فصل: تفسير الآية رقم (48)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا نُرِيِهِم مّنْ ءايَةٍ‏}‏ من الآيات‏:‏

‏{‏إِلاَّ هِىَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا‏}‏ أي من أية مثلها في كونها آية دالة على النبوة واستشكل بأنه يلزم كون كل واحدة من الآيات فاضلة ومفضولة معا وهو يؤدي إلى التناقض وتفضيل الشيء على نفسه لعموم آية في النفي، وأجيب بأن الغرض من هذا الكلام أنهن موصوفات بالكبر لا يكدن يتفاوتن فيه على معنى أن كل واحدة لكمالها في نفسها إذا نظر إليها قيل هي أكبر من البواقي لاستقلالها لإفادة المقصود على التمام كما قال الحماسي‏:‏

من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم *** مثل النجوم التي يسري بها الساري

وإذا لوحظ الكل توقف عن التفضيل بينهن، ولقد فاضلت فاطمة بنت خرشب الأنمارية بين أولادها الكملة ربيعة الحفاظ‏.‏ وعمارة الوهاب‏.‏ وأنس الفوارس ثم قال‏:‏ أبصرت مراتبهم متدانية قليلة التفاوت ثكلتهم أن كنت أعلم أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدري أين طرفاها، وقال بعض الأجلة‏:‏ المراد بأفعل الزيادة من وجه أي ما نريهم من آية الاهي مختصة بنوع من الاعجاز مفضلة على غيرها بذلك الاعتبار، ولا ضير في كون الشيء الواحد فاضلاً ومفضولاً باعتبارين، وقد أطال الكلام في ذلك جلال الدين الدواني في حواشيه على الشرح الجديد للتجريد فليراجع ذلك من أراده، وفي البحر قيل‏:‏ كانت آياته عليه السلام من كبار الآيات وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة أي من أختها السابقة عليها ولا يبقى في الكلام تعارض، ولا كيون ذلك الحكم في الآية الأولى لأنه لم يسبقها شيء فتكون أكبر منه، وذكر بعضهم في الأكبرية أن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علماً منضماً إلى علم الأولى فيزداد الرجوع انتهى، والأولى ما تقدم لشيوع ارادة ذلك المعنى من مثل هذا التركيب ‏{‏وأخذناهم بالعذاب‏}‏ كالسنين والجراد والقمل وغيرها‏:‏

‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ لكي يرجعوا ويتوبوا عما هم عليه من الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ يأَيُّهَا أَيُّهَ الساحر‏}‏ قال الجمهور‏:‏ وهو خطاب تعظيم فقد كانوا يقولون للعالم الماهر ساحر لاستعظامهم على السحر، وحكاه في مجمع البيان عن الكلبي‏.‏ والجبائي، وقيل‏:‏ المعنى يا غالب السحرة من ساحره فسحره كخاصمه فخصمه فهو خطاب تعظيم أيضاً، وقيل‏:‏ الساحر على المعنى المعروف فيه وقد تعودوا دعاءه عليه السلام بذلك قبل، ومقتضى مقام طلب الدعاء منه عليه السلام أن لا يدعوه به إلا أنهم فرط حسرتهم سبق لسانهم إلى ما تعودوا به، وقيل‏:‏ هو خطاب استهزاء وانتقاص دعاهم إليه شدة شكيمتهم ومزيد حماقتهم وروي ذلك عن الحسن‏.‏

ودفع الزمخشري المنافاة بين هذا الخطاب وقولهم الآتي‏:‏ «أننا لمهتدون» بأن ذلك القول وعد منوى إخلافه وعهد معزوم على نكثه معلق بشرط أن يدعو لهم وينكشف عنهم العذاب وفيه أن الوعد وإن كان منوى الاخلاف لكن إظهار الاخلاف حال التضرع إليه عليه السلام ينافيه لأنهم في استلانة قلبه عليه السلام‏.‏

وقيل الأظهر أنهم قالوا يا موسى كما في الأعراف لكن حكى الله تعالى كلامهم هنا على حسب حالهم ووفق ما في قلوبهم تقبيحاً لذلك وتسلية لحبيه صلى الله عليه وسلم ويكون ذلك على عكس قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 157‏]‏ وجعل على هذا قولهم الآتي مجمل ما فصل هنالك من الإيمان وآرسال بني إسرائيل فلا يحتاج إلى التزام كون القولين فيم جلسبن للجمع بين ما هنا وما هناك، ولا يخلو عن بعد والالتزام المذكور لا أرى ضرراً فيه‏.‏ وقرىء يا أيه بضم الهاء ‏{‏ادع لَنَا رَبَّكَ‏}‏ ليكشف عنا العذاب ‏{‏بِمَا عَهِدَ عِندَكَ‏}‏ أي بعده عندك، والمراد به النبوة وسميت عهداً إما لأن الله تعالى عاهد نبيه عليه السلام أن يكرمه بها وعاهد النبي ربه سبحانه على أن يستقل بأعبائها أو لما فيها من الكلفة بالقيام بأعبائها ومن الاختصاص كما بين المتواثقين أو لأن لها حقوقاً تحفظ كما يحفظ العهد أو من العهد الذي يكتب للولاة كأن النبوة منشور من الله تعالى بتولية من أكرمه بها والباء إما صلة لا دع أو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير فيه أي متوسلاً إليه تعالى بما عهد أو بمحذوف دل عليه التماسهم مثل اسعفنا إلى ما نطلب، وإما أن تكون للقسم والجواب ما يأتي، وهي على هذا للقسم حقيقة وعلى ما قبله للقسم الاستعطافي وعلى الوجه الأول للسببية، وإذخال ذلك في الاستعطاف خروج عن الاصطلاح، وجوز أن يراد بالعهد عهد استجابة الدعوة كأنه قيل‏:‏ بما عاهدك الله تعالى مكرماً لك من استجابة دعوتك أو عهد كشف العذاب عمن اهتدى، وأكر الباب في الوجهين على ما مر؛ وأن يراد بالعهد الإيمان والطاعة أي بما عهد عندك فوفيت به على أنه من عهد إليه أن يفعل كذا أي أخذ منه العهد على فعله ومنه العهد الذي يكتب للولاة، و‏{‏عِندَكَ‏}‏ يغني عن ذكر الصلة مع إفادة أنه محفوظ مخزون عند المخاطب، والأولى على هذا أن تكون ما موصولة، وهذا الوجه فيه كما في الكشف نبو لفظاً ومعنى وسيالقاً على ما لا يخفى على الفطن‏.‏

‏{‏إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ‏}‏ لمؤمنون ثابتون على الإيمان وهو إما معلق بشرط كشف العذاب كما في قولهم المكحي في سورة الأعراف ‏(‏134‏)‏‏}‏ ‏{‏لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك‏}‏ أو غير معلق وجيب حينئد أن يكون هذا منهم في مجلس آخر، وإن قلنا‏:‏ لم يصدر منهم طلب الدعاء إلا مرة أو أكثر منها لكن على طرز واحد قيل هنا‏:‏ أرادوا من الاهتداء الإيمان وإرسال بني إسرائيل كما سمعت آنفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ العذاب‏}‏ أي بدعوته ففي الكلام حذف أي فدعانا بكشف العذاب فكشفناه فلما كشفناه عنهم ‏{‏إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ‏}‏ فاجأهم نكث عهدهم بالاهتداء أو فاجؤوا وقت نكث عهدهم‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏يَنكُثُونَ‏}‏ بكسر الكاف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏ونادى فِرْعَوْنُ فِى قَوْمِهِ قَالَ ياقوم قَوْمٌ *أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وهذه الانهار تَجْرِى مِن تَحْتِى‏}‏ أي رفع صوته بنفسه فيما بين قومه بذلك القول، ولعله جمع عظماء القبط في محله الذي هو فيه بعد أن كشف العذاب فنادى فيما بينهم بذلك لتنتشر مقالته في جميع القبط ويعظم في نفوسهم مخافة أن يؤمنوا بموسى عليه السلام ويتركوه‏.‏

ويجوز أن يكون إسناد النداء إليه مجازاً والمراد أمر بالنداء بذلك في الأسواق والأزقة ومجامع الناس وهذا كما يقال بنى الأمير المدينة، ‏{‏ونادى‏}‏ قيل معطوف على فاجأ المقدر ونزل منزلة اللازم وعدى بفي كقوله‏:‏

يجرح في عراقيبها نصلى *** للدلالة على تمكين النداء فيهم، وعنى بملك مصر ضبطها والتصرف فيها بالحكم ولم يرد مصر نفسها بل هي وما يتبعها وذلك من اسكندرية إلى أسوان كما في «البحر»، والأنهار الخلجان التي تخرج من النيل المبارك كنهر الملك‏.‏ ونهر دمياط‏.‏ ونهر تنيس ولعل نهر طولون كان منها إذ ذاك لكنه اندرس فجدده أحمد بن طولون ملك مصر في الإسلام وأراد بقوله‏:‏ ‏{‏مِن تَحْتِى‏}‏ من تحت أمري‏.‏

