فصل: تفسير الآية رقم (2)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏لّيَغْفِرَ لَكَ الله‏}‏ مذهب الأشاعرة القائلين بأن أفعاله تعالى لا تعلل بالاغراض أن مثل هذه اللام للعاقبة أو لتشبيه مدخولها بالعلة الغائية في ترتبه على متعلقها وترتب المغفرة على الفتح من حيث أن فيه سعيا منه صلى الله عليه وسلم في إعلاء كلمة الله تعالى بمكابدة مشاق الحروب واقتحام موارد الخطوب؛ والسلف كما قال ابن القيم وغيره يقولون بتعليل أفعاله عز وجل، وفي «شرح المقاصد» للعلامة التفتازاني أن من بعض أدلتهم أي الأشاعرة ومن وافقهم على هذا المطلب يفهم أنهم أرادوا عمون السلب ومن بعضها أنهم أرادوا سلب العموم، ثم قال‏:‏ الحق أن بعض أفعاله تعالى معلل بالحكم والمصالح وذلك ظاهر والنصوص شاهدة به، وأما تعميم ذلك بأنه لا يخلو فعل من أفعاله سبحانه من غرض فمحل بحث، وذكر الأصفهاني في «شرح الطوالع» في هذه المسألة خلافاً للمعتزلة وأكثر الفقهاء، وأنا أقول‏:‏ بما ذهب إليه السلف لوجود التعليل فيما يزيد على عشرة آلاف آية وحديث والتزام تأويل جميعها خروج عن الانصاف، وما يكذره الحاضرون من الأدلة يدفع بأدنى تأمل كما لا يخفى على من طالع كتب السلفيين عليهم الحرمة‏.‏ وفي الكشاف لم يجعل الفتح علة للمغفرة لكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة واتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز كأنه قيل‏:‏ يسرنا لك فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين واغراض العاجل والآجل، وحاصله كما قال العلامة ان الفتح لم يجعل علة لكل من المتعاطفات بعد اللام أعني المغفرة واتمام النعمة والهداية والنصر بل لاجتماعها، ويكفي في ذلك أن يكون له دخل في حصول البعض كإتمام النعمة والنصر العزيز، وتحقيقه كما قال أن العطف على المجرور باللام قد يكون للاشتراك في متعلق اللام مثل جئتك لأفوز بلقياك وأحوز عطاياك ويكون بمنزلة تكرير اللام وعطف جار ومجرور على جار ومجرور، وقد يكون للاشتراك في معنى اللام كجئتك لتستقر في مقامك وتفيض على من انعامك أي لاجتماع الأمرين، ويكون من قبيل جاءني غلام زيد وعمرو أي الغلام الذي لهما‏.‏ واستظهر دفعا لتوهم أنه إذا كان المقصود البعض فذكر الباقي لغو أن يقال‏:‏ لا يخلو كل منهما أن يكون مقصوداً بالذات وهو ظاهر أو المقصود البعض وحينئذ فذكر غيره إما لتوقفه عليه أو لشدة ارتباطه به أو ترتبه عليه فيذكر للإشعار بأنهما كشيء واحد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا فَتُذَكّرَ إِحْدَاهُمَا الاخرى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وقولك‏:‏ أعددت الخشب ليميل الحائط فادعمه ولازمت غريمي لأستوفي حقي وأخليه‏.‏ وظاهر كلام الزمخشري أن المقصود فيما نحن فيه تعليل الهيئة الإجتماعية فحسب فتأمل لتعرف أنه من أي الاقسام هو‏.‏

واعلم أن المشهور كون العلة ما دخلته اللام لا ما تعلقت به كما هو ظاهر عبارة الكشاف؛ لكن حقق أنها إذا دخلت على الغاية صح أن يقال‏:‏ إن ما بعدها علة ويراد بحسب التعقل وأن يقال‏:‏ ما تعلقت به علة ويراد بحسب الوجود فلا تغفل‏.‏ وزعم صاحب الغنيان أن اللام ههنا هي لام القسم وكسرت وحذف النون من الفعل تشبيهاً بلام كي‏.‏ ورد بأن لام القسم لا تكسر ولا ينصب بها فإنه لم يسمع والله ليقوم زيد على معنى ليقومن زيد، وانتصر له بأن الكسر قد علل بتشبيهها بلام كي‏.‏

وأما النصب فله أن يقول فيه‏:‏ بأنه ليس نصباً وإنما هو الحركة التي تكون مع وجود النون بقيت بعد حذفها دلالة على الحذف‏.‏ وأنت تعلم أنه لا يجدي نفعاً مع عدم السماع، هذا والالتفات إلى اسم الذات المستتبع لجميع الصفات قيل‏:‏ للاشعار بأن كل واحد مما انتظم في سلك الغاية من أفعاله تعالى صادر عنه عز وجل من حيثية غير حيثية الآخر مترتبة على صفة من صفاته جل شأنه‏.‏

وقال الصدر لا يبعد أن يقال‏:‏ إن التعبير عنه تعالى في مقام المغفرة بالاسم الجليل المشعر بصفات الجمال والجلال يشعر بسبق مغفرته تعالى على عذابه، وفي البحر لما كان الغفران وما بعده يشترك في إطلاقه الرسول عليه الصلاة والسلام وغيره لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 116‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 3‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يابنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِيَ التى أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 40‏]‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَهْدِى مَن يَشَآء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 142‏]‏ وقوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 172‏]‏ وكان الفتح مختصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم أسنده الله تعالى إلى نون العظمة تفخيماً لشأنه وأسند تلك الأشياء إلى الاسم الظاهر وضميره وهو كما ترى وإن قاله الإمام أيضاً، وأقول‏:‏ يمكن أن يكون في إسناد المغفرة إليه تعالى بالاسم الأعظم بعد إسناد الفتح إليه تعالى بنون العظمة إيماء إلى أن المغفرة ما يتولاها سبحانه بذاته وأن الفتح مما يتولاه جل شأنه بالوسائط، وقد صرح بعضهم بأن عادة العظماء أن يعبروا عن أنفسهم بصيغة المتكلم مع الغير لأن ما يصدر عنهم في الأكثر باستخدام توابعهم، ولا يعترض بأن النصر كالفتح وقد أسند إلى الاسم الجليل لما يخفي عليك، وتقديم ‏{‏لَكَ‏}‏ على المفعول الصريح أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ لما مر غير مرة، و‏{‏مَا‏}‏ للعموم والمتقدم والمتأخر للإحاطة كناية عن الكل، والمراد بالذنب ما فرط من خلاف الأولى بالنسبة إلى مقماه عليه الصلاة والسلام فهو من قبيل حسنات الأبرار سيآت المقربين، وقد يقال‏:‏ المراد ما هو ذنب في نظره العالي صلى الله عليه وسلم وان لم يكن ذنبا ولا خلاف الأولى عنده تعالى كما ير من إلى ذلك الإضافة‏.‏

وقال الصدر‏:‏ يمكن أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّيَغْفِرَ‏}‏ الخ كناية عن عدم المؤاخذة أو من باب الاستعارة التمثيلية من غير تحقق معاني المفردات‏.‏ وأخرج ابن المنذر عن عامر‏.‏ وأبي جعفر أنهما قالا‏:‏ ما تقدم في الجاهلية وما تأخر في الإسلام، وقيل ما تقدم من حديث مارية وما تأخر من امرأة زيد وليس بشيء مع أن العكس أولى لأن حديث امرأة زيد متقدم‏.‏ وفي الآية مع ما عهد من حاله صلى الله عليه وسلم من كثرة العبادة ما يدل على شرف مقامه إلى حيث لا تحيط به عبارة، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت صام وصلى حتى انتفخت قدماه وتعبد حتى صار كالشن البالي فقيل له‏:‏ أتفعل هذا بنفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك أو ما تأخر‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ أفلا أكون عبداً شكوراً ‏{‏وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏}‏ باعلاء الدين وانتشاره في البلاد وغير ذلك مما أفاضه تعالى عليه صلى الله عليه وسلم من النعم الدينية والدنيوية ‏{‏وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ في تبليغ الرسالة وإقامة الحدود، قيل‏:‏ إن أصل الاستقامة وإن كان حاصلاً قبل الفتح لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبل الحق واستقامة مناهجه ما لم يكن حاصلاً قبل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَنصُرَكَ الله‏}‏ اظهار الاسم الجليل مع النصر قيل‏:‏ لكونه خاتمة العلل أو الغايات ولإظهار كمال العناية بشأنه كما يعرب عنه أردافه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَصْراً عَزِيزاً‏}‏ وقال الصدر‏:‏ أظهر الاسم في الصدر وهنا لأن المغفرة تتعلق بالآخرة والنصر يتعلق بالدنيا فكأنه أشير بإسناد المغفرة والنصر إلى صريح اسمه تعالى إلى أن الله عز وجل هو الذي يتولى أمرك في الدنيا والآخرة، وقال الإمام‏:‏ أظهرت الجلالة هنا إشارة إلى أن النصر لا يكون إلا من عند الله تعالى كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 126‏]‏ وذلك لأن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 127‏]‏ لأنه سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله ‏{‏أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 28‏]‏ والعزيز بحسب الظاهر هو المنصور، وحيث وصف به النصر فهو إما للنسبة وإن كان المعروف فيها فاعلاً كلا بن وفعالا كبزاز أي نصراً فيه عز ومنعة، أو فيه نجوز في الإسناد من باب وصف المصدر بصيغة المفعول وهو المنصور هنا نحو ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 104‏]‏ في قول لا الفاعل وهو الناصر لما قيل من عدم مناسبته للمقام وقلة فائدته إذ الكلام في شأن المخاطب المنصور، لا المتكلم الناصر وفيه شيء، وقيل‏:‏ الكلام بتقدير مضاف أي عزيز صاحبه وهو المنصور وفيه تكلف الحذف والإيصال‏.‏

وقد يقال‏:‏ يحتاج إلى شيء مما ذكر إذ لا مانع من وصف النصر بالعزيز على ما هو الظاهر بناء على أحد معاني الغزة وهو قلة الوجود وصعوبة المنال، والمعنى ينصرك الله نصراً يقل وجود مثله ويصعب مناله، وقد قال الراغب بهذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لكتاب عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 41‏]‏ ورأيت ذلك للصدر بعد أن كتبته من الصدر فتأمل ولا تكن ذا عجز‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين‏}‏ بيان لما أفاض سبحانه عليهم من مبادي الفتح، والمراد بالسكينة الطمأنينة والثبات من السكون أي أنزلها في قلوبهم بسبب الصلح والأمن إظهاراً لفضله تعالى عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف، والمراد بإنزالها خلقها وإيجادها، وفي التعبير عن ذلك بالإنزال إيماء إلى علو شأنها‏.‏

