فصل: تفسير الآية رقم (38)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏أَلاَّ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى‏}‏ أي أنه لا تحمل نفس من شأنها الحمل حمل نفس أخرى على أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف، والجملة المنفية خبرها ومحل الجملة الجر على أنها بدل مما ‏{‏في صحف موسى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 36‏]‏، أو الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والاستئناف بياني كأنه قيل‏:‏ ما في صحفهما‏؟‏ فقيل‏:‏ هو ‏{‏أَن لا تَزِرُ‏}‏ الخ، والمعنى أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره ليتخلص الثاني عن عقابه، ولا يقدح في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فإن ذلك وزر الإضلال الذي هو وزره لا وزر غيره، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى‏}‏ بيان لعدم إثابة الإنسان بعمل غير إثر بيان عدم مؤاخذته بذنب غيره ‏{‏وَأَنْ‏}‏ كأختها السابقة، و‏{‏مَا‏}‏ مصدرية وجوز كونها موصولة أي ليس له إلا سعيه، أو إلا الذي سعى به وفعله، واستشكل بأنه وردت أخبار صحيحة بنفع الصدقة عن الميت، منها ما أخرجه مسلم‏.‏ والبخاري‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي عن عائشة «أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت فهل لها أجر إن تصدقت عنها‏؟‏ قال‏:‏ نعم» وكذا بنفع الحج‏.‏

أخرج البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والنسائي عن ابن عباس قال‏:‏ «أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن أختي نذرت لأن تحج وأنها ماتت فقال النبي عليه الصلاة والسلام‏:‏ لو كان عليها دين أكنت قاضيه‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فحق الله أحق بالقضاء» وأجيب بأن الغير لما نوى ذلك الفعل له صار بمنزلة الوكيل عنه القائم مقامه شرعاً فكأنه بسعيه، وهذا لا يتأتى إلا بطريق عموم المجاز، أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه، وأجيب أيضاً بأن سعي غيره لما لم ينفعه إلا مبنياً على سعي نفسه من الايمان فكأنه سعيه، ودل على بنائه على ذلك ما أخرجه أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن العاص بن وائل نذر في الجاهلية أن ينحر مائة بدنة وأن هشاماً ابنه نحر حصته خمسين وأن عمراً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال‏:‏ «أما أبوك فلو كان أقرّ بالتوحيد فصمت وتصدقت عنه نفعه ذلك» وأجيب بهذا عما قيل‏:‏ إن تضعيف الثواب الوارد في الآيات ينافي أيضاً القصر على سعيه وحده، وأنت تعلم ما في الجواب من النظر، وقال بعض أجلة المحققين إنه ورد في الكتاب والسنة ما هو قطعي في حصول الانتفاع بعمل الغير وهو ينافي ظاهر الآية فتقيد بما لا يهبه العامل، وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله يضاعف لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 261‏]‏ فقال‏:‏ ليس له بالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء الله تعالى فقبل عبد الله رأس الحسين، وقال عكرمة‏:‏ كان هذا الحكم في قوم إبراهيم‏.‏ وموسى عليهما السلام، وأما هده الأمة فللإنسان منها سعي غيره يدل عليه حديث سعد بن عبادة «هل لأمي إذا تطوعت عنها‏؟‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ نعم» وقال الربيع‏:‏ الإنسان هنا الكافر، وأما المؤمن فله ما سعى وما سعى له غيره، وعن ابن عباس أن الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ واتبعتهم‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 12‏]‏ وقد أخرج عنه ما يشعر به أبو داود والنحاس كلاهما في الناسخ، وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن مردويه، وتعقب أبو حيان رواية النسخ بأنها لا تصح لأن الآية خبر لم تتضمن تكليفاً ولا نسخ في الأخبار‏.‏ وما يتوهم جواباً من أنه تعالى أخبر في شريعة موسى‏.‏ وإبراهيم عليهما السلام أن لا يجعل الثواب لغير العامل ثم جعله لمن بعدهم من أهل شريعتنا مرجعه إلى تقييد الأخبار لا إلى النسخ إذ حقيقته أن يراد المعنى، ثم من بعد ذلك ترتفع إرادته، وهذا تخصيص الإرادة بالنسبة إلى أهل الشرائع فافهمه، وقيل‏:‏ اللام بمعنى على أي ليس على الإنسان غير سعيه، وهو بعيد من ظاهرها ومن سياق الآية أيضاً فإنها وعظ للذي تولى وأعطى قليلاً وأكدى، والذي أميل إليه كلام الحسين، ونحوه كلام ابن عطية قال‏:‏ والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلِيمٌ كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ للإنسان‏}‏ فإذا حققت الشيء الذي حق الإنسان أن يقول فيه لي كذا لم تجده إلا سعيه وما يكون من رحمة بشفاعة، أو رعاية أب صالح، أو ابن صالح، أو تضعيف حسنات، أو نحو ذلك فليس هو للإنسان ولا يسعه أن يقول لي كذا وكذا إلا على تجوّز، وإلحاق بما هو حقيقة انتهى‏.‏

ويعلم من مجموع ما تقدم أن استدلال المعتزلة بالآية على أن العبد إذا جعل ثواب عمله أي عمل كان لغيره لا يجعل ويلغو جعله غير تام؛ وكذا استدلال الإمام الشافعي بها على أن ثواب القراءة لا تلحق الأموات وهو مذهب الإمام مالك بل قال الإمام ابن الهمام‏:‏ إن مالكاً‏.‏ والشافعي لا يقولان بوصول العبادات البدنية المحضة كالصلاة والتلاوة بل غيرها كالصدقة والحج، وفي «الأذكار» للنووي عليه الرحمة المشهور من مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وجماعة أنها لا تصل، وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء ومن أصحاب الشافعي إلى أنها تصل، فالاختيار أن يقول القارىء بعد فراغه اللهم أوصل ثواب ما قرأته إلى فلان، والظاهر أنه إذا قال ذلك ونحوه كوهبت ثواب ما قرأته لفلان بقلبه كفى، وعن بعضهم اشتراط نية النيابة أول القراءة وفي القلب منه شيء، ثم الظاهر أن ذلك إذا لم تكن القراءة بأجرة أما إذا كانت بها كما يفعله أكثر الناس اليوم فإنهم يعطون حفظة القرآن أجرة ليقرءوا لموتاهم فيقرءون لتلك الأجرة فلا يصل ثوابها إذ لا ثواب لها ليصل لحرمة أخذ الأجرة على قراءة القرآن وإن لم يحرم على تعليمه كما حققه خاتمة الفقهاء المحققين الشيخ محمد الأمين بن عابدين الدمشقي رحمه الله تعالى، وفي «الهداية» من كتاب الحج عن الغير إطلاق صحة جعل الإنسان عمله لغيره ولو صلاة وصوماً عند أهل السنة والجماعة، وفيه ما علمت ما مرّ آنفاً‏.‏