وقال غير واحد كانت أنها تخرج من النيل وتجري من تحت قصره وهو مشرف عليها، وقيل‏:‏ كان له سرير عظيم مرتفع تجري من تحته أنهار أخرجها من النيل، وقال قتادة‏:‏ كانت له جنان وبساتين بين يديه تجري فيها الأنهار، وفسر الضحاك الأنهار بالقواد والرؤساء الجبابرة، ومعنى كونهم يجرون من تحته أنهم يسيرون تحت لوائه ويأتمرون بأمره، وقد أبعد جداً وكذا من فسرها بالأموال ومن فسرها بالخليل وقال‏:‏ كما يسمى الفرس بحراً يسمى نهراً بل التفاسير الثلاثة تقرب من تفاسير الباطنية فلا ينبغي أن يلتفت إليها، والواو في ‏{‏وهذه‏}‏ الخ إما عاطفة لهذه الأنهار على الملك فجملة تجري حال منها أو للحال فهذه مبتدأ و‏{‏الانهار‏}‏ صفة أو عطف بيان وجملة ‏{‏تَجْرِى‏}‏ خبر للمبتدأ وجملة هذه الخ حال من ضمير المتكلم، وجوز أن تكون للعطف ‏{‏وهذه تَجْرِى‏}‏ مبتدأ وخبر والجملة عطف على اسم ليس وخبرها، وقوله‏:‏ ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ على تقدير المفعول أي أفلا تبصرون ذلك أي ما ذكر، ويجوز أن ينزل منزلة اللازم والمعنى أليس لكم بصر أو بصيرة، وقرأ عيسى ‏{‏تُبْصِرُونَ‏}‏ بكسر النون فتكون الياء الواقعة مفعولاً محذوفة، وقرأ فهد بن الصقر ‏{‏يُبْصِرُونَ‏}‏ بياء الغيبة ذكره في الكامل للهزلي والساجي عن يعقوب ذكره ابن خالويه، ولا يخفى ما بين افتخار اللعين بملك مصر ودعواه الربوبية من البعد البعيد، وعن الرشيد أنه لما قرأ هذه الآية قال‏:‏ لأولينها يعني مصر أخس عبيدي فولاها الخصيب وكان على وضوئه، وعن عبد الله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها فلما شارفها ووقع عليها بصره قال‏:‏ هي القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ‏}‏ والله لهي أقل عندي من أن أدخلها فثنى عنانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ أَنَا خَيْرٌ‏}‏ مع هذه البسطة والسعة في الملك والمال ‏{‏مّنْ هذا الذى هُوَ مَهِينٌ‏}‏ أي ضعيف حقير أو مبتذل ذليل فهو من المهانة وهي القلة أو الذلة ‏{‏وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ‏}‏ أي الكلام، والجمهور أنه عليه السلام كان بلسانه بعض شيء من أثر الجمرة لكن اللعين بالغ‏.‏

ومن ذهب إلى أن الله تعالى كان أجاب سؤاله حل عقدة من لسانه فلم يبق فيه منها أثر قال‏:‏ المعنى ولا يكاد يبين حجته الدالة على صدقه فيما يدعي لا أنه لا قدرة له على الإفصاح باللفظ وهو افتراء عليه عليه السلام ألا ترى إلى مناظرته له ورده عليه وإقحامه إياه، وقيل‏:‏ عابه بما كان به عليه السلام من الحبسة أيام كان عنده وأراد اللعين أنه عليه السلام ليس معه من العدد وآلات الملك والسياسة ما يعتضد به وهو في نفسه مخل بما ينعت به الرجال من اللسن وإبانة الكلام، و‏{‏أَمْ‏}‏ على ما نقل عن سيبويه والخليل متصلة، وقد نزل السبب بعدها منزلة المسبب على ما ذهب إليه الزمخشري، والمعنى أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع ‏{‏أَمْ أَنَا خَيْرٌ‏}‏ موضع أم تبصرون‏.‏

وإيضاح ذلك أن فرعون عليه اللعنة لما قدم أسباب البسطة والرياسة بقوله‏:‏ ‏{‏أَلَيْسَ لِى‏}‏ الخ وعقبه بقوله ‏{‏أفلا تبصرون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 51‏]‏ استقصاراً لهم وتنبيهاً على أنه من الوضوح بمكان لا يخفى على ذي عينين قال في مقابله‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنَا خَيْرٌ‏}‏ بمعنى أم تبصرون أني أنا المقدم المتبوع، وفي العدول تنبيه على أن هذا الشق هو المسلم لا محالة عندكم فكأنه يحكيه عن لسانهم بعدما أبصروا وهو أسلوب عجيب وفن غريب، وجعله الزمخشري من إنزال السبب مكان المسبب لأن كونه خيراً في نفسه أي محصلاً له أسباب التقدم والملك سبب لأن يقال فيه أنت خير منه وقولهم‏:‏ أنت خير سبب لكونهم بصراء وسبب السبب قد يقال له سبب فلا يرد ما يقال إن السبب قولهم‏:‏ أنت خير لا قوله‏:‏ أنا خير، وقال القاضي البيضاوي‏:‏ إنه من إنزال المسبب منزلة السبب لأن علمهم بأنه خير مستفاد من الإبصار، وفيه أن المذكور أنا خير لا أم تعلمون أني خير، وله أن يقول‏:‏ ذلك يغني غناه لأنه جعله مسلماً معلوماً ما عندهم فقال‏:‏ ‏{‏أَمْ أَنَا خَيْرٌ‏}‏ لا أم تعلمون كما سلف، ولا يخفى أن ما ذكره الزمخشري أظهر كذا في «الكشف»، وقال العلامة الثاني في تقرير ذلك‏:‏ إن قوله‏:‏ أنا خير سبب لقولهم من جهة بعثه على النظر في أحواله واستعداده لما ادعاه وقولهم‏:‏ أنت خير سبب لكونهم بصراء عنده فأنا خير سبب له بالواسطة لكن لا يخفى أنه سبب للعلم بذلك والحكم به، وأما بحسب الوجود فالأمر بالعكس لأن إبصارهم سبب لقولهم أنت خير فتأمل، وبالجملة إن ما بعد ‏{‏أَمْ‏}‏ مؤول بجملة فعلية معلولة لفظاً ومعنى هي ما سمعت ونحو ذلك من حيث التأويل

‏{‏أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 193‏]‏ أي أم صمتم، وقوله‏:‏

أمخدج اليدين أم أتمت *** أي أم متما، وقيل‏:‏ حذف المعادل لدلالة المعنى عليه، والتقدير أفلا تبصرون أم تبصرون أنا خير الخ، وتعقب بأن هذا لا يجوز إلا إذا كان بعد أم لا نحو أيقول زيد أم لا أي أم لا يقوم فأما حذفه دون لا فليس من كلامهم، وجوز أن يكون في الكلام طي على نهج الاحتباك والمعنى أهو خير مني فلا تبصرون ما ذكرتكم به أم أنا خير منه لأنكم تبصرونه، ولا ينبغي الالتفات إليه، وجوز غير واحد كون ‏{‏أَمْ‏}‏ منقطعة مقدرة ببل والهمزة التي للتقرير كأن اللعين قال أثر ما عدد أسباب فضله ومبادىء خيريته‏:‏ أثبت عندكم واستقر لديكم أني خير وهذه حالي من هذا الخ، ورجحه بعضهم لما فيه من عدم التكلف في أمر المعادل اللازم أولاً لحسن في المتصلة، وقال السدي‏.‏ وأبو عبيدة‏:‏ أم بمعنى بل فيكون قد انتقل من ذلك الكلام إلى إخباره بأنه خير كقول الشاعر‏:‏

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى *** وصورتها أم أنت في العين أملح

وقال أبو البقاء‏:‏ إنها منقطعة لفظاً متصلة معنى وأراد ما تقدم من التأويل، وليس فيه مخالفة لما أجمع عليه النحاة كما توهم، وجملة ‏{‏لاَ يَكَادُونَ يُبِينُ‏}‏ معطوفة على الصلة أو مستأنفة أو حالية‏.‏ وقرىء ‏{‏أَمَّا أَنَا خَيْرٌ‏}‏ بإدخال الهمزة على ما النافية، وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه ‏{‏يُبِينُ‏}‏ بفتح التاء من بان إذا ظهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَوْلاَ أُلْقِىَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مّن ذَهَبٍ‏}‏ كناية عن تمليكه، قال مجاهد‏:‏ كانوا إذا سودوا رجلاً سوروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهب علامة لسودده، فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أساور من ذهب إن كان صادقاً، وهذا من اللعين لزعمه أن الرياسة من لوازم الرسالة كما قال كفار قريش في عظيم القريتين، والأسورة جمع سوار نحو خمار وأخمرة، وقرأ الأعمش ‏{‏أَسَاوِرَ‏}‏ ورويت عن أبي، وعن أبي عمرو جمع أسورة فهو جمع الجمع، وقرأ الجمهور ‏{‏أساورة‏}‏ جمع أسوار بمعنى السوار والهاء عوض عن ياء أساوير فإنها تكون في الجمع المحذوف مدته للعوض عنها كما في زنادقة جمع زنديق‏.‏

