فصل: تفسير الآية رقم (26)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي المسؤولون وهم كل واحد منهم في الحقيقة ‏{‏إِنَّا كُنَّا قَبْلُ‏}‏ أي قبل هذا الحال ‏{‏فِى أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ‏}‏ أرقاء القلوب خائفين من عصيان الله عز وجل معتنين بطاعته سبحانه، أو وجلين من العاقبة، و‏{‏فِى أَهْلِنَا‏}‏ قيل‏:‏ يحتمل أنه كناية عن كون ذلك في الدنيا، ويحتمل أن يكون بياناً لكون إشفاقهم كان فيهم وفي أهلهم لتبعيتهم لهم في العادة ويكون قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنَّ الله عَلَيْنَا‏}‏ أي بالرحمة والتوفيق ‏{‏ووقانا عَذَابَ السموم‏}‏ أي عذاب النار النافذة في المسام نفوذ السموم وهو الريح الحارة المعروفة، ووجه الشبه وإن كان في النار أقوى لكنه في ريح السموم لمشاهدته في الدنيا أعرف فلذا جعل مشبهاً به، وقال الحسن‏:‏ ‏{‏السموم‏}‏ اسم من أسماء جهنم عاماً لهم ولأهلهم، فالمراد بيان ما منّ الله تعالى به عليهم من اتباع أهلهم لهم، وقيل‏:‏ ذكر ‏{‏فِى أَهْلِنَا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 26‏]‏ لإثبات خوفهم في سائر الأوقات والأحوال بطريق الأولى فإن كونهم بين أهليهم مظنة الأمن ولا أرى فيه بأساً، نعم كون ذلك لأن السؤال عما اختصوا به من الكرامة دون أهليهم ليس بشيء، وقيل‏:‏ لعل الأولى أن يجعل ذلك إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى كما أن قوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ‏}‏ إلى آخره إشارة إلى التعظيم لأمر الله تعالى وترك العاطف بجعل الثاني بياناً للأول ادعاءاً للمبالغة في وجوب عدم انفكاك كل منهما للآخر ولا يخفى ما فيه، والذي يظهر أن هذا إشارة إلى الرجاء وترك العطف لقصد تعداد ما كانوا عليه أي إنا كنا من قبل ذلك نعبده تعالى ونسأله الوقاية ‏{‏إِنَّهُ هُوَ البر‏}‏ أي المحسن كما يدل عليه اشتقاقه من البر بسائر مواده لأنها ترجع إلى الإحسان كبرّ في يمينه أي صدق لأن الصدق إحسان في ذاته ويلزمه الإحسان للغير، وأبرّ الله تعالى حجة أي قبله لأن القبول إحسان وزيادة، وأبرّ فلان على أصحابه أي علاهم لأنه غالباً ينشأ عن الإحسان لهم فتفسيره باللطيف كما روي عن ابن عباس، أو العالي في صفاته، أو خالق البرّ، أو الصادق فيما وعد أولياءه كما روي عن ابن جريج بعيد إلا أن يراد بعض ما صدقات، أو غايات ذلك البر‏؟‏ ‏{‏الرحيم‏}‏ الكثير الرحمة الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب، وقرأ أبو حيوة ‏{‏ووقانا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 27‏]‏ بتشديد القاف، والحسن‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ ونافع‏.‏ والكسائي ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ بفتح الهمزة لتقدير لام الجر التعليلية قبلها أي لأنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏فَذَكّرْ‏}‏ فاثبت على ما أنت عليه من التذكير بما أنزل عليك من الآيات والذكر الحكيم ولا تكترث بما يقولون مما لا خير فيه من الأباطيل‏.‏

‏{‏فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبّكَ بكاهن‏}‏ هو الذي يخبر بالغيب بضرب من الظن، وخص الراغب الكاهن بمن يخبر بالأخبار الماضية الخفية كذلك، والعرّاف بمن يخبر بالأخبار المستقبلة كذلك، والمشهور في الكهانة الاستمداد من الجن في الإخبار عن الغيب، والباء في ‏{‏بكاهن‏}‏ مزيدة للتأكيد أي ما أنت كاهن ‏{‏وَلاَ مَجْنُونٍ‏}‏ واختلف في باء ‏{‏بِنِعْمَتِ‏}‏ فقال أبو الباقء‏:‏ للملابسة؛ والجار والمجرور في موضع الحال والعامل فيه كاهن، أو مجنون، والتقدير ما أنت كاهن ولا مجنون ملتبساً بنعمة ربك وهي حال لازمة لأنه عليه الصلاة والسلام ما زال ملتبساً بنعمة ربه عز وجل، وقيل‏:‏ للقسم فنعمة ربك مقسم به، وجواب القسم ما علم من الكلام وهو ما أنت بكاهن ولا مجنون وهذا كما تقول‏:‏ ما زيد والله بقائم وهو بعيد، والأقرب عندي أن الباء للسببية وهو متعلق بمضمون الكلام، والمعنى انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله تعالى عليك، وهذا كما تقول ما أنا معسر بحمد الله تعالى وإغنائه، والمراد الرد على قائل ذلك، وإبطال مقالتهم فيه عليه الصلاة والسلام وإلا فلا امتنان عليه صلى الله عليه وسلم بانتفاء ما ذكر مع انتفائه عن أكثر الناس، وقيل‏:‏ الامتنان بانتفاء ذلك بسبب النعمة المراد بها ما أوتيه صلى الله عليه وسلم من صدق النبوة ورجاحة العقل التي لم يؤتها أحد قبله، والقائلون بذلك هم الكفرة قاتلهم الله تعالى أنى يؤفكون، وممن قال كاهن‏:‏ شيبة بن ربيعة، وممن قال مجنون‏:‏ عقبة بن أبي معيط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ‏}‏ أي بل أيقولون ‏{‏شَاعِرٌ‏}‏ أي هو شاعر ‏{‏نَتَرَبَّصُ‏}‏ أي ننتظر ‏{‏بِهِ رَيْبَ المنون‏}‏ أي الدهر، وهو فعول من المنّ بمعنى القطع لأنه يقطع الأعمار وغيرها، ومنه حبل منين أي مقطوع، والريب مصدر رابه إذا أقلقه أريد به حوادث الدهر وصروفه لأنها تقلق النفوس وعبر عنها بالمصدر مبالغة، وجوز أن يكون من راب عليه الدهر أي نزل، والمراد بنزوله إهلاكه، وتفسير المنون بالدهر مروى عن مجاهد‏.‏ وعليه قول الشاعر‏:‏ «تربص بها ريب المنون» لعلها *** تطلق يوماً أو يموت حليلها

وبيت أبي ذؤيب‏.‏ أمن «المنون وريبة» يتوجع *** والدهر ليس بمعتب من يجزع

قيل‏:‏ ظاهره ذلك؛ وكذلك قول الأعشى‏:‏ أأن رأت رجلاً أعضى أضرّ به *** «ريب المنون» ودهر متبل خبل