وقال الخفاجي‏:‏ هو محتاج إلى التحرير وتحريره أن محل الخلاف العبادة البدنية هل تقبل النيابة فسقط عمن لزمته بفعل غيره سواء كان بإذنه أم لا بعده حياته أم لا فهذا وقع في الحج كما ورد في الأحاديث الصحيحة، أم الصوم فلا، وما ورد في حديث «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» وكذا غيره من العبادات فقال الطحاوس‏:‏ إنه كان في صدر الإسلام ثم نسخ وليس الكلام في الفدية وإطعام الطعام فإنه بدل وكذا إهداء الثواب سواء كان بعينه أو مثله فإنه دعاء وقبوله بفضله عز وجل كالصدقة عن الغير فاعرفه انتهى فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى‏}‏ أن يعرض عليه ويكشف له يوم القيامة في صحيفته وميزانه من أريته الشيء، وفي «البحر» يراه حاضرو القيامة ويطلعون عليه تشريفاً للمحسن وتوبيخاً للمسيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ‏}‏ أي يجري الإنسان سعيه، يقال‏:‏ جزاه الله عز وجل بعمله وجزاه على عمله وجزاه عمله بحذف الجار وإيصال الفعل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُجْزَاهُ الجزاء الاوفى‏}‏ مصدر مبين للنوع وإذا جاز وصف المجزى به بالأوفى جاز وصف الحدث عن الجزاء لملابسته له، وجوز كونه مفعولاً به بمعنى المجزى به وحينئذ يكون الفعل في حكم المتعدي إلى ثلاثة مفاعيل‏.‏ ولا بأس لأن الثاني بالحدث والإيصال لا التوسع فيجيء فيه الخلاف، وبعضهم يجعل الجزاء منصوباً بنزع الخافض، وجوز أن يكون الضمير المنصوب في ‏{‏يُجْزَاهُ‏}‏ للجزاء لا للسعي، و‏{‏الجزاء الاوفى‏}‏ عليه عطف بيان، أو بدل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 3‏]‏ وتعقبه أبو حيان بأن فيه إبدال الظاهر من الضمير وهي مسألة خلافية والصحيح المنع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى‏}‏ أي إن انتهاء الخلق ورجوعهم إليه تعالى لا إلى غيره سبحانه استقلالاً ولا اشتراكاً، والمراد بذلك رجوعهم إليه سبحانه يوم القيامة حين يحشرون ولهذا قال غير واحد‏:‏ أي إلى حساب ربك أو إلى ثوابه تعالى من الجنة وعبقابه من النار الانتهاء، وقيل‏:‏ المعنى أنه عز وجل منتهى الأفكار فلا تزال الأفكار تسير في بيداء حقائق الأشياء وماهياتها والإحاطة بما فيها حتى إذا وجهت إلى حرم ذات الله عز وجل وحقائق صفاته سبحانه وقفت وحرنت وانتهى سيرها، وأيد بما أخرجه البغوي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الآية‏:‏ «لا فكرة في الرب» وأخرجه أبو الشيخ في العظمة عن سفيان الثوري، وروى عنه عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا ذكر الرب فانتهوا» وأخرج ابن ماجه عن ابن عباس قال‏:‏ «مر النبي صلى الله عليه وسلم على قوم يتفكرون في الله فقال‏:‏ تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق فإنكم لن تقدروه» وأخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله فتهلكوا»‏.‏

واستدل بذلك من قال باستحالة معرفته عز وجل بالكنه، والبحث في ذلك طويل، وأكثر الأدلة النقلية على عدم الوقوع، وقرأ أبو السماء، وإن بالكسر هنا وفيما بعد على أن الجمل منقطعة عما قبلها فلا تكون مما في الصحف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏إلى رَبّكَ المنتهى وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى‏}‏ خلق فعلي الضحك والبكاء، وقال الزمخشري‏:‏ خلق قوتي الضحك والبكاء، وفيه دسيسة اعتزال، وقال الطيبي‏:‏ المراد خلق السرور والحزن أو ما يسر ويحزن من الأعمال الصالحة والطالحة، ولذا قرن بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا‏}‏ وعليه فهو مجاز ولا يخفى أن الحقيقة أيضاً تناسب الإماتة والإحياء لا سيما والموت يعقبه البكاء غالباً والاحياء عند الولاد الضحك وما أحسن قوله‏:‏

ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا *** والناس حولك يضحكون سروراً

فاجهد لنفسك أن تكون إذا بكوا *** في يوم موتك ضاحكاً مسروراً

وقال مجاهد‏.‏ والكلبي‏:‏ ‏{‏أَضْحَكَ‏}‏ أهل الجنة ‏{‏وأبكى‏}‏ أهل النار، وقيل‏:‏ ‏{‏أَضْحَكَ‏}‏ الأرض بالنبات ‏{‏وأبكى‏}‏ السماء بالمطر، وتقديم الضمير وتكرير الإسناد للحصر أي أنه تعالى فعل ذلك لا غيره سبحانه، وكذا في أنه ‏{‏هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا‏}‏ فلا يقدر على الإماتة والإحياء غير عز وجل، والقاتل إنما ينقض البنية الإنسانية ويفرق أجزاءها والموت الحاصل بذلك فعل الله تعالى على سبيل العادة في مثله فلا إشكال في الحصر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والانثى‏}‏ من نوع الإنسان وغيره من أنواع الحيوانات ولم يذكر الضمير على طرز ما تقدم لأنه لا يتوهم نسبة خلق الزوجين إلى غيره عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى‏}‏ أي تدفق في الرحم يقال‏:‏ أمنى الرجل ومنى بمعنى، وقال الأخفش‏:‏ أي تقدر يقال منى لك الماني أي قدر لك المقدر، ومنه المنا الذي يوزن به فيما قيل، والمنية وهي الأجل المقدر للحيوان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الاخرى‏}‏ أي الإحياء بعد الإماتة وفاءاً بوعده جل شأنه، وفي «البحر» لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله تعالى كأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه، وفي الكشاف قال سبحانه‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ لأنها واجبة في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة وفيه مع كونه على طريق الاعتزال نظر، وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو النشاءة بالمد وهي أيضاً مصدر نشأة الثلاثي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى‏}‏ وأعطى القنية وهو ما يبقى ويدوم من الأموال ببقاء نفسه أو أصله كالرياض والحيوان والبناء، وإفراد ذلك بالذكر مع دخوله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أغنى‏}‏ لأن القنية أنفس الأموال وأشرفها، وفي «البحر» يقال‏:‏ قنيت المال أي كسبته ويعدي أيضاً بالهمزة والتضعيف فيقال‏:‏ أقناه الله تعالى مالاً وقناه الله تعالى مالاً، وقال الشاعر‏:‏ كم من غني أصاب الدهر ثرواته *** ومن فقير ‏(‏يقني‏)‏‏}‏ بعد إقلال

أي يقني المال، وعن ابن عباس ‏{‏أغنى‏}‏ مول، و‏{‏أقنى‏}‏ أرضى‏.‏ وهو بهذا المعنى مجاز من القنية قتل الراغب‏:‏ وتحقيق ذلك أنه جعل له قنية من الرضا والطاعة وذلك أعظم القنائن، ولله تعالى در من قال‏:‏ هل هي إلا مدة وتنقضي *** ما يغلب الأيام إلا من رضى

وعن ابن زيد‏.‏ والأخفش ‏{‏أقنى‏}‏ أفقر، ووجه بأنهما جعلا الهمزة فيه للسلب والإزالة كما في أشكى، وقيل‏:‏ إنهما جعلا ‏{‏أقنى‏}‏ بمعنى جعل له الرضا والصبر قنية كناية عن ذلك ليظهر فيه الطباق كما في ‏{‏هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 44‏]‏ و‏{‏أَضْحَكَ وأبكى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 43‏]‏ وفسره بأفقر أيضاً الحضرمي إلا أنه كما أخرج عنه ابن جرير‏.‏ وأبو اليخ قال ‏{‏أغنى‏}‏ نفسه سبحانه و‏{‏أفقر‏}‏ الخلائق إليه عز وجل، والظاهر على تقدير اعتبار المفعول في جميع الأفعال المتقدمة أن يكون من المحدثات الصالحة لتعلق الفعل، وعندي أن ‏{‏وَمَا أُغْنِى‏}‏ سبحانه نفسه كأوجد جل شأنه نفسه لا يخلو عن سماجة وإيهام محذور، وإنما لم يذكر مفعول لأن القصد إلى الفعل نفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى‏}‏ هي ‏{‏الشعرى‏}‏ العبور بفتح العين المهملة والباء الموحدة والراء المهملة بعد الواو، وتقال ‏{‏الشعرى‏}‏ أيضاً على الغميصاء بغين معجمة مضمومة وميم مفتوحة بعدها ياء مثناة تحتية وصاد مهملة ومد، والأولى‏:‏ في الجوزاء، وإنما قيل لها العبور لأنها عبرت المجرة فلقيت سهيلاً ولأنها تراه إذا طلع كأنها ستعبر وتسمى أيضاً كلب الجبار لأنها تتبع الجوزاء المسماة بالجبار كما يتبع الكلب الصائد أو الصيد، والثانية‏:‏ في ذراع الأسد المبسوط، وإنما قيل لها الغميصاء لأنها بكت من فراق سهيل فغمصت عينها، والغمص ما سال من الرمص وهو وسخ أبيض يجتمع في الموق، وذلك من زعم العرب أنهما أختا سهيل، وفي «القاموس» من أحاديثهم أن الشعري العبور قطعت المجرة فسميت عبوراً وبكت الأخرى على أثرها حتى غمصت ويقال لها الغموس أيضاً، وقيل‏:‏ زعموا أن سهيلاً و‏{‏الشعري‏}‏ كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانياً فاتبعه الشعري فعبرت المجرة فسميت العبور وأقامت الغميصاء وسميت بذلك لأنها دون الأولى ضياءاً، وكل ذلك من تخيلاتهم الكاذبة التي لا حقيقة لها، والمتبادر عند الإطلاق وعدم الوصف العبور لأنها أكبر جرماً وأكثر ضياءاً وهي التي عبدت من دون الله سبحانه في الجاهلية‏.‏

