فصل: تفسير الآية رقم (47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏خُذُوهُ‏}‏ على إرادة القول والمقول له الزبانية أي ويقال لهم خذوه ‏{‏فاعتلوه‏}‏ فجروه بقهر‏.‏

قال الراغب‏:‏ العتل الأخذ بمجامع الشيء وجره بقهر، وبعضهم يعبر بالثوب بدل الشيء وليس ذاك بلازم والمدار على الجر مع الإمساك بعنف‏.‏

وقال الأعمش‏.‏ ومجاهد‏:‏ معنى ‏{‏اعتلوه‏}‏ اقصفون كما يقصف الحطب، والظاهر عليه التضمين أو تعلق الجار بخذوه، والمعنى الأول هو المشهور‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏.‏ والحجازيان‏.‏ وابن عامر‏.‏ ويعقوب ‏{‏خُذُوهُ فاعتلوه‏}‏ بضم التاء وروي ذلك عن الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ والأعرج‏.‏ على أنه من باب قعد، وعلى قراءة الجمهور من باب نصر وهما لغتان ‏{‏إلى سَوَاء الجحيم‏}‏ أي وسطه، وسمي سواء لاستواء بعد جميع أطرافه بالنسبة إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم‏}‏ كأن أصله صبوا فوق رأسه الحميم، ثم قيل‏:‏ صبوا فوق رأسه عذاباً هو الحميم للمبالغة بجعل العذاب عين الحميم، وهو مترتب عليه ولجعله مصبوباً كالمحسوس ثم أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف، وزيد ‏{‏مِنْ‏}‏ للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النوع فهناك إما تمثيل أو استعارة تصريحية أو مكنية أو تخييلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏ أي ويقال‏:‏ أو قولوا له ذلك استهزاءً وتقريعاً على ما كان يزعمه‏.‏

أخرج عبد الرزاق وغيره عن قتادة قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏خُذُوهُ فاعتلوه إلى سُوء الجحيم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 47‏]‏ قال أبو جهل‏:‏ ما بين جبليها رجل أعز ولا أكرم مني، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذُقْ‏}‏ الخ‏.‏

وأخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء لقد علمت أنني أمنع أهل بطحاء وأنا العزيز الكريم فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله وعيره بكلمته ‏{‏ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم‏}‏ وروي أن اللعين قال يوماً‏:‏ يا معشر قريش أخبروني ما أسمي فذكرت له ثلاثة أسماء عمر والجلاس‏.‏ وأبو الحكم فقال‏:‏ ما أصبتم أسمي إلا أخبركم به‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى قال‏:‏ اسمي العزيز الكريم فنزلت ‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43‏]‏ الآيات، وهذا ونحوه لا يدل أيضاً على تخصيص حكم الآية به فكل أثيم يدعي دعواه كذلك يوم القيامة، وقيل‏:‏ المعنى ذق إنك أنت العزيز في قومك الكريم عليهم فما أغنى ذلك عنك ولم يفدك شيئاً، والذوق مستعار للإدارك‏.‏

وقرأ الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما على المنبر‏.‏ والكسائي ‏{‏إِنَّكَ‏}‏ بفتح الهمزة على معنى لأنك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي العذاب أو الأمر الذي أنتم فيه ‏{‏مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ‏}‏ تشكون وتمارون فيه، وهذا ابتداء كلام منه عز وجل أو من مقول القول والجمع باعتبار المعنى لما سمعت أن المراد جنس الأثيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ المتقين فِى مَقَامٍ‏}‏ في موضع قيام، والمراد بالقيام الثبات والملازمة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 75‏]‏ ويكنى به عن الإقامة لأن المقيم ملازم لمكانه، وهو مراد من قال‏:‏ في مقام أي موضع إقامة‏.‏

وقرأ عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشيبة‏.‏ والأعرج‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ ونافع‏.‏ وابن عامر ‏{‏مَّقَامِ‏}‏ بضم الميم ومعناه موضع إقامة، وعلى ما قررنا ترجع القراءتان إلى معنى واحد‏.‏

‏{‏أَمِينٌ‏}‏ يأمن صاحبه مما يكره فهو صفة من الأمن وهو عدم الخوف عما هو من شأنه، ووصف المقام به باعتبار أمن من آمن به فهو إسناد مجازي كما في نهر جار، وظاهر كلام الزمخشري أن ذلك استعارة من الأمانة كأن المكان مؤتمن وضع عنده ما يحفظه من المكاره ففيه استعارة مكنية وتخييلية، وقال ابن عطية‏:‏ فعيل بمعنى مفعول أي مأمون فيه وليس بذاك، وجوز أن يكون للنسبة أي ذي أمن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏فِى جنات وَعُيُونٍ‏}‏ بدل من ‏{‏مَّقَامِ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 51‏]‏ بإعادة الجار أو الجار والمجرور بدل من الجار والمجرور، وظرفية العيون للمجاورة، والظاهر أنه بدل اشتمال لا كل وبعض، وفي ذلك دلالة على نزاهة مكانهم واشتماله على ما يستلذ من المآكل والمشارب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ‏}‏ خبر ثان أو حال من الضمير في الجار والمجرور أو استئناف، والسندس قال ثعلب‏:‏ الرقيق من الديباج والواحدة سندسة، والاستبرق غليظه، وقال الليث‏:‏ هو ضرب من البزيون يتخذ من المرعز، ولم يختلف أهل اللغة في أنهما معربان كذا ذكره بعضهم‏.‏

وفي «الكشاف» الاستبرق ما غلظ من الديباج وهو تعريب استبر، قال الخفاجي‏:‏ ومعنى استبر في لغة الفرس الغليظ مطلقاً ثم خص بغليظ الديباج وعرب، وقيل‏:‏ إنه عربي من البراقة، وأيد بقراءته بوصل الهمزة وهو كما ترى‏.‏

وذكر بعضهم أن السندس أصله سندي ومعناه منسوب إلى السند المكان المعروف لأن السندس كان يجلب منه فأبدلت ياء النسبة سيناً، وقد مر الكلام في ذلك فتذكر، ثم إن وقوع المعرب في القرآن العظيم لا ينافي كونه عربياً مبيناً‏.‏ ونقل صاحب الكشف عن جار الله أنه قال‏:‏ الكلام المنظوم مركب من الحروف المبسوطة في أي ليان كان تركي أو فارسي أو عربي ثم لا يدل على أن العربي أعجمي فكذا ههنا، ثم قال صاحب الكشف‏:‏ يريد أن كون استبر أعجمياً لا يلزمه أن يكون استبرق كذلك‏.‏ وقرأ ابن محيصن ‏{‏وَإِسْتَبْرَقٍ‏}‏ فعلاً ماضياً كما في «البحر»، والجملة حينئذٍ قيل معترضة، وقيل‏:‏ حال من ‏{‏سُندُسٍ‏}‏ والمعنى يلبسون من سندس وقد برق لصقالته ومزيد حسنه ‏{‏متقابلين‏}‏ في مجالسهم ليستأنس بعضهم ببعض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي الأمر كذلك فالكاف في محل رفع على الخبرية لمبتدأ محذوف، والمراد تقرير ما مر وتحقيقه‏.‏ ونقل عن جار الله أنه قال‏:‏ والمعنى فيه أنه لم يستوف الوصف وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف فكأنه قيل‏:‏ الأمر نحو ذلك وما أشبهه‏.‏

وأراد على ما قال المدقق أن الكاف مقحم للمبالغة وذلك مطرد في عرفي العرب والعجم، وجوز أن يكون في محل نصب على معنى أثبناهم مثل ذلك، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وزوجناهم‏}‏ على هذا عطف على الفعل المقدر وعلى ما قبل على ‏{‏يَلْبِسُونَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 53‏]‏ والمراد على ما قال غير واحد وقرناهم ‏{‏بِحُورٍ عِينٍ‏}‏ وفسر بذلك قيل لأن الجنة ليس فيها تكليف فلا عقد ولا تزويج بالمعنى المشهور، وقيل‏:‏ لمكان الباء، وزوجه المرأة بمعنى أنكحه إياها متعد بنفسه، وفيه بحث فإن الأخفش جوز الباء فيه فيقال‏:‏ زوجته بامرأة فتزوج بها، وأزدشنوءة يعدونه بالباء أيضاً، وفي «القاموس» زوجته امرأة وتزوجت امرأة وبها أو هي قليلة، ويعلم مما ذكر أن قول بعض الفقهاء زوجته بها خطأ لا وجه له، ويجوز أن يقال‏:‏ إن ذلك التفسير لأن الحور العين في الجنة ملك يمين كالسراري في الدنيا فلا يحتاج الأمر إلى العقد عليهن، على أنه يمكن أن يكون في الجنة عقد وإن لم يكن فيها تكليف‏.‏

