فصل: تفسير الآية رقم (47)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ المجرمين‏}‏ من الأولين والآخرين ‏{‏فِي ضلال‏}‏ في هلاك ‏{‏وَسُعُرٍ‏}‏ ونيران مسعرة أو في ضلال عن الحق ونيران في الآخرة، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ في خسران وجنون، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ‏}‏ أي يجرون ‏{‏فِى النار على وُجُوهِهِمْ‏}‏ متعلق بقول مقدر بعده أي يوم يسحبون يقال لهم ‏{‏ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ‏}‏ وجوز أن يكون متعلقاً بمقدر يفهم مما قبل أي يعذبون، أو يهانون، أو نحوه، وجملة القول عليه حال من ضمير ‏{‏يُسْحَبُونَ‏}‏ وجوز كونه متعلقاً بذوقوا على أن الخطاب للمكذبين المخاطبين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أكفاركم‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 43‏]‏ الخ أي ذوقوا أيها المكذبون محمداً صلى الله عليه وسلم يوم يسحب المجرمون المتقدمون، والمراد حشرهم معهم والتسوية بينهم في الآخرة كما ساووهم في الدنيا وهو كما ترى، والمراد بمس سقر ألمها على أنه مجاز مرسل عنه بعلاقة السببية فإن مسها سبب للتألم بها وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في الاستعمال، وفي «الكشاف» ‏{‏مَسَّ سَقَرَ‏}‏ كقولك وجد مس الحمى وذاق طعم الضرب لأن النار إذا أصابتهم بحرها ولحقتهم بإيلامها فكأنها تمسهم مساً بذلك كما يمس الحيوان ويباشر بما يؤذي ويؤلم وهو مشعر بأن في الكلام استعارة مكنية نحو ‏{‏يَنقُضُونَ عَهْدَ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 27‏]‏ ويحتمل غير ذلك، ‏{‏وسقر‏}‏ على لجهنم أعاذنا الله تعالى منها ببركة كلامه العظيم وحرمة حبيبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم من سرقته للنار وصقرته بإبدال السين صاداً لأجل القاف إذا لوحته وغيرت لونه قال ذو الرمة يصف ثور الوحش‏:‏ إذا ذابت الشمس اتقى صقراتها *** بأفنان مربوع الصريمة معبل

وعدم الصرف للعلمية والتأنيث، وقرأ عبد الله إلى النار، وقرأ محبوب عن أبي عمرو ‏{‏ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ‏}‏ بإدغام السين في السين، وتعقب ذلك ابن مجاهد بأن إدغامه خطأ لأنه مشدد، والظن بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف إحدى السينين لاجتماع الأمثال ثم أدغم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا كُلَّ شَىْء‏}‏ من الأشياء ‏{‏خلقناه بِقَدَرٍ‏}‏ أي مقدراً مكتوباً في اللوح قبل وقوعه، فالقدر بالمعنى المشهور الذي يقابل القضاء، وحمل الآية على ذلك هو المأثور عن كثير من السلف، وروى الإمام أحمد‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن ماجه عن أبي هريرة قال‏:‏ «جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر فنزلت ‏{‏يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِى النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ إِنَّا كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 48، 49‏]‏» وأخرج البخاري في «تاريخه»‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وابن عدي‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية ‏"‏ أنزلت فيهم آية في كتاب الله ‏{‏إِنَّ المجرمين فِى ضلال وَسُعُرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 47‏]‏ إلى آخر الآيات، وكان ابن عباس يكره القدرية جداً، أخرج عبد بن حميد عن أبي يحيى الأعرج قال سمعت ابن عباس وقد ذكر القدرية يقول‏:‏ لو أدركت بعضهم لفعلت به كذا وكذا ثم قال‏:‏ الزنا بقدر‏.‏ والسرقة بقدر‏.‏ وشرب الخمر بقدر‏.‏

وأخرج عن مجاهد أنه قال؛ قلت لابن عباس‏:‏ ما تقول فيمن يكذب بالقدر‏؟‏ قال‏:‏ أجمع بيني وبينه قلت‏:‏ ما تصنع به‏؟‏ قال‏:‏ أخنقه حتى أقتله، وقد جاء ذمهم في أحاديث كثيرة، منها ما أخرجه أحمد‏.‏ وأبو داود‏.‏ والطبراني عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لكل أمة مجوس ومجوس أمتي الذين يقولون لا قدر إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم ‏"‏‏.‏ وجوز كون المعنى إنا كل شيء خلقناه مقدراً محكماً مستوفى فيه مقتضى الحكمة التي يدور عليها أمر التكوين، فالآية من باب ‏{‏وَخَلَقَ كُلَّ شَىْء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2‏]‏ ونصب ‏{‏كُلٌّ‏}‏ بفعل يفسره ما بعده أي إنا خلقنا كل شيء خلقناه، وقرأ أبو السمال قال‏:‏ ابن عطية‏.‏ وقوم من أهل السنة برفع كل وهو على الابتداء، وجملة ‏{‏خلقناه‏}‏ هو الخبر، و‏{‏بِقَدَرٍ‏}‏ متعلق به كما في القراءة المتواترة، فتدل الآية أيضاً على أن كل شيء مخلوق بقدر ولا ينبغي أن تجعل جملة خلقناه صفة، ويجعل الخبر ‏{‏بِقَدَرٍ‏}‏ لاختلاف القراءتين معنى حينئذ، والأصل توافق القراآت، وقال الرضى‏:‏ لا يتفاوت المعنى لأن مراده تعالى بكل شيء كل مخلوق سواء نصب ‏{‏كُلٌّ‏}‏ أو رفعته وسواء جعلت ‏{‏خلقناه‏}‏ صفة مع الرفع، أو خبراً عنه، وذلك إن خلقنا كل شيء بقدر لا يريد سبحانه به خلقنا كل ما يقع عليه اسم شيء لأنه تعالى لم يخلق جميع الممكنات غير المتناهية واسم الشيء يقع على كل منها، وحينئذ نقول‏:‏ إن معنى ‏{‏كُلَّ شَىْء خلقناه بِقَدَرٍ‏}‏ على أن خلقناه هو الخبر ‏{‏كُلٌّ‏}‏ مخلوق مخلوق ‏{‏بِقَدَرٍ‏}‏ وعلى أن ‏{‏خلقناه‏}‏ صفة ‏{‏كُلّ شَىْء‏}‏ مخلوق كائن ‏{‏بِقَدَرٍ‏}‏ والمعنيان واحد إذ لفظ ‏{‏كُلٌّ‏}‏ في الآية مختص بالمخلوقات سواء كان ‏{‏خلقناه‏}‏ صفة له أو خبراً، وتعقبه السيد السند قدس سره بأنه لقائل أن يقول‏:‏ إذا جعلنا ‏{‏خلقناه‏}‏ صفة كان المعنى ‏{‏كُلٌّ‏}‏ مخلوق متصف بأنه مخلوقنا كائن بقدر، وعلى هذا لا يمتنع نظراً إلى هذا المعنى أن يكون هناك مخلوقات غير متصفة بتلك الصفة فلا تندرج تحت الحكم، وأماإذا جعلناه خبراً أو نصبنا ‏{‏كُلّ شَىْء‏}‏ فلا مجال لهذا الاحتمال نظراً إلى نفس المعنى المفهوم من الكلام فقد اختلف المعنيان قطعاً ولا يجديه نفعاً أن كل مخلوق متصف بتلك الصفة في الواقع لأنه إنما يفهم من خارج الكلام ولا شك أن المقصود ذلك المعنى الذي لا حتمال فيه، وذكر نحوه الشهاب الخفاجي ولكون النصب نصاً في المقصود اتفقت القراآت المتواترة عليه مع احتياجه إلى التقدير وبذلك يترجح على الرفع الموهم لخلافه وإن لم يحتج إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ واحدة‏}‏ أي ما شأننا إلا فعلة واحدة على نهج لا يختلف ووتيرة لا تتعدد وهي الإيجاد بلا معالجة ومشقة، أو ما أمرنا إلا كلمة واحدة، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنَّ‏}‏ فالأمر مقابل النهي وواحد الأمور، فإذا أراد عز وجل شيئاً قال له‏:‏ ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏{‏كَلَمْحٍ بالبصر‏}‏ أي في السير والسرعة، وقيل‏:‏ هذا في قيام الساعة فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 77‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أشياعكم‏}‏ أي أشباههكم في الكفر من الأمم السالفة، وأصله جمع شيعة وهم من يتقوى بهم المرء من الأتباع ولما كانوا في الغالب من جنس واحد أريد به ما ذكر إما باستعماله في لازمه، أو بطريق الاستعارة، والحال قرينة على ذلك، وقيل‏:‏ هو باق على حقيقته أي أتباعكم ‏{‏فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏ متعظ بذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَكُلُّ شَىْء فَعَلُوهُ‏}‏ من الكفر والمعاصي، والضمير المرفوع للأشياع كما روى عن ابن عباس‏.‏ والضحاك‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن زيد، وجملة ‏{‏فَعَلُوهُ‏}‏ صفة ‏{‏شَىْء‏}‏ والرابط ضمير النصب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى الزبر‏}‏ متعلق بكون خاص خبر المبتدا أي كل شيء فعلوه في الدنيا مكتوب في كتب الحفظة غير مغفول عنه، وتفسير ‏{‏الزبر‏}‏‏.‏ اللوح المحفوظ كما حكاه الطبرسي ليس بشيء، ولم يختلف القراء في رفع ‏{‏كُلٌّ‏}‏ وليست الآية من باب الاشتغال فلا يجوز النصب لعدم بقاء المعنى الحاصل بالرفع لو عمل المشتغل بالضمير في الاسم كما هو اللازم في ذلك الباب إذ يصير المعنى ههنا حينئذ فعلوا ‏{‏فِى الزبر‏}‏ كل شيء إن علقنا الجار بفعلوا وهم لم يفعلوا شيئاً من أفعالهم في الكتب بل فعلوها في أماكنهم والملائكة عليهم السلام كتبوها عليهم في الكتب، أو فعلوا كل شيء مكتوب ‏{‏فِى الزبر‏}‏ إن جعلنا الجار نعتاً لكل شيء، وهذا وإن كان معنى مستقيماً إلا أنه خلاف المعنى المقصود حالة الرفع وهو ما تقدم آنفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ‏}‏ من الأعمال كما روى عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد وغيرهما، وقيل‏:‏ منها ومن كل ما هو كائن إلى يوم القيامة ‏{‏مُّسْتَطَرٌ‏}‏ مسطور مكتتب في اللوح بتفاصيله وهو من السطر بمعنى الكتب، ويقال‏:‏ سطرت واستطرت بمعنى، وقرأ الأعمش‏.‏ وعمران‏.‏ وعصمة عن أبي بكر عن عاصم ‏{‏مُّسْتَطَرٌ‏}‏ بتشديد الراء، قال «صاحب اللوامع»‏:‏ يجوز أن يكو من طر النبات والشارب إذا ظهر، والمعنى كل ‏{‏صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ‏}‏ ظاهر في اللوح مثبت فيه ويجوز أن يكون من الاستطار لكن شدد الراء للوقف على لغة من يقول جعفرّ ويفعلّ بالتشديد وقفاً أي ثم أجرى الوصل مجرى الوقف ووزنه على التوجيه الأول مستفعل وعلى الثاني مفتعل، ولما كان بيان حال سوء الكفرة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المجرمين‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 47‏]‏ الخ مما يستدعي بيان حسن حال المؤمنين ليتكافأ الترهيب والترغيب بين سبحانه ما لهم من حسن الحال بطريق الاجمال فقال عز قائلاً‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ المتقين‏}‏ أي من الكفر والمعاصي، وقيل‏:‏ من الكفر‏.‏

