذي يدعو إليه ذكر الرحمن ‏{‏وَيَحْسَبُونَ‏}‏ أي العاشون ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ أي الشياطين ‏{‏مُّهْتَدُونَ‏}‏ أي إلى ذلك السبيل الحق وإلا لما اتبعوهم أو يحسب العاشون ان أنفسهم مهتدون فإن اعتقاد كون الشياطين مهتدين مستلزم لاعتقاد كونهم كذلك لاتحاد مسلكهما‏.‏

والظاهر أن أبا حيان يختار هذا الوجه للتناسق أيضاً، والجملة حال من مفعول ‏{‏يَصِدُّونَ‏}‏ بتقدير المبتدأ أو من فاعله أو منهما لاشتهمالها على ضميريهما أي وأنهم ليصدونهم عن الطريق الحق وهم يحسبون أنهم مهتدون إليه‏.‏

وصيغة المضارع في الأفعال الأربعة للدلالة على الاستمرار التجددي لقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏حتى إِذَا جَاءنَا‏}‏ فإن ‏{‏حتى‏}‏ وإن كانت ابتدائية داخلة على الجملة الشرطية لكنها تقتضي حتما أن تكون غاية لأمر ممتد وأفرد الضمير في جاء وما بعده لما أن المراد حكاية مقالة كل واحد من العاشين لقرينه لتهويل الأمر وتفظيع الحال والمعنى يستمر أمر العاشين على ما ذكر حتى إذا جاءنا كل واحد منهم مع قرينة يوم القيامة ‏{‏قَالَ‏}‏ مخاطباً له‏:‏ ‏{‏قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ‏}‏ أي في الدنيا، وقيل‏:‏ في الآخرة ‏{‏بُعْدَ المشرقين‏}‏ أي بعد كل منهما من الآخر، والمراد بهما المشرق والمغرب كما اختاره الزجاج والفراء وغيرهما لكن غلب المشرق على المغرب وثنيا كالموصلين للموصول والجزيرة وأضيف البعد إليهما، والأصل بعد المشرق من المغرب والمغرب من المشرق وإنما اختصر هذا المبسوط لعدم الالباس إذ لا خفاء أنه لا يراد بعدهما من شيء واحد لأن البعد من احدهما قرب من الآخر ولأنهما متقابلان فبعد أحدهما من الآخر مثل في غاية البعد لا بعدهما عن شيء آخر، واشعار السياق بالمبالغة لا ينكر فلا لبس من هذا الوجه أيضاً، وقال ابن السائب‏:‏ لا تغليب، والمراد مشرق الشمس في أقصر يوم من السنة ومشرقها في أطول يوم منها ‏{‏فَبِئْسَ القرين‏}‏ أي أنت، وقيل‏:‏ أي هو على أنه من كلامه تعالى وهو كما ترى‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبو بكر‏.‏ والحرميان‏.‏ وقتادة والزهري‏.‏ والجحدري ‏{‏جاءانا‏}‏ على التثنية أي العاشي والقرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَن يَنفَعَكُمُ‏}‏ الخ حكاية لما سيقال لهم حينئذ من جهة الله عز وجل توبيخاً وتقريعاً، وفاعل ‏{‏يَنفَعَكُمُ‏}‏ ضمير مستتر يعود على ما يفهم مما قبل أي لن ينفعكم هو أي تمنيكم لمباعدتهم أو الندم أو القول المذكور ‏{‏اليوم‏}‏ أي يوم القيامة ‏{‏إِذ ظَّلَمْتُمْ‏}‏ بدل من ‏{‏اليوم‏}‏ أي إذ تبين أنكم ظلمتم في الدنيا قاله غير واحد، وفسر ذلك بالتبين قيل لئلا يشكل جعله وهو ماض بدلاً من ‏{‏اليوم‏}‏ وهو مستقبل لأن تبين كونهم ظالمين عند أنفسهم إنما يكون يوم القيامة فاليوم وزمان التبين متحدان وهذا كقوله‏:‏

إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة *** وأورد عليه أن السؤوال عائد لأن ‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف لما مضى من الزمان ولا يخرج عن ذلك باعتبار التبين وتقصى بعضهم عن الاشكال لأن إذ قد تخرج من المضي إلى الاستقبال على ما ذهب إليه جماعة منهم ابن مالك محتجاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الاغلال‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 70، 71‏]‏ وإلى الحال كما ذهب إليه بعضهم مجتجاً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 61‏]‏ فلتكن هنا للاستقبال، وأهل العربية يضعفون دعوى خروجها من المضي‏.‏

