فصل: تفسير الآية رقم (14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين وكون الأولين في أعلى عليين والآخرين في أسفل سافلين وبيان لعلة ما لكل منهما من الحال، والهمزة لإنكار استوائهما أو لإنكار كون الأمر ليس كما ذكر، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام وقد قرىء بدونها، و‏{‏مِنْ‏}‏ عبارة عن المؤمنين المتمسكين بأدلة الدين كما أنها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ‏}‏ عبارة عن أضدادهم من المشركين‏.‏

وأخرج جماعة عن ابن عباس أن ‏{‏مَن كَانَ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّهِ‏}‏ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم و‏{‏مّن زِينَةِ لَهُ سُوء عَمَلِهِ‏}‏ هم المشركون، وروى عن قتادة نحوه وإليه ذهب الزمخشري‏.‏ وتعقب بأن التخصيص لا يساعده النظم الكريم ولا داعي إليه، وقيل‏:‏ ومثله كون ‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى عبارة عنه صلى الله عليه وسلم وعن المؤمنين، والمعنى أيستوي الفريقان أو أليس الأمر كما ذكر فمن كان ثابتاً على حجة ظاهرة وبرهان نير من مالك أمره ومربيه وهو القرآن العظيم وسائر المعجزات والحجج العقلية كمن زين له الشيطان عمله السيء من الشرك وسائر المعاصي كإخراجك من قريتك مع كون ذلك في نفسه أقبح القبائح ‏{‏واتبعوا‏}‏ في ذلك العمل السيء، وقيل‏:‏ بسبب ذلك التزيين ‏{‏أَهْوَاءهُمْ‏}‏ الزائغة من غير أن يكون لهم شبهة توهم صحة ما هم عليه فضلاً عن حجة تدل عليها‏.‏ وجمع الضميرين الأخيرين باعتبار معنى ‏{‏مِنْ‏}‏ كما أن افراد الأولين باعتبار لفظها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مَّثَلُ الجنة التى وُعِدَ المتقون‏}‏ إلى آخره استئناف مسوق لشرح محاسن الجنة الموعودة آنفاً للمؤمنين وبيان كيفية أنهارها التي أشير إلى جريانها من تحتها وعبر عنهم بالمتقين إيذاناً بأن الايمان والعمل الصالح من باب التقوى الذي هو عبارة عن فعل الواجبات وترك السيآت، والمثل الوصف العجيب الشأن وهو مبتدأ باتفاق المعربين، واختلف في خبره فقيل محذوف فقال النضر بن شمير‏:‏ تقديره ما تسمعون، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ‏}‏ إلى آخره مفسر له، وقال سيبويه‏:‏ تقديره فيما يتلى عليكم أو فيما قصصنا عليك ويقدر مقدماً ‏{‏وَفِيهَا أَنْهَارٌ‏}‏ الخ بيان لذلك المثل، وقدره ابن عطية ظاهر في نفس من وعى هذه الأوصاف وليس بذاك، ولعل الأنسب بصدر النظم الكريم تقدير النضر، وقيل‏:‏ هو مذكور فقيل هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ‏}‏ الخ على معنى مثل الجنة وصفتها مضمون هذا الكلام ولا يحتاج مثل هذا الخبر إلى رابط‏.‏

وقيل هذه الجملة هي الخبر إلا أن لفظ ‏{‏مَثَلُ‏}‏ زائدة زيادة اسم في قول من قال‏:‏

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما *** فالمبتدأ في الحقيقة هو المضاف إليه فكأنه قيل‏:‏ الجنة فيها أنهار الخ وليس بشيء، وقيل‏:‏ الخبر قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار‏}‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط الكلام فيه‏.‏ وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس‏.‏ وعبد الله‏.‏ والسلمي ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ أي صفاتها، قال ابن جني‏:‏ وهذا دليل على أن قراءة العامة بالتوحيد معناها الكثرة لما في مثل من معنى المصدرية ولذا جاز مررت برجل مثل رجلين وبرجلين مثل رجال وبامرأة مثل رجل، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضاً أنه قرىء ‏{‏أصحاب الجنة‏}‏ ومثال الشيء في الأصل نظيره الذي يقابل به‏.‏

‏{‏مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ‏}‏ أي غير متغير الطعم والريح لطول مكث ونحوه، وماضيه أسن بالفتح من باب ضرب ونصر وبالكسر من باب علم حكى ذلك الخفاجي عن أهل اللغة‏.‏ وفي «البحر» أسن الماء تغير ريحه يأسن ويأسن ذكره ثعلب في الفصيح، والمصدر أسون، وأسن بسكر السين يأسن بفتحها لغة أسنا قاله اليزيدي، وأسن الرجل بالكسر لا غير إذا دخل البئر فأصابته ريح منتنة منها فغشي عليها أو دار رأسه ومنه قول الشاعر‏:‏

قد أترك القرن مصفراً أنامله *** يميد في الريح ميد المائح الأسن

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأهل مكة ‏{‏ءاسِنٍ‏}‏ على وزن حذر فهو صفة مشبهة أو صيغة مبالغة، وقرأ ‏{‏يسن‏}‏ بالياء قال أبو علي‏:‏ وذلك على تخفيف الهمزة ‏{‏ءاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ‏}‏ لم يحمض ولم يصر قارصاً ولا حذاراً كألبان الدنيا وتغير الريح لا يفارق تغير الطعم ‏{‏وأنهار مّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ للشاربين‏}‏ أي لذيذة لهم ليس فيها كراهة طعم وريح ولا غائلة سكر وخمار كخمور الدنيا فإنها لا لذة في نفس شربها وفيها من المكاره والغوائل ما فيها وهي صفة مشبهة مؤنث لذ وصفت بها الخمر لأنها مؤنثة وقد تذكر أومصدر نعت به بتقدير مضاف أو بجعلها عين اللذة مبالغة على ما هو المعروف في أمثال ذلك؛ وقرئت بالرفع على أنها صفة ‏{‏أَنْهَارٌ‏}‏ وبالنصب على أنها مفعول له أي كائنة لأجل اللذة لا لشيء آخر من الصداع وسائر آفات خمور الدنيا ‏{‏وأنهار مّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى‏}‏ مما يخالفه فلا يخالطه الشمع وفضلات النحل وغيرها، ووصفه بمصفى لأن الغالب على العسل التذكير وهو مما يذكر ويؤنث كما نص عليه أبو حيان‏.‏

وغيره، وهذا على ما قيل تمثيل لما يجري مجرى الأشربة في الجنة بأنواع ما يستطاب منها أو يستلذ في الدنيا بالتخلية عما ينقصها وينغصها والتحلية بما يوجب غزارتها ودوامها‏.‏

وبدىء بالماء لأنه في الدنيا مما لا يستغني عنه ثم باللبن إذ كان يجري مجرى المطعم لكثير من العرب في كثير من أوقاتهم ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوفت النفس إلى ما يلتذ به ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو متأخر بالرتبة، وجاء عن ابن عباس أن لبن تلك الأنهار لم يحلب، وقال سعيد بن جبير‏:‏ أنه لم يخرج من بين فرث ودم وإن خمرها لم تدسها الرجال بأرجلها وإن عسلها لم يخرج من بطون النحل‏.‏ وأخرج ابن جرير عن سعد قال‏:‏ سألت أبا إسحق عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن مَّاء غَيْرِ ءاسِنٍ‏}‏ فقال‏:‏ سألت عنه الحرث فحدثني أن ذلك الماء تسنيم وقال بلغني‏:‏ أنه لا تمسه يد وأنه يجيء الماء هكذا حتى يدخل الفم‏.‏

وفي حديث أخرجه ابن مردويه عن الكلبي أن نهر دجلة نهر الخمر في الجنة وأن عليه إبراهيم عليه السلام ونهر جيحون نهر الماء فيها ويقال له نهر الرب ونهر الفرات نهر اللبن وأنه لذرية المؤمنين ونهر النيل نهر العسل‏.‏

وأخرج الحرث بن أبي أسامة في «مسنده»‏.‏ والبيهقي عن كعب قال‏:‏ نهر النيل نهر العسل ونهر دجلة نهر اللبن ونهر الفرات نهر الخمر ونهر سيحان نهر الماء في الجنة‏.‏ وأنت تعلم أن المذكور في الآية لكل أنهار بالجمع والله تعالى أعلم بصحة هذه الأخيار ونحوها، ثم إنها إن صحت لا يبعد تأويلها وإن كانت القدرة الإلهية لا يتعاصاها شيء ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا‏}‏ مع ما ذكر من فنون الأنهار ‏{‏مِن كُلّ الثمرات‏}‏ أي أنواع من كل الثمرات فالجار والمجرور صفة مبتدأ مقدر وقدره بعضهم زوجان وكأنه انتزعه من قوله تعالى‏:‏

‏{‏فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 52‏]‏ وقيل‏:‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة أي ولهم فيها كل الثمرات ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ‏}‏ مبتدأ خبره محذوف والجملة عطف على الجملة السابقة أي ولهم مغفرة، وجوز أن يكون عطفاً على المبتدأ قبل بدون قيد فيها لأن المغفرة قبل دخول الجنة أو بالقيد والكلام على حذف مضاف أي ونعيم مغفرة أو جعل المغفرة عبارة عن أثرها وهو النعيم أو مجازاً عن رضوان الله عز وجل، وقد يقال‏:‏ المراد بالمغفرة هنا ستر ذنوبهم وعدم ذكرها لهم لئلا يستحيوا فتتنغص لذتهم والمغفرة السابقة ستر الذنوب وعدم المؤاخذة بها وحينئذٍ العطف على المبتدأ من غير ارتكاب شيء مما ذكر، وقد رأيت نحو هذا بعد كتابته للطبرسي مقتصراً عليه ولعله أولى مما قالوه، وتنوين ‏{‏مَغْفِرَةٍ‏}‏ للتعظيم أي مغفرة عظيمة لا يقادر قدرها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ متعلق بمحذوف صفة لها مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي كائنة من ربهم، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار‏}‏ خبر لمبتدأ محذوف تقديره أمن هو خالد في هذه الجنة حسبما جرى به الوعد كمن هو خالد في النار كما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنار مَثْوًى لهم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 12‏]‏ لهم، وجوز أن يكون بدلاً من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 14‏]‏ وما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بينة في الآخرة تقريراً لإنكار المساواة وفيه بعد‏.‏ وذهب جار الله إلى أنه خبر ‏{‏مَّثَلُ الجنة‏}‏ وأن ذاك مرتب على الإنكار السابق أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن كَانَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 14‏]‏ الخ، والمعنى أمثل الجنة كمثل جزاء من هو خالد في النار فالمضافان محذوفان الجزاء بقرينة مقابلة الجنة ولفظ المثل بقرينة تقدمه ومثله كثير، وفائدة التعرية عن حرف الإنكار أن من اشتبه عليه الأول أعني حال المتمسك بالبينة وحال التابع لهواه فالثاني مثله عنده وإذ ذاك لا يستحق الخطاب، ونظير ذلك قول حضرمي بن عامر‏:‏

أفرح إن أرزأ الكرام وإن *** أورث ذوداً شصائصا نبلا

فإنه كلام منكر للفرح برزية الكرام ووراثة الذود مع تعريه من حرف الإنكار لانطوائه تحت حكم من قال له‏:‏ أتفرح بموت أخيك وبوراثة إبله وذلك من التسليم الذي يقل تحته كل إنكار، وجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ‏}‏ كالتكرير للصلة أي صلة بعد صلة يتضمن تفصيلها لأنه كالتفصيل للموعود، ولهذا لم يتخلل العاطف بينهما، وجوز أن يكون في موضع الحال على أن الظرف في موضع ذلك و‏{‏أَنْهَارٌ‏}‏ فاعله لا على أنه مبتدأ والظرف خبر مقدم والجملة الاسمية حال لعدم الواو فيها، وقد صرحوا بأن الاكتفاء فيها بالضمير غير فصيح، واعتبارها فعلية بتقدير متعلق الظرف استقر لا يخفى حاله، وقيل‏:‏ في الحال ضعف من حيث المعنى لمجيئه مجىء الفضلات وهي أم الإنكار، وأيضاً هو حال من الجنة لا من ضميرها في الصلة وفي العامل تكلف، ثم الحال غير مقيدة وجعلها مؤكدة وقد علم كونها كذلك من إخباره تعالى فيه أيضاً تكلف، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة استئناف بياني، قال في «الكشف»‏:‏ وهو الوجه، والتقدير هي فيها أنها وكأنه قيل‏:‏ أنى يكون صفة الجنة وهي كذا وكذا كصفة النار فالاستئناف ههنا بمنزلة قولك‏:‏ وهي كذا وكذا اعتراضاً لما في لفظ المثل من الأشعار بالوصف العجيب، وليس خبر الجملة السابقة ‏{‏وَهُوَ كَمَنْ هُوَ خالد فِى النار‏}‏ مورد السؤال ليعترض بوقوع الاستئناف قبل مضيه‏.‏