ولهذا أنشده الجوهري شاهداً له، وأخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن ابن عباس تفسيره بالموت وهو مشتكر بين المعنيين فقد قال المرزوقي في شرح بيت أبي ذؤيب المار آنفاً‏:‏ المنون قد يراد به الدهر فيذكر وتكون الرواية ريبه، وقد يراد به المنية فيؤنث، وقد روى ريبها، وقد يرجع له ضمير الجمع لقصد أنواع المنايا وريبها نزولها انتهى فلا تغفل، وهو أيضاً من المنّ بمعنى القطع فإنها قاطعة الأماني واللذات، ولذا قيل‏:‏ المنية تقطع الأمنية، وريب المنون عليه نزول المنية، وجوز أن يكون بمعنى حادث الموت على أن الإضافة بيانية، روي أن قريشاً اجتمعت في دار الندوة وكثرت آراؤهم فيه عليه الصلاة والسلام حتى قال قائل منهم وهم بنو عبد الدار كما قال الضحاك تربصوا به ريب المنون فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير‏.‏ والنابغة‏.‏ والأعمشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت، وقرأ زيد بن علي ‏{‏يتربص‏}‏ بالياء مبنياً للمفعول، وقرىء ‏{‏بِهِ رَيْبَ‏}‏ بالرفع على النيابة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ تَرَبَّصُواْ‏}‏ تهكم بهم، وتهديد لهم ‏{‏فَإِنّى مَعَكُمْ مّنَ المتربصين‏}‏ أتربص هلاككم كما تتربصون هلاكي، وفيه عدة كريمة بإهلاكهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم‏}‏ أي عقولهم وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهي وذلك على ما قال الجاحظ لأن جميع العالم يأتونهم ويخالطونهم وبذلك يكمل العقل وهو يكمل بالمسافرة وزيادة رؤية البلاد المختلفة والأماكن المتباينة ومصاحبة ذوي الأخلاق المتفاوتة وقد حصل لهم الغرض بدون مشقة، وقيل لعمرو بن العاص‏:‏ ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله تعالى بالعقل‏؟‏ا فقال‏:‏ تلك عقول كادها الله عز وجل أي لم يصحبها التوفيق فلذا لم يؤمنوا وكفروا وأنا لا أرى في الآية دلالة على رجحان عقولهم ولعلها تدل على ضد ذلك ‏{‏بهذا‏}‏ التناقص في المقال فإن الكاهن والشاعر يكونان ذا عقل تام وفطنة وقادة والمجنون مغطى عقله مختل فكره وهذا يعرب عن أن القوم لتحيرهم وعصبيتهم وقعوا في حيص بيص حتى اضطربت عقولهم وتناقضت أقوالهم وكذبوا أنفسهم من حيث لا يشعرون، وأمر الأحلام بذلك مجاز عن التأدية إليه بعلاقة السببية كما قيل، وقيل‏:‏ جعلت الأحلام آمرة على الاستعارة المكنية فتشبه الأحلام بسلطان مطاع تشبيهاً مضمراً في النفس، وتثبت له الأمر على طريق التخييل ‏{‏أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏ مجاوزون الحدود في المكابرة والعناد لا يحومون حول الرشد والسداد ولذلك يقولون ما يقولون من الأكاذيب المحضة الخارجة عن دائرة العقول، وقرأ مجاهد ‏{‏بَلْ هُمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ‏}‏ أي اختلقه من تلقاء نفسه‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ معناه قال‏:‏ عن الغير أنه قاله فهو عبارة عن كذب مخصوص، وضمير المفعول للقرآن ‏{‏بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ فلكفرهم وعنادهم يرمون بهذه الأباطيل كيف لا وما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا واحد من العرب فكيف أتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مّثْلِهِ‏}‏ مماثل القرآن في النعوت التي استقل بها من حيث النظم ومن حيث المعنى ‏{‏إِن كَانُواْ صادقين‏}‏ فيما زعموا فإن صدقهم في ذلك يستدعي قدرتهم على الإتيان بمثله بقضية مشاركتهم له عليه الصلاة والسلام في البشرية والعربية مع ما بهم من طول الممارسة للخطب والإشعار، وكثرة المزاولة لأساليب النظم والنثر، والمبالغة في حفظ الوقائع والأيام؛ ولا ريب في أن القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به ودواعي الأمر بذلك، فالكلام ردّ للأقوال المذكورة في حقه عليه الصلاة والسلام، والقرآن بالتحدي فإذا تحدوا وعجزوا علم رد ما قالوه وصحة المدعى، وجوز أن يكون ردّاً لزعمهم التقول خاصة فإن غيره مما تقدم حتى الكهانة كما لا يخفى أظهر فساداً منه ومع ذلك إذا ظهر فساد زعم التقول ظهر فساد غيره بطريق اللزوم، وقرأ الجحدري، وأبو السمال بحديث مثله على الإضافة أي بحديث رجل مثل الرسول صلى الله عليه وسلم في كونه أمياً لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحداً منهم فلا يعْوِز أن يكون في العرب مثله في الفصاحة فليأت بمثل ما أتى به ولن يقدر على ذلك أبداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَىْء‏}‏ أي أم أحدثوا وقدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر وخالق، وقال الطبري‏:‏ المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون ولا ينهون كالجمادات، وقيل‏:‏ المعنى أم خلقوا من غير علة ولا لغاية ثواب وعقاب فهم لذلك لا يسمعون، و‏{‏مِنْ‏}‏ عليه للسببية، وعلى ما تقدم لابتداء الغاية والمعول عليه من الأقوال ما قدمنا، وسيأتي إن شاء الله تعالى زيادة إيضاح له، ويؤيده قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمْ هُمُ الخالقون‏}‏ أي الذين خلقوا أنفسهم فلذلك لا يعبدون الله عز وجل ولا يلتفتون إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إذ على القولين لا يظهر حسن المقابلة، وإرادة خلقوا أنفسهم يشعر به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ خَلَقُواْ السموات والارض‏}‏‏.‏ إذ لو أريد العموم لعدم ذكر المفعول لم يظهر حسن المقابلة أيضاً، وقال ابن عطية‏:‏ المراد أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خص من تلك الأشياء السموات والأرض لعظمهما وشرفهما في المخلوقات وفيه ما سمعته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏بَل لاَّ يُوقِنُونَ‏}‏ أي إذا سئلوا من خلقكم وخلق السموات والأرض‏؟‏ قالوا‏:‏ الله وهم غير موقنين بما قالوا إذ لو كانوا موقنين لما أعرضوا عن عبادته تعالى فإن من عرف خالقه وأيقن به امتثل أمره وانقاد له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبّكَ‏}‏ أي خزائن رزقه تعالى ورحمته حتى يرزقوا النبوة من شاءوا، ويمسكوها عمن شاءوا، وقال الرماني‏:‏ خزائنه تعالى مقدوراته سبحانه، وقال ابن عطية‏:‏ المعنى أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى عن جميع الأمور لأن المال والصحة والعزة وغير ذلك من الأشياء من خزائن الله تعالى، وقال الزهري‏:‏ يريد بالخزائن العلم واستحسنه أبو حيان، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يعلم حاله منه‏.‏

‏{‏أَمْ هُمُ‏}‏ الأرباب الغالبون حتى يدبروا أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم فالمسيطر الغالب، وفي معناه قول ابن عباس‏:‏ المسلط القاهر وهو من سيطر على كذا إذا راقبه وأقام عليه وليس مصغراً كما يتوهم ولم يأت على هذه الزنة إلا خمسة ألفاظ أربعة من الصفات، وهي مهيمن‏.‏ ومسيطر‏.‏ ومبيقر‏.‏ ومبيطر، وواحد من الأسماء، وهو مجيمر اسم جبل، وقرأ الأكثر ‏{‏المصيطرون‏}‏ بالصاد لمكان حرف الاستعلاء وهو الطاء، وأشم خلف عن حمزة وخلاد عنه بخلاف الزاي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏المسيطرون أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ‏}‏ هو ما يتوصل به إلى الأمكنة العالية فيرجى به السلامة ثم جعل اسماً لكل ما يتوصل به إلى شيء رفيع كالسبب أي أم لهم سلم منصوب إلى السماء‏.‏