‏{‏فِي جنات‏}‏ عظيمة الشأن ‏{‏وَنَهَرٍ‏}‏ أي أنهار كذلك، والإفراد للاكتفاء باسم الجنس مراعاة للفواصل، وعن ابن عباس تفسيره بالسعة، وأنشد عليه قول لبيد بن ربيعة كما في «الدر المنثور» أو قيس بن الخطيب كما في «البحر» يصف طعنة‏:‏ ملكت بها كفي ‏(‏فأنهرت‏)‏‏}‏ فتقها *** يرى قائم من دونها ما وراءها

أي أوسعت فتقها، والمراد بالسعة سعة المنازل على ما هو الظاهر، وقيل‏:‏ سعة الرزق والمعيشة، وقيل‏:‏ ما يعمهما‏.‏

وأخرج الحكيم والترمذي في «نوادر الأصول» عن محمد بن كعب قال‏:‏ ‏{‏وَنَهَرٍ‏}‏ أي في نور وضياء وهو على الاستعارة بتشبيه الضياء المنتشر بالماء المتدفق من منبعه، وجوز أن يكون بمعنى النهار على الحقيقة، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم في الجنات، وقرأ الأعرج‏.‏ ومجاهد‏.‏ وحميد‏.‏ وأبو السمال‏.‏ والفياض بن غزوان ‏{‏وَنَهَرٍ‏}‏ بسكون الهاء، وهو بمعنى ‏{‏نهر‏}‏ مفتوحها، وقرأ الأعمش‏.‏ وأبو نهيك‏.‏ وأبو مجلز‏.‏ واليمانى ‏{‏جنات وَنَهَرٍ‏}‏ بضم النون والهاء، وهو جمع نهر المفتوح أو الساكن كأسد وأسد، ورهن ورهن وقيل‏:‏ جمع نهار، والمراد أنهم لا ظلمة ولا ليل عندهم كما حكى فيما مر، وقيل‏:‏ قرىء بضم النون وسكون الهاء

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ‏}‏ في مكان مرضي على أن الصدق مجاز مرسل في لازمه أو استعارة، وقيل‏:‏ المراد صدق المبشر به وهو الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو المراد أنه ناله من ماله بصدقه وتصديقه للرسل عليهم السلام، فالإضافة لأدنى ملابسة، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه‏:‏ مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق، وهو المقعد الذي يصدق الله تعالى فيه مواعيد أوليائه بأنه يبيح عز وجل لهم النظر إلى وجهه الكريم، وإفراد المقعد على إرادة الجنس‏.‏

وقرأ عثمان البتي في مقاعد على الجمع وهي توضح أن المراد بالمقعد المقاعد‏.‏

‏{‏عِندَ مَلِيكٍ‏}‏ أي ملك عظيم الملك، وهو صيغة مبالغة وليست الياء من الإشباع ‏{‏مُّقْتَدِرٍ‏}‏ قادر عظيم القدرة، والظرف في موضع الحال من الضمير المستقر في الجار والمجرور، أو خبر بعد خبر، أو صفة لمقعد صدق، أو بدل منه، والعندية للقرب الرتبي وذكر بعضهم أنه سبحانه أبهم العندية والقرب ونكر مليكاً، ومقتدراً للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته عز وجل لا تدري الإفهام كنههما وأن قربهم منه سبحانه بمنزلة من السعادة والكرامة بحيث لا عين رأيت ولا أذن سمعت مما يجل عن البيان وتكل دونه الأذهان‏.‏

وأخرج الحكيم الترمذي عن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المتقين‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 54‏]‏ الخ قال‏:‏ إن أهل الجنة يدخلون على الجبار كل يوم مرتين فيقرأ عليهم القرآن وقد جلس كل امرىء منهم مجلسه الذي هو مجلسه على منابر الدر والياقوت والزمرد والذهب والفضة بالأعمال فلا تقرّ أعينهم قط كما تقرّ بذلك ولم يسمعوا شيئاً أعظم منه ولا أحسن منه ثم ينصرفون إلى رحالهم قريرة أعينهم ناعمين إلى مثلها من الغد وإذا صح هذا فهو من المتشابه كالآية فلا تغفل، ولهذين الاسمين الجليلين شأن في استجابة الدعاء على ما في بعض الآثار‏.‏

أخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن المسيب قال‏:‏ دخلت المسجد وأنا أرى أني أصبحت فإذا على ليل طويل وليس فيه أحد غيري فنمت فسمعت حركة خلفي ففزعت فقال‏:‏ أيها الممتلىء قلبه فرقاً لا تفرق أو لا تفزع وقل اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون ثم سل ما بدا لك قال‏:‏ فما سألت الله تعالى شيئاً إلا استجاب لي وأنا أقول‏:‏ اللهم إنك مليك مقتدر ما تشاء من أمر يكون فأسعدني في الدارين وكن لي ولا تكن علي وانصرني على من بغى علي وأعذني من هم الدين وقهر الرجال وشماتة الأعداء، وصل اللهم وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله رب العالمين‏.‏