وأورد أنه لا حاجة إلى تقدير المبتدأ لأن ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ‏}‏ جملة برأسها، والجواب أن التقدير مثلها فيها أنهار فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعاً ثم حذف ولهذا قال‏:‏ في السؤال كأن قائلاً قال‏:‏ وما مثلها‏؟‏ ويجري ما قرر في قراءة الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن معه ‏{‏أمثال‏}‏ بالجمع فيقال‏:‏ التقدير أمثال الجنة كأمثال جزاء من هو خالد في النار، ويقدر المضاف الأول جمعاً للمطابقة، ولعمري لقد أبعد جار الله المغزى، وقد استحسن ما ذكره كثير من المحققين قال صاحب الكشف بعد تقرير جعل ‏{‏رَّبّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالد‏}‏ خبر لمثل الجنة‏:‏ هذا هو الوجه اللائح المناسب للمساق‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ في الانتصاف بعد نقله كم ذكر الناس في تأويل هذه الآية فلم أر أطلى ولا أحلى من هذه النكت التي ذكرها لا يعوزها إلا التنبيه على أن في الكلام محذوفاً ليتعادل، والتقدير مثل ساكن الجنة كمن هو خالد في النار، ومن هذا النمط قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 19‏]‏ الخ؛ وما قدرناه لتحصيل التعادل أولى وإن كان فيه كثرة حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك، والضمير المفرد أعني ‏{‏هُوَ‏}‏ راجع إلى ‏{‏مِنْ‏}‏ باعتبار لفظها كما أن ضمير الجمع في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَسُقُواْ مَاء حَمِيماً‏}‏ راجع إليها باعتبار معناها، والمراد وسقوا ماءً حاراً مكان تلك الأشربة وفيه تهكم بهم ‏{‏فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ‏}‏ من فرط الحرارة‏.‏

روي أنه إذا أدنى منهم شوي وجوههم وامتازت فروة رؤوسهم فإذا شربوه قطع أمعاءهم، وهي جمع معى بالفتح والكسر ما ينتقل الطعام إليه بعد المعدة ويقال له عفاج وهو مذكر وقد يؤنث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ هم المنافقون، وإفراد الضمير باعتبار اللفظ كما أن جمعه بعد باعتبار المعنى، قال ابن جريج‏:‏ كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسمعون كلامه ولا يعونه ولا يراعونه حق رعايته تهاوناً منهم ‏{‏حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم‏}‏ أي لأولي العلم من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل‏:‏ هم الواعون لكلامه عليه الصلاة والسلام الراعون له حق رعايته من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ‏{‏مَاذَا قَالَ ءانِفاً‏}‏ أي ما الذي قال قبيل هذا الوقت ومقصودهم من ذلك الاستهزاء وإن كان بصورة الاستعلام، وجوز أن يكون مرادهم حقيقة الاستعلام إذ لم يلقوا له آذانهم تهاوناً به ولذلك ذموا والأول أولى، قيل‏:‏ قالوا ذلك لابن مسعود، وعن ابن عباس أنا منهم وقد سميت فيمن سئل وأراد رضي الله تعالى عنه أنه من الذين أوتوا العلم بنص القرآن، وما أحسن ما عبر عن ذلك، و‏{‏ءانِفاً‏}‏ اسم فاعل على غير القياس أو بتجريد فعله من الزوائد لأنه لم يسمع له فعل ثلاثي بل استأنف وأتنف، وذكر الزجاج أنه من استأنفت الشيء إذا ابتدأته وكان أصل معنى هذا أخذت أنفه أي مبدأه، وأصل الأنف الجارحة المعروفة ثم يسمى به طرف الشيء ومقدمه وأشرفه، وذكر غير واحد أن آنفاً من ذلك قالوا‏:‏ إنه اسم للساعة التي قبل ساعتك التي أنت فيها من الأنف بمعنى المتقدم وقد استعير من الجارحة لتقدمها على الوقت الحاضر، وقيل‏:‏ هو بمعنى زمان الحال، وهو على ما ذهب إليه الزمخشري نصب على الظرفية ولا ينافي كونه اسم فاعل كما في بادىء فإنه اسم فاعل غلب على معنى الظرفية في الاستعمال، وقال أبو حيان‏:‏ الصحيح أنه ليس بظرف ولا نعلم أحداً من النحاة عده في الظروف وأوجب نصبه على الحال من فاعل ‏{‏قَالَ‏}‏ أي ماذا قال مبتدئاً أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه، وإلى ذلك يشير كلام الراغب‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏ءانِفاً‏}‏ على وزن فعل ‏{‏أولئك‏}‏ الموصفون بما ذكر ‏{‏الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ‏}‏ فعدم توجههم نحو الخير ‏{‏واتبعوا أَهْوَاءهُمْ‏}‏ فتوجهوا نحو كل ما لا خير فيه فلذلك كان منهم ما كان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 18‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ‏(‏17‏)‏ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏والذين اهتدوا‏}‏ إلى طريق الحق ‏{‏زَادَهُمْ‏}‏ أي الله عز وجل ‏{‏هُدًى‏}‏ بالتوفيق والإلهام، والموصول يحتمل الرفع على الابتداء والنصب بفعل محذوف يفسره المذكور و‏{‏هُدًى‏}‏ مفعول ثان لأن زاد قد يتعدى لمفعولين، ويحتمل أن يكون تمييزاً والأول هو الظاهر، وتنوينه للتعظيم أي هدى عظيماً ‏{‏وءاتاهم تَقُوَاهُمْ‏}‏ أي أعطاهم تقواهم إياه جل شأنه بأن خلقها فيهم بناءً على ما يقوله الأشاعرة في أفعال العباد أو بأن خلق فيهم قدرة عليها مؤثرة في فعلها بإذنه سبحانه على ما نسبه الكوراني إلى الأشعري وسائر المحققين في أفعال العباد من أنها بقدرة خلقها الله تعالى فيهم مؤثرة بإذنه تعالى، وقول بعضهم‏:‏ بأن جعلهم جل شأنه متقين له سبحانه يمكن تطبيقه على كل من القولين، وقال البيضاوي‏:‏ أي بين لهم ما يتقون أو أعانهم على تقواهم أو أعطاهم جزاءها فالإيتاء عنده مجاز عن البيان أو الإعانة أو هو على حقيقته والتقوى مجاز عن جزائها لأنها سببه أو فيه مضاف مقدر وليس في شيء من ذلك ما يأباه مذهب أهل الحق، وذكر الزمخشري الثاني والثالث من ذلك، واختار الطيبي الأول من هذين الاثنين وقال‏:‏ هو أوفق لتأليف النظم الكريم لأن أغلب آيات هذه السورة الكريمة روعي فيها التقابل فقوبل ‏{‏أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏ بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ لأن الطبع يحصل من تزايد الرين وترادفع ما يزيد في الكفر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتبعوا أَهْوَاءهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏ بقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏والذين اهتدوا‏}‏ فيحمل على كمال التقوى وهو أن يتنزه العارف عما يشغل سره عن الحق ويتبتل إليه سبحانه بشراشره وهو التقوى الحقيقية المعنية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ فإن المزيد على مزيد الهدى مزيد لا مزيد عليه، وفي الترفع عن متابعة الهوى النزوع إلى المولى والعزوب عن شهوات الحياة الدنيا، ثم في إسناد إيتاء التقوى إليه تعالى وإسناد متابعة الهوى إليهم إيماءً إلى معنى قوله تعالى حكاية‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 80‏]‏ وتلويح إلى أن متابعة الهوى مرض روحاني وملازمة التقوى دواء إلهي انتهى‏.‏

وما ذكره من التقابل جار فيما ذكرناه أيضاً، وكذا يجري التقابل على تفسير إيتاء التقوى ببيان ما يتقون لإشعار الكلام عليه بأن ما هم فيه ليس من ارتكاب الهوى والتشهي بل هو أمر حق مبني على أساس قوي، وتفسير ذلك بإعطاء جزاء التقوى مروى عن سعيد بن جبير وذهب إليه الجبائي، والكلام عليه أفيد وأبعد عن التأكيد من غير حاجة إلى حمل التقوى على أعلى مراتبها، وأمر التقابل هين فإنه قد يقال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهتدوا‏}‏ في مقابلة ‏{‏اتبعوا أَهْوَاءهُمْ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ في مقابلة ‏{‏طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ‏}‏ فليتدبر، وقيل‏:‏ فاعل ‏{‏زَادَهُمْ‏}‏ ضمير قوله صلى الله عليه وسلم المفهوم من قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَاذَا قَالَ ءانِفاً‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 16‏]‏ وكذا فاعل ‏{‏ءاتاهم‏}‏ أي أعانهم أو بين لهم، والإسناد مجازي، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وأيضاً إذا كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ في مقابلة قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ‏}‏ فالأولى أن يتحد فاعله مع فاعله ويجري نحو ذلك على ما قاله الطيبي لئلا يلزم التفكيك، وجوز أن يكون ضميراً عائداً على قول المنافقين فإن ذلك مما يعجب منه المؤمن فيحمد الله تعالى على إيمانه ويزيد بصيرة في دينه، وهو بعيد جداً بل لا يكاد يلتفت إليه‏.‏

‏{‏فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة‏}‏ أي القيامة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً‏}‏ أي تباغتهم بغتة وهي المفاجأة بدل اشتمال من الساعة أي لا يتذكرون بأحوال الأمم الخالية ولا بالإخبار بإتيان الساعة وما فيها من عظائم الأحوال فما ينتظرون للتذكر إلا إتيان الساعة نفسها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ جَاء أَشْرَاطُهَا‏}‏ أي علاماتها وأماراتها كما في قوله أبي الأسود الدؤلي‏:‏

فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا *** فقد جعلت أشراط أوله تبدو

وهي جمع شرط بالتحريك تعليل لمفاجأتها على معنى أنه لم يبق من الأمور الموجبة للتذكر أمر مترقب ينتظرونه سوى إتيان نفس الساعة إذ قد جاء أشراطها فلم يرفعوا لها رأساً ولم يعدوها من مبادىء إتيانها فيكون إتيانها بطريق المفاجأة لا محالة كذا في إرشاد العقل السليم، وظاهر كلام الكشاف أنه تعليل للإتيان مطلقاً أي ما ينتظرون إلا إتيان الساعة لأنه قد جاء أشراطها وبعد مجيئها لا بد من وقوع الساعة، وتعليل المقيد دون قيده لا يخلو عن بعد، قيل‏:‏ ويقربه هنا أن انتظارهم ليس إلا لإتيان الساعة وتقييده ببغتة ليس إلا لبيان الواقع، وقال بعض المحققين‏:‏ هو تعليل لانتظار الساعة لأن ظهور إمارات الشيء سبب لانتظاره، وفي جعله تعليلاً للمفاجأة خفاء لأنها لا تناسب مجىء الأشراط إلا بتأويل، وأنت تعلم أن البدل هو المقصود فالانتظار لإتيان الساعة بغتة فالتعليل المذكور تعليل للمقيد دون قيده أيضاً فكان ما في الإرشاد متعين وإن كان فيه نوع تأويل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ‏}‏ على ما أفاده بعض الأجلة تعجيب من نفع الذكرى عند مجىء الساعة وإنكار لعدم تشمرهم لها ولانتظارهم إياها هزؤاً وجحوداً، وفي «الإرشاد» وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَشْرَاطُهَا فأنى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ‏}‏ حكم بخطئهم وفساد رأيهم في تأخير التذكر إلى إتيانها ببيان استحالة نفع التذكر حينئذٍ كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 23‏]‏ أي فكيف لهم ذكراهم على أن ‏{‏إِنّى‏}‏ خبر مقدم و‏{‏ذِكْرَاهُمْ‏}‏ مبتدأ و‏{‏إِذَا جَاءتْهُمُ‏}‏ اعتراض وسط بينهما رمزاً إلى غاية سرعة مجيئها، وإطلاق المجىء عن قيد البغتة لما أن مدار استحالة نفع التذكر كونه عند مجيئها مطلقاً لا مقيداً بقيد البغتة، وقيل‏:‏ ‏{‏إِنّى‏}‏ خبر مقدم لمبتدأ محذوف أي فأنى لهم الخلاص إذا جاءتهم الذكرى بما يخبرون به فينكرونه منوطة بالعذاب ولا يخفى حاله، وقرأ أبو جعفر الرؤاسي عن أهل مكة ‏{‏ءانٍ تَأْتِهِم‏}‏ على أنه شرط مستأنف جزاؤه ‏{‏فأنى لَهُمْ‏}‏ الخ أي أن تأتهم الساعة بغتة إذ قد جاء أشراطها فأنى تنفعهم الذكرى وقت مجيئها، ‏{‏وَأَنْ‏}‏ هنا بمعنى إذا لأن إتيان الساعة متيقن، ولعل الإتيان بها للتعريض بهم وأنهم في ريب منها أو لأنها لعدم تعيين زمانها أشبهت المشكوك فيه وإذا جاءتهم باعتبار الواقع فلا تعارض بينهما كما يتوهم في النظرة الحمقاء‏.‏