وقال الجلبي‏:‏ لعل الأظهر حملها على التعليل فيتعلق بالنفي، فقد قال سيبويه‏:‏ إنها بمعنى التعليل حرف بمنزلة لام العلة، نعم أنكر الجمهور هذا القسم لكن إثبات سيبويه إياه يكفي حجة‏:‏

فإن القول ما قالت حذام *** وتعقب بأنه لا يكفي في تخريج كلام الله سبحانه إثبات سيبويه وحده مع إطباق جميع أئمة العربية على خلافه، وأيضاً تعليل النفي بعد يبعده وقال أبو حيان‏:‏ لا يجوز البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفاً لما مضى من الزمان فإن جعلت لمطلق الوقت جاز، ولا يخفى أن ذلك مجاز فهل تكفي البدلية قرينة له فإن كفت فذاك، وقال ابن جنى‏:‏ راجعت أبا علي في هذه المسألة يعني الإبدال المذكور مراراً وآخر ما تحصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله سبحانه وعلمه جل شأنه إذ لا يجري عليه عز وجل زمان فكأن ‏{‏إِذْ‏}‏ مستقبل أو ‏{‏اليوم‏}‏ ماض فصح ذلك، ورد بأن المعتبر حال الحكاية والكلام فيها وارد على ما تعارفه العرب ولولاه لسد باب النكات ولغت الاعتبارات في العبارات ومثله غني عن البيان، وقال أبو البقاء‏:‏ التقدير بعد إذ ظلمتم فحذف المضاف لعلم به، وقال الحوفي‏:‏ ‏{‏إِذْ‏}‏ متعلقة بما دل عليه المعنى كأنه قيل ولن ينفعكم اليوم اجتماعكم إذ ظلمتم مثلاً‏.‏

ومن الناس من استشكل الآية من حيث أن فيها إعمال ‏{‏يَنفَعَكُمُ‏}‏ الدال على الاستقبال لاقترانه بلن في اليوم وهو الزمان الحاحضر وإذ وهو للزمان الماضي، وأجيب بأنه يدفع الثاني بما قدروه من التبين لأن تبين الحال يكون في الاستقبال والأول بأن ‏{‏اليوم‏}‏ تعريفه للعهد وهو يوم القيامة لا للحضور كتعيرف الآن وان كان نوعاً منه‏.‏

وقيل‏:‏ يدفع بأن الاستقبال بالنسبة إلى وقت الخطاب وهو بعض أوقات اليوم وهو كما ترى فتأمل ولا تغفل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّكُمْ فِى العذاب مُشْتَرِكُونَ‏}‏ تعليل لنفي النفع أي لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه في الدنيا‏.‏

وجوز أن يكون الفعل مسنداً إليه أي لن ينفكم كونكم مشتركين في العذاب كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه لتعاونهم في تحمل أعبائه وتقسمهم لشدته وعنائه وذلك أن كل واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته أو لن ينفعكم ذلك من حيث التأسي فإن المكروب يتأسى ويتروح بوجدان المشارك وهو الذي عنته الخنساء بقولها‏:‏

يذكرني طلوع الشمس صخرا *** وأذكره بكل مغيب شمس

ولولا كثرة الباكين حولي *** على اخوانهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن *** اعزى النفس عنه بالتأسي

فهؤلاء يؤسيهم اشتراكهم ولا يروحهم لعظم ما هم فيه أو لن ينفعكم ذلك من حيث التشفي أي لن يحصل لكم التشفي بكون قرنائكم معذبين مثلكم حيث كنتم تدعون عليهم بقولكلم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كَبِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 68‏]‏ وقولكم‏:‏ ‏{‏فآتهم عذاباً ضعفاً من النار‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ لتتشفوا بذلك، واعترض على الوجه الأول من هذه الأوجه الثلاثة بأن الانتفاع التعاون في تحمل أعباء العذاب ليس ما يخظر ببالهم حتى يرد عليهم بنفيه، وأجيب بأنه غير بعيد أن يخطر ذلك ببالهم لمكان المقارنة والصحبة والغريق يتشبث بالحشيش والظمآن يحسب السراب شراباً‏.‏

