فصل: تفسير الآية رقم (16)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَتُعَلّمُونَ الله بِدِينِكُمْ‏}‏ أي اتخبرونه سبحانه وتعالى بذلك بقولكم ‏{‏آمنا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏ فتعلمون من علمت به فلذا تعدى بالتضعيف لواحد بنفسه وإلى الثاني بحرف الجر، وقيل‏:‏ إنه تعدى به لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور فيفيد مبالغة من حيث إنه جار مجرى المحسوس وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ حال من مفعول ‏{‏تَعْلَمُونَ‏}‏ وفيه من تجهيلهم ما لا يخفى، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء عَلِيمٌ‏}‏ تذييل مقرر لما قبله أي مبالغ في العلم بجميع الأشياء التي من جملتها ما أخفوه من الكفر عند إظهارهم الإيمان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ‏}‏ أي يعتدون إسلامهم منة عليك وهي النعمة التي لا يطلب موليها ثواباً ممن أنعم بها عليه من المن بمعنى القطع لأن المقصود بها قطع حاجته، وقال الراغب‏:‏ هي النعمة الثقيلة من المن الذي يوزن به وثقلها عظمها أو المشقة في تحملها، ‏{‏وَأَنْ أَسْلَمُواْ‏}‏ في موضع المفعول ليمنون لتضمينه معنى الاعتداد أو هو بتقدير حرف الجر فيكون المصدر منصوباً بنزع الخافض أو مجروراً بالحرف المقدر أي يمنون عليك بإسلامهم، ويقال نحو ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَىَّ إسلامكم‏}‏ فهو إما على معنى لا تعتدوا إسلامكم منة علي أو لا تمنوا علي بإسلامكم، وجوز أبو حيان أن يكون ‏{‏أَنْ أَسْلَمُواْ‏}‏ مفعولاً من أجله أي يتفضلون عليك لأجل إسلامهم ‏{‏بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ يُنَادِى للإيمان‏}‏ أي ما زعمتم في قولكم ‏{‏آمنا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏ فلا ينافى هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏ أو الهداية مطلق الدلالة فلا يلزم إيمانهم وينافي نفي الإيمان السابق‏.‏

وقرأ عبد الله‏.‏ وزيد بن علي ‏{‏إِذْ هَداكُمْ‏}‏ بإذ التعليلية، وقرىء ‏{‏أَنْ هَداكُمْ‏}‏ بإن الشرطية ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أي في ادعاء الإيمان فهو متعلق الصدق لا الهداية فلا تغفل؛ وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أي فلله المنة عليكم، ولا يخفى ما في سياق الآية من اللطف والرشاقة، وذلك أن الكائن من أولئك الأعراب قد سماه الله تعالى إسلاماً إظهاراً لكذبهم في قولهم‏:‏ آمنا أي أحدثنا الإيمان في معرض الامتنان ونفى سبحانه أن يكون كما زعموا إيماناً فلما منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان منهم قال سبحانه لرسوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ يعتدون عليك بما ليس جديراً بالاعتداد به من حديثهم الذي حق تسميته أن يقال له إسلام فقل لهم‏:‏ لا تعتدوا على إسلامكم أي حديثكم المسمى إسلاماً عندي لا إيماناً، ثم قال تعالى‏:‏ بل الله يعتد عليكم أن أمدكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إسلامكم‏}‏ بالإضافة ما يدل على أن ذلك غير معتد به وأنه شيء يليق بأمثالهم فأنى يخلق بالمنة، وللتنبيه على أن المراد بالإيمان الإيمان المعتد به لم يضفه عز وجل، ونبه سبحانه بقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ على أن ذلك كذب منهم، واللطف في تقديم التكذيب ثم الجواب عن المن مع رعاية النكت في كل من ذلك، وتمام الحسن في التذييل بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض‏}‏ أي ما غاب فيهما ‏{‏والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي في سركم وعلانيتكم فكيف يخفى عليه سبحانه ما في ضمائركم، وذلك ليدل على كذبهم وعلى اطلاعه عز وجل خواص عباده من نوأتباعه رضي الله تعالى عنهم‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبان، عن عاصم ‏{‏يَعْمَلُونَ‏}‏ بياء الغيبة والله تعالى أعلم‏.‏

ومن باب الإشارة في بعض الآيات‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُقَدّمُواْ بَيْنَ يَدَىِ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 1‏]‏ الخ إشارة إلى لزوم العمل بالشرع ورعاية الأدب وترك مقتضيات الطبع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَّحِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ‏}‏ يشير إلى أنه إن سولت النفس الأمارة بالسوء وجاءت بنبأ شهوة من شهوات الدنيا ينبغي التثبت للوقوف على ربحها وخسرانها ‏{‏ءانٍ بَعْدَهَا قَوْماً‏}‏ من القلوب وصفاتها ‏{‏بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ‏}‏ صباح يوم القيامة ‏{‏على مَا فَعَلْتُمْ نادمين‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 6‏]‏ فإن ما فيه شفاء النفوس وحياتها فيه مرض القلوب ومماتها ‏{‏واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 7‏]‏ الخ يشير إلى رسول الإلهام الرباني في الأنفس بلهم فجورها وتقواها، ويشير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الاخرى فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِىء إلى أَمْرِ الله‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏ إلى أن النفس إذا ظلمت القلب باستيلاء شهواتها يجب أن تقاتل حتى تثخن بالجراحة بسيوف المجاهدة فإن استجابت بالطاعة عفى عنها لأنها هي المطية إلى باب الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 10‏]‏ إشارة إلى رعاية حق الأخوة الدينية ومنشأ نطفها صلب النبوة وحقيقتها نور الله تعالى فإصلاح ذات بينهم برفع حجب استار البشرية عن وجوه القلوب ليتصل النور بالنور من روزنة القلب فيصيروا كنفس واحدة ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مّنْهُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 11‏]‏ يشير إلى ترك الإعجاب بالنفس والنظر إلى أحد بعين الاحتقار فإن الظاهر لا يعبأ به والباطن لا يطلع عليه فرب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله تعالى لأبره ‏{‏قَالَتِ الاعراب ءامَنَّا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏ إلى آخره فيه إشارة إلى أنه ينبغي ترك رؤية الأعمال والعلم بأن المنة في الهداية لله الملك المتعال، وفيه إرشاد إلى كيفية مخاطبة الجاهلين والرد على المحجوبين كما سلفت الإشارة إليه، هذا ونسأل الله تعالى التوفيق لما يرضاه يوم العرض عليه‏.‏

‏[‏سورة ق‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏ق وَالْقُرْآَنِ الْمَجِيدِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏ق والقرءان المجيد‏}‏ ذي المجد والشرف من باب النسب كلابن وتامر وإلا فالمعروف وصف الذات الشريفة به، وصنيع بعضهم ظاهر في اختيار هذا الوجه، وأورد عليه أن ذلك غير معروف في فعيل كما قاله ابن هشام في ‏{‏إن رحمت الله قريب‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏ وأنت تعلم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وشرفه على هذا بالنسبة لسائر الكتب، أما غير الإلهية فظاهر، وأما الإلهية فلا عجازه وكونه غير منسوخ بغيره واشتماله مع إيجازع على أسرار يضيق عنها كل واحد منها، وقال الراغب‏:‏ المجد السعة في الكرم وأصله مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع، ووصف القرآن به لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية، ويجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام المجيد فهو وصف بصفة قائله‏.‏ فالإسناد مجازي كما في القرآن الحكيم أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله تعالى وعند الناس، فالكلام بتقدير مضاف حذف فارتفع الضمير المضاف إليه، أو فعيل فيه بمعنى مفعل كبديع بمعنى مبدع لكن في مجىء فعيل وصفا من الإفعال كلام، وأكثر أهل اللغة والعربية لم يثبته، وأكثر ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ص والقرءان ذِى الذكر‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 1‏]‏ يجري ههنا حتى أنه قيل‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏ق‏}‏ أمراً من مفاعلة قفا أثره أي تبعه، والمعنى اتبع القرآن واعلم بما فيه، ولم يسمع مأثوراً، ومثله ما قيل‏:‏ إنه أمر بمعنى قف أي قف عندما شرع لك ولا تجاوزه‏.‏

وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال‏:‏ خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحراً محيطاً بها ومن وراء ذلك جبلاً يقال له قاف السماء الدنيا مترفرفة عليه ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضاً مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحراً محيطاً بها ثم خلق وراء ذلك جبلاً يقال له قاف السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل ثم قال‏:‏ وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والبحر يمده سبعة أبحر‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 27‏]‏ وأخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات» وأبو الشيخ عنه أيضاً أنه قال‏:‏ خلق الله تعالى جبلاً يقال له قاف محيطاً بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية‏.‏ وأخرج ابن المنذر‏.‏ وأبو الشيخ في العظمة»‏.‏ والحاكم‏.‏ وابن مردويه عن عبد الله بن بريدة أنه قال في الآية‏:‏ قاف جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء‏.‏ وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه أيضاً قال‏:‏ هو جبل محيط بالأرض، وذهب القرافي إلى أن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما برهن ثم قال‏:‏ ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه‏.‏