وقال الراغب‏:‏ إنزال الله تعالى نعمته على عبدإعطاؤه تعالى إياها وذلك إما بإنزال الشيء نفسه كإنزال القرآن أو بإنزال أسبابه والهداية إليه كإنزال الحديد ونحوه، وقيل‏:‏ ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ من نزل في مكان كذا حط رحله فيه وأنزله غيره، فالمعنى حط السكينة في قلوبهم فكان قلوبهم منزلاً لها ومأوى، وقيل‏:‏ السكينة ملك يسكن قلب المؤمن ويؤمنه كما روي أن علياً رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه قال‏:‏ إن السكينة لتنطق على لسان عمر، وأمر الإنزال عليه ظهار جداً‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ والبيهقي في الدلائل‏.‏ وغيرهما عن ابن عباس أنه قال‏:‏ السكينة هي الرحمة، وقيل‏:‏ هي العقل ويقال له سكينة إذا سكن عن الميل إلى الشهوات وعن الرعب، وقيل‏:‏ هي الوقار والعظمة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هي من سكن إذا كذا مال إليه أي أنزل في قلوبهم السكون والميل إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرائع، وأرجح التفاسير هنا على ما قال الخفاجي‏:‏ الأول، وما ذكره بعضهم من أن السكينة شيء له رأس كرأس الهرة فما أراه قولاً يصح ‏{‏لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم‏}‏ أي يقيناً مع يقينهم برسوخ العقيدة واطمئنان النفوس عليها على أن الإيمان لما ثبت في الأزمنة نزل تجدد أزمانه منزلة نجدده وازدياده فاستعير له ذلك ورشح بكملة مع، وقيل‏:‏ ازدياد الإيمان بازدياد ما يؤمن به، وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول ما أتاهم به النبي صلى الله عليه وسلم التوحيد ثم الصلاة والزكاة ثم الحج والجهاد فازدادوا إيماناً مع إيمانهم، ومن قال‏:‏ الأعمال من الإيمان قال بأنه نفسه أي الإيمان المركب من ذلك وغيره يزيد وينقص ولم يحتج في الآية إلى تأويل بل جعلها دليلاً له، وتفصيل الكلام في هذا المقام أنه ذهب جمهور الأشاعرة والقلانسي والفقهاء والمحدثون والمعتزلة إلى أن الإيمان يزيد وينقص ونقل ذلك عن الشافعي ومالك، وقال البخاري‏:‏ لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، واحتجوا على ذلك بالعقل والنقل، أما الأول فلأنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء عليهم السلام مثلا واللازم باطل فكذا الملزوم، وأما الثاني فلكثرة النصوص في هذا المعنى، مناه الآية المذكورة، ومنها ما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قلنا‏:‏

«يا رسول الله ان الإيمان يزيد وينقص قال‏:‏ نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار»، ومنها ما روي عن عمر وجابر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً «لو وزن إيمان أبي بكر يإيمان هذه الأمة لرجح به» واعترض بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده‏.‏

أما أولاً فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصاً، أوما ثانياً فلأن أحداً لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال‏.‏ وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال، والجماعة إنما يقولون‏:‏ إنها شرط كمال في الإيمان فلا يلزم عند الانتفاء إلا انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان‏.‏

وقال النووي وجماعة محققون من علماء الكلام‏:‏ إن الإيمان بمعنى التصديق القلبي يزيد وينقص أيضاً بكثرة النظر ووضوح الأدلة وعدم ذلك، ولهذا كان إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم بحيث لا تعتريه الشبه، ويؤيده أن كل واحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً منه في بعضها فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها‏.‏ واعترض بأنه متى قبل ذلك كان شكا‏.‏

ودفع بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنها لا شك معها وممن وافق النووي على ما حزم به السعد في القسم الثاني من تهذيبه، وقال جماعة من العلماء أعظمهم الإمام أبو حنيفة وتبعه أصحابه وكثير من المتكلمين الإيمان لا يزد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين، واحتجوا بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وهذا لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، فالصدق إذا ضم إليه الطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلاً وإنما يتفاوت إذا كان اسماً للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة‏.‏ وأجابوا عما تمسك به الأولون بوجوه، منها ما أشرنا أولاً من أن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والأوقات‏.‏ وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين‏:‏ النبي صلى الله عليه وسلم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشرك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي عليه الصلاة والسلام متوالية ولغيره على الفترات فثبتت للنبي صلى الله عليه وسلم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه صلى الله عليه وسلم أكثر، والزيادة بهذا المعنى قيل مما لانزاع فيها‏.‏

واعترض بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه كسواد الجسم، ودفع بأن المراد زيادة أعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك، ومنها ما أسرنا إليه ثانياً من أن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين آمنوا أولا بما آمنوا به وكانت الشريعة لم تتم وكانت الأحكام تنزل شيئاً فشيئاً فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة لا يختص ذلك بعصره صلى الله عليه وسلم لإمكان الاطلاع على التفاصيل في غيره من العصور أيضاً، ومنها أن المراد زيادة ثمرته واشراق نوره في القلب فإن نور الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، قيل‏:‏ وهذا إنما يحتاج إليه بعد إقامة قاطع على امتناع قبول التصديق الزيادة والنقص ومتى لم يقم قاطع على ذلك كان الأولى إبقاء الظواهر على حالها، وقال الخطابي‏:‏ الإيمان قول وهو لا يزيد ولا ينقص وعمل وهو يزيد وينقص واعتقاد وهو يزيد ولا ينقص فإذا نقص ذهب واعترض أنه إذا زاد ثم عاد إلى ما كان فقد نقص ولم يذهب‏.‏

ودفع بأن مراده أن الاعتقاد باعتبار أول مراتبه يزيد ولا ينقص لا أن الاعتقاد مطلقاً كذلك، وذهب جماعة منهم الإمام الرازي‏.‏ وإمام الحرمين إلى أن الخلاف لفظي وذلك بحمل قول النفي على أصل الإيمان وهو التصديق فلا يزيد ولا ينقص وحمل قول الإثبات على ما به كماله وهو الأعمال فيكون الخلاف في هذه المسألة فرع الخلاف في تفسير الإيمان، والحق أنه حقيقي لما سمعت عن الإمام النووي ومن معه من أن التصديق نفسه يزيد وينقص‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ أن الزيادة والنقص من خواص الكم والتصديق قسم من العلم ولم يقل أحد بأنه من مقولة الكم وإنما قيل هو كيف أو انفعال أو اضافة وتعلق بين العلم والمعلوم أو صفة ذات إضافة؛ والأشهر أنه كيف فمتى صح ذلك وقلنا بمغايرة الشدة والضعف للزيادة والنقص فلا بأس بحملهما في النصوص وغيرها على الشدة والضعف وذلك مجاز مشهور، وإنكار اتصاف الإيمان بهما يكاد يلحق بالمكابرة فتأمل، وذكر بعضهم هنا أن الإيمان الذي هو مدخول مع هو الإيمان الفطري والإيمان المذكور قبله الإيمان الاستدلالي فكأنه قيل‏:‏ ليزدادوا إيماناً استدلالياً مع إيمانهم الفطري، وفيه من الخفاء ما فيه ‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والارض‏}‏ يدبر أمرها كيفما يريد فيسلط بعضها على بعض تارة ويوقع سبحانه بينها السلم أخرى حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح، ومن قضية ذلك ما وقع في الحديبية ‏{‏وَكَانَ الله عَلِيماً‏}‏ مبالغاً في العلم بجميع الأمور ‏{‏حَكِيماً‏}‏ في تقديره وتدبيره عز وجل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

ليُدْخلَ الْمُؤْمنيَ وَالمُؤْمنَت جَنَّات تَجْري منْ تَحْتهَا الأنْهَارُ خَالدينَ فيهَا‏}‏ متعلق بما يدل عليه ما ذكر من كون جنود السموات والأرض له جل شأنه من معنى التصرف والتدبير، وقد صرح بعض الأفاضل بانه كناية عنه أي دبر سبحانه ما دبر من تسليط المؤمنين ليعرفوا نعمة الله تعالى في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة فالعلة في الحقيقة معرفة النعمة وشكرها لكنها لما كانت سبباً لدخول الجنة أقيم المسبب مقام السبب‏.‏

وقيل‏:‏ متعلق بفتحنا، وقيل‏:‏ بانزل، وتعلقه بذلك مع تعلق اللام الأخرى به مبني على تعلق الأول به مطلقاً والثاني مقيداً وتنزيل تغاير الوصفين منزلة تغاير الذاتين وإلا فلا يتعلق بعامل واحد حرفاً جر بمعنى واحد من غير اتباع، وقيل‏:‏ متعلق بينصرك، وقيل‏:‏ بيزداد، وقيل‏:‏ بجميع ما ذكر إما على التنازع والتقدير أو بتقدير ما يشمل ذلك كفعل سبحانه ما ذكر ليدخل الخ، وقيل‏:‏ هو بدل من ليزداد بدل اشتمال فإن ادخال المؤمنين والمؤمنات الجنة وكذا ما عطف عليه مستلزم لزيادة الإيمان وبدل الاشتمال يعتمد على ملابسة ما بين المبدل والمبدل منه بحيث يشعر أحدهما بالآخر غير الكلية والبعضية، ولعل الأظهر الوجه الأول، وضم المؤمنات ههنا إلى المؤمنين دفعا لتوهم اختصاص الحكم بالذكور لأجل الجهاد والفتح على أيديهم، وكذا في كل موضع يوهم الاختصاص يصرح بذكر النساء، ويقال نحو ذلك فيما بعد كذا قيل‏:‏ واخرج ابن جرير‏.‏ وجماعة عن أنس قال‏:‏ «أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ في مرجعه من الحديبية فقال‏:‏ لقد أنزلت على آية هي أحب إلى مما على الأرض ثم قرأها عليهم فقالوا‏:‏ هنيئاً مريئاً يا رسول الله قد بين الله تعالى لك ماذا يفعل بك فماذا يفعل بنا فنزلت ‏{‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات‏}‏ حتى بلغ ‏{‏فوزاً عظيماً‏}‏»

‏{‏وَيُكَفّرَ عَنْهُمْ سيئاتهم‏}‏ أي يغطيها ولا يظهرها، والمراد يمحوها سبحانه ولا يؤاخذهم بها، وتقديم الادخال في الذكر على التكفير مع أن الترتيب في الوجود على العكس للمسارعة إلى بيان ما هو المطلوب إلا على كذا قال غير واحد، ويجوز عندي أن يكون التكفير في الجنة على أن المعنى يدخلهم الجنة ويغطي سيآتهم ويسترها عنهم فلا تمر لهم ببال ولا يذكرونها أصلاً لئلا يخجلوا فيتكدر صفو عيشهم، وقد مر مثل ذلك‏.‏