وقد قرأ ‏{‏أساوير‏}‏ عبد الله‏.‏ وأبى في الرواية المشهورة، وقرأ الضحاك ألقى مبنياً للفاعل أي الله تعالى أساورة بالنصب ‏{‏ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الملئكة مُقْتَرِنِينَ‏}‏ من قرنته به فاقترن، وفسر بمقرونين أي به لأنه لازم معناه بناءً على هذا، وفسر أيضاً بمتقارنين من اقترن بمعنى تقارن والاقتران مجاز أو كناية عن الإعانة‏.‏

ولذا قال ابن عباس‏:‏ يعينونه على من خالفه، وقيل‏:‏ عن التصديق ولولا ذلك لم يكن لذكره بعد قوله معه فائدة، وهو على الأول حسي وعلى الثاني معنوي، وقيل‏:‏ متقارنين بمعنى مجتمعين كثيرين، وعن قتادة متتابعين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏فاستخف قَوْمَهُ‏}‏ فطلب منهم الخفة في مطاوعته على أن السين للطلب على حقيقتها، ومعنى الخفة السرعة لإجابته ومتابعته كما يقال هم خفوف إذا دعوا وهو مجاز مشهور وقال ابن الأعرابي استخف أحلامهم أي وجدهم خفيفة أحلامهم أي قليلة عقولهم فصيغة الاستفعال للوجدان كالأفعال كما يقال أحمدته وجدته محموداً وفي نسبته ذلك للقوم تجوز ‏{‏فَأَطَاعُوهُ‏}‏ فيما أمرهم به ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين‏}‏ فلذلك سارعوا إلى طاعة ذلك الفاسق الغوي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا ءاسَفُونَا‏}‏ أي أسخطونا كما قال علي كرم تعالى وجهه‏.‏ وفي معناه ما قيل أي أغضبونا أشد الغضب أي بأعمالهم‏.‏ والغضب عند الخلف مجاز عن إرادة العقوبة فيكون صفة ذات أو عن العقوبة فيكون صفة فعل‏.‏

وقال أبو عبد الله الرضا رضي الله تعالى عنه‏:‏ إن الله سبحانه لا يأسف كأسفنا ولكن له جل شأنه أولياء يأسفون ويرضون فجعل سبحانه رضاهم رضاه وغضبهم غضبة تعالى، وعلى ذلك قال عز وجل‏:‏ «من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة» وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏ وعليه قيل‏:‏ المعنى فلما أسفوا موسى عليه السلام ومن معه، والسلف لا يؤولون ويقولون‏:‏ الغضب فينا انفعال نفساني وصفاته سبحانه ليست كصفاتنا بوجه من الوجوه، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأسف بالحزن وأنه قال هنا أي أحزنوا أولياءنا المؤمنين نحو السحرة وبني إسرائيل‏.‏

وذكر الراغب أن الأسف الحزن والغضب معاً وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضباً ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزناً، ولذلك سئل ابن عباس عنهما فقال‏:‏ مخرجهما واحد واللفظ مختلف من نازع من يقوى عليه أظهره غيظاً وغضباً ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزناً وجزعاً، وبهذا النظر قال الشاعر‏:‏

فحزن كل أخي حزن أخو الغضب *** انتهى، وعلى جميع الأقوال آسف منقول بالهمزة من أسف‏.‏

‏{‏انتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم أَجْمَعِينَ‏}‏ في اليم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآَخِرِينَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏فجعلناهم سَلَفاً‏}‏ قال ابن عباس‏.‏ وزيد بن أسلم‏.‏ وقتادة أي متقدمين إلى النار‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ قدوة للكفار الذين بعدهم يقتدون بهم في استيجاب مثل عقابهم ونزوله بهم، والكلام على الاستعارة لأن الخلف يقتدي بالسلف فلما اقتدوا بهم في الكفر جعلوا كأنهم اقتدوا بهم في معلول الغضب وهو مصدر نعت به ولذا يصح إطلاقه على القليل والكثير، وقيل‏:‏ جمع سالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا يحتمل أن يراد بالجمع فيه ظاهره ويحتمل أن يراد به اسم الجمع فإن فعلاً ليس من أبنية الجموع لغلبته في المفردات، والمشهور في جمعه أسلاف وجاء سلاف أيضاً‏.‏

وقرأ أبو عبد الله‏.‏ وأصحابه‏.‏ وسعيد بن عياش‏.‏ والأعمش‏.‏ والأعرج‏.‏ وطلحة‏.‏ وحمزة والكسائي ‏{‏سَلَفاً‏}‏ بضمتين جمع سليف كفريق لفظاً ومعنى، سمع القاسم بن معن العرب تقول‏:‏ مضى سليف من الناس يعنون فريقاً، منهم وقيل‏:‏ جمع سلف كصبر جمع صابر أو جمع سلف كجنب‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ ومجاهد‏.‏ والأعرج‏.‏ أيضاً سلفاً بضم ففتح إما على أنه أبدلت فيه ضمة اللام فتحة تخفيفاً كما يقال في جدد بضم الدال جدد بفتحها أو على أنه جمع سلفة بمعنى الأمة والجماعة من الناس أي فجعلناهم أمة سلفت، والسلف بالضم فالفتح في غير هذا ولد القبح والجمع سلفان كصردان ويضم‏.‏

‏{‏وَمَثَلاً لّلاْخِرِينَ‏}‏ أي عظة لهم، والمراد بهم الكفار بعدهم، والجار متعلق على التنازع بسلفاً ومثلاً، ويجوز أن يراد بالمثل القصة العجيبة التي تسير مسير الأمثال؛ ومعنى كونهم مثلاً للكفار أن يقال لهم‏:‏ مثلكم مثل قوم فرعون، ويجوز تعلق الجار بالثاني وتعميم الآخرين بحيث يشمل المؤمنين، وكونهم قصة عجيبة للجميع ظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً‏}‏ الخ بيان لعناد قريش بالباطل والرد عليهم، فقد روي أن عبد الله بن الزبعري قبل إسلامه، قال للنبي صلى الله عليه وسلم وقد سمعه يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ أليست النصارى يعبدون المسيح وأنت تقول كان نبياً وعبداً من عباد الله تعالى صالحاً فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معه ففرح قريش وضحكوا وارتفعت أصواتهم وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ‏}‏ فالمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى بن مريم مثلاً وحاجك بعبادة النصارى إياه إذا قومك من ذلك ولأجله يرتفع لهم جلبة وضجيج فرحاً وجدلاً، والحجة لما كانت تسير مسير الأمثال شهرة قيل لها مثل أو المثل بمعنى المثال أي جعله مقياساً وشاهداً على إبطال قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن آلهتهم من حصب جهنم، وجعل عيسى عليه السلام نفسه مثلاً من باب «الحج عرفة»‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ والأعرج‏.‏ والنخعي‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وابن وثاب‏.‏ وابن عامر‏.‏ ونافع‏.‏ والكسائي ‏{‏يَصِدُّونَ‏}‏ بضم الصاد من الصدود، وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، وأنكر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هذه القراءة وهو قبل بلوغه تواترها، والمعنى عليها إذا قومك من أجل ذلك يعرضون عن الحق بالجدل بحجة داحضة واهية، وقيل‏:‏ المراد يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض‏.‏