‏[‏سورة الرحمن‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 2‏]‏

‏{‏الرَّحْمَنُ ‏(‏1‏)‏ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الرحمن عَلَّمَ القرءان‏}‏ لأنه أعظم النعم شأناً وأرفعها مكاناً كيف لا وهو مدار للسعادة الدينية والدنيوية وعيار على الكتب السماوية ما من مرصد ترنو إليه أحداق الأمم إلا وهو منشؤه ومناطه، ولا مقصد تمتد نحوه أعناق الهمم إلا وهو منهجه وصراطه، ونصبه على أنه مفعول ثان لعلم ومفعوله الأول محذوف لدلالة المعنى عليه أي علم الإنسان القرآن وهذا المفعول هو الذي كان فاعلاً قبل نقل فعل الثلاثي إلى فعل المضعف، وسها الإمام فحسب أن المحذوف المفعول الثاني حيث قال‏:‏ علم لا بد له من مفعول ثان وترك للإشارة إلى أن النعمة في التعليم لا في تعليم شخص دون شخص، ويمكن أن يقال‏:‏ أراد أنه لا بد له من مفعول آخر مع هذا المفعول فلا جزم بسهوه، وقيل‏:‏ المقدر جبريل عليه السلام أو الملائكة المقربين عليهم السلام، وقيل‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى القولين يتضمن ذلك الإشارة إلى القرآن كلام الله عز وجل، والقول الأول أظهر وأنسب بالمقام، ولي في تعليم غير جبريل عليه السلام من الملائكة الكرام تردد مّا بناءاً على ما في الإتقان نقلاً عن ابن الصلاح من أن قراءة القرآن كرامة أكرم الله تعالى بها البشر فقد ورد أن الملائكة لم يعطوا ذلك وأنهم حريصون لذلك على استماعه من الإنس، وإنما لم أعتبر عمومه للنصوص الدالة على أن جبريل عليه السلام كان يقرأ القرآن وكأني بك لا تسلم صحة ما ذكر وإن استثنى منه جبريل عليه السلام، وقيل‏:‏ ‏{‏عِلْمٍ‏}‏ من العلامة ولا تقدير أي جعل القرآن علامة وآية لمن اعتبر، أو علامة للنبوة ومعجزة، وهذا على ما قيل‏:‏ يناسب ما ذكر في مفتتح السورة السابقة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وانشق القمر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 1‏]‏ وتتناسب السورتان في المفتتح حيث افتتحت الأولى بمعجزة من باب الهيبة وهذه بمعجزة من باب الرحمة‏.‏

وقد أبعد القائل ولو أبدى ألف مناسبة، فالذي ينبغي أن يعلم أنه من التعليم، والمراد بتعليم القرآن قيل‏:‏ إفادة العلم به لا بمعنى إفادة العلم بألفاظه فقط بل بمعنى إفادة ذلك والعلم بمعانيه على وجه يعتدّ به وهو متفاوت وقد يصل إلى العلم بالحوادث الكونية من إشاراته ورموزه إلى غير ذلك فإن الله تعالى لم يغفل شيئاً فيه‏.‏

أخرج أبو الشيخ في كتاب العظمة عن أبي هريرة مرفوعاً «إن الله لو أغفل شيئاً لأغفل الذرة والخردلة والبعوضة»‏.‏

وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنزل في هذا القرآن علم كل شيء وبين لنا فيه كل شيء ولكن علمنا يقصر عما بين لنا في القرآن، وقال ابن عباس‏:‏ لو ضاع لي عقال بعير لوجدته في كتاب الله تعالى؛ وقال المرسي‏:‏ جمع القرآن علوم الأولين والآخرين بحيث لم يحط بها علماً حقيقة إلا المتكلم به، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا ما استأثر به سبحانه، ثم ورث عنه معظم ذلك سادات الصحابة وأعلامهم كالخلفاء الأربعة، ثم ورث عنهم التابعون لهم بإحسان، ثم تقاصرت الهمم وفترت العزائم وتضاءل أهل العلم وضعفوا عن جمل ما حمله الصحابة والتابعون من علومه وسائر فنونه، وفسر بعضهم التعليم بتنبيه النفس لتصور المعاني، وجوز الإمام أن يراد به هنا جعل الشخص بحيث يعلم القرآن فالآية كقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرءان لِلذّكْرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏ وهو بهذا المعنى مجاز كما لا يخفى، و‏{‏الرحمن‏}‏ مبتدأ، والجملة بعده خبره كما هو الظاهر، وإسناد تعليمه إلى اسم ‏{‏الرحمن‏}‏ للإيذان بأنه من آتار الرحمة الواسعة وأحكامها، وتقديم المسند إليه إما للتأكيد أو للحصر، وفيه من تعظيم شأن القرآن ما فيه، وقيل‏:‏ ‏{‏الرحمن‏}‏ خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره محذوف أي الله الرحمن، أو الرحمن ربنا وما بعد مستأنف لتعديد نعمه عز وجل وهو خلاف الظاهر، ثم أتبع سبحانه نعمة تعليم القرآن بخلق الإنسان فقال تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏خَلَقَ الإنسان‏}‏ لأن أصل النعم عليه، وإنما قدم ما قدم منها لأنه أعظمها، وقيل‏:‏ لأنه مشير إلى الغاية من خلق الإنسان وهو كماله في قوة العلم والغاية متقدمة على ذي الغاية ذهناً وإن كان الأمر بالعكس خارجاً، والمراد بالإنسان الجنس وبخلقه إنشاؤه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة، ثم أتبع عز وجل ذلك بنعمة تعليم ‏{‏البيان‏}‏ فقال سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏عَلَّمَهُ البيان‏}‏ لأن البيان هو الذي به يتمكن عادة من تعلم القرآن وتعليمه، والمراد به المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير‏.‏

والمراد بتعليمه نحو ما مر، وفي «الإرشاد» أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الإنسان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 3‏]‏ تعيين للمتعلم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عَلَّمَهُ البيان‏}‏ تبيين لكيفية التعليم، والمراد بتعليم البيان تمكين الإنسان من بيان نفسه، ومن فهم بيان غيره إذ هو الذي يدور عليه تعليم القرآن‏.‏ وقيل‏:‏ بناءاً على تقدير المفعول المحذوف الملائكة المقربين إن تقديم تعليم القرآن لتقدمه وقوعاً فهم قد علموه قبل خلق الإنسان وربما يرمز إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ فِى كتاب مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 77 79‏]‏ وفي «النظم الجليل» عليه حسن زائد حيث إنه تعالى ذكر أموراً علوية وأموراً سفلية وكل علوي قابله بسفلي ويأتي هذا على تقدير المفعول جبريل عليه السلام أيضاً؛ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏البيان‏}‏ الخير والشر، وقال ابن جريج‏:‏ سبيل الهدى وسبيل الضلالة، وقال يمان‏:‏ الكتابة والكل كما ترى، وجوز أن يراد به القرآن وقد سماه الله تعالى بياناً في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏هذا بَيَانٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 138‏]‏ وأعيد ليكون الكلام تفصيلاً لإجمال ‏{‏علم القرآن‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 2‏]‏ وهذا في غاية البعد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ‏{‏الإنسان‏}‏ آدم‏.‏ و‏{‏البيان‏}‏ علم الدنيا والآخرة، وقيل‏:‏ ‏{‏البيان‏}‏ أسماء الأشياء كلها‏.‏ وقيل‏:‏ التكلم بلغات كثيرة، وقيل‏:‏ الاسم الأعظم الذي علم به كل شيء، ونسب هذا إلى جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ ‏{‏الإنسان‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وعليه قيل‏:‏ المراد بالبيان بيان المنزل‏.‏ والكشف عن المراد به كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 44‏]‏ أو الكلام الذي يشرح به المجمل والمبهم في القرآن أو القرآن نفسه على ما سمعت آنفاً، أو نحو ذلك مما يناسبه عليه الصلاة والسلام ويليق به من المعاني السابقة، ولعل ابن كيسان يقدر مفعول علم الإنسان مراداً به النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً، وهذه أقوال بين يديك، والمتبادر من الآيات الكريمة لا يخفى عليك ولا أظنك في مرية من تبادر ما ذكرناه فيها أولاً‏.‏ ثم إن كلاً من الجملتين الأخيرتين خبر عن المبتدأ كجملة ‏{‏عَلَّمَ القرءان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 2‏]‏ وكذا قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ‏}‏ والجار والمجرور فيه خبر بتقدير مضاف أي جري ‏{‏الشمس والقمر‏}‏ كائن أو مستقر ‏{‏بِحُسْبَانٍ‏}‏ أو الخبر محذوف والجار متعلق به أي يجريان بحسبان وهو مصدر كالغفران بمعنى الحساب كما قال قتادة‏.‏ وغيره أي هما يجريان ‏{‏بِحُسْبَانٍ‏}‏ مقدر في بروجهما ومنازلهما بحيث ينتظم بذلك أمور الكائنات السفلية وتختلف الفصول والأوقات ويعلم السنون والحساب، وقال الضحاك‏.‏ وأبو عبيدة‏:‏ هو جمع حساب كشهاب وشهبان أي هما يجريان بحسابات شتى في بروجهما ومنازلهما، وقال مجاهد‏:‏ الحسبان الفلك المستدير من حسبان الرحا وهو ما أحاط بها من أطرافها المستديرة، وعليه فالباء للظرفية، والجار والمجرور في موضع الخبر من غير احتياج إلى ما تقدم، والمراد كل من ‏{‏الشمس والقمر‏}‏ في فلك، والجمهور على الأول وجريان الشمس والقمر مما لا ينبغي أن يشك فيه‏.‏

