فصل: تفسير الآية رقم (4)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

عطف على الموصول الأول مفصولاً وموصولاً والمروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم مؤمنو أهل الكتاب وحيث إن المتبادر من العطف أن الإيمان بكل من المنزلين على طريق الاستقلال اختص ذلك بهم لأن إيمان غيرهم بما أنزل من قبل إنما هو على طريق الاجمال والتبع للإيمان بالقرآن لا سيما في مقام المدح، وقد دلت الآيات والأحاديث على أن لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك وبهذا غايروا من قبلهم وقيل التغاير باعتبار أن الإيمان الأول بالعقل وهذا بالنقل أو بأن ذاك بالغيب وهذا بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم ‏{‏أولئك على هدى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏ حينئذ إشارة إلى الطائفة الأولى لأن إيمانهم بمحض الهداية الربانية ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 5‏]‏  إشارة إلى الثانية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه أو بأن أولئك من حيث المجموع كان فيهم شرك وهؤلاء لم يشركوا ولم ينكروا، وقيل التغاير بالعموم والخصوص مثله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنَزَّلُ الملائكة والروح‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏ 4‏]‏ والتخصيص هنا بعد التعميم للإشارة إلى الأفضلية من حيثية إنهم يعطون أجرهم مرتين وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل وفي ذلك ترغيب أهل الكتاب في الدخول في الإسلام، وقال بعضهم إن هؤلاء هم الأولون بأعيانهم وتوسيط العطف جار في الأسماء والصفات باعتبار تغاير المفهومات ويكون بالواو والفاء وثم باعتبار تعاقب الانتقال في الأحوال والجمع المستفاد من الواو هنا واقع بين معاني الصفات المفهومة من المتعاطفين والإيمان الذي مع أولهما إجمالي وعقلي ومع ثانيها تفصيلي ونقلي وإعادة الموصول للتنبيه على تغاير القبيلين وتباين السبيلين وقد يعطف على ‏{‏المتقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ والموصول غير مفصول لما يلزم على الوصل الفصلي بأجنبي بين المبتدأ وخبره والمعطوف، والمعطوف عليه والتغاير بين المتعاطفين باعتبار أن المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب وبالمعطوف من آمن به صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وقد رجح بعض المحققين احتمال أن يكون هؤلاء هم الأولون وتوسط الواو بين الصفات بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين قاطبة فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب والإفراد بالذكر لا يدل على أن الإيمان بكل بطريق الاستقلال فقد أفرد الكتب المنزلة من قبل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 136‏]‏ ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد وبأن أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل لأن اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل ودينهم منسوخ به وبأن الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب فالتخصيص بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام‏.‏

وأجيب أما أولاً فبأن المتبادر من السياق الإيمان بالاستقلال لا سيما في مقام المدح وإليه يشير ما جاء أنهم يؤتون أجرهم مرتين والخطاب في الآية للمسلمين بأن يقولوا دفعة ولم يعد فيها الإيمان والمؤمن فلا ترد نقضاً، وأما ثانياً فلأن إيمان أهل الكتاب بكل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن والتوراة، والنصارى اشتمل إيمانهم على الإنجيل أيضاً ويكفي هذا في توجيه المروي عمن شاهدوا نزول الوحي ولا يرغب عنه إذا أمكن توجيهه وكون المفهوم المتبادر ثبوت الحكم لكل واحد إن سلم لا يرده ولا يرد أن اليهود الذين آمنوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم لم يؤمنوا قبل ذلك بالتوراة وإلا لتنصروا لأن فيها نبوة عيسى كما فيها نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رقد ورد فيها إن الله جاء من طور سيناء وظهر بساعير وعلن بفاران وساعير بيت المقدس الذي ظهر فيه عيسى، وفاران جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنا نقول إنهم آمنوا بالتوراة وتأولوا ما دل منها على نبوة المسيح عليه السلام فبعض أنكر نبوته رأساً ورموه بما رموه وحاشاه وهم الكثيرون وبعض كالعنانية قالوا‏:‏ إنه من أولياء الله تعالى المخلصين العارفين بأحكام التوراة وليس بنبي وهؤلاء قليلون مخالفون لسائر اليهود في السبت والأعياد ويقتصرون على أكل الطير والظباء والسمك والجراد وهذا الإيمان وإن لم يكن نافعاً في النجاة من النار إلا أنه يقلل الشر بالنسبة إلى الكفر بالتوراة وإنكارها بالكلية مع الكفر بعيسى عليه السلام وربما يمدحون بالنظر إلى أصل الإيمان بها وإن ذموا بحيثية أخرى وكأنه لهذا يكتفى منهم بالجزية ولم يكونوا طعمة للسيوف مطلقاً والقول بأنهم مدحوا بعد إيمانهم بالقرآن بالإيمان بالتوراة نظراً إلى أسلافهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام فإنهم مؤمنون بها إيماناً صحيحاً على وجهها كما أنهم ذموا بما صنع آباؤهم على عهده على ما ينطق به كثير من الآيات ليس بشيء إذ لا معنى لإيتائهم أجرين حينئذٍ والفرق بين البابين واضح‏.‏

ثم النسخ الذي ادعاه المرجح خلاف ما ذكره الشهرستاني وغيره من أن الإنجيل لم يبين أحكاماً ولا استبطن حلالاً وحراماً ولكنه رموز وأمثال ومواعظ والأحكام محالة إلى التوراة وقد قال المسيح ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها وهذا خلاف ما تقتضيه الظواهر وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأما ثالثاً فلأن ثبوت الصفات لمن آمن من أهل الكتاب لا يضرنا لأنها مذكورة في الأول صريحاً وفي الثاني التزاماً، وأما رابعاً فلأنا لا نسلم أن ذلك العطف لا يلائم المقام فنكات عطف الخاص على العام لا تخفى كثرتها على ذوي الأفهام فدع ما مر وخذ ما حلا، وعندي بعد هذا كله أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى لكن الرواية دعت إلى ذلك ولعل أهل مكة أدرى بشعابها وفوق كل ذي علم عليم على أن الدراية قد تساعده كما قيل بناءً على أن إعادة الموصول وتوصيفه بالإيمان بالمنزلين مع اشتراكه بين جميع المؤمنين واشتمال الإيمان بما أنزل إليك على الإيمان بما أنزل من قبلك يستدعي أن يراد به من لهم نوع اختصاص بالصلة وهم مؤمنو أهل الكتاب حيث كانوا مطالبين بالإيمان بالقرآن خصوصاً قال تعالى‏:‏

‏{‏وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 4‏]‏ مؤمنين بالكتب استقلالاً في الجملة بخلاف سائر المؤمنين، ثم المتبادر من أهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل وحمله على أهل الإنجيل خاصة وقد آمن منهم أربعون واثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من أرض الحبشة وثمانية من الشام لا تساعده رواية ولا دراية كما لا يخفى، والإنزال الإيصال والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من أعلى خلافاً لمن ادعاه نحو‏:‏ ‏{‏فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 177‏]‏ أي وصل وحل وإنزال الكتب الإلهية قد مر في المقدمات ما يطلعك إلى معارجه، وذكر أن معنى إنزال القرآن أن جبريل سمع كلام الله تعالى كيف شاء الله تعالى فنزل به أو أظهره في اللوح كتابة فحفظه الملك وأداه بأي نوع كان من الأداء‏.‏

وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه الذي نجزم به من غير بحث عن كيفيته‏.‏ وقال الحكماء‏:‏ إن نفوس الأنبياء عليهم السلام قدسية فتقوى على الاتصال بالملأ الأعلى فينتقش فيها من الصور ما ينتقل إلى القوة المتخيلة والحس المشترك فيرى كالمشاهد وهو الوحي وربما يعلو فيسمع كلاماً منظوماً ويشبه أن نزول الكتب من هذا‏.‏ وعندي أن هذا قد يكون لأرباب النفوس القدسية والأرواح الإنسية إلا أن أمر النبوة وراء ذلك وأين الثريا من يد المتناول‏.‏

وفعلاً الإنزال مبنيان للمفعول وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزد بن قطيب مبنيين للفاعل وقرىء شاذاً ‏(‏بما أنزل إليك‏)‏ بتشديد اللام ووجه ذلك أنه أسكن لام ‏(‏أنزل‏)‏ ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى اللام فالتقى المثلان فأدغم‏.‏ وضمير الفاعل قيل الله وقيل جبريل عليه السلام‏.‏ وفي «البحر» أن فيه التفاتاً لتقدم ‏{‏مّمّا رزقناهم‏}‏ فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ولو جرى على الأول لجاء بما أنزلنا إليك وما أنزلنا من قبلك وأتى سبحانه بصلة ‏(‏ما‏)‏ الأولى فعلاً ماضياً مع أن المراد بالمنزل جميعه لاقتضاء السياق، والسباق له من ترتب الهدى والفلاح الكاملين عليه ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل ولاقتضاء ‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ المنبىء عن الاستمرار والجميع لم ينزل وقت تنزل الآية لأمرين‏:‏ الأول إنه تغليب لما وجد نزوله على ما لا يوجد فهو من قبيل إطلاق الجزء على الكل والثاني تشبيه جميع المنزل بشيء نزل في تحقق الوقوع لأن بعضه نزل وبعضه سينزل قطعاً فيصير إنزال مجموعه مشبهاً بإنزال ذلك الشيء الذي نزل فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع، هذا ما حققه من يعقد عند ذكرهم الخناصر وفيه دغدغة كبرى‏.‏

وأهون منه أن التعبير بالماضي هنا للمشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق، وأهون من ذلك كله أن المراد به حقيقة الماضي ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص‏.‏ وما قيل من أن الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلا أن حمله على الجميع أكمل فلذا اقتصر عليه لا وجه له إذ لا شبهة في أنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما نزل وبأن كل ما سينزل حق وإن لم يجب تفصيله وتعيينه، وقد ذكر العلماء أن الإيمان إجمالاً بالكتب المنزلة مطلقاً فرض عين وتفصيلاً بالقرآن المتعبد بتفاصيله فرض كفاية إذ لو كان فرض عين أدى إلى الحرج والمشقة والدين يسر لا عسر، وهذا مما لا شبهة فيه حتى قال الدواني‏:‏ يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه وإلزام المعاندين وإرشاد المسترشدين، وذكر الفقهاء أنه لا بد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة ويسمى المنصوب للذب ويحرم على الإمام إخلاؤها من ذلك كما يحرم إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها العامة وقيل لا بد من شخص كذلك في كل إقليم وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية ولعل هذا التنزل لنزول الأمر وقلة علماء الدين في الدنيا بهذا العصر‏:‏

أمست يباباً وأمسى أهلها احتملوا *** أخنى عليها الذي أخنى على لبد

وإلى الله تعالى المشتكى وإليه الملتجى‏:‏

إلى الله أشكو إن في القلب حاجة *** تمر بها الأيام وهي كما هيا

والآخرة تأنيث الآخر اسم فاعل من أخر الثلاثي بمعنى تأخر وإن لم يستعمل كما أن الآخر بفتح الخاء اسم تفضيل منه وهي صفة في الأصل كما في ‏{‏الدار الاخرة‏}‏ ‏(‏القصص83‏)‏ و‏{‏يُنشِىء النشأة الاخرة‏}‏ ‏(‏العنكبوت؛0 2‏)‏ ثم غلبت كالدنيا‏.‏ والوصف الغالب قد يوصف به دون الاسم الغالب فلا يقال قيد أدهم للزوم التكرار في المفهوم وهو وإن كان من الدهمة إلا أنه يستعمله من لا تخطر بباله أصلاً فافهم‏.‏ وقد تضاف الدار لها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَدَارُ الاخرة‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 109‏]‏ أي دار الحياة الآخرة وقد يقابل بالأولى كقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لَهُ الحمد فِى الاولى والاخرة‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 70‏]‏ والمعنى هنا الدار الآخرة أو النشأة الآخرة والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع، وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام ‏{‏والإيقان‏}‏ التحقق للشيء كسكونه ووضوحه يقال يقن الماء إذا سكن وظهر ما تحته وهو واليقين بمعنى خلافاً لمن وهم فيه‏.‏ قال الجوهري‏:‏ اليقين العلم وزوال الشك يقال منه يقنت بالكسر يقيناً وأيقنت واستيقنت كلها بمعنى، وذهب الواحدي وجماعة إلى أنه ما يكون عن نظر واستدلال فلا يوصف به البديهي ولا علم الله تعالى‏.‏

