فصل: تفسير الآية رقم (17)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ فهو تمثيل ذكر استطراداً لاحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث للترغيب في الخشوع والتحذير عن القساوة ‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايات‏}‏ التي من جملتها هذه الآيات ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ كي تعقلو ما فيها وتعملوا بموجبها فتفوزوا بسعادة الدارين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ المصدقين والمصدقات‏}‏ أي المتصدقين والمتصدقات، وقد قرأ أبيّ كذلك، وقرأ ابن كثير، وأبو بكر‏.‏ والمفضل‏.‏ وأبان‏.‏ وأبو عمر وفي رواية هارون بتخفيف الصاد من التصديق لا من الصدقة كما في قراءة الجمهور أي الذين صدقوا واللاتي صدقن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، والقرءاة الأولى أنسب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً‏}‏ وقيل‏:‏ الثانية أرجح لأن الإقراض يغني عن ذكر التصدق، وأنت ستعلم إن شاء الله تعالى فائدته، وعطف ‏{‏أقرضوا‏}‏ على معنى الفعل من المصدقين على ما اختاره أبو علي‏.‏ والزمخشري لأن أل بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى الفعل فكأنه قيل‏:‏ إن الذين اصدقوا أو صدقوا على القراءتين ‏{‏الزكواة وَأَقْرِضُواُ‏}‏ وتعقبه أبو حيان وغيره بأن فيه الفصل بين أجزاء الصلة إذ المعطوف على الصلة صلة بأجنبي وهو المصدقات، وذلك لا يجوز، وقال صاحب التقريب‏:‏ هو محمول على المعنى كأنه قيل‏:‏ إن الناس الذين تصدقوا وتصدقن وأقرضوا فهو عطف على الصلة من حيث المعنى بلا فصل، وتعقب بأنه لا محصل له إلا إذا قيل‏:‏ إن أل الثانية زائدة لئلا يعطف على صورة جزء الكلمة، وفيه بعد، ولا يخفى أن حديث اعتبار المعنى يدفع ما ذكر، ومن هنا قيل‏:‏ إنه قريب ولا يبعد تنزيل ما تقدم عن أبي علي، والزمخشري عليه، وقيل‏:‏ العطف على صلة أل في المصدقات واختلاف الضمائر تأنيثاً وتذكيراً لا يضر لأن أل تصلح للجميع فيراد بها معنى اللاتي عند عود ضمير جمع الإناث عليها ومعنى الذين عند عود ضمير جمع الذكور عليها وهو كما ترى، ومثله ما قيل‏:‏ هو من باب كل رجل وضيعته أي إن المصدقين مقرونون مع المصدقات في الثواب والمنزلة، أو يقدر خبر أي إن المصدقين والمصدقات يفلحون ‏{‏وَأَقْرِضُواُ‏}‏ في الوجهين ليس عطفاً على الصلة بل مستأنف ويضاعف بعد صفة قرضاً أو استئناف ومن أنصف لم ير ذلك مما ينبغي أن يخرج عليه كلام أدنى الفصحاء فضلاً عن كلام رب العالمين، واختار أبو حيان تخريج ذلك على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل‏:‏ والذين أقرضوا فيكون مثل قوله‏:‏ فمن يهجر رسول الله منكم *** ‏(‏ويمدحه وينصره‏)‏ سواء

وهو مقبول على رأي الكوفيين دون رأي البصريين فإنهم لا يجوزون حذف الموصول في مثله، وبعض أئمة المحققين بعد أن استقرب توجيه التقريب ولم يستبعد تنزيل ما سمعت عن الزمخشري‏.‏ وأبي علي عليه قال‏:‏ وأقرب منه أن يقال‏:‏ إن ‏{‏المصدقات‏}‏ منصوب على التخصيص كأنه قيل‏:‏ ‏{‏ءانٍ المتصدقين‏}‏ عاماً على التغليب وأخص المتصدقات منهم كما تقول‏:‏ إن الذين آمنوا ولا سيما العلماء منهم وعملوا الصالحات لهم كذا‏.‏

ووجه التخصيص ما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يا معشر النساء تصدقن فإني أريتكن أكثر أهل النار» يحضهن على الصدقة بأنهن إذا فعلن ذلك كان له تعالى أقبل وجزاؤه عنه سبحانه أوفر وأفضل، ثم قال‏:‏ ولما لم يكن الاقراض غير ذلك التصدق قيل‏:‏ وأقرضوا أي بذلك التصدق تحقيقاً لكينونته وأنهم مثل ذلك ممثلون عند الله تعالى بمن يعامل مع أجود الأجودين معاملة برضاه، ولو قيل‏:‏ والمقرضين لفاتت هذه النكتة انتهى‏.‏

ولا يخفى أن نصب المصدقات على التخصيص خلاف الظاهر، وأما ما ذكره في نكتة العدول عن المقروضين فحسن وهو متأت على تخريج أبي علي‏.‏ والزمخشري، وعلى تخريج أبي حيان، وقال الخفاجي‏:‏ القول أي قول أبي البقاء بأن أقرضوا الخ معترض بين اسم إن وخبرها أظهر وأسهل، وكأن النكتة فيه تأكيد الحكم بالمضاعفة، وزعم أن الجملة حال بتقدير قد أو بدونها من ضميري المصدقين والمصدقات لا يخفى معنى وعربية فتدبر ‏{‏يُضَاعَفُ لَهُمُ‏}‏ الضمير لجميع المتقدمين الذكور والإناث على التغليب كضمير أقرضوا، والجار والمجرور نائب الفاعل، وقيل‏:‏ هو ضمير التصدق أو ضمير القرض على حذف مضاف أي يضاعف ثواب التصدق أو ثواب القرض لهم، وقرأ ابن كثير‏.‏ وابن عامر يضعف بتشديد العين، وقرىء يضاعف بالبناء للفاعل أي يضاعف الله عز وجل لهم ثواب ذلك ‏{‏وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ‏}‏ قد مر الكلام فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ قد بين كيفية إيمانهم في خاتمة سورة البقرة، والموصول مبتدأ أول، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أولاك‏}‏ مبتدأ ثان، وهو إشارة إلى الموصول وما فيه من معنى البعد لما مر مراراً، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ‏}‏ مبتدأ ثالث، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الصديقون والشهداء‏}‏ خبر الثالث، والجملة خبر الثاني وهو مع خبره خبر الأول أو هم ضمير فصل وما بعده خبر الثاني، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ متعلق على ما قيل‏:‏ بالثبوت الذي تقتضيه الجملة أي أولئك عند ربهم عز وجل وفي حكمه وعلمه سبحانه هم الصديقون والشهداء‏.‏

والمراد أولئك في حكم الله تعالى بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل وهم الذين سبقوا إلى التصديق ورسخوا فيه واستشهدوا في سبيل الله جل جلاله وسمي من قتل مجاهداً في سبيله تعالى شهيداً لأن الله سبحانه وملائكته عليهم السلام شهود له بالجنة، وقيل‏:‏ لأنه حي لم يمت كأنه شاهد أي حاضر، وقيل‏:‏ لأن ملائكة الرحمة تشهده، وقيل‏:‏ لأنه شهد ما أعد الله تعالى له من الكرامة، وقيل‏:‏ غير ذلك فهو إما فعيل بمعنى فاعل أو بمعنى مفعول على اختلاف التأويل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ‏}‏ خبر ثان للموصول على أنه جملة من مبتدأ وخبر، أو ‏{‏لَهُمْ‏}‏ الخبر وما بعده مرتفع به على الفاعلية وضمير ‏{‏لَهُمْ‏}‏ للموصول، والضميران الأخيران للصديقين والشهداء، والغرض بيان ثمرات ما وصفوا به من نعوت الكمال أي أولئك لهم مثل أجر الصديقين والشهداء ونورهم المعروفين بغاية الكمال وعزة المنال، وقد حذف أداة التشبيه تنبيهاً على قوة المماثلة وبلوغها حد الاتحاد كما فعل ذلك أولا حيث قيل‏:‏ أولئك هم الصديقون والشهداء وليست المماثلة بين ما للفريق الأول من الأجر والنور‏.‏ وبين تمام ما للفريقين الأخيرين بل بين تمام للأول من الأصل والإضعاف وبين ما للأخيرين من الأصل بدون الإضعاف، فالإضعاف هو الذي امتاز به الفريقان الأخيران على الفريق الأول وقد لا يعتبر تشبيه بليغ في الكلام أصلا ويبقى على ظاهره والضمائر كلها للموصول أي أولئك هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله تعالى وأخبار رسله عليهم الصلاة والسلام والقائمون بالشهادة لله سبحانه بالوحدانية وسائر صفات الكمال ولهم بما يليق بهم من ذلك لهم الأجر والنور الموعودان لهم، وقال بعضهم‏:‏ وصفهم بالشهادة لكونهم شهداء على الناس كما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ فعند ربهم متعلق بالشهداء، والمراد والشهداء على الناس يوم القيامة، وجوز تعلقه بالشهداء أيضاً على الوجه الأول على معنى الذين شهدوا مزيد الكرامة بالقتل في سبيل الله تعالى يوم القيامة أو في حظيرة رحمته عز وجل أو نحو ذلك، ويشهد لكون الشهداء معطوفاً على الصديقين آثار كثيرة‏.‏

أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن مؤمني أمتي شهداء» ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ‏}‏، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنه قال يوماً لقوم عنده‏:‏ كلكم صديق وشهيد قيل له‏:‏ ما تقول يا أبا هريرة‏؟‏ قال‏:‏ اقرءوا ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ الآية، وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد عن مجاهد قال‏:‏ كل مؤمن صديق وشهيد ثم تلا الآية، وأخرج عبد بن حميد نحوه عن عمرو بن ميمون، وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال‏:‏ «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله وصليت الصلوات الخمس وأديت الزكاة وصمت رمضان وقمته فممن أنا‏؟‏ قال‏:‏ من الصديقين والشهداء» وينبغي أن يحمل الذين آمنوا على من لهم كمال في ذلك يعتدّ به ولا يتحقق إلا بفعل طاعات يعتدّ بها وإلا فيبعد أن يكون المؤمن المنهمك في الشهوات الغافل عن الطاعات صديقاً شهيداً، ويستأنس لذلك بما جاء من حديث عمر رضي الله تعالى عنه ما لكم إذا رأيتم الرجل يخرق أعراض الناس أن لا تعيبوا عليه‏؟‏ قالوا‏:‏ نخاف لسانه قال‏:‏ ذلك أحرى أن لا تكونوا شهداء، قال ابن الأثير‏:‏ أي إذا لم تفعلوا ذلك لم تكونوا في جملة الشهداء الذين يستشهدون يوم القيامة على الأمم التي كذبت أنبياءها، وكذا بقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ اللعانون لا يكونون شهداء بناءاً على أحد قولين فيه‏.‏

وفي بعض الأخبار ما ظاهره إرادة طائفة من خواص المؤمنين، أخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض مخافة الفتنة على نفسه ودينه كتب عند الله صديقاً فإذا مات قبضه الله شهيداً وتلا هذه الآية‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء‏}‏ ثم قال‏:‏ هذه فيهم ثم قال‏:‏ والفرّارون بدينهم من أرض إلى أرض يوم القيامة مع عيسى ابن مريم في درجته في الجنة» ويجوز أن يراد من قوله‏:‏ «هذه فيهم» أنها صادقة عليهم وهم داخلون فيها دخولاً أولياً، ويقال‏:‏ في قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «مع عيسى في درجته» المراد معه في مثل درجته وتوجه المماثلة بما مر والخبر إذا صح يؤيد الوجه الأول في الآية‏.‏

وروي عن الضحاك أنها نزلت في ثمانية نفر سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام وهم أبو بكر‏.‏ وعمر‏.‏ وعثمان‏.‏ وعلي‏.‏ وحمزة‏.‏ وطلحة‏.‏ والزبير‏.‏ وسعد‏.‏ وزيد رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وهذا لا يضر في العموم كما لا يخفى، وقيل‏:‏ الشهداء مبتدأ و‏{‏عِندَ رَبّهِمْ‏}‏ خبره، وقيل‏:‏ الخبر ‏{‏لَهُمْ أَجْرُهُمْ‏}‏ والكلام عليهما قد تم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الصديقون‏}‏، وأخرج هذا ابن جرير عن ابن عباس‏.‏ والضحاك قالا‏:‏ ‏{‏والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون‏}‏ هذه مفصولة سماهم صديقين، ثم قال‏:‏ والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم‏.‏

وروي جماعة عن مسروق ما يوافقه، واختلفوا في المراد بالشهداء على هذا فقيل‏:‏ الشهداء في سبيل الله تعالى‏.‏

وحكى ذلك عن مقاتل بن سليمان، وقيل‏:‏ الأنبياء عليهم السلام الذين يشهدون للأمم عليهم، وحكى ذلك عن مسروق‏.‏ ومقاتل بن حيان‏.‏ واختاره الفراء‏.‏ والزجاج، وزعم أبو حيان أن الظاهر كون الشهداء مبتدأ وما بعده خبر، ومن أنصف يعلم أنه ليس كما قفال، وأن الذي تقتضيه جزالة النظم الكريم هو ما تقدم، ثم النور على الجميع الأوجه على حقيقته، وعن مجاهد‏.‏ وغيره أنه عبارة عن الهدى والكرامة والبشرى‏.‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا‏}‏ أي بجميعها على اختلاف أنواعها وهو إشارة إلى كفرهم بالرسل عليهم السلام جميعهم ‏{‏أولئك‏}‏ الموصوفون بتلك الصفة القبيحة ‏{‏أصحاب الجحيم‏}‏ بحيث لا يفارقونها أبداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الاموال والاولاد‏}‏ بعدما بين حال الفريقين في الآخرة شرح حال الحياة التي اطمأن بها الفريق الثاني، وأشير إلى أنها من محقرات الأمور التي لا يركن إليها العقلاء فضلاً عن الاطمئنان بها بأنها لعب لا ثمرة فيها سوى التعب ‏{‏وَلَهْوٌ‏}‏ تشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه ‏{‏وَزِينَةٌ‏}‏ لا يحصل منها شرف ذاتي كالملابس الحسنة والمراكب البهية والمنازل الرفيعة ‏{‏وَتَفَاخُرٌ‏}‏ بالأنساب والعظام البالية ‏{‏وَتَكَاثُرٌ‏}‏ بالعدد والعدد، وقرأ السلمي ‏{‏وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ‏}‏ بالإضافة، ثم أشير إلى أنها مع ذلك سريعة الزوال وشيكة الاضمحلال بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كَمَثَلِ غَيْثٍ‏}‏ مطر أَعْجَبَ الكفار‏}‏ أي راقهم ‏{‏‏}‏ أي راقهم ‏{‏نعبعاتُهُ‏}‏ أي النبات الحاصل به، والمراد بالكفار إما الحراث على ما روي عن ابن مسعود لأنهم يكفرون أي يسترون البذر في الأرض ووجه تخصيصهم بالذكر ظاهر، وأما الكافرون بالله سبحانه ووجه تخصيصهم أنهم أشد إعجاباً بزينة الدنيا فإن المؤمن إذا رأى معجباً انتقل فكره إلى قدرة موجده عز وجل فأعجب بها، ولذا قال أبو نواس في النرجس‏:‏ عيون من لجين شاخصات *** على أطرافها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات ‏(‏بأن الله ليس له شريك‏)‏ *** والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق إعجاباً ‏{‏أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ‏}‏ يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له، وقيل‏:‏ أي يجف بعد خضرته ونضارته ‏{‏فترياه‏}‏ يا من تصح منه الرؤية ‏{‏فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً‏}‏ بعد ما رأيته ناضراً مونقاً، وقرىء مصفاراً وإنما لم يقل فيصفر قيل‏:‏ إيذاناً بأن اصفراره غير مقارن لهيجانه وإنما المترتب عليه رؤيته كذلك، وقيل‏:‏ للإشارة إلى ظهور ذلك لكل أحد ‏{‏ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً‏}‏ هشيماً متكسراً من اليبس، ومحل الكاف قيل‏:‏ النصب على الحالية من الضمير في ‏{‏لَعِبٌ‏}‏ لأنه في معنى الوصف، وقيل‏:‏ الرفع على أنه خبر بعد خبر للحياة الدنيا بتقدير المضاف إليه أي مثل الحياة كمثل الخ، ولتضمن ذلك تشبيه جميع ما فيها من السنين الكثيرة بمدة نبات غيث واحد يفنى ويضمحل في أقل من سنة جاءت الإشارة إلى سرعة زوالها وقرب اضمحلالها، وبعد ما بين حقارة أمر الدنيا تزهيداً فيها وتنفيراً عن العكوف عليها أشير إلى فخامة شأن الآخرة وعظم ما فيها من اللذات والآلام ترغيباً في تحصيل نعيمها المقيم وتحذيراً من عذابها الأليم، وقدم سبحانه ذكر العذاب فقال جل وعلا‏:‏