وفلاسفة العصر كانوا يزعمون أن الشمس لا تجري أصلاً، وأن القمر يجري على الأرض، والأرض تجري على الشمس، وقد سمعنا أنهم عدلوا منذ أعوام عن ذلك، فزعموا أن للشمس حركة على كوكب آخر وهذا يدل على أنهم لم يكن عندهم برهان على دعواهم الأولى كما كان يقوله من كان ينتصر لهم، والظاهر أن حالهم اليوم بل وغداً مثل حالهم بالأمس، ونحن مع الظواهر حتى يقوم الدليل القطعي على خلافها وحينئذٍ نميل إلى التأويل وبابه واسع، ومثل هذه الجملة قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏والنجم والشجر يَسْجُدَانِ‏}‏ فإن المعطوف على الخبر خبر، والمراد بالنجم النبات الذي ينجم أي يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له، وبالشجر النبات الذي له ساق، وهو المروى عن ابن عباس‏.‏ وابن جبير‏.‏ وأبي رزين؛ والمراد بسجودهما انقيادهما له تعالى فيما يريد بهما طبعاً، شبه جريهما على مقتضى طبيعتيهما بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له‏.‏ ثم استعمل اسم المشبه به في المشبه فهناك استعارة مصرحة تبعية، وقال مجاهد‏.‏ والحسن، وفي رواية أخرى عن مجاهد أن سجودهما عبارة عن انقيادهما لما يريد سبحانه بهما طبعاً، والجمهور على تفسير النجم بما سمعت أولاً قبل لأن اقترانه بالشجر يدل عليه، وإن كان تقدم ‏{‏الشمس والقمر‏}‏ يتوهم منه أنه بمعناه المعروف ففيه تورية ظاهرة، وإخلاء الجمل الثانية‏.‏ والثالثة‏.‏ والرابعة عن العاطف لورودها على نهج التعديد مع الإشارة إلى أن كلاً مما تضمنته نعمة مستقلة تقتضي الشكر، وقد قصروا في أدائه ولو عطفت مع شدة اتصالها وتناسبها ربما توهم أن الكل نعمة واحدة‏.‏

وتوسيط العاطف بين الرابعة والخامسة رعاية لتناسبهما من حيث التقابل لما أن ‏{‏الشمس والقمر‏}‏ علويان ‏{‏والنجم والشجر‏}‏ سفليان، ومن حيث إن كلاً من حال العلويين وحال السفليين من باب الانقياد لأمر الله عز وجل وخلوهما عن الرابط اللفظي مع كونهما خبرين للتعويل على كمال قوة الارتباط المعنوي إذ لا يتوهم ذهاب الوهم إلى كون حال ‏{‏الشمس والقمر‏}‏ بتسخير غيره تعالى، ولا إلى كون سجود النجم والشجر لسواه سبحانه فكأنه قيل‏:‏ الشمس والقمر بحسبانه ‏{‏والنجم والشجر يَسْجُدَانِ‏}‏ له كذا قالوه، وفي «الكشف»‏:‏ تبيينا لما ذكره صاحب الكشاف في هذا المقام أخلى الجمل أي التي قبل ‏{‏الشمس والقمر بحسبان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 5‏]‏ عن العاطف لأن الغرض تعديد النعم وتبكيت المنكر كما يقال‏:‏ زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد فما تنكر من إحسانه كأنه لما عد نعمة حرك منه حتى يتأمل هل شكرها حق شكرها أم لا، ثم يأخذ في أخرى ولو جىء بالعاطف صارت كواحدة ولم يكن من التحريك في شيء، ولما قضى الوطر من التعديد المحرك والتبكيت بذكر ما هو أصل النعم على نمط رد الكلام على منهاجه الأصلي من تعداد النعم واحدة بعد أخرى على التناسب والتقارب بحرف النسق، وفيه تنبيه على أن النعم لا تحصى فليكتف بتعديد أجلها رتبة للغرض المذكور‏.‏

وجملة ‏{‏الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 5‏]‏ ليست من أخبار المبتدأ، والزمخشري إنما سأل عن وجه الربط، وأجاب بأن الربط حاصل بالوصل المعنوي كأنه بعد ما بكت ونبه أخذ يعد عليه أصول النعم ليثبت على ما طلب منه من الشكر، وهذا كما تقول في المثال السابق بعد قولك‏:‏ فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد دانت له أقرانك وأطاعته إخوانك وبسط نواله فيمن تحت ملكته ولم يخرج أحد من حياطة عدله ونصفته، فلا يشك ذو أرب أنها جمل منقطعة عن الأولى إعراباً متصلة بها اتصالاً معنوياً أورثها قطعها لأنها سيقت لغرض وهذه لآخر، وقريب من هذا الاتصال اتصال قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ الآية بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ الآية انتهى‏.‏