قال السدي‏:‏ عبتدها حمير‏.‏ وخزاعة، وقال غيره‏:‏ أول من عبدها أبو كبشة رجل من خزاعة، أو هو سيدهم واسمه وخز بن غالب وكان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ابن أبي كبشة شبهوه به لمخالفته قومه في عبادة الأصنام، وذكر بعضهم أنه أحد أجداده عليه الصلاة والسلام من قبل أمه وأنهم كانوا يزعمون أن كل صفة في المرء تسري إليه من أحد أصوله فيقولون نزع إليه عرق كذا، وعرق الخال نزاع، وقيل‏:‏ هو كنية وهب بن عبد مناف جده صلى الله عليه وسلم من قبل أمه، وقولهم له عليه الصلاة والسلام ذلك على ما يقتضيه ظاهر القاموس لأنه صلى الله عليه وسلم في الشبه الخلقي دون المخالفة، وقيل‏:‏ كنية زوج حليمة السعدية مرضعته عليه الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ كنية عم ولدها ولكونها عبدت من دونه عز وجل خصت بالذكر ليكون ذلك تجهيلاً لهم بجعل المربوب ربا، ولمزيد الاعتناء بذلك جيء بالجملة على ما نطق به النظم الجليل‏.‏

ومن العرب من كان يعظمها ويعتقد تأثيرها في العالم ويزعمون أنها تقطع السماء عرضاً وسائر النجوم تقطعها طولاً ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها ففي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ‏}‏ إشارة إلى نفي تأثيرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏الشعرى وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الاولى‏}‏ أي القدماء لأنهم أولى الأمم هلاكاً بعد قوم نوح كما قاله ابن زيد والجمهور، وقال الطبري‏:‏ وصفت بالأولى لأن في القبائل ‏{‏عَاداً‏}‏ أخرى وهي قبيلة كانت بمكة مع العماليق وهم بنو لقيم بن هزال، وقال المبرد‏:‏ عاد الأخرى هي ثمود، وقيل‏:‏ الجبارون، وقيل‏:‏ عاد الأولى ولد عاد بن إرم بن عوف بن سام بن نوح، وعاد الأخرى من ولد عاد الأولى، وفي «الكشاف» ‏{‏الاولى‏}‏ قوم هود والأخرى إرم، والله تعالى أعلم‏.‏

وجوز أن يراد بالأولى المتقدمون الأشراف؛ وقرأ قوم عاد الولي بحذف الهمزة ونقل ضمها إلى اللام قبلها، وقرأ نافع‏.‏ وأبو عمرو عاداً لولي بإدغام التنوين في اللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة، وعاب هذه القراءة المازني‏.‏ والمبرد، وقالت العرب‏:‏ في الابتداء بعد النقل الحمر، ولحمر فهذه القراءة جاءت على لحمر فلا عيب فيها، وأتى قالون بعد ضمة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو كما في قوله‏:‏ أحب الموقدين إلى موسى *** وكما قرأ بعضهم ‏{‏على سؤقه‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ وفيه شذوذ، وفي حرف أبيّ عاد غير مصروف للعلمية والتأنيث ومن صرفه فباعتبار الحي، أو عامله معاملة هند لكونه ثلاثياً ساكن الوسط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَثَمُودَاْ‏}‏ عطف على ‏{‏عَاداً‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 50‏]‏ ولا يجوز أن يكون مفعولاً لأبقى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا أبقى‏}‏ لأن ما النافية لها صدر الكلام والفاء على ما قيل‏:‏ مانعة أيضاً فلا يتقدم معمول مابعدها، وقيل‏:‏ هو معمول لأهلك مقدر ولا حاجة إليه، وقرأ عاصم‏.‏ وحمزة‏.‏ ثمود بلا تنوين ويقفان بغير ألف‏.‏ والباقون بالتنوين ويقفون بالألف، والظاهر أن متعلق ‏{‏أبقى‏}‏ يرجع إلى عاد وثمود معاً أي فما أبقى عليهم، أي أخذهم بذنوبهم، وقيل‏:‏ أي ما أبقى منهم أحداً، والمراد ما أبقى من كفارهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ‏}‏ عطف على ‏{‏عَاداً‏}‏ أيضاً ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل إهلاك عاد وذثمود، وصرح بالقبلية لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام آدم الثاني وقومه أول الطاغين والهالكين‏.‏

‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى‏}‏ أي من الفريقين حيث كانوا يؤذونه ويضربونه حتى لا يكاد يتحرك وكان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه يتمشى به إليه يحذره منه ويقول‏:‏ يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا وأنا مثلك يومئذ فإياك أن تصدقه فيموت الكبير على الكفر وينشأ الصغير على وصية أبيه ولم يتأثروا من دعائه وقد دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، وقيل‏:‏ ضمير ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ يعود على جميع من تقدم عاد، وثمود وقوم نوح أي كانوا أظلم من قريش وأطغى منهم، وفيه من التسلية للنبي عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى، و‏{‏هُمْ‏}‏ يجوز أن يكون تأكيداً للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلاً لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل، وحذف المفضول مع الواقع خبراً لكان لأنه جار مجرى خبر المبتدأ وحذفه فصيح فيه فكذلك في خبر كان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏والمؤتفكة‏}‏ هي قرى قوم لوط سميت بذلك لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت بهم، ومنه الإفك لأنه قلب الحق، وجوز أن يراد بالمؤتفكة كل ما انقلبت مساكنه ودثرت أماكنه‏.‏

وقرأ الحسن والمؤتفكات جمعاً ‏{‏أهوى‏}‏ أي أسقطها إلى الأرض بعد أن رفعها على جناح جبيريل عليه السلام إلى السماء، وقال المبرد‏:‏ جعلها تهوى‏.‏

والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة وأخر العامل لكونه فاصلة، وجوز أن يكون المؤتفكة معطوفاً على ما قبله و‏{‏أهوى‏}‏ مع فاعله جملة في موضع الحال بتقدي قد، أو بدونه توضح كيفية إهلاكهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏فغشاها مَا غشى‏}‏ فيه تهويل للعذاب وتعميم لما أصابهم منه لأن الموصول من صيغ العموم العموم والتضعيف في غشاها يحتمل أن يكون للتعدية فيكون ‏{‏مَا‏}‏ مفعولاً ثانياً والفاعل ضميره تعالى، ويحتمل أن يكون للتكثير والمبالغة فـ ‏{‏مَا‏}‏ هي الفاعل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تتمارى‏}‏ تتشكك والتفاعل هنا مجرد عن التعدد في الفاعل والمفعول للمبالغة في الفعل، وقيل‏:‏ إن فعل التماري للواحد باعتبار تعدد متعلقه وهو الآلاء المتماري فيها، والخطاب قيل‏:‏ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه من باب الإلهاب والتعريض بالغير، وقيل‏:‏ للإنسان على الإطلاق وهو أظهر والاستفهام للإنكار، والآلاء جمع إلى النعم، والمراد به ما عد في الآيات قبل وسمي الكل بذلك مع أن منه نقماً لما في النقم من العبر والمواعظ للمعتبرين والانتفاع للأنبياء والمؤمنين فهي نعم بذلك الاعتبار أيضاً، وقيل‏:‏ التعبير بالآلاء للتغليب وتعقب بأن المقام غير مناسب له، وقرأ يعقوب‏.‏ وابن محيصن ربك تمارى بتاء مشددة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏هذا نَذِيرٌ مّنَ النذر الاولى‏}‏ الإشارة إلى القرآن‏.‏ وقال أبو مالك‏:‏ إلى الأخبار عن الأمم، أو الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والنذير يجيء مصدراً ووصفاً، والنذر جمعه مطلقاً وكل من الأمرين محتمل هنا، ووصف ‏{‏النذر‏}‏ جمعاً للوصف بالأولى على تأويل الفرقة، أو الجماعة، واختير على غيره رعاية للفاصلة، وأياً مّا كان فالمراد ‏{‏هذا نَذِيرٌ مّنَ‏}‏ جنس ‏{‏النذر الاولى‏}‏‏.‏