‏{‏يَسْتَمِعُونَ فِيهِ‏}‏ أي صاعدين فيه على أن الجار والمجرور متعلق بكون خاص محذوف وقع حالاً والظرفية على حقيقتها، وقيل‏:‏ هو متعلق بيستمعون على تضمينه معنى الصعود‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ أي يستمعون عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسدّ بعضها مسدّ بعض ومفعول ‏{‏يَسْتَمِعُونَ‏}‏ محذوف أي كلام الله تعالى، قيل‏:‏ ولو نزل منزلة اللازم جاز ‏{‏فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ أي بحجة واضحة تصدق استماعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون‏}‏ تسفيه لهم وتركيك لعقولهم، وفيه إيذان بأن من هذا رأيه لا يكاد يعدّ من العقلاء فضلاً عن الترقي إلى عالم الملكوت وسماع كلام ذي العزة والجبروت والالتفات إلى الخطاب لتشديد الإنكار والتوبيخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً‏}‏ أي على تبليغ الرسالة وهو رجوع إلى خطابه صلى الله عليه وسلم وإعراض عنهم ‏{‏فَهُمُ‏}‏ لأجل ذلك ‏{‏مّن مَّغْرَمٍ‏}‏ مصدر ميمي من الغرم والغرامة وهو كما قال الراغب ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه، فالكلام بتقدير مضاف أي من التزام مغرم، وفسره الزمخشري بالتزام الإنسان ما ليس عليه فلا حاجة إلى تقدير لكن الذي تقتضيه اللغة هو الأول ‏{‏مُّثْقَلُونَ‏}‏ أي محمولن الثقل فلذلك لا يتبعونك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ عِندَهُمُ الغيب‏}‏ أي اللوح المحفوظ المثبت فيه الغيوب ‏{‏فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ منه ويخبرون به الناس قاله ابن عباس وقال ابن عطية‏:‏ أم عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما يزعمون للناس شرعاً، وذلك عبادة الأوثان وتسبيب السوائب وغير ذلك من سيرهم، وقال قتادة‏:‏ ‏{‏أَمْ عِندَهُمُ الغيب‏}‏ فهم يعلمون متى يموت محمد صلى الله عليه وسلم الذي يتربصون به، وفسر بعضهم ‏{‏يَكْتُبُونَ‏}‏ بيحكمون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً‏}‏ بك وبشرعك وهو ما كان منهم في حقه صلى الله عليه وسلم بدار الندوة مما هو معلوم من السير، وهذا من الإخبار بالغيب فإن قصة دار الندوة وقعت في وقت الهجرة وكان نزول السورة قبلها كما تدل عليه الآثار ‏{‏فالذين كَفَرُواْ‏}‏ هم المذكورون المريدون كيده عليه الصلاة والسلام، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بما في حيز الصلة من الكفر وتعليل الحكم به، وجوز أن يراد جميع الكفرة وهم داخلون فيه دخولاً أولياً ‏{‏هُمُ المكيدون‏}‏ أي الذين يحيق بهم كيدهم ويعود عليهم وباله لا من أرادوا أن يكيدوه وكان وباله في حق أولئك قتلهم يوم بدر في السنة الخامسة عشر من النبوة قيل‏:‏ ولذا وقعت كلمة ‏{‏أَمْ‏}‏ مكررة هنا خمس عشرة مرة للإشارة لما ذكر، ومثله على ما قال الشهاب‏:‏ لا يستبعد من المعجزات القرآنية وإن كان الانتقال لمثله خفي ومناسبته أخفى، وجوز أن يكون المعنى هم المغلوبون في الكيد من كايدته فكدته ‏{‏أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله‏}‏ يعينهم ويحرسهم من عذابه عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏سبحان الله عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي عن إشراكهم على أن ما مصدرية، أو عن شركة الذي يشركونه على أنها موصولة وقبلها مضاف مقدر والعائد محذوف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً‏}‏ قطعة فهو مفرد وقد قرىء في جميع القرآن كسفاً وكسفاً جمعاً وإفراداً إلا هنا فإنه على الإفراد وحده، وتنوينه للتفخيم أي وإن يروا كسفاً عظيما ‏{‏مّنَ السماء ساقطا‏}‏ لتعذيبهم ‏{‏يَقُولُواْ‏}‏ من فرط طغيانهم وعنادهم ‏{‏سَحَابٌ‏}‏ أي هو سحاب ‏{‏مَّرْكُومٌ‏}‏ متراكم ملقى بعضه على بعض أي هم في الطغيان بحيث لو أسقطنا عليهم حسبما قالوا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً لقالوا هو سحاب متراكم يمطرنا ولم يصدقوا أنه كسف ساقط لعذابهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏فَذَرْهُمْ‏}‏ فدعهم غير مكترث بهم وهو على ما في «البحر» أمر موادعة منسوخ بآية السيف ‏{‏حتى يلاقوا‏}‏ وقرأ أبو حيوة يلقوا مضارع لقي ‏{‏يَوْمَهُمُ الذى فِيهِ يُصْعَقُونَ‏}‏ على البناء للمفعول وهي قراءة عاصم‏.‏ وابن عامر‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وأهل مكة في قول شبل بن عباد‏:‏ من صعقته الصاعقة، أو من أصعقته، وقرأ الجمهور وأهل مكة في قول إسماعيل‏:‏ يصعقون بفتح الياء والعين، والسلمى بضم الياء وكسر العين من أصعق رباعياً، والمراد بذلك اليوم يوم بدر، وقيل‏:‏ وقت النفخة الأولى فإنه يصعق فيه من في السموات ومن في الأرض، وتعقب بأنه لا يصعق فيه إلا من كان حياً حينئذٍ وهؤلاء ليسوا كذلك وبأن قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ لاَ يُغْنِى عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً‏}‏ أي شيئاً من الإغناء بدل من ‏{‏يومهم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 45‏]‏، ولا يخفى أن التعرّض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعي استعمالهم له طمعاً بالانتفاع به وليس ذلك إلا ما دبروه في أمره صلى الله عليه وسلم من الكيد الذي من جملته مناصبتهم يوم بدر، وأما النفخة الأولى فليست مما يجري في مدافعته الكيد والحيل، وأجيب عن الأول بمنع اختصاص الصعق بالحي فالموتى أيضاً يصعقون وهم داخلون في عموم ‏{‏مِنْ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏ وإن لم يكن صعقهم مثل صعق الأحياء من كل وجه وهو خلاف الظاهر فيحتاج إلى نقل صحيح، وعن الثاني بأن الكلام على نهج قوله‏:‏ على لا حب لا يهتدى بمناره *** فالمعنى يوم لا يكون لهم كيد ولا إغناء وهو كثير في القرآن وباب من أبواب البلاغة والإحسان، وقيل‏:‏ هو يوم القيامة وعليه الجمهور وفي بحث، وقيل‏:‏ هو يوم موتهم، وتعقب بأن فيه ما فيه مع أنه تأباه الإضافة المنبئة عن اختصاصه بهم فلا تغفل ‏{‏وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ‏}‏ من جهة الغير في دفع العذاب عنهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏ أي لهم ووضع الموصول موضع الضمير لما ذكر قبل وجوز العموم وهم داخلون دخولاً أولياً ‏{‏عَذَاباً‏}‏ آخر ‏{‏دُونِ ذَلِكَ‏}‏ دون ما لاقوه من القتل أي قبله وهو كما قال مجاهد القحط الذي أصابهم سبع سنين‏.‏