‏{‏وَفِى الاخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا ‏{‏وَمَغْفِرَةٌ‏}‏ عظيمة ‏{‏مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ‏}‏ عظيم لا يقادر قدره، وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب «لن يغلب عسر يسرين»‏.‏

وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضاً ورمز إلى أن الخير هو المقصود بالقصد الأولى ‏{‏وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور‏}‏ لمن اطمأن بها ولم يجعلها ذريعة للآخرة ومطية لنعيمها، روي عن سعيد بن جبير الدنيا متاع الغرور إن ألهتك عن طلب الآخرة، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله تعالى وطلب الآخرة فنعم المتاع ونعم الوسيلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ‏}‏ أي سارعوا مسارعة السابقين لأقرانهم في المضمار إلى أسباب مغفرة عظيمة كائنة ‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ والكلام على الاستعارة أو المجاز المرسل واستعمال اللفظ في لازم معناه وإنما لزم ذلك لأن اللازم أن يبادر من يعمل ما يكون سبباً للمغفرة ودخول الجنة لا أن يعمله أو يتصف بذلك سابقاً على آخر؛ وقيل‏:‏ المراد سابقوا ملك الموت قبل أن يقطعكم بالموت عن الأعمال الموصلة لما ذكر؛ وقيل‏:‏ سابقوا إبليس قبل أن يصدكم بغروره وخداعه عن ذلك وهو كما ترى‏.‏

والمراد بتلك الأسباب الأعمال الصالحة على اختلاف أنواعها، وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية‏:‏ كن أوّل داخل المسجد وآخر خارج، وقال عبد الله‏:‏ كونوا في أول صف القتال، وقال أنس‏:‏ اشهدوا تكبيرة الإحرام مع الإمام وكل ذلك من باب التمثيل، واستدل بهذا الأمر على أن الصلاة بأول وقتها أفضل من التأخير ‏{‏وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والارض‏}‏ أي كعرضهما جميعاً لو ألصق أحدهما بالآخر وإذا كان العرض وهو أقصر الامتدادين موصوفاً بالسعة دل على سعة الطول بالطريق الأولى فالاقتصار عليه أبلغ من ذكر الطول معه، وقيل‏:‏ المراد بالعرض البسطة ولذا وصف به الدعاء ونحوه مما ليس من ذوي الأبعاد وتقدم قول آخر في تفسير نظير الآية من سورة آل عمران وتقديم المغفرة على الجنة لتقدم التخلية على التحلية‏.‏

‏{‏أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ‏}‏ أي هيئت لهم، واستدل بذلك على أن الجنة موجودة الآن لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُعِدَّتْ‏}‏ بصيغة الماضي والتأويل خلاف الظاهر، وقد صرح بخلافه في الأحاديث الصحيحة وتمام الكلام في علم الكلام، وعلى أن الإيمان وحده كاف في استحقاق الجنة لذكره وحده فيما في حيز ما يشعر بعلة الإعداد وإدخال العمل في الإيمان المعدّى بالباء غير مسلم كذا قالوا، ومتى أريد بالذين آمنوا المذكورين من لهم درجة في الإيمان يعتد بها، وقيل‏:‏ بأنها لا تحصل بدون الأعمال الصالحة على ما سمعته منا قريباً انخدش الاستدلال الثاني في الجملة كما لا يخفى، وذكر النيسابوري في وجه التعبير هنا بسابقوا وفي آية آل عمران بسارعوا وبالسماء هنا، بالسماوات هناك وبكعرض هنا وبعرض بدون أداة تشبيه ثمّ كلاماً مبنياً على أن المراد بالمتقين هناك السابقون المقربون، وبالذين آمنوا هنا من هم دون أولئك حالاً لتأمل ‏{‏ذلك‏}‏ أي الذي وعد من المغفرة والجنة ‏{‏فَضَّلَ الله‏}‏ عطاؤه الغير الواجب عليه ‏{‏يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ إيتاءه ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ فلا يبعد منه عز وجل التفضل بذلك على من يشاء وإن عظم قدره، فالجملة تذييل لإثبات ما ذيل بها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ‏}‏ أي نائبة أيّ نائبة وأصلها في الرمية وهي من أصاب السهم إذا وصل إلى المرمى بالصواب ثم خصت بها‏.‏

وزعم بعضهم أنها لغة عامة في الشر والخير وعرفا خاصة بالشر، و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة للتأكيد، وأصاب جاء في الشر كما هنا، وفي الخير كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 73‏]‏ وذكر بعضهم أنه يستعمل في الخير اعتباراً بالصواب أي بالمطر وفي الشر اعتباراً بإصابة السهم، وكلاهما يرجعان إلى أصل وتذكير الفعل في مثل ذلك جائز كتأنيثه، وعليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 5‏]‏ والكلام على العموم لجميع الشرور أي مصيبة أيّ مصيبة ‏{‏فِى الارض‏}‏ كجدب وعاهة في الزرع والثمار وزلزلة وغيرها ‏{‏وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ كمرض وآفة كالجرح والكسر ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ أي إلا مكتوبة مثبتة في اللوح المحفوظ، وقيل‏:‏ في علم الله عز وجل‏.‏

‏{‏مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ أي نخلقها، والضمير على ما روي عن ابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ والحسن‏.‏ وجماعة للأنفس، وقيل‏:‏ للأرض، واستظهر أبو حيان كونه للمصيبة لأنها هي المحدث عنها، وذكر الأرض والأنفس إنما هو على سبيل ذكر محلها، وذكر المهدوي جواز عوده على جميع ما ذكر، وقال جماعة‏:‏ يعود على المخلوقات وإن لم يجر لها ذكر، وقيل‏:‏ المراد بالمصيبة هنا الحوادث من خير وشر وهو خلاف الظاهر من استعمال المصيبة إلا أن فيما بعد نوع تأييد له وأياً مّا كان ففي الأرض متعلق بمحذوف مرفوع أو مجرور صفة لمصيبة على الموضع أو على اللفظ، وجوز أن يكون ظرفاً لأصاب أو للمصيبة، قيل‏:‏ وإنما قيدت المصيبة بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأنها غير متناهية، واللوح متناه وهو لا يكون ظرفاً لغير المتناهي ولذا جاء «جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة» وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه سبحانه لم يذكر أحوال أهل السماوات لعدم تعلق الغرض بذلك مع قلة المصائب في أهلها بل لا يكاد يصيبهم سوى مصيبة الموت، وما ذكره في وجه التخصيص الأول لا يتم إذا أريد بالكتاب علمه سبحانه، وقيل‏:‏ بأن كتابة الحوادث فيه على نحو كتابتها في القرآن العظيم بناءاً على ما يقولون‏:‏ إنه ما من شيء إلا ويمكن استخراجه منه حتى أسماء الملوك ومددهم وما يقع منهم ولو قيل في وجهه إن الأوفق بما تقدم من شرح حال الحياة الدنيا إنما هو ذكر المصائب الدنيوية فلذا خصت بالذكر لكان تاماً مطلقاً ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ أي إثباتها في كتاب ‏{‏عَلَى الله‏}‏ لا غيره سبحانه ‏{‏يَسِيرٌ‏}‏ لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة، وإن أريد بذلك تحققها في علمه جل شأنه فيسره لأنه من مقتضيات ذاته عز وجل، وفي الآية رد على هشام بن الحكم الزاعم أنه سبحانه لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، وفي الإكليل إن فيها رداً على القدرية، وجاء ذلك في خبر مرفوع، أخرج الديلمي عن سليم بن جابر الجهيمي قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«سيفتح على أمتي باب من القدر في آخر الزمان لا يسدّه شيء يكفيكم منه أن تلقوه بهذه الآية ما أصاب من مصيبة»‏.‏