وفي «الكشف» أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا نَذِيرٌ‏}‏ الخ فذلكة للكلام إما لما عدد من المشتمل عليه الصحف وإما لجميع الكلام من مفتتح السورة فتدبر ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏أَزِفَتِ الْآَزِفَةُ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏أَزِفَتِ الازفة‏}‏ أي قربت الساعة الموصوفة بالقرب في غير آية من القرآن، فأل في ‏{‏الازفة‏}‏ كاللعهد لا للجنس، وقيل‏:‏ ‏{‏الازفة‏}‏ علم بالغلبة للساعة هنا، وقيل‏:‏ لا بأس بإرادة الجنس ووصف القريب بالقرب للمبالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله‏}‏ أي غير الله تعالى أو إلا الله عز وجل ‏{‏كَاشِفَةٌ‏}‏ نفس قادرة على كشفها إذا وقعت لكنه سبحانه لا يكشفها؛ والمراد بالكشف الإزالة، وقريب من هذا ما روى عن قتادة‏.‏ وعطاء‏.‏ والضحاك أي إذا غشيت الخلق أهوالها وشدائدها لم يكشفها ولم يردها عنهم أحد، أو ليس لها الآن نفس كاشفة أي مزيلة للخوف منها فإنه باق إلى أن يأتي الله سبحانه بها وهو مراد الزمخشري بقوله‏:‏ أوليس لها الآن نفس كاشفة بالتأخير، وقيل‏:‏ معناه لو وقعت الآن لم يردّها إلى وقتها أحد إلا الله تعالى، فالكشف بمعنى التأخير وهو إزالة مخصوصة، وقال الطبري‏.‏ والزجاج‏:‏ المعنى ليس لها من دون الله تعالى نفس كاشفة تكشف وقت وقوعها وتبينه لأنها من أخفى المغيبات، فالكشف بمعنى التبيين والآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 187‏]‏ والتاء في ‏{‏كَاشِفَةٌ‏}‏ على جميع الأوجه للتأنيث، وهو لتأنيث الموصوف المحذوف كما سمعت، وبعضهم يقدر الموصوف حالاً، والأول أولى؛ وجوز أن تكون للمبالغة مثلها في علامة، وتعقب بأن المقام يأباه لإيهامه ثبوت أصل الكشف لغيره عز وجل وفيه نظر، وقال الرماني‏.‏ وجماعة‏:‏ يحتمل أن يكون ‏{‏كَاشِفَةٌ‏}‏ مصدراً كالعافية، وخائنة الأعين أي ليس لها كشف من دون الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَمِنْ هذا الحديث‏}‏ أي القرآن ‏{‏تَعْجَبُونَ‏}‏ إنكاراً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَضْحَكُونَ‏}‏ استهزاءاً مع كونه أبعد شيء من ذلك ‏{‏وَلاَ تَبْكُونَ‏}‏ حزناً على ما فرطتم في شأنه وخوفاً من أن يحيق بكم ما حاق بالأمم المذكورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنتُمْ سامدون‏}‏ أي لاهون كما روى عن ابن عباس جواباً لنافع بن الأزرق، وأنشد عليه قول هزيلة بنت بكر وهي تبكي قوم عاد‏:‏

ليت ‏(‏عاداً‏)‏ قبلوا الحق *** ولم يبدوا جحودا

قيل‏:‏ قم فانظر إليهم *** ثم دع عنك ‏(‏السمودا‏)‏‏}‏

وفي رواية أنه رضي الله تعالى عنه سئل عن السمود، فقال‏:‏ البرطمة وهي رفع الرأس تكبراً أي وأنتم رافعون رؤوسكم تكبراً، وروى تفسيره بالبرطمة عن مجاهد أيضاً، وقال الراغب‏:‏ السامد اللاهي الرافع رأسه من سمد البعير في سيره إذا رفع رأسه، وقال أبو عبيدة‏:‏ السمود الغناء بلغة حمير يقولون‏:‏ يا جارية اسمدي لنا أي غنى لنا، وروى نحوه عن عكرمة، وأخرج عبد الرزاق‏.‏ والبزار‏.‏ وابن جرير‏.‏ والبيهقي في «سننه» وجماعة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ هو الغناء باليمانية وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلاً عنه، وقييل‏:‏ يفعلون ذلك ليشغلوا الناس عن استماعه، والجملة الاسمية على جميع ذلك حال من فاعل لا تبكون ومضمونها قيد للنفي والانكار متوجه إلى نفي البكاء ووجود السمود، وقال المبرد‏:‏ السمود الجمود والخشوع كما في قوله‏:‏

رمى الحدثان نسوة آل سعد *** بمقدار سمدن له ‏(‏سمودا‏)‏‏}‏

فرد شعورهن السود بيضا *** ورد وجوههن البيض سودا

والجملة عليه حال من فاعل ‏{‏تبكون‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 60‏]‏ أيضاً إلا أن مضمونها قيد للمنفى، والإنكار وارد على نفي البكاء والسمود معاً فلا تغفل، وف حرف أبيّ‏.‏ وعبد الله تضحكون بغير واو، وقرأ الحسن تعجبون تضحكون بغير واو وضم التاءين وكسر الجيم والحاء، واستدل بالآية كما في أحكام القرآن على استحباب البكاء عند سماع القرآن وقراءته، أخرج البيهقي في «شعب الايمان» عن أبي هريرة قال‏:‏ «لما نزلت ‏{‏أَفَمِنْ هذا الحديث‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 59‏]‏ الآية بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينهم بكى معهم فبكينا ببكائه فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى ولا يدخل الجنة مصرّ على معصيته ولو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم ‏"‏ وأخرج أحمد في الزهد‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ وهناد‏.‏ وغيرهم عن صالح أبي الخليل قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية ‏{‏أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 59-60‏]‏ ما ضحك النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إلا أن يتبسم» ولفظ عبد بن حميد ‏"‏ فما رؤى النبي عليه الصلاة والسلام ضاحكاً ولا متبسماً حتى ذهب من الدنيا ‏"‏ وفيه سد باب الضحك عند قراءة القرآن ولو لم يكن استهزاءاً والعياذ بالله عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا‏}‏ الفاء لترتيب الأمر أو موجبه على ما تقرر من بطلان مقابلة القرآن بالتعجب والضحك وحقية مقابلته بما يليق به، ويدل على عظم شأنه أي وإذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله واعبدوه جل جلاله، وهذه آية سجدة عند أكثر أهل العلم، وقد سجد النبي صلى الله عليه وسلم عندها‏.‏