وتعقبه ابن حجر الهيتمي فقال‏:‏ يرد ذلك ما جاء عن ابن عباس من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن وراء أرضنا بحراً محيطاً ثم جبلاً يقال له قاف إلى آخر ما تقدم، ثم قال‏:‏ وكما يندفع بذلك قوله‏:‏ لا وجود له يندفع قوله‏:‏ ولا يجوز اعتقاد الخ لأنه إن أراد بالدليل مطلق الإمارة فهذه عليه أدلة أو الإمارة القطعية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي انتهى، والذي أذهب إليه ما ذهب إليه القرافي من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحس فقد قطعوا هذه الأرض برها وبحرها على مدار السرطان مرات فلم يشاهدوا ذلك، والطعن في صحة هذه الأخبار وإن كان جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح أهون من تكذيب الحس، وليس ذلك من باب نفي الوجود لعدم الوجدان كما لا يخفى على ذوي العرفان، وأمر الزلزلة لا يتوقف على ذلك الجبل بل هي من الأبخرة وطلبها الخروج مع صلابة الأرض وإنكار ذلك مكابرة عند من له أدنى عرق من الإنصاف والله تعالى أعلم‏.‏

واختلف في جواب القسم فقيل‏:‏ محذوف يشعر به الكلام كأنه قيل‏:‏ والقرآن المجيد إنا أنزلناه لتنذر به الناس، وقدره أبو حيان إنك جئتهم منذراً بالبعث ونحو ما قيل‏:‏ هو إنك لمنذر؛ وقيل‏:‏ ما ردوا أمرك بحجة‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ والمبرد‏.‏ والزجاج‏:‏ تقديره لتبعثن، وقيل‏:‏ هو مذكور، فعن الأخفش ‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارض مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 4‏]‏ وحذفت اللام لطول الكلام، وعنه أيضاًوعن ابن كيسان ‏{‏ما يلفظ من قول‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 18‏]‏ وقيل‏:‏ ‏{‏إن في ذلك لذكرى‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏ وهو اختيار محمد بن علي الترمذي، وقيل‏:‏ ‏{‏مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 29‏]‏ وعن نحاة الكوفة هو قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ‏}‏ وما ذكر أولاً هو المعول عليه، و‏{‏بَلِ‏}‏ للإضراب عما ينبىء عنه جواب القسم المحذوف فكأنه قيل‏:‏ إنا أنزلناه لتنذر به الناس فلم يؤمنوا به بل جعلوا كلاً من المنذر والمنذر به عرضة للتكبر والتعجب مع كونهما أوفق شيء لقضية العقول وأقربه إلى التلقي بالقبول، وقيل‏:‏ التقدير أنك جئتهم منذراً بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا أو فشكوا فيه بل عجبوا على معنى لم يكتفوا بالشك والرد بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة، وقيل‏:‏ هو إضراب عما يفهم من وصف القرآن بالمجيد كأنه قيل‏:‏ ليس سبب امتناعهم من الإيمان بالقرآن أن لا مجد له ولكن لجهلهم، ونبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ عَجِبُواْ‏}‏ عليه لأن التعجب من الشيء يقتضي الجهل بسببه‏.‏

قال في «الكشف»‏:‏ وهو وجه حسن، و‏{‏أَن جَاءهُمْ‏}‏ بتقدير لأن جاءهم، ومعنى ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ من جنسهم أي من جنس البشر أو من العرب، وضمير الجمع في الآية عائد على الكفار، وقيل‏:‏ عائد على الناس وليس بذاك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَالَ الكافرون هذا شَىْء عَجِيبٌ‏}‏ تفسير لتعجبهم وبيان لكونه مقارناً لغاية الإنكار مع زيادة تفصيل لمحل التعجب، وهذا إشارة إلى كونه عليه الصلاة والسلام منذراً بالقرآن وإضمارهم أولاً للإشعار بتعينهم بما أسند إليهم، وإظهارهم ثانياً للتسجيل عليهم بالكفر بموجبه أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من البعثة، وعطفه بالفاء لوقوعه بعده وتفرعه عليه لأنه إذا أنكر المبعوث أنكر ما بعث به أيضاً، على أن هذا إشارة إلى مبهم وهو البعث يفسره ما بعده من الجملة الإنكارية، ودل عليه السياق أيضاً لأنه دل على أن ثم منذراً به، ومعلوم أن إنذار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أول كل شيء بالبعث وما يتبعه‏.‏

ووضع المظهر موضع المضمر إما لسبق اتصافهم بما يوجب كفرهم؛ وأما للإيذان بأن تعجبهم من البعث لدلالته على استقصارهم لقدرة الله سبحانه عنه مع معاينتهم لقدرته عز وجل على ما هو أشق منه في قياس العقل من مصنوعاته البديعة أشنع من الأول وأعرق في كونه كفراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً‏}‏ تقرير للتعجب وتأكيد للإنكار أو بيان لموضع تعجبهم، والعامل في ‏{‏إِذَا‏}‏ مضمر غني عن البيان لغاية شهرته مع دلالة ما بعده عليه أي أحين نموت ونصير تراباً نرجع كما ينطق به النذير والمنذر به مع كمال التباين بيننا وبين الحياة حينئذٍ، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى محل النزاع وهو الرجع والبعث بعد الموت أي ذلك الرجع ‏{‏رَجْعُ بَعِيدٌ‏}‏ أي عن الأوهام أو العادة أو الإمكان، وقيل‏:‏ الرجع بمعنى المرجوع أي الجواب يقال هذا رجع رسالتك ومرجوعها ومرجوعتها أي جوابها، والإشارة عليه إلى ‏{‏أَءذَا مِتْنَا‏}‏ الخ، والجملة من كلام الله تعالى، والمعنى ذلك جواب بعيد منهم لمنذرهم، وناصب ‏{‏إِذَا‏}‏ حينئذٍ ما ينبىء عنه المنذر من المنذر به وهو البعث أي أئذا متنا وكنا تراباً بعثنا، وقد يقال‏:‏ إنه لما تقرر أن ذلك جواب منهم لمنذرهم فقد علم أنه أنذرهم بالبعث ليصلح ذلك جواباً له فهو دليل أيضاً على المقدر، فالقول بأنه إذا كان الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب لا يكون في الكلام دليل على ناصب ‏{‏إِذَا‏}‏ مندفع‏.‏ نعم هذا الوجه في نفسه بعيد بل قال أبو حيان‏:‏ إنه مفهوم عجيب ينبو عن إدراكه فهم العرب‏.‏

وقرأ الأعرج‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وابن وثاب‏.‏ والأعمش‏.‏ وابن عتبة عن ابن عارم ‏{‏إِذَا‏}‏ بهمزة واحدة على صورة الخبر فجاز أن يكون استفهاماً حذفت منه الهمزة وجاز أن يكون خبراً، قال في «البحر»‏:‏ واضمر جواب ‏{‏إِذَا‏}‏ أي إذا متنا وكنا تراباً رجعنا، وأجاز صاحب اللوامح أن يكون الجواب ذلك رجع بعيد على تقدير حذف الفاء، وقد أجاز ذلك بعضهم في جواب الشرط مطلقاً إذا كان جملة اسمية، وقصره أصحابنا على الشعر في الضرورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الارض مِنْهُمْ‏}‏ أي ما تأكل من لحوم موتاهم وعظامهم وأشعارهم، وهو رد لاستبعادهم بإزاحة ما هو الأصل فيه وهو أن أجزاءهم تفرقت فلا تعلم حتى تعاد بزعمهم الفاسد، وقيل‏:‏ ما تنقص الأرض منهم من يموت فيدفن في الأرض منهم، ووجه التعبير بما ظاهر والأول أظهر وهو المأثور عن ابن عباس‏.‏ وقتادة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ‏}‏ تعميم لعلمه تعالى أي وعندنا كتاب حافظ لتفاصيل الأشياء كلها ويدخل فيها أعمالهم أو محفوظ عن التغير؛ والمراد إما تمثيل علمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كل شيء أو تأكيد لعلمه تعالى بثبوتها في اللوح المحفوظ عنده سبحانه‏.‏

هذا وفي الآية إشارة إلى رد شبهة تمسك بها من يرى استحالة إعادة المعدوم ونفي البعث لذلك بناءً على أن أجزاء الميت تعدم ولا تتفرق فقط، وحاصلها أن الشيء إذا عدم ولم يستمر وجوده في الزمان الثاني ثم أعيد في الزمان الثالث لزم التحكم الباطل في الحكم بأن هذا الموجود المتأخر هو بعينه الموجود السابق لا موجود آخر مثله مستأنف إذ لما فقد هوية الموجود الأول لم يبق منه شيء من الموضوع والعوارض الشخصية حتى يكون الموجود الثاني مشتملاً عليه ويكون مرجحاً للحكم المذكور ويندفع التحكم‏.‏