وقرأ ابن عامر ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ بكسر الهمزة وهو تقوى ما ذكر أولاً من إضمار الفاعل وتقدير اللام في أنكم معنى ولفظاً لأنه لا يمكن أن يكون فاعلاً فيتعين الإضمار، ولأن الجملة عليها تكون استئنافاً تعليلياً فيناسب تقدير اللام لتتوافق القراءتان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِى العمى‏}‏ إنكار تعجيب من أن يكون صلى الله عليه وسلم هو الذي يقدر على هدايتهم وهم قد تمرنوا في الكفر واعتادوه واستغرقوا في الضلال بحيث صار ما بهم العشي عمي مقروناً بالصمم ‏{‏وَمَن كَانَ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ عطف على العمي باعتبار تغاير الوصفين أعني العمي والضلال بحسب المفهوم وإن اتحدا مآلا، ومدار الإنكار هو التمكن والاستقرار في الضلال المفرط الذي لا يخفى لا توهم القصور منه عليه الصلاة والسلام ففيه رمز إلى أنه لا يقدر على ذلك إلا الله تعالى وحده بالقسر والالجاء وقد كان صلى الله عليه وسلم يبالغ في المجاهدة في دعاء قومه وهم لا يريدون إلا غيا وتعاميا عما يشاهدونه من شواهد النبوة وتصاماً عما يسمعونه من بينات القرآن فنزلت ‏{‏أَفَأَنتَ‏}‏ الخ ‏{‏فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ‏}‏ فإن قبضناك قبل أن نبصرك عذابهم ونشفي بذلك صدرك وصدور المؤمنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ‏}‏ لا محالة في الدنيا والآخرة واقتصر بعضهم على عذاب الآخرة لقوله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 77‏]‏ والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وما ذكرنا أتم فائدة وأوفق باطلاق الانتقام، وأما تلك الآية فليس فيها ذكره، وما مزيدة للتأكيد وهي بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ نُرِيَنَّكَ الذى وعدناهم‏}‏ أي أو أردنا أن نريك العذاب الذي وعدناهم ‏{‏فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ‏}‏ بحيث لا مناص لهم من تحت ملكنا وقهرنا واعتبار الإرادة لأنها أنسب بذكر الاقتدار بعد، وفي التعبير بالوعد وهو سبحانه لا يخالف الميعاد إشارة إلى أنه هو الواقع، وهكذا كان إذا لم يفلت أحد من صناديدهم في بدر وغيرها إلا من تحصن بالإيمان، وقرىء ‏{‏نُرِيَنَّكَ‏}‏ بالنون الخفيفة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏فاستمسك بالذى أُوحِىَ إِلَيْكَ إِنَّكَ على صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ تسلية له صلى الله عليه وسلم وأمر له عليه الصلاة والسلام أو لأمته بالدوام على التمسك بالآية والعمل بها، والفاء في جواب شرط مقدر أي إذا كان أحد هذين الأمرين واقعاً لا محالة فاستمسك بالذي أوحيناه إليك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ‏}‏ الخ تعليل للاستمساك أو للأمر به‏.‏

وقرأ بعض قراء الشام ‏{‏أوحى‏}‏ بإسكان اللام، وقرأ الضحاك ‏{‏أوحى‏}‏ مبنياً للفاعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُ‏}‏ أي ما أوحى إليك والمراد به القرآن ‏{‏لِذِكْرِ‏}‏ لشرف عظيم ‏{‏لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ هم قريش على ما روي عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ والسدى‏.‏ وابن زيد‏.‏

وأخرج ابن عدي‏.‏ وابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس رضي الله تعالى عنهما قالا‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل بمكة ويعدهم الظهور فإذا قالوا‏:‏ لمن الملك بعدك أمسك فلم يجبهم بشيء لأنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر في ذلك بشيء حتى نزلت‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ فكان صلى الله عليه وسلم بعد إذا سئل قال لقريش‏:‏ فلا يجيبونه حتى قبلته الأنصار على ذلك‏.‏