أخرج الشيخان‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن مردويه عن ابن مسعود قال‏:‏ ‏"‏ أول سورة أنزلت فيها سجدة ‏{‏والنجم‏}‏ فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد الناس كلهم إلا رجلاً ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرج ابن مردويه‏.‏ والبيهقي في السنن عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ‏"‏ قال‏:‏ صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ النجم فسجد بنا فأطال السجود ‏"‏ وكذا عمر رضي الله تعالى عنه، أخرج سعيد بن منصوب عن سبرة قال‏:‏ صلى بنا عمر بن الخطاب الفجر فقرأ في الركعة الأولى سورة يوسف، ثم قرأ في الثانية سورة النجم فسجد، ثم قام فقرأ إذا زلزلت ثم ركع، ولا يرى مالك السجود هنا، واستدل له بما أخرجه أحمد‏.‏ والشيخان‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي والطبراني وغيرهم عن زيد بن ثابت قال‏:‏ قرأت النجم عند النبي صلى الله عليه وسلم فلم يسجد فيها، وأجيب بأن الترك إنما ينافي وجوب السجود وليس بمجمع عليه وهو عند القائل به على التراخي في مثل ذلك على المختار وليس في الحديث ما يدل على نفيه بالكلية فيحتمل أنه عليه الصلاة والسلام سجد بعد، وكذا زيد رضي الله تعالى عنه، نعم التأخير مكروه تنزيهاً ولعله فعل لبيان الجواز، أو لعذر لم نطلع عليه، وما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس من قوله‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ تحول إلى المدينة» ناف وضعيف، وكذا قوله فيما رواه أيضاً عنه ‏"‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في النجم بمكة فلما هاجر إلى المدينة تركها ‏"‏ على أن الترك إنما ينافي كما سمعت الوجوب، والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة القمر‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏اقتربت الساعة‏}‏ أي قربت جداً ‏{‏وانشق القمر‏}‏ انفصل بعضه عن بعض وصار فرقتين وذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة بنحو خمس سنين فقد صح من رواية الشيخين‏.‏ وابن جرير عن أنس أن أهل مكة سألوه عليه الصلاة والسلام أن يريهم آية فأراهم القمر شقتين حتى رأوا حراء بينهما، وخبر أبي نعيم من طريق الضحاك عن ابن عباس أن أحبار اليهود سألوا آية فأراهم الله تعالى القمر قد انشق لا يعوّل عليه، وفي «الصحيحين» وغيرهما من حديث ابن مسعود ‏"‏ انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين فرقة على الجبل وفرقة دونه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اشهدوا ‏"‏ ومن حديثه أيضاً ‏"‏ انشق القمر على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت قريش‏:‏ هذا سحر ابن أبي كبشة فقال رجل‏:‏ انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فأخبروهم بذلك ‏"‏ رواه أبو داود‏.‏ والطيالسي، وفي رواية البيهقي «فسألوا السفار وقد قدموا من كل وجه فقالوا‏:‏ رأيناه» فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏‏.‏

وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس من وجه ضعيف قال‏:‏ «اجتمع المشركون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم الوليد بن المغيرة‏.‏ وأبو جهل بن هشام‏.‏ والعاص بن وائل‏.‏ والعاص بن هشام‏.‏ والأسود بن عبد يغوث‏.‏ والأسود بن المطلب‏.‏ وربيعة بن الأسود‏.‏ والنضر بن الحرث فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن كنت صادقاً فشق لنا القمر فرقتين نصفاً على أبي قبيس ونصفاً على قينقاع فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن فعلت تؤمنوا‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم وكانت ليلى بدر فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل أن يعطيه ما سألوا فأمسى القمر قد مثل نصفاً على أبي قبيس ونصفاً على قينقاع ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي يا أبا سلمة بن عبد الأسد‏.‏ والأرقم بن الأرقم اشهدوا ‏"‏‏.‏

والأحاديث الصحيحة في الانشقاق كثيرة، واختلف في تواتره فقيل‏:‏ هو غير متواتر، وفي شرح المواقف الشريفي أنه متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب‏:‏ الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر وهو الذي اختاره العلامة ابن السبكي قال في شرحه لمختصر ابن الحاجب‏:‏ الصحيح عندي أن انشقاق القمر متواتر منصوص عليه في القرآن مروى في «الصحيحين» وغيرهما من طرق شتى بحيث لا يمتري في تواتره انتهى باختصار، وقد جاءت أحاديثه في روايات صحيحة عن جماعة من الصحابة منهم علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏

وأنس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وابن عباس‏.‏ وحذيفة‏.‏ وجبير بن مطعم‏.‏ وابن عمر‏.‏ وغيرهم، نعم إن منهم من لم يحضر ذلك كابن عباس فإنه لم يكن مولوداً إذ ذاك وكأنس فإنه كان ابن أربع أو خمس بالمدينة، وهذا لا يطعن في صحة الخبر كما لا يخفى، ووقع في رواية البخاري‏.‏ وغيره عن ابن مسعود «كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى فانشق القمر» ولا يعارض ما صح عن أنس أن ذلك كان بمكة لأنه لم يصرح بأنه عليه الصلاة والسلام كان ليلتئذٍ بمكة، فالمراد أن الانشقاق كان والنبي صلى الله عليه وسلم إذ ذاك مقيم بمكة قبل أن يهاجر إلى المدينة، ووقع في نظم السيرة للحافظ أبي الفضل العراقي ما هو نص في وقوع الانشقاق مرتين، وظاهر في أنه مجمع على وقوعه كذلك حيث قال‏:‏ وانشق مرتين بالإجماع، وكأن مستند الأول ما أخرجه عبد بن حميد‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي في الدلائل من طريق مجاهد عن أبي معمر عن ابن مسعود قال‏:‏ رأيت القمر منشقاً شقتين مرتين بمكة قبل مخرج النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، وأما الإجماع فغير مسلم، وفي المواهب قال الحافظ ابن حجر‏:‏ أظن أن قوله‏:‏ بالإجماع يتعلق بانشق لا بمرتين فإني لا أعلم من جزم من علماء الحديث بتعدد الانشقاق في زمنه صلى الله عليه وسلم، ولعل قائل مرتين أراد فرقتين، وهذا الذي لا يتجه غيره جمعاً بين الروايات انتهى، ولا يخفى أن هذا التأويل مع بعده لا يتسنى في خبر ابن مسعود المذكور آنفاً لمكان شقتين وهي بمعنى فرقتين ومرتين معاً، والذي عندي في تأويل ذلك أن مرتين في كلام ابن مسعود قيد للرؤية وتعددها لا يقتضي تعدد الانشقاق بأن يكون رآه منشقاً فصرف نظره عنه ثم أعاده فرآه كذلك لم يتغير ففيه إشارة إلى أنها رؤية لا شبهة فيها وقد فعل نحو ذلك الكفرة، أخرج أبو نعيم من طريق عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ انتهى أهل مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ هل من آية نعرف بها أنك رسول الله‏؟‏ فهبط جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا محمد قل لأهل مكة أن يجتمعوا هذه الليلة يروا آية فأخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقالة جبريل عليه السلام فخرجوا ليلة أربع عشرة فانشق القمر نصفين نصفاً على الصفا ونصفاً على المروة فنظروا ثم قالوا بأبصارهم فمسحوها ثم أعادوا النظر فنظروا ثم مسحوا أعينهم ثم نظروا فقالوا ما هذا إلا سحر فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏اقتربت الساعة وانشق القمر‏}‏ فلو قال أحد هؤلاء رأيت القمر منشقاً ثلاث مرات على معنى تعدد الرؤية صح بلا غبار ولم يقتض تعدد الانشقاق فليخرج كلام ابن مسعود على هذا الطرز ليجمع بين الروايات، ثم هذا الحديث إن صح كان دليلاً لما أشار إليه البوصيري في قوله

‏:‏ شق عن صدره وشق له البد *** ر ومن شرط كل شرط جزاء

من أن الشق كان ليلة أربع عشرة لأن البدر هو القمر ليلة أربع عشرة ويعلم من ذلك ما في قول العلامة ابن حجر الهيتمي في شرحه‏:‏ ظاهر التعبير بالبدر دون القمر أن الشق كان ليلة أربع عشرة ولم أر له في ذلك سلفاً، ولعله أراد بالبدر مطلق القمر، ويؤيد كونه ليلة البدر ما أخرجه الطبراني، وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ كسف القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ سحر القمر فنزلت ‏{‏اقتربت الساعة‏}‏ إلى ‏{‏مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 2‏]‏ فإن الكسوف وإن جاز عادة أن يكون ليلة الثالث عشر وليلة الخامس عشر إلا أن الأغلب كونه ليلة الرابع عشر ولا ضرورة إلى حمل الكسوف في هذا الخبر على الانشقاق إذ لا مانع كما في البداية والنهاية أن يكون قد حصل للقمر مع انشقاقه كسوف، نعم ذكر فيها أن سياق الخبر غريب‏.‏

ثم إن القمر بعد انشقاقه لم تفارق قطعتاه السماء بل بقيتا فيها متباعدتين تباعداً مّا لحظة ثم اتصلتا، وما يذكره بعض القصاص من أنه دخل في جيب النبي صلى الله عليه وسلم وخرج من كمه فباطل لا أصل له كما حكاه الشيخ بدر الدين الزركشي عن شيخه العماد بن كثير ولعنة الله تعالى على من وضعه‏.‏ وما في خبر أبي نعيم الذي أخرجه من طريق الضحاك عن ابن عباس من أنه انشق فصار قمرين أحدهما على الصفا والآخر على المروة قدر ما بين العصر إلى الليل ينظرون إليه ثم غاب لا يعوّل عليه، كيف وقد تضمن ذلك الخبر أن الانشقاق وقع لطلب أحبار اليهود وأن القائل هذا ‏{‏سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 2‏]‏ هم، وهو مخالف لما نطقت به الأخبار الصحيحة الكثيرة كما لا يخفى على المتتبع، وقد شاع «أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى القمر بسبابته الشريفة فانشق» ولم أره في خبر صحيح والله تعالى أعلم‏.‏