وأخرج الإمام أحمد‏.‏ والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا‏:‏ «إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار فقالت‏:‏ والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ما هكذا كان يقول، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ كان أهل الجاهلية يقولون‏:‏ إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار» ثم قرأت ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ‏}‏ أي أخبرناكم بذلك لئلا تحزنوا ‏{‏على مَا فَاتَكُمْ‏}‏ من نعم الدنيا ‏{‏وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم‏}‏ أي أعطاكموه الله تعالى منها فإن من علم أن الكل مقدر يفوت ما قدّر فواته ويأتي ما قدّر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت، وعلم كون الكل مقدراً مع أن المذكور سابقاً المصائب دون النعم وغيرها لأنه لا قائل بالفرق وليس في «النظم الكريم» اكتفاءً كما توهم، نعم إن حملت المصيبة على الحوادث من خير وشر كان أمر العلم أوضح كما لا يخفى وترك التعادل بين الفعلين في الصلتين حيث لم يسندا إلى شيء واحد بل أسند الأول إلى ضمير الموصول والثاني إلى ضميره تعالى لأن الفوات والعدم ذاتي للأشياء فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إليه عز وجل كما حقق في موضعه، وعليه قول الشاعر‏:‏ فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى *** وعرج على الباقي وسائله لم بقي

ومثل هذه القراءة قراءة عبد الله أوتيتم مبنياً للمفعول أي أعطيتم، وقرأ أبو عمرو أتاكم من الإتيان أي جاءكم وعليها بين الفعلين تعادل، والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهب صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي الفرح المطغي الملهي عن الشكر، وأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله تعالى والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما‏.‏

أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال في الآية‏:‏ ليس أحد إلا وهو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبراً ومن أصابه خير جعله شكراً، وقوله تعالى‏:‏

‏{‏والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ‏}‏ تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والاختيال والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه، والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالمال والجاه‏.‏

وذكر بعضهم أن الاختيال في الفعل والفخر فيه وفي غيره، والمراد من لا يحب يبغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض في حقه عز وجل وأولاً بالإثابة والتعذيب، ومذهب السلف ترك التأويل مع التنزيه، ومن لا يحب كل مختال لا يحب كل فرد فرد من ذلك لا أنه لا يحب البعض دون البعض ويرد بذلك على الشيخ عبد القاهر في قوله‏:‏ إذا تأملنا وجدنا إدخال كل في حيز النفي لا يصلح إلا حيث يراد أن بعضاً كان وبعضاً لم يكن، نعم إن هذا الحكم أكثري لا كلي، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل‏}‏ بدل من ‏{‏كُلَّ مُخْتَالٍ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 23‏]‏ بدل كل من كل فإن المختال بالمال يضن به غالباً ويأمر غيره بذلك، والظاهر أن المراد أنهم يأمرون حقيقة، وقيل‏:‏ كانوا قدوة فكأنهم يأمرون أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين الخ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره يعرضون عن الإنفاق الغني عنه الله عز وجل، ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد‏}‏ فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله سبحانه غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإعراض عن شكره بالتقرب إليه بشيء من نعمه جل جلاله، وقيل‏:‏ تقديره مستغنى عنهم، أو موعودونب العذاب أو مذمومون‏.‏

وجوز أن يكون في موضع نصب على إضمار أعني أو على أنه نعت لكل مختال فإنه مخصص نوعاً مّا من التخصيص فساغ وصفه بالمعرفة وهذا ليس بشيء، وقال ابن عطية‏:‏ جواز مثل ذلك مذهب الأخفش ولا يخفى ما في الجملة من الإشعار بالتهديد لمن تولى، وقرأ نافع‏.‏ وابن عامر فإن الله الغني بإسقاط هو وكذا في مصاحف المدينة والشام وهو في القراءة الأخرى ضمير فصل، قال أبو علي‏:‏ ولا يحسن أن يكون مبتدأ وإلا لم لم يجز حذفه في القراءة الثانية لأن ما بعده صالح لأن يكون خبراً فلا يكون هناك دليل على الحذف وهذا مبني على وجوب توافق القراءتين إعراباً وليس بلازم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا‏}‏ أي من بني آدم كما هو الظاهر ‏{‏بالبينات‏}‏ أي الحجج والمعجزات ‏{‏وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب‏}‏ أي جنس الكتاب الشامل للكل، والظرف حال مقدرة منه على ما قال أبو حيان، وقيل‏:‏ مقارنة بتنزيل الاتصال منزلة المقارنة ‏{‏والميزان‏}‏ الآلة المعروفة بين الناس كما قال ابن زيد وغيره، وإنزاله إنزال أسبابه، ولو بعيدة، وأمر الناس باتخاذه مع تعليم كيفيته‏.‏

‏{‏لِيَقُومَ الناس بالقسط‏}‏ علة لإنزال الكتاب والميزان والقيام بالقسط أي بالعدل يشمل التسوية في أمور التعامل باستعمال الميزان، وفي أمور المعاد باحتذاء الكتاب وهو لفظ جامع مشتمل على جميع ما ينبغي الاتصاف به معاشاً ومعاداً‏.‏

‏{‏وَأَنزْلْنَا الحديد‏}‏ قال الحسن‏:‏ أي خلقناه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الانعام ثمانية أزواج‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 6‏]‏ وهو تفسير بلازم الشيء فإن كل مخلوق منزل باعتبار ثبوته في اللوح وتقديره موجوداً حيث ما ثبت فيه‏.‏

وقال قطرب‏:‏ هيأناه لكم وأنعمنا به عليكم من نزل الضيف ‏{‏فِيهِ بَأْسٌ‏}‏ أي عذاب ‏{‏شَدِيدٍ‏}‏ لأن آلات الحرب تتخذ منه، وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومنافع لِلنَّاسِ‏}‏ أي في معايشهم ومصالحهم إذ ما من صنعة إلا والحديد أو ما يعمل به آلتها للإيماء إلى أن القيام بالقسط كما يحتاج إلى الوازع وهو القائم بالسيف يحتاج إلى ما به قوام التعايش، ومن يقوم بذلك أيضاً ليتم التمدن المحتاج إليه النوع، وليتم القيام بالقسط، كيف وهو شامل أيضاً لما يخص المرء وحده، والجملة الظرفية في موضع الحال، وقوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ‏}‏ عطف على محذوف يدل عليه السياق أو الحال لأنها متضمنة للتعليل أي لينفعهم وليعلم الله علماً يتعلق به الجزاء من ينصره ورسله باستعمال آلات الحرب من الحديد في مجاهدة أعدائه والحذف للإشعار بأن الثاني هو المطلوب لذاته وأن الأول مقدمة له، وجوز تعلقه بمحذوف مؤخر والواو اعتراضية أي وليعلم الخ أنزله أو مقدم والواو عاطفة والجملة معطوفة على ما قبلها وقد حذف المعطوف وأقيم متعلقه مقامه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالغيب‏}‏ حال من فاعل ينصر، أو من مفعوله أي غائباً منهم أو غائبين منه، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ‏}‏ اعتراض تذييلي جىء به تحقيقاً للحق وتنبيهاً على أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للقتال ليس لحاجته سبحانه في إعلاء كلمته وإظهار دينه إلى نصرتهم بل إنما هو لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب وإلا فهو جل وعلا غني بقدرته وعزته عنهم في كل ما يريد‏.‏