وأخرج الطبراني‏.‏ وابن مردويه‏.‏ عن عدي بن حاتم قال‏:‏ ‏"‏ كنت قاعداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ألا إن الله تعالى علم ما في قلبي من حبي لقومي فبشرني فيهم فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ الآية فجعل الذكر والشرف لقومي في كتابه ‏"‏ الحديث، وفيه «فالحمد لله الذي جعل الصديق من قومي والشهيد من قومي إن الله تعالى قلب العباد ظهراً وبطناً فكان خير العرب قريش وهي الشجرة المباركة إلى أن قال عدى‏:‏ ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عنده قريش بخير قط إلا سره حتى يتبين ذلك السرور في وجهه للناس كلهم وكان عليه الصلاة والسلام كثيراً ما يتلو هذه الآية ‏{‏وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ‏}‏ الخ، وقيل هم العرب مطلقاً لما أن القرآن نزل بلغتهم ثم يختص بذلك الشرف الأخص فالأخص منهم حتى يكون الشرف لقريش أكثر من غيرهم ثم لبني هاشم أكثر مما يكون لسائر قريش، وفي رواية عن قتادة هم من اتبعه صلى الله عليه وسلم من أمته‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هم الأمة والمعنى وإنه لتذكرة وموعظة لك ولأمتك، والأرجح عندي القول الأول‏.‏

‏{‏وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ‏}‏ يوم القيامة عنه وعن قيامكم بحقوقه، وقال الحسن‏.‏ والكلبي‏.‏ والزجاج‏:‏ تسألون عن شكر ما جعله الله تعالى لكم من الشرف، قيل إن هذه الآية تدل على أن الإنسان يرغب في الثناء الحسن والذكر الجميل إذ لو لم يكن ذلك مرغوباً فيه ما أمتن الله تعالى به على رسوله صلى الله عليه وسلم والذكر الجميل قائم مقام الحياة ولذا قيل ذكر الفتى عمره الثاني، وقال ابن دريد‏:‏

وإنما المرء حديث بعده *** فكن حديثاً حسناً لمن وعى

وقال آخر‏:‏

إنما الدنيا محاسنها *** طيب ما يبقى من الخبر

ويحكى أن الطاغية هلاكو سأل أصحابه من الملك‏؟‏ فقالوا‏:‏ له أنت الذي دوخت البلاد وملكت الأرض وطاعتك الملوك وكان المؤذن إذ ذاك يؤذن فقال لا الملك هذا الذي له أزيد من ستمائة سنة قد مات وهو يذكر على المآذن في كل يوم وليلة خمس مرات يريد محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آَلِهَةً يُعْبَدُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن ءالِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ أي هل حكمنا بعبادة غير الله سبحانه وهل جاءت في ملة من ملل المرسلين عليهم السلام والمراد الاستشهاد بإجماع المرسلين على التوحيد والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه صلى الله عليه وسلم ويكذب ويعادي له، والكلام بتقدير مضاف أي واسأل أمم من أرسلنا أو على جعل سؤال الأمم بمنزلة سؤال المرسلين إليهم‏.‏

قال الفراء‏:‏ هم إنما يخبرون عن كتب الرسل فإذا سألهم عليه الصلاة والسلام فكأنه سأل المرسلين عليهم السلام، وعلى الوجهين المسؤول الأمم، وروي ذلك عن الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ والسدى‏.‏ وعطاء وهو رواية عن ابن عباس أيضاً‏.‏

وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال في بعض القراءات وأسأل من أرسلنا إليهم رسلنا قبلك‏.‏

وأخرج هو وسعيد بن منصور عن مجاهد قال‏:‏ كان عبد الله يقرأ واسأل الذين ارسلنا إليهم قبلك من رسلنا، وعن ابن مسعود أنه قرأ وأسأل الذين يقرؤون الكتاب من قبل مؤمني أهل الكتاب، وجعل بعضهم السؤال مجازاً عن النظر والفحص عن ماللهم في سؤال الديار والاطلال ونحوها من قولهم‏:‏ سل الأرض من شق أنهارك وغرس أشجارك وجني ثمارك‏.‏

وروي عن ابن عباس أيضاً‏.‏ وابن جبير‏.‏ والزهري‏.‏ وابن زيد أن الكلام على ظاهره وأنه عليه الصلاة والسلام قيل له ذلك ليلة الإسراء حين جمع له الأنبياء في البيت المقدس فامهم ولم يسألهم عليه الصلاة والسلام إذ لم يكن في شك‏.‏ وفي بعض الآثار أن ميكال قال لجبريل عليهما السلام‏:‏ هل سأل محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏؟‏ فقال‏:‏ هو أعظم يقيناً وأوثق إيماناً من أن يسأل‏.‏ وتعقب هذا القول بأن المراد بهذا السؤال الزام المشركين وهم منكرون الاسراء، وللبحث فيه مجال، والخطاب على جميع ما سمعت لنبينا عليه الصلاة والسلام‏.‏