وقد أبعد المغزى فيما أرى إلا أن ظاهر كلام الكشاف يقتضي كون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 5‏]‏ من الأخبار فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏والسماء رَفَعَهَا‏}‏ أي خلقها مرفوعة ابتداءاً لا أنها كانت مخفوضة ورفعها، والظاهر أن المراد برفعها الرفع الصوري الحسي، ويجوز أن يكون المراد به ما يشمل الصوري والمعنوي بطريق عموم المجاز أو الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه‏.‏ ورفعها المعنوي الرتبي لأنها منشأ أحكامه تعالى وقضاياه ومنزل أوامره سبحانه ومحل ملائكته عز وجل، وقرأ أبو السمال ‏{‏والسماء‏}‏ بالرفع على الابتداء، ولا إشكال فيه لأن الجملة عليه اسمية معطوفة على مثلها، وإنما الإشكال في النصب لأنه بفعل مضمر على شريطة التفسير أي ورفع السماء فتكون الجملة فعلية فإن عطفت على جملة ‏{‏النجم والشجر يسجدان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 6‏]‏ الكبرى لزم تخالف الجملتين المعطوفة والمعطوف عليها بالاسمية والفعلية وهو خلاف الأولى، وإن عطفت على جملة ‏{‏يَسْجُدَانِ‏}‏ الصغرى لزم أن تكون خبراً للنجم والشجر مثلها، وذلك لا يصح إذ لا عائد فيها إليهما، وكذا يقال في العطف على كبرى وصغرى ‏{‏الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 5‏]‏ وأجاب أبو علي باختيار الثاني، وقال‏:‏ لا يلزم في المعطوف على الشيء أن يعتبر فيه حال ذلك الشيء، وتلا باب قولهم متقلداً سيفاً ورمحاً، وبعضهم باختيار الأول ويحسن التخالف إذا تضمن نكتة، قال الطيبي‏:‏ الظاهر أن يعطف على جملة ‏{‏الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ‏}‏ ليؤذن بأن الأصل أجرى الشمس والقمر، وأسجد النجم والشجر، فعدل إلى معنى دوام التسخير والانقياد في الجملتين الأوليين، ومعنى التوكيد في الأخيرة والكلام فيما يتعلق بالرفع والنصب فيما إذا ولي العاطف جملة ذات وجهين مفصل في كتب النحو ‏{‏وَوَضَعَ الميزان‏}‏ أي شرع العدل وأمر به بأن وفر على كل مستعد مستحقه، ووفى كل ذي حق حقه حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «بالعدل قامت السموات والأرض» أي بقيتا على أبلغ نظام وأتقن إحكام، وقال بعضهم‏:‏ المراد بقاء من فيهما من الثقلين إذ لولا العدل أهلك أهل الأرض بعضهم بعضاً، وأما الملأ الأعلى فلا يقع بينهم ما يحتاج للحكم والعدل، فذكرهم للمبالغة، والذي أختاره أن المراد بالسموات والأرض العالم جميعه ولا شك أنه لولا العدل لم يكن العالم منتظماً‏.‏ ومنشأ ما ذكره القائل ظن أن المراد بالعدل في الحديث العدل في الحكم لفصل الخصومات ونحوه وليس كما ظن بل المراد به عدل الله عز وجل وإعطاؤه سبحانه كل شيء خلقه‏.‏ وتفسير الميزان بما ذكر هو المروى عن مجاهد‏.‏ والطبري‏.‏ والأكثرين، وهو مستعار للعدل استعارة تصريحية؛ وعن ابن عباس‏.‏ والحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ والضحاك أن المراد به ما يعرف به مقادير الأشياء من الآلة المعروفة والمكيال المعروف ونحوهما، فالمعنى خلقه موضوعاً مخفوضاً على الأرض حيث علق به أحكام عباده وقضاياهم المنزلة من السماء وما تعبدهم به من التسوية والتعديل في أخذهم وأعطائهم، والمشهور أنه بهذا المعنى مجاز أيضاً من استعمال المقيد في المطلق، وقيل‏:‏ هو حقيقة، فالواضع لم يضعه إلا لما يعرف به المقادير على أي هيئة ومن أي جنس كان، والناس لما ألفوا المعروف لا يكاد يتبادر إلى أذهانهم من لفظ ‏{‏الميزان‏}‏ سواه، وقيل‏:‏ المراد به المعروف واللفظ فيه حقيقة ولا يسلم الوضع للعام‏.‏ ورجح القولان الأخيران بأن ما بعد أشدّ ملاءمة لهما وبين الوضع والرفع عليهما تقابل، وقد قرأ عبد الله وخفض الميزان والأول بأنه أتم فائدة فزن ذلك بميزان ذهنك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِى الميزان‏}‏ أي لئلا تطغوا فيه أي حقه وشأنه بأن تعتدوا وتتجاوزوا ما ينبغي فيه على أن ‏{‏ءانٍ‏}‏ ناصبة و‏{‏لا‏}‏ نافية ولام العلة مقدرة متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وُضِعَ الميزان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 7‏]‏ وجوز ابن عطية‏.‏ والزمخشري كون ‏{‏ءانٍ‏}‏ تفسيرية، و‏{‏لا‏}‏ ناهية‏.‏

واعترضه أبو حيان بأنه لم يتقدم جملة فيها معنى القول وهو شرط في صحة جعل ‏{‏ءانٍ‏}‏ مفسرة، وأجيب بأن وضع الميزان فيه ذلك لأنه بالوحي وإعلام الرسل عليهم السلام، وزعم بعضهم أن التفسير متعين لأنه لا معنى لوضع الميزان لئلا تطغوا في الميزان إذ المناسب الموزون ونحوه، وفيه ما لا يخفى، وفي «البحر» قرأ إبراهيم ‏{‏وَوَضَعَ الميزان‏}‏ بإسكان الضاد، وخفض الميزان على أن ‏{‏وُضِعَ‏}‏ مصدر مضاف إلى ما بعده ولم يبين هل ‏{‏وُضِعَ‏}‏ مرفوع أو منصوب، فإن كان مرفوعاً فالظاهر أنه مبتدأ ‏{‏وَأَن لاَّ تَطْغَوْاْ‏}‏ بتقدير الجار في موضع الخبر‏.‏ وإن كان منصوباً فالظاهر أن عامله مقدر أي وفعل ‏{‏وُضِعَ الميزان‏}‏ أو ووضع وضع الميزان ‏{‏أَن لا تَطْغَوْاْ‏}‏ الخ، وقرأ عبد الله لا تطغوا بغير ‏{‏ءانٍ‏}‏ على إرادة القول أي قائلاً، أو نحوه لأقل كما قيل و‏{‏لا‏}‏ ناهية بدليل الجزم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط‏}‏ قوموا وزنكم بالعدل، وقال الراغب‏:‏ هذا إشارة إلى مراعاة المعدلة في جميع ما يتحراه الإنسان من الأفعال والأقوال، وعن مجاهد أن المعنى أقيموا لسان الميزان بالعدل إذا أردتم الأخذ والإعطاء، وقال سفيان بن عيينة‏:‏ الإقامة باليد، والقسط بالقلب، والظاهر أن الجملة عطف على الجملة المنفية قبلها ولا يضر في ذلك كونها إنشائية، وتلك خبرية لأنها لتأويلها بالمفرد تجردت عن معنى الطلب، وجعل بعضهم ‏{‏لا‏}‏ في الأولى مطلقاً ناهية حرصاً على التوافق ‏{‏وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان‏}‏ أي لا تنقصوه فإن من حقه أن يسوى لأنه المقصود من وضعه وكرر لفظ ‏{‏الميزان‏}‏ بدون إضماره كما هو مقتضى الظاهر تشديداً للتوصية وتأكيداً للأمر باستعماله والحث عليه، بل في الجمل الثلاث تكرار مّا معنى لذلك، وقرىء ‏{‏وَلاَ تُخْسِرُواْ‏}‏ بفتح التاء وضم السين، وقرأ زيد بن علي‏.‏ وبلال بن أبي بردة بفتح التاء وكسر السين‏.‏

وحكى ابن جني‏.‏ وصاحب اللوامح عن بلال أنه قرأ بفتحهما، وخرّج ذلك الزمخشري على أن الأصل ولا تخسروا في الميزان فحذف الجار، وأوصل الفعل بناءاً على أنه لم يجىء إلا لازماً، وتعقبه أبو حيان بأن خسر قد جاء متعدياً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏وَخَسِرَ الدنيا والاخرة‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 11‏]‏ فلا حاجة إلى دعوى الحذف والإيصال، وأجيب بأنه على تقدير أن يكون متعدياً هنا لا بد من القول بالحذف والإيصال لأن المعنى على حذف المفعول به أي لا تخسروا أنفسكم في الميزان أي لا تكونوا خاسريها يوم القيامة بسبب الميزان بأن لا تراعوا ما ينبغي فيه، والراغب جوز حمل الآية على القراءة المشهورة على نحو هذا فقال‏:‏ إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان‏}‏ يجوز أن يكون إشارة إلى تحري العدالة في الوزن وترك الحيف فيما يعاطاه فيه، ويجوز أن يكون إشارة إلى تعاطي ما لا يكون به في القيامة خاسراً فيكون ممن قال سبحانه فيه‏:‏ ‏{‏مَنْ خَفَّتْ موازينه‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 8‏]‏ وكلا المعنيين متلازمان، وقيل‏:‏ المعنى على التعدي بتقدير مضاف أي موزون الميزان، أو جعل الميزان مجازاً عن الموزون فيه فتأمل ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏والارض وَضَعَهَا‏}‏ خلقها موضوعة مخفوضة عن السماء حسبما يشاهد، وقال الراغب‏:‏ الوضع هنا الإيجاد والخلق وكأن مراده ما ذكر، وقيل‏:‏ أي خفضها مدحوّة على الماء، والظاهر على تقدير اعتبار الدحو أنه لا حاجة إلى اعتبار أنه سبحانه خلقها كذلك بل لا يصح لأنها لم تخلق مدحوّة وإنما دحيت بعد على ما روي عن ابن عباس، ثم إن كونها على الماء مبني على ما اشتهر أنه عز وجل خلق الماء قبلها وخلقها سبحانه من زبده ‏{‏لِلاْنَامِ‏}‏ قال ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن زيد‏.‏ والشعبي‏.‏ ومجاهد على ما في مجمع البحرين‏:‏ الحيوان كله، وقال الحسن‏:‏ الإنس والجن‏.‏