وعن ابن عباس هو ما كان عليهم يوم بدر والفتح، وفسر ‏{‏دُونِ ذَلِكَ‏}‏ بقبل يوم القيامة بناءاً على كون يومهم الذي فيه يصعقون ذلك، وعنه أيضاً‏.‏ وعن البراء بن عازب أنه عذاب القبر وهو مبني على نحو ذلك التفسير، وذهب إليه بعضهم بناءاً على أن ‏{‏دُونِ ذَلِكَ‏}‏ بمعنى وراء ذلك كما في قوله‏:‏ يريك القذى من دونها وهو دونها *** وإذا فسر اليوم بيوم القيامة ونحوه، و‏{‏دُونِ ذَلِكَ‏}‏ بقبله، وأريد العموم من الموصول فهذا العذاب عذاب القبر، أو المصائب الدنيوية، وفي مصحف عبد الله دون ذلك قريباً ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ إن الأمر كما ذكر، وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك وإنما يصر على الكفر عناداً، أو لا يعلمون شيئاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏واصبر لِحُكْمِ رَبّكَ‏}‏ بإمهالهم إلى يومهم الموعود وإبقائك فيما بينهم مع مقاساة الأحزان ومعاناة الهموم ‏{‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ أي في حفظنا وحراستنا، فالعين مجاز عن الحفظ، ويتجوز بها أيضاً عن الحافظ وهو مجاز مشهور، وفي «الكشاف» هو مثل أي بحيث نراك ونكلؤك، وجمع العين هنا لإضافته إلى ضمير الجمع ووحد في ‏{‏طه‏}‏ لإضافته إلى ضمير الواحد، ولوح الزمخشري في سورة المؤمنين إلى أن فائدة الجمع الدلالة على المبالغة في الحفظ كأن معه من الله تعالى حفاظاً يكلؤونه بأعينهم، وقال العلامة الطيبي‏:‏ إنه أفرد هنالك لإفراد الفعل وهو كلاءة موسى عليه السلام، وههنا لما كان لتصبير الحبيب على المكايد ومشاق التكاليف والطاعات ناسب الجمع لأنها أفعال كثيرة كل منها يحتاج إلى حراسة منه عز وجل انتهى، ومن نظر بعين بصيرته علم من الآيتين الفرق بين الحبيب والكليم عليهما أفضل الصلاة وأكل التسليم، ثم إن الكلام في نظير هذا على مذهب السلف مشهور، وقرأ أبو السمال بأعينا بنون مشددة ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ‏}‏ أي قل سبحان الله ملتبساً بحمده تعالى على نعمائه الفائتة الحصر، والمراد سبحه تعالى واحمده ‏{‏حِينَ تَقُومُ‏}‏ من كل مجلس قاله عطاء‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن جبير، وقد صح من رواية أبي داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وغيرهما عن أبي بزرة الأسلمي ‏"‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا أراد أن يقوم من المجلس‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك فسئل عن ذلك فقال‏:‏ كفارة لما يكون في المجلس ‏"‏ والآثار في ذلك كثيرة، وقيل‏:‏ حين تقوم إلى الصلاة، أخرج أبو عبيد‏.‏ وابن المنذر عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ ‏"‏ حق على كل مسلم حين يقوم إلى الصلاة أن يقول‏:‏ سبحان الله وبحمده لأن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ ‏"‏ وأخرج سعيد بن منصور وغيره عن الضحاك أنه قال في الآية‏:‏ حين تقوم إلى صلاة تقول هؤلاء الكلمات ‏"‏ سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك ‏"‏ وحكاه في «البحر» عن ابن عباس؛ وأخرج عنه ابن مردويه أنه قال‏:‏ ‏"‏ سبح بحمد ربك حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل في الصلاة ‏"‏ وروي نحوه عن ابن السائب، وقال زيد أسلم‏:‏ ‏"‏ حين تقوم من القائلة والتسبيح إذ ذاك هو صلاة الظهر ‏"‏ وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ‏}‏ إفراد لبعض الليل بالتسبيح لما أن العبادة فيه أشق على النفس وأبعد عن الرياء كما يلوح به تقديمه على الفعل ‏{‏وإدبار النجوم‏}‏ أي وقت إدبارها من آخر الليل أي غيبتها بضوء الصباح، وقيل‏:‏ التسبيح من الليل صلاة المغرب والعشاء، ‏{‏وإدبار النجوم‏}‏ ركعتا الفجر، وعن عمر رضي الله تعالى عنه‏.‏ وعلي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وأبي هريرة‏.‏ والحسن رضي الله تعالى عنهما التسبيح من الليل النوافل، و‏{‏فِى النجوم‏}‏ ركعتا الفجر، وقرأ سالم بن أبي الجعد‏.‏ والمنهار بن عمرو‏.‏ ويعقوب أدبار بفتح الهمزة جمع دبر بمعنى عقب أي في أعقابها إذا غربت، أو خفيت بشعاع الشمس‏.‏

هذا ونظم الآيات من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 30 43‏]‏ الخ فيه غرابة ولم أر أحداً كشف عن لثامه ك «صاحب الكشف» جزاه الله تعالى خيراً، ولغاية حسنه وكونه مما لا مزيد عليه أحببت نقله بحذافيره لكن مع اختصار مّا، فأقول‏:‏ قال‏:‏ أومأ الزمخشري إلى وجهين في ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ قَالُواْ أضغاث أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه بَلْ هُوَ شَاعِرٌ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 5‏]‏ أحدهما‏:‏ أنه حكاية قولهم المضطرب على وجهه، والثاني‏:‏ أنه تدرج منه سبحانه في حكاية ما قالوه من المنكر إلى ما هو أدخل فيه، والأول ضعيف فيما نحن فيه لأن ما سيق له الكلام ليس اضطراب أقوالهم فتحكى على ما هي عليه بل تسليته عليه الصلاة والسلام وأنه لا محالة ينتقم له منهم وأن العذاب المكذب به واقع بهم جزاءاً لتكذيبهم بالمنبىء والنبأ والمنبأ به، فالمتعين هو الثاني، ووجهه والله تعالى أعلم أن قوله‏:‏ ‏{‏فَذَكّرْ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 29‏]‏ معناه إذ ثبت كون العذاب واقعاً وكون الفريقين المصدقين والمكذبين مجزيين بأعمالهم، وإنك على الحق المبين الذي من كذب به استحق الهوان، ومن صدق استحق الرضوان فدم على التذكير ولا تبال بما تكايد فإنك أنت الغالب حجة وسيفاً في هذه الدار، ومنزلة ورفعة في دار القرار، ومن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا أَنتَ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هُمُ المكيدون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 29 42‏]‏ تفصيل هذا المجمل مع التعريض بفساد مقالاتهم الحمقاء وأنهم بمرأى من الله تعالى ومسمع فلا محالة ينتقم لنبيه عليه الصلاة والسلام منهم، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى بمكان لا يقادر قدره فهو شدّ من عضد التسلي، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 29‏]‏ الخ فيه أن من أنعم عليه بالنبوة يستحيل أن يكون أحد هذين، وبدأ بقولهم المتناقض لينبه أولاً على فساد آرائهم ويجعله دستوراً في إعراضهم عن الحق وإيثار اتباع أهوائهم فما أبعد حال من كان أتقنهم رأياً وأرجحهم عقلاً وأبينهم آياً منذ ترعرع إلى أن بلغ الأشدّ عن الجنون والكهانة على أنهما متناقضان لأن الكهان كانوا عندهم من كامليهم وكان قولهم إماماً متبعاً عندهم فأين الكهانة من الجنون، ثم ترقى مضرباً إلى قولهم فيه وحاشاه صلى الله عليه وسلم أنه شاعر لأنه أدخل في الكذب من الكاهن والمجنون وقدماً قيل‏:‏ أحسن الشعر أكذبه ليبين حال تلجلجهم واضطرابهم، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏قُلْ تَرَبَّصُواْ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 31‏]‏ من باب المجازاة بمثل صنيعهم وفيه تتميم للوعيد، فهذا باب من إنكارهم هدمه سبحانه أولاً تلويحاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِنِعْمَةِ رَبّكَ‏}‏ وثانياً تصريحاً بقوله جل وعلا‏.‏ ‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أحلامهم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 32‏]‏ كأنه قيل دعهم وتلك المقالة وما فيها من الاضطراب ففيها عبرة، ثم قيل‏:‏ لا بل ذلك من طغيانهم لأنه أدخل في الذم من نقصان العقل وأبلغ في التسلية لأن من طغى على الله عز وجل فقد باء بغضبه، ثم أخذ في باب أوغل في الإنكار وهو نسبة الافتراء إليه صلى الله عليه وسلم وذلك لأن الافتراء أبعد شيء من حاله لاشتهاره بالصدق على أن كونه افتراءاً وعجزهم عن الاتيان بأقصر سورة من هذا المفتري متنافيان لدلالته على الصدق على ما مر في الأحقاف ولأن الشاعر لا يتعمد الكذب لذاته، ثم قد يكون شعره حكماً ومواعظ وهو لا ينسب فيه إلى عار، والتدرج عن الشعر ههنا عكس التدرج إليه في الأنبياء لأن بناء الكلام ههنا على التدرج في المناقضة والتوغل في القدح فيه عليه الصلاة والسلام ونفي رسالته، وهنالك عن القدح في بعض من الذكر متجدد النزول فقيل‏:‏ إن افتراءه لا يبعد ممن هو شاعر ذو افتراءآت كثيرة، وأين هذا من ذاك‏؟‏ وللتنبيه على التوغل جيء بصريح حرف الإضراب في الرد فقيل‏:‏ ‏{‏بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 33‏]‏ وعقب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتُواْ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 34‏]‏ ثم من لا يؤمن أشد إنكاراً له من الطاغي كما أن المفتري أدخل في الكذب من الشاعر، ثم أخذ في أسلوب أبلغ في الرد على مقالاتهم الجنون والكهانة لتقاربهما، ثم الشعر، ثم الافتراء حيث نزل القائلين منزلة من يدعي أنه خلق من غير شيء أي مقدر وخالق وإلا لأهمهم البحث عن صفاته وأفعاله فلم ينكروا منك ما أنكروا، ومن حسب أنه مستغن عن الموجد نسب رسوله إلى الجنون والكهانة لا بل كمن يدعي أنه خالق نفسه فلا خالق له ليبحث عن صفاته فهو ينسبه إلى الشعر إذ لا يرسل إليه البتة، والشعر أدخل في الكذب لا بل كمن يدعي أنه خلق السموات والأرض وما بينهما فهو ينسبه إلى الافتراء حيث لم يرسله، ثم أضرب صريحاً عنه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَل لاَّ يُوقِنُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 36‏]‏ ومن لا إيقان له بمثل هذا البديهي لا يبعد أن يزنك بما زن، فكأنه قيل‏:‏ مقالتهم تلك تؤدي إلى هذه لا أنهم كانوا قائلين بها إظهاراً لتماديهم في العناد، ثم بولغ فيه فجيء بما يدل على أن الرسول لا بد أن يكون مفترياً غير صالح للنبوة في زعمهم، فالأول‏:‏ لما لم يمنع تعدد الآلهة إنما يدل على افترائه من حيث أن أحد الخالقين لا يدعو الآخر إلى عبادته، والثاني‏:‏ يمنعه بالكلية لأنه إذا كان عندهم جميع خزائن ربه وهم ما أرسلوه لزم أن يكون مفترياً ألبتة، وأدمح فيه إنكارهم للمعاد، ونسبتهم إياه صلى الله عليه وسلم في ذلك أيضاً خاصة إلى الافتراء، والحمل على خزائن القدرة أظهر لأن