وفي «الكشف» ‏{‏إِذَا‏}‏ على هذه القراءة لمجرد الظرفية لئلا يلزم التمانع بين ‏{‏إِذَا جَاءتْهُمُ‏}‏ و‏{‏ءانٍ تَأْتِهِم‏}‏ وفي الإتيان بأن مع الجزم بالوقوع تقوية أمر التوبيخ والإنكار كما لا يخفى انتهى، وعلى ما ذكرنا لا يحتاج إلى جعل إذاً لمجرد الظرفية‏.‏

وقرأ الجعفي‏.‏ وهارون عن أبي عمرو ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ بفتح الغين وشد التاء، قال صاحب اللوامح‏:‏ وهي صفة وانتصابها على الحال ولا نظير لها في المصادر ولا في الصفات بل في الأسماء نحو الجربة وهي القطيع من حمر الوحش، وقد يسمى الأقوياء من الناس إذا كانوا جماعة متساوين جربة، والشربة وهي اسم موضع وكذا قال أبو العباس بن الحاج من أصحاب أبي علي الشلوبين في كتابه المصادر، وقال الزمخشري‏:‏ وما أخوفني أن تكون غلطة من الراوي عن أبي عمرو وأن يكون الصواب بغتة بفتح الغين من غير تشديد كقراءة الحسن فيما تقدم‏.‏

وتعقبه أبو حيان بأن هذا على عادته في تغليط الرواة، والظاهر أن المراد بأشراط الساعة هنا علاماتها التي كانت واقعة إذ ذاك وأخبروا أنها علامات لها كبعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج أحمد‏.‏ والبخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثت أنا والساعة كهاتين وأشار بالسبابة والوسطى ‏"‏ وأراد عليه الصلاة والسلام مزيد القرب بين مبعثه والساعة فإن السبابة تقرب من الوسطى طولاً فينا وهكذا فيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وزعم بعضهم أن أمر الطول والقصر في وسطاه وسبابته عليه الصلاة والسلام على عكس ما فينا خطأ لا يلتفت إليه إلا أن يكون أراد ذلك في أصابع رجليه الشريفة صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخرج أحمد عن بريدة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعثت أنا والساعة جميعاً وإن كادت لتسبقني ‏"‏

وهذا أبلغ في إفادة القرب وعدوا منها انشقاق القمر الذي وقع له صلى الله عليه وسلم والدخان الذي وقع لأهل مكة وأما أشراطها مطلقاً فكثيرة ألفت فيها كتب مختصرة ومطولة وهي تنقسم إلى مضيقة لا تبقى الدنيا بعد وقوعها إلا أيسر يسير كخروج المهدي رضي الله تعالى عنه على ما يقول أهل السنة دون ما يقوله الشيعة القائلون بالرجعة فإن الدنيا عندهم بعد ظهوره تبقى مدة معتداً بها وكنزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال وطلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وغير ذلك، وغير مضيقة وهي أكثر الأشراط ككون الحفاة الرعاة رؤوس الناس وتطاولهم في البنيان وفشو الغيبة وأكل الربا وشرب الخمر وتعظيم رب المال وقلة الكرام وكثرة اللئام وتباهي الناس في المساجد واتخاذها طرقاً وسوء الجوار وقطيعة الأرحام وقلة العلم وأن يوسد الأمر إلى غير أهله وأن يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع إلى ما يطول ذكره‏.‏

ومن وقف على الكتب المؤلفة في هذا الشأن واطلع على أحوال الأزمان رأى أن أكثر هذه العلامات قد برزت للعيان وامتلأت منها البلدان، ومع هذا كله أمر الساعة مجهول ورداء الخفاء عليه مسدول‏.‏ وقصارى ما ينبغي أن يقال‏:‏ أن ما بقي من عمر الدنيا أقل قليل بالنسبة إلى ما مضى، وفي بعض الآثار أنه عليه الصلاة والسلام خطب أصحابه بعد العصر حين كادت الشمس تغرب ولم يبق منها إلا أسف أي شيء فقال‏:‏ ‏"‏ والذي نفس محمد بيده ما مثل ما مضى من الدنيا فيما بقي منها إلا مثل ما مضى من يومكم هذا فيما بقي منه وما بقي منه إلا اليسير ‏"‏ ولا ينبغي أن يقال‏:‏ إن الألف الثانية بعد الهجرة وهي الألف التي نحن فيها هي ألف مخضرمة أي نصفها من الدنيا ونصفها الآخر من الآخرة، وقال الجلال السيوطي في رسالة سماها الكشف عن مجاوزة هذه الأمة الألف‏:‏ الذي دلت عليه الآثار أن مدة هذه الأمة تزيد على ألف سنة ولا تبلغ الزيادة عليها ألف سنة وبنى الأمر على ما ورد من أن مدة الدنيا سبعة آلاف سنة وأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في آخر الألف السادسة وأن الدجال يخرج على رأس مائة وينزل عيسى عليه السلام فيقتله ثم يمكث في الأرض أربعين سنة وأن الناس يمكثون بعد طلوع الشمس من مغربها مائة وعشرين سنة وأن بين النفختين أربعين سنة، وذكر الأحاديث والأخبار في ذلك‏.‏

وفي بهجة الناظرين وآيات المستدلين قد احتج كثير من العلماء على تعيين قرب زمانها بأحاديث لا تخلو عن نظر فمنهم من قال‏:‏ بقي منها كذا، ومنهم من قال‏:‏ يخرج الدجال على رأس كذا وتطلع الشمس على رأس كذا، وأفرد الحافظ السيوطي رسالة لذلك كله وقال‏:‏ تقوم الساعة في نحو الألف والخمسمائة، وكل ذلك مردود وليس للمتكلمين في ذلك إلا ظن وحسبان لا يقوم عليه من الوحي برهان انتهى، ونقله السفاريني في «البحور الزاخرة» في علوم الآخرة، وذكر السيوطي عدة أخبار في كون مدة الدنيا سبعة آلاف سنة، أولها ما أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» بسنده عن أبي هريرة قال‏:‏

«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما الشفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمتي ثم ماتوا عليها فهم في الباب الأول من جهنم» وساق بقية الحديث، وفيه «وأطولهم مكثاً فيه من يمكث فيها مثل الدنيا منذ خلقت إلى يوم أفنيت وذلك سبعة آلاف سنة» الحديث وتعقبه السفاريني بقوله‏:‏ ذكر الحافظ ابن رجب في كتابه صفة النار أن هذا الحديث خرجه ابن أبي حاتم‏.‏ وغيره، وخرجه الاسماعيلي مطولاً، وقال الدارقطني في كتاب المختلف‏:‏ هو حديث منكر وذكر علله، ومما ذكره السيوطي في ذلك ما نقل هو ضعف إسناد رفعه، وقد يرد عليه بأنه قد مضى من زمن البعثة إلى يومنا هذا ألف ومئتان وثماني وستون سنة وإذا ضم إليها ما ذكره من سني مكث عيسى عليه السلام وبقاء الدنيا بعد طلوع الشمس من مغربها وما بين النفختين وهي مائتا سنة تصير ألفاً وأربعمائة وثماني وسبعين فيبقى من المدة التي ذكرها اثنتان وعشرون سنة وإلى الآن لم تطلع الشمس من مغربها ولا خرج الدجال الذي خروجه قبل طلوعها من مغربها بعدة سنين ولا ظهر المهدي الذي ظهوره قبل الدجال بسبع سنين ولا وقعت الأشراط التي قبل ظهور المهدي، ولا يكاد يقال‏:‏ إنه يظهر بعد خمس عشرة سنة ويظهر الدجال بعدها بسبع سنين على رأس المائة الثالثة من الألف الثانية لأن قبل ذلك مقدمات تكون في سنين كثيرة، فالحق أنه لا يعلم ما بقي من مدة الدنيا إلا الله عز وجل وأنه وإن طال أقصر قصير وما متاع الحياة الدنيا إلا قليل، وكذا فيما أرى مبدأ خلقها لا يعلمه إلا الله تعالى وما يذكرونه في المبدأ لو صح فإنما هو في مبدأ خلق الخليفة آدم عليه السلام لا مبدأ خلق السماء والأرض والجبال ونحوها‏.‏

وحكى الشيخ محيي الدين قدس سره عن إدريس عليه السلام وقد اجتمع معه اجتماعاً روحانياً وسأله عن العالم أنه قال‏:‏ نحن معاشر الأنبياء نعلم أن العالم حادث ولا نعلم متى حدث‏.‏ والفلاسفة على المشهور يزعمون أن من العالم ما هو قديم بالشخص وما هو قديم بالنوع مع قولهم بالحدوث الذاتي ولا يدثر عندهم‏.‏ وذهب الملا صدر الشيرازي أنهم لا يقولون إلا بقدم العقول المجردة دون عالم الأجسام مطلقاً بل هم قائلون بحدوثها ودثورها وأطال الكلام على ذلك في الأسفار وأتى بنصوص أجلتهم كأرسطو وغيره‏.‏

وحكى البعض عنهم أنه خلق هذا العالم الذي نحن فيه وهو عالم الكون والفساد والطالع السنبلة ويدثر عند مضي ثمانية وسبعين ألف سنة وذلك عند مضي مدة سلطان كل من البروج الاثني عشر ووصول الأمر إلى برج الميزان وزعموا أن مدة سلطان الحمل اثنا عشر ألف سنة ومدة سلطان الثور أقل بألف وهكذا إلى الحوت‏.‏

