فصل: الجزء الثامن عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


وأبي حاتم‏.‏ وقتادة، وجوز أن يكون ذلك إشارة مبهمة أوضحت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَزَرْعٍ‏}‏ الخ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ الامر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 66‏]‏ فعلى الأول والثالث ‏{‏مَثَلُهُمْ فِى التوراة وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 92‏]‏ شيء واحد إلا أنه على الأول ‏{‏أَشِدَّاء عَلَى الكفار رُحَمَاء بَيْنَهُمْ‏}‏ الخ، وعلى الثالث ‏{‏كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ‏}‏ الخ وعلى الثاني ‏{‏مَثَلُهُمْ فِى التوراة‏}‏ شيء وهو ‏{‏أَشِدَّاء‏}‏ الخ ومثلهم في الإنجيل شيء آخر وهو ‏{‏كَزَرْعٍ‏}‏ الخ‏.‏

واعترض الوجه الثالث بأن الأصل في الإشارة أن تكون لمتقدم وإنما يشار إلى المتأخر إذا كان نعتاً لاسم الإشارة نحو ‏{‏ذلك الكتاب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏، وفيه أن الحصر ممنوع، والشطء فروخ الزرع كما قال غير واحد وهو ما خرج منه وتفرع في شاطئيه أي في جانبيه؛ وجمعه كما قال الراغب أشطاء، وقال قطرب‏:‏ شوك السنبل يخرج من الحبة عشر سنبلات وتسع وثمان، وقال الكسائي‏.‏ والأخفش‏:‏ طرفه، وأنشدوا‏:‏

أخرج الشطء على وجه الثرى *** ومن الأشجار أفنان الثمر

وزعم أبو الفتح أن الشطء لا يكون إلا في البر والشعير، وقال «صاحب اللوامح»‏:‏ شطأ الزرع وأشطأ إذا أخرج فراخه وهو في الحنطة والشعير وغيرهما، وفي «البحر» اشطأ الزرع افرخ والشجرة أخرجت غصونها‏.‏

وفي «القاموس» الشطء فراخ النخل والزرع أو ورقه، جمعه شطوء، وشطأ كمنح شطأ وشطوأ أخرجها، ومن الشجر ما خرج حول أصله وجمعه أشطاء، وأشطأ اخرجها اه، وفيه ما يرد به على أبي الفتح مع زيادة لا تخفى فائدتها فلا تغفل‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وابن ذكوان ‏{‏شَطْأَهُ‏}‏ بفتح الطاء‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة‏.‏ وعيسى الكوفي كذلك وبالمد‏.‏ وقرأ زيد بن علي كذلك أيضاً وبالف بدل الهمزة فاحتمل أن يكون مقصوراً وإن يكون أصله الهمز فنقل الحركة وأبدل الهمزة ألفاً كما قالوا في المرأة والكمأة المراة والكماة، وهو تخفيف مقيس عند الكوفيين وعند البصريين شاذ لا يقاس عليه، وقرأ أبوجعفر ‏{‏شطه‏}‏ بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على الطاء، ورويت عن شيبة‏.‏ ونافع‏.‏ والجحدري، وعن الجحدري أيضاً ‏{‏شطوه‏}‏ بإسكان الطاء وواو بعدها، قال أبو الفتح‏:‏ هي لغة أو بدل من الهمزة ‏{‏شَطْأَهُ فَازَرَهُ‏}‏ أي أعانه وقواه قاله الحسن‏.‏

وغيره، قال الراغب‏:‏ وأصله من شد الإزار يقال‏:‏ أزرته أي شددت إزاره ويقال‏:‏ آزرت البناء وأزرته قويت أسافله، وتأزر النبات طال وقوي‏.‏

وذكر غير واحد أنه اما من المؤازرة بمعنى المعاونة أو من الإيزار وهي الإعانة‏.‏ وفي «البحر» ‏{‏ءازَرَ‏}‏ أفعل كما حكى عن الأخش، وقول مجاهد‏.‏ وغيره فاعل خطأ لأنه لم يسمع في مضارعه ألا يؤزر على وزن يكرم دون يوازر‏.‏

وتعقب بأن هذه شهادة نفي غير مسموعة على أنه يجوز أن يكون ورد من بابين واستغنى بأحدهما عن الآخر ومثله كثير، مع أن السرقسطي نقله عن المازني لكنه قال‏:‏ يقال آزر الشيء غيره أي ساواه وحاذاه، وأنشد لامرىء القيس‏:‏

بمحنية قد آزر الضال نبتها *** بحر جيوش غانمين وخيب

وجعل ما في الآية من ذلك، وهو مروي أيضاً عن السدي قال‏:‏ آزره صار مثل الأصل في الطول، والجمهور على ما نقل أولاً، والضمير المرفوع في ‏{‏آزره‏}‏ للشطء والمنصوب للزرع أي فقوي ذلك الشطء الزرع، والظاهر أن الإسناد في ‏{‏أَخْرَجَ‏}‏ مجازي وكون ذلك من الإسناد إلى الموجب، وهو حقيقة على ما ذهب إليه السالكوتي في «حواشيه» على المطول حيث قال في قولهم‏:‏ سرتني رؤيتك‏.‏ هذا القول مجاز إذا أريد منه حصول السرور عند الرؤية أما إذا أريد منه أن الرؤية موجبة للسرور فهو حقيقة لا يخفى حاله‏.‏ وقرأ ابن ذكوان ‏{‏شَطْأَهُ فَازَرَهُ‏}‏ ثلاثياً‏.‏ وقرىء ‏{‏فَازَرَهُ‏}‏ بشد الزاي أي فشد أزره وقواه ‏{‏فاستغلظ‏}‏ فصار من الدقة إلى الغلظ، وهو من باب استنوق الجمل، ويحتمل أن يراد المبالغة في الغلظ كما في استعصم ونحوه، وأوثر الأول لأن المساق ينبىء عن التدرج ‏{‏فاستوى على سُوقِهِ‏}‏ فاستقام على قصبه وأصوله جمع ساق نحو لابة ولوب وقارة وقور‏.‏ وقرأ ابن كثير ‏{‏سُوقِهِ‏}‏ بإبدال الواو المضموم ما قبلها همزة، قيل‏:‏ وهي لغة ضعيفة، ومن ذلك قوله‏:‏

أحب المؤقدين إلى موسى *** ‏{‏يُعْجِبُ الزراع‏}‏ بوقته وكثافته وغلظه وحسن منظره، والجملة في موضع الحال أي معجباً لهم، وخصهم تعالى بالذكر لأنه إذا أعجب الزراع وهم يعرفون عيوب الزرع فهوأحرى أن يعجب غيرهم، وهنا تم المثل وهو مثل ضربه الله تعالى للصحابة رضي الله تعالى عنهم قلوا في بدء ازسلام ثم كثروا واستحكموا فترقى أمرهم يوماً فيوماً بحيث أعجب الناس، وهذا ما اختاره بعضهم وقد أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر، عن الضحاك‏.‏ وابن جرير‏.‏ وعبد بن حميد عن قتادة، وذكراً عنه قال أيضاً‏:‏ مكتوب في الإنجيل سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع يخرج منهم قوم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر‏.‏ وفي «الكشاف» هو مثل ضربه الله تعالى لبدء ملة الإسلام وترقيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده ثم قواه الله تعالى بمن معه كما يقوي الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها، وظاهره أن الزرع هو النبي صلى الله عليه وسلم والشطء أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون مثلاً له عليه الصلاة والسلام وأصحابه لا لأصحابه فقط كما في الأول ولكل وجهة، وروي الثاني عن الواقدي، وفي خبر أخرجه ابن جرير‏.‏

وابن مردويه عن ابن عباس ما يقتضيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفر‏}‏ علة لما يعرب عنه الكلام من إيجاده تعالى لهم على الوجه الذي تضمنه التمثيل، وظاهر كلام بعضهم أنه علة للتمثيل وليس بذاك، وقيل‏:‏ علة لما بعده من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏ فإن الكفار إذا سمعوا بما أعد الله تعالى للمؤمنين في الآخرة مع ما لهم في الدنيا من العزة غاظهم ذلك، وهو مع توقف تماميته بحسب الظاهر على كون الكفار مستيقنين بالآخرة ومتحققين كون الوعد منه عز وجل بعيد، وضمير ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ لمن عاد عليه الضمائر السابقة، و‏{‏مِنْ‏}‏ للبيان مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 30‏]‏ وليس مجيئها كذلك مخصوصاً بما إذا كانت داخلة على ظاهره كما توهم صاحب التحفة الإثني عشرية في الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الارض‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 55‏]‏ فقال‏:‏ حمل ‏{‏مِنْ‏}‏ للبيان إذا كان داخلاً على الضمير مخالف لاستعمال العرب، وأنكر ذلك عليه صاحب الترجمة لكن قال‏:‏ لو ادعى هذا الخلاف في ضميري الخطاب والتكلم لم يبعد‏.‏

ومن مجيئها للبيان داخلة على ضمير الغائب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 25‏]‏ عند القائلين بأن ضمير ‏{‏تَزَيَّلُواْ‏}‏ للمؤمنين لا للتبعيض كما يقوله الشيعة الزاعمون ارتداد أكثر الصحابة رضي الله تعالى عنهم من أهل بيعة الرضوان وغيرهم، فإن مدحهم الساق بما يدل على الاستمرار التجدي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً‏}‏ ووصفهم بمايدل على الدوام والثبات كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكفار‏}‏ يأبى التبعيض والارتداد الذين زعموه عند من له أدنى إنصاف وشمة من دين، ويزيد زعمهم هذا سقوطاً عن درجة الاعتبار أن مدحهم ذاك قد كتبه الله تعالى في التوراة قبل أن يخلق السموات والأرض، ولا يكاد عاقل يقبل أنه تعالى أطلق المدح وكتبه لأناس لم يثبت على تلك الصفة إلا قليل منهم، وإذا قلنا‏:‏ إن هؤلاء الممدوحين هم أهل بيعة الرضوان الذين بايعوه عليه الصلاة والسلام في الحديبية كما يشعر به ‏{‏الذين مَعَهُ‏}‏ لا سيما على القول بأن السورة بتمامها نزلت عند منصرفه عليه الصلاة والسلام من الحديبية قبل أن يتفرقوا عنه صلى الله عليه وسلم كان سقوط ذلك الزعم أبين وأبين لأن الارتداد الذي يزعمونه كان لترك مبايعة علي كرم الله تعالى وجهه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع العلم بالنص على خلافته بزعمهم ومبايعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكيف يكون ذاك ارتداداً والله عز وجل حين رضي عنهم علم أنهم يفعلونه، والقول بأنه سبحانه إنما رضي عن مبايعتهم أو عنهم من حيث المبايعة ولم يرض سبحانه عنهم مطلقاً لأجلها خلاف ظاهر الآية، والظاهر ما نفي، ولا يعكر عليه صدور بعض المعاصي من بعضهم بعد وإنما يعكر صدور ما لا يجامع الرضا أصلاً كالارتداد والعياذ بالله تعالى، وبالجملة جعل ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض ليتم للشيعة ما زعموه مما يأباه الكتاب والسنة وكلام العترة‏.‏

وفي التحفة الإثني عشرية من ذلك ما تنشرح له الصدور وتزداد به قلوب المؤمنين نوراً على نور، ويا سبحان الله أين جعل ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض من دعوى الارتداد، ولكن من يضلل الله فما له من هاد، وتأخير ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ هنا عن ‏{‏عَمِلُواْ الصالحات‏}‏ وتقديم ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ عليه في آية النور التي ذكرناها آنفاً لأن عمل الصالحات لا ينفك عنهم، وذلك ثمت لبيان الخلفاء والعمل الصالح ليس موقوفاً عليه لاستمرار صحة خلافتهم حتى لا ينعزلوا بالفسق، وقال ابن جرير‏:‏ «منهم» يعني من الشطء الذي أخرجه الزرع وهم الداخلون في الإسلام إلى يوم القيامة فأعاد الضمير على معنى الشطء وكذلك فعل البغوي ولا يخفى بعده‏.‏