وأنكر الفلاسفة أصل الانشقاق بناءاً على زعمهم استحالة الخرق والالتئام على الأجرام العلوية ودليلهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت وقد خرق بأدنى نسمة من نسمات أفكار أهل الحق العلويين خرقاً لا يقبل الالتئام كما بين في موضعه، وقال بعض الملاحدة‏:‏ لو وقع لنقل متواتراً واشترك أهل الأرض كلهم في معرفته ولم يختص بها أهل مكة لأنه أمر محسوس مشاهد والناس فيه شركاء والطباع حريصة على رواية الغريب ونقل ما لم يعهد، ولا أغرب من انشقاق هذا الجرم العظيم ولم يعهد أصلاً في الزمن القديم ولو كان له أصل الخلد أيضاً في كتب التسيير والتنجيم ولذكره أهل الأرصاد فقد كانت موجودة قبل البعثة بكثير وإطباقهم على تركه وإغفاله مع جلالة شأنه ووضوح أمره مما لا تجوزه العادة، وأيضاً لا يعقل سبب لخرق هذا الجرم العظيم وأيضاً خرقه يوجب صوتاً هائلاً أشد من أصوات الصواعق المهلكة بأضعاف مضاعفة لا يبعد هلاك أكثر أهل الأرض منه، وأيضاً متى خرق وصار قطعتين ذهبت منه قوة التجاذب كالجبل إذا انشق فيلزم بقاؤه منشقاً ولا أقل من أن يبقى كذلك سنين كثيرة؛ والجواب عن ذلك أنه وقع في الليل وزمان الغفلة وكان في زمان قليل ورؤية القمر في بلد لا تستلزم رؤيته في جميع البلاد ضرورة اختلاف المطالع فقد يكون القمر طالعاً على قوم غائباً عن آخرين ومكسوفاً عند قوم غير مكسوف عند آخرين والاعتناء بأمر الأرصاد لم يكن بمثابته اليوم وغفلة أهلها لحظة غير مستبعد والانشقاق لا تختلف به منازله ولا يتغير به سيره غاية ما في الباب أن يحدث في القطعة الشرقية قوة سير لتلحق أختها الغربية، وأي مانع من أن يخلق الله تعالى فيها من السرعة نحو ما خلق الله سبحانه في ضوء الشمس فقد قال أهل الحكمة الجديدة‏:‏ إن بين الأرض والشمس ثلثمائة ألف فرسخ وأربعون ألف فرسخ وأن ضوءها ليصل إلى الأرض في مدة ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية فيقطع الضوء في كل ثانية سبعين ألف فرسخ ولا يلزم أن يعلم سبب كل حادث بل كثير من الحوادث المتكررة المشاهدة لم يوقف على أسبابها كرؤية الكواكب قريبة مع بعدها المفرط فقد ذكروا أنهم لم يقفوا على سببه ويكفي في ذلك عدم وقوفهم على سبب الإبصار بالعين على الحقيقة ولو أخبرهم مخبر بفرض إن لم يكن لهم أبصار بخواص البصر مع كونه قطعة شحم صغيرة معروفة أحوالها عند أهل التشريح لأنكروا عليه غاية الإنكار وكذبوه غاية التكذيب ونسبوه إلى الجنون‏.‏

ومن سلم تأثير النفوس إلى حدّ أن يصرع الشخص آخر بمجرد النظر إليه وتوجيه نفسه نحوه لم يستبعد أن يكون هناك سبب نحو ذلك، وقد صح في إصابة العين أن بعض الأعراب ممن لن عين صائبة يفلق سنام الناقة فلقتين، وربما تصور له من رمل فينظر إليه ويفلقه فينفلق سنامها مع عدم رؤيته لها نفسها وهذا كله من باب المماشاة وإلا فإرادة الله تعالى كافية في الانشقاق وكذا في كل المعجزات وخوارق العادات ولو كان لكل حادث سبب لزم التسلسل وقد قامت الأدلة على بطلانه، وكون الخرق يوجب صوتاً هائلاً ممنوع فيما نحن فيه ومثله ذهاب التجاذب والأجسام مختلفة من حيث الخواص فلا يلزم اتحاد جرم القمر والأرض فيها ويمكن أن يكون إحدى القطعتين كالجبل العظيم بالنسبة إلى الأرض إذا ارتفع عنها بقاسر مثلاً جذبته إليه إذا لم يخرج عن حدّ جذبها على ما زعموه ويلتزم في تلك القطعة عدم الخروج عن حدّ الجذب على أنا في غنى عن كل ذلك أيضاً بعد إثبات الإمكان لشمول قدرته عز وجل وأنه سبحانه فعال لما يريد‏.‏

والحاصل أنه ليس عند المنكر سوى الاستبعاد ولا يستطيع أن يأتي بدليل على الاستحالة الذاتية ولو انشق، والاستبعاد في مثل هذه المقامات قريب من الجنون عند من له عقل سليم، وروي عن الحسن أنه قال‏:‏ هذا الانشقاق بعد النفخة الثانية، والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع، وروي ذلك عن عطاء أيضاً، ويؤيد ما تقدم الذي عليه الأكثرون قراءة حذيفة وقد انشق القمر فإن الجملة عليها حالية فتقتضي المقارنة لاقتراب الساعة ووقوع الانشقاق قبل يوم القيامة، وكذا قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَرَوْا آَيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً يُعْرِضُواْ‏}‏ فإنه يقتضي أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها، وزعم بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة عند طلوعه وهذا كما يسمى الصبح فلقاً عند انفلاق الظلمة عنه وقد يعبر عن الانفلاق بالانشقاق كما في قوله النابغة‏:‏ فلما أدبروا ولهم دوي *** دعانا عند ‏{‏شق‏}‏ الصبح داعي

وزعم آخر أن معنى انشق القمر وضح الأمر وظهر وكلا الزعمين مما لا يعول عليه ولا يلتفت إليه ولا أظن الداعي إليهما عند من يقرّ بالساعة التي هي أعظم من الانشقاق ويعترف بالعقائد الإسلامية التي وقع عليها الاتفاق سوى عدم ثبوت الأخبار في وقوع ذلك على عهده عليه الصلاة والسلام عنده؛ ومنشأ ذلك القصور التام والتمسك بشبه هي على طرف الثمام، ومع هذا لا يكفر المنكر بناءاً على عدم الاتفاق على تواتر ذلك وعدم كون الآية نصفاً فيه، والإخراج من الدين أمر عظيم فيحتاط فيه ما لا يحتاط في غيره والله تعالى الموفق‏.‏

والظاهر أن المراد باقتراب الساعة القرب الشديد الزماني، وكل آت قريب، وزمان العالم مديد، والباقي بالنسبة إلى الماضي شيء يسير، ومال الإمام إلى أن المراد به قربها في العقول والأذهان، وحاصله أنها ممكنة إمكاناً قريباً لا ينبغي لأحد إنكارها، واستعمال الاقتراب مع أنه أمر مقطوع به كاستعمال ‏{‏يُدْرِيكَ لَعَلَّ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 63‏]‏ مع أن الأمر معلوم عند الله تعالى وانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب، وعلى الأول قيل‏:‏ هو آية لأصل الإمكان الذي يقتضيه قرب الوقوع، وقيل‏:‏ هو آية لقرب الوقوع ومعجزة للنبي صلى الله عليه وسلم باعتبار أن الله تعالى مخبر في كتبه السالفة بأنه إذا قربت الساعة انشق القمر معجزة وكلاهما كما ترى، واختار بعضهم أنه آية لصدق النبي عليه الصلاة والسلام في جميع ما يقول ويبلغ ربه سبحانه لأنه معجزة له صلى الله عليه وسلم ومنه دعوى الرسالة والأخبار باقتراب الساعة وغير ذلك، و‏{‏ءايَةً‏}‏ نكرة في سياق الشرط فتعم، فالمعنى ‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يُعْرِضُواْ‏}‏ عن التأمل فيها ليقفوا على وجه دلالتها وعلو طبقتها ‏{‏وَيَقُولُواْ سِحْرٌ‏}‏ أي هذا أو هو أي ما نراه سحر ‏{‏مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ أي مطرد دائم يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم على مر الزمان وهو ظاهر في ترادف الآيات وتتابع المعجزات‏.‏