وذهب الإمام النسفي وبعض الأئمة إلى أنه العلم الذي لا يحتمل النقيض، وعدم وصف الحق سبحانه وتعالى به لعدم التوقيف، وذهب آخرون إلى أنه العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكاً فيه سواء كان ضرورياً أو استدلالياً، وذكر الراغب أن اليقين من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وأخواتها يقال علم يقين ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الحكم، وفي الأحياء والقلب إليه يميل أن اليقين مشترك بين معنيين‏.‏ الأول عدم الشك فيطلق على كل ما لا شك فيه سواء حصل بنظر أو حس أو غريزة عقل أو بتواتر أو دليل هذا لا يتفاوت‏.‏ الثاني وهو ما صرح به الفقهاء والصوفية وكثير من العلماء وهو ما لا ينظر فيه إلى التجويز والشك بل إلى غلبته على القلب حتى يقال فلان ضعيف اليقين بالموت وقوي اليقين بإثبات الرزق فكل ما غلب على القلب واستولى عليه فهو يقين وتفاوت هذا ظاهر، وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏هُمْ يُوقِنُونَ‏}‏ بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة منها لأنه من أيقن وقرأ النميري بهمزة ساكنة بدل الواو وشاع عندهم أن الواو إذا ضمت ضمة غير عارضة كما فصل في العربية يجوز إبدالها همزة كما قيل في وجوه جمع وجه أجوه فلعل الإبدال هنا لمجاورتها للمضموم فأعطيت حكمه وقد يؤخذ الجار بظلم الجار، وغاير سبحانه بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة فل يقل وبالآخرة هم يؤمنون دفعاً لكلفة التكرار أو لكثرة غرائب متعلقات الآخرة وما أعد فيها من الثواب والعقاب وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ونشأة أصحابهما على خلاف النشأة الدنيوية مع إثبات المعاد الجسماني كيفما كان إلى غير ذلك مما هو أغرب من الإيمان بالكتاب المنزل حتى أنكره كثير من الناس وخلا عن تفاصيله على ما عندنا التوراة والإنجيل فليس في الأول على ما في شرح الطوالع ذكر المعاد الجسماني وإنما ذكر في كتب حزقيل وشعياء والمذكور في الإنجيل إنما هو المعاد الروحاني فناسب أن يقرن هذا الأمر المهم الغريب الذي حارت عقول الكثيرين في إثباته وتهافتوا على إنكاره تهافت الفراش على النار بالإيقان وهو هو إظهاراً لكمال المدح وإبداءً لغاية الثناء، وتقديم المجرور للإشارة إلى أن إيقانهم مقصور على حقيقة الآخرة لا يتعداها إلى خلاف حقيقتها مما يزعمه اليهود مثلاً حيث قالوا‏:‏ ‏{‏لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 111‏]‏ ‏{‏وَلاَ تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 80‏]‏ وزعموا أنهم يتلذذون بالنسيم والأرواح إذ ليس ذلك من الآخرة في شيء وفي بناء يوقنوه على ‏{‏هُمْ‏}‏ إشارة إلى أن اعتقاد مقابليهم في الآخرة جهل محض وتخييل فارغ وليسوا من اليقين في ظل ولا فيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك على هُدًى مّن رَّبّهِمْ‏}‏ الظاهر أنه جملة مرفوعة المحل على الخبرية فإن جعل الموصول الأول مفصولاً على أكثر التقادير في الثاني ويتبعه فصله بحسب الظاهر إذ لا يقطع المعطوف عليه دون المعطوف فالخبرية له وإن جعل موصولاً وأريد بالثاني طائفة مما تقدمه وجعل هو مفصولاً كان الإخبار عنه وذكر الخاص بعد العام كما يجوز أن يكون بطريق التشريك بينهما في الحكم السابق أعني هدى للمتقين يجوز أن يكون بطريق إفراده بالحكم عن العام وحينئذٍ تكون الجملة المركبة من الموصول الثاني وجملة الخبر معطوفة على جملة ‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ الموصوفين بـ ‏{‏الذين يؤمنون بالغيب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3‏]‏ والجملة الأولى وإن كانت مسوقة لمدح الكتاب والثانية لمدح الموصوفين بالإيمان بجميع الكتب إلا أن مدحهم ليس إلا باعتبار إيمانهم بذلك الكتاب فهما متناسبتان باعتبار إفادة مدحه وفائدة جعل المدح مقصوداً بالذات ترغيب أمثالهم والتعريض على ما قيل بمن ليس على صفتهم والتخصيص المستفاد من المعطوف بالقياس إلى من لم يتصف بأوصافهم فلا ينافي ما استفيد من المعطوف عليه من ثبوت الهدى للمتقين مطلقاً‏.‏ نعم ليس هذا الوجه في البلاغة بمرتبة فصل الموصول الأول فهو أولى، وعليه تكون الجملة مشيرة إلى جواب سؤال إما عن الحكم أي إن المتقين هل يستحقون ما أثبت لهم من الاختصاص بالهدى أو عن السبب كأنه قيل ما سبب اختصاصهم أو عن مجموع الأمرين أي هل هم أحقاء بذلك وما السبب فيه حتى يكونوا كذلك‏؟‏ فأجيب بأن هؤلاء لأجل اتصافهم بالصفات المذكورة متمكنون على الهدى الكامل الذي منحهم إياه ربهم تعالى بكتابه‏.‏ ومعلوم أن العلة مختصة بهم فيكونون مستحقين للاختصاص‏.‏ فالجواب مشتمل على الحكم المطلوب مع تلخيص موجبه وضم نتيجة الهدى تقوية للمبالغة التي تضمنها تنكير هدى أو تحقيقاً للحكم بالبرهان الآتي أيضاً ولذا استغنى عن تأكيد النسبة أو الجملة الإسمية مؤكدة‏.‏ وقد يقال إنه بين الجواب مرتباً عليه مسببيه أعني الهدى والفلاح لأن ذلك أوصل إلى معرفة السبب ولا حاجة حينئذٍ إلى التأكيد، والأمر على التقدير الثالث ظاهر وجعل الجملة مشيرة إلى الجواب على احتمال وصل الأول وفصل الثاني مما لا يخفى انفصاله عن ساحة القبول، وإذا وصل الأول وعطف الثاني تكون هذه الجملة مستأنفة استئنافاً نحوياً، والفصل لكمال الاتصال إذ هي كالنتيجة للصفات السابقة أو بيانياً والفصل لكونها كالمتصلة فكأن سائلاً يقول ما للموصوفين بهذه الصفات اختصوا بالهدى‏؟‏ فأجيب بأن سبب اختصاصهم أنه سبحانه قدر في الأزل سعادتهم وهدايتهم فجبلتهم مطبوعة على الهداية والسعيد سعيد في بطن أمه لا سيما إذا انضم إليه الفلاح الأخروي الذي هو أعظم المطالب، أو يقال إن الجواب بشرح ما انطوى عليه اسمهم إجمالاً من نعوت الكمال وبيان ما تستدعيه من النتيجة أي الذين هذه شؤونهم أحقاء بما هو أعظم من ذلك‏.‏

وهذا المسلك يسلك تارة بإعادة من استؤنف عنه الحديث كأحسنت إلى زيد زيد حقيق بالإحسان وأخرى بإعادة صفته كأحسنت إلى زيد صديقك القديم أهل لذلك وهذا أبلغ لما فيه من بيان الموجب للحكم وإيراد اسم الإشارة هنا بمنزلة إعادة الموصوف بصفاته المذكورة مع ما فيه من الإشعار بكمال تميزه بها وانتظامه لذاك في سلك الأمور المشاهدة مع الإيمان إلى بعد منزلته وعلو درجته، هذا وجعل أولئك وحده خبراً و‏{‏على هُدًى‏}‏ حال بعيد كجعله بدلاً من الذين والظرف خبراً‏.‏ وإنما كتبوا واواً في ‏{‏أولئك‏}‏ للفرق بينه وبين إليك الجار والمجرور كما قيل، وقيل إنه لما كان مشاراً به لجمع المذكر وكان مبنياً ومبايناً للشائع من صيغ الجموع جبر في الجملة بكتابة حرف يكون في الجمع في بعض الآنات‏.‏ ومن المشهور ردوا السائل ولو بظلف محرق وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏على هُدًى‏}‏ استعارة تمثيلية تبعية حيث شبهت حال أولئك وهي تمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه وتمسكهم به بحال من اعتلى الشيء وركبه ثم استعير للحال التي هي المشبه المتروك كلمة الاستعلاء المستعملة في المشبه به وإلى ذلك ذهب السعد، وأنكر السيد اجتماع التمثيلية والتبعية لأن كونها تبعية يقتضي كون كل من الطرفين معنى مفرداً لأن المعاني الحرفية مفردة وكونها تمثيلية يستدعي انتزاعهما من أمور متعددة وهو يستلزم تركبه‏.‏

وأبدى قدس سره في الآية ثلاثة أوجه‏.‏ الأول أنها استعارة تبعية مفردة بأن شبه تمسك المتقين بالهدى باستعلاء الراكب على مركوبه في التمكن والاستقرار فاستعير له الحرف الموضوع للاستعلاء‏.‏ الثاني أن يشبه هيئة منتزعة من المتفي والهدى وتمسكه به بالهيئة المنتزعة من الراكب والمركوب واعتلائه عليه فيكون هناك استعارة تمثيلية تركب كل من طرفيها لكن لم يصرح من الألفاظ التي بإزاء المشبه به إلا بكلمة ‏{‏على‏}‏ فإن مدلولها هو العمدة في تلك الهيئة وما عداه تابع له ملاحظ في ضمن ألفاظ منوية وإن لم تقدر في نظم الكلام فليس في ‏{‏على‏}‏ استعارة أصلاً بل هي على حالها قبل الاستعارة كما إذا صرح بتلك الألفاظ كلها‏.‏ الثالث أن يشبه الهدى بالمركوب على طريق الاستعارة بالكناية وتجعل كلمة ‏{‏على‏}‏ قرينة لها على عكس الوجه الأول‏.‏ وهذا الخلاف بين الشيخين في هذه المسألة مما سارت به الركبان وعقدت له المجالس وصنفت فيه الرسائل، وأول ما وقع بينهما في مجلس تيمور وكان الحكم نعمان الخوارزمي المعتزلي فحكم والظاهر أنه لأمر ما للسيد السند والعلماء إلى اليوم فريقان في ذلك ولا يزالون مختلفين فيه إلا أن الأكثر مع السعد‏.‏

وأجابوا عن شبهة السيد بأن انتزاع شيء من أمور متعددة يكون على وجوه شتى فقد يكون من مجموع تلك الأمور كالوحدة الاعتبارية وقد يكون من أمر بالقياس إلى آخر كالإضافات وقد يكون بعضه من أمر وبعضه من آخر وعلى الأولين لا يقتضي تركيبه بل تعدد مأخذه فيجوز حينئذٍ أن يكون المدلول الحر في لكونه أمراً إضافياً كالاستعلاء حالة منتزعة من أمور متعددة فلجريانها في الحرف تكون تبعية ولكون كل من الطرفين حالة إضافية منتزعة من أمور متعددة تمثيلية، ولعل اختيار القوم في تعريف التمثلية لفظ الانتزاع دون التركيب يرشد المنصف إلى عدم اشتراط التركيب في طرفيه وإلا لكان الأظهر لفظ التركيب، وقد أشبعنا القول في ذلك وذكرنا ما له وما عليه في كتابنا الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية وفي هذا القدر هنا كفاية‏.‏ وفي تنكير ‏{‏هُدًى‏}‏ إشارة إلى عظمته فلا يعرف حقيقته ومقداره إلا اللطيف الخبير وإنما ذكر الرب مع أن الهدى لا يكون إلا منه سبحانه تأكيداً لذلك بإسناده إليه جل شأنه، وفيه مناسبة واضحة إذ حيث كان ربهم ناسب أن يهيء لهم أسباب السعادتين ويمنّ عليهم بمصلحة الدارين وقد تكون ثم صفة محذوفة أي ‏{‏على هُدًى‏}‏ أي هدى وحذف الصفة لفهم المعنى جائز‏.‏ وقيل يحتمل أن يكون التنوين للأفراد أي على هدى واحد إذ لا هدى إلا هدى ما أنزل إليه صلى الله عليه وسلم لنسخه ما قبله‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف أي من هدى ربهم، ومعنى كون ذلك منه سبحانه أنه هو الموفق لهم والمفيض عليهم من بحار لطفه وكرمه وإن توسطت هناك أسباب عادية ووسائط صورية على أن تلك الوسائط قد ترتفع من البين فيتبلج صبح العيان لذي عينين‏.‏ وقد قرأ ابن هرمز من ربهم بضم الهاء وكذلك سائر هاءات جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعي فيها سبق كسر أو ياء وأدغم النون في الراء بلا غنة الجمهور وعليه العمل، وذهب كثير من أهل الأداء إلى الإدغام مع الغنة ورووه عن نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن عامر وعاصم وأبي جعفر ويعقوب، وأظهر النون أبو عون عن قالون، وأبو حاتم عن يعقوب، وهذه الأوجه جارية أيضاً في النون والتنوين إذ لاقت لاماً ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ الفلاح الفوز والظفر بإدراك البغية وأصله الشق والقطع ويشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو فلى وفلق وفلذ وفي تكرار اسم الإشارة إشارة إلى أن هؤلاء المتصفين بتلك الصفات يستحقون بذلك الاستقلال بالتمكن في الهدى والاستبداد بالفلاح والاختصاص بكل منهما ولولاه لربما فهم اختصاصهم بالمجموع فيوهم تحقق كل واحد منهما بالانفراد فيمن عداهم وإنما دخل العاطف بين الجملتين لكونهما واقعتين بين كمال الاتصال والانفصال لأنهما وإن تناسبا مختلفان مفهوماً ووجوداً فإن الهدى في الدنيا والفلاح في الآخرة وإثبات كل منهما مقصود في نفسه وبهذا فارقاً قوله تعالى‏:‏