هذا وذهب الزمخشري إلى أن المراد بالرسل رسل الملائكة عليهم السلام أي أرسلناهم إلى الأنبياء عليهم السلام، وفسر البينات كما فسرنا بناءاً على الملائكة ترسل بالمعجزات كإرسالها بالحجج لتخبر بأنها معجزات وإلا فكان الظاهر الاقتصار على الحجج وإنزال الكتاب أي الوحي مع أولئك الرسل ظاهر، وإنزال الميزان بمعنى الآلة عنده على حقيقته، قال‏:‏ روي أن جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح عليه السلام، وقال‏:‏ مُرْ قومك يزنوا به، وفسره كثير بالعدل، وعن ابن عباس في إنزال الحديد نزل مع آدم عليه السلام الميقعة والسندان والكلبتان، وروى أنه نزل ومعه المرّ والمسحاة، وقيل‏:‏ نزل ومعه خمسة أشياء من الحديد السندان والكلبتان والإبرة والمطرقة والميقعة، وفسرت بالمسن، وتجىء بمعنى المطرقة أو العظيمة منها، وقيل‏:‏ ما تحدّ به الرحى، وفي حديث ابن عباس نزل آدم عليه السلام من الجنة بالباسنة وهي آلات الصناع، وقيل‏:‏ سكة الحرث وليس بعربي محض والله تعالى أعلم‏.‏ واستظهر أبو حيان كون ليقوم الناس بالقسط علة لإنزال الميزان فقط وجوز ما ذكرناه وهو الأولى فيما أرى، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وإبراهيم‏}‏ نوع تفصيل لما أجمل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 25‏]‏ وتكرير القسم لإظهار مزيد الاعتناء بالأمر أي وبالله لقد أرسلنا نوحاً وإبراهيم‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب‏}‏ بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب، وقال ابن عباس‏:‏ الكتاب الخط بالقلم، وفي مصحف عبد الله والنبية مكتوبة بالياء عوض الواو ‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏ أي من الذرية؛ وقيل‏:‏ أي من المرسل إليهم المدلول عليهم بذكر الإرسال والمرسلين ‏{‏مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون‏}‏ خارجون عن الطريق المستقيم، ولم يقل ومنهم ضال مع أنه أظهر في المقابلة لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه، ومعرفته أبلغ من الضلال عنه ولإيذانه بغلبة أهل الضلال على غيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا‏}‏ أي أرسلنا بعدهم رسولاً بعد رسول، وأصل التقفية جعل الشيء خلف القفا، وضمير آثارهم لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم من قومهما‏.‏ وقيل‏:‏ لمن عاصرهما من الرسل عليهم السلام‏.‏

واعترض بأنه لو عاصر رسول نوحاً فإما أن يرسل إلى قومه كهارون مع موسى عليهما السلام أو إلى غيرهم كلوط مع إبراهيم عليهما السلام ولا مجال للأول لمخالفته للواقع ولا إلى الثاني إذ ليس على الأرض قوم غيره، وأجيب بأن ذاك توجيه لجمع الضمير وكون لوط مع إبراهيم كاف فيه، وقيل‏:‏ للذرية، وفيه أن الرسل المقفى بهم من الذرية فلو عاد الضمير عليهم لزم أنهم غيرهم أو اتحاد المقفى والمقفى به وتخصيص الذرية مرجع الضمير بالأوائل منهم خلاف الظاهر من غير قرينة تدل عليه ‏{‏وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ جعلناه بعده‏.‏

وحاصل المعنى أرسلنا رسولاً بعد رسول حتى انتهى الإرسال إلى عيسى عليه الصلاة والسلام ‏{‏وءاتيناه‏}‏ بأن أوحيناه إليه وليس هو الذي بين أيدي النصارى اليوم أعني المشتمل على قصة ولادته وقصة صلبه المفتراة؛ وقرأ الحسن ‏{‏أَهْلُ الإنجيل‏}‏ بفتح الهمزة، قال أبو الفتح‏:‏ وهو مثال لا نظير له، قال الزمخشري‏:‏ وأمره أهون من أمر البرطيل بفتح الباء والكسر أشهر وهو حجر مستطيل واستعماله في الرشوة مولد مأخوذ منه بنوع تجوز لأنه عجمي وهذا عربي وهم يتلاعبون بالعجمي ولا يلتزمون فيه أوزانهم، وزعم بعض أن لفظ الإنجيل عربي من نجلت بمعنى استخرجت لاستخراج الأحكام منه ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً‏}‏ أي خلقنا أو صيرنا ففي قلوب في موضع المفعول الثاني وأياً مّا كان فالمراد جعلنا ذلك في قلوبهم فهم يرأف بعضهم ببعض ويرحم بعضهم بعضاً، ونظيره في شأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏رُحَمَاء بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 29‏]‏ والرأفة في المشهور الرحمة لكن قال بعض الأفاضل‏:‏ إنها إذا ذكرت معها يراد بالرأفة ما فيه درء الشر ورأب الصدع، وبالرحمة ما فيه جلب الخير ولذا ترى في الأغلب تقديم الرأفة على الرحمة وذلك لأن درء المفاسد أهم من جلب المصالح وقرىء رآفة على فعالة كشجاعة ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً‏}‏ منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر أي وابتدعوا رهبانية‏.‏

‏{‏ابتدعوها‏}‏ فهو من باب الاشتغال، واعترض بأنه يشترط فيه كما قال ابن الشجري‏.‏ وأبو حيان أن يكون الاسم السابق مختصاً يجوز وقوعه مبتدأ والمذكور نكرة لا مسوغ لها من مسوغات الابتداء، ورد بأنه على فرض تسليم هذا الشرط الاسم هنا موصوف معنى بما يؤخذ من تنوين التعظيم كما قيل في قولهم‏:‏ شر أهر ذا ناب‏.‏

ومما يدل عليه من النسبة كما ستسمعه إن شاء الله تعالى أو منصوب بالعطف على ما قبل، وجملة ‏{‏ابتدعوها‏}‏ في موضع الصفة والكلام على حذف مضاف أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة وحب رهبانية مبتدعة لهم، وبعضهم جعله معطوفاً على ما ذكر ولم يتعرض للحذف، وقال‏:‏ الرهبانية من أفعال العباد لأنها المبالغة في العبادة بالرياضة والانقطاع عن الناس، وأصل معناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان وهو الخائف فعلان من رهب كخشيان من خشي، وأفعال العباد يتعلق بها جعل الله تعالى عند أهل الحق وهي في عين كونها مخلوقة له تعالى مكتسبة للعبد، والزمخشري جوز العطف المذكور وفسر الجعل بالتوفيق كأنه قيل‏:‏ وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها بناءاً على مذهبه أن الرهبانية فعل العبد المخلوق له باختياره، وفائدة ‏{‏فِى قُلُوبِ‏}‏ على هذا التصوير على ما قيل، ولا يخفى ما في هذا التفسير من العدول عن الظاهر لكن الإنصاف أنه لا يحسن العطف بدون هذا التأويل أو اعتبار حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه على ما تقدم أو تفسير الرهبانية بما هو من أفعال القلوب كالخوف المفرط المقتضى للغلو في التعبد ويرتكب نوع تجوز في ابتدعوها وما بعده كأن يكون المراد ابتداع أعمالها وآثارها أو ارتكاب استخدام في الكلام بأن يعتبر للرهبانية معنيان الخوف المفرط مثلاً، ويراد في جعلنا في قلوبهم رهبانية والأعمال التعبدية الشاقة كرفض الدنيا وشهواتها من النساء وغيرهن، ويراد في ‏{‏ابتدعوها‏}‏ وما بعده وليس الداعي للتأويل الاعتزال بل كون الرهبانية بمعنى الأعمال البدنية ليست مما تجعل في القلب كالرأفة والرحمة فتأمل‏.‏

وقرىء ‏{‏رهبانية‏}‏ بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان بالضم وهو كما قال الراغب‏:‏ يكون واحداً وجمعاً فالنسبة إليه باعتبار كونه واحداً ومن ظن اختصاص المضموم بالجمع قال‏:‏ إنه لما اختص بطائفة مخصوصة أعطى حكم العلم فنسبته إليه كما قالوا في أنصار وأنصاري أو أن النسبة إلى رهبان المفتوح وضم الراء في المنسوب من تغييرات النسب كما في دهري بضم الدال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ‏}‏‏.‏ جملة مستأنفة، وقوله سبحانه‏:‏

‏{‏إِلاَّ ابتغاء رضوان الله‏}‏ استثناء منقطع أي ما فرضناها نحن عليهم رأساً ولكن ابتدعوها وألزموا أنفسهم بها ابتغاء رضوان الله تعالى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ أي ما حافظوا عليها حق المحافظة ذم لهم من حيث إن ذلك كالنذر وهو عهد مع الله تعالى يجب رعايته لا سيما إذا قصد به رضاه عز وجل‏.‏

واستدل بذلك على أن من اعتاد تطوعاً كره له تركه، وجوز أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كتبناها‏}‏ الخ صفة أخرى لرهبانية والنفي متوجه إلى قيد الفعل لا نفسه كما في الوجه الأول، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ ابتغاء‏}‏ الخ استثناء متصل من أعم العلل أي ما قضيناها عليهم بأن جعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا بها رضوان الله تعالى ويستحقوا بها الثواب، ومن ضرورة ذلك أن يحافظوا عليها ويراعوها حق رعايتها فما رعوها كذلك والوجه الأول مروى عن قتادة‏.‏