وقد أخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن مجاهد أنه قال‏:‏ زوجناهم أنكحناهم‏.‏ ومن الناس من قال بالتكليف فيها بمعنى الأمر والنهي لكن لا يجدون في الفعل والترك كلفة، نعم المشهور أن لا تكليف فيها، وبعض ما حرم في الدنيا كنكاح امرأة الغير ونكاح المحارم لا يفعلونه لعدم خطوره لهم ببال أصلاً، والحور جمع حوراء وهي البيضاء كما روي عن ابن عباس‏.‏ والضحاك‏.‏ وغيرهما، وقيل‏:‏ الشديدة سواد العين وبياضها، وقيل‏:‏ الحوراء ذات الحور وهو سواد المقلة كلها كما في الظباء فلا يكون في الإنسان إلا مجازاً‏.‏ وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن مجاهد أن الحوراء التي يحار فيها الطرف‏.‏ والعين جمع عيناء وهي عظيمة العينين وأكثر الأخبار تدل على أنهن لسن نساء الدنيا، أخرج ابن أبي حاتم‏.‏ والطبراني عن أبي أمامة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق الحور العين من زعفران ‏"‏ وأخرج ابن مردويه‏.‏ والخطيب عن أنس بن مالك مرفوعاً نحوه، وأخرج ابن المبارك عن زيد بن أسلم قال‏:‏ إن الله تعالى لم يخلق الحور العين من تراب إنما خلقهن من مسك وكافور وزعفران‏.‏

وأخرج ابن مردويه‏.‏ والديلمي عن عائشة قالت‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حور العين خلقهن من تسبيح الملائكة عليهم السلام ‏"‏

وهذا إن صح لا يعارض ما قبله إذ لا بد عليه من أن يقال بتجسد المعاني فيجوز تجسد التسبيح وجعله جزأً مما خلقن منه، وقيل‏:‏ المراد بهن هنا نساء الدنيا وهن في الجنة حور عين بالمعنى الذي سمعت بل هن أجمل من الحور العين أعني النساء المخلوقات في الجنة من زعفران أو غيره ويعطي الرجل هناك ما كان له في الدنيا من الزوجات، وقد يضم إلى ذلك ما شاء الله تعالى من نساء متن ولم يتزوجن، ومن تزوجت بأكثر من واحد فهي لآخر أزواجها أو لأولهم إن لم يكن طلقها في الدنيا أو تخير فتختار من كان أحسنهم خلقاً معها أقوال صحح جمع منها الأول، وتعطى زوجة كافر دخلت الجنة لمن شاء الله تعالى‏.‏ وقد ورد أن آسية امرأة فرعون تكون زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقرأ عكرمة ‏{‏بِحُورٍ عِينٍ‏}‏ بازضافة وهي على معنى من أي بالحور من العين، وفي قراءة عبد الله ‏{‏الطرف عِينٌ‏}‏ والعياسء البيضاء تعلوها حمرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة‏}‏ يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه ولا يتخصص شيء منها بمكان ولا زمان ‏{‏ءَامنينع‏}‏ من الضرر أي ضرر كان، وهو حال من ضمير ‏{‏مَّا يَدَّعُونَ‏}‏ وكونه حالاً من الضمير في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِي جنات‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 52‏]‏ بعيد، وأبعد منه جعل ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ حينئذٍ صفة الحور والنون فيه ضمير النسوة ومنه يفعلن لما فيه من ارتكاب خلاف الظاهر مع عدم المناسبة للسياق‏.‏

وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الاولى‏}‏ جملة مستأنفة أو حالية وكأنه أريد أن يقال‏:‏ لا يذوقون فيها الموت البتة فوضع الموتة الأولى موضع ذلك لأن الموتة الماضية محال ذوقها في المستقبل فهو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل‏:‏ إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها، ونظيره قول القائل لمن يستسقيه‏:‏ لا أسقيك إلا الجمر وقد علم أن الجمر لا يسقى، ومثله قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 22‏]‏ فالاستثناء متصل والدخول فرضي للمبالغة، وضمير ‏{‏فِيهَا‏}‏ للجنات، وقيل‏:‏ هو متصل والمؤمن عند موته لمعاينة ما يعطاه في الجنة كأنه فيها فكأنه ذاق الموتة الأولى في الجنة، وقيل‏:‏ متصل وضمير ‏{‏فِيهَا‏}‏ للآخرة والموت أول أحوالها، ولا يخفى ما فيه من التفكيك مع ارتكاب التجوز، وقيل‏:‏ الاستثناء منقطع والضمير للجنات أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، والأصل اتصال الاستثناء، وقال الطبري‏:‏ إلا بمعنى بعد، والجمهور لم يثبتوا هذا المعنى لها، وقال ابن عطية‏:‏ ذهب قوم إلى أن إلا بمعنى سوى وضعفه الطبري‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ ليس تضعيفه بصحيح بل يصح المعنى بسوى ويتسق‏.‏ وفائدة الوصف تذكير حال الدنيا‏.‏

والداعي لما سمعت من الأوجه دفع سؤال يورد ههنا من أن الموتة الأولى مما مضى لهم في الدنيا وما هو كذلك لا يمكن أن يذوقوه في الجنة فكيف استثنيت‏؟‏ وقيل‏:‏ إن السئال مبني على أن الاستثناء من النفي إثبات فيثبت للمستثني الحكم المنفي عن المستثنى منه ومحال أن يثبت للموتة الأولى الماضية الذوق في الجنة، وأما على قول من جعله تكلماً بالباقي بعد الثنيا، والمعنى لا يذوقون سوى الموتة الأولى من الموت فلا إشكال فتأمل‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير ‏{‏لا‏}‏ مبنياً للمفعول، وقرأ عبد الله ‏{‏لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا يَعْقُوبَ الموت‏}‏ وجاء في الحديث النوم لأنه أخو الموت، أخرج البزار‏.‏ والطبراني في «الأوسط»‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في البعث بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ ‏"‏ قيل يا رسول الله أينام أهل الجنة‏؟‏ قال‏:‏ لا النون أخو الموت وأهل الجنة لا يموتون ولا ينامون ‏"‏

‏{‏ووقاهم عَذَابَ الجحيم‏}‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏ووقاهم‏}‏ مشدد القاف على المبالغة في التكثير في الوقاية لأن التفعيل لزيادة المعنى لا للتعدية لأن الفعل متعد قبله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏فَضْلاً مّن رَّبّكَ‏}‏ أي أعطوا كل ذلك عطاء وتفضلاً منه تعالى فهو نصب على المصدرية، وجوز فيه أن يكون حالاً ومفعولاً له، وأياً ما كان ففيه إشارة إلى نفي إيجاب أعمالهم الإثابة عليه سبحانه وتعالى‏.‏ وقرىء ‏{‏فَضَّلَ‏}‏ بالرفع أي ذلك فضل ‏{‏ذلك هُوَ الفوز العظيم‏}‏ لأنه فوز بالمطالب وخلاص من المكاره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِنَّمَا يسرناه‏}‏ أي فإنما سهلنا القرآن ‏{‏بِلَسَانِكَ‏}‏ أي بلغتك، وقيل‏:‏ المعنى أنزلناه على لسانك بلا كتابة لكونك أمياً، وهذا فذلكة وإجمال لما في السورة بعد تفصيل تذكيراً لما سلف مشروحاً فيها، فالمعنى ذكرهم بالكتاب المبين فإنما يسرناه بلسانك ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏ أي كي يفهموه ويتذكروا به ويعملوا بموجبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏فارتقب‏}‏ أي وأن لم يتذكروا فانتظر ما يحل بهم وهو تعميم بعد تخصيص بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارتقب يَوْمَ تَأْتِى السماء‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 10‏]‏ منتظرون ما يحل بك كما قالوا‏:‏ ‏{‏نتربص به ريب المنون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30‏]‏ وقيل‏:‏ معناه مرتقبون ما يحل بهم تهكماً، وقيل‏:‏ هو مشاكلة، والمعنى أنهم صائرون للعذاب، وفي الآية من الوعد له صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى، وقيل‏:‏ فيها الأمر بالمتاركة وهو منسوخ بآية السيف فلا تغفل‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ما ذكروه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 17‏]‏ إلى آخر القصة من تطبيق ذلك على ما في الأنفس، وهو مما يعلم ما ذكرناه في باب الإشارة من هذا الكتاب غير مرة فلا نطيل به، وقالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السموات والارض *وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خلقناهما إِلاَّ بالحق‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 38، 39‏]‏ إنه إشارة إلى الوحدة كقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏سَنُرِيهِمْ ءاياتنا فِى الافاق وَفِى أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 53‏]‏ وأفصح بعضهم فقال‏:‏ الحق هو عز وجل والباء للسببية أي ما خلقناهما إلا بسبب أن تكون مرايا لظهور الحق جل وعلا، ومن جعل منهم الباء للملابسة أنشد‏:‏