وفي رواية أخرى عن ابن عباس هم بنو آدم فقط ولم أر هذا التخصيص لغيره رضي الله تعالى عنه، ففي «القاموس» الأنام الخلق أو الجن والإنس، أو جميع ما على وجه الأرض، ويحتمل أنه أراد أن المراد به هنا ذلك بناءاً على أن اللام للانتفاع وأنه محمول على الانتفاع التام وهو للإنس أتم منه لغيرهم، والأولى عندي ما حكى عنه أولاً، وقرأ أبو السمال ‏{‏والارض‏}‏ بالرفع، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فِيهَا فاكهة‏}‏ الخ استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة من كون الأرض موضوعة لنفع الأنام، وقيل‏:‏ حال مقدرة من ‏{‏الأرض‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 10‏]‏، أو من ضميرها، فالأحسن حينئذٍ أن يكون الحال هو الجار والمجرور، و‏{‏فاكهة‏}‏ رفع على الفاعلية والتنوين بمعونة المقام للتكثير أي فيها ضروب كثيرة مما يتفكه به ‏{‏والنخل ذَاتُ الاكمام‏}‏ هي أوعية التمر أعني الطلع على ما روي عن ابن عباس جمع كم بكسر الكاف وقد تضم، وهذا في كم الثمر، وأما كم القميص فهو بالضم لا غير، أو كل ما يكم ويغطى من ليف وسعف وطلع فإنه مما ينتفع به كالمكموم من الثمر والجمار مثلاً، واختاره من اختاره، ومما ذكر يعلم فائدة التوصيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏والحب‏}‏ هو ما يتغذى به كالحنطة والشعير ‏{‏ذُو العصف‏}‏ قيل‏:‏ هو ورق الزرع، وقيده بعضهم باليابس، وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه التبن، وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن الضحاك أنه القشر الذي يكون على الحب؛ وعن السدي‏.‏ والفراء أنه بقل الزرع وهو أول ما ينبت، وأخرجه غير واحد عن الحبر أيضاً، واختار جمع ما روي عنه أولاً، وفي توصيف الحب بما ذكر تنبيه على أنه سبحانه كما أنعم عليهم بما يقوتهم من الحب أنعم عليهم بما يقوت بهائمهم من العصف ‏{‏والريحان‏}‏ هو كل مشموم طيبَ الريح من النبات على ما أخرجه ابن جرير عن ابن زيد، وأخرج عن الحسن أنه قال‏:‏ هو ريحانكم هذا أي الريحان المعروف؛ وأخرج عن مجاهد أنه الرزق بل قال ابن عباس‏:‏ كما أخرج هو أيضاً عنه كل ريحان في القرآن فهو رزق، وزعم الطبرسي أنه قول الأكثر، وعليه قول بعض الأعراب، وقد قيل له‏:‏ إلى أين أطلب من ريحان الله فإنه أراد من رزقه عز وجل، ووجه إطلاقه عليه أنه يرتاح له، وظاهر كلام الكشاف أنه أطلق وأريد منه اللب ليطابق العصف ويوافق المراد منه في قراءة‏.‏ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ والأصمعي عن أبي عمرو ‏{‏والريحان‏}‏ بالجر عطفاً على ‏{‏العصف‏}‏ إذ يبعد عليها حمله على المشموم والقريب حمله على اللب فكأنه قيل‏:‏ والحب ذو العصف الذي هو رزق دوابكم، وذو اللب الذي هو رزق لكم، وجوز أن يكون الريحان في هذه القراءة عطفاً على ‏{‏فاكهة‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 11‏]‏ كما في قراءة الرفع، والجر للمجاورة وهو كما ترى، والزمخشري بعد أن فسر ‏{‏الاكمام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 11‏]‏ بما ذكرناه ثانياً فيها ‏{‏والريحان‏}‏ باللب قال‏:‏ أراد سبحانه فيها ما يتلذذ به من الفواكه، والجامع بين التغذي والتلذذ وهو ثمر النخل وما يتغذى به وهو الحب وهو على ما في «الكشف» بيان لإظهار وجه الامتنان وأنه مستوعب لأقسام ما يتناول في حال الرفاهية لأنه إما للتلذذ الخالص وهو الفاكهة؛ أوله وللتغذي أيضاً وهو ثمر النخل، أو للتغذي وحده وهو الحب، ولما كان الأخيران أدخل في الامتنان شفع كلاً بعلاوة فيها منة أيضاً، وأنت تعلم أنه إذا كان المقصود من النخل ثمره المعروف فالعطف على أسلوب ‏{‏ملائكته وجبريل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏ كما قيل به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 68‏]‏ وإذا كان ما يعمه وسائر ما ينتفع به منه كالجمار والكفرى، فالعطف ليس على ذلك، وجعل صاحب الكشف قول الزمخشري بعد تفسير ‏{‏الاكمام‏}‏ بالمعنى الأعم وكله منتفع به كالمكموم إشارة إلى هذا، ثم قال‏:‏ ولا ينافي جعله منه في قوله تعالى‏:‏

‏{‏فِيهَا فاكهة‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 11‏]‏ الخ نظراً إلى أن الجنة دار تخلص للتلذذ فالنظر هنالك إلى المقصود وهو الثمر فقط فتأمل‏.‏

وقرأ ابن عامر‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة والحب ذا العصف والريحان بنصب الجميع، وخرج على أنه بتقدير وخلق الحب الخ، وقيل‏:‏ يجوز تقدير أخص، وفيه دغدغة، وجوزوا أن يكون الريحان بمعنى اللب حالة الرفع وحالة النصب على حذف مضاف‏.‏ والأصل وذو أو وذا الريحان فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه و‏{‏الريحان‏}‏ فيعلان من الروح‏.‏ فأصله ريوحان قبلت الواو ياءاً لاجتماعها مع ياء ساكنة قبلها وأدغمت في الياء فصار ريحان بالتشديد ثم حذفت الياء الثانية التي هي عين الكلمة فقيل‏:‏ ريحان كما قيل‏:‏ ميت وهين بسكون الياء‏.‏

وعن أبي علي الفارسي أنه فعلان وأصله روحان بفتح الراء وسكون الواو قلبت واوه ياءاً للتخفيف وللفرق بينه وبين الروحان بمعنى ماله روح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ الخطاب للثقلين لأنهما داخلان في ‏{‏الأنام‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 10‏]‏ على ما اخترناه، أو لأن الأنام عبارة عنهما على ما روي عن الحسن، وسينطق بهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَنَّهُ *الثقلان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 31‏]‏ وفي الأخبار كما ستعلمه إن شاء الله تعالى قريباً ما يؤيده، وقد أبعد من ذهب إلى أنه خطاب للذكر والأنثى من بني آدم، وأبعد أكثر منه من قال‏:‏ إنه خطاب على حد ‏{‏أَلْقِيَا فِى جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 24‏]‏ ويا شرطي أضربا عنقه، يعني أنه خطاب للواحد بصورة الاثنين والفاء لترتيب الإنكار، والتوبيخ على ما فصل من فنون النعماء وصنوف الآلاء الموجبة للإيمان والشكر حتماً، والتعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية الكلية والتربية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد النكير وتشديد التوبيخ ومعنى تكذيبهم بشيء من آلائه تعالى كفرهم به إما بإنكار كونه منه عز وجل مع عدم الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كتعليم القرآن وما يستند إليه من النعم الدينية، وإما بإنكار كونه منه تعالى مع الاعتراف بكونه نعمة في نفسه كالنعم الدنيوية الواصلة إليهم بإسناده إلى غيره سبحانه استقلالاً، أو اشتراكاً صريحاً، أو دلالة فإنه إشراكهم لآلهتهم به تعالى في العبادة من دواعي إشراكهم لها به تعالى فيما يوجبها، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لما أن دلالة الآلاء المذكورة على وجوب الإيمان والشكر شهادة منها بذلك فكفرهم بها تكذيب لا محالة أي فإذا كان الأمر كما فصل ‏{‏فَبِأَىّ‏}‏ فرد من أفراد نعم مالككما ومربيكما بتلك النعم ‏{‏تُكَذّبَانِ‏}‏ مع أن كلاً منها ناطق بالحق شاهد بالصدق ويندب أن يقول سامع هذه الآية‏:‏ لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد، فقد أخرج البزار‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والدارقطني في الإفراد‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والخطيب في تاريخه بسند صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ سورة ‏{‏الرحمن‏}‏ على أصحابه فسكتوا فقال‏:‏ مالي أسمع الجن أحسن جواباً لربها منكم ما أتيت على قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ إلا قالوا‏:‏ لا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد»‏.‏