وقال أبو العالية‏.‏ والضحاك‏:‏ ‏{‏مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ محكم موثق من المرة بالفتح أو الكسر بمعنى القوة وهو في الأصل مصدر مررت الحبل مرة إذا فتلته فتلاً محكماً فأريد به مطلق المحكم مجازاً مرسلاً، وقال أنس‏.‏ ويمان‏.‏

ومجاهد‏.‏ والكسائي‏.‏ والفراء واختاره النحاس مستمر أي مارّ ذاهب زائل عن قريب عللوا بذلك أنفسهم ومنوهاً بالأماني الفارغة كأنهم قالوا‏:‏ إن حاله عليه الصلاة والسلام وما ظهر من معجزاته سبحانه‏.‏ سحابة صيف عن قريب تقشع *** ‏{‏ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 32‏]‏ وقيل‏:‏ ‏{‏مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ مشتدّ المرارة أي مستبشع عندنا منفور عنه لشدة مرارته يقال‏:‏ مرّ الشيء وأمرّ إذا صار مرّاً وأمرّ غيره ومرّه يكون لازماً ومتعدياً، وقيل‏:‏ ‏{‏مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ يشبه بعضه بعضاً أي استمرت أفعاله على هذا الوجه من التخييلات، وقيل‏:‏ ‏{‏مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ مار من الأرض إلى السماء أي بلغ من سحره أنه سحر القمر وهذا ليس بشيء، ولعل الأنسب بغلوهم في العناد والمكابرة ما روي عن أنس ومن معه، وقرىء وأن يروا بالبناء للمفعول من الإراءة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَذَّبُواْ‏}‏ النبي صلى الله عليه وسلم وبما أظهره الله تعالى على يده من الآيات ‏{‏واتبعوا أَهْوَاءهُمْ‏}‏ التي زينها الشيطان لهم، وقيل‏:‏ ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ الآية التي هي انشقاق القمر ‏{‏واتبعوا أَهْوَاءهُمْ‏}‏ وقالوا سحر القمر أو سحرت أعيننا والقمر بحاله، والعطف على الجزاء السابق وصيغة الماضي للدلالة على التحقق، وقيل‏:‏ العطف على ‏{‏اقتربت‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏ والجملة الشرطية اعتراض لبيان عادتهم إذا شاهدوا الآيات، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ استئناف مسوق للرد على الكفار في تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم فيه ولا يمنع علو شأنه صلى الله عليه وسلم، أو لإقناطهم عما علقوا به أمانيهم الفارغة من عدم استقرار أمره عليه الصلاة والسلام حسبما قالوا‏:‏ ‏{‏سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 2‏]‏ ببيان ثبوته ورسوخه أي وكل أمر من الأمور منته إلى غاية يستقر عليها لا محالة ومن جملتها أمر النبي صلى الله عليه وسلم فسيصير إلى غاية يتبين عندها حقيته وعلو شأنه، وللإشارة إلى ظهور هذه الغاية لأمره عليه الصلاة والسلام لم يصرح بالمستقر عليه، وفي «الكشاف» أي كل أمر لا بدّ أن يصير إلى غاية يستقر عليها وأن أمره صلى الله عليه وسلم سيصير إلى غاية يتبين عندها أنه حق أو باطل وسيظهر له عاقبتهم أو وكل أمر من أمره عليه الصلاة والسلام، وأمرهم مستقر أي سيثبت ويستقر على حالة نصرة أو خذلان في الدنيا أو سعادة وشقاوة في الآخرة، قال في «الكشف»‏:‏ والكلام على الأول تذييل جار مجرى المثل وعلى الثاني تذييل غير مستقل، وقرأ شيبة ‏{‏مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ بفتح القاف ورويت عن نافع، وزعم أبو حاتم أنها لا وجه لها وخرجت على أن مستقراً مصدر بمعنى استقرار، وحمله على كل أمر بتقدير مضاف أي ذو مستقر ولو لم يقدر وقصد المبالغة صح، وجوز كونه اسم زمان أو مكان بتقدير مضاف أيضاً أي ذو زمان استقرار، أو ذو موضع استقرار، وتعقب بأن كون كل أمر لا بد له من زمان أو مكان أمر معلوم لا فائدة في الأخبار به، وأجيب بأن فيه إثبات الاستقرار له بطريق الكناية وهي أبلغ من التصريح‏.‏

وقرأ زيد بن علي ‏{‏مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ بكسر القاف والجر، وخرج على أنه صفة أمر وأن كل معطوف على ‏{‏الساعة‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏ أي اقتربت الساعة؛ واقترب كل أمر يستقر ويتبين حاله أي بقربها، قال في «الكشف»‏:‏ وفيه شمة من التجريد وتهويل عظيم حيث جعل في اقترابها اقتراب كل أمر يكون له قرار وتبين حال مما له وقع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وانشق القمر‏}‏ على هذا إما على تقدير قد وينصره القراءة بها، وإما منزل منزلة الإعراض لكونه مؤكداً لقرب الساعة، وقوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَإِن يَرَوْاْ ءايَةً‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 2‏]‏ الخ مستطرد عند ذكر انشقاق القمر‏.‏

واعترض ذلك أبو حيان بأنه بعيد لكثرة الفواصل بين المعطوف والمعطوف عليه وجعل الكلام عليه نظير أكلت خبزاً، وضربت خالداً، وإن يجىء زيد أكرمه، ورحل إلى بني فلان، ولحماً بعطف لحماً على خبزاً ثم قال بل لا يوجد مثله في كلام العرب، وتعقب بأنه ليس بشيء لأنه إذا دل على العطف الدليل لا يعد ذلك مانعاً منه على أن بين الآية والمثال فرقاً لا يخفى، وقال صاحب اللوامح إن ‏{‏مُّسْتَقِرٌّ‏}‏ خبر كل، والجر للجوار، واعترضه أبو حيان أيضاً بأنه ليس بجيد لأن الجر على الجوار في غاية الشذوذ في مثله إذ لم يعهد في خبر المبتدأ، وإنما عهد في الصفة على اختلاف النحاة في وجوده، واستظهر كون كل مبتدأ وخبره مقدر كآت، أو معمول به ونحوه مما يشعر به الكلام أو مذكور بعد وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حِكْمَةٌ بالغة‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 5‏]‏ وقد اعترض بينهما بقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُمْ‏}‏ في القرآن ‏{‏مّنَ الانباء‏}‏ أي أخبار القرون الخالية، أو أخبار الآخرة، والجار والمجرور في موضع الحال من ما في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ‏}‏ قدم عليه رعاية للفاصلة وتتويقاً إليه و‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض، أو للتبيين بناءاً على المختار من جواز تقديمه على المبين، قال الرضى‏:‏ إنما جاز تقديم ‏{‏مِنْ‏}‏ المبينة على المبهم في نحو عندي من المال ما يكفي لأنه في الأصل صفة لمقدر أي شيء من المال، والمذكور عطف بيان للمبين المقدر قبلها ليحصل البيان بعد الإبهام أي بالله لقد جاءهم كائناً من الأنباء ما فيه ازدجار لهم ومنع عما هم فيه من القبائح، أو موضع ازدجار ومنع، وهي أنباء التعذيب، أو أنباء الوعيد، وأصل ‏{‏مُزْدَجَرٌ‏}‏ مزتجر بالتاء موضع الدال وتاء الافتعال تقلب دالاً مع الدال والذال والراء للتناسب، وقرىء مزجر بقلبها زاياً وإدغام الزاي فيها، وقرأ زيد بن علي مزجر اسم فاعل من أزجر أي صار ذا زجر كأعشب صار ذا عشب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏حِكْمَةٌ بالغة‏}‏ أي واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها، ورفع ‏{‏حِكْمَةٌ‏}‏ على أنها بدل كل، أو اشتمال من ‏{‏مَا‏}‏، وقيل‏:‏ من ‏{‏مُزْدَجَرٌ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 4‏]‏ أو خبر مبتدأ محذوف أي هي، أو هذه على أن الإشارة لما يشعر به الكلام من إرسال الرسل وإيضاح الدليل والإنذار لمن مضى، أو إلى ما في الأنباء، أو إلى الساعة المقتربة، والآية الدالة عليها كما قاله الإمام وتقدم آنفاً احتمال كونها خبراً عن كل في قراءة زيد، وقرأ اليماني ‏{‏حِكْمَةٌ بالغة‏}‏ بالنصب حالاً من ‏{‏مَا‏}‏ فإنها موصولة أو نكرة موصوفة، ويجوز مجىء الحال منها مع تأخرها أو هو بتقدير أعني‏.‏