‏{‏وَكَانَ ذلك‏}‏ أي ما ذكر من الادخال والتكفير ‏{‏عِندَ فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ لا يقادر قدره لأنه منتهى ما تمتد إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر، و‏{‏عَندَ الله‏}‏ حال من ‏{‏فَوْزاً‏}‏ لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها أعربت حالاً، وكونه يجوز فيه الحالية إذا تأخر عن ‏{‏عَظِيماً‏}‏ لاضير فيه كما توهم أي كائناً عند الله تعالى أي في علمه سبحانه وقضائه جل شأنه، والجملة اعتراض مقرر لما قبله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُعَذّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات‏}‏ عطف على ‏{‏يدخل‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 5‏]‏ أي وليعذب المنافقين الخ لغيظهم من ذلك، وهو ظاهر على جميع الأوجه السابقة في ‏{‏لّيُدْخِلَ‏}‏ حتى وجه البدلية فإن بدل الاشتمال تصححه اللابسة كما مر، وازدياد الإيمان على ما ذكرنا في تفسيره مما يغيظهم بلا ريب، وقيل‏:‏ إنه على هذا الوجه يكون عطفاً على المبدل منه، وتقديم المنافقين على المشركين لأنهم أكثر ضرراً على المسلمين فكان في تقديم تعذيبهم تعجيل المسرة‏.‏

‏{‏الظانين بالله ظَنَّ السوء‏}‏ أي ظن الأمر الفاسد المذموم وهو أنه عز وجل لا ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وقيل‏:‏ المراد به ما يعم ذلك وسائر ظنونهم الفاسدة من الشرك أو غيره ‏{‏عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السوء‏}‏ أي ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم ودائر عليهم، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ‏{‏دَائِرَةُ السوء‏}‏ بالضم، والفرق بينه وبين ‏{‏السوء‏}‏ بالفتح على ما في الصحاح أن المفتوح مصدر والمضموم اسم مصدر بمعنى المساءة‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ هما لغتان بمعنى كالكره والكره عند الكسائي وكلاهما في الأصل مصدر غير أن المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمه والمضموم جري مجري الشر، ولما كانت الدائرة هنا محمودة وأضيفت إلى المفتوح في قراءة الأكثر تعين على هذا أن يقال‏:‏ إن ذاك على تأويل انها مذمومة بالنسبة إلى من دارت عليه من المنافقين والمشركين واستعمالها في المكروه أكثر وهي مصدر بزنة اسم الفاعل أو اسم فاعل، وإضافتها على ما قال الطيبي من إضافة الموصوف إلى الصفة للبيان على المبالغة، وفي الكشف الإضافة بمعنى من على نحو دائرة ذهب فتدبر‏.‏

والكلام إما اخبار عن وقوع السوء بهم أو دعاء عليهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ‏}‏ عطف على ذلك، وكان الظاهر فلعنهم فأعد بالفاء في الموضعين لكنه عدل عنه للإشارة إلى أن كلا من الأمرين مستقل في الوعيد به من غير اعتبار للسببية فيه ‏{‏وَسَاءتْ مَصِيراً‏}‏ جهنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السموات والارض‏}‏ ذكر سابقاً ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏ على أن المراد أنه عز وجل المدبر لأمر المخلوقات بمقتضى حكمته فلذلك ذيل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلِيماً حَكِيماً‏}‏ وههنا أريد به التهديد بأنهم في قبضة قدرة المنتقم ولذا ذيل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً‏}‏ فلا تكرار كما قال الشهاب، وقيل‏:‏ إن الجنود جنود رحمة وجنود عذاب، والمراد به هنا الثاني كام ينبىء عنه التعرض لوصف العزة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أرسلناك شاهدا‏}‏ أي على امتك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ عن قتادة شاهداً على أمتك وشاهداً على الأنبياء عليهم السلام أنهم قد بلغوا ‏{‏وَمُبَشّراً‏}‏ بالثواب على الطاعة ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏ بالعذاب على المعصية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ وهو من باب التغليب غلب فيه المخاطب على الغيب فيفيد أن النبي عليه الصلاة والسلام مخاطب بالإيمان برسالته لأمة وهو كذلك، وقال الواحدي‏:‏ الخطاب في ‏{‏أرسلناك‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 8‏]‏ للنبي صلى الله عليه وسلم وفي ‏{‏لّتُؤْمِنُواْ‏}‏ لأمته فعلى هذا إن كان اللام للتعليل يكون المعلل محذوفاً أي لتؤمنوا بالله وكيت وكيت فعل ذلك الإرسال أو للأمر على طريقة ‏{‏فبذلك فلتفرحوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 58‏]‏ على قراءة التاء الفوقانية فقيل هو على معنى قل لهم‏:‏ لتؤمنوا الخ، وقيل‏:‏ هو للأمة على أن خطابه صلى الله عليه وسلم منزل منزلة خطابهم فهو عينه ادعاء، واللام متعلقة بأرسلنا، ولا يعترض عليه بما قرره الرضى وغيره من أنه يمتنع أن يخاطب في كلام واحد اثنان من غير عطف أو تثنية أو جمع لأنه بعد التنزيل لا تعدد، وجوز أن يكون ذلك لأنهم حينئذ غير مخاطبين في الحقيقة فخطابهم في حكم الغيبة، وقيل‏:‏ الامتناع المذكور مشروط بأن يكون كل من المخاطبين مستقلاً أما إذا كان أحدهما داخلا في خطاب الآخر فلا امتناع كما يعلم من تتبع كلامهم، وحينئذ يجوز أن يراد خطاب الأمة أيضاً من غير تغليب، والكلام في ذلك طويل وما ذكر سابقاً سالم عن القال والقيل ‏{‏وَرَسُولِهِ وَتُعَزّرُوهُ‏}‏ أي تنصروه كما روي عن جابر بن عبد الله مرفوعاً وأخرجه جماعة عن قتادة، والضمير لله عز وجل، ونصرته سبحانه بنصره دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَتُوَقّرُوهُ‏}‏ أي تعظموه كما قال قتادة وغيره، والضمير له تعالى أَيضاً، وقيل‏:‏ كلا الضميرين للرسول صلى الله عليه وسلم وروي عن ابن عباس، وزعم بعضهم أنه يتعين كون الضمير في ‏{‏تعزروه‏}‏ للرسول عليه الصلاة والسلام لتوهم أن التعزير لا يكون له سبحانه وتعالى كما يتعين عند الكل كون الضمير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتُوَقّرُوهُ وَتُسَبّحُوهُ‏}‏ لله سبحانه وتعالى، ولا يخفى أن الأول كون المضيرين فيما تقدم لله تعالى أيضاً لئلا يلزم فك الضمائر من غير ضرورة أي وتنزهوا الله تعالى أو تصلوا له سبحانه من السبحة ‏{‏بُكْرَةً وَأَصِيلاً‏}‏ غدوة وعشيا، والمراد ظاهرهما أو جميع النهار ويكنى عن جيمع الشيء بطرفيه كما يقال شرقاً وغرباً لجميع الدنيا، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما صلاة الفجر وصلاة الظهر وصلاة العصر، وقرأ أبو جعفر‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأبو عمرو الأفعال الأربعة أعني لتؤمنوا وما بعده بياء الغيبة، وعن ابن مسعود‏.‏ وابن جبير كذلك إلا أنهما قرآ ‏{‏عَبْدُ الله‏}‏ بالاسم الجليل مكان الضمير، وقرى الجحدري ‏{‏تعزروه‏}‏ بفتح التاء الفوقية وضم الزاي مخففاً، وفي رواية عنه فتح الاتء وكسر الزاي مخففاً وروي هذا عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، وقرىء بضم التاء وكسر الزاي مخففاً، وقرأ ابن عباس‏.‏ ومحمد بن اليماني ‏{‏تعززوه‏}‏ بزاءين من العزة أي تجعلوه عزيزاً وذلك بالنسبة إليه سبحانه بجعل دينه ورسوله صلى الله عليه وسلم كذلك‏.‏ وقرىء ‏{‏وَتُوَقّرُوهُ‏}‏ من أوقره بمعنى وقره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ‏}‏ يوم الحديبية على الموت في نصرتك كما روي عن سلمة بن الأكوع وغيره أو على أن لا يفروا من قريش كما روي عن ابن عمر‏.‏ وجابر رضي الله تعالى عنهم، وسيأتي الكلام في تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى، والمبايعة وقعت قبل نزول الآية فالتعبير بالمضارع لاستحضار الحال الماضية، وهي مفاعلة من البيع يقال‏:‏ بايع السلطان مبايعة إذا ضمن بذل الطاعة له بما رضخ له، وكثيراً ما تقال على البيعة المعروفة للسلاطين ونحوهم وإن لم يكن رضخ، وما وقع للمؤمنين قيل يشير إلى ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ الآية ‏{‏إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله‏}‏ لأن المقصود من بيعة الرسول عليه الصلاة والسلام وإطاعته إطاعة الله تعالى وامتثال أوامره سبحانه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 80‏]‏ فمبايعة الله تعالى بمعنى طاعته سبحانه مشاكلة أو هو صرف مجاز، وقرىء ‏{‏إِنَّمَا يُبَايِعُونَ لِلَّهِ‏}‏ أي لأجل الله تعالى ولوجهه، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونك لله ‏{‏يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ استئناف مؤكد لما قبله لأنه عبارة عن المبايعة، قال في الكشاف لما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله‏}‏ أكده على طريقة التخييل فقال تعالى‏:‏ ‏{‏يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ وانه سبحانه منزه عن الجوارح وصفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول صلى الله عليه وسلم كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما‏.‏ وفي المفتاح أما حسن الاستعارة التخييلية فبحسب حسن الاستعارة بالكناية متى كانت تابعة لها كما في قولك‏:‏ فلان بين أنياب المنية ومخالبها ثم إذا انضم إليها المشاكلة كما في ‏{‏يَدُ الله‏}‏ الخ كانت أحسن وأحسن، يعني أن في اسم الله تعالى استعارة بالكناية تشبيهاً له سبحانه وتعالى بالمبايع واليد استعارة تخييلية مع أن فيها أيضاف مشاكلة لذكرها مع أيدي الناس، وامتناع الاستعارة في اسم الله تعالى إنما هو في الاستعارة التصريحية دون المكنية لأنه لا يلزم إطلاق اسمه تعالى على غيره سبحانه، وروى الواحدي عن ابن كيسان اليد القوة أي قوة الله تعالى ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم أي ثق بنصرة الله تعالى لك لا بنصرتهم وإن بايعوك‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ المعنى يد الله في الوفاء فوق أيديهم أو في الثواب فوق أيديهم في الطاعة أو يد الله سبحانه في المنة عليهم في الهداية فوق أيديهم في الطاعة، وقيل‏:‏ المعنى نعمة الله تعالى عليهم بتوفيقهم لمبايعتك فوق نعمتهم وهي مبايعتهم إياك وأعظم منها، وفيه شيء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ للايمان‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏ وكل ذلك تأويلات ارتكبها الخلف وأحسنها ما ذكر أولاً، والسلف يمرون الآية كما جاءت مع تنزيه الله عز وجل عن الجوارح وصفات الأجسام وكذلك يفعلون في جميع المتشابهات ويقولون‏:‏ إن معرفة حقيقة ذلك فرع معرفة حقيقة الذات وأنى ذلك وهيهات هيهات، وجوز أن تكون الجملة خبراً بعد خبر لإن، وكذا جوز أن تكون حالاً من ضمير الفاعل في ‏{‏يُبَايِعُونَكَ‏}‏ وفي جواز ذلك مع كونها اسمية غير مقترنة بالواو كلام ‏{‏فَمَن نَّكَثَ‏}‏ نقض العهد ‏{‏فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ‏}‏ فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه، وروى الزمخشري عن جابر بن عبد الله أنه ما نكث أحد البيعة إلا جد بن قيس وكان منافقاً، والذي نقله الطيبي عن مسلم يدل على أن الرجل لم يبايع لا أنه بايع ونكث قال‏:‏ سئل جابر كم كانوا يوم الحديبية‏؟‏ قال‏:‏ كنا أربع عشرة مائة فبايعناه وعمر رضي الله تعالى عنه آخذ بيده صلوات الله تعالى وسلامه عليه تحت الشجرة وهي سمرة فبايعناه غير جد بن قيس الأنصاري اختفى تحت بطن بعيره ولم يسر مع القوم، ولعل هذا هو الأوفق لظاهر قوله تعالى‏:‏