ونقل البكري عن هرمس أنه زعم أنه لم يكن في سلطان الحمل والثور والجوزاء على الأرض حيوان فلما كان سلطان الأسد تكونت دواب الماء وهوام الأرض فلما كان سلطان الأسد تكونت الدواب ذوات الأربع فلما كان سلطان السنبلة تولد الإنسانان الأولان ادمانوس وحوانوس، وزعم بعضهم أن مدة العالم مقدار قطع الكواكب الثابتة لدرج الفلك التي هي ثلثمائة وستون درجة وقطعها لكل درجة على قول كثير منهم في مائة سنة فتكون مدته ستاً وثلاثين ألف سنة وكل ذلك خبط لا دليل عليه‏.‏ ومن أعجب ما رأيت ما زعمه بعض الإسلاميين من أن الساعة تقوم بعد ألف وأربعمائة وسبع سنين أخذاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ بناءً على أن عدة حروف ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ بالجمل الكبير ألف وأربعمائة وسبع ويوشك أن يقول قائل‏:‏ هي ألف وثمانمائة واثنان وبحسب تاء التأنيث أربعمائة لا خمسة فإنه رأى بعض أهل الحساب كما في فتاوى خير الدين الرملي ويجىء آخر ويقول‏:‏ هي أكثر من ذلك أيضاً ويعتبر بسط الحروف على نحو ما قالوا في اسم محمد صلى الله عليه وسلم إنه متضمن عدة المرسلين عليه السلام، وأنت تعلم أن مثل ذلك مما لا ينبغي لعاقل أن يعول عليه أو يلتفت إليه، والحزم الجزم بأنه لا يعلم ذلك إلا اللطيف الخبير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ الله‏}‏ مسبب عن مجموع القصة من مفتتح السورة لا عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 18‏]‏ كأنه قيل‏:‏ إذا علمت أن الأمر كما ذكر من سعادة هؤلاء وشقاوة هؤلاء فأثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانية فهو من موجبات السعادة، وفسر الأمر بالعلم بالثبات عليه لأن علمه صلى الله عليه وسلم بالتوحيد لا يجوز أن يترتب على ما ذكره سبحانه من الأحوال فإنه عليه الصلاة والسلام موحد عن علم حال ما يوحى إليه ولأن المعنى فتمسك بما أنت فيه من موجبات السعادة لا باطلب السعادة، وقال بعض الأفاضل‏:‏ إن الثبات أيضاً حاصل له عليه الصلاة والسلام فأمره بذلك صلى الله عليه وسلم تذكير له بما أنعم الله تعالى عليه توطئة لما بعده، وتعقب بأن المراد بالثبات الاستمرار وهو بالنظر إلى الأزمنة الآتية وذلك وإن كان مما لا بد من حصوله له عليه الصلاة والسلام لمكان العصمة لكن المعصوم يؤمر وينهى فيأتي بالمأمور ويترك المنهي ولا بد للعصمة والأمر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات‏}‏ قيل على معنى الثبات أيضاً، وجعل الاستغفار كناية عما يلزمه من التواضع وهضم النفس والاعتراف بالتقصير لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم أو مغفور لا مصر ذاهل عن الاستغفار، وقيل‏:‏ التحقيق أنه توطئة لما بعده من الاستغفار للمؤمنين والمؤمنات؛ ولعل الأولى إبقاؤه على الحقيقة من دون جعله توطئة، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكثر الاستغفار، أخرج أحمد‏.‏ ومسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن حبان عن الأغر المزني رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة ‏"‏ وأخرج النسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وغيرهما عن أبي موسى قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أصبحت غداة قط لا استغفرت الله فيها مائة مرة ‏"‏ وأخرج أبو داود‏.‏ والترمذي وصححه‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ‏"‏ إنا كنا لنعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس يقول‏:‏ رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم مائة مرة ‏"‏ وفي لفظ «التواب الغفور» إلى غير ذلك من الأخبار الصحيحة‏.‏

والذنب بالنسبة إليه عليه الصلاة والسلام ترك ما هو الأولى بمنصبه الجليل ورب شيء حسنة من شخص سيئة من آخر كما قيل‏:‏ حسنات الأبرار سيئات المقربين؛ وقد ذكروا أن لنبينا صلى الله عليه وسلم في كل لحظة عروجاً إلى مقام أعلى مما كان فيه فيكون ما عرج منه في نظره الشريف ذنباً بالنسبة إلى ما عرج إليه فيستغفر منه، وحملوا على ذلك قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏

«إنه ليغان على قلبي» الحديث وفيه أقوال أخر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ على حذف مضاف بقرينة ما قبل أي ولذنوب المؤمنين، وأعيد الجار لأن ذنوبهم جنس آخر غير ذنبه عليه الصلاة والسلام فإنها معاص كبائر وصغائر وذنبه صلى الله عليه وسلم ترك الأولى بالنسبة إلى منصبه الجليل، ولا يبعد أن يكون بالنسبة إليهم من أجل حسناتهم، قيل‏:‏ وفي حذف المضاف وتعليق الاستغفار بذواتهم إشعار بفرط احتياجهم إليه فكأن ذواتهم عين الذنوب وكذا فيه إشعار بكثرتها، وجوز بعضهم كون الاستغفار للمؤمنين بمعنى طلب المغفرة لهم وطلب سببها كأمرهم بالتقوى، وفيه الجمع بين الحقيقة والمجاز مع أن في صحته كلاماً، فالظاهر إبقاء اللفظ على حقيقته‏.‏

وفي تقديم الأمر بالتوحيد إيذان بمزيد شرف التوحيد فإنه أساس الطاعات ونبراس العبادات، وفي الكلمة الطيبة أبحاث شريفة ولطائف منيفة لا بأس بذكر بعضها وإن تقدم شيء من ذلك فنقول‏.‏ المشهور أن إلا للاستثناء والاسم الجليل بدل من محل اسم لا النافية للجنس وخبر ‏{‏لا‏}‏ محذوف، واستشكل الإبدال من جهتين أولاهما أنه بدل بعض وليس معه ضمير يعود على المبدل منه وهو شرط فيه؛ وأجيب بمنع كونه شرطاً مطلقاً بل هو شرط حيث لا تفهم البعضية بقرينة وههنا قد فهمت بقرينة الاستثناء‏.‏ ثانيتهما‏:‏ أن بين المبدل منه والبدل مخالفة فإن الأول منفي والثاني موجب‏.‏

وأجاب السيرافي بأنه بدل عن الأول في عمل العامل والتخالف نفياً وإيجاباً لا يمنع البدلية لأن مذهب البدل أن يجعل الأول كأنه لم يذكر والثاني في موضعه وقد تتخالف الصفة والموصوف في ذلك نحو مررت برجل لا كريم ولا لبيب على أنه لو قيل‏:‏ إن البدل في الاستثناء قسم على حياله مغاير لغيره من الإبدال لكان له وجه‏.‏

واستشكل أمر الخبر بأنه إن قدر ممكن يلزم عدم إثبات الوجود بالفعل للواحد الحقيقي تعالى شأنه أو موجود يلزم عدم تنزيهه تعالى عن إمكان الشركة وتقدير خاص مناسب لا قرينة عليه قيل‏:‏ ولصعوبة هذا الإشكال ذهب صاحب الكشاف وأتباعه إلى أن الكلمة لا غير محتاجة إلى خبر وجعل ‏{‏إِلاَّ الله‏}‏ مبتدأ و‏{‏لا إله‏}‏ خبره والأصل الله إله أي معبود بحق لكن لما أريد قصر الصفة على الموصوف قدم الخبر وقرن المبتدأ بإلا إذ المقصور عليه هو الذي يلي إلا والمقصور هو الواقع في سياق النفي والمبتدأ إذا اقترن بإلا وجب تقديم خبره‏.‏ وتعقب بأنه مع ما فيه من التمحل يلزم منه بناء الخبر مع لا وهي لا يبنى معها إلا المبتدأ، وأيضاً لو كان الأمر كذلك لم يكن لنصب الاسم الواقع بعدها وجه وقد جوزه جماعة‏.‏

وقال بعض الأفاضل‏:‏ إن لا إله إلا الله على هذا المذهب قضية معدولة الطرفين بمنزلة غير الحي لا عالم بمعنى الحي عالم ولا يدفع الاعتراض كما لا يخفى، وقال بعضهم‏:‏ إن الخبر هو ‏{‏إِلاَّ الله‏}‏ أعني إلا مع الاسم الجليل وأورد عليه أن الجنس مغاير لكل من أفراده فكيف يصدق حينئذٍ سلب مغايرة فرد عنه اللهم إلا أن يقال‏:‏ إن ذلك بناءً على تضمين معنى من وإن المفهوم منه أنه انتفى من هذا الجنس غير هذا الفرد، والوجه كما قيل أن يقال‏:‏ إن المغايرة المنفية هي المغايرة في الوجود لا المغايرة في المفهوم حتى لا يصدق، ولا شك أن المراد من الجنس المنفي بلا هذه هو المفهوم من غير اعتبار حصوله في الأفراد كلها أو بعضها فيكون محمولاً لا بمعنى اعتبار عدم حصوله فيها أصلاً حتى لا يصح حمله إذ لا يلزم من عدم اعتبار شيء اعتبار عدمه ومتى تحقق الحمل تحقق عدم المغايرة في الوجود فتدبره‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لا خبر للا هذه أصلاً على ما قاله بنو تميم فيها، وأورد عليه أنه يلزم حينئذٍ انتفاء الحكم والعقد وهو باطل قطعاً ضرورة اقتضاء التوحيد ذلك ولا يبعد أن يقال‏:‏ إن القول بعدم احتياج لا إلى الخبر لا يخرج المركب منها ومن اسمها عن العقد وذلك لأن معنى المركب نحو لا رجل على هذا التقدير انتفى هذا الجنس فإذا قلنا‏:‏ لا رجل إلا حاتم كان معناه انتفى هذا الجنس في غير هذا الفرد ويخدشه أن تركب الكلام من الحرف والاسم مما ليس إليه سبيل، وربما يدفع بما قيل في النداء مثل يا زيد من أنه قائم مقام ادعوه، والشريف العلامة قدس سره صرح في بيان ما نقل عن بني تميم من عدم إثبات خبر لا هذه بأنه يحتمل أن يكون بناءً على أن المفهوم من التركيب كما ذكر آنفاً انتفاء هذا الجنس ثم إن كلمة إلا على هذا التقدير بمعنى غير ولا مجال لكونها للاستثناء لا لما يتوهم من التناقض بناءً على أن سلب الجنس عن كل فرد فرد ينافي إثباته لواحد من أفراده فإنه مدفوع بنحو ما اختاره نجم الأئمة في دفع التناقض المتوهم في مثل ما قام القوم إلا زيداً لوجوب شمول القوم المنفي عنهم الفعل لزيد المثبت هو له فيما يتبادر بأن يقال‏:‏ إن الجنس الخارج عنه هذا الفرد منتف في ضمن كل ما عداه ولا لما قد يتوهم من عدم تناول الجنس المنفي لما هو بعد إلا وهو شرط الاستثناء لما عرفت من الفرق بين الجنس بدون اعتبار حصوله في الأفراد وبينه مع اعتبار عدم حصوله فيها بل لأنها لو كانت للاستثناء لما أفراد الكلام التوحيد لأنه يكون حاصله حينئذٍ أن هذا الجنس على تقدير عدم دخول هذا الفرد فيه منتف فيفهم منه عدم انتفائه في أفراد غير خارج عنها ذلك الفرد فأين التوحيد، فالواجب حملها على معنى غير وجعلها تابعة لمحل اسم لا بدلاً عنه أو صفة كما في قوله‏:‏

وكل أخ مفارقه أخوه *** لعمر أبيك إلا الفرقدان

كذا رأيته في بعض نسخ قديمة وذكره بعض شيوخ مشايخنا العلامة الطبقجلي في رسالته شرح الكلمة الطيبة ولم يتعقبه بشيء، وعندي أن ما ذكر في نفي كون إلا للإستثناء على ذلك التقدير لا يخلو عن نظر، ثم إنه قيل‏:‏ إذا كان مضمون المركب على ذلك التقدير أن هذا الجنس منتف فيما عدا هذا الفرد كانت القضية شخصية ولها لازم هو قضية كلية أعني قولنا كل ما يعتبر فرداً له سوى هذا الفرد فهو منتف ولا استبعاد في شيء من ذلك‏.‏

وذهب الكثير إلى تقدير الخبر موجود وأجاب عن الإشكال بأنه يلزم نفي الإمكان العام من جانب الوجود عن الآلهة غير الله تعالى وذلك مبني على مقدمة قطعية معلومة للعقلاء هي أن المعبود بالحق لا يكون إلاواجب الوجود فيصير المعني لا معبود بحق موجود إلا الله وإذا ليس موجوداً ليس ممكناً لأنه لو كان ممكناً لكان واجباً بناء على المقدمة القطعية فيكون موجوداً، وقد أفادت الكلمة الطيبة أنه ليس بموجود فليس بممكن لأن نفي اللازم يدل على نفي الملزوم‏.‏ واعترض بأن المقدمة القطعية وإن كانت صحيحة في نفس الأمر لكنها غير مسلمة عند المشركين لأنهم يعبدون الأصنام ويعتقدونها آلهة مع اعترافهم بأنها ممكنة محتاجة إلى الصانع ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏ فيمكن أن يعترف المكلف بالكلمة الطيبة ويعتقد أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فيمكن عنده وجود آلهة غير الله فلا يكون التلفظ بالكلمة نصاً على إيمانه ولو كانت المقدمة المذكورة مسلمة عند الكل لأمكن أن يقدر الخبر من أول الأمر موجود بالذات أي لا إله موجود بالذات إلا الله وإذا لم يكن غيره تعالى موجوداً بالذات لم يكن مستحقاً للعبادة لأن المستحق لها لا يكون إلا واجباً لذاته‏.‏