‏{‏فَمَا تُغْنِى النذر‏}‏ نفي للإغناء أو استفهام إنكاري والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجىء الحكمة البالغة مع كونه مظنة للإغناء وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار، و‏{‏مَا‏}‏ على الوجه الثاني في محل نصب على أنها مفعول مطلق أي فأي إغناء تغني النذر، وجوز أن تكون في محل رفع على الابتداء، والجملة بعدها خبر، والعائد مقدر أي فما تغنيه النذر وهو جمع نذير بمعنى المنذر، وجوز أن يكون جمع نذير بمعنى الإنذار، وتعقب بأن حق المصدر أن لا يثنى ولا يجمع وأن يكون مصدراً كالإنذار، وتعقب بأنه يأباه تأنيث الفعل المسند إليه وكونه باعتبار أنه بمعنى النذارة لا يخفى حاله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏ الفاء للسببية والمسبب التولي أو الأمر به والسبب عدم الإغناء أو العلم به، والمراد بالتولي إما عدم القتال، فالآية منسوخة، وإما ترك الجدال للجلاد فهي محكمة، والظاهر الأول ‏{‏يَوْمَ يَدْعُو الداع‏}‏ ظرف ليخرجون أو مفعول به لأذكر مقدراً، وقيل‏:‏ لانتظر، وجوز أن يكون ظرفاً لتغني، أو لمستقر وما بينهما اعتراض، أو ظرفاً ليقول الكافر أو لتول أي تول عن الشفاعة لهم يوم القيامة، أو هو معمول له بتقدير إلى، وعليه قول الحسن فتول عنهم إلى يوم‏.‏

والمراد استمرار التولي والكل كما ترى، والداعي إسرافيل عليه السلام، وقيل‏:‏ جبرائيل عليه السلام، وقيل‏:‏ ملك غيرهما موكل بذلك، وجوز أن يكون الدعاء للإعادة في ذلك اليوم كالأمر في ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ على القول بأنه تمثيل، فالداعي حينئذٍ هو الله عز وجل، وحذفت الواو من ‏{‏يَدُعُّ‏}‏ لفظاً لالتقاء الساكنين ورسماً اتباعاً للفظ، والياء من ‏{‏الداع‏}‏ تخفيفاً، وإجراءاً لال مجرى التنوين لأنها تعاقبه، والشيء يحمل على ضده كما يحمل على نظيره ‏{‏إلى شَىْء نُّكُرٍ‏}‏ أي فظيع تنكره النفوس لعدم العهد بمثله وهو هول القيامة ويكنى بالنكر عن الفظيع لأنه في الغالب منكر غير معهود، وجوز أن يكون من الإنكار ضد الإقرار وأيما كان فهو وصف على فعل بضمتين وهو قليل في الصفات، ومنه روضة أنف لم ترع، ورجل شلل خفيف في الحاجة سريع حسن الصحبة طيب النفس، وسجح لين سهل، وقرأ الحسن‏.‏ وابن كثير‏.‏ وشبل ‏{‏نُّكُرٍ‏}‏ بإسكان الكاف كما قالوا‏:‏ شغل وشغل، وعسر وعسر وهو إسكان تخفيف، أو السكون هو الأصل والضم للاتباع، وقرأ مجاهد‏.‏ وأبو قلابة‏.‏ والجحدري‏.‏ وزيد بن علي ‏{‏نُّكُرٍ‏}‏ فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول بمعنى أنكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏خُشَّعاً أبصارهم‏}‏ حال من فاعل ‏{‏يُخْرِجُونَ‏}‏ أي يخرجون ‏{‏مّنَ الاجداث‏}‏ أي القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول أي أذلاء من ذلك، وقدم الحال لتصرف العامل والاهتمام، وفيه دليل على بطلان مذهب الجرمي من عدم تجويز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفاً، ويرده أيضاً قولهم‏:‏ شتى تؤب الحلبة، وقوله‏:‏ سريعاً يهون الصعب عند ألى النهى *** إذا برّ جاء صادق قابلوا البأسا

وجعل حالاً من ذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الاجداث سِرَاعاً‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خاشعة أبصارهم‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 43، 44‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو حال من الضمير المفعول المحذوف في ‏{‏يَدُعُّ الداع‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 6‏]‏ أي يدعوهم الداع؛ وتعقب بأنه لا يطابق المنزل وأيضاً يصير حالاً مقدرة لأن الدعاء ليس حال خشوع البصر وليست في الكثرة كغيرها وكذلك جعله مفعول يدعو على معنى يدعو فريقاً خاشعاً أبصارهم أي سيخشع وإن كان هذا أقرب مما قبل، وقيل‏:‏ هو حال من الضمير المجرور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتولى عَنْهُمْ‏}‏ وفيه ما لا يخفى، وأبصارهم فاعل خشعاً وطابقه الوصف في الجمع لأنه إذا كسر لم يشبه الفعل لفظاً فتحسن فيه المطابقة وهذا بخلاف ما إذا جمع جمع مذكر سالم فإنه لم يتغير زنته وشبهه للفعل فينبغي أن لا يجمع إذا رفع الظاهر المجموع على اللغة الفصيحة دون لغة أكلوني البراغيث، لكن الجمع حينئذٍ في الاسم أخف منه في الفعل كما قال الرضي، ووجهه ظاهر، وفي التسهيل إذا رفعت الصفة اسماً ظاهراً مجموعاً فإن أمكن تكسيرها كمررت برجل ‏{‏قِيَامٍ‏}‏ غلمانه فهو أولى من إفراده كمررت برجل ‏{‏قَائِمٌ‏}‏ غلمانه وهذا قول المبرد ومن تبعه والسماع شاهد له كقوله‏:‏ وقوفاً بها صحبي على مطيهم *** يقولون لا تهلك أسى وتجملي

وقوله‏:‏ بمطرد لدن صحاح كعوبه *** وذي رونق عضب يقد القوانسا

وقال الجمهور‏:‏ الإفراد أولى والقياس معهم، وعليه قوله‏:‏ ورجال حسن أوجههم *** من إياد بن نزار بن معد

وقيل‏:‏ إن تبع مفرداً فالإفراد أولى كرجل ‏{‏قَائِمٌ‏}‏ غلمانه وإن تبع جمعاً فالجمع أولى كرجال قيام غلمانهم وأما التثنية والجمع السالم فعلى لغة أكلوني البراغيث؛ وجوز أن يكون في ‏{‏خُشَّعاً‏}‏ ضمير مستتر، و‏{‏أبصارهم‏}‏ بدلاً منه، وقرأ ابن عباس‏.‏ وابن جبير‏.‏ ومجاهد‏.‏ والجحدري‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي خاشعاً بالإفراد، وقرأ أبيّ‏.‏ وابن مسعود خاشعة وقرىء خشع على أنه خبر مقدم، و‏{‏أبصارهم‏}‏ مبتدأ، والجملة في موضع الحال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ‏}‏ حال أيضاً وتشبيههم بالجراد المنتشر في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار، وجاء تشبيههم بالفراش المبثوث ولهم يوم الخروج سهم من الشبه لكل، وقيل‏:‏ يكونون أولاً كالفراش حين يموجون فزعين لا يهتدون أين يتوجهون لأن الفراش لا جهة لها تقصدها، ثم كالجراد المنتشر إذا توجهوا إلى المحشر فهما تشبيهان باعتبار وقتين، وحكي ذلك عن مكي بن أبي طالب‏.‏