هذا وفي «المواهب» أن الإمام مالكاً قد استنبط من هذه الآية تكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فإنهم يغيظونهم ومن غاظه الصحابة فهو كافر، ووافقه كثير من العلماء انتهى‏.‏ وفي «البحر» ذكر عند مالك رجل ينتقص الصحابة فقرأ مالك هذه الآية فقال‏:‏ من أصبح من الناس في قلبه غيظ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أصابته هذه الآية، ويعلم تكفير الرافضة بخصوصهم، وفي كلام عائشة رضي الله تعالى عنها ما يشير إليه أيضاً، فقد أخرج الحاكم وصححه عنها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار‏}‏ قالت‏:‏ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم، وعن بعض السلف جعل جمل الآية كل جملة مشيرة إلى معين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فعن عكرمة أنه قال‏:‏ ‏{‏أَخْرَجَ شَطْأَهُ‏}‏ بأبي بكر ‏{‏فَازَرَهُ‏}‏ بعمر ‏{‏فاستغلظ‏}‏ بعثمان ‏{‏فاستوى على سُوقِهِ‏}‏ بعلي رضي الله تعالى عنهم أجمعين‏.‏

وأخرج ابن مردويه‏.‏ والقاضي أحمد بن محمد الزهري في فضائل الخلفاء الأربعة‏.‏ والشيرازي في الألقاب عن ابن عباس ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ‏}‏ أبو بكر ‏{‏أَشِدَّاء عَلَى الكفار‏}‏ عمر ‏{‏رُحَمَاء بَيْنَهُمْ‏}‏ عثمان ‏{‏تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً‏}‏ على كرم الله تعالى وجهه ‏{‏يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ الله وَرِضْوَاناً‏}‏ طلحة والزبير ‏{‏سيماهم فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود‏}‏ عبد الرحمن بن عوف‏.‏

وسعد بن أبي وقاص‏.‏ وأبو عبيدة بن الجراح ‏{‏وَمَثَلُهُمْ فِى الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَازَرَهُ‏}‏ بأبي بكر ‏{‏فاستغلظ‏}‏ بعمر ‏{‏فاستوى على سُوقِهِ‏}‏ بعثمان ‏{‏يُعْجِبُ الزراع لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار‏}‏ بعلي كرم الله تعالى وجهه ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ جميع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخرج ابن مردويه‏.‏ والخطيب‏.‏ وابن عساكر عنه رضي الله تعالى عنه أيضاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَزَرْعٍ قَالَ أَصْلِ الزرع عَبْدُ *كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏فَازَرَهُ‏}‏ بأبي بكر ‏{‏فاستغلظ‏}‏ بعمر ‏{‏فاستوى على سُوقِهِ‏}‏ بعثمان ‏{‏لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار‏}‏ بعلي رضي الله تعالى عنه، وكل هذه الأخبار لم تصح فيما أرى ولا ينبغي تخريج ما في الآية عليها، وأعتقد أن لكل من الخلفاء رضي الله تعالى عنهم الحظ الأوفى مما تضمنته، ومتى أريد بالزرع النبي عليه الصلاة والسلام كان حظ علي كرم الله تعالى وجهه من شطأه أو في من حظ سائر الخلفاء رضي الله تعالى عنه، ولعل مؤازرته ومعاونته البدنية بقتل كثير من الكفرة أعدائه عليه الصلاة والسلام أكثر من مؤازرة غيره من الخلفاء أيضاً، ومع هذا لا ينخدش ما ذهب إليه محققو أهل السنة والجماعة في مسألة التفضيل كما لا يخفى على النبيه النبيل، فتأمل والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل‏.‏

ومن باب الاشارة في بعض الآيات‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1‏]‏ يشير عندهم إلى فتح مكة العماء بادخال الأعيان الثابتة ظاهره بنور الوجود فيها أي اظهارها للعيان لأجله عليه الصلاة والسلام على أن لام ‏{‏لَكَ‏}‏ للتعليل، وحاصله أظهرنا العالم لأجلك وهو في معنى ما يروونه من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لولاك لولاك ما خلقت إلا فلان‏}‏ وقيل‏:‏ يشير إلى فتح باب قلبه عليه الصلاة والسلام إلى حضرة ربوبيته عز وجل بتجلي صفات جماله وجلاله وفتح ما انغلق على جميع القلوب من الأسرار وتفصيل شرائع الإسلام وغير ذلك من فتوحات قلبه صلى الله عليه وسلم ‏{‏أمثالكم إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ليستر وجودك في جميع الأزمنة بوجوده جل وعلا ‏{‏وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏}‏ بإثبات جميع حسنات العالم في صحيفتك إذ كنت العلة في إظهاره ‏{‏وَيَهْدِيَكَ صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 2‏]‏ بدعوة الخلق على وجه الجمع والفرق ‏{‏وَيَنصُرَكَ الله‏}‏ على النفوس الأمارة ممن تدعوهم إلى الحق ‏{‏نَصْراً عَزِيزاً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 3‏]‏ قلما يشبهه نصر، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء عليهم السلام تبعاً، وكان علماء أمته كأنبياء بني إسرائيل إلى غير ذلك مما حصل لأمته بواسطة تربيته على الصلاة والسلام لهم وإفاضة الأنوار والأسرار على نفوسهم وأزواجهم، والمراد ليجمع لك هذه الأمور فلا تغفل ‏{‏هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين‏}‏ فسروها بشيء يجمع نوراً وقوة وروحاً بحيث يسكن إليه ويتسلى به الحزين والضجر ويحدث عنده القيام بالخدمة ومحاسبة النفس وملاطفة الخلق ومراقبة الحق والرضا بالقسم والمنع من الشطح الفاحش، وقالوا‏:‏ لا تنزل السكينة إلا في قلب نبي أو ولى‏.‏

‏{‏لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏ فيحصل لهم الإيمان العياني والإيمان الاستدلالي البرهاني ‏{‏إِنَّا أرسلناك شَاهِداً‏}‏ على جميع المخلوقات إذ كنت أول مخلوق، ومن هنا أحاط صلى الله عليه وسلم علما بما لم يحط به غيره من المخلوقات لأنه عليه الصلاة والسلام شاهد خلق جميعهاً، ومن هذا المقام قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كنت نبياً وآدم بين الروح والجسد» ‏{‏وَمُبَشّراً وَنَذِيراً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 8‏]‏ إذ كنت أعلم الخلق بصفات الجمال والجلال ‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله‏}‏ يشير عندهم إلى كمال فناء وجوده صلى الله عليه وسلم وبقائه بالله عز وجل، أيد ذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏سَيَقُولُ لَكَ المخلفون‏}‏ المتخلفون عن السير إلى قتال الأنفس الامارة ‏{‏مّنَ الاعراب‏}‏ من سكان بوادي الطبيعة ‏{‏شَغَلَتْنَا أموالنا وَأَهْلُونَا‏}‏ العوائق والعلائق ‏{‏فاستغفر لَنَا‏}‏ اطلب من الله عز وجل ستر ذلك عنا ليتأتى لنا السير ‏{‏يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ لتمكن حب ذلك في قلوبهم وعدم استعدادهم لدخول غيره فيها‏:‏

رضوا بالأماني وابتلوا بحظوظهم *** وخاضوا بحار الحب دعوى فما ابتلوا

‏{‏قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً‏}‏ أي إن هاتيك العوائق والعلائق لا تجديكم شيئاً ‏{‏بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْلَمُونَ خَبِيراً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 11‏]‏ فيجازيكم عليها حسبما تقتضي الحكمة ‏{‏بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ‏}‏ بل حسبتم أن لا يرجع العقل والقوى الروحانية من السالكين السائرين إلى جهاد النفس وطلب مغانم التجليات والانس إلى ما كانوا عليه من ادراك المصالح وتدبير حال المعاش وما تقتضيه هذه النشأة ‏{‏وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء‏}‏ بالله تعالى وشؤنه عز وجل ‏{‏وَكُنتُمْ‏}‏ في نفس الأمر ‏{‏قَوْماً بُوراً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 12‏]‏ هالكين في مهالك الطبيعة وسوء الاستعداد ‏{‏سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا‏}‏ وهي مغانم التجليات ومواهب الحق لأرباب الحضرات ‏{‏ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ‏}‏ دعونا نسلك مسلككم لتنال منالكم ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يُبَدّلُواْ كلام الله‏}‏ في حقهم من حرمانهم المغانم لسوء استعدادهم ‏{‏قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله‏}‏ حكم وقضى ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ إذ كنتم في عالم الأعيان الثابتة ‏{‏فَسَيَقُولُونَ‏}‏ منكرين لذلك ‏{‏بَلْ تَحْسُدُونَنَا‏}‏ ولهذا تمنعوننا عن الاتباع

‏{‏بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 15‏]‏ ولذلك نسبوا الحسن وهو من أقبح الصفات إلى ذوي النفوس القدسية المطهرة عن جميع الصفات الردية ‏{‏قُلْ لّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الاعراب سَتُدْعَوْنَ‏}‏ ولا تتركون سدى ‏{‏إلى قَوْمٍ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ وهم النفس وقواها ‏{‏تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ‏}‏ ينقادون لحكم رسول العقل المنزه عن شوائب الوهم ‏{‏فَإِن تُطِيعُواْ‏}‏ الداعي ‏{‏يُؤْتِكُمُ الله‏}‏ تعالى‏:‏ ‏{‏أَجْرًا حَسَنًا‏}‏ من أنواع المعارف والتجليات ‏{‏وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مّن قَبْلُ يُعَذّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 16‏]‏ وهو عذاب الحرمان والحجاب ‏{‏لَّيْسَ عَلَى الاعمى‏}‏ وهو من لم ير في الدار غيره دياراً «حرج» في ترك السلوك والجهاد المطلوب منكم لأنه وراء ذلك ‏{‏وَلاَ عَلَى الاعرج‏}‏ وهو من فقد شيخاً كاملاً سالماً عن عيب في كيفية التسليك والإيصال ‏{‏حَرَجٌ‏}‏ في ترك السلوك أيضاً، وهو إشارة إلى ما قالوا من أن ترك السلوك خير من السوك على يد ناقص ‏{‏وَلاَ عَلَى المريض‏}‏ بمرض العشق والهيام ‏{‏حَرَجٌ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 17‏]‏ في ذاك أيضاً لأنه مجذوب والجذبة خير من السلوك ‏{‏لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة‏}‏ يشير إلى المعاهدين على القتل بسيف المجاهدة تحت سمرة الانفراد عن الأهل والمال، ويقال في أكثر الآيات الآتية نحو هذا ‏{‏مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الكفار‏}‏ أعداء الله عز وجل في مقام الفرق ‏{‏رُحَمَاء فِيمَا بَيْنَهُمْ‏}‏ لقوة مناسبة بعضهم بعضاً فهم جامعون لصفتي الجلال والجمال ‏{‏سيماهم فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السجود‏}‏ له عز وجل وعدم السجود لشيء من الدنيا والأخرى وتلك السيما خلع الأنوار الإلهية، قال عامر بن عبد قيس‏:‏ كاد وجه المؤمن يخبر عن مكنون عمله وكذلك وجه الكافر ‏{‏وَعَدَ الله الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً‏}‏ ستراً لصفاتهم بصفاته عز وجل ‏{‏وَأَجْراً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ وهو أن يتجلى سبحانه لهم بأعظم تجلياته وإلا فكل شيء دونه جل جلاله ليس بعظيم، وسبحانه من إله رحيم وملك كريم‏.‏