وقال الكسائي‏.‏ والفراء‏:‏ يصدون بالكسر ويصدون بالضم لغتان بمعنى واحد مثل ‏{‏يعرشون‏}‏ و‏{‏يعرشون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏ ومعناهما يضجون، وجوز أن يكون يعرضون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ تمهيداً لما بنوا عليه من الباطل المموه مما يغتر به السفهاء ‏{‏ءالِهَتِنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ‏}‏ أي ظاهر عندك أن عيسى عليه السلام خير من آلهتنا فحيث كان هو في النار فلا بأس بكونها وأيانا فيها، وحقق الكوفيون الهمزتين همزة الاستفهام والهمزة الأصلية؛ وسهل باقي السبعة الثانية بين بين، وقرأ ورش في رواية أبي الأزهر بهمزة واحدة على مثال الخبر، والظاهر أنه على حذف همزة الاستفهام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ‏}‏ إبطال لباطلهم إجمالاً اكتفاءً بما فصل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ وتنبيهاً على أنه مما لا يذهب على ذي مسكة بطلانه فكيف على غيره ولكن العناد يعمى ويصم أي ما ضربوا لك ذلك إلا لأجل الجدال والخصام لا لطلب الحق فإنه في غاية البطلان بل هم قوم لد شداد الخصومة مجبولون على المحك أي سؤال الخلق واللجاج، فجدلاً منتصب على أنه مفعول لأجله، وقيل‏:‏ هو مصدر في موضع الحال أي مجادلين، وقرأ ابن مقسم ‏{‏جدالاً‏}‏ بكسر الجيم وألف بعد الدال، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏أَجْرٍ إِنْ هُوَ‏}‏ أي ما عيسى ابن مريم ‏{‏إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ‏}‏ بالنبوة وروادفها فهو مرفوع المنزلة على القدر لكن ليس له من استحقاق المعبودية من نصيب، كلام حكيم مشتمل على ما اشتمل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ ولكن على سبيل الرمز وعلى فساد رأي النصارى في إيثارهم عبادته عليه السلام تعريضاً بمكان عبادة قريش غيره سبحانه وتعالى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناه مَثَلاً‏}‏ أي أمراً عجيباً حقيقاً بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة ‏{‏لّبَنِى إسراءيل‏}‏ حيث خلقناه من غير أب وجعلنا له من أحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك ما لم نجعل لغيره في زمانه، كلام أجمل فيه وجه الافتتان به وعليه، ووجه دلالته على قدرة خالقه تعالى شأنه وبعد استحقاقه عليه السلام عما قرف به إفراطاً وتفريطاً، وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا‏}‏ الخ تذييل لوجه دلالته على القدرة وأن الافتتان من عدم التأمل وتضمين للإنكار على من اتخذ الملائكة آلهة كما اتخذ عيسى عليهم السلام أي ولو نشاء لقدرتنا على عجائب الأمور وبدائع الفطر لجعلنا بطريق التوليد ومآله لولدنا ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ يا رجال ‏{‏مَلَئِكَةٌ‏}‏ كما ولدنا عيسى من غير أب ‏{‏فِى الارض يَخْلُفُونَ‏}‏ أي يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم أو يكونون خلفاً ونسلاً لكم ليعرف تميزنا بالقدرة الباهرة وليعلم أن الملائكة ذوات ممكنة تخلق توليداً كما تخلق إبداعاً فمن أين لهم استحقاق الألوهية والانتساب إليه سبحانه وتعالى بالبنوة، وجوز أن يكون معنى لجعلنا الخ لحولنا بعضكم ملائكة فمن ابتدائية أو تبعيضية و‏{‏مَلَئِكَةٌ‏}‏ مفعول ثان أو حال، وقيل‏:‏ من للبدل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 38‏]‏ وقوله‏:‏

ولم تذق من البقول الفستقا *** أي ولو نشاء لجعلنا بدلكم ملائكة يكونون مكانكم بعد إذهابكم، وإليه يشير كلام قتادة ومجاهد، والمراد بيان كمال قدرته تعالى لا التوعد بالاستئصال وإن تضمنه فإنه غير ملائم للمقام، وقيل‏:‏ لا مانع من قصدهما معاً نعم كثير من النحويين لا يثبتون لمن معنى البدلية ويتأولون ما ورد مما يوهم ذلك والأظهر ما قرر أولاً‏.‏

وذكر العلامة الطيبي عليه الرحمة أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 59‏]‏ الخ جواب عن جدل الكفرة في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ الخ وإن تقريره إن جدلكم هذا باطل لأنه عليه السلام ما دخل في ذلك النص الصريح لأن الكلام معكم أيها المشركون وأنتم المخاطبون به وإنما المراد بما تعبدون الأصنام التي تنحتونها بأيديكم وأما عيسى عليه السلام فما هو إلا عبد مكرم منعم عليه بالنبوة مرفوع المنزلة والذكر مشهور في بني إسرائيل كالمثل السائر فمن أين تدخل في قولنا‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ ثم لا اعتراض علينا أن نجعل قوماً أهلاً للنار وآخرين أهلاً للجنة إذ لو نشاء لجعلنا منكم ومن أنفسكم أيها الكفرة ملائكة أي عبيداً مكرمون مهتدون وإلى الجنة صائرون كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 13‏]‏ اه‏.‏

وعلى ما ذكرنا أن الكلام في ابطال قد تم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَصِمُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 58‏]‏ وما بعد لما سمعت قبل وهو أدق وأولى مما ذكره بل ما أشار إليه من أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء‏}‏ الخ لنفي الاعتراض ليس بشيء‏.‏ وروي أن ابن الزبعرى قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين سمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال‏:‏ خصمتك ورب الكعبة أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرا، وبنو مليح الملائكة‏؟‏ فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم ففرحوا وضحكوا وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ الآية أو نزلت هذه الآية، وأنكر بعضهم السكوت، وذكر أن ابن الزبعرى حين قال للنبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ خصمتك رد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله ما أجهلك بلغة قومك أما فهمت أن ما لما لا يعقل، وروى محيي السنة في المعالم أن ابن الزبعرى قال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ أنت قلت‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ أليست اليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد المسيح وبنو مليح يعبدون الملائكة‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل هم يعبدون الشيطان فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مّنَّا الحسنى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 101‏]‏ وهذا أثبت من الخبر الذي قبله‏.‏ وتعقب ما تقدم في الخبر السابق من سؤال ابن الزبعرى أهذا لنا الخ، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ هو لكم الخ بأنه ليس بثبت‏.‏

وذكر من أثبته أنه صلى الله عليه وسلم إنما لم يجب حين سئل عن الخصوص والعموم بالخصوص عملاً بما تقتضيه كلمة ‏{‏مَا‏}‏ لأن إخراج المعهودين عن الحكم عند المحاجة موهم للرخصة في عبادتهم في الجملة فعممه عليه الصلاة والسلام للكل لكن لا بطريق عبارة النص بل بطريق الدلالة بجامع الاشتراك في المعبودية من دون الله تعالى ثم بين أنهم بمعزل من أن يكونوا معبوديهم بما جاء في خبر محي السنة من قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ بل هم يعبدون الشيطان كما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبحانك أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 41‏]‏ الآية، وقد تقدم ما ينفعك تذكره فتذكر‏.‏ وفي «الدر المنثور» أخرج الإمام أحمد‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش‏:‏ إنه ليس أحد يعبد من دون الله تعالى فيه خير فقالوا‏:‏ ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله تعالى صالحاً فإن كنت صادقاً فإنه كآلهتنا فأنزل الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 57‏]‏ الخ، والكلام في الآيات على هذه الرواية يعلم مما تقدم بأدنى التفات، وقيل‏:‏ إن المشركين لما سمعوا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 59‏]‏ قالوا‏:‏ نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدمياً ونحن نعبد الملائكة فنزلت، فالمثل ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى‏}‏ الآية والضارب هو تعالى شأنه أي ولما بين الله سبحانه حاله العجيبة اتخذه قومك ذريعة إلى ترويج ما هم فيه من الباطل بأنه مع كونه مخلوقاً بشراً قد عبد فنحن أهدى حيث عبدنا ملائكة مطهرين مكرمين عليه وهو الذي عنوه بقولهم‏:‏

‏{‏أآلهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 58‏]‏ فأبطل الله تعالى ذلك بأنه مقايسة باطل بباطل وأنهم في اتخاذهم العبد المنعم عليه إلهاً مبطلون مثلكم في اتخاذ الملائكة وهم عباد مكرمون، ثم قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُمْ‏}‏ دلالة على أن الملائكة عليهم السلام مخلوقون مثله وأنه سبحانه قادر على أعجب من خلق عيسى عليه السلام وأنه لا فرق في ذلك بين المخلوق توالداً وإبداعاً فلا يصلح القسمان للإلهية‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس‏.‏ وقتادة أنه لما نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عيسى‏}‏ الآية قالت قريش‏:‏ ما أراد محمد صلى الله عليه وسلم من ذكر عيسى عليه السلام إلا أن نعبده كما عبدت النصارى عيسى‏.‏

ومعنى ‏{‏يصدون‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 57‏]‏ يضجون ويضجرون، والضمير في ‏{‏أَمْ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 58‏]‏ هو لنبينا عليه الصلاة والسلام، وغرضهم بالموازنة بينه صلى الله عليه وسلم وبين آلهتهم الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء‏}‏ الخ رد وتكذيب لهم في افترائهم عليه صلى الله عليه وسلم ببيان أن عيسى عليه السلام في الحقيقة وفيما أوحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليس إلا أنه عبد منعم عليه كما ذكر فكيف يرضى صلى الله عليه وسلم بمعبوديته أو كيف يتوهم الرضا بمعبودية نفسه ثم بين جل شأنه أن مثل عيسى ليس ببدع من قدرة الله تعالى وأنه قادر على أبدع منه وأبدع مع التنبيه على سقوط الملائكة عليهم السلام أيضاً عن درجة المعبودية بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء‏}‏ الخ وفيه أن الدلالة على ذلك المعنى غير واضحة، وكذلك رجوع الضمير إلى نبينا عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ هُوَ‏}‏ مع رجوعه إلى عيسى في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 59‏]‏ وفيه من فك النظم ما يجب أن يصان الكتاب المعجز عنه، ولا يكاد يقبل القول برجوع الضمير الثاني إليه صلى الله عليه وسلم، ولعل الرواية عن الحبر غير ثابتة، وجوز أن يكون مرادهم التنصل عما أنكر عليهم من قولهم‏:‏ الملائكة عليهم السلام بنات الله سبحانه ومن عبادتهم إياهم كأنهم قالوا‏:‏ ما قلنا بدعاً من القول ولا فعلنا منكراً من الفعل فإن النصارى جعلوا المسيح ابن الله عز وجل فنحن أشف منهم قولاً وفعلاً حيث نسبنا إليه تعالى الملائكة عليهم السلام وهم نسبوا إليه الأناسي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَشَاء‏}‏ الخ عليه كما في الوجه الثاني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُ‏}‏ أي عيسى عليه السلام ‏{‏لَعِلْمٌ لّلسَّاعَةِ‏}‏ أي أنه بنزوله شرط من أشراطها وبحدوثه بغير أب أو بإحيائه الموتى دليل على صحة البعث الذي هو معظم ما ينكره الكفرة من الأمور الواقعة في الساعة، وأياً ما كان فعلم الساعة مجاز عما تعلم به والتعبير به للمبالغة‏.‏