‏{‏لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 18‏]‏ الآية‏.‏

وقرأ زيد بن علي ‏{‏يَنكُثُ‏}‏ بكسر الكاف ‏{‏وَمَنْ أوفى بِمَا عاهد عَلَيْهِ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ هو الجنة وما يكون فيها مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ويقال‏:‏ وفى بالعهد وأوفى به إذا تممه وأوفى لغة تهامة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ بالعقود‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏والموفون بِعَهْدِهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 177‏]‏ وقرىء ‏{‏بِمَا عاهد‏}‏ ثلاثياً‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ بكسر الهاء كما هو الشائع وضمها حفص هنا، قيل‏:‏ وجه الضم أنها هاء هو وهي مضمومة فاستصحب ذلك كما في له وضربه، ووجه الكسر رعاية الياء وكذا في إليه وفيه وكذا فيما إذا كان قبلها كسرة نحو به ومررت بغلامه لثقل الانتقال من الكسر إلى الضم، وحسن الضم في الآية التوصل به إلى تفخيم لفظ الجلالة الملائم لتخفيم أمر العهد المشعر به الكلام، وأيضاً إبقاء ما كان على ما كان ملائم للوفاء بالعهد وإبقائه وعدم نقضه، وقد سألت كثيراً من الأجلة وأنا قريب عهد بفتح فمي للتكلم عن وجه هذا الضم هنا فلم أجب بما يسكن إليه قلبي ثم ظفرت بما سمعت والله تعالى الهادي إلى ما هو خير منه، وقرأ ابن كثير‏.‏ ونافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ وروح‏.‏ وزيد بن علي ‏{‏فسنؤتيه‏}‏ بالنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏عَظِيماً سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الاعراب‏}‏ قال مجاهد‏.‏ وغيره ودخل كلام بعضهم في بعض المخلفون من الأعراب هم جهينة‏.‏ ومزينة‏.‏ وغفار‏.‏ وأشجع‏.‏ والديل‏.‏ وأسلم استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً ليخرجوا معه حذراً من قريش أني عرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت وأحرم هو صلى الله عليه وسلم وساق معه الهدى ليعلم أنه لا يريد حرباً ورأى أولئك الأعراب أنه عليه الصلاة والسلام يستقبل عدداً عظيماً من قريش‏.‏ وثقيف‏.‏ وكنانة‏.‏ والقبائل المجاورين مكة وهم الأحابيش ولم يكن الإيمان تمكن من قلوبهم فقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وتخلفوا وقالوا‏:‏ نذهب إلى قوم قد غزوه في عقر داره بالمدينة وقتلوا أصحابه فنقاتلهم وقالوا‏:‏ لن يرجع محمد عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه من هذه السفرة ففضحهم الله تعالى في هذه الآية وأعلم رسوله صلى الله عليه وسلم بقولهم واعتذارهم قبل أن يصل إليهم فكان كذلك، و‏{‏المخلفون‏}‏ جمع مخلف، قال الطبرسي‏:‏ هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد مأخوذ من الخلف وضده المقدم، و‏{‏الاعراب‏}‏ في المشهور سكان البادية من العرب لا واحد له أي سيقول لك المتروكون الغير الخارجين معك معتذرين إليك ‏{‏شَغَلَتْنَا‏}‏ عن الذهاب معك ‏{‏أموالنا وَأَهْلُونَا‏}‏ إذ لم يكن لنا من يقوم بحفظ ذلك ويحميه عن الضياع، ولعل ذكر الأهل بعد الأموال من باب الترقي لأن حفظ الأهل عند ذوي الغيرة أهم من حفظ الأموال‏.‏

وقرأ إبراهيم بن نوح بن بازان ‏{‏شَغَلَتْنَا‏}‏ بتشديد الغين المعجمة للتكثير ‏{‏فاستغفر لَنَا‏}‏ الله تعالى ليغفر لنا تخلفنا عنك حيث لم يكن عن تكاسل في طاعتك بل لذلك الداعي ‏{‏يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي إن كلامهم من طرف اللسان غير مطابق لما في الجنان، وهو كناية عن كذبهم، فالجملة استئناف لتكذيبهم وكونها بدلاً من ‏{‏سَيَقُولُ‏}‏ غير ظاهر، والكذب راجع لما تضمنه الكلام من الخبر عن تخلفهم بأنه لضرورة داعية له وهو القيام بمصالحهم التي لا بد منها وعدم من يقوم بها لو ذهبوا معه عليه الصلاة والسلام، وكذا راجع لما تضمنه ‏{‏أَسْتَغْفِرُ‏}‏ الإنشاء من اعترافهم بأنهم مذنبون وأن دعاءه صلى الله عليه وسلم لهم يفيدهم فائدة لازمة لهم، أو تسمية ذلك كذباً ليس لعدم مطابقة نسبة الاعتقاد على ما ذهب إليه النظام بل لعدم مطابقته الواقع بحسب الاعتقاد وفرق بين الأمرين ‏{‏قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً‏}‏ أمر له صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم بذلك عند اعتذارهم بتلك الأباطيل، والملك إمساك بقوة لأنه بمعنى الضبط وهو حفظ عن حزم، ومنه لا أملك رأس البعير وملكت العجيب إذا شددت عجنته، وملكت الشيء إذا دخل تحت ضبطك دخولاً تاماً، وإذا قلت‏:‏ لا أملك كان نفياً للاستطاعة والطاقة إمساكاً ومنعاً، فأصل المعنى هنا فمن يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله تعالى إن أراد بكم الخ، واللام من ‏{‏لَكُمْ‏}‏ إما للبيان أو من صلة الفعل لأن هذه الاستطاعة مختصة بهم ولأجلهم، و‏{‏مِنَ الله‏}‏ حال من النكرة أعني شيئاً مقدمة، وتفسير الملك بالمنع بيان لحاصل المعنى لأنه إذا لم يستطع أحد الإمساك والدفع فلا يمكنه المنع وليس ذلك لجعله مجازاً عنه أو مضمناً إياه واللام زائدة كما في

‏{‏رَدِفَ لَكُم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 72‏]‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ متعلقة بيملك كما قيل، والمراد بالضر والنفع ما يضر وما ينفع فهما مصدران مراد بهما الحاصل بالمصدر أو مؤولان بالوصف‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏ضَرّا‏}‏ بضم الضاد وهو لغة فيه، وحاصل معنى الآية قل لهم إذ لا أحد يدفع ضره ولا نفعه تعالى فليس الشغل بالأهل والمال عذراً فلا ذاك يدفع الضر إن أراده عز وجل ولا مغافصة العدو تمنع النفع إن أراد بكم نفعاً، وهذا كلام جامع في الجواب فيه تعريض بغيرهم من المبطلين وبجلالة محل المحقين ثم ترقى سبحانه منه إلى ما يتضمن تهديداً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي بكل ما تعملونه ‏{‏خَبِيراً‏}‏ فيعلم سبحانه تخلفكم وقصدكم فيه ويجازيكم على ذلك، ثم ختم جل وعلا بمكنون ضمائرهم ومخزون ما أعد لهم عنده تعالى بقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ ظَنَنْتُمْ‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بُوراً‏}‏ وفي الانتصاف أن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يَمْلِكُ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 11‏]‏ الخ لفاً ونشراً والأصل فمن يملك لكم من الله شيئاً إن أراد بكم ضراً أو من يحرمكم النفع أن أراد بكم نفعاً لأن من يملك يستعمل في الضر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏ ‏{‏فَلاَ تَمْلِكُونَ لِى مِنَ الله شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 8‏]‏، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام في بعض الحديث‏:‏ ‏"‏ إني لا أملك لكم شيئاً ‏"‏ يخاطب عشيرته وأمثاله كثير، وسر اختصاصه بدفع المضرة أن الملك مضاف في هذه المواضع باللام ودفع المضرة نفع يضاف للمدفوع عنه وليس كذلك حرمان المنفعة فإنه ضرر عائد عليه لا له فإذا ظهر ذلك فإنما انتظمت الآية على هذا الوجه كذلك لأن القسمين يشتركان في أن كل واحد منهما نفى لدفع المقدور من خير وشر فلما تقاربا أدرجا في عبارة واحدة؛ وخص عبارة دفع الضر لأنه هو المتوقع لهؤلاء إذ الآية في سياق التهديد والوعيد الشديد وهي نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 17‏]‏ فإن العصمة إنما تكون من السوء لا من الرحمة، فهاتان الآيتان توأمتان في التقرير المذكور انتهى، والوجه ما ذكرناه أولاً في الآية، وفي تسمية مثل هذا لفاً ونشراً نظر، ثم إن الظاهر عموم الضر والنفع، وقال شيخ الإسلام أبو السعود‏:‏ المراد بالضر ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما وبالنفع ما ينفع من حفظ المال والأهل وتعميمهما يرده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 11‏]‏ فإنه إضراب عما قالوه وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه انتهى، وهو كلام أو هي من بيت العنكبوت لأن في التعميم إفادة لما ذكر وزيادة تفيد قوة وبلاغة، والظاهر أن كلاً من الإضرابات الثلاثة مقصودة، وقال شيخ الإسلام‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ ظَنَنْتُمْ‏}‏ الخ بدل من ‏{‏كَانَ الله‏}‏ الخ مفسر لما فيه من الإبهام‏.‏ وفي «البحر» أنه بيان للعلة في تخلفهم أي بل ظننتم ‏{‏أَن لَّن يَنقَلِبَ‏}‏ أي لن يرجع من ذلك السفر ‏{‏الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ‏}‏ أي عشائرهم وذوي قرباهم ‏{‏أَبَدًا‏}‏ بأن يستأصلهم المشركون بالمرة فحسبتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ما يصيبهم فلأج ذلك تخلفتم لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة‏.‏ والأهلون جمع أهل وجمعه جمع السلامة على خلاف القياس لأنه ليس بعلم ولا صفة من صفات من يعقل ويجمع على أهلات بملاحظة تاء التأنيث في مفرده تقديراً فيجمع كتمرة وتمرات ونحوه أرض وأرضات، وقد جاء على ما في «الكشاف» أهلة بالتاء ويجوز تحريك عينه أيضاً فيقال‏:‏ اهلات بفتح الهاء، وكذا يجمع على أهال كليال، وأطلق عليه الزمخشري اسم الجمع؛ وقيل‏:‏ وهو إطلاق منه في الجمع الوارد على خلاف القياس وإلا فاسم الجمع شرطه عند النحاة أن يكون على وزن المفردات سواء كان له مفرد أم لا‏.‏