وحاصل الرد أن الله تعالى عليم بتفاصيل الأشياء كلها يعلم كلياتها وجزئياتها على أتم وجه وأكله‏.‏ فللمعدوم صورة جزئية عنده سبحانه فهو محفوظ بعوارضه الشخصية في علمه تعالى البليغ على وجه يتميز به عن المستأنف فغاب عن بصرنا ثم رأيناه ثانياً فإنا نحكم بأن هذا الشخص هو من رأيناه سابقاً وهو حكم مطابق للواقع مبني على انحفاظ وحدة الصورة الخيالية قطعاً ولا ينكره إلا مكابر، وقال بعض الأشاعرة‏:‏ إن للمعدوم صورة جزئية حاصلة بتعلق صفة البصر من الموجد وهو الله تعالى، وليست تلك الصورة للمستأنف وجوده فإن صورته وإن كانت جزئية حقيقية أيضاً إلا أنها لم تترتب على تعلق صفة البصر ولا شك أن المترتب على تعلق صفة البصر أكمل من غير المترتب عليه فبين الصورتين تمايز واضح، وإذا انحفظ وحدة الموجود الخارجي بالصور الجزئية الخيالية لنا فانحفاظها بالصورة الجزئية الحاصلة له تعالى بواسطة تعلق صفة البصر بالطريق الأولى انتهى، وهو حسن لكن لا تشير الآية إليه‏.‏

وأيضاً لا يتم عند القائلين بعدم رؤية الله سبحانه المعدومات مطلقاً إلا أن أولئك قائلون بثبوت هويات المعدومات متمايزة تمايزاً ذاتياً حال العدوم فلا ترد عليهم الشبهة السابقة، وقد يقال‏:‏ إن صفة البصر ترجع إلى صفة العلم وتعلقاته مختلفة فيجوز أن يكون لعلمه تعالى تعلقاً خاصاً بالموجود الذي عدم غير تعلقه بالمستأنف في حال عدمه وبذلك يحصل الامتياز ويندفع التحكم، ويقال على مذهب الحكماء‏:‏ إن صورة المعدوم السابق مرتسمة في القوى المنطبعة للأفلاك بناءً على أن صور جميع الحوادث الجسمانية منطبعة فيها عندهم فله صورة خيالية جزئية محفوظة الوحدة الشخصية بعد فنائه بخلاف المستأنف إذ ليس تلك الصورة قبل وجوده وإنما له الصور الكلية في الأذهان العالية والسافلة فإذا أوجدت تلك الصورة الجزئية كان معاداً وإذا أوجدت هذه الصورة الكلية كان مستأنفاً وربما يدعى الإسلامي المتفلسف أن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعِندَنَا كتاب حَفِيظٌ‏}‏ رمزاً إلى ذلك، وللجلال الدواني كلام في هذا المقام لا يخلو عن نظر عند ذوي الأفهام، ثم إن البعث لا يتوقف على صحة إعادة المعدوم عند الأكثرين لأنهم لا يقولون إلا بتفرق أجزاء الميت دون انعدامها بالكلية، ولعل في قوله تعالى حكاية عن منكريه‏:‏

‏{‏أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 3‏]‏ إشارة إلى ذلك، وأخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي عن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس من الإنسان شيء لا يبلى الأعظم واحد وهو عجب الذنب منه يركب الخلق يوم القيامة» وليس نصاً في انعدام ما عدا العجب بالمرة لاحتمال أن يراد ببلا غيره من الأجزاء انحلالها إلى ما تركبت منه من العناصر وأما هو فيبقى على العظمية وهو جزء صغير في العظم الذي في أسفل الصلب، ومن كلام الزمخشري العجب أمره عجب هو أول ما يخلق وآخر ما يخلق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَاءهُمْ‏}‏ إضراب أتبع الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر فكأنه بدل بداء من الأول فلا حاجة إلى تقدير ما أجادوا النظر بل كذبوا أو لم يكذب المنذر بل كذبوا، وكون التكذيب المذكور أفظع قيل‏:‏ من حيث إن تكذيبهم بالنبوة تكذيب بالمنبأ به أيضاً وهو البعث وغيره، وقيل‏:‏ لأن إنكار النبوة في نفسه أفظع من إنكار البعث، وربما لا يتم عند القائلين بأن العقل مستقل بإثبات أصل الجزاء، على أن من الجائز أن يكونوا قد سمعوا بالبعث من أصحاب ملل أخرى بخلاف نبوته عليه الصلاة والسلام خاصة، وقيل‏:‏ المراد بالحق الإخبار بالبعث ولا شك أن التكذيب أسوأ من التعجب وأفظع فهو إضراب عن تعجبهم بالمنذر والمنذر به إلى تكذيبهم، وقيل‏:‏ المراد به القرآن والمضروب عنه عليه على ما قال الطيبي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ق والقرءان المجيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 1‏]‏ وجعل كبدل البداء من الإضراب الأول على أنه إضراب عن حديث القرآن ومجده إلى التعجب من مجىء من أنذرهم بالبعث الذي تضمنه وأن هذا إضراب إلى التصريح بالتكذيب به ويتضمن ذلك إنكار جميع ما تضمنه كذا قيل فتأمل‏.‏ وقرأ الجحدري ‏{‏لَّمّاً‏}‏ بكسر اللام وتخفيف الميم فاللام توقيتية بمعنى عند نحوها في قولك‏:‏ كتبه لخمس خلون مثلاً، و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية أي بل كذبوا بالحق عند مجيئه إياهم ‏{‏فَهُمْ فِى أَمْرٍ مَّرِيجٍ‏}‏ مضطرب من مرج الخاتم في إصبعه إذا قلق من الهزال، والإسناد مجازي كما ‏{‏فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 21‏]‏ مبالغة بجعل المضطرب الأمر نفسه وهو في الحقيقة صاحبه، وذلك نفيهم النبوة عن البشر بالكلية تارة وزعمهم أن اللائق بها أهل الجاه والمال كما ينبىء عنه قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ تارة أخرى وزعمهم أن النبوة سحر مرة وأنها كهانة أخرى حيث قالوا في النبي عليه الصلاة والسلام مرة ساحر ومرة كاهن أو هو اختلاف حالهم ما بين تعجب من البعث واستبعاد له وتكذيب وتردد فيه أو قولهم في القرآن هو شعر تارة وهو سحر أخرى إلى غير ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلَمْ يَنظُرُواْ‏}‏ أي أغفلوا أو عموا فلم ينظروا حين كفروا بالبعث ‏{‏إِلَى السماء فَوْقَهُمْ‏}‏ بحيث يشاهدونها كل وقت، قيل‏:‏ وهذا ظاهر على ما هو المعروف بين الناس من أن المشاهد هو السماء التي هي الجرم المخصوص الذي يطوى يوم القيامة وقد وصف في الآيات والأحاديث بما وصف‏.‏

وأما على ما ذهب إليه الفلاسفة من أن المشاهد إنما هو كرة البخار أو هواء ظهر بهذا اللون ولا لون له حقيقة ودون ذلك الجرم ففيه خفاء، وقال بعض الأفاضل في هذا المقام‏:‏ إن ظواهر الآيات والأخبار ناطقة بأن السماء مرئية، وما ذكره الفلاسفة المتقدمون من أن الأفلاك أجرام صلبة شفافة لا ترى غير مسلم أصلاً، وكذا كون السموات السبع هي الأفلاك السبعة غير مسلم عند المحققين، وكذا وجود كرة البخار وأن ما بين السماء والأرض هواء مختلف الأجزاء في اللطافة فكلما علا كان ألطف حتى أنه ربما لا يصلح للتعيش ولا يمنع خروج الدم من المسام الدقيقة جداً لمن وصل إليه، وإن رؤية الجو بهذا اللون لا ينافي رؤية السماء حقيقة وإن لم تكن في نفسها ملونة به ويكون ذلك كرؤية قعر البحر أخضر من وراء مائة ونحو ذلك مما يرى بواسطة شيء على لون وهو في نفسه على غير ذلك اللون، بل قيل‏:‏ إن رؤية السماء مع وجود كرة البخار على نحو رؤية الأجرام المضيئة كالقمر وغيره‏.‏ وأنت تعلم أن الأصحاب مع الظواهر حتى يظهر دليل على امتناع ما يدل عليه وحينئذٍ يؤولونها، وأن التزام التطبيق بين ما نطقت به الشريعة وما قاله الفلاسفة مع إكذاب بعضه بعضاً أصعب من المشي على الماء أو العروج إلى السماء، وأنا أقول‏:‏ لا بأس بتأويل ظاهر تأويلاً قريباً لشيء من الفلسفة إذا تضمن مصلحة شرعية ولم يستلزم مفسدة دينية، وأرى الإنصاف من الدين، ورد القول احتقاراً لقائله غير لائق بالعلماء المحققين، هذا وحمل بعض ‏{‏السماء‏}‏ ههنا على جنس الأجرام العلوية وهو كما ترى، والظاهر أنها الجرم المخصوص وأنها السماء الدنيا أي أفلم ينظروا إلى السماء الدنيا ‏{‏كَيْفَ بنيناها‏}‏ أحكمناها ورفعناها بغير عمد ‏{‏وزيناها‏}‏ للناظرين بالكواكب المرتبة على أبدع نظام ‏{‏وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ‏}‏ أي من فتوق وشقوق، والمراد سلامتها من كل عيب وخلل فلا ينافي القول بأن لها أبواباً، وزعم بعضهم أن المراد متلاصقة الطباق وهو ينافي ما ورد في الحديث من أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، ولعل تأخير هذا لمراعاة الفواصل‏.‏