‏[‏سورة الحجرات‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ وتصدير الخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما في حيزه أمر خطير يستدعي مزيد اعتنائهم وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم والإيذان بأنه داع للمحافظة عليه ورادع عن الإخلال به‏.‏ و‏{‏تُقَدّمُواْ‏}‏ من قدم المبتعدى، ومعناه جل الشيء قدماً أي متقدماً على غيره، وكان مقتضاه أن يتعدى إلى مفعولين لكن الأكثر في الاستعمال تعديته إلى الثاني بعلى تقول‏:‏ قدمت فلاناً على فلان، وهو هنا محتمل احتمالين‏.‏ الأول أن يكون مفعوله نسيا والقصد فيه إلى نفس الفعل وهو التقديم من غير اعتبار تعلقه بأمر من الأمور ولا نظر إلى أن المقدم ماذا هو على طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى يحي ويميت‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 68‏]‏ وقولهم‏:‏ يعطي ويمنع، فالمعنى لا تفعلوا التقديم ولا تتلبسوا به ولا تجعلوه منكم بسبيل‏.‏ والثاني أن يكون قد حذف مفعوله قصداً إلى تعميمه لأنه لاحتماله لأمور لو قدر أحدها كان ترجيحاً بلا مرجح يقدر أمراً عاماً لأنه أفيد مع الاختصار، فالمعنى لا تقدموا أمراً من الأمور، والأول قيل أوفى بحق المقام لإفادته النهي عن التبيس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهاني، ورجح الثاني بأنه أكثر استعمالاً، وبأن الأول تنزيل المتعدى منزلة اللازم وهو خلاف الأصل والثاني سالم منه، والحذف وإن كان خلاف الأصل أيضاً أهون من التنزيل المذكور لكثرته بالنسبة إليه، وبعضهم لم يفرق بينهما لتعارض الترجيح عنده وكون مآل المعنى عليهما العموم المناسب للمقام، وذكر أن في الكلام تجوزين‏.‏ أحدهما في «بين» الخ فإن حقيقة قولهم بين يدي فلان ما بين العضوين فتجوز بذلك عن الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريباً منه باطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما فهو من المجاز المرسل‏.‏ ثانيهما استعارة الجملة وهي التقدم بين اليدين استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته تصوير الهجنته وشناعته بصورة المحسوس فيما نهوا عنه كتقدم الخادم بين يدي شيده في سيره حيث لا مصلحة، المراد من ‏{‏لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ لا تقطعوا أمراً وتجزموا به وتجترؤوا على ارتكابه قبل أن يحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم به ويأذنا فيه، وحاصله النهي عن الأقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏تُقَدّمُواْ‏}‏ من قدم اللازم بمعنى تقدم كوجه وبين، ومنه مقدمة الجيش خلاف ساقته وهي الجماعة المتقدمة منه، ويعضده قراءة ابن عباس‏.‏ وأبي حيوة‏.‏ والضحاك‏.‏ ويعقوب‏.‏ وابن مقسم ‏{‏لاَ تُقَدّمُواْ‏}‏ بفتح التاء والقاف والدال، وأصله تتقدموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً لأنه من التفعل وهو المطاوع اللازم، ورجح ما تقدم بما سمعت وبأن فيه استعمال أعرف اللغتين وأشهرهما، لا يقال‏:‏ الظرف إذا تعلق به العامل قد ينزل منزلة المفعول فيفيد العموم كما قرروه في

‏{‏مالك يَوْمِ الدين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 4‏]‏ فليكن الظرف ههنا بمنزلة مفعول التقدم مغنياً غناءه، والتقدم بين يدي المرء خروج عن صفة المتابعة حساً فهو أوفق للاستعارة التمثيلية المقصود منها تصوير هجنة الحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن يلزم متابعته بصورة المحسوس، فتخريج ‏{‏لاَ تُقَدّمُواْ‏}‏ على اللزوم أبلغ ولا يضره عدم الشهرة فإنه لا يقاوم إلا بلغية المطابقة للمقام لما أشار إليه في الكشف من أن المراد النهي عن مخالفة الكتاب والسنة، والتعدية تفيد أن ذلك بجعل وقصد منه للمخالفة لأن التقديم بين يدي المرى أن تجعل أحداً أما نفسك أو غيرك متقدماً بين يديه وذلك أقوى في الذم وأكثر استهجاناً للدلالة على تعمد عدم المتابعة لا صدورها عنه كيفما اتفق فافهم ولا تغفل‏.‏

وجوز أن يكون ‏{‏بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ من باب أعجبني زيد وكرمه فالنهي عن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام فكأنه قيل‏:‏ لا تقدموا بين يدي رسول الله، وذكر الله تعالى لتعظيمه عليه الصلاة والسلام والإيذان بجلالة محله عنده عز وجل ومزيد اختصاصه به سبحانه، وأمر التجوز عليه على حاله، وهو كما قال في الكشف أوفق لما يجيء بعده، فإن الكلام مسوق لاجلاله عليه الصلاة والسلام، وإذا كان استحقاق هذا الإجلال لاختصاصه بالله جل وعلا ومنزلته منه سبحانه فالتقدم بين يدي الله عز شأنه أدخل في النهي وأدخل‏.‏ وإن جعل مفصوداً بنفسه على ما مر فالنهي عن الاستبداد بالعمل في أمر ديني لا مطلقاً من غير مراجعة إلى الكتاب والسنة، وعليه تفسير ابن عباس على ما أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وأبو نعيم في الحلية عنه أنه قال‏:‏ أي لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، وكذا ما أخرجه ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عنه قال‏:‏ نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه بل عليهم أن يصغوا ولا يتكلموا‏.‏

ووجه الدلالة على هذا أن كلامه عليه الصلاة والسلام أريد به ما ينقله عنه تعالى ولفظه أيضاً، وما اللفظ من الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان المعنى من الوحي أو أراد كلام كل واحد من الله تعالى والرسول عليه الصلاة والسلام، وما أخرج عبد بن حميد‏.‏ والبيهقي في شعب الإيمان وغيرهما عن مجاهد أنه قال في ذلك‏:‏ لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه يخرج على نحو التخريج الأول لكلام ابن عباس ويكون مؤيداً له، وبعضهم يروى أنه قال‏:‏ لا تفتاتوا على الله تعالى شيئاً حتى يقصه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل مؤيداً لكلام ابن عباس أيضاً، وفسر التقدم بين يدي الله تعالى لأن التقدم بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام مكشوف المعنى، ثم إن كل ذلك من باب بيان حاصل المعنى في الجملة‏.‏

وفي الدر المنثور بعد ذكر المروى عن مجاهد حسبما ذكرنا قال الحفاظ‏:‏ هذا التفسير على قراءة ‏{‏تُقَدّمُواْ‏}‏ بفتح التاء والدال وهي قراءة لبعضهم حكاها الزمخشري وأبو حيان وغيرهما، وكأن ذلك مبني على أن ‏{‏تُقَدّمُواْ‏}‏ على هذه القراءة من قدم كعلم إذا مضى في الحرب ويأتي من باب نصر أيضاً إذ الافتيات وهو السبق دون ائتمار من يؤتمر أنسب بذلك‏.‏

واختار بعض الأجلة جعله من قدم من سفره من باب علم لا غير كما يقتضيه عبارة القاموس، وعليه يكون قد شبه تعجيلهم في قطع الحكم في أمر من أمور الدين بقدوم المسافر من سفره إيذاناً بشدة رغبتهم فيه نحو ‏{‏وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُوراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 23‏]‏ واختلف في سبب النزول، فأخرج البخاري‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ «قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه‏:‏ أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه‏:‏ ما أردت إلا خلافي، فقال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ ما أردت خلافك فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏عَظِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ حتى انقضت الآية» وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن الحسن أن أناساً ذبحوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يعيدوا ذبحاً فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الخ، وفي الكشاف عنه أن أناساً ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة فنزلت وأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يعيدوا ذبحاً آخر، والأول ظاهر في أن النزول بعد الأمر والذبح قبل الصلاة يستلزم الذبح قبل رسول الله عليه الصلاة والسلام لأنه صلى الله عليه وسلم كان ينحر بعدها كما نطقت به الأخبار، وإلى عدم الأجزاء قبل ذهب الإمام أبو حنيفة والأخبار تؤيده، أخرج الشيخان‏.‏ والترمذي‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي عن البراء قال‏:‏ ‏"‏ ذبح بردة بن نيار قبل الصلاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أبدلها فقال‏:‏ يا رسول الله ليس عندي إلا جذعة فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعلها مكانها ولن تجزي عن أحد بعدك ‏"‏ وفي رواية أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أول ما نبدى به في يومنا هذا نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء‏"‏‏.‏

وكان أبو بردة بن نيار قد ذبح قبل الصلاة الحديث، وفي المسألة كلام طويل محله كتب الفروع فراجعه أن أردته، وعن الحسن أيضاً لما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة أتته الوفود من الآفاق فأكثروا عليه بالمسائل فنهوا أن يبتدءوه بالمسألة حتى يكون عليه الصلاة والسلام هو المبتدىء، وأخرجّابن جرير‏.‏ وغيره عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن ناساً كانوا يقولون‏:‏ لو أنزل في كذا وكذا لكان كذا وكذا فكره الله تعالى ذلك وقدم فيه‏.‏

وقيل‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تهامة سرية سبعة وعشرين رجلاً عليهم المنذر بن عمرو الساعدي فقتلهم بنو عامر وعليهم عامر بن الطفيل إلا ثلاثة نفر نجوا فلقوا رجلين من بني سليم قرب المدينة فاعتزيا لهم إلى بني عامر لأنهم أعز من سليم فقتلوهما وسلبوهما ثم أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ بئسما صنعتم كانا من سليم أي كانا من أهل العهد لأنهم كانوا معاهدين والسلب ما كسوتهما فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ونزلت أي لا تعملوا شيئاً من ذات أنفسكم حتى تستأمروا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأخرج الطبراني في الأوسط‏.‏ وابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ إن ناساً كانوا يتقدمون الشهر فيصومون قبل النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏عَظِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ وفي رواية عن مسروق بن الأجدع بن مالك الهمداني الكوفي دخلت على عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت قد تبنته في اليوم الذي يشك فيه فقالت للجارية‏:‏ أسقيه عسلا فقلت‏:‏ إني صائم فقالت‏:‏ قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم وفيه نزلت ‏{‏عَظِيماً ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ‏}‏ الخ، فالمعنى كما في المعالم لا تصوموا قبل صوم نبيكم، وأول هذا صاحب الكشف فقال‏:‏ الظاهر عندي أنها استدلت بالآية على أنه ينبغي أن يتمثل أمر النبي صلى الله عليه وسلم ونهيه، وقد نهى عليه الصلاة والسلام وفيه نزلت أي في مثل هذا لدلالتها على وجوب الاتباع والنهي عن الاستبداد إذ لا يلوج ذلك التفسير على وجه ينطبق على يوم الشك وحده إلا بتكلف، وهذا نظير ما نقل عن ابن مسعود في جواب المرأة التي اعترضت عليه أنه قرأت كتاب الله وما وجدت اللعن على الواشمة كما ادعاه رضي الله تعالى عنه من قوله‏:‏ لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه أما رأيت ‏{‏وَمَا ءاتاكم الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عَنْهُ فانتهوا‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 7‏]‏ قالت‏:‏ بلى قال‏:‏ فإنه نهى عنه‏.‏