وقرأ عبد الله ‏{‏إلى أَهْلِهِمْ‏}‏ بغير ياء، والآية ظاهرة في أن ‏{‏لَنْ‏}‏ ليست للتأبيد ومن زعم إفادتها إياه جعل ‏{‏أَبَدًا‏}‏ للتأكيد ‏{‏وَزُيّنَ‏}‏ أي حسن ‏{‏ذلك‏}‏ أي الظن المفهوم من ظننتم ‏{‏فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ فلم تسعوا في إزالته فتمكن فيكم فاشتغلتم بشأن أنفسكم غير مبالين بالرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين؛ وقيل‏:‏ الإشارة إلى المظنون وهو عدم انقلاب الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنين إلى أهليهم أبداً أي حسن ذلك في قلوبكم فأحببتموه والمراد من ذلك تقريعهم ببغضهم الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمناسب للسياق ما تقدم‏.‏ وقرىء ‏{‏زُيّنَ‏}‏ بالبناء للفاعل بإسناده إلى الله تعالى أو إلى الشيطان ‏{‏وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء‏}‏ وهو ظنهم السابق فتعريفه للعهد الذكرى وأعيد لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء أو هو عام فيشمل ذلك الظن وسائر ظنونهم الفاسدة التي من جملتها الظن بعدم رسالته عليه الصلاة والسلام فإن الجازم بصحتها لا يحوم فكره حول ما ذكر من الاستئصال فذكر ذلك للتعميم بعد التخصيص‏.‏

‏{‏وَكُنتُمْ‏}‏ في علم الله تعالى الأزلي ‏{‏قَوْماً بُوراً‏}‏ أي هالكين لفساد عقيدتكم وسوء نيتكم مستوجبين سخطه تعالى وعقابه جل شأنه، وقيل‏:‏ أي فاسدين في أنفسكم وقلوبكم ونياتكم لا خير فيكم، والظاهر على ما في «البحر» أن بوراً في الأصل مصدر كالهلك ولذا وصف به المفرد المذكر في قول ابن الزبعرى‏:‏

يا رسول المليك إن لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بور

والمؤنث حكى أبو عبيدة امرأة بور والمثنى والمجموع، وجوز أن يكون جمع بائر كحائل وحول وعائذ وعوذ وبازل وبزل، وعلى المصدرية هو مؤول باسم الفاعل، وجوز أن تكون كان بمعنى صار أي وصرتم بذلك الظن قوماً هالكين مستوجبين السخط والعقاب والظاهر إبقاؤها على بابها والمضي باعتبار العلم كما أشرنا إليه، وقيل‏:‏ أي كنتم قبل الظن فاسدين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ‏(‏13‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ الخ كلام مبتدأ من جهته عز وجل غير داخل في الكلام الملقن مقرر لبوارهم ومبين لكيفيته أي ومن لم يصدق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم كدأب هؤلاء المخلفين ‏{‏فَإِنَّا أَعْتَدْنَا‏}‏ هيأنا ‏{‏للكافرين سَعِيراً‏}‏ ناراً مسعورة موقدة ملتهبة وكان الظاهر لهم فعدل عنه إلى ما ذكر إيذاناً بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فهو كافر وأنه مستوجب للسعير بكفره لمكان التعليق بالمشتق‏.‏

وتنكير سعير للتهويل لما فيه من الإشارة إلى أنها لا يمكن معرفتها واكتناه كنهها، وقيل‏:‏ لأنها نار مخصوصة فالتنكير للتنويع و‏{‏مِنْ‏}‏ يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون شرطية والعائد من الخبر أو من جواب الشرط هو الظاهر القائم مقام المضمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والارض‏}‏ فهو عز وجل المتصرف في الكل كما يشاء ‏{‏يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء‏}‏ أن يغفر له ‏{‏وَيُعَذّبُ مَن يَشَاء‏}‏ أن يعذبه من غير دخل لأحد في شيء من غفرانه تعالى وتعذيبه جل وعلا وجوداً وعدماً ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً‏}‏ مبالغاً في المغفرة لمن يشاء ولا يشاء سبحانه إلا لمن تقتضي الحكمة المغفرة له ممن يؤمن به سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم وأما من عداه من الكافرين المجاهرين والمنافقين فهم بمعزل من ذلك قطعاً وفي تقديم المغفرة والتذييل بكونه تعالى غفوراً بصيغة المبالغة وضم رحيماً إليه الدال على المبالغة أيضاً دون التذييل بما يفيد كونه سبحانه معذباً مما يدل على سبق الرحمة ما فيه‏.‏