‏{‏أُوْلَئِكَ كالانعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الغافلون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 179‏]‏ فالثانية فيه مؤكدة للأولى إذ لا معنى للتشبيه إلا بالأنعام المبالغة في الغفلة فلا مجال للعطف بينهما و‏{‏هُمْ‏}‏ يحتمل أن يكون فضلاً أو بدلاً فيكون ‏{‏المفلحون‏}‏ خبراً عن أولئك أو مبتدأ والمفلحون خبره والجملة خبر ‏{‏أولئك‏}‏ وهذه الجملة لا تخلو عن إفادة الحصر كما لا يخفى‏.‏ وقد ذكر غير واحد أن اللام في المفلحون حرف تعريف بناءً على أن المراد الثبات على الفلاح فهو حينئذٍ مما غلبت عليه الإسمية أو الحق بالصفة المشبهة فهي إما للعهد الخارجي للدلالة على أن المتقين هم الذين بلغك أنهم مفلحون في العقبى وضمير الفصل إما للقصر أو لمجرد تأكيد النسبة ولا استبعاد في جريان القصر قلباً أو تعييناً بل إفراداً أيضاً أو للجنس فتشير إلى ما يعرفه كل أحد من هذا المفهوم فإن أريد القصر كان الفصل لتأكيد النسبة ولتأكيد الاختصاص أيضاً وإن أريد الاتحاد كان لمجرد تأكيد النسبة‏.‏ وتشبث المعتزلة والخوارج بهذه الآية لخلود تارك الواجب في العذاب لأن قصر جنس الفلاح على الموصوفين يقتضي انتفاء الفلاح عن تارك الصلاة والزكاة فيكون مخلداً في العذاب وهذا أوهن من بيت العنكبوت فلا يصلح للاستدلال لأن الفلاح عدم الدخول أو لأن انتفاء كمال الفلاح كما يقتضيه السياق، والسباق لا يقتضي انتفاءه مطلقاً ولا حاجة إلى حمل المتقين على المجتنبين للشرك ليدخل العاصي فيهم لأن الإشارة ليست إليهم فقط فلا يجدي نفعاً ككون الصفة مادحة كما لا يخفى، وههنا سر دقيق وهو أنه سبحانه وتعالى حكى في مفتتح كتابه الكريم مدح العبد لباريه بسبب إحسانه إليه وترقى فيه ثم مدح الباري هنا عبده بسبب هدايته له وترقى فيه على أسلوب واحد فسبحانه من آله ماجدكم أسدى جميلاً، وأعطى جزيلاً، وشكر قليلاً، فله الفضل بلا وعد، وله الحمد بلا حد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ كلام مستأنف يتميز به حال الكفرة الغواة المردة العتاة سيق إثر بيان بديع أحوال أضدادهم المتصفين بنعوت الكمال الفائزين بمطالبهم في الحال والمآل، ولم يعطف على سابقه عطف القصة على القصة لأن المقصود من ذلك بيان اتصاف الكتاب بغاية الكمال في الهداية تقريراً لكونه يقيناً لا مجال للشك فيه، ومن هذا ببيان اتصاف الكفار بالإصرار على الكفر والضلال بحيث لا يجدي فيهم الإنذار، والقول إنهما مسوقان لبيان حال الكتاب وأنه هدى لقوم وليس هدى لآخرين لا يجدي نفعاً لأن عدم كونه هدى لهم مفهوم تبعاً لا مقصود أصالة على أن الانتفاع به صفة كمال له يؤيد ما سبق من تفخيم شأنه وإعلاء مكانه بخلاف عدم الانتفاع‏.‏ وقيل إن ترك العطف لكونه استئنافاً آخر كأنه قيل ثانياً ما بال غيرهم لم يهتدوا به‏؟‏ فأجيب بأنهم لإعراضهم وزوال استعدادهم لم ينجع فيهم دعوة الكتاب إلى الإيمان وليس بشيء لأنه بعد ما تقرر أن تلك الأوصاف المختصة هي المقتضية لم يبق لهذا السؤال وجه، وأغرب من هذا تخيل أن الترك لغاية الاتصال زعماً أن شرح تمرد الكفار يؤكد كون الكتاب كاملاً في الهداية نعم يمكن على بعد أن يوجه السؤال بأن يقال‏:‏ لو كان الكتاب كاملاً لكان هدى للكفار أيضاً فيجاب بأن عدم هدايته إياهم لتمردهم وتعنتهم لا لقصور في الكتاب‏.‏

والنجم تستصغر الأبصار رؤيته *** والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

والعطف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الابرار لَفِى نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ‏}‏ ‏[‏الإنفطار‏:‏ 13‏]‏ لاتحاد الجامع إذ الجملة الأولى مسوقة لبيان ثواب الأخيار، والثانية لذكر جزاء الأشرار مع ما فيهما من الترصيع والتقابل وقد عد التضاد وشبهه جامعاً يقتضي العطف لأن الوهم ينزل المتضادين منزلة المتضايفين فيجتهد في الجمع بينهما في الذهن حتى قالوا إن الضد أقرب خطوراً بالبال مع الضد من الأمثال‏.‏ وصدرت الجملة بأن اعتناء بمضمونها وقد تصدر بها الأجوبة لأن السائل لكونه متردداً يناسبه التأكيد وتعريف الموصول إما للعهد والمراد من شافههم صلى الله عليه وسلم بالإنذار في عهده وهم مصرون على كفرهم أو للجنس كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ الذى يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 171‏]‏ وكقول الشاعر‏:‏

ويسعى إذا ابني لهدم صالحي *** وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم

فهو حينئذٍ عام خصه العقل بغير المصري، والإخبار بما ذكر قرينة عليه أو المخصص عود ضمير خاص عليه من الخبر لا الخبر نفسه وقد ذكر الأصوليون ثلاثة أقوال فيما إذا عاد ضمير خاص على العام فقيل يخصصه وقيل لا وقيل بالوقف ومثلوه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ فإن الضمير في بعولتهن للرجعيات فقط‏.‏ وما ذكره بعض أجلة المفسرين أن المخصص هنا الخبر أورد عليه إن تعين المخبر عنه بمفهوم الخبر ينافي ما تقرر من أن المخبر عنه لا بد أن يكون متعيناً عند المخاطب قبل ورود الخبر فلو توقف تعين المخبر عنه على الخبر لزم الدور‏.‏ والكفر بالضم مقابل الإيمان وأصله المأخوذ منه الكفر بالفتح مصدر بمعنى الستر يقال كفر يكفر من باب قتل، وما في الصحاح من أنه من باب ضرب فالظاهر أنه غير صحيح وإن لم ينبه عليه في القاموس وشاع استعماله في ستر النعمة خاصة وفي مقابل الإيمان لأن فيه ستر الحق ونعم الفيض المطلق، وقد صعب على المتكلمين تعريف الكفر الشرعي الغير التبعي واختلفوا في تعريفه على حسب اختلافهم في تعريف الإيمان إلا أن الذي عول عليه الشافعية رحمهم الله تعالى أنه إنكار ما علم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم به مما اشتهر حتى عرفه الخواص والعوام فلا يكفر جاحد المجمع عليه على الإطلاق بل من جحد مجمعاً عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها سائر الناس كالصلاة وتحريم الخمر ومن جحد مجمعاً عليه لا يعرفه إلا الخواص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب فليس بكافر ومن جحد مجمعاً عليه ظاهراً لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف، وأما ساداتنا الحنفية رضي الله تعالى عنهم فلم يشترطوا في الإكفار سوى القطع بثبوت ذلك الأمر الذي تعلق به الإنكار لا بلوغ العلم به حد الضرورة هذا أمر عظيم وكأنه لذلك قال ابن الهمام‏:‏ يجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعاً لأن مناط التكفير التكذيب أو الاستخفاف ولا يرد على أخذ الإنكار في التعريف أن أهل الشرع حكموا على بعض الأفعال والأقوال بأنها كفر وليست إنكاراً من فاعلها ظاهراً لأنهم صرحوا بأنها ليست كفراً وإنما هي دالة عليه فأقيم الدال مقام مدلوله حماية لحريم الدين وصيانة لشريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وليست بعض المنهيات التي تقتضيها الشهوة النفسانية كذلك فلا يبطل الطرد بغير الكفر من الفسق فليس شعار الكفار مثلاً ليس في الحقيقة كفراً كما قاله مولانا الإمام الرازي وغيره إلا أنهم كفروا به لكونه علامة ظاهرة على أمر باطن وهو التكذيب لأن الظاهر أن من يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأتي به فحيث أتى به دل على عدم التصديق وهذا إذا لم تقم قرينة على ما ينافي تلك الدلالة ولهذا قال بعض المحققين‏:‏ إن لبس شعار الكفرة سخرية بهم وهزلاً ليس بكفر‏.‏ وقال مولانا الشهاب وليس ببعيد إذا قامت القرينة وأنا أقول إذا قامت القرينة على غرض آخر غير السخرية والهزل لا كفر به أيضاً كما يظنه بعض من ادعى العلم اليوم وليس منه في قبيل ولا دبير ولا في العير ولا النفير ثم الإنكار هنا بمعنى الجحود ولا يرد أن من تشكك أو كان خالياً عن التصديق والتكذيب ليس بمصدق ولا جاحد وأنه قول بالمنزلة بين المنزلتين وهو باطل عند أهل السنة لأنه يجوز أن يكون كفر الشاك والخالي لأن تركهما الإقرار مع السعة والأعمال بالكلية دليل كما قاله السالكوتي على التكذيب كما أن التلفظ بكلمة الشهادة دليل على التصديق وقيل هو ههنا من أنكرت الشيء جهلته فلا ورود أيضاً، وفيه أن الإنكار بمعنى الجهل يقابل المعرفة فيلزم أن يكون العارف الغير المصدق كأحبار اليهود واسطة فالمحذور باق بحاله‏.‏

وعرف في المواقف الكفر بأنه عدم تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض ما علم مجيئه به بالضرورة ولعله أيضاً يقول بإقامة بعض الأفعال والأقوال مقام عدم التصديق واعترض على أخذ الضرورة بأن ما ثبت بالإجماع قد يخرج من الضروريات وكذا براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ثبتت بالقرآن، وأدلته اللفظية غير موجبة للعلم فتخرج عن الضروريات أيضاً‏.‏

وأجيب بأن خروج ما ثبت بالإجماع عن الضروريات ممنوع والدلالة اللفظية تفيد العلم بانضمام القرائن وهي موجودة في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها ولقد عد أصحابنا رضي الله تعالى عنهم في باب الإكفار أشياء كثيرة لا أراها توجب إكفاراً والإخراج عن الملة أمر لا يشبهه شيء فينبغي الاتئاد في هذا الباب مهما أمكن، وقول ابن الهمام‏:‏ أرفق بالناس وفي أبكار الأفكار في هذا البحث ما يقضي منه العجب ولا أرغب في طول بلا طول وفضول بلا فضل‏.‏ واستدل المعتزلة بهذه الآية ونحوها على حدوث كلامه سبحانه وتعالى لاستدعاء صدق الأخبار بمثل هذا الماضي سابقة المخبر عنه أعني النسبة بالزمان وكل مسبوق بالزمان حادث، وأجيب بأن سبق المخبر عنه يقتضي تعلق كلامه الأزلي بالمخبر عنه فاللازم سبق المخبر عنه على التعلق وحدوثه وهو لا يستلزم حدوث الكلام كما في علمه تعالى بوقوع الأشياء فإن له تعلقاً حادثاً مع عدم حدوثه أو يقال إن ذاته تعالى وصفاته لما لم تكن زمانية يستوي إليها جميع الأزمنة استواءً جميع الأمكنة فالأنواع كل منها حاضر عنده في مرتبته واختلاف التعبيرات بالنظر إلى المخاطب الزماني رعاية للحكمة في باب التفهيم، وقيل غير ذلك مما يطول ذكره، وقد ذكرنا في الفائدة الرابعة ما يفيدك ذكره هنا فتذكر و‏{‏سَوَآء‏}‏ اسم مصدر بمعنى الاستواء وهو لا يثنى ولا يجمع وقد استغنوا عن تثنيته بتثنية ‏{‏سي‏}‏ إلا شذوذاً وكأنه في الأصل مصدر كما قاله الرضى ورفع على أنه خبران وما بعده مرتفع به على الفاعلية كأنه قيل إن الذين كفروا مستو عليهم إنذارك وعدمه أو خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمران سواء ثم بين الأمرين بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ‏}‏ أو خبر لما بعده أي إنذارك وعدمه سيان وهو المشهور على ألسنة الطلبة في مثله‏.‏

وأورد عليه أمور‏.‏ الأول‏:‏ إن الفعل لا يسند إليه‏.‏ الثاني‏:‏ إنه مبطل لصدارة الاستفهام‏.‏ الثالث‏:‏ إن الهمزة و‏{‏أَمْ‏}‏ موضوعان لأحد الأمرين وكل ما يدل على الاستواء لا يسند إلا إلى متعدد فلذا يقال استوى وجوده وعدمه ولا يقال أو عدمه‏.‏ الرابع‏:‏ إنه على تقدير كونه خبراً يلزم أن لا يصح تقديمه لالتباس المبتدأ بالفاعل‏.‏ ويجاب أما عن الأول فبأنه من جنس الكلام المهجور فيه جانب اللفظ إلى جانب المعنى، والعرب تميل في مواضع من كلامهم مع المعاني ميلاً بيناً ومن ذلك لا تأكل السمك وتشرب اللبن أي لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن ولو أجرى على ظاهره لزم عطف الاسم المنصوب على الفعل بل المفرد على جملة لا محل لها‏.‏ ودعوى البيضاوي بيض الله تعالى غرة أحواله أنه استعمل فيه اللفظ في جزء معناه وهو الحدث تجوزاً فلذا صح الإخبار عنه كما يجوز الإخبار عما يراد به مجرد لفظه كضرب ماض مفتوح الباء على ما فيها لا تتأتى فيما إذا كان المعادلان أو أحدهما بعد همزة التسوية جملة اسمية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صامتون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 193‏]‏ ويدخل في الميل مع المعنى مع أنه لا يلزم عليه الخروج عن الحقيقة وقد نقل ابن جني عن أبي علي أنه قال‏:‏ الجملة المركبة من المبتدأ والخبر تقع موقع الفعل المنصوب بأن إذا انتصب وانصرف القول به والرأي فيه إلى مذهب المصدر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ لَّكُمْ مِمَّا مَلَكَتْ أيمانكم *مّن شُرَكَاء فِيمَا *رزقناكم فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 28‏]‏ وكقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أعنده عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 35‏]‏ ألا ترى أن الفاء جواب الاستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة والفعل المنصوب مصدر لا محالة حتى كأنه قال أعنده علم الغيب فرؤيته وهل بينكم شركة فاستواء، وأما عن الثاني والثالث فبأن الهمزة و‏{‏أَمْ‏}‏ انسلخا عن معنى الاستفهام عن أحد الأمرين ولما كانا مستويين في علم المستفهم جعلا مستويين في تعلق الحكم بكليهما، ولهذا قيل تجوز بهما عن معنى الواو العاطفة الدالة على اجتماع متعاطفيها في نسبة ما من غير ملاحظة تقدم أو تأخر، ثم إن مثل هذا المعنى وإن كان مراداً إلا أنه لا يلاحظ في عنوان الموضوع بعد السبك كما لا يلاحظ معنى العاطف فلا يقال في الترجمة هنا إلا الإنذار وعدمه سواء من غير نظر إلى التساوي حتى يقال إذا كان تقدير المبتدأ المتساويان يلغو حمل سواء عليه فيدفع بما يدفع، وقد قال الإمام الآفسراي‏:‏ إن أنذرتهم الخ‏.‏