رق الزجاج وراقت الخمر *** فتشاكلا وتشابه الأمر فكأنما خمر ولا قدح

وكأنما قدح ولا خمر *** والعبارة ضيقة والأمر طور ما وراء العقل والسكوت أسلم، وقالوا في شجرة الزقوم‏:‏ هي شجرة الحرص وحب الدنيا تظهر يوم القيامة على أسوأ حال وأخبث طعم، وقالوا‏:‏ ‏{‏الموتة الاولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏ ما كان في الدنيا بقتل النفس بسيف الصدق في الجهاد الأكبر وهو المشار إليه بموتوا قبل أن تموتوا فمن مات ذلك الموت حيى أبداً الحياة الطيبة التي لا يمازجها شيء من ماء الألم الجسماني والروحاني وذلك هو الفوز العظيم، والله تعالى يقول الحق وهو سبحانه يهدي السبيل‏.‏

‏[‏سورة الجاثية‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏حم‏}‏ إن جعل اسماً للسورة فمحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هذا مسمى بحم، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏تَنزِيلُ الكتاب‏}‏ خبر بعد خبر على أنه مصدر أطلق على المفعول مبالغة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنَ الله العزيز الحكيم‏}‏ صلته أو خبر ثالث أو حال من ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ عاملها معنى الإشارة أو من ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ عاملها معنى الإشارة أو من ‏{‏الكتاب‏}‏ الذي هو مفعول معنى عاملها المضاف، وقيل‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ مبتدأ وهذا خبره والكلام على المبالغة أيضاً أو تأويل ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ بمنزل، والإضافة من إضافة الصفة لموصوفها، واعتبار المبالغة أولى أو المسمى به تنزيل الخ‏.‏ وتعقب بأن الذي يجعل عنواناً للموضوع حقه أن يكون قبل ذلك معلوم الانتساب إليه وإذ لا عهد بالتسمية بعد فحقها الاخبار بها، وجوز جار الله جعل ‏{‏حم‏}‏ مبتدأ بتقدير مضاف أي تنزيل حم و‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ المذكور خبره و‏{‏مِنَ الله‏}‏ صلته، وفيه إقامة الظاهر مقام المضمر إيذاناً بأنه الكتاب الكامل إن أريد بالكتاب السورة، وفيه تفخيم ليس في تنزيل حم تنزيل من الله، ولهذا لما لم يراع في حم السجدة هذه النكتة عقب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كتاب فُصّلَتْ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 3‏]‏ ليفيد هذه الفائدة مع التفنن في العبارة، وإن أريد الكتاب كله فللاشعار بأن تنزيله كإنزال الكل في حصول الغرض من التحدي والتهدي، فدعوى عراء هذا الوجه عن فائدة يعتد بها عراء عن إنصاف يعتد به‏.‏ وإن جعل تعديداً للحروف فلا حظ له من الإعراب وكان ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ خبر مبتدأ مضمر يلوح به ما قبله أي المؤلف من جنس ما ذكر تنزيل الكتاب أو مبتدأ خبره الظرف بعده على ما قاله جار الله، وقيل‏:‏ ‏{‏حم‏}‏ مقسم به ففيه حرف جر مقدر وهو في محل جر أو نصب على الخلاف المعروف فيه و‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ نعت مقطوع فهو خبر مبتدأ مقدر والجملة مستأنفة وجواب القسم قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِى السموات والارض لايات لّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وهو على ما تقدم استئناف للتنبيه على الآيات التكوينية، وجوز أن يكون ‏{‏تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 2‏]‏ مبتدأ وخبراً والجملة جواب القسم، وهو خلاف الظاهر، وقيل‏:‏ يدر ‏{‏حم‏}‏ على كونه مقسماً به مبتدأ محذوف الخبر أي حم قسمي ويكون ‏{‏تَنزِيلَ‏}‏ نعتاً له غير مقطوع، وعلى سائر الأوجه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ نعت للاسم الجليل‏.‏

وجوز الإمام كونه صفة للكتاب ءلا أنه رجح الأول بعد احتياجه إلى ارتكاب المجاز مع زيادة قرب الصفة من الموصوف فيه، وأوجبه أبوحيان لما في الثاني من الفصل بين الصفة والموصوف الغير الجائز‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِى السموات‏}‏ الخ يجوز أن يكون بتقدير مضاف أي إن في خلق السموات كما رواه الواحدي عن الزجاج لما أنه قد صرح به في آية أخرى والقرآن يفسر بعضه بعضاً، ويناسبه قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى خَلْقِكُمْ‏}‏ إلى آخره، ويجوز أن يكون على ظاهره وحينئذ يكون على أحد وجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ إن فيهما لآيات أي ما فيهما من المخلوقات كالجبال والمعادن والكواكب والنيرين وعلى هذا يكون قوله سبحانه ‏{‏وَفِى خَلْقِكُمْ‏}‏ من عطف الخاص على العام‏.‏ والثاني‏:‏ أن أنفسهما لآيات لما فيها من فنون الدلالة على القادر الحكيم جل شأنه، وهذا أظهر وهو أبلغ من أن يقال‏:‏ إن في خلقهما لآيات وإن كان المعنى آيلاً إليه، و‏{‏فِى خَلَقَكُمْ‏}‏ خبر مقدم وقوله سبحاه‏:‏ ‏{‏وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ‏}‏ عطف على خلق، وجوز في ‏{‏مَا‏}‏ كونها مصدرية وكونها موصولة إما بتقدير مضاف أي وفي خلق ما ينشره ويفرقه من دابة أو بدونه‏.‏

وجوز عطفه على الضمير المتصل المجرور بالإضافة وما موصولة لا غير على الظاهر، وهو مبني على جواز العطف على الضمير المتصل المجرور من غير إعادة الجار وذلك مذهب الكوفيين‏.‏ ويونس‏.‏ والأخفش؛ قال أبو حيان‏:‏ وهو الصحيح، واختاره الأستاذ أبو علي الشلوبين، ومذهب سيبويه‏.‏ وجمهور البصريين منع العطف المذكور سواء كان الضمير مجرور بالحرف أو بالإضافة لشدة الاتصال فأشبه العف على بعض الكلمة‏.‏

وذكر ابن الحاجب في «شرح المفصل» في باب الوقف منه أن بعض النحويين يجوزون العطف في المجرور بالإضافة دون المجرور بالحرف لأن اتصال المجرور بالمضاف ليس كاتصاله بالجار لاستقلال كل واحد منهما بمعناه فلم يشتد اتصاله فيه اشتداد مع الحرف وأجاز الجرمي‏.‏ والزيادي العطف إذا أكد الضمير المتصل بمنفصل نحو مررت بك أنت وزيد وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءايات‏}‏ مبتدأ مؤخر والجملة معطوفة على جملة ‏{‏إِنَّ فِى السموات‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏ الخ‏.‏ وقرأ أبي‏.‏ وعبد الله ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ باللام كذا في «البحر» ولم يبين أن آيات مرفوع أو منصوب، فإن كان منصوباً فاللام زائدة في اسم إن المتقدم عليه خبرها وهو أحد مواضع زيادته المطردة الكثيرة، وإن كان مرفوعاً فهي زائدة في المبتدأ ويقل زيادتها فيه، وحسن زيادتها هنا تقدم إن في الجملة المعطوف عليها فهو كقوله‏:‏

إن الخلافة بعدهم لذميمة *** وخلائف ظرف لمما أحقر

وقرأ زيد بن علي ‏{‏ءايَةً‏}‏ بالإفراد‏.‏ وقرأ الأعمش‏.‏ والجحدري‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ ويعقوب ‏{‏ءايات‏}‏ بالجمع والنصب على أنها عطف على ‏{‏ءايات‏}‏ السابق الواقع اسماً لأن و‏{‏فِى خَلَقَكُمْ‏}‏ معطوف على ‏{‏فِي السموات‏}‏ فكأنه قيل‏:‏ وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات ‏{‏لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏ أي من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هي عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏واختلاف اليل والنهار‏}‏ بالجر على إضمار في، وقد قرأ عبد الله بذكره‏.‏ وجاء حذف الجار مع إبقاء عمله كما في قوله‏:‏

إذا قيل أي الناس شر قبيلة *** أشارت كلبب بالأكف الأصابع

وحسن ما هنا ذكر الجار في الآيتين قبل‏.‏ وقرىء بالرفع على أنه مبتدأ خبره ‏{‏ءايات‏}‏ بعد، والمراد باختلافهما تعاقبهما أتفاوتهما طولاً وقصراً، وقيل‏:‏ اختلافهما في أن أحدهما نور والآخر ظلمة ‏{‏وَمَا أَنزَلَ الله‏}‏ عطف على ‏{‏اختلاف‏}‏ ‏{‏مّنَ السماء‏}‏ جهة العلو، وقيل‏:‏ السحاب، وقيل‏:‏ الجرم المعروف بضرب من التأويل‏.‏