وجماعة، وهذا مروى عن مجاهد ولا مخالفة عليه بين ‏{‏ابتدعوها‏}‏ و‏{‏وَمَا كتبناها عَلَيْهِمْ‏}‏ الخ حيث إن الأول يقتضي أنهم لم يؤمروا بها أصلاً والثاني يقتضي أنهم أمروا بها لابتغاء رضوان الله تعالى لما أشرنا إليه من معنى ‏{‏مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء‏}‏ الخ، ودفع بعضهم المخالفة بأن يقال‏:‏ الأمر وقع بعد ابتداعها أو يؤل ابتدعوها بأنهم أول من فعلها بعد الأمر ويؤيد ما ذكره في الدفع أولاً ما أخرجه أبو داود‏.‏ وأبو يعلى‏.‏ والضياء عن أنس «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد عليهم فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات رهبانية مّا ابتدعوها ما كتبناها عليهم» يعني الآية، والظاهر أن ضمير فما رعوها لأولئك الذين ابتدعوا الرهبانية، والمراد نفي وقوع الرعاية من كلهم على أن المعنى فما رعاها كلهم بل بعضهم، وليس المراد بالموصول فيما سبق أشخاصاً بأعيانهم بل المراد به ما يعم النصارى إلى زمان الإسلام ولا يضر في ذلك أن أصل الابتداع كان من قوم مخصوصين لأن إسناده على نحو الإسناد في بنو تميم قتلوا زيداً والقاتل بعضهم‏.‏

وقال الضحاك‏.‏ وغيره‏:‏ الضمير في ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا‏}‏ للاخلاف الذين جاءوا بعد المبتدعين والأول أوفق بالصناعة، والمراد بالذين آمنوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَفَّيْنَا ءامَنُواْ مِنْهُمْ‏}‏ الذين آمنوا إيماناً صحيحاً وهو لمن أدرك وقت النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان به عليه الصلاة والسلام أي فآتينا الذين آمنوا منهم إيماناً صحيحاً بعد رعاية رهبانيتهم ‏{‏أَجْرَهُمْ‏}‏ أي ما يختص بهم من الأجر وهو الأجر على ما سلف منهم والأجر على الإيمان به عليه الصلاة والسلام، وليس المراد بهم الذين بقوا على رعاية الرهبانية إلى زمان البعثة ولم يؤمنوا لأن رعايتها لغو محض وكفر بحت وإنما لها استتباع الأجر، ويجوز أن يقال‏:‏ إن الذين لم يرعوا الرهبانية حق رعايتها هم الذين كذبوه عليه الصلاة والسلام، قال الزجاج‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ على ضربين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن يكونوا قصروا فيما ألزموه أنفسهم، والآخر‏:‏ وهو الأجود أن يكونوا حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنوا فكانوا تاركين لطاعة الله تعالى فما رعوا تلك الرهبانية، ودليل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم‏}‏ الخ انتهى، فحمل الذين آمنوا على من أدرك وقته عليه الصلاة والسلام منهم وآمن به صلى الله عليه وسلم والفاسقين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏ على الذين لم يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم، ومقتضى حمل الذين آمنوا على ما سمعت أولاً حمله على الأعم الشامل لمن خرج عن اتباع عيسى عليه السلام من قبل وحمل الفريقين على من مضى من المراعين لحقوق الرهبانية قبل النسخ والمخلين بها إذ ذاك بالتثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة ونحو ذلك من غير تعرض لإيمانهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وكفرهم به مما لا يساعده المقام‏.‏

وفي الآثار ما يأباه ففي حديث طويل أخرجه جماعة منهم الحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي في «شعب الإيمان» من طرق عن ابن مسعود ‏"‏ اختلف من كان قبلنا على ثنتين وسبعين فرقة نجا منها ثلاث وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله وعيسى ابن مريم، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك فأقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى فقتلتهم الملوك ونشرتهم بالمناشر، وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بالمقام معهم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهم الذين قال الله‏:‏ ‏{‏وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كتبناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رضوان الله فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَئَاتَيْنَا الذين ءامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ‏}‏ الذين آمنوا بي وصدقوني ‏{‏وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون‏}‏ الذين حجدوا بي وكفروا بي ‏"‏ وهذا الخبر يؤيد ما استجوده الزجاج، ويعلم منه أيضاً سبب ابتداع الرهبانية وليس في الآية ما يدل على ذم البدعة مطلقاً، والذي تدل عليه ظاهراً ذم عدم رعاية ما التزموه، وتفصيل الكلام في البدعة ما ذكره الإمام محيي الدين النووي في شرح «صحيح مسلم»‏.‏ قال العلماء‏:‏ البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة‏.‏ ومحرمة‏.‏ ومكروهة‏.‏ ومباحة فمن الواجبة تعلم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه‏.‏ ذلك، ومن المندوبة تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك، ومن المباحة التبسط في ألوان الأطعمة وغير ذلك، والحرام والمكروه ظاهران، فعلم أن قوله صلى الله عليه وسلم «كل بدعة ضلالة» من العام المخصوص‏.‏

وقال صاحب جامع الأصول‏:‏ الابتداع من المخلوقين إن كان في خلاف ما أمر الله تعالى به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وإن كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله تعالى إليه وحض عليه أو رسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجوداً كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف، ويعضد ذلك قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في صلاة التراويح‏:‏ نعمت البدعة هذه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏خَبِيراً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ استظهر أبو حيان كون الخطاب لمن آمن من أمته صلى الله عليه وسلم غير أهل الكتاب والآثار تؤيد ذلك، أخرج الطبراني في «الأوسط» عن ابن عباس‏.‏ وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قالا‏:‏ إن أربعين من أصحاب النجاشي قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فشهدوا معه أحداً فكانت فيهم جراحات ولم يقتل منهم أحد فلما رأوا ما بالمؤمنين من الحاجة قالوا‏:‏ يا رسول الله إنا أهل ميسرة فأذن لنا نجيء بأموالنا نواسي بها المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم‏:‏ ‏{‏الذى الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ وَإِذَا‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 52، 54‏]‏ فجعل لهم أجرين فلما نزلت هذه الآية قالوا‏:‏ يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابكم فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فأنزل الله تعالى ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الآية أي راداً عليهم قولهم‏:‏ ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم‏.‏

وفي «الكشاف» إن قائل ذلك من لم يكن آمن من أهل الكتاب قالوه حين سمعوا تلك الآية يفخرون به على المسلمين، والمعنى يا أيها الذين اتصفوا بالايمان ‏{‏اتقوا الله‏}‏ أثبتوا على تثواه عز وجل فيما نهاكم عنه‏.‏

‏{‏وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ‏}‏ وأثبتوا على الايمان برسوله الذي أرسله إليكم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من الدلالة على جلالة قدره عليه الصلاة والسلام ‏{‏يُؤْتِكُمْ‏}‏ بسبب ذلك‏.‏

‏{‏كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ‏}‏ قال أبو موسى الأشعري‏:‏ ضعفين بلسان الحبشة، وقال غير واحد‏:‏ نصيبين، والمراد إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل‏:‏ يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الايمان بالرسل المتقدمين وبخاتمهم صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين لاتفرقون بين أحد من رسله‏.‏

وقال الراغب‏:‏ الكفل الحظ الذي فيه الكفاية كأنه تكفل بأمره، والكفلان هما المرغوب فيهما بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الاخرة حَسَنَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 201‏]‏‏.‏

‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ‏}‏ يوم القيامة وهو النور المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ما سلف منكم ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي مبالغ في المغفرة والرحمة فلا بدع إذا فعل سبحانه ما فعل، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَىْء مّن فَضْلِ الله‏}‏ قيل‏:‏ متعلق بمضمون الجملة الطلبية المتضمنة لمعنى الشرط إذ التقدير إن تتقوا الله وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا الخ، وقيل‏:‏ متعلق بالأفعال الثلاثة قبله على التنازع، أو بمقدر كفعل ذلك وأعلمهم ونحوه و‏{‏لا‏}‏ مزيدة مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ ويجوز زيادتها مع القرينة كثيراً و‏{‏ءانٍ‏}‏ مخففة من الثقيلة واسمها المحذوف ضمير أهل الكتاب أي أنهم، وقيل‏:‏ ضمير الشأن وما بعد خبرها والجملة في حيز النصب على أنها مفعول يعلم أي ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا ينالون شيئاً من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئاً ما لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام فقولهم‏:‏ من لم يؤمن بكتابكم فله أجر باطل‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏أُوْلَئِكَ يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 54‏]‏ فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ لنا أجران ولكم أجر فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏ الخ فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب، وقال الثعلبي‏:‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله‏}‏ الآية فجعل لهم أجرين وزادهم النور ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ‏}‏ الخ، وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله عز وجل فيزووه عن المؤمنين ويستبدوا به دونهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله‏}‏ عطف على أن لا يقدرون داخل معه في حيز العلم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء‏}‏ خبر ثان لأن أو هو الخبر وما قبله على ما قيل‏:‏ حال لازمة أو استئناف، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبله‏.‏

وذهب بعض إلى أن الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو لمن يؤمن منهم بعد، فالمعنى يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم أي أثبتوا على الايمان به أو أحدثوا الايمان به عليه الصلاة والسلام يؤتكم نصيبين من رحمته نصيباً على إيمانكم بمن آمنتم به أولاً ونصيباً على إيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم آخراً ليعلم الذين لم يؤمنوا من أهل الكتاب أنهم لا ينالون شيئاً مما يناله المؤمنون منهم ولا يتمكنون من نيله حيث لم يأتوا بشرطه الذي هو الايمان برسوله صلى الله عليه وسلم، وأيد ذلك بما في «صحيح البخاري»

«من كانت له أمة علمها فأحسن تعليمها وأدبها فأحسن تأديبها وأعتقها وتزوجها فله أجران، وأيمارجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي فله أجران، وأيما مملوك أدى حق الله تعالى وحق مواليه فله أجران» ولا إشكال في ذلك بالنسبة إلى النصارى، ولذا قيل‏:‏ الخطاب لهم لأن ملتهم غير منسوخة قيل ظهور الملة المحمدية ومعرفتهم بها فيثابون على العمل بها حتى يجب عليهم الايمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فإذا آمنوا أثيبوا أيضاً فكان لهم ثوابان، نعم قد يستشكل بالنسبة إلى غيرهم لأن مللهم منسوخة بملة عيسى عليه السلام والمنسوخ لا ثواب في العمل به، ويجاب بأنه لا يبعد أن يثابوا على العمل بملتهم السابقة وإن كانت منسوخة ببركة الإسلام‏.‏

وأجاب بعضهم أن الإثابة على نفس إيمان ذلك الكتابي بنبيه وإن كان منسوخ الشريعة فإن الإيمان بكل نبي فرض سواء كان منسوخ الشريعة أم لا، وقيل‏:‏ إن ‏{‏لا‏}‏ في ‏{‏لاِنْ لاَ يَعْلَمَ‏}‏ غير مزيدة وضمير لا يقدرون للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أي فعلنا ما فعلنا لئلا يعتقد أهل الكتاب أن الشأن لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون به على شيء من فضل الله تعالى الذي هو عبارة عما أوتوه من سعادة الدارين ولا ينالونه، أو أنهم أي النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنون لا يقدرون الخ، على أن عدم علمهم بعدم قدرتهم على ذلك كناية عن علمهم بقدرتهم عليه فيكون قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الفضل‏}‏ الخ معطوفاً على أن لا يعلم داخلاً معه في حيز التعليل دون أن لا يقدر فكأنه قيل‏:‏ فعلنا لئلا يعتقدوا كذا ولأن الفضل بيد الله فيكون من عطف الغاية على الغاية بناءاً على المشهور ولتكلف هذا القيل مع مخالفته لبعض القراءات لم يذهب إليه معظم المفسرين، وقرأ خطاب ابن عبد الله لأن لا يعلم بالإظهار، وعبد الله بن مسعود‏.‏ وابن عباس‏.‏ وعكرمة‏.‏ والجحدري‏.‏ وعبد الله بن سلمة على اختلاف ليعلم، وقرأ الجحدري أيضاً وليعلم على أن أصله لئن يعلم فقلبت الهمزة ياءاً لكسرة ما قبلها وأدغمت النون في الياء بغير غنة، وروى ابن مجاهد عن الحسن ليلاً مثل ليلى اسم المرأة ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ بالرفع، ووجه بأن أصله لأن لا بفتح لام الجر وهي لغة وعليه قوله‏:‏ أريد لأنسى ذكرها فكأنما *** تمثل لي ليلى بكل سبيل

فحذفت الهمزة اعتباطاً وأدغمت النون في اللام فصار للا فاجتمعت الأمثال وثقل النطق بها فأبدلوا من اللام المدغمة ياءاً نظير ما فعلوا في قيراط ودينار حيث أن الأصل قراط ودنار فأبدلوا أحد المثلين فيهما ياءاً للتخفيف فصار ليلا ورفع الفعل لأن أن هي المخففة من الثقيلة لا الناصبة للمضارع، وروى قطرب عن الحسن أيضاً ليلاً بكسر اللام ووجهه كالذي قبله إلا أن كسر اللام على اللغة الشهيرة في لام الجر؛ وعن ابن عباس كي يعلم، وعنه أيضاً لكيلا يعلم، وعن عبد الله‏.‏

وابن جبير‏.‏ وعكرمة لكي يعلم‏.‏

وقرأ عبد الله أن لا يقدروا بحذف النون على أن إن هي الناصبة للمضارع، والله تعالى أعلم‏.‏

ومما ذكره المتصوفة قدست أسرارهم في بعض آياتها‏:‏ ‏{‏هُوَ الاول والاخر والظاهر والباطن‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 3‏]‏ قالوا‏:‏ هو إشارة إلى وحدانية ذاته سبحانه المحيطة بالكل، وقالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏ إشارة إلى أنهم لا وجود لهم في جميع مراتبهم بدون وجوده عز وجل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 6‏]‏ إشارة إلى ظهور تجلي الجلال في تجلي الجمال وبالعكس ‏{‏وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 7‏]‏ إشارة للمشايخ الكاملين إلى تربية المريدين بإفاضة ما يقوي استعدادهم مما جعلهم الله تعالى متمكنين فيه من الأحوال والملكات‏.‏

وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الارض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 17‏]‏ لئلا يقنط القاسي من رحمته تعالى ويترك الاشتغال بمداواة القلب الميت ‏{‏فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 27‏]‏ أوردها الصوفية في باب الرعاية وقسموها إلى رعاية الأعمال والأحوال والأوقات ويرجع ما قالوه فيها على ما قيل إلى حفظها عن إيقاع خلل فيها ‏{‏فاسقون ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ‏}‏ أي نصيبين نصيباً من معارف الصفات الفعلية ونصيباً من معارف الصفات الذاتية ‏{‏وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً‏}‏ من نور ذاته عز وجل وهو على ما قيل‏:‏ إشارة إلى البقاء بعد الفناء، وقيل‏:‏ هذا النور إشارة إلى نور الكشف والمشاهدة رتب سبحانه جعله للمؤمن على تقواه وإيمانه برسوله الأعظم صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هو نور العلم النافع الذي يتمكن معه من السير في الحضرات الإلهية كما يشير إليه وصفه بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تَمْشُونَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 28‏]‏؛ وفي بعض الآثار «من عمل بما علم علمه الله تعالى علم ما لم يعلم» وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏اتقوا الله وَيُعَلّمُكُمُ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 282‏]‏ وكل ذلك في الحقيقة فضل الله تعالى والله عز وجل ذو الفضل العظيم نسأله سبحانه أن لا يحرمنا من فضله العظيم ولطفه العميم وأن يثبتنا على متابعة حبيبه الكريم عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسليم‏.‏