وقيل ههنا ‏{‏أَفَلَمْ يَنظُرُواْ‏}‏ بالفاء وفي موضع آخر ‏{‏أَوَ لَمْ يَنظُرُواْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 185‏]‏ بالواو لسبق إنكار الرجع فناسب التعقيب بما يشعر بالاستدلال عليه، وجىء بالنظر دون الرؤية كما في الأحقاف استبعاداً لاستبعادهم فكأنه قيل‏:‏ النظر كاف في حصول العلم بإمكان الرجع ولا حاجة إلى الرؤية قاله الإمام، واحتج بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا لَهَا مِن فُرُوجٍ‏}‏ للفلاسفة على امتناع الخرق، وأنت تعلم أن نفي الشيء لا يدل على امتناعه، على أنك قد سمعت المراد بذلك، ولا يضر كونه ليس معنى حقيقياً لشيوعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏والارض مددناها‏}‏ بسطناها وهو لا ينافي كريتها التامة أو الناقصة من جهة القطبين لمكان العظم ‏{‏وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رواسي‏}‏ جبالاً ثوابت تمنعها من الميد كما يدل عليه قوله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏رَوَاسِىَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 15‏]‏ وهو ظاهر في عدم حركة الأرض، وخالف في ذلك بعض الفلاسفة المتقدمين وكل الفلاسفة الموجودين اليوم، ووافقهم بعض المغاربة من المسلمين فزعموا أنها تتحرك بالحركة اليومية بما فيها من العناصر وأبطلوا أدلة المتقدمين العقلية على عدم حركتها، وهل يكفر القائل بذلك الذي يغلب على الظن لا ‏{‏وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلّ زَوْجٍ‏}‏ صنف ‏{‏بَهِيجٍ‏}‏ حسن يبهج ويسر من نظر إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ‏}‏ راجع إلى ربه، وهو مجاز عن التفكر في بدائع صنعه سبحانه بتنزيل التفكر في المصنوعات منزلة الرجوع إلى صانعها، و‏{‏تَبْصِرَةً وذكرى‏}‏ علتان للأفعال السابقة معنى وإن انتصبا بالفعل الأخير أو لفعل مقدر بطريق الاستئناف أي فعلنا ما فعلنا تبصيراً وتذكيراً، وقال أبو حيان‏:‏ منصوبان على المصدرية لفعل مقدر من لفظهما أي بصرنا وذكرنا والأول أولى‏.‏

وقرأ زيد بن علي ‏{‏تَبْصِرَةً وذكرى‏}‏ بالرفع على معنى خلقهما تبصرة وذكرى، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَزَّلْنَا مِنَ السماء مَاء مباركا‏}‏ أي كثير المنافع شروع في بيان كيفية ما ذكر من إنبات كل زوج بهيج، وهو عطف على ‏{‏أَنبَتْنَا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 7‏]‏ وما بينهما على الوجهين الأخيرين اعتراض مقرر لما قبله ومنبه على ما بعده ‏{‏فَأَنبَتْنَا بِهِ‏}‏ أي بذلك الماء ‏{‏جنات‏}‏ كثيرة كما يقتضيه المقام أي أشجاراً ذات ثمار ‏{‏وَحَبَّ الحصيد‏}‏ أي حب الزرع الذي من شأنه أن يحصد من البر والشعير وأمثالهما، فالإضافة لما بينهما من الملابسة، و‏{‏الحصيد‏}‏ بمعنى المحصود صفة لموصوف مقدر كما أشرنا إليه فليس من قبيل مسجد الجامع ولا من مجاز الأول كما توهم، وتخصيص إنبات حبه بالذكر لأنه المقصود بالذات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏والنخل‏}‏ عطف على ‏{‏جنات‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 9‏]‏ وهي اسم جنس تؤنث وتذكر وتجمع، وتخصيصها بالذكر مع اندراجها في الجنات لبيان فضلها على سائر الأشجار، وتوسيط الحب بينهما لتأكيد استقلالها وامتيازها عن البقية مع ما فيه من مراعاة الفواصل ‏{‏باسقات‏}‏ أي طوالاً أو حوامل من أبسقت الشاة إذا حملت فيكون على هذا من أفعل فهو فاعل، والقياس مفعل فهو من النوادر كالطوائح واللواقح في أخوات لها شاذة ويافع من أيفع وباقل من أبقل، ونصبه على أنه حال مقدرة‏.‏ وروى قطبة بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ‏{‏باصقات‏}‏ بالصاد وهي لغة لبني العنبر يبدلون من السين صاداً إذا وليتها أو فصل بحرف أو حرفين خاء معجمة أو عين مهملة أو طاء كذلك أو قاف ‏{‏باسقات لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ‏}‏ منضود بعضه فوق بعض، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من مادة الثمر، والجملة حال من النخل كباسقات بطريق الترادف أو من ضميرها في ‏{‏باسقات‏}‏ على التداخل، وجوز أن يكون الحال هو الجار والمجرور و‏{‏طَلْعٌ‏}‏ مرتفع به على الفاعلية، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏رّزْقاً لّلْعِبَادِ‏}‏ أي ليرزقهم علة لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنبَتْنَا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 9‏]‏ وفي تعليله بذلك بعد تعليل ‏{‏أَنبَتْنَا‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 7‏]‏ الأول بالتبصير والتذكير تنبيه على أن اللائق بالعبد أن يكون انتفاعه بذلك من حيث التذكر والاستبصار أقدم وأهم من تمتعه به من حيث الرزق، وجوز أن يكون ‏{‏رِزْقاً‏}‏ مصدراً من معنى ‏{‏أَنبَتْنَا‏}‏ لأن الإنبات رزق فهو من قبيل قعدت جلوساً، وأن يكون حالاً بمعنى مرزوقاً ‏{‏وَأَحْيَيْنَا بِهِ‏}‏ أي بذلك الماء ‏{‏بَلْدَةً مَّيْتاً‏}‏ أرضاً جدبة لا نماء فيها بأن جعلناها بحيث ربت وأنبتت وتذكير ‏{‏مَيْتًا‏}‏ لأن البلدة بمعنى البلد والمكان، وقرأ أبو جعفر‏.‏ وخالد ‏{‏مَيْتًا‏}‏ بالتثقيل ‏{‏كذلك الخروج‏}‏ جملة قدم فيها الخبر للقصد إلى القصر وذلك إشارة إلى الحياة المستفادة من الاحياء، وما فيه من معنى البعد إشعار ببعد الرتبة أي مثل تلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور لا كشيء مخالف لها، وفي التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تفخيم لشأن الإنبات وتهوين لأمر البعث وتحقيق للماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس وتقريبه إلى إفهام الناس، وجوز أن يكون الكاف في محل رفع على الابتداء و‏{‏الخروج‏}‏ خبر، ونقل عن الزمخشري أنه قال‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ الخبر وهو الظاهر، ولكونه مبتدأ وجه وهو أن يقال‏:‏ ذلك الخروج مبتدأ وخبر على نحو أبو يوسف أبو حنيفة، والكاف واقع موقع مثل في قولك‏:‏ مثل زيد أخوك ولا يخفى أنه تكلف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ‏}‏ إلى آخره استئناف وارد لتقرير حقية البعث ببيان اتفاق كافة الرسل عليهم الصلاة والسلام عليها وتكذيب منكريها، وفي ذلك أيضاً تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفرة ‏{‏وأصحاب الرس‏}‏ هو البئر التي لم تبن، وقيل‏:‏ هو واد وأصحابه قيل‏:‏ هم ممن بعث إليهم شعيب عليه السلام، وقيل‏:‏ قوم حنظلة بن صفوان ‏{‏وَثَمُودُ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَعَادٌ وفِرْعَوْنُ‏}‏ أريد هو وقومه ليلائم ما قبله وما بعده، وهذا كما تسمى القبيلة تميماً مثلاً باسم أبيها ‏{‏وإخوان لُوطٍ‏}‏ قيل‏:‏ كانوا من أصهاره عليه السلام فليس المراد الأخوة الحقيقية من النسب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وأصحاب الايكة‏}‏ قيل‏:‏ هم قوم بعث إليهم شعيب عليه السلام غير أهل مدين كانوا يسكنون أيكة وهي الغيطة فسموا بها ‏{‏وَقَوْمُ تُّبَّعٍ‏}‏ الحميري وكان مؤمناً وقومه كفرة ولذا لم يذم هو وذم قومه، وقد سبق في الحجر‏.‏ والدخان‏.‏ والفرقان تمام الكلام فيما يتعلق بما في هذه الآية‏.‏