وأنت تعلم بعد الرواية الأولى عن هذا التأويل، ويعلم من هذه الروايات وغيرها أنهم اختلفوا أيضاً في تفسير التقدم، وفي كثير منها تفسيره بخاص، وقال بعضهم‏:‏ إن الآية عامة في كل قول وفعل ويدخل فيها أنه إذا جرت مسألة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسبقوه في الجواب، وأن لا يمشي بين يديه إلا للحاجة، وأن يستأني في الافتتاح بالطعام، ورجح بأنه الموافق للسياق ولما عرف في الأصول من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وفي الكلام عليه بناء على ما قاله الطيبي مجاز باعتبار القدر المشترك الصادق على الحقيقة أيضاً دون التمثيل وتشبيه المعقول بالمحسوس ويسمى في الأصول بعمون المجاز وفي الصناعة بالكناية لأنها لا تنافي إرادة الحقيقة أيضاً؛ ومن هنا يجوز إرادة لا تمشوا بين يديه صلى الله عليه وسلم؛ وذكر عليه الرحمة أنه لا يقدر على هذا القول مفعول بل يتوجه النهي إلى نفس الفعل فتأمل، ويحتج بالآية على اتباع الشرع في كل شيء وهو ظاهر مما تقدم، وربما احتج بها نفاة القياس وهو كما قال الكيا باطل منهم‏.‏ نعم قال الجلال السيوطي‏:‏ يحتج بها على تقديم النص على القياس، ولعله مبني على أن العمل بالنص أبعد من التقدم بين يدي الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي في كل ما تأتون وتذرون من الأقوال والأفعال التي من جملتها ما نحن فيه ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ لكل مسموع ومنه أقوالكم ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بكل المعلومات ومنها أفعالكم فمن حقه أن يتقي ويراقب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏عَلِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أصواتكم فَوْقَ صَوْتِ النبى‏}‏ شروع في النهي عن التجاوز في كيفية القول عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد النهي عن التجاوز في نفس القول والفعل، وإعادة النداء مع قرب العهد به للمبالغة في الايقاظ والتنبيه والإشعار باستقلال كل من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه أي لا تبلغوا بأصواتكم وراء حد سيبلغه عليه الصلاة والسلام بصوته‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏لاَ تَرْفَعُواْ‏}‏ بتشديد ‏{‏لاَ تَرْفَعُواْ‏}‏ وزيادة الباء وقد شدد الأعلم الهذلي في قوله‏:‏

رفعت عيني بالحجا *** زالي أناس بالمناقب

والتشديد فيه للمبالغة كزيادة الباء في القراءة إلا أن ليس المعنى فيها أنهم نهوا عن الرفع الشديد تخيلاً أن يكون ما دون الشديد مسوغاً لهم، ولكن المعنى نهيهم عما كانوا عليه من الجلبة واستجفاؤهم فيما كانوا يفعلون، وهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الربا أضعافا مضاعفة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 130‏]‏‏.‏

‏{‏وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ‏}‏ أي جهراً كائناً كالجهر لأالجاري فيما بينكم، فالأول نهى عن رفع الصوت فوق صوته صلى الله عليه وسلم وهذا نهى عن مساواة جهرهم لجهره عليه الصلاة والسلام فإنه المعتاد في مخاطبة الأقران والنظراء بعضهم لبعض، ويفهم من ذلك وجوب الغض حتى تكون أصواتهم دون صوته صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ الأول مخصوص بمكالمته صلى الله عليه وسلم لهم وهذا بصمته عليه الصلاة والسلام كأنه قيل‏:‏ لا ترفعوا أصواتكم فوق صوته إذا نطق ونطقتم ولا تجهروا له بالقول إذا سكت وتكلمتم، ويفهم أيضاً وجوب كون أصواتهم دون صوته عليه الصلاة والسلام، فأياً ما كان يكون المآل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته صلى الله عليه وسلم وتعهدوا في مخاطبته اللين القريب من الهمس كما هو الدأب عند مخاطبة المهيب المعظم وحافظوا على مراعاة أبهة النبوة وجلالة مقدارها، ومن هنا قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بعد نزول الآية كما أخرج عبد بن حميد‏.‏ والحاكم‏.‏ وصححه من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة‏:‏ ‏{‏والذي أنزل عليك الكتاب يا رسول الله لا أكلمك إلا كأخي السرار حتى ألقى الله تعالى»‏.‏

وفي رواية أنه قال‏:‏ يا رسول الله والله لا أكلمك إلا السرار أو أخا السرار حتى ألقى الله تعالى، وكان إذا قدم على رسول الله عليه الصلاة والسلام الوفود أرسل إليهم من يعلمهم كيف يسلمون ويأمرهم بالسكينة والوقار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عمر رضي الله تعالى عنه كما في صحيح البخاري‏.‏ وغيره عن ابن الزبير إذا تكلم عند النبي صلى الله عليه وسلم لم يسمع كلامه حتى يستفهمه، وقيل‏:‏ معنى ‏{‏ولا تجهروا له بالقول‏}‏ الخ ولا تخاطبوه باسمه وكنيته كما يخاطب بعضكم بعضاً وخاطبوه بالنبي والرسول، والكلام عليه أبعد عن توهم التكرار لكنه خلاف الظاهر لأن ذكر الجهر عليه لا يظهر له وجه، وكان الظاهر أن يقال مثلاً‏:‏ ولا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم بعضاً‏.‏

‏{‏أَن تَحْبَطَ أعمالكم‏}‏ تعليل لما قبله من النهيين على طريق التنازع بتقدير مضاف أي كراهة أن تحبط أعمالكم، والمعنى إني أنهاكم عما ذكر لكراهة حبوط أعمالكم بارتكابه أو تعليل للمنهى عنه، وهو الرفع والجهر بتقدير اللام أي لأن تحبط، والمعنى فعلكم ما ذكر لأجل الحبوط منهى عنه، ولام التعليل المقدرة مستعارة للعاقبة التي يؤدي إليها الفعل لأن الرفع والجهر ليس لأجل الحبوط لكنهما يؤديان إليه على ما تعلمه إن شاء الله تعالى، وفرق بينهما بما حاصله أن الفعل المنهى معلل في الأول والفعل المعلل منهى في الثاني وأيهما كان فمرجع المعنى إلى أن الرفع والجهر كلاهما منصوص الاداء إلى حبوط العمل، وقراءة ابن مسعود‏.‏ وزيد بن علي ‏{‏فتحبط‏}‏ بالفاء أظهر في التنصيص على أدائه إلى الإحباط لأن ما بعد الفاء لا يكون إلا مسبباً عما قبلها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ حال من فاعل ‏{‏تَحْبَطَ‏}‏ ومفعول ‏{‏تَشْعُرُونَ‏}‏ محذوف بقرينة ما قبله أي والحال أنتم لا تشعرون أنها محبطة، وظاهر الآية مشعر بأن الذنوب مطلقاً قد تحبط الأعمال الصالحة؛ ومذهب أهل السنة أن المحبط منها الكفر لا غير، والأول مذهب المعتزلة ولذا قال الزمخشري‏:‏ قد دلت الآية على أمرين هائلين‏.‏ أحدهما أن فيما يرتكب من الآثام ما يحبط عمل المؤمن‏.‏ والثاني أن في أعماله ما لا يدري أنه محبطط ولعله عند الله تعالى محبط‏.‏

وأجاب عن ذلك ابن المنير عليه الرحمة بأن المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق، ومعلوم أن حكم النهي الحذر مام يتوقع في ذلك من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم، والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبي صلى الله عليه وسلم سواء وجد هذا المعنى أولاً حماية للذريعة وحسبما للمادة، ثم لما كان هذا المنهى عنه منقسماً إلى ما يبلغ مبلغ الكفر وهو المؤذى له عليه الصلاة والسلام وإلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقاً خوف أن يقع فيما هو محبط للعمل وهو البالغ حد الأذى اذ لا دليل ظاهراً يميزع، وإن كان فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان، وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَن تَحْبَطَ أعمالكم وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ وإلا فلو كان الأمر على ما يعتقده الزمخشري لم يكن لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ‏}‏ موقع إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت مؤذياً فيكون كفراً محبطاً قطعاً وبين أن يكون غير مؤذ فيكون كبيرة محبطة على رأيه قطعاً، فعلى كلا حاليه الإحباط به محقق إذن فلا موقع لادعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقاً، ثم قال عليه الرحمة‏:‏ وهذا التقدير يدور على مقدمتين كلتاهما صحيحة‏.‏

احداهما أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الأذى وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة حتى أن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الاجلال والأعظام‏.‏ ثانيتهما أن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم كفر وهذا ثابت قد نص عليه ائمتنا وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفراً ولا تقبل توبته فما أتاه أعظم عند الله تعالى وأكبر انتهى‏.‏

وحاصل الجواب أنه لا دليل في الآية على ما ذهب إليه الزمخشري لأنه قد يؤدي إلى الإحباط إذا كان على وجه الإيذاء أو الاستهانة فنهاهم عز وجل عنه وعلله بأنه قد يحبط وهم لا يشعرون، وقيل‏:‏ يمكن نظراً للمقام أن يمنزل إذا هم رسول الله صلى الله عليه وسلم برفع الصوت منزلة الكفر تغليظاً إجلالاً لمجسله صلوات الله تعالى عليه وسلامه ثم يرتب عليه ما يرتب على الكفر الحقيقي من الإحباط كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءامِناً وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ ومعنى ‏{‏وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ‏}‏ عليه وأنتم لا تسعرون أن ذلك بمنزلة الكفر المحبط وليس كسائر المعاصي، ولا يتم بدون الأول، وجاز كما في الكشف أن يكون المراد ما فيه استهانة ويكون من باب ‏{‏فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 86‏]‏ مما الغرض منه التعريض كيف وهو قول منقول عن الحسن كما حكاه في الكشاف، وقال أبو حيان‏:‏ إن كانت الآية بمن يفعل ذلك استخفافاً فذلك كفر يحيط معه العمل حقيقة، وإن كانت للمؤمن الذي يفعله غلبة وجرياً على عادته فإنما يحبط عمله البر في توقير النبي صلى الله عليه وسلم وغض الصوت عنده أن لو فعل ذلك كأنه قيل‏:‏ مخافة أن تحبط الأعمال التي هي معدة أن تعملوها فتؤجروا عليها، ولا يخفى ما في الشق الثاني من التلكف البارد، ثم إن من الجهر ما لم يتناوله النهي بالاتفاق وهو ما كان منهم في حرب أو مجادلة معاند أو ارهاب عدو أو ما أشبه ذلك ما لا يتخيل منه تأذ أو استهانة، ففي الحديث أنه عليه الصلاة والسلام قال للعباس بن عبد المطلب لما ولى المسلمون يوم حنين‏:‏ ناد أصحاب السمرة فنادى بأعلى صوته أين أصحاب السمرة، وكان رجلاً صيتا‏.‏

يروى أن غارة أتتهم يوماً فصاح العباس يا صباحاه فأسقط الحوامل لشدة صوته، وفيه يقول نابغة بني جعدة‏:‏