انتقل عن أن يكون المقصود أحدهما إلى أن يكون المراد كليهما وهذا معنى الاستواء الموجود فيه، وأما الحكم بالاستواء في عدم النفع فلم يحصل إلا من قوله‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ‏}‏ وذكر أنه ظفر بمثله عن أبي علي الفارسي، وكلام المولى الفناري يحوم حول هذا الحمى، وذهب بعض المحققين إلى أنهما في الأصل للاستفهام عن أحد الأمرين وهما مستويان في علم المستفهم، وقد ذهب ذلك الاستواء هنا إذ سلخ عنهما الاستفهام وبقي الاستواء في العلم وهو معنى قول من قال الهمزة و‏{‏أَمْ‏}‏ مجردتان لمعنى الاستواء فيكون الحاصل فيما نحن فيه المتساويان في علمك مستويان في عدم الجدوى وهذا على ما فيه تكلف مستغنى عنه بما ذكرناه ومثله ما ذكر العاملي من أن تمام معناهما الاستواء والاستفهام معاً فجردا عن معنى الاستفهام وصارا لمجرد الاستواء ولتكرر الحكم بالاستواء بمعنى واحد يحصل التأكيد كأنه قيل سواء الإنذار وعدمه سواء وهو بعيد عن ساحة التحقيق كما لا يخفى ويوهم قولهم بالتجريد أن هناك مجازاً مرسلاً استعمل فيه الكل في جزئه، والتحقيق إنه إما استعارة أو مستعمل في لازم معناه ثم المشهور أنه لا يجوز العطف بعد سواء بأو إن كان هناك همزة التسوية حتى قال في «المغني»‏:‏ إنه من لحن الفقهاء، وفي شرح الكتاب للسيرافي ‏{‏سَوَآء‏}‏ إذا دخلت بعدها ألف الاستفهام لزمت ‏{‏أَمْ‏}‏ كسواء على أقمت أم قعدت فإذا عطف بعدها أحد اسمين على آخر عطف بالواو لا غير نحو سواء عندي زيد وعمرو فإذا كان بعدها فعلان بغير استفهام عطف أحدهما على الآخر بأو كقولك سواء عليّ قمت أو قعدت فإن كان بعدها مصدران مثل سواء عليّ قيامك وقعودك فلك العطف بالواو وبأو‏.‏ وإنما دخلت في الفعلين بغير استفهام لما في ذلك من معنى المجازاة، فتقدير المثال إن قمت أو قعدت فهما على سواء، والظاهر من هذا ببيان استعمالات العرب لسواء ولم يحك في شيء من ذلك شذوذاً فقراءة ابن محيصن من طريق الزعفراني سواء عليهم أنزرتهم أو لم تنذرهم شاذة رواية فقط لا استعمالاً كما يفهمه كلام ابن هشام فافهم هذا المقام فقد غلط فيه أقوام بعد أقوام‏.‏ وأما عن الرابع فبأن النحاة قد صرحوا بتخصيص ذلك بالخبر الفعلي دون الصفة نحو زيد قام فلا يقدم لالتباس المبتدأ بالفاعل حينئذٍ فإذا لم يمتنع في صريح الصفة فعدم امتناعه هنا أولى على ما قيل، وإنما عدل سبحانه عن المصدر فلم يأت به على الأصل لوجهين، لفظي وهو حسن دخول الهمزة وأم لأنهما في الأصل للاستفهام وهو بالفعل أولى، ومعنوي وهو إيهام التجدد نظراً لظاهر الصيغة، وفيه إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم أحدث ذلك وأوجده فأدى الأمانة وبلغ الرسالة وإنما لم يؤمنوا لسبق الشقاء ودرك القضاء لا لتقصير منه وحاشاه فهو وإن أفاد اليأس فيه تسلية له صلى الله عليه وسلم‏.‏

وعلى هنا باعتبار أصل معناه لأن الاستواء يتعدى بعلى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏استوى عَلَى العرش‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏ وقيل بمعنى عند ففي «المغني» على تجرد للظرفية، وعلى ذلك أكثر المفسرين والقول بأنها هنا للمضرة كدعاء عليه ليس بشيء لأن ‏{‏سَوَآء‏}‏ تستعمل مع على مطلقاً فيقال مودتي دائمة سواء على أزرت أم لم تزر ‏{‏والإنذار‏}‏ التخويف مطلقاً أو الإبلاغ وأكثر ما يستعمل في تخويف عذاب الله تعالى ويتعدى إلى اثنين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أنذرناكم عَذَاباً قَرِيباً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صاعقة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 13‏]‏ فالمفعول الثاني هنا محذوف أي العذاب ظاهراً ومضمراً واستحسن أن لا يقدر ليعم، وفي البحر‏:‏ الإنذار الإعلام مع التخويف في مدة تسع التحفظ من المخوف فإن لم تسع فهو إشعار وإخبار لا إنذار ولم يذكر سبحانه البشارة لأنها تفهم بطريق دلالة النص لأن الإنذار أوقع في القلب وأشد تأثيراً فإذا لم ينفع كانت البشارة بعدم النفع أولى‏.‏ وقيل لا محل للبشارة هنا لأن الكافر ليس أهلاً لها‏.‏ وقوله عز من قائل‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ يحتمل أن تكون مفسرة لإجمال ما قبلها مما فيه الاستواء والكفر وعدم نفع الإنذار في الماضي بحسب الظاهر مسكوت فيه عن الاستمرار ‏{‏وَلاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ دال عليه ومبين له فلا حاجة إلى القول بأن هذا بالنظر إلى مفهوم اللفظ مع قطع النظر عن أنه إخبار عن المصرين وهي حينئذٍ لا محل لها من الإعراب كما هو شأن الجمل المفسرة، وعند الشلوبين لها محل لأنها عطف بيان عنده ويحتمل أن تكون حالاً مؤكدة لما قبلها وصاحب الحال ضمير عليهم أو أنذرتهم وليس هذا كزيد أبوك عطوفاً لفقد ما يشترط في هذا النوع ههنا وأن تكون بدلاً، إما بدل اشتمال لاشتمال عدم نفع ما مر على عدم الإيمان، أو بدل كل لأنه عينه بحسب المآل أو خبراً بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف أي هم لا يؤمنون أو خبر إن والجملة قبلها اعتراض‏.‏ وفي التسهيل‏:‏ الاعتراضية هي المفيدة تقوية وهي هنا كالعلة للحكم لدلالتها على قسوة قلوبهم وعدم تأثرها بالإنذار وهو مقتض لعدم الإيمان؛ وحيث أن الموضوع دال على عدم الإيمان في الماضي والمحمول على استمراره في المستقبل اندفع توهم عدم الفائدة في الإخبار وجعل الجملة دعائية بعيد، وأبعد منه ما روي أن الوقف على أم لم تنذر والابتداء بهم لا يؤمنون على أنه مبتدأ وخبر بل ينبغي أن لا يلتفت إليه، وقرأ الجحدري‏:‏ ‏{‏سَوَآء‏}‏ بتخفيف الهمزة على لغة الحجاز فيجوز أنه أخلص الواو ويجوز أنه جعل الهمزة بين بين أي بين الهمزة والواو وعن الخليل أنه قرأ سوء عليهم بضم السين مع واو بعدها فهو عدول عن معنى المساواة إلى السب والقبح وعليه لا تعلق أعرابياً له بما بعده كما في البحر، وقرأ الكوفيون وابن ذكوان وهي لغة بني تميم أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وهو الأصل، وأهل الحجاز لا يرون الجمع بينهما طلباً للتخفيف فقرأ الحرميان وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية إلا أن أبا عمرو وقالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع وهشام يدخلون بينهما ألفاً وابن كثير لا يدخل‏.‏

وروي تحقيقهما عن هشام مع إدخال ألف بينهما وهي قراءة ابن عباس وابن أبي إسحاق‏.‏ وروي عن ورش كابن كثير وكقالون إبدال الهمزة الثانية ألفاً فيلتقي ساكنان على غير حدهما عند البصريين، وزعم الزمخشري أن ذلك لحن وخروج عن كلام العرب من وجهين أحدهما‏:‏ الجمع بين ساكنين على غير حدة الثاني‏:‏ إن طريق تخفيف الهمزة المتحركة المفتوح ما قبلها هو بالتسهيل بين بين لا بالقلب ألفاً لأنه طريق الهمزة الساكنة وما قالوه مذهب البصريين، والكوفيون أجازوا الجمع على غير الحد الذي أجازه البصريون، وهذه القراءة من قبيل الأعداء، ورواية المصريين عن ورش وأهل بغداد يروون التسهيل بين بين كما هو القياس فلا يكون الطعن فيها طعناً فيما هو من السبع المتواتر إلا أن المعتزلي أساء الأدب في التعبير، وقد احتج بهذه الآية وأمثالها من قال بوقوع التكليف بالممتنع لذاته بناءً على أن يراد بالموصول ناس بأعيانهم، وحاصل الاستدلال أنه سبحانه وتعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون وأمرهم بالإيمان وهو ممتنع إذ لو كان ممكناً لما لزم من فرض وقوعه محال لكنه لازم إذ لو آمنوا انقلب خبره كذباً وشمل إيمانهم الإيمان بأنهم لا يؤمنون لكونه مما جاء به صلى الله عليه وسلم وإيمانهم بأنهم لا يؤمنون فرع اتصافهم بعدم الإيمان فيلزم اتصافهم بالإيمان وعدم الإيمان فيجتمع الضدان، وكلا الأمرين من انقلاب خبره تعالى كذباً واجتماع الضدين محال وما يستلزم المحال محال ‏{‏وأجيب‏}‏ بأن إيمانهم ليس من المتنازع فيه لأنه أمر ممكن في نفسه وبإخباره سبحانه وتعالى بعدم الإيمان لا يخرج من الإمكان، غايته أنه يصير ممتنعاً بالغير واستلزام وقوعه الكذب أو اجتماع الضدين بالنظر إلى ذلك لأن إخباره تعالى بوقوع الشيء أو عدم وقوعه لا ينفي القدرة عليه ولا يخرجه من الإمكان الذاتي لامتناع الانقلاب وإنما ينفي عدم وقوعه أو وقوعه فيصير ممتنعاً بالغير واللازم للممكن أن لا يلزم من فرض وقوعه نظراً إلى ذاته محال، وأما بالنظر إلى امتناعه بالغير فقد يستلزم الممتنع بالذات كاستلزام عدم المعلول الأول عدم الواجب‏.‏

وقيل في بيان استحالة إيمانهم بأنهم لا يؤمنون أنه تكليف بالنقيضين لأن التصديق في الإخبار بأنهم لا يصدقونه في شيء يستلزم عدم تصديقهم في ذلك والتكليف بالشيء تكليف بلوازمه، وقوبل بالمنع لا سيما اللوازم العدمية‏.‏

وقيل لأن تصديقهم في أن لا يصدقوه يستلزم أن لا يصدقوه وما يستلزم وجوده عدمه محال، ورد بأنه يجوز أن يكون ذلك الاستلزام لامتناعه بالغير كما فيما نحن فيه، وقيل لأن إذعان الشخص بخلاف ما يجد في نفسه محال‏.‏ واعترض بأنه يجوز أن لا يخلق الله تعالى العلم بتصديقه فيصدقه في أن لا يصدقه نعم إنه خلاف العادة لكنه ليس من الممتنع بالذات كذا قيل، ولا يخلو المقام بعد عن شيء وأي شيء، والبحث طويل واستيفاؤه هنا كالتكليف بما لا يطاق وسيأتيك إن شاء الله تعالى على أتم وجه‏.‏