وقد قرر الجواب بوجهين آخرين‏.‏ الأول أن لا إله موجود قضية سالبة حملية لا بد لها من جهة وهي الإمكان العام فيكون المعنى أن الجانب المخالف للسلب وهو إثبات الوجود ليس ضرورياً للآلهة إلا الله تعالى فإنه موجود بالإمكان العام أي جانب السلب ليس ضرورياً له تعالى فيكون الوجود ضرورياً له سبحانه تحقيقاً للتناقض بين المستثنى والمستثنى منه‏.‏ الثاني أن لا إله موجود بالإمكان العام سالبة كلية ممكنة عامة فيكون المتحصل بالاستثناء الذي هو نقيض موجبة جزئية ضرورية أي الله موجود بالضرورة‏.‏

وأورد على التقريرين أنهما إنما يتمان إذا كان كل من طرفي المستثنى والمستثنى منه قضية مستقلة وهو ممنوع‏.‏ والصحيح عند أهل العربية أنهما كلام واحد مقيد بالاستثناء فلا يجري فيهما أحكام التناقض إلا أن يؤول بالمعنى اللغوي، وأيضاً جعل الله موجود بالضرورة قضية جزئية فيه تساهل، وقيل‏:‏ يمكن أن يقال الخبر المقدر هو الموجود مطلقاً سواء كان بالفعل أو بالإمكان على استعمال المشترك في كلا معنييه أو على تأويله بما يطلق عليه اسم الموجود وهو كما ترى، وقيل‏:‏ يجوز تقديره ممكن ونفي الإمكان يستلزم نفي الوجود لأن الاله واجب الوجود وإمكان اتصاف شيء بوجوب الوجود يستلزم اتصافه بالفعل بالضرورة فإذا استفيد من الكلمة الطيبة إمكانه يستفاد منه وجوده أيضاً إذ كل ما لم يوجد يستحيل أن يكون واجب الوجود، ويعلم ما فيه مما مر فلا تغفل، وقال بعضهم‏:‏ الخبر المقدر مستحق للعبادة، فالمعنى لا إله مستحق للعبادة إلا الله، ولا محذور فيه‏.‏ واعترض بأن هذا كون خاص ولا بد في حذفه من قرينة ولا قرينة فلا يصح الحذف‏.‏ وأجيب بأنها كنار على علم لأن الاله بمعنى المعبود فدل على العبادة واستحقاقها، ويؤيده ملاحظة المقام واعتبار حال المخاطبين لأن هذه الكلمة الطيبة واردة لرد اعتقاد المشركين الزاعمين أن الأصنام تستحق العبادة‏.‏

واعترض أيضاً بأنه لا يدل على نفي التعدد مطلقاً أي لا بالإمكان ولا بالفعل لجواز وجود إله غيره سبحانه لا يستحق العبادة، وأيضاً يمكن أن يقال‏:‏ المراد إما نفي إله مستحق للعبادة غيره تعالى بالفعل أو بالإمكان فعلى الأول لا ينفي إمكان اله مستحق للعبادة أيضاً غيره عز وجل وعلى الثاني لا يدل على استحقاقه تعالى للعبادة بالفعل‏.‏ ورد بأن وجوب الوجود مبدأ جميع الكمالات ولذا فرعوا عليه كثيراً منها فلا ريب أنه يوجب استحقاق التعظيم والتبجيل، ولا معنى لاستحقاق العبادة إلا ذلك فإذا لم يستحق غيره تعالى العبادة لم يوجد واجب وجود غيره سبحانه وإلا لاستحق العبادة قطعاً، وإذا لم يوجد لم يكن ممكناً أيضاً فثبت أن نفي استحقاق العبادة يستلزم نفي التعدد جزماً‏.‏

وتعقب بأن فيه البناء على أن الاله لا يكون إلا واحب الوجود، وقد سمعت أنها وإن كانت قطعية الصدق في نفس الأمر إلا أنها غير مسلمة عند المشركين‏.‏ ومن المحققين من قال‏:‏ إنه لا يلتفت إلى عدم تسليمهم لمكابرتهم ما عسى أن يكون بديهياً‏.‏ نعم ربما يقال‏:‏ إن الكلمة الطيبة على ذلك التقدير إنما تدل على نفي المعبود بالفعل بناء على ما قرر في املنطق أن ذات الموضوع يجب اتصافه بالعنوان بالفعل، ويجاب بمنع وجوب ذلك بل يكفي الاتصاف بالإمكان كما صرح به الفارابي، وأما ما نقل عن الشيخ فمعناه كونه بالفعل بحسب الفرض العقلي لا بحسب نفس الأمر كما تدل عليه عبارته في الشفاء والإشارات فيرجع إلى معنى الإمكان‏.‏

والفرق بين المذهبين أن في مذهب الشيخ زيادة اعتبار ليست في مذهب الفارابي وهي أن الشيخ اعتبر مع الإمكان بحسب نفس الأمر فرص الاتصاف بالفعل ولم يعتبره الفارابي، وبالجملة إن الاتصاف بالفعل غير لازم فكل ما يمكن اتصافه بالمعبودية داخل في الحكم بأنه لا يستحق العبادة، ولما كانت القضية سالبة صدقت وان لم يوجد الموضوع، ولعل التحقيق في هذا المقام إن الكلمة الطيبة جارية بين الناس على متفاهم اللغة والعرف لا على الاصطلاحات المنطقية والتدقيقات الفلسفية، وهي كلام ورد في رد اعتقاد المشرك الذي اعتقد أن آلهة غير الله سبحانه تستحق العبادة فإذا اعترف المشرك بمضمونه من أنه لا معبود مستحق للعبادة إلا اتعالى علم من ظاهر حاله الإيمان، ولهذا اكتفى به الشارع عليه الصلاة والسلام، وأما الكافر الذي يعتقد إمكان وجود ذات تستحق العبادة بعد فلا تكفي هذه الكلمة الطيبة في إيمانه كما لا تكفي في إيمان من أنكر النبوة أو المعاد أو نحو ذلك مما يجب الإيمان به بل لا بد من الاعتراف بالحكم الذي أنكره ولا محذور في ذلك، ولما كان الكفرة الذين يعتقدون أن آلهة غير الله تعالى تستحق العبادة هم المشهورون دون من يعتقد إمكان وجودها بعد اعتبرت الكلمة علماً للتوحيد بالنسبة إليهم‏.‏

ويعلم من هذا أنه لو قدر الخبر المحذوف من أول الأمر موجود أمكن دفع الاشكال بهذا الطريق أعني متفاهم اللغة وعرف الناس من الأوساط، وأما أن نفي الوجود لا يستلزم نفي الإمكان فلا يلزم من الكلمة الطيبة حينئذ نفي إمكان آلهة غير الله تعالى فمما لا يسبق إلى الأفهام ولا يكاد يوجد كافر يعتقد نفي وجود إله غيره تعالى مع اعتقاده إمكان وجود إله غيره سبحانه بعد ذلك، ومن الناس من أيد تقدير الخبر كذلك بأن الظاهر أن لا نافية للجنس ونفي الماهية نفسها بدون اعتبار الوجود واتصافها به كنفي السواد نفسه لا نفي وجوده عنه بعيد، فكما أن جعل الشيء باعتبار الوجود إذ لا معنى لجعل الشيء وتصييره نفسه فكذلك نفيه ورفعه أيضاً باعتبار رفع الوجود عنه‏.‏ وتعقب بأن هذا هو الذي يقتضيه النظر الجليل، وأما النظر الدقيق فقد يحكم بخلافه لأن نفي املاهية باعتبار الوجود ينتهي بالآخرة إلى نفس ماهية ما باعتبار نفسها، وذلك لأن نفي اتصافها بالوجود لا يكون باعتبار اتصاف ذلك الاتصاف به إلى ما لا يتناهى، فلا بد من الانتهاء إلى اتصاف منتف بنفسه لا باعتبار اتصافه بالوجود دفعاً للتسلسل، وقيل‏:‏ الظاهر أن نفي الأعيان كما في الكلمة الطيبة إنما هو باعتبار ذلك، واما غيرها فتارة وتارة فتدبر، و‏{‏إِلا‏}‏ على التقدير المذكور للاستثناء ورفع الاسم الجليل على ما سمعت من المشهور، وقيل‏:‏ هي فيه بمعنى غير صفة الاسم لا باعتبار المحل أي لا إله غير الله تعالى موجود‏.‏

واعترض بأن المقصود من الكلام أمر أن نفي الألوهية عن غيره تعالى وإثباتها له سبحانه، وهو إنما يتم إذا كانت لا فيه للاستثناء إذ يستفاد النفي والإثبات حينئذ بالمنطوق إما إن كانت بمعنى غير فلا يفيد بمنطوقه إلا نفي الألوهية عن غيره تعالى سبحانه وفي كون إثباتها له تعالى بالمفهوم ويكتفي به بحث ون ذلك ان كان مفهوم لقب فلا عبرة عند القائلين بالمفهوم على الصحيح خلافاً للدقاق‏.‏ والصيرفي من الشافعية، وابن خويز منداد من المالكية، ومنصور بن أحمد من الحنابلة، وإن كان مفهوم صفة فمن البين أنه غير مجمع عليه بل أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لم يقل بشيء من مفاهيم المخالفة أصلاً، وأنت تعلم أن ما ذكره من إفادة الكلمة الطيبة إثبات الإلهية لله تعالى ونفيها عما سواه عز وجل على تقدير كون إلا للاستثناء غير مجمع عليه أيضاً فإن الاستثناء من النفي ليس بإثبات عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه‏.‏ وجعل الإثبات في كلمة الوتحيد بعرف الشرع، وفي المفرغ نحو ما قام إلا زيد بالعرف العام، وما له وما عليه فيك تب الأصول فلا تغفل، وتمام الكلام فيما يتعلق باعراب هذه الكلمة الطيبة في كتب العربية، وقد ذكرنا ذلك في تعليقاتنا على شرح السيوطي للألفية، وهي عند السادة الصوفية قدست أسرارهم جامعة لجميع مراتب التوحيد ودالة عليها اما منطوقا أو بالاستلزام، ومراتبه أربع‏.‏ الأولى توحيد الألوهية‏.‏ الثانية توحيد الأفعال‏.‏ الثالثة توحيد الصفات، وإن شئت قلت‏:‏ توحيد الوجوب الذاتي فإنه يستلزم سائر الصفات الكمالية كما فرعها عليه بعض المحققين‏.‏ الرابعة توحيد الذات وإن شئت قلت‏:‏ توحيد الوجود الحقيقي فإن المآل واحد عندهم، وبيان ذلك أن لا إله إلا الله منطوقة على ما يتبادر إلى الأذهان وذهب أليه المعظم قصر الألوهية على الله تعالى قصراً حقيقياً أي إثباتها له تعالى بالضرورة ونفيها عن كل ما سواه سبحانه كذلك وهو يستلزم توحيد الأفعال‏.‏ وتوحيد الصفات‏.‏ وتوحيد الذات‏.‏ أما الأول الذي هو قصر الخالقية فيه تعالى فلأن مقتضى قصر الألوهية عليه تعالى قصراً حقيقياً هو أن الله عز وجل هو الذي يستحق أن يعبده كل مخلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو سبحانه وتعالى الخالق لكل شيء، فإن كل من لا يكون خالقاً لكل شيء لا يكون نافعاً ضاراً على الإطلاق وكل من لا يكون كذلك لا يستحق أن يعبده كل مخلوف لأن العبادة هي الطاعة والإنقياد والخضوع ومن لا يملك نفعاً ولا ضراً بالنسبة إلى بعض المخلوقين لا يستحق أن يعبده ذلك البعض ويطيعه وينقاد به، فإن من لا يقدر على أيصال نفع إلى شخص أو دفع ضر عنه لا يرجوه، ومن لا يقدر على إيصال ضر إليه لا يخافه، وكل ما لا يخاف ولا يرجى أصلاً لا يستحق أن يعبد؛ وهو ظاهر لكحن الذي يقتضيه قصر الألوهية عليه تعالى قصراً حقيقياً هو أن الله تعالى هو الذي يستحق أن يعبده كل محلوق فهو النافع الضار على الإطلاق فهو الخالق لكل شيء وهو المطلوب، وأما الثاني فلأن الكلمة الطيبة تدل على أن الألوهية ثابتة له تعالى ثبوتاً مستمراً ممتنع الانفكاك ومنتفية عن غيره انتفاء كذلك، وكل ما كان كذلك فهي دالة على أنه عز وجل واجب الوجود، وأن كل موجود سواه تعالى ممكن الوجود؛ وكل ما كان كذلك كان وجوب الوجود مقصوراً عليه تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكمال وهو المطلوب، أما دلالتها على أنه عز وجل واجب الوجود فلأن الالوهية لا تكون إلا لموجود حقيقة اتفاقاً، وكل ما لا يكون صفة إلا لموجود إذا دل كلام على أنه ثابت لشيء ثبوتاً ممتنع الانفكاك سرمداً فقد دل على أن الوجود ثابت لذلك الشيء ثبوتاً ممتنع الانفكاك سرمداً، ولا يكون كذلك إلا إذا كان موجوداً لذاته وهو المعنى بواجب الوجود لذاته‏.‏