‏{‏مِن رّزْقِ‏}‏ من مطر، وسمي رزقاً لأنه سببه فهو مجاز، ولو لم يؤل صح لأنه في نفسه رزق أيضاً‏.‏

‏{‏فَأَحْيَا بِهِ الارض‏}‏ بأن أخرج منها أصناف الزرع والثمرات والنبات، والسببية عادية اقتضتها الحكمة ‏{‏بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ يبسها وعرائها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها ‏{‏وَتَصْرِيفِ الرياح‏}‏ من جهة إلى أخرى ومن حال إلى حال، وتأخيره عن إنزال المطر مع تقدمه عليه في الوجوه إما للإيذان بأنه آية مستقلة حيث لو روعي الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح وإنزال المطر آية واحدة، وإما لأن كون التصريف آية ليس بمجرد كونه مبدأ لإنشاء المطر بل له ولسائر المنافع التي من جملتها سوق السفن في البحار‏.‏

وقرأ زيد بن علي‏.‏ وطلحة‏.‏ وعيسى ‏{‏وَتَصْرِيفِ الرياح‏}‏ بالأفراد ‏{‏ءايات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ بالرفع على أنه مبتدأ خبره ما تقدم من الجار والمجرور أعني ‏{‏فِى اختلاف‏}‏ على ما سمعت، والجملة معطوفة على ما قبلها‏.‏

وقيل‏:‏ إن ‏{‏اختلاف‏}‏ بالجر عطف على ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 4‏]‏ المجرور بفي قبله و‏{‏ءايات‏}‏ عطف على ‏{‏آيات‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 4‏]‏ السابق المرفوع بالابتداء، وفيه العطف على معمولي عاملين مختلفين، ومن الناس من يمنعة وهم أكثر البصريين، ومنهم من يجيزه وهم أكثر الكوفيين، ومنهم من يفصل فيقول‏:‏ وهو جائز في نحو قولك‏:‏ في الدار زيد والحجرة عمرو وغير جائز في نحو قولك‏:‏ زيد في الدار وعمر والحجرة لأن الأول يلي المجرور فيه العاطف فقام العاطف مقام الجار، والثاني لم يل فيه المجرور العاطف فكان فيه إضمار الجار من غير عوض، وتمام الكلام في هذه المسألة في محله؛ وقيل‏:‏ إن ‏{‏اختلاف‏}‏ عطف على المجرور قبل و‏{‏ءايات‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هي آيات؛ واختاره من لم يجوز العطف على معمولي عاملين ويقول بضعف حذف الجار مع بقاء عمله وإن تقدمه ذكر جار‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ ‏{‏ءايات‏}‏ مرفوع على التأكيد لآيات السابق وهم يعيدون الشيء إذا طال الكلام في الجملة للتأكيد والتذكير‏.‏

وتعقب بأن ذلك إنما يكون بعين ما تقدم واختلاف الصفات يدل على تغاير الموصوفات فلا وجه للتأكيد، وأيضاً فيه الفصل بين المعطوف المجرور والمعطوف عليه وبين المؤكد والمؤكد وهو إن جاز يورث تعقيداً ينافي فصاحة القرآن العظيم‏.‏ وقرأ ‏{‏ءايات‏}‏ هنا بالنصب من قرأها هناك به فهي مفعول لفعل محذوف أي أعني آيات، وقيل‏:‏ العاطف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واختلاف‏}‏ عطف اختلاف على المجرور بفي قبل وعطفها على اسم ‏{‏إن‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 3‏]‏ وهو مبني على جواز العطف على معمولي عاملين، وقال أبو البقاء‏:‏ هي منصوبة على التأكيد والتكرير لاسم إن نحو إن بثوبك دماً وبثوب زيد دماً، ومر آنفاً ما فيه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنها اسم إن مضمرة وهي قد تضمر ويبقى عملها، ذكر أبو حيان في الارتشاف في الكلام على إن من خير النار أو خيرهم زيد أن محمل بن يحيى بن المبارك اليزيدي ذهب إلى نصب خيرهم ورفع زيد فاسم إن محذوف وأو خيرهم منصوب بإضمار إن لدلالة إن المذكورة تقديره إن من خير الناس زيداً وإن خيرهم زيد‏.‏ وقد أقر الشاطبي تخريج النصب في الآية على ذلك لكن نقله السفاقسي عن أبي البقاء ورده بأن إن لا تضمر‏.‏

وقال ابن هشام في آخر الباب الرابع من المغني‏:‏‏:‏ إنه بعيد، والظاهر أنه لا بد عليه من إضمار الجار في ‏{‏اختلاف‏}‏ وحينئذ لا يخفى حاله، وسائر القراءات مروية هنا عمن رويت عنه فيما تقدم، وتنكير ‏{‏ءايات‏}‏ في الآيات للتفخيم كما وكيفا، والمعنى إن المنصفين من العباد إذ نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح علموا أنها مصنوعة وأنها لا بد لها من صانع فآمنوا بالله تعالى وأقروا، وإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال وهيئة إلى أخرى وفي خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا ايماناً وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس فإذا نظروا في سائر الحوادث التي تتجدد في كل وقت كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار وحياة الأرض بعد موتها وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً وشدة وضعفاً وحرارة وبرودة عقلوا واستحكم علمهم وخلص يقينهم كذا في «الكشاف» ومنه يعلم نكتة اختلاف الفواصل‏.‏

وفي «الكشف» أنه ذكر ما حاصله أنه على سبيل الترقي وهو يوافق ما عليه الصوفية وغيرهم من أن الايقان مرتبة خاصة في الايمان، ثم العقل لما كان مدارهما أي الايمان والايقان ونعني به العقل المؤيد بنور البصيرة جعله لخلوص الايقان من اعتراء الشكوك من كل وجه ففي استحكامه كل خير، وروعي في ترتيب الآيات ما روعي في ترتيب المراتب الثلاث من تقديم ما هو أقدم وجوداً، ولا يلزم أن تكون الآية الثانية أعظم من الأولى ولا الثالثة من الثانية لما ذكره من أن الجامع بين النظرين موقن وبين الثلاثة عاقل على أنها كذلك في تحصيل هذا الغرض فإن كانت أعظم من وجه رخر فلا بأس فإن النظر إلى حال نفسه وما هو من نوعه ثم جنسه من سائر الأناسي والحيوان للقرب والتكرر وكثرة العدد أدخل في انتفاء الشك وحصول اليقين وإن كان النظر في السماء والأرض أتم دلالة على كمال القدرة والعلم فذلك لا يضر ولا هو المطلوب ههنا ثم النظر إلى اختلاف المذكور أدل على استحكام ذلك اليقين من حيث أنه يتجدد حيناً فحيناً ويبعث على النظر والاعتبار كلما تجدد هذا، والتحقيق أن تمام النظر في الثاني يضطر إلى النظر في الأول لأن السموات والأرض من أسباب تكون الحيوان بوجه، وكذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين، أما على الأول فظاهر من أسباب تكون الحيوان بوجه، وكذلك النظر في الثالث يضطر إلى النظر في الأولين، أما على الأول فظاهر وأما على الثاني فلأنه العلة الغائية فلا بد من أن يكون جامعاً انتهى، وهو كلام نفيس جداً‏.‏