ثم فائدة الإندار بعد العلم بأنه لا يثمر استخراج سر ما سبق به العلم التابع للمعلوم من الطوع والآباء في المكلفين ‏{‏لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 165‏]‏ فإن الله تعالى لو أدخل ابتداء كلا داره التي سبق العلم بأنه داره لكان شأن المعذب منهم ما وصف الله تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّا أهلكناهم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 134‏]‏ فأرسل رسلاً مبشرين ومنذرين ليتخرج ما في استعدادهم من الطوع والآباء فيهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة فإن الذكرى تنفع المؤمنين وتقوم به الحجة على الآخرين إذ بعد الذكرى وتبليغ الرسالة تتحرك الدواعي للطوع والآباء بحسب الاستعداد الأزلي فيترتب عليه الفعل أو الترك بالمشيئة السابقة التابعة للعلم التابع للمعلون الثابت الأزلي فيترتب عليه النفع والضرّ من الثواب والعقل وإنما قامت الحجة على الكافر لأن ما امتنع من الاتيان به بعد بلوغ الدعوة وظهور المعجزة من الإيمان‏.‏ لو كان ممتنعاً لذاته مطلقاً لما وقع من أحد لكنه قد وقع فعلم أن عدم وقوعه منه كان عن إباء ناشىء من استعداده الأزلي باختياره السيء وإن كان إباؤه بخلق الله تعالى به فإن فعل الله تعالى تابع لمشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم والمعلوم من حيث ثبوته الأزلي غير مجعول فتعلق العلم به على ما هو عليه في ثبوته الغير المجعول مما يقتضيه استعداده الأزلي في الإرادة تعلقت بتخصيص ما سبق العلم به من مقتضى استعداده الأزلي فأبرزته القدرة على طبق الإرادة قال تعالى‏:‏ ‏{‏أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ‏}‏ فلهذا قال‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 149‏]‏ لكنه لم يشأ إذ لم يسبق به العلم لكونه كاشفاً للمعلوم وما في استعداده الأزلي فالمعلوم المستعد للهداية في نفسه كشفه عما هو عليه من قبوله لها، والمستعد للغواية تعلق به على ما هو عليه من عدم قبوله لها فلم يشأ إلا ما سبق به العلم من مقتضيات الاستعداد فلم تبرز القدرة إلا ما شاء الله تعالى فصح أن لله الحجة البالغة سبحانه إذا نوزع لأن الله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ‏}‏ وما يقتضيه استعداده وما نقص منه شيئاً ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏

«فمن وجد خيراً فليحمد الله» فإن الله متفضل بالإيجاد ولا واجب عليه ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه لأنه ما أبرز قدرته بجوده ورحمته مما اقتضته الحكمة من الأمر الذي لا خير فيه له إلا لكونه مقتضى استعداده فالحمد لله على كل حال ونعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال، وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏سَوَاء عَلَيْهِمْ‏}‏ ولم يقل عليك لأن الانذار وعدمه ليسا سواء لديه صلى الله عليه وسلم لفضيلة الإنذار الواجب عليه على تركه، وإذا أريد بالموصول ناس معينون على أنه تعريف عهدي كما مر كان فيه معجزة لأخباره بالغيب وهو موت أولئك على الكفر كما كان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏خَتَمَ الله على قُلُوبِهِمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أبصارهم غشاوة وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ إشارة إلى برهان لميّ للحكم السابق كما أن ‏{‏سواء عليهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ الخ على تقدير كونه اعتراضاً برهان إنّي، فالختم والتغشية مسببان عن نفس الكفر، واقتراف المعاصي سببان للاستمرار على عدم الإيمان أو لاستواء الأنذار وعدمه فالقطع لأنه سؤال عن سبب الحكم، والختم الوسم بطابع ونحوه والأ الحاصل، ويتجوز بذلك تارة في الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتباراً بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب، وتارة في تحصيل أثر عن أثر اعتباراً بالنقش الحاصل، وتارة يعتبر معه بلوغ الآخر، ومنه ختمت القرآن والغشاوة على ما عليه السبعة بكسر الغين المجمعة من غشاه إذا غطاه، قال أبو علي‏:‏ ولم يسمع منه فعل إلا يائي فالواو مبدلة من الياء عنده أو يقال لعل له مادتين وفعالة عن الزجاج لما اشتمل على شيء كاللفافة ومنه أسماء الصناعات كالخياطة لاشتمالها على ما فيها وكذلك ما استولى على شيء كالخلافة، وعند الراغب‏:‏ هي لما يفعل به الفعل كاللف في اللفافة فإن استعملت في غيره فعلى التشبيه، وبعضهم فرق بين ما فيه هاء التأنيث وبين ما ليس فيه، فالأول‏:‏ اسم لما يفعل به الشيء كالآلة نحو حزام وإمام، والثاني‏:‏ لما يشتمل على الشيء ويحيط به وحمل الظاهريون الختم والتغشية على حقيقتهما وفوضوا الكيفية إلى علم من لا كيفية له سبحانه، وروى عن مجاهد أنه قال‏:‏ إذا أذنب العبد ضم من القلب هكذا وضم الخنصر ثم إذا أذنب ضم هكذا وضم البنصر وهكذا إلى الإبهام ثم قال‏:‏ وهذا هو الختم والطبع والرين، وهو عندي غير معقول، والذي ذهب إليه المحققون أن الختم استعير من ضرب الخاتم على نحو الأواني لأحداث هيئة في القلب والسمع مانعة من نفوذ الحق إليهما كما يمنع نقش الخاتم تلك الظروف من نفوذ ما هو بصدد الانصباب فيها فيكون استعارة محسوس لمعقول بجامع عقلي وهو الاشتمال على منع القابل عما من شأنه أن يقبله ثم اشتق من الختم ختم، ففيه استعارة تصريحية تبعية، وأما الغشاوة فقد استعيرت من معناها الأصلي لحالة في أبصارهم مقتضية لعدم اجتلائها الآيات والجامع ما ذكر؛ فهناك استعارة تصريحية أصلية أو تبعية إذا أولت الغشاوة بمشتق أو جعلت اسم آلة على مقيل، ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية بأن يقال شبهت حال قلوبهم وأسماعهم وأبصارهم مع الهيئة الحادثة فيها المانعة من الاستنفاع بها بحال أشياء معدة للانتفاع بها في مصالح مهمة مع المنع من ذلك بالختم والتغطية ثم يستعار للمشبه اللفظ الدال على المشبه به فيكون كل واحد من طرفي التشبيه مركباً والجامع عدم الانتفاع بما أعد له بسبب عروض مانع يمكن فيه كالمانع الأصلي وهو أمر عقلي منتزع من تلك العدة ثم إن إسناد الختم إليه عز وجل باعتبار الخلق والذم والتشنيع الذي تشير إليه الآية باعتبار كون ذلك مسبباً عما كسبه الكفار من المعاصي كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏

‏{‏بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهِمْ بِكُفْرِهِمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 155‏]‏ وإلا أشكل التشنيع والذم على ما ليس فعلم كذا قاله مفسرو أهل السنة عن آخرهم فيما أعلم‏.‏ والمعتزلة لما رأوا أن الآية يلزم منها أن يكون سبحانه مانعاً عن قبول الحق وسماعه بالختم وهو قبيح يمتنع صدوره عنه تعالى على قاعدتهم التزموا للآية تأويلات ذكر الزمخشري جملة منها حتى قال‏:‏ الشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر إلا أن الله سبحانه وتعالى لما كان هو الذي أقدره أو مكنه أسند الختم إليه كما يسند إلى السبب نحو بني الأمير المدينة، وناقة حلوب وأنا أقول‏:‏ إن ماهيات الممكنات معلومة له سبحانه أزلاً فهي متميزة في أنفسها تميزاً ذاتياً غير مجعول لتوقف العلم بها على ذلك التميز وإن لها استعدادات ذاتية غير مجعولة أيضاً مختلفة الاقتضاءات والعلم الإلهي متعلق بها كاشف لها على ما هي عليه في أنفسها من اختلاف استعداداتها التي هي من مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا هو واختلاف مقتضيات تلك الاستعدادات فإذا تعلق العلم الإلهي بها على ما هي عليه مما يقتضيه استعدادها من اختيار أحد الطرفين الخير والشر تعلقت الإرادة الإلهية بهذا الذي اختاره العبد بمقتضى استعداده فيصير مراده بعد تعلق الإرادة الإلهية مراداً لله تعالى فاختياره الأزلي بمقتضى استعداده متبوع للعلم المتبوع للإرادة مراعاة للحكم وأن اختياره فيما لا يزال تابع للإرادة الأزلية المتعلقة باختياره لما اختاره، فالعباد منساقون إلى أن يفعلوا ما يصدر عنهم باختيارهم لا بالإكراه والجبر وليسوا جبورين في اختيارهم الأزلي لأنه سابق الرتبة على تعلق العلم السابق على تعلق الإرادة والجبر تابع للإرادة التابعة للعلم التابع للمعلوم الذي هو هنا اختيارهم الأزلي فيمتنع أن يكون تابعاً لما هو متأخر عنه بمراتب، فما من شيء يبرزه الله تعالى بمقتضى الحكمة ويفيضه على الممكنات إلا وهو مطلوبها بلسان استعدادها وما حرمها سبحانه شيئاً من ذلك كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعطى كُلَّ شَىء خَلْقَهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 50‏]‏ أي الثابت له في الأزل مما يقتضيه استعداده الغير المجعول، وإن كانت الصور الوجودية الحادثة مجعولة‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 8‏]‏ أي الثابتين لها في نفس الأمر والكل من حيث أنه خلقه حسن لكونه بارزاً بمقتضى الحكمة من صانع مطلق لا حاكم عليه ولهذا قال عز شأنه‏:‏ ‏{‏أَحْسَنَ كُلَّ شَىْء خَلَقَهُ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7‏]‏ و‏{‏مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 3‏]‏ أي من حيث أنه مضاف إليه ومفاض منه وإن تفاوت من جهة أخرى وافترق عند إضافة بعضه إلى بعض، فعلى هذا يكون الختم منه سبحانه وتعالى دليلاً على سواء استعدادهم الثابت في علمه الأزلي الغير المجعول بل هذا الختم الذي هو من مقتضيات الاستعداد لم يكن من الله تعالى إلا إيجاده وإظهار يقينه طبق ما علمه فيهم أزلاً حيث لا جعل ‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 33‏]‏ تعالى في إظهاره إذ من صفاته سبحانه إفاضة الوجود على القوابل بحسب القابليات على ما تقتضيه الحكمة ‏{‏ولكن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ حيث كانت مستعدة بذاتها لذلك فحينئذ يظهر أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الإيجاد حقيقة ويحسن الذم لهم به من حيث دلالته على سوء الاستعداد وقبح ما انطوت عليه ذواتهم في ذلك الناد ‏{‏والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ والذى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏ وأما ما ذكره المفسرون من أن إسناد الختم إليه تعالى باعتبار الخلق فمسلم لا كلام لنا فيه، وأما إن الذم باعتبار كون ذلك مسبباً عما كسبه الكفار الخ فنقول فيه‏:‏ إن أرادوا بالكسب ما شاع عند الاشاعرة من مقارنة الفعل لقدرة العبد من غير تأثير لها فيه أصلاً وإنما المؤثر هو اتعالى فهو مع مخالفته لمعنى الكسب وكونه ‏{‏كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمان مَاء حتى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 39‏]‏ لا يشفى عليلاً ولا يروى غليلاً إذ للخصم أن يقول أي معنى لذم العبد بشيء لا مدخل لقدرته فيه إلا كمدخل اليد الشلاء فيما فعلته الأيدي السليمة وحينئذ يتأتى ما قاله الصاحب بن عباد في هذا الباب‏:‏ كيف يأمر الله تعالى العبد بالإيمان وقد منعه منه وينهاه عن الكفر وقد حمله عليه، وكيف يصرفه عن الإيمان ثم يقول‏:‏ ‏{‏أنى يُصْرَفُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 69‏]‏ ويخلق فيهم الإفك ثم يقول‏:‏ ‏{‏أنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 95‏]‏ وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول ‏{‏لِمَ تَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 70‏]‏ وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول‏:‏ ‏{‏لم تَلْبِسُواْ الحق بالباطل‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 71‏]‏ وصدهم عن السبيل ثم يقول‏:‏ ‏{‏لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 99‏]‏ وحال بينهم وبين الإيمان ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 39‏]‏ وذهب بهم عن الرشد ثم قال‏:‏ ‏{‏فَأيْنَ تَذْهَبُونَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 26‏]‏ وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 49‏]‏‏؟‏ فإن أجابوا بأن لله أن يفعل ما يشاء ولا يتعرض للاعتراض عليه المعترضون ‏{‏لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 23‏]‏ قلنا لهم‏:‏ هذه كلمة حق أريد بها باطل وروضة صدق ولكن ليس لكم منها حاصل لأن كونه تعالى لا يسأل عما يفعل ليس إلا لأنه حكيم لا يفعل ما عنه يسأل وإذا قلتم لا أثر للقدرة الحادثة في مقدورها كما لا أثر للعلم في معلومه فوجه مطالبة العبد بأفعاله كوجه مطالبته بأن يثبت في نفسه ألواناً وإدراكات وهذا خروج عن حد الاعتدال إلى التزام الباطل والمحال، وفيه إبطال الشرائع العظام ورد ما ورد عن النبيين عليهم الصلاة والسلام‏.‏

وإن أرادوا بالكسب فعل العبد استقلالا ما يريده هو وإن لم يرده الله تعالى فهذا مذهب المعتزلة وفيه الخروج عما درج عليه سلف الأمة واقتحام ورطات الضلال وسلوك مهامه الوبال‏.‏

مسا ولو قسمن على الغواني *** لما أمهرن إلا بالطلاق

وإن أرادوا به تحصيل العبد بقدرته الحادثة حسب استعداده الأزلي المؤثرة لا مستقلاً بل بإذن الله تعالى ما تعلقت به من الأفعال الاختيارية مشيئته التابعة لمشيئة الله تعالى على ما أشرنا إليه فنعمت الإرادة وحبذا السلوك في هذه الجادة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسطها وإقامة الأدلة على صحتها وإماطة الأذى عن طريقها إلا أن أشاعرتنا اليوم لا يشعرون وأنهم ليحسبون أنهم يحسنون صنعاً ولبئس ما كانوا يصنعون‏.‏