وقرأ أبي ‏{‏لِذِكْرِ‏}‏ وهو مجاز كذلك‏.‏

وقرأ ابن عباس‏.‏ وأبو هريرة‏.‏ وأبو مالك الغفاري‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وقتادة‏.‏ ومجاهد‏.‏ والضحاك‏.‏ ومالك بن دينار‏.‏ والأعمش‏.‏ والكلبي قال ابن عطية‏.‏ وأبو نصرة ‏{‏لَعِلْمٌ‏}‏ بفتح العين واللام أي لعلامة‏.‏

وقرأ عكرمة‏.‏ قال ابن خالويه‏.‏ وأبو نصرة ‏{‏لا لَعِلْمٌ‏}‏ معرفاً بفتحتين والحصر إضافي، وقيل‏:‏ باعتبار أنه أعظم العلامات، وقد نطقت الأخبار بنزوله عليه السلام فقد أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وأبو داود‏.‏ وابن ماجه عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لينزلن ابن مريم حكماً عدلاً فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية وليتركن القلاص فلا يسقى عليها وليذهبن الشحناء والتباغض والتحاسد وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد ‏"‏، وفي رواية «وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه فإنه رجل مربوع إلى الحمرة والبياض ينزل بين ممصرتين كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل فليقاتل الناس على الإسلام» وفيه «ويهلك المسيح الدجال» وفي أخرى قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم منكم ‏"‏ وفي رواية «فأمكم منكم قال ابن أبي ذئب‏:‏ تدري ما أمكم منكم‏؟‏ قال‏:‏ تخبرني قال‏:‏ فأمكم بكتاب ربكم عز وجل وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، والمشهور نزوله عليه السلام بدمشق والناس في صلاة الصبح فيتأخر الإمام وهو المهدي فيقدمه عيسى عليه السلام ويصلي خلفه ويقول‏:‏ إنما أقيمت لك‏.‏

وقيل بل يتقدم هو ويؤم الناس والأكثرون على اقتدائه بالمهدي في تلك الصلاة دفعاً لتوهم نزوله ناسخاً وأما في غيرها فيؤم هو الناس لأنه الأفضل والشيعة تأبى ذلك‏.‏

وفي بعض الروايات أنه عليه السلام ينزل على ثنية يقال لها أفيق بفاء وقاف بوزن أمير وهي هنا مكان بالقدس الشريف نفسه ويمكث في الأرض على ما جاء في رواية عن ابن عباس أربعين سنة وفي رواية سبع سنين قيل والأربعون إنما هي مدة مكثه قبل الرفع وبعده ثم يموت ويدفن في الحجرة الشريفة النبوية، وتمام الكلام في البحور الزاخرة للسفاريني، وعن الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن جبير أن ضمير ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ للقرآن لما أن فيه الإعلام بالساعة فجعله عين العلم مبالغة أيضاً، وضعف بأنه لم يجر للقرآن ذكر هنا مع عدم مناسبة ذلك للسياق، وقالت فرقة‏:‏ يعود على النبي صلى الله عليه وسلم فقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏

«بعثت أنا والساعة كهاتين» وفيه من البعد ما فيه‏.‏

وكأن هؤلاء يجعلون ضمير ‏{‏أم هو‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 58‏]‏ وضمير ‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 59‏]‏ له صلى الله عليه وسلم أيضاً وهو كما ترى ‏{‏فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا‏}‏ فلا تشكن في وقوعها ‏{‏واتبعون‏}‏ أي واتبعوا هداي أو شرعي أو رسولي، وقيل‏:‏ هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم مأموراً من جهته عز وجل فهو بتقدير القول أي وقل اتبعوني ‏{‏هذا‏}‏ أي الذي أدعوكم إليه أو القرآن على أن الضمير في ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ له ‏{‏صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ موصل إلى الحق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان‏}‏ عن اتباعي ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ أي بين العداوة أو مظهرها حيث أخرج أباكم من الجنة وعرضكم للبلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا جَاء عيسى بالبينات‏}‏ بالأمور الواضحات وهي المعجزات أو آيات الإنجيل أو الشرائع ولا مانع من إرادة الجميع ‏{‏قَالَ‏}‏ لبني إسرائيل ‏{‏قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة‏}‏ أي الإنجيل كما قال القشيري‏:‏ والماوردي، وقال السدي‏:‏ بالنبوة، وفي رواية أخرى عنه هي قضايا يحكم بها العقل، وقال أبو حيان‏:‏ أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع، وقال الضحاك‏:‏ أي بالموعظة ‏{‏وَلابَيّنَ لَكُم‏}‏ متعلق بمقدر أي وجئتكم لأبين لكم، ولم يترك العاطف ليتعلق بما قبله ليؤذن بالاهتمام بالعلة حيث جعلت كأنها كلام برأسه‏.‏ وفي «الإرشاد» هو عطف على مقدر ينبىء عنه المجىء بالحكمة كأنه قيل قد جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها ولأبين لكم ‏{‏بَعْضَ الذى تَخْتَلِفُونَ فِيهِ‏}‏ وهو أمر الديانات وما يتعلق بالتكليف دون الأمور التي لم يتعبدوا بمعرفتها ككيفية نضد الأفلاك وأسباب اختلاف تشكلات القمر مثلاً فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيان ما يختلف فيه من ذلك ومثلها ما يتعلق بأمر الدنيا ككيفية الزراعة وما يصلح الزرع وما يفسده مثلاً فإن الأنبياء عليهم السلام لم يبعثوا لبيانه أيضاً كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم في قصة تأبير النخل ‏"‏ أنتم أعلم بأمور دنياكم ‏"‏

وجوز أن يراد بهذا البعض بعض أمور الدين المكلف بها وأريد بالبيان البيان على سبيل التفصيل وهي لا يمكن بيان جميعها تفصيلاً وبعضها مفوض للاجتهاد، وقال أبو عبيدة‏:‏ المراد بعض الذي حرم عليهم وقد أحل عليه السلام لهم لحوم الإبل والشحك من كل حيوان وصيد السمك يوم السبت، وقال مجاهد‏:‏ بعض الذي يختلفون فيه من تبديل التوراة، وقال قتادة‏:‏ لأبين لكم اختلاف الذين تحزبوا في أمره عليه السلام ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ من مخالفتي ‏{‏وَأَطِيعُونِ‏}‏ فيما أبلغه عنه تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله هُوَ رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه‏}‏ بيان لما أمرهم بالطاعة فيه وهو اعتقاد التوحيد والتعبد بالشرائع ‏{‏هذا‏}‏ أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع ‏{‏صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ لا يضل سالكه، وهو إما من تتمة كلام عيسى عليه السلام أو استئناف من الله تعالى مقرر لمقالة عيسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏فاختلف الاحزاب‏}‏ الفرق المتحزبة ‏{‏مِن بَيْنِهِمْ‏}‏ من بين من بعث إليهم وخاطبهم بما بما خاطبهم من اليهود والنصارى وهم أمة دعوته عليه السلام، وقيل‏:‏ المراد النصارى وهم أمة إجابته عليه السلام، وقد اختلفوا فرقاً ملكانية ونسطورية ويعقوبية ‏{‏فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏ من المختلفين وهم الذين لم يقولوا‏:‏ إنه عبد الله ورسوله ‏{‏مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ‏}‏ هو يوم القيامة وأليم صفة عذاب أو يوم على الإسناد المجازي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ الضمير لقريش، وأن تأتيهم بدل من الساعة، والاستثناء مفرغ، وجوز جعل إلا بمعنى غير والاستفهام للإنكار وينظرون بمعنى ينتظرون أي ما ينتظرون شيئاً إلا إتيان الساعة فجأة وهم غافلون عنها، وفي ذلك تهكم بهم حيث جعل إتيان الساعة كالمنتظر الذي لا بد من وقوعه‏.‏