وحيث دلت على ثبوت الألوهية ثبوتاً مستمراً ممتنع الانفكاك فقد دلت على وجوب وجوده تعالى وهو مستلزم لسائر صفات الكامل وهو المطلوب‏.‏

وأما دلالتها على أن كل موجود سواه فهو ممكن الوجود فلأن موجوداً ما سواه لو كان واجب الوجود لذاته لكان مستحقاً أن يعبد لكنها قد دلت على أنه لا يستحق أن يعبد إلا الله فقد دلت على أنه لا واجباً وجوده لذاته إلا الله تعالى فكل ما سواه فهو ممكن وهو المطلوب، أو يقال‏:‏ إنها قد دلت على أنه تعالى هو النافع الضار على الإطلاق فهو الجامع لصفات الجلال والإكرام فهو سبحانه المتصف بصفات الكمال كلها وهو المطلوب‏.‏ وأما الثالث فقد قال حجة الإسلام الغزالي في باب الصدق من الاحياء‏:‏ كل ما تقيد العبد به فهو عبد له كما قال عيسى عليه السلام‏:‏ يا عبيد الدنيا، وقال نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم وعبد الحلة وعبد الخميصة ‏"‏ سمي كل من تقيد قلبه بشيء عبدا له، وقال في باب الزهد منه‏:‏ من طلب غير الله تعالى فقد عبده؛ وكل مطلوب معبود، وكل طالب عبد بالإضافة إلى مطلبه، وقال في الباب الثالث من كتاب «العلم منه»‏.‏ كل متبع هواه فقد اتخذ هواه معبوداً قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ أبغض اله عبد في الأرض عند الله تعالى هو الهوى ‏"‏ انتهى‏.‏

ومن المعلوم أنه ما في الوجود شيء إلا وهو مطلوب لطالب ما وقد صح بما مر إطلاق الإله عليه ولا إله إلا الله فما فـ الوجود حقيقة إلا الله‏:‏ ومنهم من قرر دلالة الكلمة الطيبة على توحيد الذات ونفي وجود أحد سواه عز وجل بوجه آخر، وهو أن ‏{‏إِلا‏}‏ بمعنى غير بدل من الإله المنفي فيكون النفي في الحقيقة متوجهاً إلى الغير ونفي الغير توحيد حقيقي عندهم، وإذا تبين لك دلالتها على جميع مراتب التوحيد لاح لك أن الشارع لأمر ما جعلها مفتاح الإسلام وأساس الدين ومهداة الأنام‏.‏ وفي حديث أخرجه أبو نعيم عن عياض الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لا إله إلا الله كلمة كريمة ولها عند الله مكان جمعت وسولت من قالها صادقاً من قلبه دخل الجنة ‏"‏ وفي حديث أخرجه ابن النجار عن دينار عن أنس أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ لا إله إلا الله كلمة عظيمة كريمة على الله تعالى من قالها مخلصاً استوجب الجنة ‏"‏ وأخرج مسلم عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهب بنعلي هاتين فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مسيقناً بها قلبه فبشره بالجنة ‏"‏ وحديث البطاقة أشهر من أن يذكر، وكذا الحديث القدسي المروي عن علي الرضا عن آبائه عليهم السلام، وجاء «من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة أي بلا حساب وإلا فما الفرق بين ذلك ومن قالها ولم تكن آخر كلامه من الدنيا، وبالجملة إن فضلها لا يحصى وإنها لتوصل قائلها إلى المقام الأقصى، وقد ألفت كتب في فضلها وكيفية النطق بها وآداب استعمالها فلا نطيل الكلام في ذلك‏.‏ بقي ههنا بحث وهو أن المسلمين أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وان اختلفوا في كونه شرعياً أو عقلياً، وأما النظر في معرفته تعالى لأجل حصولها بقدر الطاقة البشرية فقد قال العلامة التفتازاني في «شرح المقاصد»‏:‏ لا خلاف بين أهل الإسلام في وجوبه لأنه أمر مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق الذي هو المعرفة، وكل مقدور يتوقف عليه الواجب المطلق فهو واجب شرعاً ان كان وجوب الواجب المطلق شرعياً كما هو رأي الأصحاب وعقلاً إن كان عقلياً كما هو رأي المعتزلة لئلا يلزم تكليف المحال، أما كون النظر مقدوراً فظاهر، وأما توقف المعرفة عليه فلأنها ليست بضرورية بل نظرية، ولا معنى للنظري إلا ما يتوقف على النظر ويتحصل به، وظاهر كلام السيد السند في «شرح المواقف» إجماع المسلمين كافة على ذلك أيضاً، والحق وقوع الخلاف في وجوب النظر كما يدل عليه كلام ابن الحاجب في مختصره، والعضد في شرحه، وكلام التاج السبكي في جمع الجوامع، والجلال الملحى في شرحه، وقول شيخ الإسلام في حاشيته عليه‏:‏ محل الخلاف في وجوب النظر في أصول الدين وعدم وجوبه في غير معرفة الله تعالى منها أما النظر فيها فواجب إجماعاً كما ذكره السعد التفتازاني كغيره اعترضه المحقق ابن قاسم العبادي في حاشيته الآيات البينات بقوله‏:‏ أن الظاهر أن ما نقله السعد من الإجماع على وجوب النظر في معرفة الله تعالى غير مسلم عند الشارح وغيره، ألا ترى إلى تمثيل الشارح لمحل الخلاف بقوله‏:‏ كحدوث العالم ووجود الباري تعالى وما جيب له جل شأنه وما يمتنع عليه سبحانه من الصفات فإن قوله‏:‏ ووجود الباري تعالى الخ يتعلق بمعرفته عز وجل إلى آخر ما قال‏.‏

نعم قال كثير ورجحه الإمام الرازي‏.‏ والآمدي‏:‏ إنه يجب النظر في مسائل الاعتقاد ومعرفة الله تعالى أسها فيجب فيها بالأولى، وقالوا في ذلك‏.‏ لأن المطلوب اليقين لقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ الله‏}‏ وقد علم ذلك، وقال تعالى للناس‏:‏ ‏{‏واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ ويقاس غير الوحدانية عليها، ولا يتم الاستدلال إلا بضم توقف حصول اليقين على النظر‏.‏ وهؤلاء لم يجوزوا التقليد في الأصول وهو أحد أقوال في المسألة، ثانيها قول العنبري‏.‏ إنه يجوز التقليد فيها بالعقد الجازم ولا يجب النظر لأنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي في الإيمان بالعقد الجازم ويقاس غير الإيمان عليه‏.‏

والمراد أنه عليه الصلاة والسلام كان يكتفي بذلك نظراً إلى ظاهر الحال فإن الخبر كما صرح به المحقق عيسى الصفوي في شرحه للفوائد الغياثية على ما نقله عنه تلميذه ابن قاسم العبادي في الآيات البينات دال وضعا على صورة ذهنية على وجه الاذعان تحكي الحال الواقعية، ولا شك أن لا إله إلا الله محمد رسول الله من قسم الخبر فهما دالان وضعا على أن قائلهما ولو تحت ظلال السيف معتقد لمضمونهما على وجه الأذعان، وعدم كونه معتقداً في نفس الأمر احتمال عقلي، والمطلع على ما في القلوب علام الغيوب‏.‏ وثالث الأقوال أنه يجب التقليد بالعقد الجازم ويحرم النظر لأنه مظنة الوقوع في الشبه والضلال لاختلاف الأذهان بخلاف التقليد وهذا ليس بشيء أصلاً‏.‏ والذي أوجب النظر من المحققين لم يرد به النظر على طريق المتكلمين بل صرح كما في الجواب العتيد للكوراني بأن المعتبر هو النظر على طريق العامة، والظاهر أنه ليس مظنة الوقوع فيما ذكر، وهل القائل بوجوبه من أولئك جاعل له شرطاً لصحة الإيمان أم لا ففيه خلاف‏.‏ فيفهم من بعض عبارات شرح الأربعين لابن حجر أنه جاعل له كذلك فلا يصح إيمان المقلد عنده، بل يفهم منها أن النظر المعتبر عند ذلك هو النظر على طريق المتكلمين، وكلام الجلال المحلي في شرح جمع الجوامع صريح في أن القائلين بوجوب النظر غير أبي هاشم ليسوا جاعلين النظر شرطاً لصحة الإيمان ولا زاعمين بطلان إيمان المقلد بل هو صحيح عندهم مع الإثم بترك النظر الواجب‏.‏

نعم سيأتي إن شاء الله تعالى نقل الإمام حجة الإسلام في كتابه فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة نقل الاشتراط عن طائفة من المتكلمين مع رده‏.‏

وأما ما نقل عن الشيخ الأشعري من الاشتراط وأنه لا يصح إيمان المقلد فكذب عليه كما قاله الأستاذ أبو القاسم القشيري، وقال التاج السبكي‏:‏ التحقيق أنه ان كان التقليد أخذاً بقول الغير بغير حجة مع احتمال شك أو وهم فلا يكغي، وان كان جزماً فيكفي خلافاً لأبي هاشم‏.‏ والظاهر أن القائل بكفاية التقليد مع الجزم يمنع القول بأن المعرفة لا تحصل إلا بالنظر ويقول‏:‏ إنها قد تحصل بالإلهام أو التعليم أو التصفية فمن حصل له العقد الجازم بما يجب عليه اعتقاده فقد صح إيمانه من غير اثم لحصول المقصود، ومن لم يحصل له ذلك ابتداء أو تقليداً أو ضرورة فالنظر عليه متعين ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 22‏]‏‏.‏

ويكفي دليلاً للصحة اكتفاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله تعالى عنهم من عوام العجم كؤجلاف العرب وان أسلم أحدهم تحت ظل السيف بمجرد الإقرار بلا إله إلا الله محمد رسول الله الدال بحسب ظاهر حالهم على أنهم يعتقدون مضمون ذلك ويذعنون له، ولو كان الاستدلال فرضاً لأمروا به بعد النطق بالكلمتين أو علموا الدليل ولقنوه كما لقنوهما وكما علموا سائر الواجبات، ولو وقع ذلك لنقل إلينا فإنه من أهم مهمات الدين، ولم ينقل أنهم أمروا أحداً منهم أسلم بترديد نظر ولا سألوه عن دليل تصديقه ولا أرجؤا أمره حتى ينظر فلو كان النظر واجباً على الأعيان ولو إجمالياً على طريق العامة لما اكتفى النبي صلى الله عليه وسلم من أولئك العوام والاجلاف بمجرد الإقرار لأن النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا يقرون أحداً على ترك فرض العين من غير عذر، فلا يكون تاركه آثماً فضلاً عن أن يكون بتركه غير صحيح الإيمان، ويشهد لذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد عند اعتذاره عن قتل مرداس بن نهيك من أهل فدك وغيره من الأخبار الكثير‏.‏ وما في المواقف والمقاصد وشرح المختصر العضدي وغيرها من كتب الكلام والأصول من أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعلمون أنهم أي العوام واجلاف العرب يعلمون الأدلة إجمالاً كما قال الأعرابي‏:‏ البعرة تدل على البعير وأثر الاقدام على المسير أفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير أي فلذلك لم يلزموهم النظر ولا سألوهم عنه ولا أرجؤوا أمرهم وكل ما كان كذلك لم يكن اكتفاؤهم بمجرد الإقرار دليلاً على أن النظر ليس واجباً على الأعيان ولا على أن تاركه غير آثم دعوى لا دليل عليها، وحكاية الأعرابي ان كانت مسوقة للاستدلال لا تدل غاية ما في الباب أن ذلك الأعرابي كان عالماً لدليل إجمالي، ولا يلزم منه أن جميع الأجلاف والعوام كانوا عالمين بالأدلة الإجمالية في عهد النبوة وغيره وإلا لكانت حجة على أنه لا مقلد في الوجود، على أن بعضهم أسند ذلك القول إلى قس بن ساعدة وكان في الفترة‏.‏