‏{‏أَمْ عِندَهُمُ الغيب‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 41‏]‏ إشارة إلى خزائن العلم ولما كان المقصود هنالك أمر البعث على ما سيحقق إن شاء الله تعالى كان هذا القول أيضاً من القبول بمكان ولا يخفى ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ هُمُ المسيطرون‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 37‏]‏ من الترقي ثم لما فرغ من ذلك وبين فساد ما بنوا عليه أمر الإنكار بدليل العقل قيل‏:‏ لم يبق إلا المشاهدة والسماع منه تعالى وهو أظهر استحالة فتهكم بهم، وقيل‏:‏ بل ‏{‏لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 83‏]‏ وذيل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُ البنات‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 39‏]‏ إشعاراً بأن من جعل خالقه أدون حالاً منه لم يستبعد منه تلك المقالات الخرقاء كأنه سلى صلى الله عليه وسلم؛ وقيل‏:‏ ناهيك بتساوي الطعنين في البطلان وبما يلقون من سوء مغبتهما، ثم قيل‏:‏ ‏{‏أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 40‏]‏ أي إن القوم أرباب ألباب وليسوا من تلك الأوصاف في شيء بل الذي زهدهم فيك أنك تسألهم أجراً مالاً، أو جاهاً، أو ذكراً، وفيه تهكم بهم وذم لهم بالحسد واللؤم وأنهم مع قصور نظرهم عن أمر الميعاد لا يبنون الأمر على المتعارف المعتاد إذ لا أحد من أهل الدنيا وذوي الأخطار يجبه الناصح المبرأ ساحته عن لوث الطمع بتلك المقالات على أنه حسد لا موقع له عند ذويه فليسوا في أن يحصل لهم نعمة النبوة ولا هو ممن يطمع في نعمهم إحدى الثلاث، ثم قيل‏:‏ ‏{‏أَمْ عِندَهُمُ الغيب‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 41‏]‏ على معنى بل أعندهم اللوم فيعلمون كل ما هو كائن ويكتبون فيه تلك المعلومات وقد علموا أن ما تدعيه من المعاد ليس من الكائن المكتوب، والمقصود من هذا نفي المنبأ به أعني البعث على وجه يتضمن دفع النبوة أيضاً إدماجاً عكس الأول ولهذا أخره عن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 38‏]‏ فقد سلف أن مصب الغرض حديث النبأ والمنبأ والمنبأ به فقضى الوطر من الأولين مع الرمز إلى الأخير، ثم أخذ فيه مع الرمز إليهما قضاءاً لحق الإعجاز، ففي الغيب إشارة إلى الغيب أعني الساعة أول كل شيء وفيه ترق في الدفع من وجه أيضاً لأن العلم أشمل مورداً من القدرة ولأن الأول إنكار من حيث أنهم لم يرسلوه، وهذا من تلك الحيثية، ومن حيث أنهم ما علموا بإرسال غيره إياه أيضاً مع إحاطة علمهم لكنه غير مقصود قصداً أولياً، ثم ختم الكلام بالإضراب عن الإنكار إلى الاخبار عن حالهم بأنهم يريدون بك كيداً فهم ينصبون لك الحبائل قولاً وفعلاً لا يقفون على هذه المقالة وحدها وهم المكيدون لا أنت قولاً وفعلاً وحجة وسيفاً، وحقق ما ضمنه من الوعيد بقوله سبحانه‏:‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 43‏]‏ فينجيهم من كيده وعذابه لا والله سبحان الله عن أن يكون إليه غيره، ومنه يظهر أن حمل ‏{‏الذين كفروا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 42‏]‏ على المريدين به كيداً أظهر في هذا المساق انتهى، وكأن ما بعد تأكيداً لأمر طغيانهم ومزيد تحقيق للوعيد ومبالغة في التسلية، ويعلم مما ذكره لا زالت رحمة الله تعالى عليه متصلة أن ‏{‏أَمْ‏}‏ في كل ذلك منقطعة وهي مقدرة ببل الإضرابية، والإضراب ههنا واقع على سبيل الترقي وبالهمزة وهي للإنكار وهو ما اختاره أبو البقاء، وكثير من المفسرين، وحكى الثعلبي عن الخليل أنها متصلة والمراد بها الاستفهام، وعليك بما أفاده كلام ذلك الهمام والله تعالى أعلم‏.‏

ومما ذكروه من باب الإشارة في بعض الآيات‏:‏ ‏{‏والطور‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 1‏]‏ إشارة إلى قالب الإنسان ‏{‏وكتاب مُّسْطُورٍ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 2‏]‏ إشارة إلى سره ‏{‏فِى رَقّ مَّنْشُورٍ‏}‏ إشارة إلى قلبه ‏{‏البيت المعمور‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 4‏]‏ إشارة إلى روحه ‏{‏والسقف المرفوع‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 5‏]‏ إشارة إلى صفته ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 6‏]‏ إشارة إلى نفسه المسجورة بنيران الشهوة والغضب والكبر، وقيل‏:‏ الطور إشارة إلى ما طار من الأرواح من عالم القدس والملكوت حتى وقع في شباك عالم الملك والكتاب المسطور في الرق المنشور إشارة إلى النقوش الإلهية المدركة بأبصار البصائر القدسية المكتوبة في صحائف الآفاق ‏{‏والبيت المعمور‏}‏ إشارة إلى قلب المؤمن المعمور بالمعرفة والإخلاص ‏{‏والسقف المرفوع‏}‏ إشارة إلى العالم العلوي المرفوع عن أرض الطبيعة ‏{‏والبحر المسجور‏}‏ إشارة إلى بحث القدرة المملوء من أنواع المقدورات التي لا تتناهى، وقيل‏:‏ إشارة إلى الفضاء الذي فيه الملائكة المهيمون، ووصفه بالمسجور إما لأنه مملوء منهم، وإما لأنه سجر بنيران الهيام ولذا لا يعلم أحدهم بسوى الله عز وجل، وقيل‏:‏ غير ذلك ‏{‏فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لّلْمُكَذّبِينَ الذى هُمْ فِيهِ خَوْضٍ يَلْعَبُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 11، 12‏]‏ أي يخوضون في غمران البحر اللجي الدنيوي ويلعبون فيها بزبدها الباطل ومتاعها القليل ويكذبون المستخلصين عن الاكدار المتحلين بالأنوار إذ أنذروهم أن المتقين هم أضداد أولئك ‏{‏فاكهين بِمَا ءاتاهم رَبُّهُمْ‏}‏ مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ‏{‏ووقاهم رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 18‏]‏ وهو عذاب الحجاب ‏{‏كُلُواْ‏}‏ من ثمرات المعارف المختصة باللطيفة النفسية ‏{‏واشربوا‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 19‏]‏ من مياه العيون المختصة باللطيفة القلبية ‏{‏وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 48‏]‏ أي مقام العبودية ‏{‏وَمِنَ اليل فَسَبّحْهُ‏}‏ أي عند نزول السكينة عليك ‏{‏وإدبار النجوم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 94‏]‏ أي عند ظهور نور شمس الوجه، وتسبيحه سبحانه عند ذلك بالاحتراز عن إثبات وجود غير وجوده تعالى الحق فإن إثبات ذلك شرك مطلق في ذلك المقام أعاذنا الله تعالى وإياكم من الشرك بحرمة الحبيب عليه الصلاة والسلام‏.‏