ولما جاز اجتماع الفجأة والشعور وجب أن يقيد ذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ‏}‏ لعدم إغناء الأول عنه فلا استدراك، وقيل‏:‏ يجوز أن يراد بلا يشعرون الإثبات لأن الكلام وارد على الإنكار كأنه قيل‏:‏ هل يزعمون أنها تأتيهم بغتة وهم لا يشعرون أي لا يكون ذلك بل تأتيهم وهم فطنون، وفيه ما فيه، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏يُنظَرُونَ‏}‏ للذين ظلموا، وقيل‏:‏ للناس مطلقاً وأيد بما أخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تقوم الساعة والرجلات يحلبان النعجة والرجلان يطويان الثوب ثم قرأ عليه الصلاة والسلام هل ينظرون إلا الساعة أن تؤتيهم بغتة وهم لا يشعرون‏}‏»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏الاخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين‏}‏ الظرف متعلق بعدو والفصل لا يضر، والمراد أن المحبات تنقطع يوم إذ تأتيهم الساعة ولا يبقى إلا محبة المتقين وهم المتصادقون في الله عز وجل لما أنهم يرون ثواب التحاب في الله تعالى، واعتبار الانقطاع لأن الخل حال كونه خلا محال أن يصير عدواً‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى الإخلاء تنقطع خلتهم ذلك اليوم إلا المجتنبين إخلاء السوء، والفرق بين الوجهين أن المتقي في الأول‏:‏ هو المحب لصاحبه في الله تعالى فاتقى الحب أن يشوبه غرض غير إلهي، وفي الثاني‏:‏ من اتقى صحبة الأشرار‏.‏

والاستثناء فيهما متصل، وجوز أن يكون يومئذ متعلقاً بالإخلاء والمراد به في الدنيا ومتعلق عدو مقدر أي في الآخرة والآية قيل نزلت في أبي بن خلف وعقبة بن أبي معيط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏المتقين ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏ حكاية لما ينادي به المتقون المتحابون في الله تعالى يومئذ فهو بتقدير قول أي فيقال لهم يا عبادي الخ أو فأقول‏:‏ لهم بناء على أن المنادي هو الله عز وجل تشريفاً لهم، وعن المعتمر بن سليمان أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحداً لا يفزع فينادي منادياً عباد الخ فيرجوها الناس كلهم فيتبعها قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءامَنُواْ الذين ءامَنُواْ بئاياتنا‏}‏ فييأس منها الكفار، فيا عباد عام مخصوص إما بالآية السابقة وإما باللاحقة، والأول أوفق من أوجه عديدة‏.‏

والموصول إما صفة للمنادي أو بدل أو مفعول لمقدر أي أمدح ونحوه، وجملة ‏{‏وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏ءامَنُواْ‏}‏ بتقدير قد أو بدونه، وجوز عطفها على الصلة، ورجحت الحالية بأن الكلام عليها أبلغ المراد بالإسلام هنا الانقياد والإخلاص ليفيد ذكره بعد الايمان فإذا جعل حالاً أفاد بعد تلبسهم به في الماضي اتصاله بزمان الايمان، وكان تدل على الاستمرار أيضاً ومن هنا جاء التأكيد والأبلغية بخلاف العطف، وكذا الحال المفردة بأن يقال‏:‏ الذين آمنوا بآياتنا مخلصين، وقرأ غير واحد من السبعة ‏{‏فِى عِبَادِى‏}‏ بالياء على الأصل، والحذف كثير شائع وبه قرأ حفص‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي، وقرأ ابن محيصن ‏{‏لاَ خَوْفٌ‏}‏ بالرفع من غير تنوين، والحسن‏.‏ والزهري‏.‏ وابن أبي إسحق‏.‏ وعيسى‏.‏ وابن يعمر‏.‏ ويعقوب‏.‏ بفتحها من غير تنوين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏ادخلوا الجنة أَنتُمْ وأزواجكم‏}‏ نساؤكم المؤمنات فالإضافة للاختصاص التام فيخرج من لم يؤمن منهم ‏{‏تُحْبَرُونَ‏}‏ تسرون سروراً يظهر حباره أي أثره من النضرة والحسن على وجوهكم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَعْرِفُ فِى وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم‏}‏ ‏[‏المطففين‏:‏ 24‏]‏ أو تزينون من الحبر بفتح الحاء وكسرها وهو الزينة وحسن الهيئة؛ وهذا متحد بما قبله معنى والفرق في المشتق منه، وقال الزجاج‏:‏ أي تكرمون إكراماً يبالغ فيه، والحبرة بالفتح المبالغة في الفعل الموصوف بأنه جميل ومنه الإكرام فهو في الأصل عام أريد به بعض أفراده هنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ‏}‏ بعد دخولهم الجنة حيثما أمروا به ‏{‏بصحاف مّن ذَهَبٍ وأكواب‏}‏ كذلك، والصحاف جمع صحفة قيل هي كالقصعة، وقيل‏:‏ أعظم أواني الأكل الجفنة ثم القصعة ثم الصحفة ثم الكيلة‏.‏

والأكواب جمع كوكب وهو كوز لا عروة له، وهذا معنى قول مجاهد لا إذن له، وهو على ما روى عن قتادة دون الإبريق، وقال‏:‏ بلغنا أنه مدور الرأس ولما كانت أواني المأكول أكثر بالنسبة لأواني المشروب عادة جمع الأول جمع كثرة والثاني جمع قلة، وقد تظافرت الأخبار بكثرة الصحاف، أخرج ابن المبارك‏.‏ وابن أبي الدنيا في صفة الجنة‏.‏ والطبراني في «الأوسط» بسند رجاله ثقات عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن أسفل أهل الجنة أجمعين درجة لمن يقوم على رأسه عشرة آلاف خادم بيد كل واحد صحفتان واحدة من ذهب والأخرى من فضة في كل واحدة لون ليس في الأخرى مثله يأكل من آخرها مثل ما يؤكل من أولها يجد لآخرها من الطيب واللذة مثل الذي يجد لأولها ثم يكون ذلك كرشح المسك الأذفر لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون إخواناً على سرر متقابلين ‏"‏ وفي حديث رواه عكرمة ‏"‏ إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل بعده أحد يفسح له في بصره مسيرة عام في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ليس فيها موضع شبر إلا معمور يغدي عليه كل يوم ويراح بسبعين ألف صحفة في كل صحفة لون ليس في الأخرى مثله شهوته في آخرها كشهوته في أولها لو نزل عليه جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أعطى لا ينقص ذلك مما أوتي شيئاً ‏"‏ وروى ابن أبي شيبة هذا العدد عن كعب أيضاً، وإذا كان ذلك لودنى فما ظنك بالأعلى، رزقنا الله تعالى ما يليق بجوده وكرمه‏.‏

وأمال أبو الحرث عن الكسائي كما ذكر ابن خالويه بصحاف ‏{‏وَفِيهَا‏}‏ أي في الجنة ‏{‏مَا تَشْتَهِيهِ‏}‏ من فنو الملاذ ‏{‏وَتَلَذُّ الاعين‏}‏ أي تستلذ وتقر بمشاهدته، وذكر ذلك الشامل لكل لذة ونعيم بعد ذكر الطواف عليهم بأواني الذهب الذي هو بعض من التنعم والترفه تعميم بعد تخصيص كما أن ذكر لذة العين التي هي جاسوس النفس بعد اشتهاء النفس تخصيص بعد تعميم، وقال بعض الأجلة‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُطَافُ عَلَيْهِمْ‏}‏ بصحاف دل على الأطعمة ‏{‏وَأَكْوابٍ‏}‏ على الأشربة، ولا يبعد أن يحمل قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الانفس‏}‏ على المنكح والملبس وما يتصل بهما ليتكامل جميع المشتهيات النفسانية فبقيت اللذة الكبرى وهي النظر إلى وجه الله تعالى الكريم فكنى عنه بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَتَلَذُّ الاعين‏}‏ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النسائي عن أنس‏:‏

‏"‏ حبب إلى الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة ‏"‏ وقال قيس بن ملوح‏:‏

ولقد هممت بقتلها من حبها *** كيما تكون خصيمتي في المحشر

حتى يطول على الصراط وقوفنا *** وتلذ عيني من لذيذ المنظر

ويوافق هذا قول الإمام جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه‏:‏ شتان بين ما تشتهي الأنفس وبين ما تلذ الأعين لأن جميع ما في الجنة من النعيم والشهوات في جنب ما تلذ الأعين كأصبع تغمس في البحر لأن شهوات الجنة لها حد ونهاية لأنها مخلوقة ولا تلذ عين في الدار الباقية إلا بالنظر إلى الباقي جل وعز ولا حد لذلك ولا صفة ولا نهاية انتهى، ويعلم مما ذكر أن المعنى على اعتبار وفيها ما تلذ الأعين وعلى ذلك بني الزمخشري قوله‏:‏ هذا حصر لأنواع النعم لأنها أما مشتهاة في القلوب أو مستلذة في الأعين، وتعقبه في «الكشف» فقال‏:‏ فيه نظر لانتقاضه بمستلذات سائر المشاعر الخمس، فإن قيل‏:‏ إنها من القسم الأول قلنا‏:‏ مستلذ العين كذلك فالوجه أنه ذكر تعظيماً لنعيمها بأنه مما يتوافق فيه القلب والعين وهو الغاية عندهم في المحبوب لأن العين مقدمة القلب؛ وهذا قول بأنه ليس في الجملة الثانية اعتبار موصول آخر بل هي والجملة قبلها صلتان لموصول واحد وهو المذكور، وما تقدم هو الذي يقتضيه كلام الأكثرين، وحذف الموصول في مثل ذلك شائع، ولا مانع من إدخال النظر إلى وجهه تعالى الكريم فيما تلذ الأعين على ما ذكرناه أولاً، و‏{‏ءالَ‏}‏ في الأنفس والأعين للاستغراق على ما قيل، ولا فرق بين جمع القلة والكثرة‏.‏