والجلال المحلي ذكره لأعرابي قاله في جواب الأصمعي وكان في زمن الرشيد بل قد يقال‏:‏ إن ظاهر كثير من الآيات والأخبار يدل على أن كثيراً من المشركين في عهده عليه الصلاة والسلام لم يكونوا عالمين بأدلة التوحيد مطلقاً، وذلك كقوله تعالى‏:‏ حكاية عنهم‏:‏ ‏{‏أَجَعَلَ الالهة إلها واحدا إِنَّ هذا لَشَىْء عُجَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يستكبرون وَيَقُولُونَ أئنا لَتَارِكُو ءالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 35، 36‏]‏ وقول بعضهم في بعض الحروب‏:‏ أعل هبل اعل هبل؛ وما ذكره المحقق العضد في «شرح المختصر» من الدليل على عدم جواز التقليد حيث قال‏:‏ إن الأمة أجمعوا على وجوب معرفة الله تعالى وأنها لا تحصل بالتقليد لثلاثة أوجه‏.‏ أحدها انه يجوز الكذب على المخبر فلا يحصل بقوله العلم ثانيها أنه لو أفاد العلم لأفاده بنحو حدوث العالم من المسائل المختلفة فيها فإذا قلد واحد في الحدوث والآخر في القدم كانا عالمين بهما فيلزم حقيقتهما وأنه محال‏.‏ ثالثها أن التقليد لو حصل العلم فالعلم بأنه صدق فيما أخبر به إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً لا سبيل إلى الأول بالضرورة فلا بد له من دليل والمفروض أنه لا دليل إذ لو علم صدقه بدليله لم يبق تقليداً تعقبه العلامة الكوراني فقال‏:‏ فيه بحث، أما الوجه الأول فلأن من جوز التقليد مثل المقلد بمن نشأ ععلى شاهق جبل ولم ينظر في ملكوت السموات والأرض وأخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وصدقه بمجرد اخباره من غير الفكر وتدبر وهو صريح في أن الكلام في مقلد أخبره غيره بما يلزمه اعتقاده وما يلزمه اعتقاده لا يكون إلا صدقاً فإن الكذب لا يلزم أحداً اعتقاده، وأما من أخبر بالاكاذيب فاعتقادها فهو لم يعتقد إلا أكاديب والأكاذيب ليست من معرفة الله تعالى في شيء فكيف يحكم عليه أحد من العقلاء بأنه مؤمن بالله تعالى عارف به مع أنه لم يعتقد إلا الأكاذيب وهو ظاهر، وأما في الوجه الثاني فلمثل ما مر لأنا لا نقول‏:‏ إن كل تقليد مفيد للعلم ولا أن كل مقلد عالم كيف وليس كل نظر مفيداً للعلم ولا كل ناظر مصيباً، فإذا لم يكن النظر موجباً للعلم مطلقاً وإنما الموجب النظر الصحيح فكذلك نقول‏:‏ ليس كل تقليد مفيداً للعلم وإنما المفيد التقليد الصحيح، وهو أن يقلد عالماً بمسائل معرفة الله تعالى صادقاً فيما يخبره به فإن الكلام إنما هو في صحة إيمان مثل هذا المقلد لا مطلقاً، وأما في الثالث فلأنا نختار أن عمله بأنه صدق فيما أخبر به ضروري قولكم لا سبيل إليه بالضرورة قلنا‏:‏ ممنوع لقوله تعالى‏:‏

‏{‏فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 125‏]‏ وقد روي مرفوعاً أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن شرح الصدر فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينفسح» فصرح صلى الله عليه وسلم بأنه نور لا يحصل من دليل وإنما يقذفه الله تعالى في قلبه فلا يقدر على دفعه من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال، وقد صرح بعض أكابر المحققين بأن توحيد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام عن علم ضروري وجدوه في نفوسهم لم يقدروا على دفعه وبأن من أهل الفترة من وجد كذلك بل قد صرح بأن الإيمان علم ضروري يجده المؤمن في قلبه لا يقدر على دفعه فكم من آمن بلا دليل ومن لم يؤمن مع الدليل، وقلما يوثق بإيمان من آمن عن دليل فإنه معرض للشبه القادحة فيه‏.‏

وفي الباب المائة والاثنين والسبعين والمائتين والسابع والسبعين من الفتوحات المكية ما يؤيد ذلك، وقال الإمام حجة الإسلام في فيصل التفرقة‏:‏ من أشد الناس غلوا وانحرافاً طائفة من المتكلمين كفروا عوام المسلمين وزعموا أن من لا يعرف الكلام معرفتنا ولم يعرف الأدلة الشرعية بأدلتنا التي حرزناها فهو كافر فهؤلاء ضيقوا رحمة الله تعالى الواسعة على عباده أولا، وجعلوا الجنة وقفاً على شرذمة يسيرة من المتكلمين، ثم جهلوا ما تواترت به السنة ثانياً إذ ظهر من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين حكمهم باسلام طوائف من اجلاف العرب كانوا مشغولين بعبادة الوثن ولم يشتغلوا بتعليم الدلائل ولو اشتغلوا بها لم يفهموها، ومن ظن أن مدرك الإيمان الكلام والأدلة المحررة والتقسيمات المرتبة فقد أبعد، لابل الإيمان نور يقذفه الله تعالى في قلب عبده عطية وهداية من عنده، تارة بتنبه في الباطن لا يمكن التعبير عنه، وتارة بسبب رؤيا في المنام، وتارة بمشاهدة حال رجل متدين وسراية نوره إليه عند صحبته ومجالسته، وتارة بقرينة حال، فقد جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاحداً له منكراً فلما وقع بصره على طلعته البهية وغرته الغريرة السنية فرآها يتلألأ منها نور النبوة قال‏:‏ والله ما هذا وجه كذاب، وسأله أن يعرض عليه السلام فأسلم، وجاء آخر فقال‏:‏ أنشدك الله بعثك الله نبينا‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ بلى إني والله الله بعثني نبيا فصدقه بيمينه وأسلم، فهذا وأمثاله أكثر من أن يحصى ولم يشتغل واحد منهم قط بالكلام وتعلم الأدلة بل كان تبدو أنوار الإيمان أولاً بمثل هذه القرائن في قلوبهم لمعة بيضاء ثم لا تزال تزداد وضوحاً وإشراقاً بمشاهدة تلك الأحوال العظيمة وبتلاوة القرآن وتصفية القلوب، وليت شعري من نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة إحضاره أعرابياً أسلم وقوله الدليل على أن العالم حادث لأنه لا يخلو عن الأعراض وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وأن الله تعالى عالم بعلم وقادر بقدره كلاهما زائد على الذات لا هو ولا غيره إلى غير ذلك من رسوم المتكلمين، ولست أقول‏:‏ لم تجر هذه الألفاظ بل لم يجر أيضاً ما معناه معنى هذه الألفاظ بل كان لا تنكشف ملحمة إلا عن جماعة من الأجلاف يسلمون تحت ظلال السيوف وجماعة من الأساري يسلمون واحداً واحداً بعد طول الزمان أو على القرب وكانوا إذا نطقوا بكلمة الشهادة علموا الصلاة والزكاة وردوا إلى صناعتهم من رعاية الغنم أو غيرها‏.‏

نعم لست أنكر أنه يجوز أن يكون ذكر أدلة المتكلمين أحد أسباب الإيمان في حق بعض الناس ولكن ذلك ليس بمقصور عليه وهو نادر أيضاً وساق الكلام إلى أن قال‏:‏ والحق الصريح أن كل من اعتقد أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم واشتمل عليه القرآن حق اعتقاداً جزماً فهو مؤمن وإن لم يعرف أدلته، فالإيمان المستعار من الدلائل الكلامية ضعيف جداً مشرف على التزلزل بكل شبهة بل الإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع والحاصل بعد البلوغ بقرائن لا يمكن العبارة عنها اه‏.‏

وفيه فوائد شتى ولذا نقلناه بطوله، ومتى جاز أن يقذف الله تعالى في قلب العبد نور الإيمان فيؤمن بلا نظر واستدلال جاز أن يقذف سبحانه في قلبه صدق المخبر بحيث لا يقدر على دفعه ولا يدري أنه من أين جاء لا سيما إذا كان المخبر هو النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من لازم قذف نور الإيمان في قلب المؤمن به عليه الصلاة والسلام أن يقذف في قلبه صدقه صلى الله عليه وسلم لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك، فقد ظهر أن دعوى الضرورة في أنه لا سبيل إلى العلم بصدق المخبر فيما أخبر به علماً ضرورياً إن لم تكن مكابرة فمنعها ليس مكابرة أيضاً، فإن الدليل قد قام على جواز حصول العلم الضروري بصدقه بل على وقوعه فليست تلك الدعوى من المقدمات الضرورية التي يكون منعها مكابرة غير مسموعة، وقد اتضح من جميع ما ذكر أن ما قاله السعد في «شرح المقاصد» من أن الحق أن المعرفة بدليل إجمالي يرفع الناظر من حضيض التقليد فرض عين لا مخرج عنه لأحد من المكلفين وبدليل تفصيلي يتمكن معه من ازاحة الشبه وإلزام المنكرين وإرشاد المسترشدين فرض كفاية لا بد من أن يقوم به البعض لا يخلو عن نظر على ما قيل، لكن الظاهر عندي أن الحق مع السعد من جهة أن الإيمان بمعنى التصديق مكلف به وشرط المكلف به كونه اختيارياً، وقد صرحوا أن التكليف بما ليس باختياري تكليف في الحقيقة بما يتوقف عليه من الأمور الاختيارية وان التصديق نفسه لكونه غير اختياري كان التكليف به في الحقيقة تكليفاً بما يتوقف هو عليه من النظر الاختياري، فالإيمان الذي يحصل بقذفه تعالى النور في القلب من غير فكر ولا روية ولا نظر ولا استدلال ليس اختيارياً بنفسه ولا باعتبار ما يحصل هو منه فكيف يكون مكلفاً به، وما مراد السعد ومن وافقه بالمعرفة إلا المعرفة من حيث أنها مكلف بها كما يشير إليه قوله‏:‏ لا مخرج عنه لأحد من المكلفين، وكون ذلك مكلفاً به باعتبار أمر اختياري غير النظر كتحصيل الاستعداد لإفاضة النور وخلق العلم الضروري في قلب العبد غير ظاهر‏.‏

نعم لست أنكر إن من المعرفة ما لا يتوقف على نظر في دليل إجمالي أو غيره كمعرفة الأنبياء عليهم السلام على ما سمعت عن بعضهم، وكمعرفة من شاء الله تعالى من عباده سبحانه غيرهم ولا أسمي نحو هذه المعرفة تقليدية، وكذا لا أنكر أن المعرفة الحاصلة من قذف النور فوق المعرفة الحاصلة من النظر في الدليل فإنها يخشى عليها من عواصف الشبه، وأذهب إلى أن النظر في الدليل مطلقاً واجب على من لم يحصل له العقد الجازم إلا به، وأما من حصل له ذلك بأي طريق كان دونه فلا يجب عليه وكذا لا يأثم بتركه، وحكاية الإجماع على إثمه به لا يخفى ما فيها، وتوجيه ذلك بأن جزم المؤمن حينئذ لا ثقة به إذ لو عرضت له شبهة فات وبقي متردداً بخلاف الجزم الناشيء عن الاستدلال فإنه لا يفوت بذلك غير ظاهر لأنه إذا سلم أن من تم جزمه من غير نظر فقد أتى بواجب الايمان فلا وجه لتأثيمه بترك النظر بناء على مجرد احتمال عروض شبهة مشوشة لجزمه لأنه إذا سلم أن الواجب عليه ليس إلا أن يجزم وقد جزم فقد أدى واجب الوقت وما ترك منه شيئاً، وكل من لم يترك واجباً معيناً في وقت معين لا معنى لتأثيمه في ذلك الوقت من جهة ذلك الواجب، وكما يحتمل عقلاً إن تعرض له شبهة تشوش عليه الجزم لعدم الدليل كذلك يحتمل عقلاً أن يحصل له الدليل على ما جزم به قبل عروض شبهة ولعل هذا الاحتمال أقوى وأقرب إلى الوقوع‏.‏