‏{‏كُلٌّ كَذَّبَ‏}‏ أي فيما أرسلوا به من الشرائع التي من جملتها البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة أي كل قوم من الأقوام المذكورين كذبوا رسولهم أو كذب كل هؤلاء جميع رسلهم، وإفراد الضمير باعتبار لفظ الكل أو كل واحد منهم كذب جميع الرسل لاتفاقهم على الدعوة إلى التوحيد والإنذار بالبعث والحشر فتكذيب واحد منهم تكذيب للكل، والمراد بالكلية التكثير كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوتِيَتْ مِن كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 23‏]‏ وإلا فقد آمن من آمن من قوم نوح وكذا من غيرهم، ثم ما ذكر على تقدير رسالة تبع ظاهر ثم على تقدير عدمها وعليه الأكثر فمعنى تكذيب قومه الرسل عليهم السلام تكذيبهم بما قبل من الرسل المجتمعين على التوحيد والبعث، وإلى ذلك كان يدعوهم تبع‏.‏

‏{‏فَحَقَّ وَعِيدِ‏}‏ أي فوجب وحل عليهم وعيدي وهي كلمة العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَعَيِينَا بالخلق الاول‏}‏ استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة والعي بالأمر العجز عنه لا التعب، وقال الكسائي‏:‏ تقول أعييت من التعب وعييت من انقطاع الحيلة والعجز عن الأمر، وهذا هو المعروف والأفصح وإن لم يفرق بينهما كثير، والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينبىء عنه العي من القصد والمباشرة كأنه قيل‏:‏ أقصدنا الخلق الأول وهو الإبداء فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة، وجوز الإمام أن يكون المراد بالخلق الأول خلق السماء والأرض ويدل عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذى خَلَقَ السموات والارض وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 33‏]‏ ويؤيده قوله تعالى بعد‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏ الخ وهو كما ترى، وعن الحسن ‏{‏الخلق الاول‏}‏ آدم عليه السلام وليس بالحسن، وقرأ ابن أبي عبلة‏.‏ والوليد بن مسلم‏.‏ والقورصي عن أبي جعفر‏.‏ والسمسار عن شيبة‏.‏ وأبو بحر عن نافع ‏{‏أفعينا‏}‏ بتشديد الياء وخرجت على لغة من أدغم الياء في الياء في الماضي فقال‏:‏ عي في عي وحي في حي فلما أدغم الحقه ضمير المتكلم المعظم نفسه ولم يفك الإدغام فقال‏:‏ عيناً وهي لغة لبعض بكر بن وائل في رددت ورددنا ردت وردنا فلا يكفون، وعلى هذه اللغة تكون الياء المشددة مفتوحة ولو كانت ‏{‏ن‏}‏ ضمير نصب فالعرب جميعهم على الأدغام نحو ردنا زيد ‏{‏الاول بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ عطف على مقدر يدل عليه ما قبله كأنه قيل‏:‏ إنهم معترفون بالأول غير منكرين قدرتنا عليه فلا وجه لإنكارهم الثاني بل هم في خلط وشبهة في خلق مستأنف وإنما نكر الخلق ووصف بجديد ولم يقل‏:‏ من الخلق الثاني تنبيهاً على مكان شبهتهم واستبعادهم العادي بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏جَدِيدٍ‏}‏ وأنه خلق عظيم يجب أن يهتم بشأنه فله نبأ أي نبأ، والتعظيم ليس راجعاً إلى الخلق من حيث هو هو حتى يقال‏:‏ إنه أهون من الخلق الأول بل إلى ما يتعلق بشأن المكلف وما يلاقيه بعده وهو هو وقال بعض المحققين‏:‏ نكر لأنه لاستعباده عندهم كان أمراً عظيماً، وجوز أن يكون التنكير للإبهام إشارة إلى أنه خلق على وجه لا يعرفه الناس، وأورد الشيخ الأكبر قدس سره هذه الآية في معرض الاستدلال على تجدد الجواهر كالتجدد الذي يقوله الأشعري في الإعراض فكل منهما عند الشيخ لا يبقى زمانين، ويفهم من كلامه قدس سره أن ذلك مبني على القول بالوحدة وأنه سبحانه كل يوم هو في شأن، ولعمري أن الآية بمعزل عما يقول‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ‏}‏ أي ما تحدثه به وهو ما يخطر بالبال، والوسوسة الصوت الخفي ومنه وسواس الحلي، وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ لما وهى موصولة والباء صلة ‏{‏تُوَسْوِسُ‏}‏ وجوز أن تكون للملابسة أو زائدة وليس بذاك، ويجوز أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية والضمير للإنسان والباء للتعدية على معنى أن النفس تجعل الإنسان قائماً به الوسوسة فالمحدث هو الإنسان لأن الوسوسة بمنزلة الحديث فيكون نظير حدث نفسه بكذا وهم يقولون ذلك كما يقولون حدثته نفسه بكذا قال لبيد‏:‏

واكذب النفس إذا حدثتها *** إن صدق النفس يزري بالأمل

‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد‏}‏ أي نعلم به وبأحواله لا يخفى علينا شيء من خفياته على أنه أطلق السبب وأريد المسبب لأن القرب من الشيء في العادة سبب العلم به وبأحواله أو الكلام من باب التمثيل؛ ولا مجال لحمله على القرب المكاني لتنزهه سبحانه عن ذلك، وكلام أهل الوحدة مما يشق فهمه على غير ذوي الأحوال، و‏{‏حَبْلِ الوريد‏}‏ مثل في فرط القرب كقولهم‏:‏ مقعد القابلة ومعقد الأزار قال ذو الرمة على ما في «الكشاف»‏:‏

والموت أدنى لي من حبل الوريد *** والحبل معروف والمراد به هنا العرق لشبهه به وإضافته إلى الوريد وهو عرق مخصوص كما ستعرفه للبيان كشجر الإراك أو لامية كما في غيره من إضافة العام إلى الخاص فإن أبقى الحبل على حقيقته فإضافته كما في لجين الماء، و‏{‏الوريد‏}‏ عرق كبير في العنق وعن الأثرم أنه نهر الجسد ويقال له في العنق الوريد وفي القلب الوتين وفي الظهر الأبهر وفي الذراع والفخر الأكحل والنساء وفي الخنصر الأسلم‏.‏

والمشهور أن في كل صفحة من العنق عرقاً يقال له وريد‏.‏ ففي الكشاف الوريد أن عرقان مكتنفان لصفحتي العنق في مقدمها متصلان بالوتين يردان بحسب المشاهدة من الرأس إليه فالوريد فعيل بمعنى فاعل، وقيل‏:‏ هو بمعنى مفعول لأن الروح الحيواني يرده ويشير إلى هذا قول الراغب‏:‏ الوريد عرق متصل بالكبد والقلب وفيه مجاري الروح، وقال في الآية‏:‏ أي نحن أقرب إليه من روحه، وحكى ذلك عن بعضهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان‏}‏ هما الملكان الموكلان بكل إنسان يكتبان أعماله؛ والتلقى التلقن بالحفظ والكتبة، و‏{‏إِذْ‏}‏ قيل‏:‏ ظرف لأقرب وأفعل التفضيل يعمل في الظروف لأنه يكفيها رائحة الفعل وإن لم يكن عاملاً في غيرها فاعلاً أو مفعولاً به أي هو سبحانه أعلم بحال الإنسان من كل قريب حين يتلقى المتلقيان الحفيظان ما يتلفظ به، وفيه إيذان بأنه عز وجل غني عن استحفاظ الملكين فإنه تعالى شأنه أعلم منهما ومطلع على ما يخفى عليهما لكن الحكمة اقتضته، وهو ما في كتبة الملكين وحفظهما وعرض صحائفهما يوم يقوم الاشهاد، وعلم العبد بذلك مع عرمه بإحاطة الله تعالى بعمله من زيادة لطف في الانتهاء عن السيئات والرغبة في الحسنات، وجوز أن تكون ‏{‏إِذْ‏}‏ لتعليل القرب، وفيه أن تعليل قربه عز وجل العلمي بإطلاع الحفظة الكتبة بعيد، واختار بعضهم كونها مفعولاً به لا ذكر مقدراً لبقاء الأقربية على إطلاقها ولأن أفعل التفضيل ضعيف في العمل وإن كان لا مانع من عمله في الظرف؛ والكلام مسوق لتقرير قدرته عز وجل وإحاطة علمه سبحانه وتعالى فتأمل ‏{‏عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ‏}‏ أي عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد فحذف من الأول لدلالة الثاني عليه، ومنه قوله‏:‏