زجر أبي عروة السباع إذا *** أشفق أن يختلطن بالغنم

زعمت الرواة أنه كان يزجر السباع عن الغنم فيفتق مرارة السبع في جوفه، وذكروا أنه سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فكيف لا تفتق مرارة الغنم‏؟‏ فقال‏:‏ لأنها ألفت صوته، وروى البخاري‏.‏ ومسلم عن أنس لما نزلت هذه الآية جلس ثابت بن قيس في بيته وقال‏:‏ أنا من أهل النار واحتبس فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ فقال‏:‏ يا أبا عمرو ما شأن ثابت اشتكى‏؟‏ قال سعد‏:‏ إنه جاري وما علمت له بشكوى فأتاه سعد فقال‏:‏ أنزلت هذه الآية ولقد علمتم إني أرفعكم صوتاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا من أهل النار فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بل هو من أهل الجنة، وفي رواية أنه لما نزلت دخل بيته وأغلق عليه بابه وطفق يبكي فافتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما شأن ثابت‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ما ندري ما شأنه غير أنه أغلق باب بيته فهو يبكي فيه فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه فسأله ما شأنك‏؟‏ قال‏:‏ يا رسول الله أنزل الله عليك هذه الآية وأنا شديد الصوت فأخاف أن أكون قد حبط عملي فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لست منهم بل تعيش بخير وتموت بخير، والظاهر أن ذلك منه رضي الله تعالى عنه كان من غلبة الخوف عليه وإلا فلا حرمة قبل النهي، وهو أيضاً أجل من أن يكون ممن كان يقصد الاستهانة والإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم برفع الصوت وهم المنافقون الذين نزلت فيهم الآية على ما روي عن الحسن وإنما كان الرفع منه طبيعة لما أنه كان في أذنه صمم وعادة كثير ممن به ذلك رفع الصوت، والظاهر أنه بعد نزولها ترك هذه العادة، فقد أخرج الطبراني والحاكم وصححه أن عاصم بن عدي بن العجلان أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بحاله فأرسله إليه فلما جاء قال‏:‏ ما يبكيك يا ثابت‏؟‏ فقال‏:‏ أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في فقال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة‏؟‏ قال‏:‏ رضيت ولا أرفع صوتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

واستدل العلماء بالآية على المنع من رفع الصوت عند قبره الشريف صلى الله عليه وسلم، وعند قراءة حديثه عليه الصلاة والسلام لأن حرمته ميتاً كحرمته حياً‏.‏ وذكر أبو حيان كراهة الرفع أيضاً بحضرة العالم، وغير بعيد حرمته بقصد الإيذاء والاستهانة لمن يحرم إيذاؤه والاستهانة به مطلقاً لكن للحرمة مراتب متفاوتة كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله‏}‏ الخ ترغيب في الانتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب عن الإخلال به أي يحفظونها مراعاة للأدب أو خشية من مخالفة النهي ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهدب المشار إليه لما مر مراراً من تفخيم شأنه؛ وهو مبتدأ خبره ‏{‏الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى‏}‏ والجملة خبر إن، وأصل معنى الامتحان التجربة والاختبار، والمراد به هنا لاستحالة نسبته إليه تعالى التمرين بعلاقة اللزوم أي أنهم مرن الله تعالى قلوبهم للتقوى‏.‏ وفي «الكشف» الامتحان كناية تلويحية عن صبرهم على التقوى وثباتهم عليها وعلى احتمال مشاقها لأن الممتحن جرب وعود منه الفعل مرة بعد أخرى فهو دال على التمرن الموجب للاضطلاع، والإسناد إليه تعالى للدلالة على التمكين، ففيه على ما قيل مع الكناية تجوز في الإسناد والأصل امتحنوا قلوبهم للتقوى بتمكين الله تعالى لهم، وكأنه إنما اعتبر ذلك لأنه لا يجوز إرادة المعنى الموضوع له هنا فلا يصح كونه كناية عند من يشترط فيها إرادة الحقيقة، ومن اكتفى فيها بجواز الإرادة وإن امتنعت في محل الاستعمال لم يحتج إلى ذلك الاعتبار‏.‏ واختار الشهاب كون الامتحان مجازاً عن الصبر بعلاقة اللزوم، وحاصل المعنى عليه كحاصله على الكناية أي أنهم صبر على التقوى أقوياء على مشاقها أو المراد بالامتحان المعرفة كما حكي عن الجبائي مجازاً من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، والمعنى عرف الله قلوبهم للتقوى، وإسناد المعرفة إليه عز وجل بغير لفظها غير ممتنع وهو في القرآن الكريم شائع، على أن الصحيح جواز الإسناد مطلقاً لما في «نهج البلاغة» من إطلاق العارف عليه تعالى، وقد ورد في الحديث أيضاً على ما ادعاه بعض الأجلة، واللام صلة لمحذوف وقع حالاً من ‏{‏قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي كائنة للتقوى مختصة بها، فهو نحو اللام في قوله‏:‏

وقصيدة رائقة ضوعتها *** أنت لها أحمد من بين البشر

وقوله‏:‏

أعداء من لليعملات على الوجى *** وأضياف ليل بيتوا للنزول

أو هي صلة لامتحن باعتبار معنى الاعتياد أو المراد ضرب الله تعالى قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى أي لتظهر ويعلم أنهم متقون إذ لا تعلم حقيقة التقوى إلا عند المحن والاصطبار عليها، وعلى هذا فالامتحان هو الضرب بالمحن، واللام للتعليل على معنى أن ظهور التقوى وهو الغرض والعلة وإلا فالصبر على المحنة مستفاد من التقوى لا العكس، أو المراد أخلصها للتقوى أي جعلها خالصة لأجل التقوى أو أخلصها لها فلم يبق لغير التقوى فيها حق كأن القلوب خلصت ملكاً للتقوى، وهذا أبلغ وهو استعارة من امتحان الذهب وإذابته ليخلص ابريزه من خبثه وينقي أو تمثيل، وتفسير ‏{‏امتحن‏}‏ بأخلص رواه ابن جرير‏.‏

وجماعة عن مجاهد، وروي ذلك أيضاً عن الكعبي‏.‏ وأبي مسلم، وقال الواحدي‏:‏ تقدير الكلام امتحن الله قلوبهم فأخلصها للتقوى فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه وليس بذاك‏.‏ واختار صاحب الكشف ما نقل عنه أولاً فقال‏:‏ الأول أرجح الوجوه لكثرة فائدته من الكناية والإسناد والدلالة على أن مثل هذا الغض لا يتأتى إلا ممن هو مدرب للتقوى صبور عليها فتأمل ‏{‏لَهُمْ‏}‏ في الآخرة ‏{‏مَغْفِرَةٍ‏}‏ لذنوبهم ‏{‏وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ لغضهم أصواتهم عند النبي عليه الصلاة والسلام ولسائر طاعاتهم، وتنكير ‏{‏مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ‏}‏ للتعظيم، ففي وصف أجر بعظيم مبالغة في عظمه فإنه مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وجملة ‏{‏لَهُمْ‏}‏ الخ مستأنفة لبيان جزاء الغاضين إحماداً لحالهم كما أخبر عنهم بجملة مؤلفة من معرفتين، والمبتدأ اسم الإشارة المتضمن لما جعل عنواناً لهم، والخبر الموصول بصلة دلت على بلوغهم أقصى الكمال مبالغة في الاعتداد بغضهم والارتضاء له وتعريضاً بشناعة الرفع والجهر وإن حال المرتكب لهما على خلاف ذلك، وقيل الجملة خبر ثان لإن وليس بذاك، والآية قيل‏:‏ أنزلت في الشيخين رضي الله تعالى عنهما لما كان منهما من غض الصوت والبلوغ به أخا السرار بعد نزول الآية السابقة وفي حديث الحاكم‏.‏ وغيره عن محمد ثابت بن قيس أنه قال بعد حكاية قصة أبيه وقوله‏:‏ لا أرفع صوتي أبداً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أصواتهم عِندَ رَسُولِ الله‏}‏ الآية‏.‏

وأنت تعلم أن حكمها عام ويدخل الشيخان في عمومها وكذا ثابت بن قيس‏.‏ وقد أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ لما أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ منهم ثابت بن قيس بن شماس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات‏}‏ من خارجها خلفها أو قدامها على أن ‏{‏وَرَاء‏}‏ من المواراة والاستتار فما استتر عنك فهو وراء خلفاً كان أو قداماً إذا لم تره فإذا رأيته لا يكون وراءك، فالوارء بالنسبة إلى من في الحجرات ما كان خارجها لتواريه عمن فيها، وقال بعض أهل اللغة إن وراء من الأضداد فهو مشترك لفظي عليه ومشترك معنوي على الأول وهو الذي ذهب إليه الآمدي‏.‏ وجماعة‏.‏ و‏{‏الحجرات‏}‏ جمع حجرة على وزن فعلة بضم الفاء وسكون العين وهي القطعة من الأرض المحجورة أي الممنوعة عن الدخول فيها بحائط، وتسمى حظيرة الإبل وهي ما تجمع فيه وتكون محجورة بحطب ونحوه حجرة أيضاً فهي بمعنى اسم المفعول كالغرفة لما يغرف باليد من الماء، وفي جمعها هنا ثلاثة أوجه، ضم العين اتباعاً للفاء كقراءة الجمهور، وفتحها وبه قرأ أبو جعفر‏.‏ وشيبة، وتسكينها للتخفيف وبه قرأ ابن أبي عبلة‏.‏

وهذه الأوجه جائزة في جمع كل اسم جامد جاء على هذا الومن، والمراد حجرات نسائه عليه الصلاة والسلام وكانت تسعة لكل منهن حجرة، وكانت كما أخرج ابن سعد عن عطاء الخراساني من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود‏.‏ وأخرج البخاري في الأدب‏.‏ وابن أبي الدنيا‏.‏ والبيهقي عن داود بن قيس قال‏:‏ رأيت الحجرات من جريد النخل مغشى من خارج بمسوح الشعر، وأظن عرض البيت من باب الحجرة إلى باب البيت ست أو سبع أذرع، وأحرز البيت الداخل عشرة أذرع، وأظن السمك بين الثمان والسبع‏.‏

وأخرجوا عن الحسن أنه قال‏:‏ كنت أدخل بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة عثمان بن عفان فأتناول سقفها بيدي، وقد أدخلت في عهد الوليد بن عبد الملك بأمره في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام وبكى الناس لذلك، وقال سعيد بن المسيب يومئذٍ‏:‏ والله لوددت أنهم تركوها على حالها لينشو أناس من أهل المدينة ويقدم القادم من أهل الآفاق فيرى ما اكتفى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فيكون ذلك مما يزهد الناس في التكاثر والتفاخر فيها، وقال نحو ذلك أبو أمامة بن سهل بن حنيف، وفي ذكر ‏{‏الحجرات‏}‏ كناية عن خلوته عليه الصلاة والسلام بنسائه لأنها معدة لها، ولم يقل‏:‏ حجرات نسائك ولا حجراتك توقيراً له صلى الله عليه وسلم وتحاشياً عما يوحشه عليه الصلاة والسلام، ومناداتهم من ورائها إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها فيكون القصد إلى الاستغراق العرفي أي جميع حجرات نسائه صلى الله عليه وسلم أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له عليه الصلاة والسلام على أن الاستغراق إفرادي لا شمولي مجموعي ولا أنه من مقابلة الجمع بالجمع المقتضية لانقسام الآحاد على الآحاد لأن من ناداه صلى الله عليه وسلم من وراء حجرة منها فقد ناداه من وراء الجميع على ما قيل، وعلى هذا يكون إسناد النداء من إسناد فعل الإبعاض إلى الكل، وقيل‏:‏ إن الذي نادى رجل واحد كما هو ظاهر خبر أخرجه الترمذي وحسنه‏.‏