ما في الديار أخو وجد نطارحه *** حديث نجد ولا خل نجاريه

وأما ما ذكره المعتزلة لا سيما علامتهم الزمخشري فليس أول عشواء خبطوها وفي مهواة من الأهواء أهبطوها ولكم نزلوا عن منصة الإيمان بالنص إلى حضيض تأويله ابتغاء الفتنة واستيفاء لما كتب عليهم من المحنة وطالما استوخموا من السنة المناهل العذاب ووردوا من حميم البدعة موارد العذاب، والشبهة التي تدندن هنا حول الحمى أن أفعال العباد لو كانت مخلوقة لله تعالى لما نعاها على عباده ولا عاقبهم بها ولا قامت حجة الله تعالى عليهم وهي أوهى من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت، وقد علمت جوابها مما قدمناه لك وليكن على ذكر منك على أنا نرجع فنقول إن أسندوا الملازمة وكذلك يفعلون إلى قاعدة التحسين والتقبيح، وقالوا‏:‏ معاقبة الإنسان مثلاً بفعل غيره قبيحة في الشاهد لا سيما إذا كانت من الفاعل فيلزم طرد ذلك غائباً، قيل‏:‏ ويقبح في الشاهد أيضاً أن يمكن الإنسان عبده من القبائح والفواحش بمرأى ومسمع ثم يعاقبه على ذلك مع القدرة على ردعه ورده من الأول عنها وأنتم تقولون إن القدرة التي بها يخلق العبد الفواحش لنفسه مخلوقة لله تعالى على علم منه عز وجل أن العبد يخلق بها لنفسه ذلك فهو بمثابة إعطاء سيف باتر لفاجر يعلم أنه يقطع به السبيل ويسبى به الحريم وذلك في الشاهد قبيح جزماً ‏{‏فَانٍ قَالُواْ‏}‏ ثم حكمة استأثر اتعالى بعلمها فرقت بين الغائب والشاهد فحسن من الغائب ذلك التمكين ولم يحسن في الشاهد ‏{‏قُلْنَا على سَبِيلٍ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ الناس‏}‏ ما المانع أن تكون تلك الأفعال مخلوفة لله تعالى ويعاقب العبد عليها لمصلحة وحكمة استأثر بها كما فرغتم منه الآن حذو القذة بالقذة‏؟‏ا على أن في كون الخاتم في الحقيقة هو الشيطان مما لا يقدم عليه حتى الشيطان ألا تسمعه كيق قال‏:‏

‏{‏فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏ فلا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏ وليكن هذا المقدار كافياً في هذا المقام ولشحرور القلم بعد إن شاء الله تعالى على كل بانة تغريد بأحسن مقام ‏{‏والقلوب‏}‏ جمع قلب وهو في الأصل مصدر سمي به الجسم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو مشرق اللطيفة الإنسانية، ويطلق على نفس اللطيفة النورانية الربانية العالمة التي هي مهبط الأنوار الإلهية الصمدانية وبها يكون الإنسان إنساناً وبها يستعد لاكتساب الأوامر واجتناب الزواجر وهي خلاصة تولدت من الروح الروحاني ويعبر عنها الحكيم بالنفس الناطقة ولكونها هدف سهام القهر واللطف ومظهر الجمال والجلال ومنشأ البسط والقبض ومبدأ المحو والصحو ومنبع الأخلاق المرضية والأحوال الردية، وقلما تستقر على حال وتستمر على منوال سميت قلباً فهي متقلبة في أمره ومنقلبة بقضاء الله وقدره‏.‏ وفي الحديث «إن القلب كريشة بأرض فلاة تقلبها الرياح» وقد قال الشاعر‏:‏

قد سمي القلب قلباً من تقلبه *** فأحذر على القلب من قلب وتحويل

وتسمية الجسم المعروف قلباً إذا أمعنت النظر ليس إلا لتقلب هاتيك اللطيفة المشرقة عليه لأنه العضو الرئيس الذي هو منشأ الحرارة الغريزية الممدة للجسد كله ويكنى بصلاحه وفساده عن صلاح هاتيك اللطيفة وفسادها لما بينهما من التعلق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وكأنه هذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب» وكثير من الناس ذهب إلى أن تلك المضغة هي محل العلم، وقيل‏:‏ إنه في الدماغ وقيل إنه مشترك بينهما وبني ذلك على إثبات الحاوس الباطنة والكلام فيها مشهور‏.‏ ومن راجع وجد أنه أدرك أن بين الدماغ والقلب رابطة معنوية ومراجة سرية لا ينكرها من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، لكن معرفة حقيقة ذلك متعززة كما هي متعذرة والإشارة إلى كنه ما هنلك على أرباب الحقائق وأصحاب الدقائق متعسرة، ومن عرف نفسه فقد عرف ربه، والعجز عن درك الإدراك إدراك‏.‏ والسمع مصدر سمع سمعا ومساعا ويطلق على قوة مودعة في العصب المفروش أو المبطل في الأذن تدرك بها الأصوات ويعبر به تارة عن نفس الأذن وأخرى عن الفعل نحو ‏{‏إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 212‏]‏، والأبصار جمع بصر وهو في الأصل بمعنى إدراك العين وإحساسها ثم تجوز به عن القوة المودعة في ملتقى العصبتين المجوفتين الواصلتين من الدماغ إلى الحدقتين التي من شأنها إدراك الألوان والأشكال بتفصيل معروف في محله وعن العين التي هي محله، وشاع هذا حتى صار حقيقة في العرف لتبادره وهو المناسب للغشاوة لتعلقها بالأعيان ويناسب الختم ما يناسب الغشاوة، وإنما قدم سبحانه الختم على القلوب هنا لأن الآية تقرير لعدم الإيمان فناسب تقديم القلوب لأنها محل الإيمان والسمع والأبصار طرق وآلات له وهذا بخلاف قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ فإنه مسوق لعدم المبالاة بالمواعظ ولذا جاءت الفاصلة ‏{‏أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ فكان المناسب هناك تقديم السمع، وأعاد جل شأنه الجار لتكون أدلة على شدة الختم في الموضعين فإن ما يوضع في خزانة إذا ختمت خزانته وختمت داره كان أقوى المنع عنه وأظهر في الاستقلال لأن إعادة الجار تقتضي ملاحظة معنى الفعل المعدى به حتى كأنه ذكر مرتين، ولذا قالوا في مررت بزيد وعمرو‏:‏ مرور واحد، وفي مررت بزيد وبعمرو‏:‏ مروان، والعطف وإن كان في قوة الإعادة لكنه ليس ظاهراً مثلها في الإفادة لما فيه من الاحتمال‏.‏ ووحد السمع مع أنه متعدد في الواقع ومقتضى الانتظام بالسباق‏.‏ واللحاق أن يجري على نمطهما للاختصار والتفنن مع الإشارة إلى نكتة هي أن مدركاته نوع واحد ومدركاتهما مختلفة وكثيراً ما يعتبر البلغاء مثل ذلك، وقيل‏:‏ إن وحدة اللفظ تدل على وحدة مسماه وهو الحاسة ووحدتها تدل على قلة مدركاتها في بادىء النظر فهناك دلالة التزام ويكفي مثل ما ذكر في اللزوم عرفا ومنه يتنبه لوجه جمع القلوب كثرة والأبصار قلة وإن كان ذلك هو المعروف في استعمال الفقهاء في جميعها على أن الاسماع قلما قرع السمع ومنه قراءة ابن أبي عبلة في الشواذ وعلى أسماعهم، واستشهد له بقوله‏:‏

قالت ولم تقصد لقيل الخنا *** مهلا لقد أبلغت أسماعي

والقول بأنه وحدة للأمن عن اللبس كما في قوله‏:‏

كلوا في بعض بطنكم تعفوا *** فإن زمانكم زمن خميص

ولأنه في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فروعي ذلك ليس بشيء لأن ما ذكر مصحح لا مرجع وأدنى من هذا عندي تقدير مضاف مثل- وحواس سمعهم- وقد اتفق القراء على الوقف على ‏{‏سمعهم‏}‏ وظاهره دليل على أنه لا تعلق له بما بعده فهو معطوف على ‏{‏على قلوبهم‏}‏ وهذا أولى من كونه هو وما عطف عليه خبراً مقدماً لغشاوة أو عاملان فيه على التنازع وإن احمتلته الآية لتعين نظيرهفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وختم على سمعه وقلبه‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ والقرآن يفسر بعضه بعضاً ولأن اسمع كالقلب يدرك ما يدركه من جميع الجهات فناسب أن يقرن معه بالختم الذي يمنع من جميعها وإن اختص وقوعه بجانب إلا أنه لاي تعين، ولما كان إدراك البصر لا يكون عادة إلا بالمحاذاة والمقابلة جعل المانع ما يمنع منها وهو الغشاوة لأنها في الغالب كذلك كغاشية السرج، ومثل هذا يكفي في النكات ولا يضره ستره لجميع الجوانب كالإزار، وما في «الكشف»‏:‏ من أن الوجه أن الغشاوة مشهورة في أمراض العين فهي أنسب بالبصر من غير حاجة لما تكلفوه، يكشف عن حاله النظر في المعنى اللغوي ممن لا غشاوة على بصره‏.‏

ولعل سبب تقديم السمع على البصر مشاركته للقلب في التصرف في الجهات الست مثله دون البصر‏.‏ ومن هنا قيل‏:‏ إنه أفضل منه، والحق أن كلا من الحواس ضروري في موضعه، ومن فقد حساً فقد علماً، وتفضيل البعض على البعض تطويل من غير طائل‏.‏

وقد قرىء بإمالة ‏{‏أبصارهم‏}‏ ووجه الإمالة - مع أن الصاد حرف مستعل وهو مناف لها لاقتضائها لتسفل الصوت- مناسبة الكسرة واعترب على الراء دون غيرها لمناسبة الإمالة الترقيق، والمشهور عند أهل العربية أن ذلك لقوة الراء لتكرره على اللسان في النطق به فإنه يرتعد ويظهر ذلك إذا شدد أو وقف عليه فكسرته بمنزلة كسرتين فقوي السبب حتى أزال المانع‏.‏ ولعل مرادهم أنه متكرر طبعاً كما يدركه الوجدان إلا أنه يجب المحافظة لئلا يقع التقير فإنه مضر في الأدء حتى الراوي، والجمهور على أن ‏{‏على أبصارهم‏}‏ خبر مقدم لغشاوة والتقديم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة مع أن فيه مطابقة الجملة قبله لأنه تقدم الجزء المحكوم به فيها وهذا كذلك، ففي الآية جملتان خبريتان فعلية دالة على التجدد واسمية دالة على الثبوت حتى إن الغشاوة جبلية فيهم وكون الجملتين دعائيتين لييس بشي، وفي تقديم الفعلية إشارة إلى أن ذلك قد وقع وفرغ منه، ونصب المفضل وأبو حيوة وإسماعيل بن مسلم ‏{‏غشاوة‏}‏ فقيل هو على تقدير جعل كما صرح به في قوله تعالى ‏{‏وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏، وقيل إنه على حذف الجار، وقال أبو حيان‏:‏ يحتمل أن يكون مصدراً معنى ختم غشاوة كائنة على هذه الأمور لئلا يتصرف بها بالرفع والإزالة، وفي كل ما لا يخفى، فقراءة الرفع أولى، وقرىء أيضاً بضم الغين ورفعه، وبفتح الغين ونصبه، وقرىء ‏(‏غشوة‏)‏ بكسر المعجمة مرفوعاً وبفتحها مرفوعاً ومنصوباً، وغشية بالفتح والرفع وغشاوة بفتح المهملة والرفع، وجوز فيه الكسر والنصب من الغشا  بالفتح والقصر وهو الرؤية نهاراً لا ليلاً، والمعنى أنهم يبصرون إبصاراً غفلة لا إبصار عبرة أو أنهم لا يرون آيات الله في ظلمات كفرهم ولو زالت أبصروها، وقال الراغب‏:‏ العشا ظلمة تعرض للعين، وعشي عن كذا عمي قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعش عن ذكر الرحمن‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36‏]‏ فالمعنى حينئذ ظاهر والتنوين للإشارة إلى نوع من الأعطية غير ما يتعارفه الناس ويحتمل أن يكون للتعظيم أي غشاوة أيّ غشاوة، وصرَّح بعضهم بحمله على النوعية والتعظيم معاً كما حل على التكثير والتعظيم معاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقد كذبت رسل‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 4‏]‏ واللام في ‏{‏لهم‏}‏ للاستحقاق كما في ‏{‏لهم في الدنيا خزي‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 114‏]‏ وفي «المغنى»‏:‏ لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات وهنا كذلك إلا أنه قدم الخبر استحساناً لأن المبتدأ نكرة موصوفة ولو أخر جاز ك ‏{‏أجل مسمى عنده‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 2‏]‏ ويجوز كما قيل‏:‏ أن يكون تقديمه للتخصيص فلا يعذب عذابهم أحد ولا يوثق وثاقهم أحد وكون اللام للنفع واستعملت هنا للتهكم مما لا وجه له لأنه إنما تقع له في مقابلة ‏(‏على‏)‏ في الدعاء ومايقاربه ولم يقل به أحد ممن يوثق به هنا ولا يقال عليهم العذاب، والظاهر أن الجملة مساقة لبيان إصرارهم حالاً، وقال السيالكوتي‏:‏ عطف على ‏{‏الذين كفروا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 6‏]‏ والجامع أن ما سبق بيان حالهم وهذا بيان ما يستحقونه، أو على خبر إن واجلامع الشركة في المسند إليه مع تناسب مفهوم المسندين، وجعل ذلك لدفع ما يتوهم من عدم استحقاقهم العذاب على كفرهم لأنه بختم الله تعالى وتغشيته ليس بوجيه كما لا يخفى‏.‏ والعذاب في الأصل الاستمرار ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه فقالوا‏:‏ عذبته أي دوامت عليه الألم قاله أبو حيان، وعن الخليل - وإليه مال كثير - أن أصله المنع يقال‏:‏ عذبه أي داومت عليه الألم قاله أبو حيان، وعن الخليل - وإليه مال كثير - أن أصله المنع يقال‏:‏ عذب الفرس إذا امتنع عن العلف، ومنه العذب لمنعه من العطش ثم توسع فأطلق على كل مؤلم شاق مطلقاً وإن لم يكن مانعاً ورادعاً ولهذا كان أعم من النكال لأنه ما كان رادعاً كالعقاب، وقيل العقاب ما يجازي به كما في الآخرة، وشمل البيان عذاب الأطفال والبهائم وغيرهما، وخص السجاوندي العذاب بإيصال الألم إلى الحي مع الهوان فإيلام الأطفال والبهائم ليس بعذاب عنده، وقيل‏:‏ إن العذاب مأخوذ في ألصل من التعذيب ثم استعمل في الإيلام مطلقاً، وأصل التعذيب على ما قيل‏:‏ إكثار الضرب بعذبة السوط، وقال الراغب أصله من العذب فعذبته أزلت عذب حياته على بناء مرضته وقذيته والتنكير فيه للنوعية أي لهم في الآخرة نوع من العذاب غير متعارف في عذاب الدنيا، وحمله على التعظيم يستدعي حمل ما يستفاد من الوصف على التأكيد ولا حاجة إليه‏.‏ والعظيم الكبير، وقيل‏:‏ فوق الكبير لأن الكبير بيقابله الصفغير والعظيم يقابله الحقير والحقير دون الصغير، فالصغير والحقير خسيسان والحقير أخسهما، والعظيم والكبري شريفان والعظيم أشرفهما فتوصيف العذاب به أكثر في التهويل من توصيفه بالكبير كما ذكؤره الكثير من شاع فضله إذ العادة جارية بأن الأخس يقابل بالأشرف والخسيس بالشريف فما يتوهم من أن نقيض الأخص - أعم - مما لا يلتفت إليه هنا، نعم يشكل على دعوى أن التعظيم فوق الكبير قوله عز شأنه في الحديث القدسي‏:‏ «الكبرياء ردائي والعظمة إزاري»‏.‏