وقال الإمام في ترتيب هذه الفواصل‏:‏ أظن أن سببه أنه قيل إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين بل كنتم من طلاب الجزم واليقين فافهموا هذه الدلائل وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، ولا يخفى أنه فاته ذلك التحقيق ولم يختر الترقي وهو بالاختيار حقيق، والمغايرة بين ما هنا وما في سورة البقرة ‏(‏164‏)‏‏}‏ أعني ‏{‏إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والارض *واختلاف الليل والنهار والفلك التى تَجْرِى فِى البحر بِمَا يَنفَعُ الناس‏}‏ الآية للتفنن والكلام المعجز مملوء منه، وذكر الإمام في ذلك ما لا يهش له السامع فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآَيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ آيات الله‏}‏ مبتدأ وخبر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَتْلُوهَا عَلَيْكَ‏}‏ حال عاملها معنى الإشارة نحو ‏{‏هذا بَعْلِى شَيْخًا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 72‏]‏ على المشهور، وقيل‏:‏ هو الخبر و‏{‏الله إِلاَّ‏}‏ بدل أوعطف بيان وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بالحق‏}‏ حال من فاعل ‏{‏نَتْلُوهَا‏}‏ أو من مفعوله أي نتلوها محقين أو ملتبسة بالحق فالباء للملابسة ويجوز أن تكون للسببية الغائية، والمراد بالآيات المشار إليها إما آيات القرآن أو السورة أو ما ذكر قبل من السموات والأرض وغيرهما فتلاوتها بتلاوة ما يدل عليها، وفسرت بالسرد أي نسردها عليك‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ الكلام بتقدير مضاف أي نتلوا شأنها وشأن العبرة بها‏.‏ وقرىء ‏{‏يتلوها‏}‏ بالياء على أن الفاعل ضميره تعالى والمراد على القراءتين تلاوتها عليه صلى الله عليه وسلم بواسطة الملك عليه السلام ‏{‏يَعْقِلُونَ تَلْكَ ءايات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق‏}‏ هو من باب قولهم‏:‏ أعجبني زيد وكرمه يريدون أعجبني كرم زيد إلا أنهم عدلوا عنه للمبالغة في الإعجاب أي فبأي حديث بعد هذه الآيات المتلوة بالحق يؤمنون، وفيه دلالة على أنه لا بيان أزيد من هذا البيان ولا آية أدل من هذه الآية، وتفخيم شأن الآيات من اسم الإشارة وإضافتها إلى الله عز وجل، وجعل ‏{‏نَتْلُوهَا‏}‏ حالاً مع ضمير التعظيم ثم تكرير الاسم الجليل للنكتة المذكورة وإضافتها إليه بواسطة الضمير مرة أخرى، وقد ذكر ذلك الزمخشري وتعقبه أبو حيان بأنه ليس بشيء لأن فيه من حيث المعنى إقحام الأسماء من غير ضرورة والعطف، والمراد غير العفط من إخراجه إلى باب البدل لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في أعجبني زيد كرمه بغير واو على البدل وهذا قلب لحقائق النحو، وإنما المعنى في المثال أن ذات زيد أعجبته وأعجبه كرمه فهما إعجابان لا إعجاب واحد وهو مبني على عدم التعمق في فهم كلام جار الله‏.‏

ومن تعمق فيه لا يرى أنه قائل بالإقحام وإنما بيان حاصل المعنى يوهمه، وبين هذه الطريقة وطريقة البدل مغايرة تامة، فقد ذكر أن فائدة هذه الطريقة وهي طريقة إسناد الفعل إلى شيء والمقصود إسناده إلى ما عطف عليه قوة اختصاص المعطوف بالمعطوف عليه من جهة الدلالة على أنه صار من التلبس بحيث يصح أن يسند أوصافه وأفعاله وأحواله إلى الأول قصداً لأنه بمنزلته ولا كذلك البدل لأن المقصود فيه بالنسبة هو الثاني فقط وهنا هما مقصودان، فإن قلت‏:‏ إذا لم يكن ذلك الوصف منسوباً للمعطوف عليه لزم إقحامه كما قال أبو حيان، وما يذكر من المبالغة لا يدفع المحذور، وعلى فرض تسليمه فدلالته على ما ذكر بأي طريق من طرق الدلالة المشهورة‏.‏

أجيب بأنه غير منسوب إليه في الواقع لكن لما كان بينهما ملابسة تامة من جهة ما ككون الآيات ههنا بإذنه تعالى أو مرضية له عز وجل جعل كأنه المقصود بالنسبة وكنى بها عن ذلك الاختصاص كناية إيمائية ثم عطف عليه المنسوب إليه وجعل تابعاً فيها وبهذا غاير البدل مغايرة تامة غفل عنها المعترض فالنسبة بتمامها مجازية كذا قرره بعض المحققين‏.‏

وقال الواحدي‏:‏ أي فبأي حديث بعد حديث الله أي القرآن وقد جاء إطلاقه عليه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏ وحسن الإضمار لقرينة تقدم الحديث، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وءاياته‏}‏ عطف عليه لتغايرهما إجمالاً وتصيلاً لأن الآيات هي ذلك الحديث ملحوظ الأجزاء، وإن أريد ما بين فيه من الآيات والدلائل فليس من عطف الخاص على العام لأن الآيات ليست من القرائن وإنما وجه دلالتها وإيرادها منه فيكون في هذا الوجه الدلالة أيضاً على حال البيان والمبين كما في الوجه الأول، وقال الضحاك‏:‏ أي فبأي حديث بعد توحيد الله ولا يخفى أنه بظاهره مما لا معنى له فلعله أراد بعد حديث توحيده تعالى أي الحديث المتضمن ذلك أو هو بعد تقدير المضاف من باب أعجبني زيد وكرمه، وأياً ما كان فالفاء في جواب شرط مقدر والظرف صفة ‏{‏حَدِيثُ‏}‏ وجوز أن يكون متعلقاً بيؤمنون قدم للفاصلة‏.‏

وقرأ ابن عامر‏.‏ وأبو بكر‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏تُؤْمِنُونَ‏}‏ بالتاء الفوقانية وهو موافق لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِى خَلْقِكُمْ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 4‏]‏ بحسب الظاهر والصورة وإلا فالمراد هنا الكفار بخلاف ذلك‏.‏

وقرأ طلحة ‏{‏تُوقِنُونَ‏}‏ بالتاء الفوقانية والقاف من الإيقان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَيْلٌ لّكُلّ أَفَّاكٍ‏}‏ كثير الإفك أي الكذب ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ كثير الإثم، والآية نزلت في أبي جهل، وقيل‏:‏ في النضر بن الحرث وكان يشتري حديث الأعاجم ويشغل به الناس عن استماع القرآن لكنها عامة كما هو مقتضي كل ويدخل من نزلت فيه دخولاً أولياً، و‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ صفة ‏{‏أَفَّاكٍ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْمَعُ ءايات الله‏}‏ صفة أخرى له، وقيل استئناف، وقيل حال من الضمير في ‏{‏أَثِيمٍ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تتلى عَلَيْهِ‏}‏ حال من ‏{‏الله إِلاَّ‏}‏ ولم يجوز جعله مفعولاً ثانياً ليسمع لأن شرطه أن يكون ما بعده مما لا يسمع كسمعت زيداً يقرأ، والظاهر أن المراد بتتلى الاستمرار لأنه المناسب للاستبعاد المدلول عليه بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ يُصِرُّ‏}‏ فإن ثم لاستبعاد الإصرار بعد سماع الآيات وهي للتراخي الرتبي ويمكن إبقاؤه على حقيقته إلا أن الأول أبلغ وأنسب بالمقام، ونظير ذلك في الاستبعاد قول جعفر بن علية‏:‏

لا يكشف الغماء إلا ابن حرة *** يرى غمرات الموت ثم يزورها

والإصرار على الشيء ملازمته وعدم الانفكاك عنه من الصر وهو الشد ومنه صرة الدراهم، ويقال‏:‏ صر الحمار أذنيه ضمهما صراً وأصر الحمار ولا يقال أذنيه على ما في «الصحاح» وكأن معناه حينئذ صار صاراً أذنيه‏.‏

والمراد هنا ثم يقيم على كفره وضلاله ‏{‏مُسْتَكْبِراً‏}‏ عن الايمان بالآيات وهو حال من ضمير ‏{‏يُصِرُّ‏}‏ وقوله سبحانه ‏{‏كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا‏}‏ حال بعد حال أو حال من ضمير ‏{‏مُسْتَكْبِراً‏}‏ وجوز الاستئناف، و‏{‏كَانَ‏}‏ مخففة من كأن بحذف إحدى النونين واسمها ضمير الشأن، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى تقديره كما في أن المفتوحة، والمعنى يصر مستكبراً مثل غير السامع لها ‏{‏فَبَشّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ على إصراره ذلك، والبشارة في الأصل الخبر المغير للبشرة خيراً كان أو شراً، وخصها العرف بالخبر السار فإن أريد المعنى العرفي فهو استعارة تهكمية أو هو من قبيل‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع‏.‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آَيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءاياتنا شَيْئاً‏}‏ وإذا بلغه شيء من آياتنا وعلم أنه منها‏.‏

‏{‏اتخذها هُزُواً‏}‏ بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه، وجوز أن يكون المعنى وإذا علم من آياتنا شيئاً يمكن أن يتشبث به المعاند ويجد له محملاً يتسلق به على الطعن والغميزة افترصه واتخذ آيات الله تعالى هزواً وذلك نحو اعتراض ابن الزبعري في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 98‏]‏ ومغالطته رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله على ما بعض الروايات‏:‏ خصمتك فضمير ‏{‏اتخذها‏}‏ على الوجهين للآيات، والفرق بينهما أن ‏{‏شَيْئاً‏}‏ على الثاني فيه تخصيص لقرينة ‏{‏اتخذها هُزُواً‏}‏ إذ لا يحتمل إلا ما يحسن أن يخيل فيه ذلك ثم يجعله دستوراً للباقي فيقول‏:‏ الكل من هذا القبيل، وفرق بين الوجهين أيضاً بأن الأول الاتخاذ قبل التأمل وفي الثاني بعده وبعد تمييز آية عن أخرى، وقيل‏:‏ الاستهزاء بما علمه من الآيات إلا أنه أرجع الضمير إلى الآيات لأن الاستهزاء بواحدة منها استهزاء بكلها لما بينها من التماثل، وجوز أن يرجع الضمير إلى شيء والتأنيث لأنه بمعنى الآية كقول أبي العتاهية‏:‏