وجماعة عن البراء بن عازب، وما أخرجه أحمد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وأبو القاسم البغوي‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه بسند صحيح من طريق أبي سلمة بن عبد الرحمن عن الأقرع بن حابس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد أخرج إلينا فلم يجبه عليه الصلاة والسلام فقال‏:‏ يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين فقال‏:‏ ذاك الله فأنزل الله تعالى ‏{‏إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ‏}‏ الخ، وعليه يكون الإسناد إلى الكل لأنهم رضوا بذلك وأمروا به أو لأنه وجد فيما بينهم، وظاهر الآية أن المنادي جمع وكذا جمع من الأخبار، وسنذكر إن شاء الله تعالى بعضاً منها، وحمل ‏{‏الحجرات‏}‏ على الجمع الحقيقي هو الظاهر الذي عليه غير واحد من المفسرين، وجوز كون الحجرة واحدة وهي التي كان فيها الرسول عليه الصلاة والسلام وجمعت إجلالاً له صلى الله عليه وسلم على أسلوب حرمت النساء سواكم، وأيضاً لأن حجرته عليه الصلاة والسلام لأنها أم الحجرات وأشرفها بمنزلة الكل على نحو أحد الوجهين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن مَّنَعَ مساجد الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏‏.‏

وفرق الزمخشري بين ‏{‏مِن وَرَاء الحجرات‏}‏ بإثبات ‏{‏مِنْ‏}‏ وراء الحجرات بإسقاطها بأنه على الثاني يجوز أن يجمع المنادي والمنادي الوراء، وعلى الأول لا يجوز ذلك، وعلله بأن الوراء يصير بدخول من مبتدأ الغاية ولا يجتمع على الجهة الواحدة أن تكون مبتدأ ومنتهى لفعل واحد‏.‏ واعترضه في «البحر» بأنه قد صرح الأصحاب في معاني ‏{‏مِنْ‏}‏ أنها تكون لابتداء الغاية وانتهائها في فعل واحد وأن الشيء الواحد يكون محلاً لهما ونسبوا ذلك إلى سيبويه وقالوا‏:‏ إن منه قولهم‏:‏ أخذت الدرهم من زيد فزيد محل لابتداء الأخذ منه وانتهائه معاً قالوا‏:‏ فمن تكون في أكثر المواضع لابتداء الغاية فقط، وفي بعض المواضع لابتداء الغاية وانتهائها معاً‏.‏

وصاحب التقريب بقوله‏:‏ فيه نظر لأن المبدأ والمنتهى إما المنادى والمنادى على ما هو التحقيق أو الجهة، فإن كان الأول جاز أن يجمعها الوراء في إثبات ‏{‏مِنْ‏}‏ وفي إسقاطها لتغاير المبدأ والمنتهى، وإن كان الثاني فالجهة إما ذات أجزاء أو عديمتها، فإن كان الأول جاز أن يجمعهما في إثبات من أيضاً باعتبار أجزاء الجهة، وإن كان الثاني لم يجز أن يجمعهما لا في إثبات من ولا في إسقاطها لاتحاد المورد‏.‏

ورد الأول بأن محل الانتهاء هو المتكلم ليس إلا كما ذكره ابن هشام في «المغني»، وذكر أن ابن مالك قال‏:‏ إن ‏{‏مِنْ‏}‏ في المثال للمجاوزة، والثاني غير قادح في الفرق على ما ذكره صاحب الكشف قال‏:‏ الحاصل أن المبدأ الجهة باعتبار تلبسها بالفاعل لأن حرف الابتداء دخل على الجهة والفعل مما ليست المسافة داخلة في مفهومه فيعتبر الأمران تحقيقاً لمقتضى الفعل والحرف، ولما أوقع جميع الجهة مبدأ لم يجز أن يكون منتهى سواء كان منقسماً أو لا، ثم لما كان الوراء مبهماً لم يكن مثل سرت من البصرة إلى جامعها إذ لا يتعين بعضها مبدأ وبعضها منتهى، على أن ذلك أيضاً إذا أطلق يجب أن يحمل على أن المنتهى غير البصرة، أما إذا عينت فيجوز مع تجوز والأصل عدمه إلا بدليل، ثم هذا الجواز فيما كانت النهاية مكاناً أيضاً أما إذا اعتبرت باعتبار التلبس بالمفعول فلا، وإذا لم يذكر حرف الابتداء لم يؤد هذا المعنى‏.‏

فهذا فرق محقق ومنه يظهر أن المذكور في التقريب من النظر غير قادح، وما ذكر من أن التحقيق أن الفعل يبتدىء من الفاعل وينتهي إلى المفعول ويقع في الظرف وأن ‏{‏مِن وَرَاء الحجرات‏}‏ ووراءها كلاهما ظرف كصليت من خلف الإمام وخلفه ومن قبل اليوم وقبله ومعنى الابتداء غير محقق والفرق تعسف ظاهر في أن من زائدة لا فرق بين دخولها وخروجها وهو خلاف الظاهر وإلا لما اختلفوا في زيادتها في الإثبات لشيوع نحو هذا الكلام فيما بينهم، ومتى لم تكن زائدة فلا بد من الفرق بين الكلامين لا سيما إذا كانا من كلامه عز وجل فتدبر‏.‏ والتعبير عن النداء بصيغة المضارع مع تقدمه على النزول لاستحضار الصورة الماضية لغرابتها‏.‏

والموصول اسم إن، وجملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ خبرها وتكرار الإسناد للمبالغة، والمراد أنهم لا يجرون على مقتضى العقل من مراعاة الأدب لا سيما مع أجل خلق الله تعالى وأعظمهم عنده سبحانه صلى الله عليه وسلم وكثيراً ما ينزل وجود الشيء منزلة عدمه لمقتض، والحكم على الأكثر دون الكل بذلك لأن منهم من لم يقصد ترك الأدب بل نادى لأمر ما على ما قيل، وجوز أن يكون المراد بالقلة التي يدل عليها نفي الكثرة العدم فإنه يكنى بها عنه، وتعقبه أبو حيان بأن ذلك في صريح القلة لا في المفهوم من نفي الكثرة، وكان هؤلاء من بني تميم كما صرح به أكثر أهل السير‏.‏ أخرج ابن إسحاق‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ قدم وفد بني تميم وهم سبعون رجلاً أو ثمانون رجلاً منهم الزبرقان بن بدر‏.‏ وعطارد بن حاجب بن زرارة‏.‏ وقيس بن عاصم‏.‏ وقيس بن الحرث‏.‏ وعمرو بن الأهتم المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق معهم عيينة بن حصن بن بدر الفزاري وكان يكون في كل سوأة حتى أتوا منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادوه من وراء الحجرات بصوت جاف يا محمد أخرج إلينا ثلاثاً فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد إن مدحنا زين وإن شتمنا شين نحن أكرم العرب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كذبتم بل مدح الله تعالى الزين وشتمه الشين وأكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم فقالوا‏:‏ إنا أتيناك لنفاخرك فذكره بطوله وقال في آخره‏:‏ فقال التميميون والله إن هذا الرجل لمصنوع له لقد قام خطيبه فكان أخطب من خطيبنا وفاه شاعره فكان أشعر من شاعرنا وفيهم أنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحجرات‏}‏ من بني تميم ‏{‏أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ هذا في القراءة الأولى‏.‏

وذكر ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق الخبر بطوله وعد منهم الأقرع بن حابس وذكر أنه وعيينة شهدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وحنيناً والطائف؛ وأن عمرو بن الأهتم خلفه القوم في ظهرهم وأن خطيبهم عطارد بن حاجب وخطيبه صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس وشاعرهم الزبرقان بن بدر وشاعره عليه الصلاة والسلام حسان بن ثابت وذكر الخطبتين وما قيل من الشعر وأنه لما فرغ حسان قال الأقرع‏:‏ وأبى أن هذا الرجل لمؤتى له لخطيبه أخطب من خطيبنا ولشاعره أشعر من شاعرنا ولأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأنه لما فرغوا أسلموا وجوزهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحسن جوائزهم وأرسل لعمرو جائزته كالقوم، وتعقب ابن هشام الشعر بعض التعقب‏.‏ وفي «البحر» أيضاً ذكر الخبر بطوله مع مخالفة كلية لما ذكره ابن إسحاق، وفيه أن الأقرع قام بعد أن أنشد الزبرقان ما أنشد وأجابه حسان بما أجاب فقال‏:‏ إني والله لقد جئت لأمر وقد قلت شعراً فاسمعه فقال‏:‏

أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا *** إذا خالفونا عند ذكر المكارم

وأنا رؤوس الناس من كل معشر *** وأن ليس في أرض الحجاز كدارم

وأن لنا المرباع في كل غارة *** تكون بنجد أو بأرض التهائم

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لحسان‏:‏ قم فأجبه فقال‏:‏

بني دارم لا تفخروا إن فخركم *** يصير وبالاً عند ذكر المكارم

هبلتم علينا تفخرون وأنتم *** لنا خول من بين ظئر وخادم

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد كنت يا أخا دارم غنياً أن يذكر منك ما ظننت أن الناس قد نسوه فكان قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ أشد عليهم من جميع ما قال حسان ثم رجع حسان إلى شعره فقال‏:‏

فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم *** وأموالكم أن يقسموا في المقاسم

فلا تجعلوا لله نداً وأسلموا *** ولا تفخروا عند النبي بدارم

وإلا ورب البيت قد مالت القنا *** على هامكم بالمرهفات الصوارم

فقال الأقرع بن حابس‏:‏ والله ما أدري ما هذا الأمر تكلم خطيبنا فكان خطيبهم أحسن قولاً وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر وأحسن قولاً، ثم دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ ما يضرك ما كان قبل هذا انتهى، وهذا ظاهر في أن إسلام الأقرع يومئذٍ، ومعلوم أن سنة الوفود سنة تسع والطائف وحنين كانتا قبل ذلك، وتقدم عن ابن إسحاق أن الأقرع شهدهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوهم منه أنه كان مسلماً إذ ذاك فيتناقض مع هذا بل في أول كلام ابن إسحاق وآخره ما يوهم التناقض، والمذكور في «الصحاح» أنه وكذا عيينة كان إذ ذاك من المؤلفة قلوبهم‏.‏

وقد روى ابن إسحاق نفسه عن محمد بن إبراهيم أن قائلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه يوم قسمة ما أفاء الله تعالى عليه يوم حنين‏:‏ يا رسول الله أعطيت عيينة والأقرع مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري فقال‏:‏ أما والذي نفس محمد بيده لجعيل خير من طلاع الأرض كلهم مثل عيينة والأقرع ولكن تألفتهما ليسلما ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه، وجاء ما يدل على أنهم من بني تميم مرفوعاً‏.‏

أخرج ابن مردويه من طريق يعلى بن الأشدق عن سعد بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ‏}‏ الخ فقال‏:‏ هم الجفاة من بني تميم لولا أنهم من أشد الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله تعالى عليهم أن يهلكهم، وفي «الصحيحين» ما يشهد بأنهم من أشد الأمة على الدجال وجعله أبو هريرة أحد أسباب حبهم، وظاهر كثير من الأخبار أن سبب وفودهم المفاخرة، وقال الواقدي وهو حاطب ليل‏:‏ إن سببه هو أنهم كانوا قد جهروا السلاح على خزاعة فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عيينة بن بدر في خمسين ليس فيهم أنصاري ولا مهاجري فأسر منهم أحد عشر رجلاً وإحدى عشرة امرأة وثلاثين صبياً فقدم رؤساؤهم بسبب أسرائهم ويقال‏:‏ قدم منهم سبعون أو ثمانون رجلاً في ذلك منهم عطارد‏.‏ والزبرقان‏.‏ وقيس بن عاصم‏.‏ وقيس بن الحرث‏.‏ ونعيم بن سعد‏.‏ والأقرع بن حابس‏.‏ ورياح بن الحرث‏.‏ وعمرو بن الأهتم فدخلوا المسجد وقد أذن بلال الظهر والناس ينتظرون رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج إليهم فعجل هؤلاء فنادوه من وراء الحجرات فنزل فيهم ما نزل، ثم ذكر أنه صلى الله عليه وسلم أجازهم كل رجل اثنيت عشرة أوقية وكساء ولعمرو بن الأهتم خمس أواق لحداثة سنه انتهى، ولعل زيادة جائزته لما نيل منه أيضاً فقد ذكر ابن إسحاق أن عاصم بن قيس كان يبغض عمراً فقال‏:‏ يا رسول الله إنه قد كان رجل منا في رحالنا وهو غلام حدث وازرى به فقال لما بلغه ذلك يخاطب قيساً‏:‏