وأخرج الترمذي وجماعة وصححه الحاكم عن جابر بن عبد الله نحوه، وقرىء ‏{‏فَبِأَىّ‏}‏ بالتنوين في جميع السورة كأنه حذف منه المضاف إليه وأبدل منه ‏{‏رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ بدل معرفة من نكرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏خَلَقَ الإنسان مِن صلصال كالفخار‏}‏ تمهيد للتوبيخ على إخلالهم بمواجب شكر النعمة المتعلقة بذاتي كل واحد من الثقلين، والمراد بالإنسان آدم عند الجمهور‏.‏ وقيل‏:‏ الجنس وساغ ذلك لأن أباهم مخلوق مما ذكر، والصلصال الطين اليابس الذي له صلصلة، وأصله كما قال الراغب تردد الصوت من الشيء اليابس‏.‏ ومنه قيل‏:‏ صل المسمار، وقيل‏:‏ هو المنتن من الطين من قولهم‏:‏ صل اللحم، وكأنه أصله صلال فقلبت إحدى اللامين صاداً ويبعد ذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كالفخار‏}‏ وهو الخذف أعني ما أحرق من الطين حتى تحجر وسمي بذلك لصوته إذا نقر كأنه تصور بصورة من يكثر التفاخر، وقد خلق الله تعالى آدم عليه السلام من تراب جعله طيناً ثم حمأ مسنوناً ثم صلصالاً فلا تنافي بين الآية الناطقة بأحدها وبين ما نطق بأحد الآخرين ‏{‏وَخَلَقَ الجان‏}‏ هو أبو الجن وهو إبليس قاله الحسن، وقال مجاهد‏:‏ هو أبو الجن وليس بإبليس، وقيل‏:‏ هو اسم جنس شامل للجن كلهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏مِن مَّارِجٍ‏}‏ من لهب خالص لا دخان فيه كما هو رواية عن ابن عباس وقيل‏:‏ هو اللهب المختلط بسواد النار، أو بخضرة وصفرة وحمرة كما روى عن مجاهد من مرج الشيء إذا اضطرب واختلط، و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن نَّارٍ‏}‏ بيان لمارج والتنكير للمطابقة ولأن التعريف لكنه عليه فكأنه قيل‏:‏ خلق من نار خالصة، أو مختلطة على التفسيرين، وجوز جعل ‏{‏مِنْ‏}‏ فيه ابتدائية فالتنكير لأنه أريد نار مخصوصة متميزة من بين النيران لا هذه المعروفة، وأياً ما كان فالمارج بالنسبة إلى الجان كالتراب بالنسبة إلى الإنسان، وفي الآية رد على من يزعم أن الجن نفوس مجردة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ مما أفاض عليكم في تضاعيف خلقكما من سوابغ النعم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو رب الخ، أو الذي فعل ما ذكر من الأفاعيل البديعة رب مشرقي الشمس صيفاً وشتاءاً ومغربيها كذلك على ما أخرجه جماعة عن ابن عباس، وروى عن مجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ وعكرمة أن ‏{‏المشرقين‏}‏ مشرقاً الشتاء ومشرق الصيف، و‏{‏المغربين‏}‏ مغرب الشتاء ومغرب الصيف بدون ذكر الشمس، وقيل‏:‏ المشرقان مشرقا الشمس والقمر، والمغربان مغرباهما‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن ‏{‏المشرقين‏}‏ مشرق الفجر ومشرق الشفق، و‏{‏المغربين‏}‏ مغرب الشمس ومغرب الشفق، وحكى أبو حيان في المغربين نحو هذا، وفي المشرقين أنهما مطلع الفجر ومطلع الشمس والمعول ما عليه الأكثرون من مشرقي الصيف والشتاء ومغربيهما، ومن قضية ذلك أن يكون سبحانه رب ما بينهما من الموجودات، وقيل‏:‏ ‏{‏رَبّ‏}‏ مبتدأ والخبر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَرَجَ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 19‏]‏ الخ، وليس بذاك‏.‏

وقرأ أبو حيوة‏.‏ وابن أبي عبلة ‏{‏رَبّ‏}‏ بالجر على أنه بدل من ‏[‏الرحمن‏:‏ 16‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ مما في ذلك من فوائد لا تحصى كاعتدال الهواء واختلاف الفصول وحدوث ما يناسب كل فصل في وقته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏مَرَجَ البحرين‏}‏ أي أرسلهما وأجراهما من مرجت الدابة في المرعى أرسلتها فيه، والمعنى أرسل البحر الملح والبحر العذب ‏{‏يَلْتَقِيَانِ‏}‏ أي يتجاوران وتتماس سطوحهما لا فصل بينهما في مرأى العين، وقيل‏:‏ أرسل بحري فارس والروم يتلقيان في المحيط لأنهما خليجان ينشعبان منه، وروى هذا عن قتادة لكنه أورد عليه أنه لا يوافق قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 53‏]‏ والقرآن يفسر بعضه بعضاً، وعليه قيل‏:‏ جملة ‏{‏يَلْتَقِيَانِ‏}‏ حال مقدرة إن كان المراد إرسالهما إلى المحيط، أو المعنى اتحاد أصليهما إن كان المراد إرسالهما إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ‏}‏ أي حاجز من قدرة الله تعالى، أو من أجرام الأرض كما قال قتادة ‏{‏لاَّ يَبْغِيَانِ‏}‏ أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة وإبطال الخاصية بالكلية بناءاً على الوجه الأول فيما سبق، أو لا يتجاوزان حديهما بإغراق ما بينهما بناءاً على الوجه الثاني، وروى هذا عن قتادة أيضاً، وفي معناه ماأخرجه عبد الرزاق‏.‏ وابن المنذر عن الحسن ‏{‏لاَّ يَبْغِيَانِ‏}‏ عليكم فيغرقانكم، وقيل‏:‏ المعنى لا يطلبان حالاً غير الحال التي خلقا عليها وسخرا لها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ مما لكما في ذلك من المنافع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ‏}‏ صغار الدر ‏{‏وَالمَرْجَانُ‏}‏ كباره كما أخرج ذلك عبد بن حميد‏.‏ وابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ ومجاهد، وأخرجه عبد عن الربيع‏.‏ وجماعة منهم المذكوران‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس، وأخرج ابن جرير عنه أنه قال‏:‏ ‏{‏اللؤلؤ‏}‏ ما عظم منه ‏{‏وَالمَرْجَانُ‏}‏ اللؤلؤ الصغار‏.‏

وأخرج هو‏.‏ وعبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد عن قتادة نحوه، وكذا أخرج ابن الأنباري في الوقف والابتداء عن مجاهد، وأظن أنه إن اعتبر في اللؤلؤ معنى التلألؤ واللمعان وفي المرجان معنى المرج والاختلاط فالأوفق لذلك ما قيل‏:‏ ثانياً فيهما، وأخرج عبد الرزاق‏.‏ والفريابي‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والطبري عن ابن مسعود أنه قال‏:‏ المرجان الخرز الأحمر أعني البسذ وهو المشهور المتعارف، و‏{‏اللؤلؤ‏}‏ عليه شامل للكبار والصغار، ثم إن اللؤلؤ بناء غريب قيل‏:‏ لا يحفظ منه في كلام العرب أكثر من خمسة هو، والجؤجؤ الصدر وقرية بالبحرين، والدؤدؤ آخر الشهر أو ليلة خمس وست وسبع وعشرين‏.‏ أو ثمان وتسع وعشرين‏.‏ أو ثلاث ليال من آخره، والبؤبؤ بالباء الموحدة الأصل‏.‏ والسيد الظريف‏.‏ ورأس المكحلة‏.‏ وإنسان العين‏.‏ ووسط الشيء، واليؤيؤ بالياء آخر الحروف طائر كالباشق، ورأيت في كتب اللغة على هذا البناء غيرها وهو الضؤضؤ الأضل للطائر‏.‏ والنؤنؤ بالنون المكثر تقليب الحدقة‏.‏ والعاجز الجبان، ومن ذلك شؤشؤ دعاء الحمار إلى الماء وزجر الغنم والحمار للمضي‏.‏ أو هو دعاء للغنم لتأكل، أو تشرب‏.‏ وأما المرجان فقد ذكره «صاحب القاموس» في مادة مرج ولم يذكر ما يفهم منه أنه معرب، وقال أبو حيان في «البحر»‏:‏ هو اسم أعجمي معرب‏.‏ وقال ابن دريد‏:‏ لم أسمع فيه بفعل متصرف‏.‏