نفسي بشيء من الدنيا معلقة *** الله والقائم المهدي يكفيها

يعني الشيء وأراد به عتبة جارية للمهدي من حظاياه وكان أبو العتاهية يهواها فقال ما قال‏.‏ وقرأ قتادة‏.‏ ومطر الوراق ‏{‏عِلْمٍ‏}‏ بضم العين وشد اللام مبنياً للمفعول ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى ‏{‏كل أفاك‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 7‏]‏ من حيث الاتصاف بما ذكر من القبائح، والجمع باعتبار الشمول للكل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 32‏]‏ كما أن الأفراد فيما سبق من الضمائر باعتبار كل واحد واحد، وأداة البعد للإشارة إلى بعد منزلتهم في الشر‏.‏

‏{‏لَهُمْ‏}‏ بسبب جناياتهم المذكورة ‏{‏عَذَابٌ مُّهِينٌ‏}‏ وصف العذاب بالإهانة توفية لحق استكبارهم واستهزائهم بآيات الله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏مّن وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ‏}‏ أي من قدامهم لأنهم متوجهون إليها أو من خلفهم لأنهم معرضون عن الالتفات إليها والاشتغال عما ينجيهم منها مقبلون على الدنيا والانهماك في شهواتها، والوراء تستعمل في هذين المعنيين لأنها اسم للجهة التي يواريها الشخص فتعم الخلف والقدام، وقيل في توجيه الخلفية‏:‏ إن جهنم لما كانت تتحقق لهمبعد الأجل جعلت كأنها خلفهم ‏{‏وَلاَ يُغْنِى عَنْهُم‏}‏ ولا يدفع ‏{‏مَّا كَسَبُواْ‏}‏ أي الذي كسبوه من الأموال والأولاد ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من عذاب الله تعالى أو شيئاً من الإغناء على أن ‏{‏شَيْئاً‏}‏ مفعول به أو مفعول مطلق ‏{‏وَلاَ مَا اتخذوا‏}‏ أي الذي اتخذوه ‏{‏مِن دُونِ الله أَوْلِيَاء‏}‏ أي الأصنام‏.‏

وجوز أن تفسر ‏{‏مَا‏}‏ بما تعمها وسائر المعبودات الباطلة، والأول أظهر، وجوز في ‏{‏مَا‏}‏ في الموضعين أن تكون مصدرية، وتوسيط حرفي النفي بين المعطوفين مع أن عدم إغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إغناء الأموال والأولاد قطعاً مبني على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم ‏{‏وَلَهُمْ‏}‏ فيما وراءهم من جهنم ‏{‏عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ لا يقادر قدره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏هذا‏}‏ أي القرآن كما يدل عليه ما بعد وكذا ماقبل ك ‏{‏يسمع آيات الله‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 8‏]‏ و‏{‏إذا علم من آياتنا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 9‏]‏ و‏{‏تِلْكَ آيات الله نَتْلُوهَا‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 6‏]‏ ‏{‏هُدًى‏}‏ في غاية الكمال من الهداية كأنه نفسها ‏{‏والذين كَفَرُواْ بئايات رَبّهِمْ‏}‏ يعني القرآن أيضاً على أن الإضافة للعهد، وكان الظاهر الإضمار لكن عدل عنه إلى ما في النظم الجليل لزيادة تشنيع كفرهم به وتفظيع حالهم، وجوزأن يراد بالآيات ما يشمله وغيره‏.‏

‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ‏}‏ من أشد العذاب ‏{‏أَلِيمٌ‏}‏ بالرفع صفة ‏{‏عَذَابِ‏}‏ أخر للفاصلة‏.‏

وقرأ غير واحد من السبعة ‏{‏أَلِيمٌ‏}‏ بالجر على أنه صفة ‏{‏رِجْزَ‏}‏، وجعله صفة ‏{‏عَذَابِ‏}‏ أيضاً والجر للمجاورة مما لا ينبغي أن يلتفت إليه، وقيل‏:‏ على قراءة الرفع إن الرجز بمعنى الرجس الذي هو النجاية، والمعنى لهم عذاب أليم من تجرع رجس أو شرب رجس والمراد به الصديد الذي يتجرعه الكافر ولا يكاد يسيغه ولا داعي لذلك كما لا يخفى، وتنوين ‏{‏عَذَابِ‏}‏ في المواقع الثلاثة للتفخيم، ورفعه إما على الابتداء وإما على الفاعلية للظرف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏الله الذى سَخَّرَ لَكُمُ البحر‏}‏ بأن جعله أملس السطح يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب ولا يمنع الغوص فيه ‏{‏لِتَجْرِىَ الفلك فِيهِ بِأَمْرِهِ‏}‏ بتسخيره تعالى إياه وتسهيل استعمالها فيما يراد بها، وقيل‏:‏ بتكوينه تعالى أو بإذنه عز وجل، وسياق الامتنان يقتضي أن يكون المعنى لتجري الفلك فيه وأنتم راكبوها‏.‏

‏{‏وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ بالتجارة والغوص والصيد وغيرها ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ولكي تشكروا النعم المترتبة على ذلك، وهذا أعني ‏{‏الله الذى سَخَّرَ‏}‏ الخ ذرك تتميماً للتقريع ولهذا رتب عليه الأغراض العاجلة فإنه مما يستوجب الشكر غالباً للكافر أيضاً فكأنه قيل‏:‏ تلك الآيات أولى بالشكر ولهذا عقب بما يعم القسمين أعني قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِى السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ أي من الموجودات بأن جعل فيها منافع لكم منها ظاهرة ومنها خفية، وعقب بالتفكر لينبه على أن التفكر هو الذي يؤدي إلى ما ذكر من الأولوية ويدل به على أن التفكر ملاك الأمر في ترتيب الغرض على ما جعل آية من الايمان والإيقان والشكر ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ حال من ‏{‏مَا فِي السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ أو توكيد له وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْهُ‏}‏ حال من ذلك أيضاً، والمعنى سخر هذه الأشياء جميعاً كائنة منه وحاصلة من عنده يعني أنه سبحانه مكونها وموجودها بقدرته وحكمته ثم مسخرها لخلقه‏.‏

وجوز فيه أوجه أخر‏.‏ الأول أن يكون خبر مبتدأ محذوف فقيل «جميعا» حينئذ حال من المضير المستتر في الجار والمجرور بناء على جواز تقدم الحال على مثل هذا العامل أو من المبتدأ بناء على تجويز الحال منه أي هي جميعاً منه تعالى وقيل‏:‏ جميعاً على ما كان ويلاحظ في تصوير المعنى فالضمير المبتدأ يقدر بعده ويعتبر رجوعه إلى ما تقدم بقيد جميعاً، والجملة على القولين استئناف جيء به تأكيداً لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَخَّرَ‏}‏ أي أنه عز وجل أوجدها ثم سخرها لا أنها حصلت له سبحانه من غيره كالملوك، الثاني أن يجعل ‏{‏ما في السموات‏}‏ مبتدأ ويكون هو خبره و‏{‏جَمِيعاً‏}‏ حال من الضمير المستتر في الجار والمجرور والواقع صلة ويكون ‏{‏وَسَخَّرَ لَكُمُ‏}‏ تأكيداً للأول أي سخر وسخر، وفي العطف إيماء إلى أن التسخير الثاني كأنه غير الأول دلالة على أن المتفكر كلما فكر يزداد إيماناً بكمال التسخير والمنة عليه، وجملة ‏{‏مَا فِي السموات‏}‏ الخ مستأنفة لمزيد بيان القدرة والحكمة‏.‏

واعترض بأنه إن أريد التأكيد اللغوي فهو لا يخلو من الضعف لأن عطف مثله في الجمل غير معهود، وإن أريد التأكيد الاصطلاحي كما قيل به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 3، 4‏]‏ فهو مخالف لما ذكره ابن مالك في التسهيل من أن عطف التأكيد يختص بثم، وقال الرضى‏:‏ يكون بالفاء أيضاً وهو ههنا بالواو ولم يجوزه أحد منهم وان لم يذكروا وجه الفرق على أنه قد تقرر في المعاني أنه لا يجري في التأكيد العطف مطلقاً لشدة الاتصال، واعترض أيضاً بأن فيه حذف مفعول ‏{‏سَخَّرَ‏}‏ من غير قرينة وهذا كما ترى، الثالث أن يكون ‏{‏مَّا فِى الارض‏}‏ مبتدأ و‏{‏مِنْهُ‏}‏ خبره ولا يخفى أنه ضعيف بحسب المساق‏.‏