ظللت مفترش الهلباء تشتمني *** عند الرسول فلم تصدق ولم تصب

سدناكم سؤدداً رهواً وسؤددكم *** باد نواجذه مقع على الذنب

وروي عن عكرمة عن ابن عباس أنهم ناس من بني العنبر أصاب النبي صلى الله عليه وسلم من ذراريهم فأقبلوا في فدائهم فقدموا المدينة ودخلوا المسجد وعجلوا أن يخرج إليهم النبي عليه الصلاة والسلام فجعلوا يقولون‏:‏ يا محمد اخرج إلينا، وذكر الخفاجي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى قوم من العرب هم بنو العنبر سرية أميرها عيينة بن حصن فهربوا وتركوا النساء والذراري فسباهم وقدم بهم عليه عليه الصلاة والسلام فجاء رجالهم راجين إطلاق الأسارى فنادوا من وراء الحجرات فخرج صلى الله عليه وسلم فأطلق النصف وفادى الباقي، وظاهر كلامه أنهم ليسوا من بني تميم وإن كانت هذه السرية متحدة مع السرية التي أشار إليها الواقدي فيما تقدم، ويقال‏:‏ إن عيينة في الكلامين هو عيينة بن حصن بن بدر إلا أنه نسب هناك إلى جده وهنا إلى أبيه كان ذلك الكلام ظاهراً في أن القوم كانوا من بني تميم لا أناساً آخرين، وفي «القاموس» العنبر أبو حي من تميم فبنو العنبر عليه منهم فلم يخرج الأمر عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ أي ولو ثبت صبرهم وانتظارهم حتى تخرج لكان الصبر خيراً لهم من الاستعجال لما فيه من حفظ الأدب وتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم الموجبين للثناء والثواب أو لذلك والإسعاف بالمسؤول على أوفق وجه وأوقعه عندهم بناءً على حديث الأسارى بأن يطلق عليه الصلاة والسلام الجميع من غير فداء، فإن المفتوحة المؤولة بالمصدر هنا فاعل فعل مقدر وهو ثبت كما اختاره المبرد والقرينة عليه معنى الكلام، فإن أن تدل على الثبوت وهو إنما يكون في الماضي حقيقة ولذا يقدر الفعل ماضياً‏.‏

وضمير ‏{‏كَانَ‏}‏ للمصدر الدال عليه ‏{‏صَبَرُواْ‏}‏ كما في قولك‏:‏ من كذب كان شراً له أي الكذب ومذهب سيبويه أن المصدر في موضع المبتدأ فقيل‏:‏ خبره مقدر أي لو صبرهم ثابت وقيل‏:‏ لا خبر له؛ وأنت تعلم أن في تقدير الفعل إبقاء ‏{‏لَوْ‏}‏ على ظاهرها من دخولها على الفعل فإنها في الأصل شرطية مختصة به، وجوز كون ضمير ‏{‏كَانَ‏}‏ لمصدر الفعل المقدر أي لكان ثبوت صبرهم، وصنيع الزمخشري يقتضي أولويته‏.‏

وأوثرت ‏{‏حتى‏}‏ هنا على إلى لأنها موضوعة لما هو غاية في نفس الأمر ويقال له الغاية المضروبة أي المعينة وإلى لما هو غاية في نفس الأمر أو بجعل الجاعل، وإليه يرجع قول المغاربة وغيرهم‏:‏ إن مجرور حتى دون مجرور إلى لا بد من كونه آخر جزء نحو أكلت السمكة حتى رأسها أو ملاقياً له نحو ‏{‏سلام هِىَ حتى مَطْلَعِ الفجر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 5‏]‏ ولا يجوز سهرت البارحة حتى ثلثيها أو نصفها فيفيد الكلام معها أن انتظارهم إلى أن يخرج صلى الله عليه وسلم أمر لازم ليس لهم أن يقطعوا أمراً دون الانتهاء إليه، فإن الخروج لما جعله الله تعالى غاية كان كذلك في الواقع، وإلى هذا ذهب الزمخشري، وتوهم ابن مالك أنه لم يقل به أحد غيره، واعترض عليه بقوله‏:‏

عينت ليلة فما زلت حتى *** نصفها راجياً فعدت يؤسا

وأجيب بأنه على تسليم أنه من كلام من يعتد به مع أنه نادر شاذ لا يرد مثله نقضاً مدفوع بأن معنى عينت ليلة عينت وقتاً للزيارة وزيارة الأحباب يتعارف فيها أن تقع في أول الليل فقوله‏:‏ حتى نصفها بيان لغاية الوقت المتعارف للزيارة الذي هو أول الليل والنصف ملاق له، وهو أولى من قول ابن هشام في «المغني»‏:‏ إن هذا ليس محل الاشتراط إذ لم يقل‏:‏ فما زلت في تلك الليلة حتى نصفها وإن كان المعنى عليه، وحاصله أن الاشتراط مخصوص فيما إذا صرح بذي الغاية إذ لا دليل على هذا التخصيص، وخفاء عدم الاكتفاء بتقديم ليلة في صدر البيت‏.‏

نعم ما ذكر من أصله لا يخلو عن كلام كما يشير إليه كلام صاحب الكشف، ولذا قال اوظهر‏:‏ إنه أوثر حتى تخرج اختصاراً لوجوب حذف أن ووجوب الإظهار في إلى مع أن حتى أظهر دلالة على الغاية المناسبة للحكم وتخالف ما بعدها وما قبلها ولهذا جاءت للتعليل دون إلى، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِمُ‏}‏ إشعار بأنه عليه الصلاة والسلام لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصروا حتى يفاتحهم بالكلام أو يتوجه إليهم فليس زائداً بل قيد لا بد منه ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ بليغ المغفرة والرحمة فلذا اقتصر سبحانه على النصح والتقريع لهؤلاء المسيئين الأدب التاركين تعظيم رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد كان مقتضى ذلك أن يعذبهم أو يهلكهم أو فلم تضق ساحة مغفرته ورحمته عز وجل عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا، ويشير إلى هذا قوله صلى الله عليه وسلم للأقرع بعد أن دنا منه عليه الصلاة والسلام وقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله‏:‏ «ما يضرك ما كان قبل هذا»، وفي الآيات من الدلالة على قبح سوء الأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى، ومن هذا وأمثاله تقتطف ثمر الألباب وتقتبس محاسن الآداب كما يحكى عن أبي عبيد وهو في الفضل هو أنه قال‏:‏ ما دققت باباً على عالم حتى يخرج في وقت خروجه، ونقله بعضهم عن القاسم بن سلام الكوفي، ورأيت في بعض الكتب أن الحبر ابن عباس كان يذهب إلى أبي في بيته لأخذ القررن العظيم عنه فيقف عند الباب ولا يدق الباب عليه حتى يخرج فاستعظم ذلك أبي منه فقال له يوماً‏:‏ هلا دققت الباب يا ابن عباس‏؟‏ فقال‏:‏ العالم في قومه كالنبي في أمته وقد قال الله تعالى في حق نبيه عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ وقد رأيت هذه القصة صغيراً فعملت بموجبها مع مشايخي والحمد لله تعالى على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏رَّحِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ أخرج أحمد‏.‏ وابن أبي الدنيا‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن منده‏.‏ وابن مردويه بسند جيد عن الحرث بن أبي ضرار الخزاعي قال‏:‏ قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه وأقررت به ودعاني إلى الزكاة فمن استجاب لي جمعت زكاته وترسل إلى يا رسول الله رسولاً لإبان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة فلما جمع الحرث الزكاة ممن استجاب له وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحرث أن قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فدعا سروات قومه فقال لهم‏:‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقت لي وقتاً يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندنا من الزكاة وليس من رسول الله عليه الصلاة والسلام الخلف ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط وهو أخو عثمان رضي الله تعالى عنه لأمه إلى الحري ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما إن سار الوليد إلى أن بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن الحرث منعني الزكاة وأراد قتلي فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحرث فأقبل الحرث بأصحابه حتى إذا استقبله الحرث وقد فصل عن المدينة قالوا‏:‏ هذا الحرث فلما غشيهم قال لهم‏:‏ إلى من بعثتم‏؟‏ قالوا‏:‏ إليك قال‏:‏ ولم‏؟‏ قالوا‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله قال‏:‏ لا والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني فلما دخل الحرث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ منعت الزكاة وأردت قتل رسولي‏؟‏ قال‏:‏ لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا رآني ولا أقبلت إلا حين احتبس على رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشية أن يكون سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فنزل‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 6 8‏]‏ وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا نبي الله إن بني فلان حياً من أحياء العرب وكان في نفسه عليهم شيء وكار حديث عهد بالإسلام قد تركوا الصلاة وارتدوا وكفروا بالله تعالى فلم يعجل رسول الله عليه الصلاة والسلام ودعا خالد بن الوليد فبعثه إليهم ثم قال‏:‏ ارمقهم عند الصلوات فإن كان القوم قد تركوا الصلاة فشأنك بهم وإلا فلا تعجل عليهم فدنا منهم عند غروب الشمس فكمن حتى يسمع الصلاة فرمقهم فإذا هو بالمؤذن قد قام عند غروب الشمس فأذن ثم أقام الصلاة فصلوا صلاة المغرب فقال خالد‏:‏ ما أراهم إلا يصلون فلعلهم تركوا صلاة غير هذه ثم كمن حتى إذا جنح الليل وغاب الشفق أذن مؤذنهم فصلوا فقال‏:‏ لعلهم تركوا صلاة أخرى فكمن حتى إذا كان في جوف الليل تقدم حتى أطل الخيل بدورهم فإذا القوم تعلموا شيئاً من القرآن فهم يتهجدون به من الليل ويقرؤنه ثم أتاهم عند الصبح فإذا المؤذن حين طلع الفجر قد أذن وأقام فقاموا وصلوا فلما انصرفوا وأضاء لهم النهار إذا هم بنواصي الخيل في ديارهم فقالوا‏:‏ ما هذا‏؟‏ قالوا‏:‏ خالد بن الوليد قالوا‏:‏ يا خالد ما شأنك‏؟‏ قال‏:‏ أنتم والله شأني أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له‏:‏ إنكم تركتم الصلاة وكفرتم بالله تعالى فجثوا يبكون فقالوا‏:‏ نعوذ بالله تعالى أن نكفر أبداً فصرف الخيل وردها عنهم حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله تعالى ‏{‏يا ايها الذين آمنوا‏}‏ الآية قال الحسن‏:‏ فوالله لئن كانت نزلت في هؤلاء القوم خاصة إنها المرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء، والرواية السابقة أصح وأشهر، وكلام صاحب الكشف مصرح بأن بعث خالد بن الوليد كان في قضية الوليد بن عقبة، وأن النبي عليه الصلاة والسلام بعثه إلى أولئك الحي من خزاعة بعد رجوع الوليد وقوله ما قال، والقائل بذلك قال‏:‏ إنهم سلموا إليه الصدقات فرجع، والخطاب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ شامل للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من أمته الكاملين منهم محاسن آداب وغيرهم، وتخصيص الخطاب بحسب ما يقع من الأمر بعد إذ يليق بحال بعضهم لا يخرجه عن العموم لوجوده فيما بينهم فلا تغفل، والفاسق الخارج عن حجر الشرع من قولهم‏:‏ فسق الرطب إذا خرج عن قشره، قال الراغب‏:‏ والفسق أعم من الكفر ويقع بالقليل من الذنوب وبالكثير لكن تعورف فيما كانت كثيرة، وأكثر ما يقال الفاسق لمن التزم حكم الشرع وأقربه ثم أخل بجميع أحكامه أو ببعضها، وإذا قيل للكافر الأصلي فاسق فلأنه أخل بحكم ما ألزمه العقل واقتضته الفطرة‏.‏