‏[‏سورة النجم‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ‏(‏1‏)‏‏}‏

بسْم الله الرحمن الرحيم ‏{‏والنجم إِذَا هوى‏}‏ أقسم سبحانه بجنس النجم المعروف على ما روى عن الحسن ومعمر بن المثنى، ومنه قوله‏:‏ فباتت تعد النجم في مستحيرة *** سريع بأيدي الآكلين جمودها

ومعنى ‏{‏هوى‏}‏ غرب، وقيل‏:‏ طلع يقال هوى يهوى كرمى يرمي هوياً بالفتح في السقوط والغروب لمشابهته له؛ وهوياً بالضم للعلو، والطلوع، وقيل‏:‏ الهوى بالفتح للإصعار والهوى بالضم للانحدار؛ وقيل‏:‏ الهوى بالفتح والضم السقوط ويقال أهوى بمعنى هوى، وفرق بعض اللغويين بينهما بأن هوى إذا انقض لغير صيد، وأهوى إذا انقض له، وقال الحسن‏.‏ وأبو حمزة الثمالي‏:‏ أقسم سبحانه بالنجوم إذا انتثرت في القيامة، وعن ابن عباس في رواية أقسم عز وجل بالنجوم إذا انقضت في إثر الشياطين، وقيل‏:‏ المراد بالنجم معين فقال مجاهد‏.‏ وسفيان‏:‏ هو الثريا فإن النجم صار علماً بالغلبة لها، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا طلع النجم صباحاً ارتفعت العاهة» وقول العرب‏:‏ طلع النجم عشاءاً فابتغى الراعي كساء، طلع النجم غدية فابتغي الراعي كسية وفسر هويها بسقوطها مع الفجر، وقيل‏:‏ هو الشعري المرادة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 49‏]‏ والكهان يتكلمون على المغيبات عند طلوعها، وقيل‏:‏ الزهرة وكانت تعبد، وقال ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ والفراء‏.‏ ومنذر بن سعيد‏:‏ ‏{‏الطارق النجم‏}‏ المقدار النازل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَإِذَا هوى‏}‏ بمعنى إذا نزل عليه مع ملك الوحي جبريل عليه والسلام، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه‏:‏ هو النبي صلى الله عليه وسلم وهويه نزوله من السماء ليلة المعراج، وجوز على هذا أن يراد بهويه صعوده وعروجه عليه الصلاة والسلام إلى منقطع الأين، وقيل‏:‏ هو الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقيل‏:‏ العلماء على إرادة الجنس، والمراد بهويهم قيل‏:‏ عروجهم في معارج التوفيق إلى حضائر التحقيق، وقيل‏:‏ غوصهم في بحار الأفكار لاستخراج درر الأسرار، وأظهر الأقوال القول بأن المراد بالنجم جنس النجم المعروف فإن أصله اسم جنس لكل كوكب، وعلى القول بالتعيين فالأظهر القول بأنه الثريا، ووراء هذين القولين القول بأن المراد به المقدار النازل من القرآن، وفي الإقسام بذلك على نزاهته عليه الصلاة والسلام عن شائبة الضلال والغواية من البراعة البديعة وحسن الموقع ما لا غاية وراءه، أما على الأولين فلأن النجم شأنه أن يهتدي به الساري إلى مسالك الدنيا كأنه قيل‏:‏ ‏{‏والنجم‏}‏ الذي تهتدي به السابلة إلى سواء السبيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏مَا ضَلَّ صاحبكم‏}‏ أي ما عدل عن طريق الحق الذي هو مسلك الآخرة فهو استعارة وتمثيل لكونه عليه الصلاة والسلام على الصواب في أقواله وأفعاله ‏{‏وَمَا غوى‏}‏ أي وما اعتقد باطلاً قط لأن الغي الجهل مع اعتقاد فاسد وهو خلاف الرشد فيكون عطف هذا على ‏{‏مَا ضَلَّ‏}‏ من عطف الخاص على العام اعتناءاً بالاعتقاد، وإشارة إلى أنه المدار‏.‏

وأما على الثالث فلأنه تنويه بشأن القرآن وتنبيه على مناط اهتدائه عليه الصلاة والسلام ومدار رشاده كأنه قيل‏:‏ وما أنزل عليك من القرآن الذي هو علم في الهداية إلى مناهج الدين ومسالك الحق واليقين ‏{‏مَا ضَلَّ‏}‏ عنها محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَمَا غوى‏}‏ فهو من باب‏.‏ وثناياك أنها إغريض *** والخطاب لقريش وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان المصاحبة لهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة وإحاطتهم خبراً ببراءته صلى الله عليه وسلم مما نفى عنه بالكلية وباتصافه عليه الصلاة والسلام بغاية الهدى والرشاد فإن طول صحبتهم له عليه الصلاة والسلام ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتماً ففي ذلك تأكيد لإقامة الحجة عليهم، واختلف في متعلق إذا قال بعضهم‏:‏ فاوضت جار الله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنجم إِذَا هوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 1‏]‏ فقال‏:‏ العامل فيه ما تعلق به الواو فقلت‏:‏ كيف يعمل فعل الحال في المستقبل‏؟‏ا وهذا لأن معناه أقسم الآن لا أقسم بعد هذا، فرجع وقال‏:‏ العامل فيه مصدر محذوف، والتقدير وهوى النجم إذا هوى فعرضته على بعض المشايخ فلم يستحسن قوله الثاني، والوجه تعلقه بأقسم وهو قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد ونحوه آتيك إذا احمر البسر أي وقت احمراره، وقال عبد القاهر‏:‏ إخبار الله تعالى بالمتوقع يقام مقام الإخبار بالواقع إذ لا خلف فيه فيجري المستقبل مجرى المحقق الماضي، وقيل‏:‏ إنه متعلق بعامل هو حال من النجم، وأورد عليه أن الزمان لا يكون خبراً ولا حالاً عن جثة كما هنا، وأن ‏{‏إِذَا‏}‏ للمستقبل فكيف يكون حالاً إلا أن تكون حالاً مقدرة أو تجرد ‏{‏إِذَا‏}‏ لمطلق الوقت كما يقال بصحية الحالية إذا أفادت معنى معتداً به، فمجيء الزمان خبراً أو حالاً عن جثة ليس ممنوعاً على الإطلاق كما ذكره النحاة، أو المجم لتغيره طلوعاً وغروباً أشبه الحدث، والإنصاف أن جعله حالاً كتعلقه بمصدر محذوف ليس بالوجه، وإنما الوجه، على ما قيل ما سمعت من تعلقه بأقسم منسلخاً عنه معنى الاستقبال وهو الذي اختاره في «المغنى» وتخصيص القسم بوقت الهوى ظاهر على الأخير من الأقوال الثلاثة، وأما على الأولين فقيل‏:‏ لأن النجم لا يهتدي به الساري عند كونه في وسط السماء ولايعلم المشرق من المغرب ولا الشمال من الجنوب، وإنما يهتدي به عند هبوطه، أو صعوده مع ما فيه من كمال المناسبة لما سيحكى من التدلي والدنو، وقيل‏:‏ لدلالته على حدوثه الدال على الصانع وعظيم قدرته عز وجل كما قال الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأكمل السلام ‏{‏لا أُحِبُّ الافلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى آخر الكتاب تمام الكلام في تحقيق إعراب مثل هذا التركيب فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يَنطِقُ‏}‏ أي النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏صاحبكم‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 2‏]‏ والنطق مضمن معنى الصدور فلذا عدى بعن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَنِ الهوى‏}‏ وقيل‏:‏ هي بمعنى الباء وليس بذاك أي ما يصدر نطقه فيما آتاكم به من جهته عز وجل كالقرآن، أو من القرآن عن هوى نفسه ورأيه أصلاً فإن المراد استمرار النفي كما مر مراراً في نظائره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ أي ما الذي ينطق به من ذلك أو القرآن وكل ذلك مفهوم من السياق ‏{‏إِلاَّ وَحْىٌ‏}‏ من الله عز وجل ‏{‏يُوحَى‏}‏ يوحيه سبحانه إليه، والجملة صفة مؤكدة لوحي رافعة لاحتمال المجاز مفيدة للاستمرار التجددي، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏يَنطِقُ‏}‏ للقرآن فالآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا كتابنا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 29‏]‏ وهو خلاف الظاهر، وقيل‏:‏ المراد ما يصدر نطقه عليه الصلاة والسلام مطلقاً عن هوى وهو عائد لما ينطق به مطلقاً أيضاً‏.‏