وإذا أحطت خبراً بجميع ما ذكرنا علمت أن الاستدلال بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلائَ الله‏}‏ على وجوب النظر في نظر لتوقفه على صحة قولهم‏:‏ إن العلم لا يحصل إلا بالنظر وقد سمعت ما فيه‏.‏ ويقوى ذلك إذا قلنا‏:‏ إن علمه صلى الله عليه وسلم بالوحدانية ضروري إذ يكون المراد الأمر بالثبات والاستمرار على ما هو صلى الله عليه وسلم فيه اجتناب ما يخل بالعمل، وقد يقال‏:‏ يجوز أن يكون الاستدلال نظراً إلى ظاهر اللفظ من حيث أنه أمر بالعلم بالوحدانية فلا بد أن يكون مقدوراً بنفسه أو باعتبار ما يحصل هو منه، وحيث انتفى كونه مقدوراً بنفسه تعين كونه مقدوراً باعتبار ما يحصل هو منه، والظاهر أنه النظر‏.‏

وأنت تعلم أنه إن كان التقليد سبباً من أسباب العلم إيضاً لم يتم هذا وإن لم يكن سبباً تم فتأمل، ثم اعلم أن النظر الذي قالوا به في الأصول الاعتقادية أعم من النظر في الأدلة العقلية والنظر في الأدلة السمعية، فإن منها ما ثبت بالسمع كالأمور الأخروية ومدخل العقل فيها ليس إلا بأنها أمور ممكنة أخبر الصادق بوقوعها وكل ممنكن أخبر الصادق بوقوعه واقع فتلك الأمور واقعة، وأما النطر في معرفة الله تعالى أعني التصديق بوجوده تعالى وصفاته العلا فقيل‏:‏ يتعين أن يكون المراد به النظر في الأدلة العقلية فقط، ولا يجوز أن يكون النظر في الأدلة السمعية طريقاً إليها لاستلزامه الدور‏.‏ وفي الجواب العتيد الدور لازم لكن لا مطلقاً بل بالنسبة إلى كل مطلوب يتوقف العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم به، وذلك لأن النظر في الأدلة السمعية إنما يكون طريقاً إلى المعرفة إذا كانت صادقة عند الناظر فيها، وصدقها في علم الناظر موقوف على علمه بأن هذا الذي يدعي أنه رسول الله الذي جاء بها صادقاً في دعواه الرسالة‏.‏ وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن الله تعالى قد أظهر المعجزات على يده تصديقاً له في دعواه وعلمه بذلك موقوف على العلم بأن ثمت إلهاً على صفة يمكن بها أن يبعث رسولاً ككونه حياً عالماً مريداً قادراً وهو من معرفة الإله سبحانه فلو استفدنا العلم بوجود الله تعالى وبتلك الصفات من الدلائل السمعية الموقوفة على صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لزم الدور كما ترى‏.‏ نعم إذا قيل‏:‏ إن المكلف بعدما آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم واعتقد اعتقاداً جازماً بصدقه في جميع ما جاء به من عند الله تعالى بأي وجه كان ذلك الجزم بالضرورة أو بالنظر أو بالتقليد فله أن يأخذ عقيدته من القرآن من غير تأويل ولا ميل من غير أن ينظر في دليل عقلي كان ذلك كلاماً صحيحاً لا غبار عليه، ولا يلزم منه تحصيل للحاصل بالنسبة إلى ما حصله أولاً من المسائل التي يتوقف عليها صدق الرسول عليه الصلاة والسلام لأن التحصيل الثاني من حيث أن الجائي بدلائلها صادق فيها والتحصيل الأول كان بالنظر العقلي من غير اعتبار صدق الرسول عليه الصلاة والسلام فاختلفت الحيثية فليفهم والله تعالى أعلم‏.‏

‏{‏والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ‏}‏ في الدنيا ‏{‏ومثوياكم‏}‏ في الآخرة، وخص المتلقب بالدنيا والمثوى بالآخرة لأن كل أحد متحرك في الدنيا دائماً نحومعاده غير قار وفي الآخرة مقيم لا حركة له نحو دار وراءها، والمراد من علمه تعالى بذلك تحذيرهم من جزائه وعقابه سبحانه أو الترغيب في امتثال ما يأمرهم جل شأنه به والترهيب عما ينهاهم عز وجل عنه على طريق الكناية، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ متقلبكم تصرفكم في حياتكم الدنيا ومثواكم في قبوركم وآخرتكم، وقال عكرمة‏:‏ متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات ومثواكم إقامتكم في الأرض؛ وقال الطبري‏:‏ وغيره‏:‏ متقلبكم تصرفكم في يقظتكم ومثواكم منامكم، وقيل‏:‏ متقلبكم في معايشكم ومتاجركم ومثواكم حيث تستقرون من منزلكم، وقيل‏:‏ متقلبكم في أعمالكم ومثواكم من الجنة والنار‏.‏

واختار أبو حيان عمومهما في كل متقلب وفي كل إقامة، ونحوه ما قيل‏:‏ المراد يعلم جميع أحوالكم فلا يخفى عليه سبحانه شيء منها‏.‏

وقرأ ابن عباس ‏{‏منقلبكم‏}‏ بالنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏نادمين وَيَقُولُ الذين ءامَنُواْ‏}‏ حرصاً على الجهاد لما فيه من الثواب الجزيل فالمراد بهم المؤمنون الصادقون ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَتْ سُورَةٌ‏}‏ أي هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد فلولا تحضيضية، وعن ابن مالك أن ‏{‏لا‏}‏ زائدة والتقدير لو أنزلت سورة وليس بشيء‏.‏

‏{‏فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال‏}‏ أي بطريق الأمر به، والمراد بمحكمة مبنية لا تشابه ولا احتمال فيها لوجه آخر سوى وجوب القتال، وفسرها الزمخشري بغير منسوخة الأحكام‏.‏ وعن قتادة كل سورة فيها القتال فهي محكمة وهو أشد القرآن على المنافقين وهذا أمر استقرأه قتادة من القرآن لا بخصوصية هذه الآية والمتحقق أن آيات القتال غير منسوخة وحكمها باق إلى يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ محكمة بالحلال والحرام‏.‏

وقرىء ‏{‏نُزّلَتْ‏}‏ سورة بالبناء للفاعل من نزل الثلاثي المجرد ورفع ‏{‏سُورَةٌ‏}‏ على الفاعل‏.‏

وقرأ زيد بن علي ‏{‏نُزّلَتْ‏}‏ كذلك إلا أنه نصب ‏{‏سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ‏}‏، وخرج ذلك على كون الفاعل ضمير السورة، و‏{‏سُوَرٍ مُّحْكَمَةٌ‏}‏ نصب على الحال‏.‏ وقرأ هو‏.‏ وابن عمير ‏{‏وَذَكَرَ‏}‏ مبنياً للفاعل وهو ضميره تعالى ‏{‏القتال‏}‏ بالنصب على أنه مفعول به ‏{‏رَأَيْتَ الذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ أي نفاق، وقيل‏:‏ ضعف في الدين ‏{‏يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت‏}‏ أي نظر المحتضر الذي لا يطرف بصره، والمراد تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً، وقيل‏:‏ يفعلون ذلك من شدة العداوة له عليه الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ من خشية الفضيحة فإنهم إن تخلفوا عن القتال افتضحوا وبأن نفاقهم، وقال الزمخشري‏:‏ كانوا يدعون الحرص على الجهاد ويتمنونه بألسنتهم ويقولون‏:‏ لولا أنزلت سورة في معنى الجهاد فإذا أنزلت وأمروا فيها بما تمنوا وحرصوا عليه كاعوا وشق عليهم وسقط في أيديهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فِرْقٍ *مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 77‏]‏ والظاهر ما ذكرناه أولاً من أن القائلين هم الذين أخلصوا في ايمانهم وإنما عرا المنافقين ما عرا عند نزول أمر المؤمنين بالجهاد لدخولهم فيهم بحسب ظاهر حالهم، وقد جوز هو أيضاً أرادة الخلص من الذين آمنوا لكن كلامه ظاهر في ترجح ما ذكره أولاً عنده والظاهر أن في الكلام عليه إقامة الظاهر مقام المضمر، وجوز أن يكون المطلوب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ أُنزِلَتْ سُورَةٌ‏}‏ إنزال سورة مطلقاً حيث كانوا يستأنسون بالوحي ويستوحشون إذا أبطأ، وروى نحوه عن ابن جريج‏.‏ أخرج ابن المنذر عنه أنه قال في الآية‏:‏ كان المؤمنون يشتاقون إلى كتاب الله تعالى وإلى بيان ما ينزل عليهم فيه فإذا نزلت السورة يذكر فيها القتال رأيت يا محمد المنافقين ينظرون إليك الخ‏.‏

‏{‏فأولى لَهُمْ‏}‏ تهديد ووعيد على ما روى عن غير واحد، وعن أبي علي أن ‏{‏أُوْلِى‏}‏ فيه علم لعين الويل مبني على زنة أفعل من لفظ الويل على القلب وأصله أويل وهو غير منصرف للعلمية والوزن، فالكلام مبتدأ وخبر‏.‏

واعترض بأن الويل غير متصرف فيه، ومثل يوم أيوم مع أنه غير منقاس لا يفرد عن الموصوف البتة، وإن القلب خلاف الأصل لا يرتكب إلا بدليل، وإن علم الجنس شيء خارج عن القياس مشكل التعقل خاصة فيما نحن فيه، ثم قيل‏:‏ إن الاشتقاق الواضح من الولي بمعنى القرب كما في قوله‏:‏

تكلفني ليلى وقد شط وليها *** وعادت عواد بيننا وخطوب

يرشد إلى أنه للتفضيل في الأصل غلب في قرب الهلاك ودعاء السوء كأنه قيل‏:‏ هلاكاً أولى لهم بمعنى أهلكهم الله تعالى هلاكاً أقرب لهم من كل شر وهلاك، وهذا كما غلب بعداً وسحقاً في الهلاك، وهو على هذا منصوب على أنه صفة في الأصل لمصدر محذوف وقد أقيم مقامه والجار متعلق به‏.‏ وفي «الصحاح» عن الأصمعي أولى له قاربه ما يهلكه أي نزل به وأنشد‏:‏

فعادى بين هاديتين منها *** وأولى أن يزيد على الثلاث

أي قارب أن يزيد، قال ثعلب‏:‏ ولم يقل أحد في ‏{‏أُوْلِى‏}‏ أحسن مما قاله الأصمعي، وعلى هذا هو فعل مستتر فيه ضمير الهلاك بقرينة السياق، وقريب منه ما قيل‏:‏ إنه فعل ماض وفاعله ضميره عز وجل واللام مزيدة أي أولاهم الله تعالى ما يكرهون أو غير مزيدة أي أدنى الله عز وجل الهلاك لهم، والظاهر زيادة اللام على ما سمعت عن الأصمعي، ومن فسره بقرب جوز الأمرين، وقيل‏:‏ هو اسم فعل والمعنى وليهم شر بعد شر، وقيل‏:‏ هو فعلى من آل بمعنى رجع لا أفعل من الولي فهو في الأصل دعاء عليهم بأن يرجع أمرهم إلى الهلاك، والمراد أهلكهم الله تعالى إلا أن التركيب مبتدأ وخبر، وقال الرضي‏:‏ هو علم للوعيد من وليه الشر أي قربه، والتركيب مبتدأ وخبر أيضاً‏.‏ واستدل بما حكى أبو زيد من قولهم‏:‏ أولاة بتاء التأنيث على أنه ليس بأفعل تفضيل ولا أفعل فعلى وأنه علم وليس بفعل ثم قال‏:‏ بل هو مثل أرمل وأرملة إذا سمي بهما ولذا لم ينصرف، وليس اسم فعل أيضاً بدليل أولاة في تأنيثه بالرفع يعني أنه معرب ولو كان اسم فعل كان مبنياً مثله‏.‏ وتعقب بأنه لا مكانع من كون أولاة لفظاً آخر بمعناه فلا يرد من ذلك على قائلي ما تقدم أصلاً، وجاء أول أفعل تفضيل وظرفاً كقبل وسمع فيه أولة كما نقله أبو حيان، وقيل‏:‏ الأحسن كونه أفعل تفضيل بمعنى أحق وأحرى وهو خبر لمبتدأ محذوف يقدر في كل مقام بما يليق به والتقدير ههنا العقاب أولى لهم، وروى ذلك عن قتادة ومال إلى هذا القول ابن عطية، وعلى جميع هذه الأقوال قوله تعالى‏:‏