وأخرج ابن المنذر من طريق عكرمة أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لم يكن يفسر هذه الآية، ولعله ان صح محمول على أنه لم يبسط الكلام فيها، فقد أخرج ابن جرير عه أنه قال فيها كل شيء هو من الله تعالى‏.‏

وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حيمد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي في الأسماء والصفات عن طوس قال‏:‏ جاء رجل إلى عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله ممن خلق الخلق‏؟‏ قال‏:‏ من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال‏:‏ فمم خلق هؤلاء‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري ثم أتى الرجل عبد الله بن الزبير فسأل فقال مثل قول عبد الله بن عمرو فاتي ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فسأله مم خلق الخلق‏؟‏ قال‏:‏ من الماء والنور والظلمة والريح والتراب قال‏:‏ فمم خلق هؤلاء‏؟‏ فقرأ ابن عباس ‏{‏وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه‏}‏ فقال الرجل‏:‏ ما كان ليأتي بهذا الارجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

واختلف أهل العلم فيما أراد ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بذلك فقال البيهقي‏:‏ أراد أن مصدر الجميع منه تعالى أي من خلقه وابداعه واختراعه خلق الماء أولاً أو الماء وما شاء عز وجل من خلقه لا عن أصل ولا عن مثال سبق ثم جعله تعالى أصلاً لما خلق بعده فهو جل شأنه المبدع وهو سبحانه البارىء لا إله غيره ولا خالق سواه اه، وعليه جميع المحدثين والمفسرين ومن حذا حذوهم، وقال الشيخ إبراهيم الكوارني من الصوفية‏:‏ إن المخلوقات تعينات الوجود المفاض الذي هو صورة النفس الرحماني المسمى بالعماء وذلك أن العماء قد انبسط على الحقائق التي هي أمرو عدمية متميزة في نفس الأمر والانبساط حادث والعماء من حيث اقترانه بالماهيات غير ذات الحق تعالى فإنه سبحانه الوجود المحض الغير المقترن بها فالموجودات صور حادثة في العماء قائمة به والله تعالى قيومها لأنه جل وعلا الأول الباطن الممد لتلك الصور بالبقاء ولا يلزم من ذكل قيام الحوادث بذات الحق تعالى ولا كونه سبحانه مادة لها لأن وجوده تعالى مجرد عن الماهيات غير مقترن بها والمتعين بحسبها هو العماء الذي هو الوجود المفاض فأراد ابن عباس أن الأشياء جميعا منه تعالى أي من نوره سبحانه المضاف الذي هو العماء والوجود المفاض منه تعالى بآيجاده جل شأنه، وبهذا ينطبق الجواب على السؤال من غير تكلف ولا محذور، ولو كان مراد ابن عباس مجرد ما ذكره البيهقي من أن مصدر الجميع من خلقه تعالى كان يكفي في ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏ لكن السؤال إنما وقع بمم ووقع الجواب بمنه في تلاوته الآية فالظاهر أن ما فهمه السائل من تلاوته رضي الله تعالى عنه ليس مجرد ما ذكره بقرينة مدحه بقوله‏:‏ ما كان ليأتي بهذا الخ فإن ما ذكره البيهقي يعرفه كل من آمن بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله خالق كُلّ شَىْء‏}‏ فلا يظهر حينئذ وجه لقول كل من ابن عمرو‏.‏

وابن الزبير لا أدري فإنهما من أفضل المؤمنين بأن الله تعالى خالق كل شيء بل ما فهمه هو ما أشرنا إليه اه، وعليه عامة أهل الوحدة ‏{‏أُرْسِلَ الاولون‏}‏ بأن مراد ابن عباس قطع التسليل في السؤال بعد ذكر مادة لبعضها بأن مرجع الأمر أن الأشياء كلها خلقت بقدرته تعالى لا من شيء وهو كلام حكيم يمدح قائله لم يهتد إليه ابن الزبير‏.‏ وابن عمرو، ولا يعكر على هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 35‏]‏ لما قاله المفسرون فيه وسيأتي إن ساء الله تعالى في محله فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، وقد أورد الحسين بن علي بن واقد في مجلس الرشيد هذه الآية رداً على بعض النصارى في زعمه ان قوله تعالى في عيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏وروحٌ منه‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 171‏]‏ يدل على ما يزعمه فيه عليه السلام من أنه ابن الله سبحانه وتعالى عما يصفون‏.‏

وحكى أبو الفتح‏.‏ وصاحب اللوامح عن ابن عباس‏.‏ وعبد الله بن عمرو‏.‏ والجحدري‏.‏ وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهم قرؤوا «منة» بكسر الميم وشد النون ونصب التاء على أنه مفعول له أي سخر لكم ذلك نعمة عليكم، وحكاها عن ابن عباس أيضاً ابن خالويه‏.‏ ولكن قال أبو حاتم‏:‏ إن سند هذه القراءة إليه مظلم فإذا صح السند يمكن أن يقال فيما تقدم من حديث طاوس‏:‏ إنه ذكر الآية على قراءة الجمهور ويحتمل أن له قراءتين فيها‏.‏

وقرأ مسلمة بن محارب كذلك إلا أنه ضم التاء على تقدير هو أو هي منة، وعنه أيضاً فتح الميم وشد النون وهاء الكتابة عائدة على الله تعالى أي انعامه وهو فاعل «سخر» على الإسناد المجازي كما تقول‏:‏ كرم الملك أنعشني أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هذا أو هو منه تعالى، وجوزت الفاعلية في قراءته الأولى، وتذكير الفعل لأن الفاعل ليس مؤنثاً حقيقياً مع وجود الفاصل، والوجه الأول أولى وإن كان فيه تقدير ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ أي فيما ذكر ‏{‏لاَيَاتٍ‏}‏ عظيمة الشأن كثيرة العدد ‏{‏لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ في بدائع صنعه تعالى وعظائم شأنه جل شأنه فإن ذلك يجرهم إلى الإيمان والإيقان والشكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لّلَّذِينَ ءامَنُواْ يَغْفِرُواْ‏}‏ حذف المقول لدلالة «يغفروا» عليه فإنه جواب للأمر باعتبار تعلقه به لا باعتبار نفسه فقط أي قل لهم اغفروا يغفروا ‏{‏لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله‏}‏ أي يعفوا ويصفحوا عن الذين لا يتوقعون وقائعه تعالى باعدائه ونقمته فيهم فالرجل مجاز عن التوقع وكذا الأيام مجاز عن الوقائع من قولهم‏:‏ أيام العرب لوقائعها وهو مجاز مشهور وروي ذلك عن مجاهد أولاً يأملون الأوقات التي وقتها الله تعالى لثواب المؤمنين ووعدهم الفوز فيها، والآية قيل نزلت قبل آية القتال ثم نسخت بها‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لا نسخ لأن المراد هنا ترك النزاع في المحقرات والتجاوز عن بعض ما يؤذي ويوحش، وحكى النحاس‏.‏ والمهدوي عن ابن عباس أنها نزلت في عمر رضي الله تعالى عنه ستمه مشرك بمكة قبل الهجرة فهم أن يبطش به فنزلت وروي ذلك عن مقاتل وهذا ظاهر في كونها مكية كاخواتها‏.‏ وارادة فهم أن يبطش به بعد الهجرة لأن المسلمين بمكة قبلها عاجزون مقهورون لا يمكنهم الانتصار من المشركين والعاجز لا يأمر بالعفو والصفح غير ظاهر محتاج إلى نقل، ودوام عجز كل من المسلمين غير معلوم بل من وقف على أحوال أبي حفص رضي الله تعالى عنه لا يتوقف في أنه قادر على ما هم به لا يبالي بما يترتب عليه‏.‏