حيث جعل سبحانه الكبرياء مقام الرداء والعظمة مقام الإزار، ومعلوم أن الرداء أرفع من الإزار فيجب أن يكون صفة الكبر أرفع من العظمة، ويقال‏:‏ إن الكبير هو الكبير في ذاته سواء استكبره غيره أم لا، وأما العظمة فعبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، فالصفة الأولى على هذا ذاتية وأشرف من الثانية ويمكن أن يجاب على بعد بأن ما ذكروه خاص بما إذا استعمل الكبير والعظيم في غيره تعلى أو فيما إذا خلا الكلام عن قرية تقتضي العكس، أو يقال‏:‏ إنه سبحانه جعل العظمة وهي أشرف من لكبرياء إزاراً لقلة العارفين به جل شأنه بهذا العنوان بالنظر إل العارفين  بعنوان الكبرياء فلقلة أولئك كانت إزاراً ولكثرة هؤلاء كانت رداءاً وسبحان الكبير العظيم، وذكر الراغب ‏(‏‏(‏ أن أصل عظم الرجل كبر عظمه ثم استعير لكل كبير وأدري مجراه محسوساً كان أو معقولاً معنى كان أو عيناً، والعظيم إذا استعمل في الأعيان فأصله أن يقال في الأجزاء المتصلة والكبير يقال في المنفصلة، وقد يقال فيها أيضاً‏:‏ عظيم وهو بمعن كبير كجيش عظيم‏)‏‏)‏، وعظم العذاب بالنسبة إلى عذاب دونه يتخلله فتور وبهذا التخللي يصح ان يتفاضل العذابان كسوداين أحدهما اشبع من الآخر وقد تخلل الآخر ما ليس بسواد‏.‏ وقه ذهب المسلمون إلى أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار، وهذه الآية وأمثالها شواهد صدق على ذلك‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ لا يحسن وذكروا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح العقلين فقالوا‏:‏ التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأنه سبحانه منره عن أن ينتفع بشيء والعبد يترر به ولو سلم انتفاعه فالله تعالى قادر أن يوصل إليه النفع من غير عذاب، والضر الخالي عن النفع قبيح بديهة، وأيضاً إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب وما كان مستعقباً للضرر من غير نفع قبيح، فأما أن يقال لا تكليف أو تكليف ولا عذاب، وأيضاً هو الخالق لداعية فيقبح أن يعاقب عليها، وقالوا أيضاً‏:‏ هب أنا سلمنا العقاب فمن أين القول بالدوام‏؟‏ وأقسى الناس قلباً إذا أخذ من بالغ في الإساءة إليه - وعذبه وبالغ فيه وواظب عليه - لامه كل أحد وقيل له إما أن تقتله وتريحه وإما أن تعفو عنه فإذا قبح هذا من إنسان يلتذ بالانتقام، فالغني عن الكل كيف يليق به هذا الدواز‏؟‏‏!‏ وأيضاً من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون أو يحسن أن يقول في الدنيا‏:‏ ‏{‏ادعوني أستجب لكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 60‏]‏ وفي الآخرة لا يجيب دعاءهم إلا بـ ‏{‏اخسئوا فيها ولا تكلمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقيلة المفيدة له على أنا ندعي أن أخبار الوعيد في الكفار مشروطة بعدم العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً صريحاً كما قال ذلك فيها من جوز العفو وإن لم يكن هذا الشرط مذكوراً صريحاً كما قال ذلك فيها من جوز العفو عن الفساقن على أنه يحتمل أن تكون تلك الجمل دعائية أو أنهاإخبارية لكن الإخبار عن استحقاق الوقوع لا عن الوقوع نفسه، وهذا خصلاصة ما ذكر في هذا الباب‏.‏

وبسط الإمام الرازي الكلام فيه ولم يتعقبه بما شريح الفؤاد ويبرد الأكباد وتلك شنشن أعرفها من أخزم، ولعمري إناه شبه تمكنت في قلوب كثير من الناس فكانت لهم الخناس الوسواس فخلعوا ربقة التكليف وانحرفوا عن الدين الحنيف وهي عند المؤمنين المتمكنين كصرير باب أو كطنين ذباب، فأقول‏:‏ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب نفي العذاب مطلقاً مما لم يقله أحد ممن يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر حتى إن المجوس لا يقولونه مع أنهم الذين بلغوا من الهذيان أقصاه فإن عقلاءهم - والعقل بمراحل عنهم - زعموا أن إبليس عليه اللعنة لم يزل في الظلمة بمعزل عن سلطان الله تعالى ثم لم يزل يزحف حتى رأى النور فوثب فصار في سلطان الله تعالى وأدخل معه الآفات والشرور فخلق الله تعالى هذا العالم شبكة له فوقع فيها فصار لا يمكنه الرجوع إلى سطانه فبقي محبوساً يرمى بالآفات فمن أحياه الله تعالى أماته ومن أصحه أشقمه ومن أسره أحزنه وكل يوم ينقص سلطانه فإذا قامت القيامة وزالت قوته طرحه الله تعالى في الجو وحاسب أهل الأديان وجازاهم على طاعتهم للشيطان وعصيانهم له، نعم المشهور عنهم أن الآلام الدنيوية قبيحة لذاتها ولا تحسن بوجه من الوجوه فهي صادرة عن الظلمة دون النور، وبطلان مذهب هؤلاء أظهر من نار على علم، ولئن سلنما أن أحداً من الناس يقول ذلك فهو مردود، وغالب الأدلة التي تذكر في هذا الباب مبني على الحسن والقبح العقليين وقد نفاهما أهل السنة والجماعة وأقاموا الأدلة على بطلانهما وشيوع ذلك  في كتب الكلام يجعل نقهل هنا من لغو الكلام على أنا نقول إن الله تعالى صفتي لطف وقهر ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك - لا سيما ملك الملوك - كذلك إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر ومن منع ذلك فقد كابر، وقد مدح في الشاهد ذلك كما قيل‏:‏

يداك يد خيرها يرتجى *** وأخرى لأعدائها غائظة

فلما نظر الله سبحانه إلى ما علمه من الماهيات الأزلية والأعيان الثابة ورأى فيها من استعد للخير وطلبه بلسان استعداه ومن استعد للشر وطلبه كذلك أفاض على كل بمقتضى حكمته ما استعد له وأعطاه ما طلبه منه ثم كلفه ورغبه ورهبه إتماماً للنعمة وإظهاراً للحجة إذ لو عذبه وأظهر فيه صفة قهره قبل أن ينذره لربما قال‏:‏

‏{‏لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 134‏]‏ فالتعذيب وإن لم يكن فيه نفع له سبحانه بالمعنى المألوف لكنه من آثار القهر ووقوع فريق في طريق القهر ضروري في حكمته تعالة وكل ما تقتضيه حكمته تعالى وكماله حسن، وإن شئت فقل‏:‏ إن صفتي اللطف والقهر من مستتبعان ذاته التي هي في غاية لاكمال ولهما متعلقات في نفس الأمر مستعدة لهما في الأزل استعداداً غير مجعول‏.‏ وقد علم سبحانه في الأزل التعلقات والمتعلقات فظهرت طبق ما علم ولو لم تظهر كذلك لزم انقلاب الحقائق وهو محال‏.‏ فالإيمان والكفر في الحقيقة ليسا سبباً حقيقاً وعلة تامة للتنعيم والتعذيب وإنما هما علامتان هلما دعت إليهما الحكمة والرحمة‏.‏ وهذا معنى ما ورد في «الصحيح» اعملوا فكل ميسر لما خلق له «أما من كان - أي في علم الله - من أهل السعادة المستعدة لهاذاته فسييسر بمقتضى الرحمة لعمل أهل السعادة لأنه شأنه تعالى الإفاضة على القوابل بحسب القابليات، وأما من كان القهر - لعمل أهل الشقاوة، وفي ذلك تظهر المنة وتتم الحجة ولا يرد في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلو شاء لهداكم أجمعين‏}‏ ‏[‏لأنعام‏:‏ 149‏]‏ لأن نفي الهداية لنفي المشيئة ولا شك أن المشيئة تابعة للعلم والعلم تابع لثبوت المعلوم في نفس الأمر كما يشير إليه قوله تعالى في المستحيل الغير الثابت في نفسه‏:‏ ‏{‏أم تنبّئونه بما لا يعلم في الأرض‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏ وحيث لا ثبوت للهداية في نفسها لا تعلق للعلم بها، وحيث لا تعلق لا مشيئة، فسبب نفي إيجاد الهداية نفي المشيئة وسبب نفي المشيئة تقرر عدم الهداية في نفسها فيئول الأمر إلى أن سبب نفي إيجاد الهداية انتفاؤها في نفس الأمر وعدم تقررها في العلم الأزلي‏:‏ ‏{‏ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏ فإذا انتقش هذا على صحيفة خاطرك، فنقول‏:‏ قولهم الضرر لاخالي عن النفع قبيح بديهة ليس بشيء لأن ذلك الضرر من آثار القهر التابع للذات الأقدس ومتى خلا عن القهر - كان عز شأنه عما يقوله الظالمون - كالأقطع الذي ليس له إلا يد واحدة بل من أنصفه عقله يعلم أن الخلو عن صفة القهر يخل بالربوبية ويسلب إزار العظمة ويحط شأن الملكية إذ لا يرهب منه حينئذ فيختل النظام وينحل نبذ هذا الانتظام‏.‏ على أن هذه الشبهة تستدعي عدم إيلام الحيوان في هذه النشأة لا سيما البهائم والأطفال الذين لا ينالهم من هذه الآلام نفع بالكلية لا عجلاً ولا آجلاً مع أنا نشاهد وقوع ذلك أكثر من نجوم السماء فما هو جوابهم عن ههذ الآلام منه سبحانه في هذه النشأة مع أنه لا نفع له منها بوجه فهو جوابنا عن التعذيب في تلك النشأة‏.‏

وقولهم إن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان فتكليفه متى حصل ترتب عليه العذاب الخ، ففيه أن الكافر في علم الله تعالى حسب استعداده متعشق للنار تعشق الحديد للمغناطيس وإن نفر عنها نافر عن الجنة نور الظلمة عن النور وإن تعشقها فهو إن كلف وإن لم يكلف لا بد وأن يعذب فياه، ولكن التكليف لاستخراج ما في استعداده من الإباء لإظهرا الحجة والكفر مجرد علامة ‏{‏وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقولهم هو سبحانه الخالق لداعية المعصية مسلم لكنه خلقها وأظهرها طبق ما دعا إليه الاستعداد الذاتي الذي لا دخل للقدرة إلا في إيجاده وأي قبح في إعطاء الشيء ما طلبه بلسان استعداده وإن أضربه ولا يلزم الله تعالى عقلاً أن يرتك مقتضى حكمته ويبطل شأن ربوبيته مع عدم تعلق علمه بخلاف ما اقتضاه ذلك الاستعداد‏.‏ وقولهم هب أنا سلمنا العقاب فينم أين الدوام الخ قلنا الدوام من خبث الذات وقبح الصفات الثابتين فيما لم يزل الظاهرين فيما لا يزال بالإباء بعد التكليف مع مراعاة الحكمة، وهذا الخبث دائم فيهم ما دامت حكمة الله تعالى الذاتية وذواتهم - كما يرشدك إل ذلك - قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏ ويدوم المعلول ما دامت عليه أو يقال العذاب وهو في الحقيقة البعد من الله لازم للكفر والملزوم، وأيضاً الكفر مع ظهور البرهان في الأنفس والآفاق بمن لا يتناهى كبرياؤه ولا تنحصر عظمته أمر لا يحيط نطاق الفكر بقبحه وإن لم يتضرر به سبحانه لكن الغيرة الإلهية لا ترتضيه وإن أفاضته القدرة الأزلية حسب الاستعداد بمقتضى الحكمة، ومثل ذلك يطلب عذاباً أبدياً وعقاباً سرمدياً وشبيه الشيء منجذب إله، ولا يقاس هذا بام ضربه من المثال إذ أين ذل التراب من عزة رب الأرباب، وليس مورد المسألتين منهلاً واحداً‏.‏ وقولهم من تاب من الكفر ولو بعد حين تاب الله تعالى عليه، أفترى أن هذا الكرم العظيم يذهب في الآخرة أو تسلب عقول أولئك المعذبين فلا يتوبون الخ‏.‏ ففيه أن من تاب من الكفر فقد أبدل القبيح بضده وأظهر سبحانه مقتضى ذاته وماهيته المعلومة له حسب علمه فهناك حينئذ كفر قبيح زائل وإيمان حسن ثابت، وقد انضم إلى هذا الإيمان ندم على ذلك الكفر في دار ينفع فيها تدارك ما فات والندم على الهفوات فيصير الكفر بهذا الإيمان كأن لم يكن شيئاً مذكوراً إذ يقابل القبيح بالحسن ويبقى الندم وهو ركن التوبة مكسباً على أن ظهور الإيمان بعد الكفر دليل على نجابة الذات في نفسها وطهارتها في معلوميتها ولأعمال بالخواتيم فلا بدع في مغفر الله تعالى له جوداً وكرماً ورحمة الله تعالى - وإن وسعت كل شيء ببعض اعتباراتها - إلا أنها خصت المتقين باعتبار آخر كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏

‏{‏ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 156‏]‏ فهي كمعيته سبحانه الغير المكيفة، ألا تسمع قوله تعالى مرة‏:‏ ‏{‏ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏، وتارة ‏{‏إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 128‏]‏ وكرة ‏{‏إن الله معنا‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ وطوراً ‏{‏إن معي ربي‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 62‏]‏ ولاينافي كون الرحمة أوسع دائرة من الغضب كما يرمز إليه ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ أن الكفار المعذبين أكثر من المؤمنين المنعمين كما يقتضيه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن أكر الناس لا يؤمنون‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 1‏]‏ وكذا حديث البعث لأن هذه الكثرة بالنسبة إلى الملائكة والحور والغلمان ‏{‏وما يعلم جمود ربك إلا هو‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 31‏]‏ ‏{‏ويخلق ما لا تعلمون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏ فيكون أهل الرحمة أكثر من أهل الغضب على أن أهل النار مرحومون في عذابهم وما عند الله تعالى من كل شيء لا يتناهى وبعض الشر أهون من بعض وهم متخلفون في العذاب، وبين عذاب طل طبقة وطبقة ما بين السماء والأرض وإن ظن كل من أهلها أنه أشد النا سعذاباً لكن الكلام في الواقع بل منهم من هو ملتذ بعذابه من بعض الجهات ومنهم غير ذلك، نعم فيهم من عذابه محض لا لذ لهم فيه ومع هذا يمقتون أنفسهم لعلمهم أنها هي التي استعدت لذلك ففاض عليها ما فاض من جانب المبدأ الفياض كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 10‏]‏ ومن غفل منهم عن ذلك نبهه إبليس عليه اللعنة كما حكى الله عنه بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تلوموني ولوموا أنفسكم‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 22‏]‏ ولا تنفعهم التوبة هناك كما تنفعهم هنا إذ قد اختلفت الداران وامتاز الفريقان وانتهى الأمد المضروب لها بمقتضى الحكمة الإلهية‏.‏ وقد رأينا في الشاهد أن لنفع الدواء وقتاً مخصوصاً إذا تعداه ربما يؤثر ضرراً ومن الكفار من يعرف أنه قد مضى الوقت وانقضى ذلك الزمان وأن التوبة إنما كانت في الدار الدنيا ولهذا ‏{‏قال رب ارجعون* لعلي أعمل صالحاً فيما تركت‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 99، 100‏]‏ ولما كان هذا الطلب عارف من وجه جاهل من وجه آخر قال الله تعالى في مقابلته‏:‏ ‏{‏كلا إنها كلمة هو قائلها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 100‏]‏ ولم يغلظ عليه كما أغلظ على ما قال‏:‏ ‏{‏ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ فلما اختلف الطلب اختلف الجواب وليس كل دعاء يستجاب كما لا يخفى على أولي الألباب‏.‏ وقولهم بقي التمسك بالدلائل اللفظية وهي لا تفيد اليقين فلا تعارض الأدلة العقلية المفيدة له فيقال فيه إن أرادوا أن هذه الأدلة العقلية مفيدة لليقين فقد علمت حالها وأنها كسراب بقيعة وليتها أفادت ظناً وإن أرادوا مطلق الأدلة العقلية فهذه ليست منها على أن كون الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين إنما هو مذهب المعتزلة وجمهور الأشاعرة، والحق أنها قد تفيد اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة تدل على انتفاء الاحتمالات، ومن صدق القائل يعلم عدم المعارض العقلي فإنه إذا تعين المعنى وكان مراداً له فلو كان هناك معارض عقلي لزم كذبه، نعم في إفادتها اليقين في العقليات نظر لأن كوها مفيدة لليقين مبني على أنه هل يحصل بمجردها والنظر فيها - وكون قائلها صادقاً - الجزم بعدم المعارض العقلي وأنه هل للقرينة التي تشاهد أو تنقل تواتراً مدخل في ذلك الجزم وحصول ذلك الجزم بمجردها ومدخلية القرينة فيه مما لا يمكنه الجزم بأحد طرفيه الإثبات والنفي فلا جرم كانت إفادتها اليقيين في العقليات محل نظر وتأمل‏.‏

فإن قلت‏:‏ إذا كان صدق القائل مجزوماً به لزم منه الجزم بعدم المعارض في العقليات كما لزم منه في الشرعيات وإلا احتمل كلامه الكذب فيهما فلا فرق بينهما‏.‏ قلت‏:‏ أجاب بعض المحققين بأن المراد بالشرعيات أمور يجزم العقل بإمكانها ثبوتاً وانتفاء ولا طريق إليها، وبالعقليات ما ليس كذلك وحينئذ جاز أن يكون من الممتنعات فلأجل هذا الاحتمال ربما لم يحصل الجزم بعدم المعارض العقلي للدليل النقلي في العقليات وإن حصل الجزم به في الشرعيات وذلك بخلاف الأدلة العقلية في العقليات فإنها بمجردها تفيد الجزم بعدم المعارض لأنها مركبة من مقدمات علم بالبديهة صحتها أو علم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة، وحينئذ يستحيل أن يوجد ما يعارضها لأن أحكام البديهة لا تتعارض بحسب نفس الأمر أصلاً‏.‏

هذا وقال الفاضل الرومي ههنا بحث مشهور وهو أن المعنى بعدم المعارض العقلي في الشرعيات صدق القائل وهو قائم في العقليات أيضاً وما لا يحكم العقل بإمكانه ثبوتاً أو انتفاء لا يلزم أن يكون من الممتنعات لجواز إمكانه الخافي من العقل فينبغي أن يحمل كل ما علم أن الشرع نطق به على هذا القسم لئلا يلزم كذبه وإبطال قطع العقل بصدقه فالحق أن النقلي يفيد القطع في العقليات أيضاً ولا مخلص إلا بأن يقال المراد أن النظر في الأدلة نفسها والقرائن في الشرعيات يفيد الجزم بعدم المعارض لأجل إفادة الإرادة من القائل الصادق جزماً‏.‏ وفي العقليات إفادته الجزم بعدمه محل نظر بناء على أن إفادته الإرادة محتملة انتهى‏.‏ وقد ذهب الشيخ الأكبر قدس سره إلى تقديم الدليل النقلي على العقلي فقال في الباب الثاني والسبعين والأربعمائة من «الفتوحات2‏:‏

على السمع عولنا فكنا أولي النهى *** ولا علم فيما لا يكون عن السمع

وقال قدس سره في الباب الثامن والخمسين والثلثمائة‏:‏

كيف للعقل دليل والذي *** قد بناه العقل بالكشف انهدم

فنجاة النفس في الشرع فلا *** تك إنساناً رأى ثم حرم

واعتصم بالشرع في الكشف فقد *** فاز بالخير عبيد قد عصم

اهمل الفكر فلا تحفل به *** واتركنه مثل لحم في وضم

إن للفكر مقاماً فاعتضد *** به فيه تك شخصاً قد رحم

كل علم يشهد الشرع له *** هو علم فيه فلتعتصم

وإذا خالفه العقل فقل *** طورك الزم ما لكم فيه قدم

ويؤيد هذا ما روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ إن للعقل حداً ينتهي إليه كما أن للبصر حداً ينتهي إليه، وقال الإمام الغزالي‏:‏ ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل أن يكون وراء العقل طور آخر يظهر فيه ما لا يظهر في العقل كما لا تستبعد أن يكون العقل طوراً وراء التمييز والإحساس ينكشف فيه عوالم وعجائب يقصر عنها الاحساس والتمييز إلى آخر ما قال ففيما نحن فيه في القرآن والسنة المتواترة ما لا يحصى مما يدل على الخلود في النار، وفي العذاب دلالة واضحة لا خفاء فيها فتأويلها كلها بمجرد شبه أضعف من حبال القمر، والعدول عنها إلى القول بنفي العذاب أو الخلود فيه مما لا ينبغي لا سيما في مثل هذه الأوقات التي فيها الناس كما ترى، على أن هذه التأويلات في غاية السخافة إذ كيف يتصور حقيقة الدعاء من رب الأرض والسماء أم كيف يكون التعليق بعد النظر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 8 4‏]‏ أم كيف يقبل أن يكون الاخبار عن الاستحقاق دون الوقوع على ما فيه في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏ و‏{‏كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 56‏]‏ سبحانك هذا بهتان عظيم‏.‏ وأما ما ينقل عن بعض السلف الصالح وكذا عن حضرة مولانا الشيخ الأكبر ومن حذا حذوه من السادة الصوفية رضي الله تعالى عنهم من القول بعدم الخلود فذلك مبني على مشرب آخر وتجل لم ينكشف لنا، والكثير منهم قد بنى كلامه على اصطلاحات ورموز وإشارات قد حال بيننا وبين فهمها العوائق الدنيوية والعلائق النفسانية، ولعل قول من قال بعدم الخلود ممن لم يسلك مسلك أهل السلوك مبني على عدم خلود طائفة من أهل النار وهم العصاة مما دون الكفر وإن وقع إطلاق الكفر عليهم حمل على معنى آخر كما حمل على رأي في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من ترك الصلاة فقد كفر ‏"‏، على أن الشيخ قدس سره كم وكم صرح في كتبه بالخلود فقال في عقيدته الصغرى أول «الفتوحات»‏:‏ والتأبيد لأهل النار في النار حق، وفي الباب الرابع والستين في بحث ذبح الموت ونداء المنادي يا أهل النار خلود ولا خروج ما نصه‏:‏ ويغتم أهل النار أشد الغم لذلك ثم تغلق أبواب النار غلقاً لا فتح بعده وتنطبق النار على أهلها ويدخل بعضهم في بعض ليعظم انضغاطهم فيها ويرجع أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها ويرى الناس والجن فيها مثل قطع اللحم في القدر التي تحتها النار العظيمة تغلي كغلي الحميم فتدور في الخلق علواً وسفلاً

‏{‏كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 97‏]‏

وذكر الشيخ عبد الكريم الجيلي في كتابه المسمى بـ «الإنسان الكبير»، وفي «شرح لباب الأسرار من الفتوحات»‏:‏ أن مراد القوم بأن أهل النار يخرجون منها هم عصاة الموحدين لا الكفار، وقال‏:‏ إياك أن تحمل كلام الشيح محيي الدين أو غيره من الصوفية في قولهم بانتهاء مدة أهل النار من العصاة على الكفار فإن ذلك كذب وخطأ وإذا احتمل الكلام وجهاً صحيحاً وجب المصير إليه انتهى، نعم قال قدس سره في تفسير الفاتحة من «الفتوحات»‏:‏ فإذا وقع الجدار وانهدم الصور وامتزجت الأنهار والتقى البحران وعدم البرزخ صار العذاب نعيماً وجهنم جنة ولاعذاب ولا عقاب إلا نعيم وأمان بمشاهدة العيان الخ، وهذا وأمثاله محمول على معنى صحيح يعرفه الذوق لا ينافي ما وردت به القواطع، وقصارى ما يخطر لأمثالنا فيه أنه محمول على مسكن عصاة هذه الأمة من النار، وفيه‏:‏ يضع الجبار قدمه ويتجلى بصفة القهر على الناس فتقول قط قط ولا تطيق تجليه فتخمد ولا بعد أن تلحق بعد بالجنة وإياك أن تقول بظاهره مع ما أنت عليه وكلما وجدت مثل هذا لأحد من أهل الله تعالى فسلمه لهم بالمعنى الذي أرادوه مما لا تعلمه أنت ولا أنا لا بالمعنى الذي ينقدح في عقلك المشوب بالأوهام فالأمر والله وراء ذلك والأخذ بظواهر هذه العبارات النافية للخلود في العذاب وتأويل النصوص الدالة على الخلود في النار بأن يقال الخلود فيها يستلزم الخلود في العذاب لجواز التنعم فيها وانقلاب العذاب عذوبة مما يجر إلى نفي الأحكام الشرعية وتعطيل النبوات وفتح باب لا يسد‏.‏ وإن سولت نفسك لك ذلك قلبنا البحث معك ولنأتينك بجنود من الأدلة لا قبل لها بها وما النصر إلا من عند الله وكان حقاً علينا نصر المؤمنين، ولا يوقعنك في الوهم أن الخلود مستلزم لتناهي التجليات فالله تعالى هو الله وكل يوم هو في شأن فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ولا أظنك تجد هذا التحقيق من غيرنا والحمد لله رب العالمين‏.‏