وفي الحديث «كتب ربكم على نفسه بيده قبل أن يخلق الخلق رحمتي سبقت غضبي» وهذا السبق على ما أشار إليه في أنوار التنزيل ذاتي وذلك لأن الغفران والرحمة بحسب الذات والتعذيب بالعرض وتبعيته للقضاء والعصيان المقتضى لذلك وقد صرح غير واحد بأن الخير هو المقضي بالذات والشر بالعرض إذ لا يوجد شر جزئي ألا وهو متضمن لخير كلي، وفصل ذلك في شرح الهياكل، وقال بعض الأجلة‏:‏ المراد بالسبق في الحديث كثرة الرحمة وشمولها وكذا المراد بالغلبة الواقعة في بعض الروايات، وذلك نظير ما يقال‏:‏ غلب على فلان الكرم ومن جعل الرحمة والغضب من صفات الأفعال لم يشكل عليه أمر السبق ولم يحتج إلى جعله ذاتياً كما لا يخفى والآية على ما قال أبو حيان لترجية أولئك المنافقين بعض الترجية إذا آمنوا حقيقة، وقيل‏:‏ لحسم أطماعهم الفارغة في استغفاره عليه الصلاة والسلام لهم، وفسر الزمخشري ‏{‏مَن يَشَآء‏}‏ الأول بالتائب والثاني بالمصر ثم قال‏:‏ يكفر سبحانه السيآت باجتناب الكبائر ويغفر الكبائر بالتوبة وهو اعتزال منه مخالف لظاهر الآية، وقال الطيبي يمكن أن يقال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ مُلْكُ السموات‏}‏ الخ موقعه موقع التذييل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏(‏الفتح؛ 13‏)‏ الآية على أن يقدر له ما يقابله من قوله ومن آمن بالله ورسوله فإنا أعتدنال لمؤمنين الجنان مثلاً فلا يقيد شيء مما قيده ليؤذن بالتصرف التام والمشيئة النافذة والغفران الكامل والرحمة الشاملة فتأمل ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُ المخلفون‏}‏ المذكورون من الأعراب فاللام للعهد وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا‏}‏ ظرف لما قبله لا شرط لما بعده والمراد بالمغانم مغانم خيبر كما عليه عامة المفسرين ولم نقف على خلاف في ذلك وأيد بأن السين تدل على القرب وخيبر أقرب المغانم التي انطلقوا إليها من الحديبية كما علمت فإرادتها كالمتعينة، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أن الله تعالى وعد أهل الحديبية أن يعوضهم من مغانم مكة خيبر إذا قفوا موادعين لا يصيبون شيئاً وخص سبحانه ذلك بهم أي سيقولون عند إطلاقكم إلى مغانم خيبر لتأخذوها حسبما وعدكم الله تعالى إياها وخصكم بها طمعاً في عرض الدنيا لما أنهم يرون ضعف العدو ويتحققون النصرة ‏{‏ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ‏}‏ إلى خيبر ونشهد معكم قتال أهلها ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله‏}‏ بأن يشاركوا في الغنائم التي خصها سبحانه بأهل الحديبية وحاصله يريدون الشركة التي لا تحصل لهم دون نصرة الدين وإعلاء كلمة الله تعالى، والجملة استئناف لبيان مرادهم بذلك القول، وقيل‏:‏ يجوز أن تكون حالاً من المخلفين وهو خلاف الظاهر ولا ينافي خبر التخصيص إعطاؤه عليه الصلاة والسلام بعض مهاجري الحبشة القادمين مع جعفر وبعض الدوسيين والأشعريين من ذلك وهم أصحاب السفينة كما في «البخاري» فإنه كان استنزالاً للمسلمين عن بعض حقوقهم لهم أو أن بعضها فتح صلحاً وما أعطاه عليه الصلاة والسلام فهو بعض مما صالح عليه وكل هذا مذكور في السير لكن الذي صححه المحدثون أنه لا صلح فيها‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ إنما أعطاهم صلى الله عليه وسلم برضا أصحاب الوقعة أو أعطاهم من الخمس الذي هو حقه عليه الصلاة والسلام، وميل البخاري إلى الثاني وحمل كلام الله تعالى على وعده بتلك الغنائم لهم خاصة هو الذي عليه مجاهد‏.‏ وقتادة وعامة المفسرين، وقال ابن زيد‏:‏ كلام الله قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أبداً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 83‏]‏ ووافقه الجبائي على ذلك وشنع عليهما غير واحد بأن ذلك نازل في المخلفين في غزوة تبوك من المنافقين وكانت تلك الغزوة يوم الخميس في رجب سنة تسع بلا خلاف كما قال القسطلاني والحديبية في سنة ست كما قاله ابن الجوزي‏.‏ وغيره وهذه إنما نزلت بعيد الانصراف من الحديبية كما علمت وأيضاً قال في «البحر»‏:‏ قد غزت مزينة وجهينة من هؤلاء المخلفين بعد هذه المدة معه عليه الصلاة والسلام وفضلهم صلى الله عليه وسلم بعد ذلك على تميم‏.‏ وغطفان‏.‏ وغيرهم من العرب، وفي «الكشف» لعل القائل بذلك أراد أن هؤلاء المخلفين لما كانوا منافقين مثل المخلفين عن تبوك كان حكم الله تعالى فيهم واحداً، ألا ترى أن المعنى الموجب مشترك وهو رضاهم بالقعود أول مرة، فكلام الله تعالى أريد به حكمه السابق وهو أن المنافق لا يستصحب في الغزو، ولم يرد أن هذا الحكم منقاس على ذلك الأصل أو الآية نازلة فيهم أيضاً فهذا ما يمكن في تصحيحه انتهى، ويقال عما في «البحر»‏:‏ إن الذين غزوا بعد لم يغزوا حتى أخلصوا ولم يبقوا منافقين والله تعالى أعلم‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏يَسْمَعُونَ كلام الله‏}‏ وهو اسم جنس جمعي واحده كلمة ‏{‏قُلْ‏}‏ أقناطاً لهم ‏{‏لَّن تَتَّبِعُونَا‏}‏ أي لا تتبعونا فإنه نفى في معنى النهي للمبالغة، والمراد نهيهم عن الاتباع فيما أرادوا الاتباع فيه في قولهم‏:‏ ‏{‏ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ‏}‏ وهو الانطلاق إلى خيبر كما نقل عن محيي السنة عليه الرحمة، وقيل‏:‏ المراد ولا تتبعونا ما دمتم مرضى القلوب، وعن مجاهد كان الموعد أي الموعد الذي تغييره تبديل كلام الله تعالى وهو موعده سبحانه لأهل الحديبية أنهم لا يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا متطوعين لا نصيب لهم في المغنم فكأنه قيل‏:‏ لن تتبعونا إلا متطوعين، وقيل‏:‏ المراد التأبيد، وظاهر السياق الأول ‏{‏كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل أن تهيأتم للخروج معنا وذلك عند الانصراف من الحديبية ‏{‏فَسَيَقُولُونَ‏}‏ للمؤمنين عند سماع هذا النهي ‏{‏بَلْ تَحْسُدُونَنَا‏}‏ أن نشارككم في الغنائم، وهو إضراب عن كونه بحكم الله تعالى أي بل إنما ذلك من عند أنفسكم حسداً‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏تَحْسُدُونَنَا‏}‏ بكسر السين ‏{‏بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ‏}‏ لا يفهمون ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ أي إلا فهماً قليلاً وهو فهمهم لأمور الدنيا، وهو رد لقولهم الباطل في المؤمنين ووصف لهم بما هو أعظم من الحسد وأطم وهو الجهل المفرط وسوء الفهم في أمور الدين، وفيه إشارة إلى ردهم حكم الله تعالى وإثباتهم الحسد لأولئك السادة من الجهل وقلة التفكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاعراب‏}‏ كرر ذكرهم بهذا العنوان مبالغة في الذم وإشعاراً بشناعة التخلف ‏{‏سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ ذوي نجدة وشدة قوية في الحرب، وهم على ما أخرج ابن المنذر‏.‏ والطبراني عن الزهري بنو حنيفة مسيلمة وقومه أهل اليمامة، وعليه جماعة، وفي رواية عنه زيادة أهل الردة وروي ذلك عن الكلبي، وعن رافع بن خديج إنا كنا نقرأ هذه الآية فيما مضى ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم أريدوا بها، وعن عطاء بن أبي رباح‏.‏ ومجاهد في رواية‏.‏ وعطاء الخراساني‏.‏ وابن أبي ليلى هم الفرس، وأخرجه ابن جرير‏.‏ والبيهقي في الدلائل‏.‏ وغيرهما عن ابن عباس، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال في الآية‏:‏ دعا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لقتال فارس أعراب المدينة جهينة‏.‏ ومزينة الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم للخروج إلى مكة، وقال عكرمة‏.‏ وابن جبير‏.‏ وقتادة‏:‏ هم هوازن ومن حارب الرسول صلى الله عليه وسلم في حنين، وفي رواية ابن جرير‏.‏ وعبد بن حميد عن قتادة التصريح بثقيف مع هوازن، وفي رواية الفريابي‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ هم هوازن وبنو حنيفة، وقال كعب‏:‏ هم الروم الذي خرج إليهم صلى الله عليه وسلم عام تبوك والذين بعث إليهم في غزوة موتة، وأخرج سعيد بن منصور‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن الحسن قال‏:‏ هم فارس والروم، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال‏:‏ البارز يعني الأكراد كما في «الدر المنثور»، وأخرج ابن المنذر‏.‏ والطبراني في الكبير عن مجاهد قال‏:‏ أعراب فارس وأكراد العجم، وظاهر العطف أن أكراد العجم ليسوا من أعراب فارس، وظاهر إضافا أكراد إلى العجم يشعر بأن من الأكراد ما يقال لهم أكراد العرب، ولا نعرف هذا التقسيم وإنما نعرف جيلاً من الناس يقال لهم أكراد من غير إضافة إلى عرب أو عجم، وللعلماء اختلاف في كونهم في الأصل عرباً أو غيرهم فقيل‏:‏ ليسوا من العرب، وقيل منهم، قال القاضي شمس الدين أحمد بن محمد بن خلكان في ترجمة المهلب بن أبي صفرة ما نصه‏:‏ حكى أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب في كتابه القصد والأمم في أنساب العرب والعجم أن الأكراد من نسل عمرو مزيقيا بن عامر بن ماء السماء وأنهم وقعوا إلى أرض العجم فتناسلوا بها وكثر ولدهم فسموا الأكراد، وقال بعض الشعراء في ذلك وهو يعضد ما قاله ابن عبد البر‏:‏

لعمرك ما الأكراد أبناء فارس *** ولكنه كرد بن عمرو بن عامر

انتهى، وفي «القاموس» الكرد بالضم جيل من الناس معروف والجمع أكراد وجدهم كرد بن عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء انتهى، وعامر هذا من العرب بلا شبهة فإنه ابن حارثة الغطريق بن امرء القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد ويقال له الأسد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويسمى عامراً وهو عند الأكثر ابن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح، وقيل‏:‏ من ولد هود، وقيل‏:‏ هو هود نفسه، وقيل‏:‏ ابن أخيه، وذهب الزبير بن بكار إلى أن قحطان من ذرية إسماعيل عليه السلام وأنه قحطان بن الهميسع بن تيم بن نبت بن إسماعيل، والذي رجحه ابن حجر أن قبائل اليمن كلها ومنها قبيلة مزيقيا من ولد إسماعيل عليه السلام، ويدل له تبويب البخاري باب نسبة اليمن إلى إسماعيل عليه السلام ذكر ذلك السيد نور الدين على السمهودي في تاريخ المدينة، وفيه أن الأنصار الأوس‏.‏ والخزرج من أولاد ثعلبة العنقاء بن عمرو مزيقيا المذكور وكان له ثلاثة عشر ولداً ذكوراً منهم ثعلبة المذكور‏.‏ وحارثة والد خزاعة‏.‏ وجفنة والد غسان‏.‏ ووداعة‏.‏ وأبو حارثة‏.‏ وعوف‏.‏ وكعب‏.‏ ومالك‏.‏ وعمران‏.‏ وكرد كما في «القاموس» انتهى‏.‏

وفائدة الخلاف تظهر في أمور منها الكفاءة في النكاح والعامة لا يعدونهم من العرب فلا تغفل، والذي يغلب على ظني أن هؤلاء الجيل الذين يقال لهم اليوم أكراد لا يبعد أن يكون فيهم من هو من أولاد عمرو مزيقيا وكذا لا يبعد أن يكون فيهم من هو من العرب وليس من أولاد عمرو المذكور إلا أن الكثير منهم ليسوا من العرب أصلاً، وقد انتظم في سلك هذا الجيل أناس يقال‏:‏ إنهم من ذرية خالد بن الوليد، وآخرون يقال‏:‏ إنهم من ذرية معاذ بن جبل؛ وآخرون يقال‏:‏ إنهم من ذرية العباس بن عبد المطلب، وآخرون يقال‏:‏ إنهم من بني أمية ولا يصح عندي من ذلك شيء بيد أنه سكن مع الأكراد طائفة من السادة أبناء الحسين رضي الله تعالى عنهم يقال لهم البرزنجية لا شك في صحة نسبهم وكذا في جلالة حسبهم، وبالجملة الأكراد مشهور باليأس وقد كان منهم كثير من أهل الفضل بل ثبت لبعضهم الصحبة، قال الحافظ ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة في حرف الجيم‏:‏ جابان والد ميمون روى ابن منده من طريق أبي سعيد مولى بني هاشم عن أبي خلدة سمعت ميمون بن جابان الكردي عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم غير مرة حتى بلغ عشراً وذكر الحديث، وقد أخرج نحوه الطبراني في المعجم الصغير عن ميمون الكردي عن أبيه أيضاً وهو أتم منه ولفظه

‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر ليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها فمات ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو زان وأيما رجل استدان ديناً لا يريد أن يؤدي إلى صاحبه حقه خدعه حتى أخذ ماله فمات ولم يؤد إليه دينه لقي الله وهو سارق ‏"‏ ويكنى ميمون هذا بأبي بصير بفتح الموحدة، وقيل‏:‏ بالنون، وهو كما في التقريب مقبول، هذا وأشهر الأقوال في تعيين هؤلاء القوم أنهم بنو حنيفة‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ الذي أقوله إن هذه الأقوال تمثيلات من قائلها لا تعيين القوم، وهذا وإن حصل به الجمع بين تلك الأقوال خلاف الظاهر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ على معنى يكون أحد الأمرين إما المقاتلة أو الإسلام لا ثالث لهما، فأو للتنويع والحصر لا للشك وهو كثير، ويدل لذلك قراءة أبي‏.‏ وزيد بن علي ‏{‏أَوْ‏}‏ بحذف النون لأن ذلك للناصب وهو يقتضي أن أو بمعنى إلا أي إلا أن يسلموا فيفيد الحصر أو بمعنى إلى أي إلى أن يسلموا، والغاية تقتضي أنه لا ينقطع القتال بغير الإسلام فيفيده أيضاً كما قيل‏:‏ والجملة مستأنفة للتعليل كما في قولك‏:‏ سيدعوك الأمير يكرمك أو يكبت عدوك، قال في «الكشف»‏:‏ ولا يجوز أن تكون صفة لقوم لأنهم دعوا إلى قتال القوم لا أنهم دعوا إلى قوم موصوف بالمقاتلة أو الإسلام‏.‏