رماني بأمر كنت منه ووالدي *** بريئاً ومن أجل الطوى رماني

وقال المبرد‏:‏ إن التقدير عن اليمين قعيد وعن الشمال فأخر قعيد عن موضعه، والقعيد عليهما فعيل بمعنى مفاعل كجليس بمعنى مجالس ونديم بمعنى منادم، وذهب الفراء إلى أن قعيداً يدل على الإثنين والجمع، وقد أريد منه هنا الإثنان فلا حذف ولا تقديم ولا تأخير‏.‏ واعترض بأن فعيلاً يستوي فيه ذلك إذا كان بمعنى مفعول وهذا بمعنى فاعل ولا يصح فيه ذلك إلا بطريق الحمل على فعيل بمعنى مفعول، واختلف في تعيين محل قعودهما فقيل‏:‏ هما على الناجذين، فقد أخرج أبو نعيم والديلمي عن معاذ بن جبل مرفوعاً «إن الله لطف بالملكين الحافظين حتى أجلسهما على الناجذين وجعل لسانه قلمهما وريقه مدادهما»، وقيل‏:‏ على العاتقين، وقيل‏:‏ على طرفي الجنك عند العنفقة وفي البحر أنهم اختلفوا في ذلك ولا يصح فيه شيء، وأنا أقول أيضاً‏:‏ لم يصح عندي أكثر مما أخبر الله تعالى به من أنهما عن اليمين وعن الشمال قعيدان، وكذا لم يصح خبر قلمهما ومدادهما وأقول كما قال اللقاني بعد أن استظهر أن الكتب حقيقي‏:‏ علم ذلك مفوض إلى الله عز وجل، وأقول الظاهر أنهما في سائر أحوال الإنسان عن يمينه وعن شماله‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إن قعد فأحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وإن مشى فأحدهما إمامه والآخر خلفه وإن رقد فأحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ‏}‏ ما يرمي به من فيه خيراً كان أو شراً، وقرأ محمد بن أبي معدان ‏{‏مَّا يَلْفِظُ‏}‏ بفتح الفاء ‏{‏إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ‏}‏ ملك يرقب قوله ويكتبه فإن كان خيراً فهو صاحب اليمين وإن كان شراً فهو صاحب الشمال ‏{‏عَتِيدٌ‏}‏ معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير أو الشر، وتخصيص القول بالذكر لإثبات الحكم في الفعل بدلالة النص واختلف فيما يكتبانه فقال الإمام مالك‏.‏ وجماعة‏:‏ يكتبان كل شيء حتى الأنين في المرض، وفي «شرح الجوهرة» للقاني مما يجب اعتقاده أن لله تعالى ملائكة يكتبون أفعال العباد من خير أو شر أو غيرهما قولاً كانت أو اعتقاداً هما كانت أو عزماً أو تقريراً اختارهم سبحانه لذلك فهم لا يعملون من شأنهم شيئاً فعلوه قصداً وتعمداً أو ذهولاً ونسياناً صدر منهم في الصحة أو في المرض كما رواه علماء النقل والرواية انتهى‏.‏ وفي بعض الآثار ما يدل على أن الكلام النفسي لا يكتب، أخرج البيهقي في «الشعب» عن حذيفة بن اليمان أن للكلام سبعة أغلاق إذا خرج منها كتب وأن لم يخرج لم يكتب القلب واللها واللسان والحنكان والشفتان، وذهب بعضهم إلى أن المباح لا يكتبه أحد منهما لأنه لا ثواب فيه ولا عقاب والكتابة للجزاء فيكون مستثنى حكماً من عموم الآية وروى ذلك عن عكرمة‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وابن مردويه من طريقه عن ابن عباس أنه قال‏:‏ إنما يكتب الخير والشر لا يكتب يا غلام أسرج الفرس ويا غلام اسقني الماء، وقال بعضهم‏:‏ يكتب كل ما صدر من العبد حتى المباحات فإذا عرضت أعمال يومه محى منها المباحات وكتب ثانياً ما له ثواب أو عقاب وهو معنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 39‏]‏ وقد أشار اليوطي إلى ذلك في بعض رسائله وجعل وجهاً لجلمع بين القولين بكتابة المباح والقول بعدمها وقد روى نحوه عن ابن عباس‏.‏ أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عنه أنه قال في الآية‏:‏ يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى أنه ليكتب قوله‏:‏ أكلت وشربت ذهبت جئت رأيت حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر منه ما كان من خير أو شر وألقى سائره فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَمْحُو الله مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ‏}‏ ثم إن المباح على القول بكتابته يكتبه ملك الشمال على ما يشعر به ما أخرجه ابن أبي شيبة‏.‏ والبيهقي في «شعب الايمان» من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية أن رجلاً كان على حمار فعثر به فقال‏:‏ تعست فقال صاحب اليمين‏:‏ ما هي بحسنة فأكتبها وقال صاحب الشمال ما هي بسيئة فأكتبها فنودي صاحب الشمال إن ما تركه صاحب اليمين فاكتبه، وجاء في بعض الأخبار أن صاحب اليمين أمين على صاحب الشمال، وقد أخرج ذلك الطبراني‏.‏

وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة مرفوعاً، وفيه ‏"‏ فإذا عمل العبد حسنة كتبت له بعشر أمثالها وإذا عمل سيئة وأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال صاحب اليمين أمسك فيمسك ست ساعات أو سبع ساعات فإن استغفر الله تعالى منها لم يكتب عليه منها شيئاً وإن لم يستغفر الله تعالى كتبت عليه سيئة واحدة ‏"‏ ومثل الاستغفار كما نص عليه فعل طاعة مكفرة في حديث آخر أن صاحب اليمين يقول‏:‏ دعه سبع ساعات لعله يسبح أو يستغفر، وظاهر الآية عموم الحكم للكافر فمعه أيضاً ملكان يكتبان ما له وما عليه من أعماله وقد صرح بذلك غير واحد وذكروا أن ماله الطاعات التي لا تتوقف على نية كالصدقة وصلة الرحم وما عليه كثير لا سيما على القول بتكليفه بفروع الشريعة‏.‏

وفي «شرح الجوهرة» الصحيح كتب حسنات الصبي وإن كان المجنون لا حفظة عليه لأن حاله ليست متوجهة للتكليف بخلاف الصبي وظاهر الآية شمول الحكم له وتردد الجزولي في الجن والملائكة أعليهن حفظة أم لا ثم جزم بأن على الجن حفظة وأتبعه القول بذلك في الملائكة عليهم السلام، قال اللقاني بعد نقله‏:‏ ولم أقف عليه في الجن لغيره ويفهم منه أنه وقف عليه في الملائكة لغيره ولعله ما حكى عن بعضهم أن المراد بالروح في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الملائكة والروح‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏ الحفظة على الملائكة، ويحتاج دعوى ذلك فيهم وفي الجن إلى نقل‏.‏

وأما اعتراض القول به في الملائكة بلزوم التسلسل فمدفوع بما لا يخفى على المتأمل ثم إن بعضهم استظهر في الملكين اللذين مع الإنسان كونهما ملكين بالشخص لا بالنوع لكل إنسان يلزمانه إلى مماته فيقومان عند قبره يسبحان الله تعالى ويحمدانه ويكبرانه ويكتبان ثواب ذلك لصاحبهما إن كان مؤمناً‏.‏

أخرج أبو الشيخ في العظمة‏.‏ والبيهقي في «شعب الايمان» عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى وكل بعبده المؤمن ملكين يكتبان عمله فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به‏:‏ قد مات فأذن لنا أن نصعد إلى السماء فيقول الله تعالى‏:‏ سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحوني فيقولان‏:‏ أنقيم في الأرض‏؟‏ فيقول الله تعالى‏:‏ أرضي مملوءة من خلقي يسبحوني فيقولان فأين‏؟‏ فيقول‏:‏ قوماً على قبر عبدي فسبحاني واحمداني وكبراني واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة، وجاء أنهما يلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافراً ‏"‏

وقال الحسن‏:‏ الحفظة أربعة اثنان بالنهار واثنان بالليل وهو يحتمل التبدل بأن يكون في كل يوم وليلة أربعة غير الأربعة التي في اليوم والليلة قبلهما وعدمه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن ملك الحسنات يتبدل تنويهاً بشأن الطائع وملك السيإت لا يتبدل ستراً على العاصي في الجملة، والظاهر أنهما لا يفارقان الشخص وقالوا‏:‏ يفارقانه عند الجماع ودخول الخلاء، ولا يمنع ذلك من كتبهما ما يصدر عنه في تلك الحال، ولهما علامة للحسنة والسيئة بدنيتين كانا أو قلبيتين، وبعض الأخبار ظاهرة في أن ما في النفس لا يكتب، أخرج ابن المبارك‏.‏ وابن أبي الدنيا في الإخلاص‏.‏ وأبو الشيخ في العظمة عن ضمرة بن حبيب قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الملائكة يصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيكثرونه ويزكونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحى الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه إن عبدي هذا لم يخلص لي عمله فاجعلوه في سجين قال‏:‏ ويصعدون بعمل العبد من عباد الله تعالى فيستقلونه ويحتقرونه حتى ينتهوا به حيث شاء الله تعالى من سلطانه فيوحى الله تعالى إليهم إنكم حفظة على عمل عبدي وأنا رقيب على ما في نفسه فضاعفوه له واجعلوه في عليين ‏"‏ وجاء من حديث عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» عن أبي عمران الجوني أنه ينادي الملك اكتب لفلان بن فلان كذا وكذا أي من العمل الصالح فيقول‏:‏ يا ربو إنه لم يعمله فيقول‏:‏ سبحانه وتعالى إنه نواه، وقد يقال‏:‏ إنهما يكتبان ما في النفس ما عدا الرياء والطاعات المنوية جمعاً بين الأخبار، وجاء أن يكتب للمريض والمسافر مثل ما كان يعمل في الصحة والإقامة من الحسنات‏.‏

أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ والدارقطني في «الإفراد»‏.‏ والطبراني‏.‏ والبيهقي في «الشعب» عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من أحد من المسلمين يبتلي ببلاء في جسده إلا أمر الله تعالى الحفظة فقال‏:‏ اكتبوا لعبدي ما كان يعمل وهو صحيح ما دام مشدوداً في وثاقي ‏"‏ وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي موسى قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرض أو سافر كتب الله تعالى له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً ‏"‏ وفي بعض الآثار ما يدل على أن بعض الطاعات يكتبها غير هذين الملكين، ثم إن الملائكة الذين مع الإنسان ليسوا محصورين بالملكين الكاتبين، فعن عثمان أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم كم ملك على الإنسان‏؟‏ فذكر عشرين ملكاً قاله المهدوي في «الفيصل»، وذكر بعضهم أن المعقبات في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ معقبات مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏ غير الكاتبين بلا خلاف، وحكى اللقاني عن ابن عطية أن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك، والله تعالى أعلم بصحة ذلك‏.‏

وروى ابن المنذر‏.‏ وأبو الشيخ في العظمة عن ابن المبارك أنه قال‏:‏ وكل بالعبد خمسة أملاك ملكان بالليل وملكان بالنهار يجيئان ويذهبان وملك خامس لا يفارقه لا ليلاً ولا نهاراً، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ‏}‏ إلى آخره كلام وارد بعد تتميم الغرض من إثبات ما أنكروه من البعث بأبين دليل وأوضحه دال على أن هذا المنكر أنتم لاقوه فخذوا حذركم، والتعبير بالماضي هنا وفيما بعد لتحقق الوقوع، و‏{‏سَكْرَةُ الْمَوْتِ‏}‏ شدته مستعارة من الحالة التي تعرض بين المرء وعقله بجامع إن كلاً منهما يصيب العقل بما يصيب، وجوز أن يشبه الموت بالشراب على طريق الاستعارة المكنية ويجعل إثبات السكرة له تخييلاً، وليس بذاك، والباء إما للتعدية كما في قولك‏:‏ جاء الرسول بالخبر، والمعنى أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الذي نطقت به كتب الله تعالى ورسوله عليهم الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ حقيقة الأمر وجلية الحال من سعادة الميت وشقاوته، وقيل‏:‏ بالحق الذي ينبغي أن يكون من الموت والجزاء فإن الإنسان خلق له، وإما للملابسة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنبُتُ بالدهن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 20‏]‏ أي ملتبسة بالحق أي بحقيقة الأمر، وقيل‏:‏ بالحكمة والغاية الجميلة‏.‏ وقرىء ‏{‏سَكْرَةُ الحق‏}‏ والمعنى إنها السكرة التي كتبت على الإنسان بموجب الحكمة وإنها لشدتها توجب زهوق الروح أو تستعقبه، وقيل‏:‏ الباء بمعنى مع، وقيل‏:‏ سكرة الحق سكرة الله تعالى على أن ‏{‏إِلَى الحق‏}‏ من أسمائه عز وجل، والإضافة للتهويل لأن ما يجيء من العظيم عظيم‏.‏ وقرأ ابن مسعود ‏{‏يَعْقُوبَ الموت‏}‏ جمعاً، ويوافق ذلك ما أخرج البخاري‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه عن عائشة «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بين يديه ركوة أو علبة فيها ماء فجعل يدخل يديه في الماء فيمسح بهما وجهه ويقول‏:‏ لا إله إلا الله إن للموت سكرات» وجاء في حديث صححه الحاكم عن القاسم بن محمد عن عائشة أيضاً قالت‏:‏ «لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده القدح ثم يمسح وجهه بالماء ثم يقول‏:‏ اللهم أعني على سكرات الموت» ‏{‏ذلك‏}‏ أي الحق ‏{‏مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ‏}‏ أي تميل وتعدل، فالإشارة إلى الحق والخطاب للفاجر لا للإنسان مطلقاً والإشارة إلى الموت لأن الكلام في الكفرة، وإنما جيء بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏ لإثبات العلم بجزئيات أحواله وتضمين شبه وعيد لهؤلاء إدماجاً والتخلص منه إلى بيان أحواله في الآخرة ولأن قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لَّقَدْ كُنتَ فِى غَفْلَةٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 22‏]‏ الخ يناسب خطاب هؤلاء، وكذلك ما يعقبه على ما لا يخفى‏.‏

وأما حديث مقابليهم فقد أخذ فيه حيث قال عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 31‏]‏ الآيات، وقال بعض الأجلة‏:‏ الإشارة إلى الموت والخطاب للإنسان الشامل للبر والفاجر والنفرة عن الموت شاملة لكل من أفراده طبعاً‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ إن كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ‏}‏ متصلاً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلْ هُمْ فِى لَبْسٍ مّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 15‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 12‏]‏ فالمناسب أن يكون المشار إليه الحق والخطاب للفاجر، وإن كان تصلاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 16‏]‏ فالمناسب أن يكون المشار إليه الموت والخطاب للجنس وفيه البر والفاجر، والالتفات لا يفارق الوجهين، والثاني هو الوجه لقوله تعالى بعد ذلك‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 21‏]‏ الخ، وتفصيله بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 24‏]‏ ‏{‏وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 31‏]‏ وفيه ما يعلم مما قدمنا‏.‏ وحكى في الكشاف عن بعضهم أنه سأل زيد بن أسلم عنذلك فقال‏:‏ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فحكاه لصالح بن كيسان فقال‏.‏ والله ما من عالية ولا لسان فصيح ولا معرفة بكلام العرب هو للكافر، ثم حكاهما للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس فقال‏:‏ أخالفهما جميعاً هو للبر والفاجر، وكأن هذه المخالفة لنحو ما سمعت عن الطيبي‏.‏ وفي بعض الآثار ما يؤيد القول بالعموم أخرج ابن سعد عن عروة قال‏:‏ لما مات الوليد بكت أم سلمة فقالت‏:‏

يا عين فأبكي للوليد بن الوليد بن المغيرة *** كان الوليد بن الوليد أبو الوليد فتى العشيرة

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا تقولي هكذا يا أم سلمة ولكن قولي‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ‏}‏ وأخرج أحمد‏.‏ وابن جرير عن عبد الله مولى الزبير بن العوام قال‏:‏ لما حضر أبو بكر الوفاة تمثلت عائشة بهذا البيت‏:‏

أعاذل ما يغني الحذار عن الفتى *** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر

فقال أبو بكر‏:‏ ليس كذلك يا بنية ولكن قولي‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ‏}‏ وفي رواية لابن المنذر‏.‏ وأبي عبيد أنها قالت‏:‏

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه *** ثمال اليتامى عصمة للأرامل