واحتج بالآية على هذا التفسير من لم ير الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كأبي علي الجبائي‏.‏ وابنه أبي هاشم، ووجه الاحتجاج أن الله تعالى أخبر بأن جميع ما ينطق به وحي وما كان عن اجتهاد ليس بوحي فليس مما ينطق، وأجيب بأن الله تعالى إذا سوغ له عليه الصلاة والسلام الاجتهاد كان الاجتهاد وما يسند إليه وحياً لا نطقاً عن الهوى، وحاصله منع كبر القياس، واعترض عليه بأنه يلزم أن تكون الأحكام التي تستنبطها المجتهدون بالقياس وحياً، وأجيب بأن النبي عليه الصلاة والسلام أوحى إليه أن يجتهد بخلاف غيره من المجتهدين، وقال القاضي البيضاوي‏:‏ إنه حينئذ بالوحي لا وحي، وتعقبه صاحب الكشف بأنه غير قادح لأنه بمنزلة أن يقول الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام‏:‏ متى ما ظننت بكذا فهو حكمي أي كل ما ألقيته في قلبك فهو مرادي فيكون وحياً حقيقة، والظاهر أن الآية واردة في أمر التنزيل بخصوصه وإن كان مثله الأحاديث القدسية والاستدلال بها على أنه عليه الصلاة والسلام غير متعبد بالوحي محوج لارتكاب خلاف الظاهر وتكلف في دفع نظر البيضاوي عليه الرحمة كما لا يخفى على المنصف، ولا يبعد عندي أن يحمل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى‏}‏ على العموم بأن من يرى الاجتهاد له عليه الصلاة والسلام كالإمام أحمد‏.‏ وأبي يوسف عليهما الرحمة لا يقول بأن ما ينطق به صلى الله عليه وسلم مما أدى إليه اجتهاده صادر عن هوى النفس وشهوتها حاشا حضرة الرسالة عن ذلك وإنما يقول هو واسطة بين ذلك وبين الوحي ويجعل الضمير في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ‏}‏ للقرآن على أن الكلام جواب سؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ إذا كان شأنه عليه الصلاة والسلام أنه ما ينطق عن الهوى فما هذا القرآن الذي جاء به وخالف فيه ما عليه قومه واستمال به قلوب كثير من الناس وكثرت فيه الأقاويل‏؟‏ فقيل‏:‏ ما هو إلا وحي يوحيه الله عز وجل إليه صلى الله عليه وسلم فتأمل، وفي الكشف أن في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَنطِقُ‏}‏ مضارعاً مع قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا ضَلَّ‏}‏ ‏{‏وَمَا غوى‏}‏ ما يدل على أنه عليه الصلاة والسلام حيث لم يكن له سابقة غواية وضلال منذ تميز وقبل تحنكه واستنبائه لم يكن له نطق عن الهوى كيف وقد تحنك ونبىء، وفيه حث لهم على أن يشاهدوا منطقه الحكيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏عِلْمِهِ‏}‏ الضمير للرسول والمفعول الثاني محذوف أي القرآن، أو الوحي، وجوز أبو حيان كون الضمير للقرآن، وأن المفعول الأول محذوف أي علمه الرسول عليه الصلاة والسلام ‏{‏شَدِيدُ القوى‏}‏ هو جبريل عليه السلام كما قال ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ والربيع، فإنه الواسطة في إبداء الخوارق وناهيك دليلاً على شدة قوته أنه قلع قرىء قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى وحملها على جناحه ورفعها إلى السماء ثم قلبها، وصاح بثمود صيحة فأصبحوا جاثمين وكان هبوطه على الأنبياء عليهم السلام وصعوده في أسرع من رجعة الطرف، فهو لعمري أسرع من حركة ضياء الشمس على ما قرروه في الحكمة الجديدة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏ذُو مِرَّةٍ‏}‏ ذو حصافة واستحاكم في العقل كما قال بعضهم، فكأن الأول وصف بقوّة الفعل، وهذا وصف بقوّة النظر والعقل لكن قيل‏:‏ إن ذاك بيان لما وضع له اللفظ فإن العرب تقول لكل قوى العقل والرأي ‏{‏ذُو مِرَّةٍ‏}‏ من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله‏.‏ وإلا فوصف الملك بمثله غير ظاهر فهو كناية عن ظهور الآثار البدعية، وعن سعيد بن المسيب ذو حكمة لأن كلام الحكماء متين، وروى الطستي أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عنه فقال‏:‏ ذو شدة في أمر الله عز وجل واستشهد له، وحكى الطيبي عنه أنه قال‏:‏ ذو منظر حسن واستصوبه الطبري، وفي معناه قول مجاهد، ذو خلق حسن‏:‏ وهو في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوىّ ‏"‏ بمعنى ذي قوة، وفي «الكشف» إن المِرّة لأنها في الأصل تدل على المرة بعد المرة تدل على زيادة القوة فلا تغفل ‏{‏فاستوى‏}‏ أي فاستقام على صورته التي خلقه الله تعالى عليها وذلك عند حراء في مبادي النبوة وكان له عليه الصلاة والسلام كما في حديث أخرجه الإمام أحمد‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وجماعة عن ابن مسعود ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق فالاستواء ههنا بمعنى اعتدال الشيء في ذاته كما قال الراغب، وهو المراد بالاستقامة لا ضد الإعوجاج، ومنه استوى الثمر إذا نضج، وفي الكلام على ما قال الخفاجي‏:‏ طي لأن وصفه عليه السلام بالقوة وبعض صفات البشر يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه في غير هيئته الحقيقية وهذا تفصيل لجواب سؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ فهل رآه على صورته الحقيقية‏:‏ فقيل‏؟‏ نعم رآه فاستوى الخ، وفي «الإرشاد» أنه عطف على علمه بطريق التفسير فإنه إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أوحى‏}‏ باين لكيفة التعليم، وتعقب بأن الكيفية غير منحصرة فيما ذكر، ومن هنا قيل‏:‏ إن الفاء للسببية فإن تشكله عليه السلام بشكله يتسبب عن قوته وقدرته على الخوارق أو عاطف على ‏{‏عِلْمِهِ‏}‏ على مكعنى علمه على غير صورته الأصلية، ثم استوى على صورته الأصلية وتعقب بأنه لا يتم به التئام الكلام ويحسن به النظام، وقيل‏:‏ استوى بمعنى ارتفع والعطف على علم، والمعنى ارتفع إلى السماء بعد أن علمه وأكثر الآثار تقتضي ما تقدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ بالافق الاعلى‏}‏ أي الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر، وأصله الناحية وما ذكره أهل الهيئة معنى اصطلاحي وينقسم عندهم إلى حقيقي وغيره كما فصل في محله، وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس أن المراد به هنا مطلع الشمس وفي معناه قول الحسن‏:‏ هو أفق المشرق، والجملة في موضع الحال من فاعل ‏{‏استوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 6‏]‏، وقال الفراء‏.‏ والطبري‏:‏ إن هو عطف على الضمير المستتر في استوى وهو عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما أن ذلك عائد لجبريل عليه السلام، وجوز العكس، والجار متعلق باستوى وفيه العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين مع أن المعنى ليس عليه عند الأكثرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ دَنَا‏}‏ أي ثم قرب جبريل عليه السلام من النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏فتدلى‏}‏ فتعلق جبريل عليه عليه الصلاة والسلام في الهواء، ومنه تدلت الثمرة ودلى رجليه من السرير‏.‏ والدوالي الثمر المعلق كعناقيد العنب وأنشدوا لأبي ذؤيب يصف مشتار عسل‏:‏ تدلى عليها بين سب وخيطة *** بجرداء مثل الوكف يكبو غرابها