وجوز بعضهم كونها حالية وحاله كحال الوصفية، وأصل الكلام ستدعون إلى قوم أولي بأس لتقاتلوهم أو يسلموا فعدل إلى الاستئناف لأنه أعظم الوصلين، ثم فيه أنهم فعلوا ذلك وحصلوا الغرض فهو يخبر عنه واقعاً‏.‏

والاعتراض بأنه يلزم أن لا ينفك الوجود عن أحدهما لصدق إخباره تعالى ونحن نرى الانفكاك بأن يتركوا سدى أو بالهدنة فينبغي أن يؤول بأنه في معنى الأمر على ما في أمالي ابن الحاجب غير سديد لأن القوم مخصوصون لا عموم فيهم، وكان الواقع أنهم قوتلوا إلى أن أسلموا سواء فسر القوم ببني حنيفة أو بثقيف‏.‏ وهوازن أو فارس والروم على أن الإسلام الانقياد فما انفك الوجود عن أحدهما بل وقعا، وأما امتناع الانفكاك فليس من مقتضى الوضع ولا الاستعمال بل ذلك في الكلام الاستدلالي قد يتفق‏.‏

وأطال الطيبي الكلام في هذا المقام ثم قال‏:‏ الذي يقتضيه المقام ما ذهب إليه صاحب التحبير من أن ‏{‏أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ عطف على ‏{‏تقاتلونهم‏}‏ أما على الظاهر أو بتقديرهم يسلمون ليكون من عطف الاسمية على الفعلية وحينئذٍ تكون المناسبة أكثر إذ تخرج الجملة إلى باب الكناية، والمعنى تقاتلونهم أو لا تقاتلونهم لأنهم يسلمون، وقد وضع فيه ‏{‏أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ موضع أولاً تقاتلونهم لأنهم إذا أسلموا سقط عنهم قتالهم ضرورة، والاستدعاء عليه ليس إلا للاختبار، و‏{‏أَوْ‏}‏ للترديد على سبيل الاستعارة وفيه ما فيه، وشاع الاستدلال بالآية على صحة إمامة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ووجه ذلك الإمام فقال‏:‏ الداعي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَتُدْعَوْنَ‏}‏ لا يخلو من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أو الأئمة الأربعة أو من بعدهم لا يجوز الأول لقوله سبحانه‏:‏

‏{‏قُل لَّن تَتَّبِعُونَا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏ الخ ولا أن يكون علياً رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه لأنه إنما قاتل البغاة والخوارج وتلك المقاتلة للإسلام لقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ ولا من ملك بعدهم لأنهم عندنا على الخطأ وعند الشيعة على الكفر ولماب طلت الأقسام تعين أن يكون المراد بالداعي أبا بكر‏.‏ وعمر وعثمان‏.‏ رضي الله تعالى عنهم، ثم إنه تعالى أوجب طاعته وأورعد على مخالفته وذلك يقتضي إمامته وأي الثلاثة كان ثبت المطلوب، أما إذا كان أبا بكر فظاهر، وأما إذا كان عمر أو عثمان فلأن إمامته فرع إمامته رضي الله تعالى عنه‏.‏ وتعقب بأن الداعي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويشعر بذلك السين قوله‏:‏ لا يجوز لقوله سبحانه‏:‏ لن ‏{‏تَتَّبِعُونَا‏}‏ الخ فيه أن ‏{‏لَنْ‏}‏ لا تفيد التأبيد على الصحيح وظاهر السياق يدل على أن المراد به لن تتبعونا في الانطلاق إلى خيبر كما سمعت عن محيى السنة أو هو مقيد بما روى عن مجاهد أو بما حكى عن بعض، وقال أبو حيان‏:‏ القول بأنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بصحيح فقد حضر كثير منهم مع جعفر في موتة وحضروا حرب هوازن معه عليه الصلاة والسلام وحضروا معه صلى الله عليه وسلم أيضاً في سفرة تبوك انتهى، ولا يخفى أن هذا إذا صح ينفي حمل النفي على التأييد‏.‏

ومن الشيعة من اقتصر في رد الاستدلال على الدعوة في تبوك‏.‏ وتعقب بأنه لم يقع فيها ما أخبر الله تعالى به في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ ومنهم من زعم أن الداعي علي كرم الله تعالى وجهه وزعم كفر البغاة والخوارج عليه رضي الله تعالى عنه وأنه لو سلم إسلامهم يراد بالإسلام في الآية الانقياد إلى الطاعة وموالاة الأمير، وفيه ما لا يخفى، والانصاف أن الآية لا تكاد تصح دليلاً على إمامة الصديق رضي الله تعالى عنهإلا إن صح خبر مرفوع في كون المراد بالقوم بني حنيفة ونحوهم ودون ذلك خرط القتاد، ونفى بعضهم صحة كون المراد بالقوم فارساً والروم لأن المراد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ على ما سمعت وفارس مجوس والروم نصارى فلا يتعين فيهم أحد الأمرين من المقاتلة والإسلام إذ يقبل منهم الجزية، وكذا اليهود ومشركو العجم والصابئة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وقال‏:‏ يتعين كونهم مرتدين أو مشركي العرب لأنهم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف، ومثل مشركي العرب مشركو العجم عند الشافعي رضي الله تعالى عنه فعنده لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، وأنت تعلم أن من فسر القوم بذلك يفسر الإسلام بالانقياد وهو يكون بقبول الجزية فلا يتم له أمر النفي فلا تغفل ‏{‏فَإِن تُطِيعُواْ‏}‏ الدعي فيما دعاكم إليه ‏{‏يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً‏}‏ هو على ما قيل الغنيمة في الدنيا والجنة في الأخرى ‏{‏وَإِن تَتَوَلَّوْاْ‏}‏ عن الدعوة ‏{‏كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ‏}‏ في الحديبية ‏{‏يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ لتضاعف جرمكم، وهذا التعذيب قال في «البحر»‏:‏ يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة، ويحتمل عندي وهو الأوفق بما قبله على ما قيل كونه فيهما ولا بأس بكون كل من الإيتاء والتعذيب في الآخرة بل لعله المتبادر لكثرة استعمالهما في ذلك، ولا يحسن كون الأمرين في الدنيا ولا كون الأول في الآخرة أو فيها وفي الدنيا والثاني في الدنيا فقط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ‏}‏ أي إثم ‏{‏وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ‏}‏ أي في التخلف عن الغزو لما بهم من العذر والعاهة، وفي نفي الحرج عن كل من الطوائف المعدودة مزيد اعتناء بأمرهم وتوسيع لدائرة الرخصة، وليس في نفي ذلك عنهم نهي لهم عن الغزو بل قالوا‏:‏ إن أجرهم مضاعف في الغزو، وقد غزا ابن أم مكتوم وكان أعمى رضي الله تعالى عنه وحضر في بعض حروب القادسية وكان يمسك الراية‏.‏ وفي «البحر» لو حصر المسلمون فالفرض متوجه بحسب الوسع في الجهاد ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ فيما ذكر من الأوامر والنواهي‏.‏

‏{‏يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار وَمَن يَتَوَلَّ‏}‏ عن الطاعة ‏{‏يُعَذّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ لا يقادر قدره والمعنى بالوعد والوعيد هنا أعم من المعنى بهما فيما سبق كما ينبىء عن ذلك التعبير بمن هنا وبضمير الخطاب هناك، وقيل في الوعيد ‏{‏يُعَذّبْهُ‏}‏ الخ دون يدخله ناراً ونحوه مما هو أظهر في المقابلة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُدْخِلْهُ جنات‏}‏ الخ اعتناء بأمره من حيث أن التعذيب يوم القيامة عذاباً أليماً يستلزم إدخال النار وإدخالها لا يستلزم ذلك، واعتنى به لأن المقام يقتضيه ولذا جيء به كالمكرر مع الوعيد السابق، ويكفي في الإشارة إلى سبق الرحمة إخراج الوعد ههنا كالتفصيل لما تقدم والتعبير هناك بإيتاء الأجر الحسن الظاهر في الاستحقاق مع إسناد الايتاء إلى الاسم الجليل نفسه فتأمل فلمسلك الذهن اتساع‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ والأعرج‏.‏ وشيبة‏.‏ وابن عامر‏.‏ ونافع ‏{‏ندخله ونعذبه‏}‏ بالنون فيهما، ولما ذكر سبحانه حال من تخلف عن السفر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر عز وجل حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة‏}‏ وهم أهل الحديبية إلا جد بن قيس فإنه كان منافقاً ولم يبايع‏.‏

وأصل هذه البيعة وتسمى بيعة الرضوان لقول الله تعالى فيها‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ رَضِيَ‏}‏ الخ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية بعث خراشاً بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء المهملة وألف بعدها شين معجمة ابن أمية الخزاعي رسولاً إلى أهل مكة وحمله على جمل له يقال له‏:‏ الثعلب يعلمهم أنه جاء معتمراً لا يريد قتالاً فلما أتاهم وكلمهم عقروا جمله وأرادوا قتله فمنعه الأحابيش فخلوا سبيله حتى أتى الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا عمر رضي الله تعالى عنه ليبعثه فقال‏:‏ يا رسول الله إن القوم قد عرفوا عداوتي لهم وغلظي عليهم وإني لا آمن وليس بمكة أحد من بني عدي يغضب لي إن أوذيت فأرسل عثمان بن عفان فإن عشيرته بها وهم يحبونه وأنه يبلغ ما أردت فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان فأرسله إلى قريش وقال‏:‏ أخبرهم أنا لم نأت بقتال وإنما جئنا عماراً وادعهم إلى الإسلام وأمره عليه الصلاة والسلام أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين ونساء مؤمنات فيبشرهم بالفتح ويخبرهم أن الله تعالى قريباً يظهر دينه بمكة فذهب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى قريش وكان قد لقيه أبان بن سعيد بن العاص فنزل عن دابته وحمله عليها وأجاره فأتى قريشاً فأخبرهم فقالوا له إن شئت فطف بالبيت وأما دخولكم علينا فلا سبيل إليه فقال رضي الله تعالى عنه‏:‏ ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتبسوه فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان قد قتل فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ لا نبرح حتى نناجز القوم ونادى مناديه عليه الصلاة والسلام إلا أن روح القدس قد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره بالبيعة فأخرجوا على اسم الله تعالى فبايعوه فثار المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه، قال جابر كما في «صحيح مسلم» وغيره‏:‏ بايعناه صلى الله عليه وسلم على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت‏.‏