وقرأ طلحة اللؤلؤ بكسر اللام الأخيرة‏.‏ وقرء اللؤلى بقلب الهمزة المتطرفة ياءاً ساكنة بعد كسر ما قبلها وكل من ذلك لغة‏.‏ وقرأ نافع‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ مبنياً للمفعول من الإخراج، وقرىء ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ مبنياً للفاعل منه ونصب ‏{‏الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏ أي يخرج الله تعالى‏.‏ واستشكلت الآية على تفسير البحرين بالعذب والملح دون بحري فارس والروم بأن المشاهد خروج ‏{‏الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏ من أحدهما وهو الملح‏.‏ فكيف قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْهُمَا‏}‏‏؟‏ وأجيب بأنهما لما التقيا وصارا كالشيء الواحد جاز أن يقال‏:‏ يخرجان منهما كما يقال يخرجان من البحر ولا يخرجان من جميعه ولكن من بعضه، وكما تقول خرجت من البلد وإنما خرجت من محلة من محاله بل من دار واحدة من دوره، وقد ينسب إلى الإثنين ما هو لأحدهما كما يسند إلى الجماعة ما صدر من واد منهم‏.‏

ومثله على ما في الانتصاف ‏{‏على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ وعلى ما نقل عن الزجاج ‏{‏سَبْعَ سموات طِبَاقاً وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 15، 16‏]‏، وقيل‏:‏ إنهما لا يخرجان إلا من ملتقى العذب والملح ويرده المشاهدة وكأن من ذكره مع ما تقدم لم يذكره لكونه قولاً آخر بل ذكره لتقوية الاتحاد فحينئذ تكون علاقة التجوز أقوى‏.‏

وقال أبو علي الفارسي‏:‏ هذا من باب حذف المضاف والتقدير يخرج من أحدهما وجعل ‏{‏مّنَ القريتين‏}‏ من ذلك‏.‏ وهو عندي تقدير معنى لا تقدير إعراب‏.‏ وقال الرماني‏:‏ العذب منهما كاللقاح للملح فهو كما يقال الولد يخرج من الذكر والإنثى أي بواسطتهما، وقال ابن عباس، وعكرمة‏:‏ تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الأصداف في شهر نيسان تتلقى ماء المطر بأفواهها فتتكون منه، ولذا تقل في الجدب، وجعل عليه ضمير ‏{‏مِنْهُمَا‏}‏ للبحرين باعتبار الجنس ولا يحتاج إليه بناءاً على ما أخرجه ابن جرير عنه أن المراد بالبحرين بحر السماء وبحر الأرض‏.‏

وأخرج هو‏.‏ وابن المنذر عن ابن جبير نحوه إلا أن في تكون المرجان بناءاً على تفسيره بالبسذ من ماء المطر كاللؤلؤ تردداً وإن قالوا‏:‏ إنه يتكون في نيسان، وقال بعض الأئمة‏:‏ ظاهر كلام الله تعالى أولى بالاعتبار من كلام الناس، ومن علم أن اللؤلؤ لا يخرج من الماء العذب وهب أن الغواصين ما أخرجوه إلا من الملح، ولكن لم قلتم أن الصدف لا يخرج بأمر الله تعالى من الماء العذب إلى الماء الملح فإن خروجه محتمل تلذذاً بالملوحة كما تلتذ المتوحمة بها في أوائل حملها حتى إذا خرج لم يمكنه العود، وكيف يمكن الجزم بما قلتم وكثير من الأمور الأرضية الظاهرة خفيت عن التجار الذين قطعوا المفاوز وداروا البلاد فكيف لا يخفى أمر ما في قعر البحر عليهم، والله تعالى أعلم‏.‏ ومن غريب التفسير‏:‏ ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 19‏]‏ علي‏.‏ وفاطمة رضي الله تعالى عنهما ‏{‏بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ‏}‏ النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ‏}‏ الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما‏.‏

وأخرج عن إياس بن مالك نحوه لكن لم يذكر فيه البرزخ، وذكر الطبرسي من الأمامية في تفسيره«مجمع البيان» الأول بعينه عن سلمان الفارسي‏.‏ وسعيد بن جبير‏.‏ وسفيان الثوري، والذي أراه أن هذا إن صح ليس من التفسير في شيء بل هو تأويل كتأويل المتصوفة لكثير من الآيات، وكل من عليّ‏.‏ وفاطمة رضي الله تعالى عنهما عندي أعظم من البحر المحيط علماً وفضلاً، وكذا كل من الحسنين رضي الله تعالى عنهما أبهى وأبهج من اللؤلؤ والمرجان بمراتب جاوزت حدّ الحسبان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ مما في ذلك من الزينة والمنافع الجليلة فقد ذكر الأطباء أن ‏{‏اللؤلؤ‏}‏ يمنع الخفقان‏.‏ والبحر‏.‏ وضعف الكبد‏.‏ والكلى‏.‏ والحصى‏.‏ وحرقة البول‏.‏ والسدد‏.‏ واليرقان‏.‏ وأمراض القلب‏.‏ والسموم‏.‏ والوسواس‏.‏ والجنون‏.‏ والتوحش‏.‏ والربو شرباً‏.‏ والجذام‏.‏ والبرص‏.‏ والبهق‏.‏ والآثار مطلقاً بالطلي إلى غير ذلك، وأن المرجان أعني البسذ يفرح ويزيل فساد الشهوة ولو تعليقاً‏.‏ ونفث الدم‏.‏ والطحال شرباً‏.‏ والدمعة‏.‏ والبياض‏.‏ والسلاق‏.‏ والجرب كحلاً إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآَتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَهُ الجوار‏}‏ السفن جمع جارية وخصها سبحانه بأنها له وهو تعالى له ملك السموات والأرض وما فيهن للإشارة إلى أن كونهم هم منشئيها لا يخرجها من ملكه عز وجل حيث كان تمام منفعتها إنما هو منه عز وجل، وقرأ عبد الله‏.‏ والحسن‏.‏ وعبد الوارث عن أبي عمرو الجوار بإظهار الرفع على الراء لأن المحذوف لما تناسوه أعطوا ما قبل الآخر حكمه كما في قوله‏:‏ لها ثنايا أربع حسان *** وأربع فكلها ‏(‏ثمان‏)‏‏}‏

‏{‏المنشئات‏}‏ أي المرفوعات الشرع كما قال مجاهد من أنشأه بمعنى رفعه، وقيل‏:‏ المرفوعات على الماء وليس بذاك، وكذا ما قيل المصنوعات، وقرأ الأعمش‏.‏ وحمزة‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ وطلحة‏.‏ وأبو بكر بخلاف عنه ‏{‏المنشآت‏}‏ بكسر الشين أي الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهن، أو اللاتي ينشئن السير إقبالاً وإدبار، وفي الكل مجاز، وشدد الشين ابن أبي عبلة، وقرأ الحسن ‏{‏المنشآت‏}‏ وحد الصفة ودل على الجمع الموصوف كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏ وقلب الهمزة ألفاً على حد قوله‏:‏ إن السباع ‏(‏لتهدا‏)‏‏}‏ في مرابضها *** يريد لتهدأ والتاء لتأنيث الصفة كتبت تاءاً على لفظها في الأصل ‏{‏فِى البحر كالاعلام‏}‏ كالجبال الشاهقة جمع علم وهو الجبل الطويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ‏}‏ من خلق مواد السفن والإرشاد إلى أخذها وكيفية تركيبها وإجرائها في البحر بأسباب لا يقدر على خلقها وجمعها وترتيبها غيره سبحانه وتعالى‏:‏