وهذا أولى في الجواب من أن يقال‏:‏ إن الأمر بفعل ذلك بينه وبين الله تعالى بقلبه ليثاب عليه، نعم قيل‏:‏ إن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر يقال له المريسيع فأرسل ابن أبي غلامه ليستقي فأبطأ عليه فلما أتاه قال له‏:‏ ما حبسك‏؟‏ قال‏:‏ غلام عمر قعد على طرف البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي صلى الله عليه وسلم وقرب أبي بكر رضي الله تعالى عنه قال ابن أبي‏:‏ ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل سمن كلبك بأكلك فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فاشتمل سيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى الآية؛ وحكاه الإمام عن ابن عباس وهو يدل على أنها مدنية، وكذا ما روي عن ميمون بن مهران قال‏:‏ إن فنحاصا اليهودي قال‏:‏ لما أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 245‏]‏ احتاج رب محمد فسمع بذلك عمر رضي الله تعالى عنه فاشتمل سيفه وخرج فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه حتى رده ونزلت الآية ليَجْزيَ قَوْماً بمعا كَانُوا يعكْسبُونَ‏}‏ تعليل للأمر بالمغفرة، وجوز أن يكون تعليلاً للأمر بالقول لأنه سبب لامتثالهم المجازي عليه، والمراد بالقوم المؤمنون الغافرون والتكير للتعظيم، ولفظ القوم في نفسه اسم مدح على ما يرشد إليه الاشتقاق والاستعمال في نحو يا ابن القوم‏.‏

وفي هذا التنكير كمال التعريف والتنبيه على أنهم لا يخفون نكروا أو عرفوا مع العلم بأن المجزي لا يكون إلا العامل وهو الغافر ههنا أي أمروا بذلك ليجزي الله تعالى يوم القيامة قوماً أيما قوم وقوماً مخصوصين بما كسبوا في الدنيا من الأعمال الحسنة التي من جملتها الصبر على أذية الكفار والأغضاء عنهم بكظم الغيظ واحتمال المروه ما لا يحيط به نطاق البيان من الثواب العظيم، ومنهم من خص ما كسبوه بالمغفرة والصبر على الأذية، و‏{‏مَا‏}‏ في الوجهين موصولة وجوز أن تكون مصدرية، والباء للسببية أو للمقابلة أو صلة يجزي، وجوز أن يراد بالقوم الكفرة وبما كسبوا سيآتهم التي من جملتها إيذاؤهم المؤمنين والتنكير للتحقير‏:‏ وتعقب بأن مطلق الجزاء لا يصلح تعليلاً للأمر بالمغفرة لتحققه على تقديري المغفرة وعدمها فلا بد من تخصيصه بالكل بأن لا يتحقق بعض منه في الدنيا أو بما يصدر عنه تعالى بالذات، وفي ذلك من التكلف ما لا يخفى، وأن يراد كلا الفريقين والتنكير للشيوع، وتعقب بأنه أكثر تكلماً وأشد تمحلاً، والذي يشهد للوجه السابق ما روي عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ كنا بين يدي عمر رضي الله تعالى عنه فقرأ قارىء هذه الآية فقال‏:‏ ليجزي عمر بما صنع، وقرأ زيد بن علي‏.‏ وأبو عبد الرحمن‏.‏ والأعمش‏.‏ وأبو خليد‏.‏ وابن عامر‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏لنجزي‏}‏ بنون العظمة، وقرىء ‏{‏الارض لِيَجْزِىَ‏}‏ بالياء والبناء للمفعول ‏{‏قَوْمٌ‏}‏ بالرفع على أنه نائب الفاعل، وقرأ سيبة‏.‏ وأبو جعفر بخلاف عنه كذلك إلا إنهما نصباً ‏{‏قَوْماً‏}‏ وروي ذلك عن عاصم، واحتج به من يجوز نيابة الجار والمجرور عن الفاعل مع وجود المفعول الصريح فيقول‏:‏ ضرب بسوط زيداً فبما كسبوا نائب الفاعل ههنا ولا يجيز ذلك الجمهور، وخرجت هذه القراءة على أن القائم مقام الفاعل ضمير المصدر أي ليجزي هو أي الجزاء‏.‏ ورد بأنه لا يبقام مقماه عند وجود المفعول به أيضاً على الصحيح، وأجازه الكوفيون على خلاف في الإطلاق والاستحسان أو على أنه ضمير المفعول الثاني وهو الجزاء بمعنى المجزي به كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبّهِمْ جنات عَدْنٍ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏ 8‏]‏ وأضمر لدلالة السياق كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاِبَوَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 11‏]‏ والمفعول الثاني في باب أعطى يقوم مقام الفاعل بلا خلاف وهذا من ذاك، وأبو البقاء اعتبر الخير بدل الجزاء المذكور أو على أن ‏{‏قَوْماً‏}‏ منصوب بأعني أو جزي مضمراً لدلالة المجهول على أن ثم جازياً واختاره أبو حيان، و‏{‏لِيَجْزِىَ‏}‏ حينئذ من باب يعطي ويمنع وحيل بين العير والنزوان فمعناه ليفعل الجزاء ويكون هناك جملتان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا‏}‏ لا يكاد يسري عمل إلى غير عامله ‏{‏ثُمَّ إلى رَبّكُمْ‏}‏ مالك أموركم ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ فيجازيكم على أعمالكم حسبما تقتضيه الحكمة خيراً على الخير وشراً على الشر، والجملة مستأنفة لبيان كيفية الجزاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا بَنِى إسراءيل الكتاب‏}‏ وهو التوراة على أن التعريف للعهد، وجوز جعله للجنس ليشمل الزبور والإنجيل ولا يضر في ذلك كون الزبور أدعية ومناجاة والإنجيل أحكامه قليلة جداً ومعظم أحكام عيسى عليه السلام من التوراة لأن إيتاء الكاتب مطلقاً منة ‏{‏والحكم‏}‏ القضاء وفصل الأمور بين الناس لأن الملك كان فيهم واختاره أبو حيان، أو الفقه في الدين ويقال‏:‏ لم يتسع فقه الأحكام على نبي ما اتسع على لسان موسى عليه السلام، أو الحكم النظرية الأصلية والعملية الفرعية ‏{‏والنبوة‏}‏ حيث كثر فيهم الأنبياء عليهم السلام ما لم يكثر في غيرهم ‏{‏وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات‏}‏ المستلذات الحلال وبذلك تتم النعمة وذلك كالمن والسلوى ‏{‏وفضلناهم عَلَى العالمين‏}‏ حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم من فلق البحر واظلال الغمام ونظائرهما فالمراد تفضيلهم على العالمين مطلقاً من بعض الوجوع لا من كلها ولا من جهة المرتبة والثواب فلا ينافي ذلك تفضيل أمة محمد صلى الله عليه وسلم عليهم من وجه آخر ومن جهة المرتبة والثواب، وقيل‏:‏ المراد بالعالمين عالمو زمانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وءاتيناهم بينات مّنَ الامر‏}‏ دلائل ظاهرة في أمر الدين فمن بمعنى في والبينات الدلائل ويندرج فيها معجزات موسى عليه السلام وبعضهم فسرها بها، وعن ابن عباس آيات من أمر النبي صلى الله عليه وسلم وعلامات مبينة لصدقه عليه الصلاة والسلام ككونه يهاجر من مكة إلى يثرب ويكون أنصاره أهلها إلى غير ذلك مما ذكر في كتبهم ‏{‏فَمَا اختلفوا‏}‏ في ذلك الأمر ‏{‏إِلاَّ مِن بَعْدِ حتى جَاءهُمُ العلم‏}‏ بحقيقة الحال فجعلوا ما ويجب زوال الخلاف موجباً لرسوخه ‏{‏بَغْياً بَيْنَهُمْ‏}‏ عداوة وحسداً لا شكا فيه ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِى بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيمة‏}‏ بالمؤاخذة والجزاء ‏{‏فِيمَا كَانُواْ يَخْتَلِفُونَ‏}‏ من أمر الدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ جعلناك على شَرِيعَةٍ‏}‏ أي سنة وطريقة من شرعه إذا سنه ليسلك، وفي البحر الشريعة في كلام العرب الموضع الذي يرد منه الناس في الأنهار ونحوها فشريعة الدين من ذلك من حيث يرد الناس منها أمر الله تعالى ورحمته والقرب منه عز وجل، وقال الراغب‏:‏ الشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له شرع وشرعة وشريعة واستعير ذلك للطريقة الإلهية من الدين ثم قال‏:‏ قال بعضهم سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء من حيث أن من شرع فيها على الحقيقة والصدق روي وتطهر، وأعني بالري ما قال بعض الحكماء‏:‏ كنت أشرب فلا أروى فلما عرفت الله تعالى رويت بلا شرب، وبالتطهر ما قال عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 33‏]‏ والظاهر هنا المعنى اللغوي، والتنوين للتعظيم أي شريعة عظيمة الشأن ‏{‏مِنَ الامر‏}‏ أي أمر الدين، وجوز أبو حيان كونه مصدر أمر، والمراد من الأمر والنهي وهو كما ترى ‏{‏فاتبعها وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الذين لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي آراء الجهال التابعة للشهوات، والمراد بهم ما يعم كل ضال، وقيل‏:‏ هم جهال قريظة‏.‏ والنضير، وقيل‏:‏ رؤساء قريش كانوا يقولون له صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارجع إلى دين آبائك‏.‏