وأخرج البخاري عن سلمة بن الأكوع قال‏:‏ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، قيل‏:‏ على أي شيء تبايعون يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ على الموت، وأخرج مسلم عن معقل بن يسار أنه كان آخذاً بأغصان الشجرة عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبايع الناس وكان أول من بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أبا سنان وهو وهب بن محصن أخو عكاشة بن محصن، وقيل‏:‏ سنان بن أبي سنان، وروى الأول البيهقي في «الدلائل» عن الشعبي وأنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ابسط يدك أبايعك فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ علام تبايعني‏؟‏ قال‏:‏ على ما في نفسك‏.‏

وفي حديث جابر الذي أخرجه مسلم أنه قال‏:‏ بايعناه عليه الصلاة والسلام وعمر رضي الله تعالى عنه آخد بيده، ولعل ذلك ليس في مبدأ البيعة وإلا ففي «صحيح البخاري» عن نافع أن عمر رضي الله تعالى عنه يوم الحديبية أرسل ابنه عبد الله إلى فرس له عند رجل من الأنصار أن يأتي به ليقاتل عليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع عند الشجرة وعمر لا يدري بذلك فبايعه عبد الله ثم ذهب إلى الفرس فجاء به إلى عمر وعمر رضي الله تعالى عنه يستلئم للقتال فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايع تحت الشجرة فانطلق فذهب معه حتى بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وصح أنه صلى الله عليه وسلم ضرب بيده اليمنى على يده الأخرى وقال‏:‏ هذه بيعة عثمان ولما سمع المشركون بالبيعة خافوا وبعثوا عثمان رضي الله تعالى عنه وجماعة من المسلمين وكانت عدة المؤمنين ألفاً وأربعمائة على الأصح عند أكثر المحدثين ورواه البخاري عن جابر، وروى عن سعيد بن قتادة قال‏:‏ قلت لسعيد بن المسيب بلغني أن جابر بن عبد الله كان يقول‏:‏ كانوا أربع عشرة مائة فقال لي سعيد‏:‏ حدثني جابر كانوا خمس عشرة مائة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعه أبو داود‏.‏ وروى أيضاً عن عبد الله بن أوفى قال‏:‏ كان أصحاب الشجرة ألفاً وثلثمائة، وعند أبي شيبة من حديث سلمة بن الأكوع أنهم كانوا ألفاً وسبعمائة، وجزم موسى بن عقبة بأنهم كانوا ألفاً وستمائة، وحكى ابن سعد أنهم ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون، وجمع بين الروايات بأنها بناء على عد الجميع أو ترك الأصاغر والأتباع والأوساط أو نحو ذلك؛ وأما قول ابن إسحق‏:‏ إنهم كانوا سبعمائة فلم يوافقه أحد عليه لأنه قاله استنباطاً من من قول جابر‏:‏ تنحر البدنة عن عشرة وكانوا نحروا سبعين بدنة، وهذا لا يدل على أنهم ما كانوا نحروا غير البدن مع أن بعضهم كأبي قتادة لم يكن أحرم أصلاً، والشجرة كانت سمرة، والمشهور أن الناس كانوا يأتونها فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر رضي الله تعالى عنه فأمر بقطعها خشية الفتنة بها لقرب الجاهلية وعبادة غير الله تعالى فيهم‏.‏

وفي «الصحيحين» من حديث طارق بن عبد الرحمن قال‏:‏ انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون قلت‏:‏ ما هذا المسجد‏؟‏ قالوا‏:‏ هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته فقال‏:‏ حدثني أبي أنه كان ممن بايع رسول الله عليه الصلاة والسلام تحت الشجرة قال‏:‏ فلما كان من العام المقبل نسيناها فلم نقدر عليها ثم قال سعيد‏:‏ إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم فأيكم أعلم، والرضا يقابل السخط وقد يستعمل بعن والباء ويعدي بنفسه وهو مع عن إنما يدخل على العين لا المعنى ولكن باعتبار صدور معنى منه يوجب الرضا وما في الآية من هذا القسم، والمعنى الموجب للرضا فيها هو المبايعة، وإذا ذكر مع العين معنى الباء فقيل رضيت عن زيد بإحسانه كانت الباء للسببية وجاز أن تكون صلة وتتعين للسببية مع مقابلة نحو سخطت عليه بإساءته وهو مع الباء نحو رضيت به يجب دخوله على المعنى إلا إذا دخل على الذات تمهيداً للمعنى ليكون أبلغ فتقول رضيت بقضاء الله تعالى ورضيت بالله تعالى رباً وقاضياً، وإذا عدى بنفسه جاز دخوله على الذات نحو رضيت زيداً وإن كان باعتبار المعنى تنبيهاً على أن كله مرضي بتلك الخصلة، وفيه مبالغة، وجاز دخوله على المعنى كرضيت إمارة فلان، والأول أكثر استعمالاً، وإذا استعمل مع اللام تعدى بنفسه كقولك‏:‏ رضيت لك التجارة، وفيه تجوز إما لجعل الرضا مجازاً عن الاستحماد وإما لأنك جعلت كونه مرضياً له بمنزلة كونه مرضياً لك مبالغة في أنه في نفسه مرضي محمود وإنك تختار له ما تختار لنفسك وهذا أبلغ، ثم هو في حق الحق تعالى شأنه محال عند الخلف قالوا‏:‏ لأنه سبحانه لا تحدث له صفة عقيب أمر البتة، فهو عندهم مجاز إما من أسماء الصفات إذا فسر بإرادة أن يثيبهم إثابة من رضي عمن تحت يده، وأما من أسماء الأفعال إذا فسر بالإثابة وكذا إذا أريد الاستحماد؛ وفي «البحر» أن العامل بإذ في الآية هو رضي وهو هنا بمعنى إظهار النعم عليهم فهو صفة فعل لا صفة ذات ليتقيد بالزمان، وأنت تعلم أن السلف لا يؤولون مثل ذلك ويثبتونه له تعالى على الوجه اللائق به سبحانه ويصرفون الحدوث الذي يستدعيه التقييد بالزمان إلى التعلق، ثم إن تقييد الرضا بزمان المبايعة يشعر بعليتها له فلا حاجة إلى جعل إذ للتعليل، والتعبير بالمضارع لاستحضار صورة المبايعة، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تَحْتَ الشجرة‏}‏ إما متعلق بيبايعونك أو بمحذوف هو حال من مفعوله، وفي التقييد بذلك إشارة إلى مزيد وقع تلك المبايعة وإنها لم تكن عن خوف منه عليه الصلاة والسلامولذا استوجب رضا الله تعالى الذي لا يعادله شيء ويستتبع ما لا يكاد يخطر على بال ويكفي فيما ترتب على ذلك ما أخرج أحمد عن جابر‏.‏

ومسلم عن أم بشر عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة»

وقد قال عليه الصلاة والسلام ذلك عند حفصة فقالت‏:‏ بلى يا رسول الله فانتهرها فقالت‏:‏ ‏{‏وَإِن مّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 71‏]‏ فقال عليه الصلاة والسلام قد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ نُنَجّى الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 72‏]‏‏.‏

وصح برواية الشيخين وغيرهما في أولئك المؤمنين من حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال لهم‏:‏ ‏"‏ أنتم خير أهل الأرض ‏"‏ فينبغي لكل من يدعي الإسلام حبهم وتعظيمهم والرضا عنهم وإن كان غير ذلك لا يضرهم بعد رضا الله تعالى عنهم، وعثمان منهم بل كان يد رسول الله صلى الله عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه كما قال أنس خيراً من أيديهم أنفسهم ‏{‏فَعَلَىَّ مَا فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي من الصدق والإخلاص في مبايعتهم، وروى نحو ذلك عن قتادة‏.‏ وابن جريج‏.‏ وعن الفراء، وقال الطبري‏.‏ ومنذر بن سعيد‏:‏ من الايمان وصحته وحب الدين والحرص عليه، وقيل‏:‏ من الهم والأنف من لين الجانب للمشركين وصلحهم، واستحسنه أبو حيان والأول عندي أحسن‏.‏

وهو عطف على ‏{‏يُبَايِعُونَكَ‏}‏ لما عرفت من أنه بمعنى بايعوك، وجوز عطفه على ‏{‏رّضِىَ‏}‏ بتأويله بظهر علمه فيصير مسبباً عن الرضا مترتباً عليه ‏{‏فَأنزَلَ السكينة عَلَيْهِمْ‏}‏ أي الطمأنينة والأمن وسكون النفس والربط على قلوبهم بالتشجيع، وقيل‏:‏ بالصلح وليس بذاك، والظاهر أنه عطف على ‏{‏عِلْمٍ‏}‏‏.‏

وفي الإرشاد أنه عطف على ‏{‏رَضِيَ‏}‏ وظاهر كلام أبي حيان الأول وحيث استحسن تفسير ما في القلوب بما سمعت آنفاً قال‏:‏ إن السكينة هنا تقرير قلوبهم وتذليلها لقبول أمر الله تعالى، وقال مقاتل‏:‏ فعلم الله ما في قلوبهم من كراهة البيعة على أن يقاتلوا معه صلى الله عليه وسلم على الموت فأنزل السكينة عليهم حتى بايعوا وتفسر ‏{‏السكينة‏}‏ بتذليل قلوبهم ورفع كراهة البيعة عنها، ولعمري أن الرجل لم يعرف للصحابة رضي الله تعالى عنهم حقهم وحمل كلام الله تعالى على خلاف ظاهره ‏{‏وأثابهم فَتْحاً قَرِيباً‏}‏ قال ابن عباس‏.‏ وعكرمة‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن أبي ليلى‏.‏ وغيرهم‏:‏ هو فتح خيبر وكان غب انصرافهم من الحديبية، وقال الحسن‏:‏ فتح هجر، والمراد هجر البحرين وكان فتح في زمانه صلى الله عليه وسلم بدليل كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات والديات‏.‏

وفي «صحيح البخاري» أنه صلى الله عليه وسلم صالح أهل البحرين وأخذ الجزية من مجوس هجر والفتح لا يستدعي سابقة الغزو كما علمت مما سبق في تفسيره فسقط قول الطيبي معترضاً على الحسن‏:‏ إنه لم يذكر أحد من الأئمة أنه صلى الله عليه وسلم غزا هجراً‏.‏ نعم إطلاق الفتح على مثل ذلك قليل غير شائع بل قيل هو معنى مجازي له، وقيل‏:‏ هو فتح مكة والقرب أمر نسبي، وقرأ الحسن‏.‏ ونوح القاري ‏{‏وأتاهم‏}‏ أي أعطاهم‏.‏