ولعل من يقول‏:‏ بأن استغراق المفرد أشمل من استغراق الجمع ويفرق بين الجمعين في المبدإ والمنتهى يقول‏:‏ بأن استغراق جمع القلة أشمل من استغراق جمع الكثرة، وقيل‏:‏ هي للعهد، وقيل‏:‏ عوض عن المضاف إليه أي ما تشتهيه أنفسهم وتلذ أعينهم، وجمع النفس والعين الباصرة على أفعل في كلامهم أكثر من جمعهما على غيره بل ليس في القرآن الكريم جمع الباصرة إلا على ذلك، وما أنسب هذا الجمع هنا لمكان ‏{‏الاخلاء‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 67‏]‏ وحمل ما تشتهيه النفس على المنكح والملبس وما يتصل بهما خلاف الظاهر‏.‏

وفي الأخبار أيضاً ما هو ظاهر في العموم، أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن مردويه عن بريدة قال‏:‏ ‏"‏ جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ هل في الجنة خيل فإنها تعجبني‏؟‏ قال‏:‏ إن أحببت ذلك أتيت بفرس من ياقوتة حمراء فتطير بك في الجنة حيث شئت، فقال له رجل‏:‏ إن الإبل تعجبني فهل في الجنة من إبل‏؟‏ فقال‏:‏ يا عبد الله إن أدخلت الجنة فلك فيها ما تشتهي نفسك ولذت عينك ‏"‏

وأخرج أيضاً نحوه عن عبد الرحمن بن سابط وقال‏:‏ هو أصح من الأول، وجاء نحوه أيضاً في روايات أخر فلا يضره ما قيل من ضعف إسناده، ولا يشكل على العموم أن اللواطة مثلاً لا تكون في الجنة لأن ما لا يليق أن يكون فيها لا يشتهي بل قيل في خصوص اللواطة أنه لا يشتهيها في الدنيا الأنفس السليمة‏.‏

واختلف الناس هل يكون في الجنة حمل أم لا فذهب بعض إلى الأول، فقد أخرج الإمام أحمد‏.‏ وهناد‏.‏ والدارمي‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن حبان‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والبيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ ‏"‏ قلنا يا رسول الله إن الولد من قرة العين وتمام السرور فهل يولد لأهل الجنة‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن المؤمن إذا اشتهى الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ‏"‏

وذهب طاوس‏.‏ وإبراهيم النخعي‏.‏ ومجاهد‏.‏ وعطاء‏.‏ وإسحق بن إبراهيم إلى الثاني‏.‏ فقد روى عن أبي رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن أهل الجنة لا يكون لهم ولد ‏"‏ وفي حديث لقيط الطويل الذي رواه عبد الله بن الإمام أحمد‏.‏ وأبو بكر بن عمرو‏.‏ وأبو أحمد محمد بن أحمد بن إبراهيم‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن حبان‏.‏ ومحمد بن إسحق بن منده‏.‏ وابن مردويه‏.‏ وأبو نعيم‏.‏ وجماعة من الحفاظ وتلقاه الأئمة بالقبول وقال فيه ابن منده‏:‏ لا ينكر هذا الحديث إلا جاحد أو جاهل أو مخالف للكتاب والسنة قلت‏:‏ ‏"‏ يا رسول الله أو لنا فيها يعني الجنة أزواج أو منهن مصلحات‏؟‏ قال‏:‏ المصلحات للمصلحين تلذذونهن ويلذذنكم مثل لذاتكم في الدنيا غير أن لا توالد ‏"‏

وقال مجاهد‏.‏ وعطاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏ أي مطهرة من الولد والحيض والغائط والبول ونحوها، وقال إسحق بن إبراهيم في حديث أبي سعيد السابق‏:‏ إنه على معنى إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة كما يشتهي ولكن لا يشتهي، وتعقب بأن ‏{‏إِذَا‏}‏ لمتحقق الوقوع ولو أريد ما ذكر لقيل‏.‏ لو اشتهى، وفي حادي الأرواح إسناد حديث أبي سعيد على شرط الصحيح فرجاله يحتج بهم فيه ولكنه غريب جداً‏.‏

وقال السفاريني في «البحور الزاخرة» حديث أبي سعيد أجود أسانيده إسناد الترمذي وقد حكم عليه بالغرابة وأنه لا يعرف إلا من حديث أبي الصديق التاجي وقد اضطرب لفظه فتارة يروى عنه إذا اشتهى الولد وتارة أنه يشتهي الولد وتارة أن الرجل ليولد له، وإذا قد تستعمل لمجرد التعليق الأعم من المحقق وغيره، ورجح القول بعدم الولادة بعشرة وجوه مذكورة فيها، وأنا أختار القول بالولادة كما نطق بها حديث أبي سعيد وقد قال فيه الأستاذ أبو سهل فيما نقله الحاكم‏:‏ إنه لا ينكره إلا أهل الزيغ، وفيه غير إسناد، وليس تكون الولد على الوجه المعهود في الدنيا بل يكون كما نطق به الحديث ومتى كان كذلك فلا يستبعد تكونه من نسيم يخرج وقت الجماع، وزعم أن الولد إنما يخلق من المني فحيث لا مني في الجنة كما جاء في الاخبار لا خلق فيه تعجيز للقدرة، ولا ينافي ذلك ما في خديث لقيط لأن المراد هناك نفي التوالد المعهود في الدنيا كما يشير إليه وقوع غير أن لا توالد بعد قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏

‏"‏ مثل لذاتكم في الدنيا ‏"‏، ويقال نحو ذلك في حديث أبي رزين جمعاً بين الأخبار، ثم إن التوالد ليس على سبيل الاستمرار بل هو تابع للاشتهاء ولا يلزم استمراره فالقول بأنه إن استمر لزم وجود أشخاص لا نهاية لها وإن انقطع لزم انقطاع نوع من لذة أهل الجنة ليس بشيء، وما قيل‏:‏ إنه قد ثبت في «الصحيح» أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يبقى في الجنة فضل فينشى الله تعالى لها خلقاً يسكنهم إياها ‏"‏ ولو كان في الجنة إيلاد لكان الفضل لأولادهم الملازمة فيه ممنوعة لجواز أن يقال من يشتهي الولد يشتهي أن يكون معه في منزله، والقول بأن التوالد في الدنيا لحكمة بقاء النوع وهو باق في الجنة بدون توالد فيكون عبثاً يرد عليه أنه ما المانع من أن يكون هناك للذة ونحوها كالأكل والشرب فإنهما في الدنيا لشيء وفي الجنة لشيء آخر، وبالجملة ما ذكر لترجيح عدم الولادة من الوجوه مما لا يخفى حاله على من له ذهن وجيه‏.‏

وقرأ غير واحد من السبعة وغيرهم ‏{‏مَا تَشْتَهِى الانفس وَتَلَذُّ الاعين‏}‏ بحذف الضمير العائد على ‏{‏مَا‏}‏ من الجملتين المتعاطفتين، وفي مصحف عبد الله ‏{‏مَا تَشْتَهِيهِ الانفس وَتَلَذُّ الاعين‏}‏ بالضمير فيهما، والقراءة به في الأول دون الثانية لأبي جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ ونافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ وحفص ‏{‏وَأَنتُمْ فِيهَا‏}‏ أي في الجنة، وقيل‏:‏ في الملاذ المفهومة مما تقدم وهو كما ترى ‏{‏خالدون‏}‏ دائمون أبد الآبدين، والجملة داخلة في حيز النداء وهي كالتأكيد لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 68‏]‏ ونودوا بذلك إتماماً للنعمة وإكمالاً للسرور فإن كل نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ وخوف الزوال ومستعقب للتحسر في ثاني الأحوال، ولله تعالى در القائل‏:‏