ووصف الإنسان به على ما قال ابن الأعرابي لم يسمع في كلام العرب، والظاهر أن المراد به هنا المسلم المخل بشيء من أحكام الشرع أو المروءة بناءً على مقابلته بالعدل وقد اعتبر في العدالة عدم الإخلال بالمروءة، والمشهور الاقتصار في تعريفه على الإخلال بشيء من أحكام الشرع فلا تغفل، والتبين طلب البيان والتعرف؛ وقريب منه التثبت كما في قراءة ابن مسعود‏.‏

وحمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏فتثبتوا‏}‏ وهو طلب الثبات والتأني حتى يتضح الحال‏.‏

وقد أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير عن قتادة‏:‏ ‏"‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم نزلت الآية‏:‏ التثبت من الله تعالى والعجلة من الشيطان ‏"‏ وتنكير ‏{‏فَاسِقُ‏}‏ للتعميم لأنه نكرة في سياق الشرط وهي كالنكرة في سياق النفي تفيد العموم كما قرر في الأصول وكذا نبأ، وهو كما في «القاموس» الخبر، وقال الراغب‏:‏ لا يقال للخبر في الأصل نبأ حتى يكون ذا فائدة عظيمة يحصل به علم أو غلبة ظن، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ تنبيه على أنه إذا كان الخبر شيئاً عظيماً وماله قدر فحقه أن يتوقف فيه وإن علم أو غلب صحته على الظن حتى يعاد النظر فيه ويتبين فضل تبين، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه بالمنزلة التي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب وما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلا في الندرة قيل‏:‏ ‏{‏أَن جَاءكُمْ‏}‏ بحرف الشك، وفي النداء ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ دلالة على أن الإيمان إذا اقتضى التثبت في نبأ الفاسق فأولى أن يقتضي عدم الفسق، وفي إخراج الفاسق عن الخطاب ما يدل على تشديد الأمر عليه من باب «لا يزني الزاني وهو مؤمن» والمؤمن لا يكذب، واستدل بالآية على أن الفاسق أهل للشهادة وإلا لم يكن للأمر بالتبين فائدة، ألا ترى أن العبد إذا شهد ترد شهادته ولا يتثبت فيها خلافاً للشافعي، وعلى جواز قبول خبر العدل الواحد، وقرره الأصوليون بوجهين‏.‏ أحدهما‏:‏ أنه لو لم يقبل خيره لما كان عدم قبوله معللاً بالفسق، وذلك لأن خبر الواحد على هذا التقدير يقتضي عدم القبول لذاته وهو كونه خبر واحد فيمتنع تعليل عدم قبوله بغيره لأن الحكم المعلل بالذات لا يكون معللاً بالغير إذ لو كان معللاً به اقتضى حصوله به مع أنه حاصل قبله لكونه معللاً بالذات وهو باطل لأنه تحصيل للحاصل أو يلزم توارد علتين على معلول واحد في خبر الفاسق، وامتناع تعليله بالفسق باطل للآية فإن ترتب الحكم على الوصف المناسب يغلب على الظن أنه علة له والظن كاف هنا لأن المقصود هو العمل فثبت أن خبر الواحد ليس مردوداً وإذا ثبت ذلك ثبت أنه مقبول يعمل به‏.‏ ثانيهما‏:‏ أن الأمر بالتبين مشروط بمجىء الفاسق ومفهوم الشرط معتبر على الصحيح فيجب العمل به إذا لم يكن فاسقاً لأن الظن يعمل به هنا، والقول بالواسطة منتف؛ والقول بأنه يجوز اشتراك أمور في لازم واحد فيعلق بكل منهما بكلمة إن مع أنه لا يلزم من انتفاء ذلك الملزوم انتفاء اللازم غير متوجه لأن الشرط مجموع تلك الأمور وكل واحد منها لا يعد شرطاً على ما قرر في الأصول‏.‏

نعم قال ابن الحاجب‏.‏ وعضد الدين‏:‏ قد استدل من قبلنا على وجوب العمل بخبر الواحد بظواهر لا تفيد إلا الظن ولا يكفي في المسائل العلمية وذكراً من ذلك الآية المذكورة، ثم إن للقائلين بوجوب العمل به اختلافاً كثيراً مذكوراً في محله‏.‏

واستدل الحنفية بها على قبول خبر المجهول الذي لا تعلم عدالته وعدم وجوب التثبت لأنها دلت على أن الفسق شرط وجوب التثبت فإذا انتفى الفسق انتفى وجوبه وههنا قد انتفى الفسق ظاهراً ونحن نحكم به فلا يجب التثبت‏.‏

وتعقب بأنا لا نسلم أنه ههنا انتفى الفسق بل انتفى العلم به ولا يلزم من عدم العلم بالشيء عدمه والمطلوب العلم بانتفائه ولا يحصل إلا بالخبرة به أو بتزكية خبير به له، قال العضد‏:‏ إن هذا مبني على أن الأصل الفسق أو العدالة والظاهر أنه الفسق لأن العدالة طارئة ولأنه أكثر‏.‏ واستدل بها على أن من الصحابة رضي الله تعالى عنهم من ليس بعدل لأن الله تعالى أطلق الفاسق على الوليد بن عقبة فيها، فإن سبب النزول قطعي الدخول وهو صحابي بالاتفاق فيرد بها على من قال‏:‏ إنهم كلهم عدول ولا يبحث عن عدالتهم في رواية ولا شهادة، وهذا أحد أقوال في المسألة وقد ذهب إليه الأكثر من العلماء السلف والخلف‏.‏ وثانيهما‏:‏ أنهم كغيرهم فيبحث عن العدالة فيهم في الرواية والشهادة إلا من يكون ظاهرها أو مقطوعها كالشيخين‏.‏ وثالثها‏:‏ أنهم عدول إلى قتل عثمان رضي الله تعالى عنه ويبحث عن عدالتهم من حين قتله لوقوع الفتن من حينئذٍ وفيهم الممسك عن خوضها‏.‏ ورابعها‏:‏ أنهم عدول إلا من قاتل علياً كرم الله تعالى وجهه لفسقه بالخروج على الإمام الحق وإلى هذا ذهبت المعتزلة‏.‏

والحق ما ذهب إليه الأكثرون وهم يقولون‏:‏ إن من طرأ له منهم قادح ككذب أو سرقة أو زنا عمل بمقتضاه في حقه إلا أنه لا يصر على ما يخل بالعدالة بناءً على ما جاء في مدحهم من الآيات والأخبار وتواتر من محاسن الآثار، فلا يسوغ لنا الحكم على من ارتكب منهم مفسقاً بأنه مات على الفسق، ولا ننكر أن منهم من ارتكب في حياته مفسقاً لعدم القول بعصمتهم وأنه كان يقال له قبل توبته فاسق لكن لا يقال باستمرار هذا الوصف فيه ثقة ببركة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ومزيد ثناء الله عز وجل عليهم كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ أي عدولاً وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ إلى غير ذلك، وحينئذٍ أن أريد بقوله‏:‏ إن من الصحابة من ليس بعدل إن منهم من ارتكب في وقت ما ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه مسلمة لكن ذلك ليس محل النزاع، وإن أريد به أن منهم من استمر على ما ينافي العدالة فدلالة الآية عليه غير مسلمة كما لا يخفى فتدبر فالمسألة بعد تتحمل الكلام وربما تقبل زيادة قول خامس فيها‏.‏

هذا ثم اعلم أن الفاسق قسمان فاسق غير متأول وهو ظاهر ولا خلاف في أنه لا يقبل خبره وفاسق متأول كالجبري والقدري ويقال له المبتدع بدعة واضحة، فمن الأصوليين من رد شهادته وروايته للآية ومنهم الشافعي‏.‏ والقاضي، ومنهم من قبلهما، أما الشهادة فلأن ردها لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل عليه بل هو إمارة الصدق لأن موقعه فيه تعمقه في الدين، والكذب حرام في كل الأديان لا سيما عند من يقول بكفر الكاذب أو خروجه من الإيمان وذلك يصده عنه إلا من يدين بتصديق المدعي المتحلي بحليته كالخطابية، وكذا من اعتقد بحجية الإلهام، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ نحن نحكم بالظاهر ‏"‏ وأما الرواية فلأن من احترز عن الكذب على غير الرسول صلى الله عليه وسلم فاحترازه من الكذب عليه صلى الله عليه وسلم أولى إلا من يعتقد حل وضع الأحاديث ترغيباً أو ترهيباً كالكرامية أو ترويجاً لمذهبه كابن الراوندي، وأصحابنا الحنفية قبلوا شهادتهم لما مر دون روايتهم إذا دعوا الناس إلى هواهم، وعلى هذا جمهور أئمة الفقه والحديث لأن الدعوة إلى ذلك داعية إلى النقول فلا يؤتمنون على الرواية ولا كذلك الشهادة‏.‏ ورجح ما ذهب إليه الشافعي والقاضي بأن الآية تقتضيه والعمل بها أولى من العمل بالحديث لتواترها وخصوصها، والعام يحتمل التخصيص ولأنها لم تخصص إذ كل فاسق مردود، والحديث خص منه خبر الكافر‏.‏ وأجيب بأن مفهومها أن الفسق هو المقتضي للتثبت فيراد به ما هو إمارة الكذب لا ما هو إمارة الصدق فافهم، وليس من الفسق نحو اللعب بالشطرنج من مجتهد يحله أو مقلد له صوبنا أو خطأنا لوجوب العمل بموجب الظن ولا تفسيق بالواجب‏.‏

وحد الشافعي عليه الرحمة شارب النبيذ ليس لأنه فاسق بل لزجره لظهور التحريم عنده، ولذا قال‏:‏ أحده وأقبل شهادته، وكذا الحد في شهادة الزنا لعدم تمام النصاب لا يدل على الفسق بخلافه في مقام القذف فليحفظ‏.‏

‏{‏أَنْ تُصيبُواْ‏}‏ تعليل للأمر بالتبين أي فتبينوا كراهة أن تصيبوا أو لئلا تصيبوا ‏{‏بَعْدَهَا قَوْماً‏}‏ أي قوم كانوا ‏{‏بجهالة‏}‏ ملتبسين بجهالة لحالهم، ومآله جاهلين حالهم، ‏{‏فَتُصْبِحُواْ‏}‏ فتصيروا بعد ظهور براءتهم عما رموا به ‏{‏على مَا فَعَلْتُمْ‏}‏ في حقهم ‏{‏نادمين‏}‏ مغتمين غماً لازماً متمنين أنه لم يقع، فإن الندم الغم على وقوع شيء مع تمني عدم وقوعه، ويشعر باللزوم وكذا سائر تصاريف حروفه وتقاليبها كمدن بمعنى لزم الإقامة ومنه المدينة وأدمن الشيء أدام فعله، وزعم بعضهم أن في الآية إشارة إلى أنه يجب على الإنسان تجديد الندم كلما ذكر الذنب ونسب إلى الزمخشري وليس بشيء، وفي «الكشف» التحقيق أن الندم غم خاص ولزومه قد يقع لقوته في أول الأمر وقد يكون لعدم غيبة موجبه عن الخاطر، وقد يكون لكثرة تذكره ولغير ذلك من الأسباب، وأن تجديد الندم لا يجب في التوبة لكن التائب الصادق لا بد له من ذلك‏.‏