فقال رضي الله تعالى عنه‏:‏ بل جاءت سكرة الموت الخ إذ التمثل بالآية على تقدير العموم أوفق بالحال كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَنُفِخَ فِى الصور‏}‏ أي نفخة البعث ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى النفخ المفهوم من ‏{‏نُفِخَ‏}‏ والكلام على حذف مضاف أي وقت ذلك النفخ ‏{‏يَوْمَ الوعيد‏}‏ أي يوم انجاز الوعيد الوقاع في الدنيا أو يوم وقوع الوعيد على أنه عبارة عن العذاب الموعود، وجوز أن تكون الإشارة إلى الزمان المفهوم من ‏{‏نُفِخَ‏}‏ فإن الفعل كما يدل على الحدث يدل على الزمان، وعليه لا حاجة إلى تقدير شيء، لكن قيل عليه‏:‏ إن الإشارة إلى زمان الفعل مما لا نظير له، وتخصيص الوعيد بالذكر على تقدير كون الخطاب للإنسان مطلقاً مع أنه يوم الوعد أيضاً بالنسبة إليه للتهويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ من النفوس البرة والفاجرة كما هو الظاهر ‏{‏مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ‏}‏ وإن اختلفت كيفية السوق والشهادة حسب اختلاف النفوس عملاً أي معها ملكان أحدهما يسوقها إلى المحشر والآخر يشهد بعملها، وروى ذلك عن عثمان رضي الله تعالى عنه وغيره، وفي حديث أخرجه أبو نعيم في الحلية عن جابر مرفوعاً تصريح بأن ملك الحسنات وملك السيئات أحدهما سائق والآخر شهيد، وعن أبي هريرة السائق ملك الموت والشهيد النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية أخرى عنه السائق ملك والشهيد العمل وكلاهما كما ترى، وقيل‏:‏ الشهيد الكتاب الذي يلقاه منشوراً، وعن ابن عباس‏.‏ والضحاك السائق ملك والشهيد جوارح الإنسان، وتعقبه ابن عطية بقوله‏:‏ وهذا بعيد عن ابن عباس لأن الجوارح إنما تشهد بالمعاصي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ‏}‏ يعم الصالحين، وقيل‏:‏ السائق والشهيد ملك واحد والعطف لمغايرة الوصفين أي معها ملك يسوقها ويشهد عليها، وقيل‏:‏ السائق نفس الجائي والشهيد جوارحه‏.‏ وتعقب بأن المعية تأباه والتجريد بعيد، وفيه أيضاً ما تقدم آنفاً عن ابن عطية، وقال أبو مسلم‏:‏ السائق شيطان كان في الدنيا مع الشخص وهو قول ضعيف، وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أن ‏{‏سَائِقٌ وَشَهِيدٌ‏}‏ اسما جنس فالسائق ملائكة موكلون بذلك والشهيد الحفظة وكل من يشهد، ثم ذكر أنه يشهد بالخير الملائكة والبقاع، وفي الحديث ‏"‏ لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ‏"‏ و‏{‏مَّعَهَا‏}‏ صفة ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ أو ‏{‏كُلٌّ‏}‏ وما بعده فاعل به لاعتماده أو ‏{‏مَّعَهَا‏}‏ خبر مقدم وما بعده مبتدأ‏.‏ والجملة في موضع الصفة، واختير كونها مستأنفة استئنافاً بياناً لأن الأخبار بعد العلم بها أوصاف ومضمون هذه الجملة غير معلوم فلا تكون صفة إلا أن يدعي العلم به‏.‏ وأنت تعلم أن ما ذكر غير مسلم‏.‏

وقال الزمخشري‏.‏ محل ‏{‏مَّعَهَا سَائِقٌ‏}‏ النصب على الحال ‏{‏مَّعَهَا سَائِقٌ‏}‏ النصف على الحال من ‏{‏كُلٌّ‏}‏ لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة، فإن أصل كل أن يضاف إلى الجمع كأفعل التفضيل فكأنه قيل‏:‏ كل النفوس يعني أن هذا أصله وقد عدله عنه في الاستعمال للتفرقة بين كل الأفرادي والمجموعي، ولا يخفى أن ما ذكره تكلف لا تساعده قواعد العربية، وقد قال عليه في «البحر»‏:‏ إنه كلام ساقط لا يصدر عن مبتدء في النحو، ثم إنه لا يحتاج إليه فإن الإضافة للنكرة تسوغ مجيء الحال منها، وأيضاً ‏{‏كُلٌّ‏}‏ تفيد العموم وهو من المسوغات كما في شرح التسهيل‏.‏ وقرأ طلحة ‏{‏محا سَائِقٌ‏}‏ بالحاء مثقلة أدغم العين في الهاء فانقبلتا حاء كما قالوا‏:‏ ذهب محم يريدون معهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدِ كُنَّا فِى غَفْلَةٍ مّنْ هذا‏}‏ محكي بإضمار قول، والجملة استئناف مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل‏:‏ فماذا يكون بعد النفخ ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد‏؟‏ فقيل‏:‏ يقال للكافر الغافر إذا عاين الحقائق التي لم يصدق بها في الدنيا من البعث وغيره لقد كنت في غفلة من هذا الذي تعاينه، فالخطاب للكافر كما قال ابن عباس‏.‏ وصالح بن كيسان، وتنكير الغفلة وجعله فيها وهي فيه يدل على أنها غفلة تامة، وهكذا غفلة الكفرة عن الآخرة وما فيها، وقيل‏:‏ لجملة محكية بإضمار قول هو صفة لنفس أو حال والخطاب عام أي يقال لكل نفس أو قد قيل لها‏:‏ لقد كنت، والمراد بالغفلة الذهول مطلقاً سواء كان بعد العلم أم لا، وما من أحد إلا وله غفلة ما من الآخرة وما فيها، وجوز الاستئناف على عموم الخطان أيضاً‏.‏ وقرأ الجحدري ‏{‏لَّقَدْ كُنتَ‏}‏ بكسر التاء على مخاطبة النفس وهي مؤنثة وتذكيرها في قوله‏:‏

يا نفس إنك باللذات مسرور *** على تأويلها بالشخص، ولا يلزم في قراءة الجمهور لأن التعبير بالنفس في الحكاية لا يستدعي اعتباره في المحكى كما لا يخفى‏.‏

‏{‏فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ‏}‏ الغذاء الحجاب المغطى لأمور المعاد وهو الغفلة والانهماك في المحسوسات والألف بها وقصر النظر عليها، وجعل ذلك غطاء مجازاً، وهو إما غطاء الجسد كله أو العينين، وعلى كليهما يصح قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ‏}‏ أي نافذ لزوال المانع للابصار، أما على الثاني فظاهر، وأما على الأول فلأن غطاء الجسد كله غطاء للعينين أيضاً فكشفه عنه يستدعي كشفه عنهما‏.‏ وزعم بعضهم أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمعنى كنت في غفلة من هذا الذي ذكرناه من أمر النفخ والبعث ومجيء كل نفس معها سائق وشهيد وغير ذلك فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي وتعليم القرآن فبصرك اليوم حديد ترى ما لا يرون وتعلم ما لا يعلمون، ولعمري أنه زعم ساقط لا يوافق السباق ولا السياق‏.‏ وفي «البحر» وعن زيد بن أسلم قول في هذه الآية يحرم نقله وهو في كتاب ابن عطية انتهى، ولعله أراد به هذا لكن في دعوى حرمة النقل بحث، وقرأ الجحدري‏.‏ وطلحة بن مصرف بكسر الكافات الثلاثة أعني كاف ‏{‏عَنكَ‏}‏ وما بعده على خطاب النفس، ولم ينقل «صاحب اللوامح» الكسر في الكاف إلا عن طلحة وقال‏:‏ لم أجد عنه في ‏{‏لَّقَدْ كُنتَ‏}‏ الكسر فإن كسر فيه أيضاً وإن فتح يكون قد حمل ذلك على لفظ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ وحمل الكسر فيما بعده على معناه لإضافته إلى ‏{‏نَفْسٌ‏}‏ وهو مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَهُ أَجْرُهُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏ وقوله سبحانه بعده ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 112‏]‏ انتهى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ قَرِينُهُ‏}‏ أي شيطانه المقيض له في الدنيا كما قال مجاهد، وفي الحديث «ما من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله قال‏:‏ ولا أنا إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» ‏{‏هذا مَا لَدَىَّ عَتِيدٌ‏}‏ إشارة إلى الشخص الكافر نفسه أي هذا ما عندي وفي ملكتي عتيد لجهنم قد هيأته لها بإغوائي وإضلالي، ولا ينافي هذا ما حكاه سبحانه عن القرين في قوله تعالى الآتي‏:‏ ‏{‏وَقَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 27‏]‏ لأن هذا نظير قول الشيطان‏:‏ ‏{‏وَلاَضِلَّنَّهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 119‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏ وذاك نظير قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وقال قتادة‏.‏ وابن زيد‏:‏ قرينه الملك الموكل بسوقه يقول مشيراً إليه‏:‏ هذا ما لدى حاضر، وقال الحسن‏:‏ هو كاتب سيئاته يقول مشيراً إلى ما في صحيفته أي هذا مكتوب عندي عتيد مهيأ للعرض، وقيل‏:‏ قرينه هنا عمله قلباً وجوارح وليس بشيء، و‏{‏مَا‏}‏ نكرة موصوفة بالظرف وبعتيد أوموصولة والظرف صلتها و‏{‏عَتِيدٌ‏}‏ خبر بعد خبر لاسم الإشارة أو خبر لمبتدأ محذوف، وجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏مَا‏}‏ بناء على أنه يجوز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم توصف إذا حصلت الفائدة بإبدالها، وأما تقديره بشيء عتيد على أن البدل هو الموصوف المحذوف الذي قامت صفته مقامه أو إن ‏{‏مَا‏}‏ الموصولة لإبهامها أشبهت النكرة فجاز إبدالها منها فقيل عليه إنه ضعيف لما يلزم الأول من حذف البدل وقد أباه النحاة، والثاني لا يقول به من يشترط النعت فهو صلح من غير تراضي الخصمين‏.‏ وقرأ عبد الله ‏{‏عتيداً‏}‏ بالنصب على الحال‏.‏