ومن أسجاع ابنة الخس كن حذراً كالقرلى إن رأى خيراً تدلى، وإن رأى شراً تولى فالمراد بالتدلي دنو خاص فلا قلب ولا تأويل بإرادة الدنو كما في الإيضاح، نعم إن جعل بمعنى التنزل من علو كما يرشد إليه الاشتقاق كان له وجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَانَ‏}‏ أي جبريل عليه السلام من النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏قَابَ قَوْسَيْنِ‏}‏ أي من قسى العرب لأن الإطلاق ينصرف إلى متعارفهم، والقاب، وكذا القيب‏.‏ والقاد‏.‏ والقيد‏.‏ والقيس المقدار، وقرأ زيد بن علي قاد، وقرىء قيد وقدر، وقد جاء التقدير بالقوس كالرمح والذراع وغيرهما، ويقال على ما بين مقبض القوس وسيتها، وهي ما عطف من طرفيها فلكل قوس قابان، وفسر به هنا قيل‏:‏ وفي الكلام عليه قلب أي فكان قابى قوس، وفي «الكشف» لك أن تقول قابا قوس وقاب قوسين واحد دون قلب، وعن مجاهد‏.‏ والحسن أن قاب القوس ما بين وترها ومقبضها ولا حاجة إلى القلب عليه أيضاً فإن هذا على ما قال‏:‏ الخفاجي إشارة إلى ما كانت العرب في الجاهلية تفعله إذا تحالفوا فإنهم كانوا يخرجون قوسين ويلصقون إحداهما بالأخرى فيكون القاب ملاصقاً للآخر حتى كأنهما ذا قاب واحد ثم ينزعونهما معاً ويرمون بهما سهماً واحداً فيكون ذلك إشارة إلى أن رضا أحدهم رضا الآخر وسخطه سخطه لا يمكن خلافه، وعن ابن عباس القوس هنا ذراع يقاس به الأطوال وإليه ذهب أبو رزين، وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز، وأياً ما كان فالمعنى على حذف مضاف أي فكان ذا قاب قوسين ونحوه قوله‏:‏ فأدرك أبقاء لعرادة ظلعها *** وقد جعلتني من ‏(‏خزيمة أصبعا‏)‏‏}‏

فإنه على معنى ذا مقدار أصبع وهو القرب فكأنه قيل فكان قريباً منه، وجوز أن يكون ضمير كان للمسافة بتأويلها بالبعد ونحوه فلا حاجة إلى اعتبار الحذف وليس بذاك ‏{‏أَوْ أدنى‏}‏ أي أو أقرب من ذلك، و‏{‏أَوْ‏}‏ للشك من جهة العباد على معنى إذا رآه الرائي يقول‏:‏ هو قاب قوسين أو أدنى، والمراد إفادة شدة القرب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏فأوحى‏}‏ أي جبريل عليه السلام ‏{‏إلى عَبْدِهِ‏}‏ أي عبد الله وهو النبي صلى الله عليه وسلم، والإضمار ولم يجر له تعالى ذكراً لكونه في غاية الظهور ومثله كثير في الكلام، ومنه ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏مَا أوحى‏}‏ أي الذي أوحاه والضمير المستتر لجبريل عليه السلام أيضاً، وإبهام الموحى به للتفخيم فهذا نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَغَشِيَهُمْ مّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 78‏]‏ وقال أبو زيد‏:‏ الضمير المستتر لله عز وجل أي أوحى جبريل إلى عبد الله ما أوحاه الله إلى جبريل، والأول مروي عن الحسن وهو الأحسن، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏أوحى‏}‏ الأول والثاني لله تعالى، والمراد بالعبد جبريل عليه السلام وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَذَبَ الفؤاد‏}‏ أي فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏مَا رأى‏}‏ ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام أي ما قال فؤاده صلى الله عليه وسلم لما رآه لم أعرفك ولو قال ذلك لكان كاذباً لأنه عرفه بقلبه كما رآه ببصره فهو من قولهم كذب إذا قال كذباً فما كذب بمعنى ما قال الكذب، وقيل‏:‏ أي ‏{‏مَا كَذَبَ الفؤاد‏}‏ البصر فيما حكاه له من صورة جبريل عليه السلام وما في عالم الملكوت تدرك أولاً بالقلب ثم تنتقل منه إلى البصر‏.‏ قرأ أبو رجاء وأبو جعفر‏.‏ وقتادة‏.‏ والجحدري‏.‏ وخالد بن الياس‏.‏ وهشام عن ابن عامر ‏{‏مَا كَذَبَ‏}‏ مشدداً أي صدقه ولم يشك أنه جبريل عليه السلام بصورته، وفي الآيات من تحقيق أمر الوحي ما فيها، وفي الكشف أنه لما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 4‏]‏ أي من عند الله تعالى‏:‏ ‏{‏يُوحَى‏}‏ ذكر جل وعلا ما يصور هذا المعنى ويفصله ليتأكد أنه وحى وأنه ليس من الشعر وحديث الكهان في شيء فقال تعالى‏:‏ ‏{‏عِلْمٍ صاحبكم‏}‏ هذا الوحي من هو على هذه الصفات، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاستوى‏}‏ وحديث قيامه بصورته الحقيقية ليؤكد أن ما يأتيه في صورة دحية هو هو فقد رآه بصورة نفسه وعرفه حق معرفته فلا يشتبه عليه بوجه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ دَنَا فتدلى‏}‏ تتميم لحديث نزوله إليه عليه الصلاة والسلام وإتيانه بالمنزل، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فأوحى‏}‏ أي جبريل ذلك الوحي الذي مر أنه من عند الله تعالى إلى عبد الله وإنما قال سبحانه‏:‏ ما أوحى ولم يأت بالضمير تفخيماً لشأن المنزل وأنه شيء يجل عن الوصف فأنى يستجيز أحد من نفسه أن يقول إنه شعر أو حديث كاهن، وأيثار عبده بدل إليه أي إلى صاحبكم لإضافة الاختصاص وإيثار الضمير على الاسم العلم في هذا المقام لترشيحه وأنه ليس عبداً إلا له عز وجل فلا لبس لشهرته بأنه عبد الله لا غير، وجاز أن يكون التقدير فأوحى الله تعالى بسببه أي بسبب هذا المعلم إلى عبده ففي الفاء دلالة على هذا المعنى وهذا وجه أيضاً سديد، ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى‏}‏ على معنى أنه لما عرفه وحققه لم يكذبه فؤاده بعد ذلك ولو تصور بغير تلك الصورة إنه جبريل، فهذا نظم سرى مرعى فيه النكت حق الرعاية مطابق للوجود لم يعدل به عن واجب الوفاق بين البداية والنهاية انتهى‏.‏

وهو كلام نفيس يرجح به ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها وسيأتي ذلك إن شاء الله عز وجل بماله وعليه‏.‏