وفي البحر الذي يظهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات قيل له اسأل أيها الناظر أتباع الرسل أجاءت رسلهم بعبادة غير الله عز وجل فانهم يخبرونك أن ذلك لم يقع ولا يمكن أن يأتوا به ولعمري أنه خلاف الظاهر جداً، ومما يقضي منه العجب ما قيل‏:‏ إن المعنى واسألني أو واسألنا عمن أرسلنا وعلق اسال فارتفع من وهو اسم استفهما على الابتداء وأرسلنا خبره والجملة في موضع نصب باسال بعد اسقاط الخافض كأن سؤاله من أرسلت يا رب قبلي من رسلك أجعلت في رسالته آلهة تعبد ثم ساق السؤال فحكى المعنى فرد الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن قَبْلِكَ‏}‏ انتهى، واسأل من قرأ أبا جاد أيرضى بهذا الكلام ويستحسن تفسير كلام الله تعالى المجيد بذلك‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بئاياتنا‏}‏ متلبساً بها ‏{‏إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ أشراف قومه وخصوا بالذكر لأن غيرهم تبع ‏{‏بَعِيدٍ فَقَالَ‏}‏ لهم ‏{‏إِنّى رَسُولُ رَبّ العالمين‏}‏ اليكم‏.‏ وأريد باقتصاص ذلك تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبطال قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ لأن موسى عليه السلام مع عدم زخارف الدنيا لديه كان له مع فرعون وهو ملك جبار ما كان وقد أيده الله سبحانه بوحسه وما أنزل عليه، والاستشهاد بدعوته عليه السلام إلى التوحيد أثر ما أشير إليه من إجماع جميع الرسل عليهم السلام عليه ويعلم من ذلك وجه مناسبة الآيات لما قبلها، وقال أبو حيان‏:‏ مناسبتها من وجهين‏:‏ الأول أنه ذكر فيما قبل قول المشركين‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ الخ وفيه زعم أن العظم باجلاه والمال وأشير في هذه الآيات إلى أن مثل ذلك سبق إليه فرعون في قوله‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏ الخ فهو قدوتهم في ذلك وقد انتقم منه فكذلك ينتقم منهم، الثاني أنه سبحانه لما قال‏:‏ ‏{‏واسئل‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 45‏]‏ الخ ذكر جل وعلا قصة موسى وعيسى عليهما السلام وهما أكثر اتباعاً ممن سبق من الأنبياء وكل جاء بالتوحيد فلم يكن فيما جاءا به إباحة اتخاذ آلهة من دون الله تعالى كما اتخذت قريش فناسب ذكر قصتهما الآية التي قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآَيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءهُم بئاياتنا إِذَا هُم مِنْهَا يَضْحَكُونَ‏}‏ أي فاجأهم الضحك منها أي استهزؤا بها أول ما رأوها ولم يتأملوا فيها، وفي الكشاف جاز أن تجاب لما باذا المفاجاة لأن فعل المفاجأة مقدر معها وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل‏:‏ فلما جاءهم بآياتنا فاجؤوا وقت ضحكهم، فالجواب عنده ذلك الفعل وهو العامل في لما، وقدر ماضيا لأن المعروف في جوابها، وإذا مفعول به لا ظرف، وقال أبو حيان‏:‏ لا نعلم نحو يا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن إذا الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ بل المذاهب فيها ثلاثة‏.‏ الأول أنها حرف فلا تحتاج إلى عامل‏.‏ الثاني أنها ظرف مكان فان صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملاً فيها نحو خرجت فإذا زيد قائم فقائم هو الناصب لها والتقدير خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم‏.‏ الثالث أنها ظرف زمان والعامل فيها الخبر أيضاً كأنه قيل‏:‏ ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم‏:‏ وإذا لم يذكر بعد الاسم خبر أو ذكر اسم منصوب على الحال كانت إذا خبراً للمبتدأ‏:‏ فإن كان جئة وقلنا‏:‏ إذا ظرف مكان كان الأمر واضحاً وإن قلنا ظرف زمان كان الكلام على حذف مضاف أي ففي الزمان حضور زيد ثم أن المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق بل يدل على أنها تكون من الكلام التي هي فيه تقول خرجت فإذا الأسد فالمعنى ففاجأتي الأسد دون ففاجأت الأسد انتهى، وقال الخفاجي ما قيل إن نصبها بفعل المفاجأة المقدر هكذا لم يقله أحد من النحاة لا يلتفت إليه وتفصيله في شورح المغني‏.‏