وإذا نظرت فإن بؤساً زائلا *** للمرء خير من نعيم زائل

وعن النصرأباذي أنه إن كان خلودهم لشهوة الأنفس ولذة الأعين فالفناء خير من ذلك وإن كان لفناء الأوصاف والاتصاف بصفات الحق والمقام فيها على سرر الرضا والمشاهدة فأنتم إذاً أنتم، وأنت تعلم أن ما ذكره يدخل في عموم ما تقدم دخولاً أولياً، وذكر بعضهم هنا أن الخطاب هنا من باب الالتفات وأنه للتشريف‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ ذق مع طبعك المستقيم معنى الخطاب والالتفات وتقديم الظرف في ‏{‏وَأَنتُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ لتقف على ما لا يكتنهه الوصف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وَتِلْكَ الجنة‏}‏ مبتدأ وخبر وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏التى أُورِثْتُمُوهَا‏}‏ صفة الجنة وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ متعلق بأورثتموها، وقيل‏:‏ ‏{‏تِلْكَ الجنة‏}‏ مبتدأ وصفة و‏{‏التى أُورِثْتُمُوهَا‏}‏ الخبر والجار بعده متعلق به، وقيل‏:‏ تلك مبتدأ والجنة صفتها والتي أورثتموها صفة الجنة وبما كنتم متعلق بمحذوف هو الخبر‏.‏

والإشارة على الوجه الأول إلى الجنة المذكورة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ادخلوا الجنة‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 70‏]‏ وعلى الأخيرين إلى الجنة الواقعة صفة على ما قيل، والباء للسببية أو للمقابلة، وقد شبه ما استحقوه بأعمالهم الحسنة من الجنة ونعيمها الباقي لهم بما يخلفه المرء لوارثه من الأملاك والأرزاق ويلزمه تشبيه العمل نفسه بالمورث اسم فاعل فاستعير الميراث لما استحقوه ثم اشتق أورثتموها فيكون هناك استعارة تبعية، وقال بعض‏:‏ الاستعارة تمثيلية‏.‏

وجوز أن تكون مكنية، وقيل‏:‏ الإرث مجاز مرسل للنيل والأخذ، وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار فالكافر يرث المؤمن منزله في النار والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الجنة التى أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏» ولا يخلو الكلام عن مجاز عليه أيضاً، وأياً ما كان فسببية العمل لإيراث الجنة ونيلها ليس إلا بفضل الله تعالى ورحمته عز وجل، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لن يدخل أحدكم الجنة عمله» ففي إدخال العمل الجنة على سبيل الاستقلال والسببية التامة فلا تعارض‏.‏

وأخرج هناد‏.‏ وعبد بن حميد في الزهر عن ابن مسعود قال‏:‏ تجوزون الصراط بعفو الله تعالى وتدخلون الجنة برحمة الله تعالى وتقتسمون المنازل بأعمالكم فتأمل‏.‏ وقرىء ‏{‏ورثتموها‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏كَثِيرَةٌ مّنْهَا تَأْكُلُونَ‏}‏ أي لا تأكلون إلا بعضها وأعقابها باقية في أشجارها فهي مزينة بالثمار أبداً موقرة بها لا ترى شجرة عريانة من ثمرها كما في الدنيا، وفي الحديث «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها ءلا نبت مكانها مثلاها» فمن تبعيضية وجوز كونها ابتدائية، والتقديم للحصر الإضافي وقيل لرعاية الفاصلة‏.‏

ولعل تكرير ذكر المطاعم في القرآن العظيم مع أنها كلا شيء بالنسبة إلى سائر أنواع نعيم الجنة لما كان بأكثرهم في الدنيا من الشدة والفاقة فهو تسلية لهم، وقيل‏:‏ إن ذلك لكون أكثر المخاطبين عواماً نظرهم مقصور على الأكل والشرب‏.‏ وتعقب بأنه غير تام وللصوفية، كلام سيأتي في مواضع إن شاء الله تعالى عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ المجرمين‏}‏ أي الراسخين في الأجرام الكاملين فيه وهم الكفار فكأنه قيل‏:‏ إن الكفار ‏{‏فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خالدون‏}‏ وأيد إرادة ذلك بجعلهم قسيم المؤمنين بالآيات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين ءامَنُواْ بئاياتنا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 69‏]‏ فلا تدل الآية على خلود عصاة المؤمنين كما ذهب إليه المعتزلية والخوارج، ولا يضر عدم التعرض لبيان حكمهم بناء على أن المراد بالذين آمنوا المتقون لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 68‏]‏ والقول بأن الذين آمنوا شامل لهم لأن العلة إيمانهم وإسلامهم لا يخفى ما فيه‏.‏ والظرف متعلق بخالدون وخالدون خبر إن، وجوز أن يكون الظرف هو الخبر وخالدون فاعله لاعتماده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ‏}‏ أي لا يخفف عنهم من فترت عنه الحمى إذا سكنت قليلاً، والمادة بأي صيغة كانت تدل على الضعف مطلقاً ‏{‏وَهُمْ فِيهِ‏}‏ أي في العذاب، وقرأ عبد الله ‏{‏فِيهَا‏}‏ أي في جهنم ‏{‏مُّبْلِسُونَ‏}‏ حزينون من شدة البأس، قال الراغب‏:‏ الإبلاس الحزن المعترض من شدة البأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل‏.‏

ولما كان المبلس كثيراً ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قيل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته انتهى، وقد فسر الإبلاس هنا بالسكوت وانقطاع الحجة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا ظلمناهم ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين‏}‏ لسوء اختيارهم، و‏{‏هُمْ‏}‏ ضمير فصل فيفيد التخصيص، وقرأ عبد الله‏.‏ وأبو زيد ‏{‏الظالمون‏}‏ بالرفع على أن هم مبتدأ وهوخبره، وذكر أبو عمر الجرمي أن لغة تميم جعل ما هو فصل عند غيرهم مبتدأ ويرفعون ما بعده على الخبر، وقال أبو زيد‏:‏ سمعتهم يقرؤن ‏{‏تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ برفع خير وأعظم، وقال قيس بن ذريح‏:‏

تحن إلى ليلى وأنت تركتها *** وكنت عليها بالملا أنت أقدر

وقال سيبويه‏:‏ بلغنا أن رؤبة كان يقول أظن زيداً هو خير منك يعني بالرفع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَادَوْاْ‏}‏ أي من شدة العذاب وفي بعض الآثار يلقى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون‏:‏ ادعوا مالكاً فيدعون ‏{‏يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ‏}‏ أي ليمتنا من قضى عليه إذا أماته، ومرادهم سل ربك أن يقضي علينا حتى نستريح، وإضافتهم الرب إلى ضميره لحثه لا للإنكار، وهذا لا ينافي الإبلاس على التفسير الأول لأنه صراخ وتمنى للموت من فرط الشدة، وأما على التفسير الثاني أنه وإن نفاه لكن زمان كل غير زمان الآخر فإن أزمنة العذاب متطاولة وأحقابه ممتدة فتختلف بهم الأحوال فيسكتون أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم وعلمهم أنه لا خاص لهم ولو بالموت ويغوثون أوقاتاً لشدة ما بهم‏.‏ وتعقب بأنه لا يناسب دوام الجملة الاسمية أعني وهم مبلسون وقيل إن نادوا معطوف بالواو وهي لا تقتضي ترتيباً، ولا يخفى أن تلك الجملة حالية لا تنفك عن الخلود‏.‏

وقرأ عليه كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والأعمش ‏{‏يامال‏}‏ بالترخيم على لغة من ينتظر وقرأ أبو السوار ‏{‏يامال‏}‏ بالترخيم أيضاً لكن على لغة من لم ينتظر‏.‏

قال ابن جني‏:‏ وللترخيم في هذا الموضع سر وذلك أنهم لعظم ما هم فيه ضعفت قواهم وذلت أنفسهم فكان هذا من موضع الاختصار ضرورة وبهذا يجاب عن قول ابن عباس وقد حكيت له القراءة به على اللغة الأولى‏:‏ ما أشغل أهل النار عن الترخيم مشيراً بذلك إلى إنكارها فإن ما للتعجب وفيها معنى الصد يعني أنهم في حالة تشغلهم عن الالتفات إلى الترخيم وترك النداء على الوجه الأكثر في الاستعمال وحاصل الجواب أن هذا الترخيم لم يصدر عنهم لقصد التصرف في الكلام والتفنن فيه كما في قوله‏:‏

يحيى رفات العظام بالية *** والحق يامال غير ما تصف

بل للعجز وضيق المجال عن الاتمام كما يشاهد في بعض المكر وبين ‏{‏وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ‏}‏ أي مالك ‏{‏إِنَّكُمْ ماكثون‏}‏ مقيمون في العذاب أبداً لا خلاص لكم منه بموت ولا غيره، وهذا تقنيط ونكاية لهم فوق ما هم فيه ولا يضر في ذلك علمه بيأسهم إن قلنا به‏.‏

وذكر بعض الأجلة أن فيه استهزاء لأنه أقام المكث مقام الخلود والمكث يشعر بالانقطاع لأنه كما قال الراغب ثبات مع انتظار، ويمكن أن يكون وجه الاستهزاء التعبير بماكثون من حيث أنه يشعر بالاختيار وإجابتهم بذلك بعد مدة‏.‏

قال ابن عباس يجيبهم بعد مضي ألف سنة، وقال نوف‏:‏ بعد مائة، وقيل ثمانين، وقيل أربعين‏.‏