‏[‏سورة المجادلة‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏قَدْ سَمِعَ الله‏}‏ بإظهار الدار، وقرأ أبو عمرو‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وابن محيصن بادغامها في السين، قال خلف بن هشام البزار‏:‏ سمعت الكسائي يقول‏:‏ من قرأ قد سمع فبين الدال فلسانه أعجمي ليس بعربي، ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر بل الجمهور على البيان ‏{‏قَوْلَ التى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا‏}‏ أي تراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من الظهار، وقرء تحاورك والمعنى على ما تقدم وتحاولك أي تسائلك ‏{‏وَتَشْتَكِى إِلَى الله‏}‏ عطف على ‏{‏تُجَادِلُكَ‏}‏ فلا محل للجملة من الإعراب، وجوز كونها حالاً أي تجادلك شاكية حالها إلى الله تعالى، وفيه بعد معنى، ومع هذا يقدر معها مبتدأ أي وهي تشتكي لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون إسمية، واشتكاؤها إليه تعالى إظهار بثها وما انطوت عليه من الغم والهم وتضرعها إليه عز وجل وهو من الشكو، وأصله فتح الشكوة وإظهار ما فيها، وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء ثم شاع في ذلك، وهي امرأة صحابية من الأنصار اختلف في اسمها واسم أبيها، فقيل‏:‏ خولة بنت ثعلبة بن مالك، وقيل‏:‏ بنت خويلد، وقيل‏:‏ بنت حكيم، وقيل‏:‏ بنت الصامت، وقيل‏:‏ خويلة بالتصغير بنت ثعلبة، وقيل‏:‏ بنت مالك بن ثعلبة، وقيل‏:‏ جميلة بنت الصامت، وقيل‏:‏ غير ذلك، والأكثرون على أنها خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقيل‏:‏ هو سلمة بن صخر الأنصاري، والحق أن لهذا قصة أخرى، والآية نزلت في خولة وزوجها أوس، وذلك أن زوجها أوساً كان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه فدخل عليها يوماً فراجعته بشيء فغضب، فقال‏:‏ أنت علي كظهر أمي، وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه وكان هذا أول ظهار في الإسلام فندم من ساعته فدعاها فأبت، وقالت‏:‏ والذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فينا، فأتت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت‏:‏ يا رسول الله إن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت بطني أي كثر ولدي جعلني عليه كأمه وتركني إلى غير أحد فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية «مَا أَرَاكُمْ إِلا قَدْ حرمات عَلَيْهِ»

قالت‏:‏ ما ذكر طلاقاً، وجادلت رسول الله عليه الصلاة والسلام مراراً ثم قالت‏:‏ اللهم إني أشكو إليه شدة وحدتي وما يشق علي من فراقه، وفي رواية قالت‏:‏ أشكو إلى الله تعالى فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغاراً إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول‏:‏ اللهم إني أشكو إليك اللهم فأنزل علي لسان نبيك وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا خولة أبشري قالت‏:‏ خيراً‏؟‏ فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها ‏{‏قَدْ سَمِعَ الله الايات‏}‏ ‏"‏ وكان عمر رضي الله تعالى عنه يكرمها إذا دخلت عليه ويقول‏:‏ قد سمع الله تعالى لها‏.‏

وروى ابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي في الأسماء والصفات أنها لقيته رضي الله تعالى عنه وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها ووضع يده على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين حبست رجال قريش على هذه العجوز قال‏:‏ ويحك أتدري من هذه‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ هذه امرأة سمع الله تعالى شكواها من فوق سبع سموات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف حتى أتى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها، وفي رواية للبخاري في «تاريخه» أنها قالت له‏:‏ قف يا عمر فوقف فأغلظت له القول، فقال رجل‏:‏ يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم فقال رضي الله تعالى عنه‏:‏ وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله تعالى لها فأنزل فيها ما أنزل ‏{‏قَدْ سَمِعَ الله‏}‏ الآيات، والسماع مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية أو كناية عن ذلك، و‏{‏قَدْ‏}‏ للتحقيق أو للتوقع، وهو مصروف إلى تفريج الكرب لا إلى السمع لأنه محقق أو إلى السمع لأنه مجاز أو كناية عن القبول، والمراد توقع المخاطب ذلك، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتوقع أن ينزل الله تعالى حكم الحادثة ويفرج عن المجادلة كربها، وفي الأخبار ما يشعر بذلك، والسمع في قوله تعالى‏:‏

‏{‏والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما‏}‏ على ما هو المعروف فيه من كونه صفة يدرك بها الأصوات غير صفة العلم، أو كونه راجعاً إلى صفة العلم، والتحاور المرادّة في الكلام، وجوز أن يراد به الكلام المردد، ويقال‏:‏ كلمته فما رجع إلى حواراً‏.‏ وحويراً‏.‏ ومحورة أي مارد على بشيء، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده، وفي نظمها في سلك الخطاب تغليباً تشريف لها من جهتين، والجملة استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فإن إلحافها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى الله تعالى ومدافعته عليه الصلاة والسلام إياها وعلمه عز وجل بحالهما من دواعي الإجابة، وقيل‏:‏ هي حال كالجملة السابقة، وفيه أيضاً بعد، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ‏}‏ تعليل لما قبله بطريق التحقيق أي أنه تعالى يسمع كل المسموعات ويبصر كل المبصرات على أتم وجه وأكمله ومن قضية ذلك أن يسمع سبحانه ‏{‏تحاورهما‏}‏، ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع، والاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بما اشتهر به الاسم الجليل من وصف الألوهية وتأكيد استقلال الجملتين، وقوله عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏بَصِيرٌ الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ‏}‏ شروع في بيان شأن الظهار في نفسه وحكمته المترتب عليه شرعاً، وفي ذلك تحقيق قبول تضرع تلك المرأة وإشكاؤها بطريق الاستئناف‏.‏

والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر، ويراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظاً باختلاف الأغراض، فيقال‏:‏ ظاهر زيد عمراً أي قابل ظهره بظهره حقيقة وكذا إذا غايظه، وإن لم يقابل حقيقة باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهره إذا نصره باعتبار أنه يقال‏:‏ قوى ظهره إذا نصره، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر باعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهراً للثوب‏:‏ وظاهر من امرأته إذا قال لها‏:‏ أنت علي كظهر أمي، وغاية ما يلزم كون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازاً، وهو لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازاً أيضاً، وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات‏.‏

وعرفه الحنفية شرعاً بأنه تشبيه المنكوحة أو عضواً منها يعبر به عن الكل كالرأس أو جزء شائع منها كالثلث بقريب محرم عليه على التأييد أو بعضو منه يحرم عليه النظر إليه‏.‏

وحكى عن الشافعية أن تشبيهها أو عضو منها بمحرم من نسب‏.‏ أو رضاع‏.‏ أو مصاهرة‏.‏ أو عضو منه لا يذكر للكرامة كاليد والصدر، وكذا العضو الذي يذكر لها كالعين والرأس إن قصد معنى الهظار، وهو التشبيه بتحريم نحو الأم لا أن قصد الكرامة أو أطلق في الأصح، وتخصيص المحرم بالأم قول قديم للشافعي عليه الرحمة، وتفصيل ذلك في كتب الفقه للفريقين، وكان الظهار بالمعنى السابق طلاقاً في الجاهلية قيل‏:‏ وأول الإسلام‏.‏

وحكى بعضهم أنه كان طلاقاً يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه، وقيل؛ لم يكن طلاقاً من كل وجه بل لتبقى معلقة لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره، وذكر بعض الأجلة أنهم كانوا يعدونه طلاقاً مؤكداً باليمين على الاجتناب، ولذا قال الشافعية‏:‏ إن فيه الشائبتين، وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى حكمه الشرعي، وعدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التبعيد ولما سمعت أنه كان طلاقاً وهو مبعد، والظهر في قولهم‏:‏ أنت علي كظهر أمي قيل‏:‏ مجاز عن البطن لأنه إنما يركب البطن فكظهر أمي أي كبطنها بعلاقة المجاورة، ولأنه عموده لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات، وقيل‏:‏ خص الظهر لأنه محل الركوب والمرأة مركوب الزوج، ومن ثمي المركوب ظهراً، وقيل‏:‏ خص ذلك لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها كان حراماً فإتيانه أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ، وإقحام ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ في الآية للتصوير والتهجين لأن الظهار كان مخصوصاً بالعرب، ومنه يعلم أنه ليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة ظهار الذمي كما حكى عن المالكية، ومن هنا قال الشافعية‏:‏ يصح من الذمي والحربي لعموم الآية، وكذا الحنابلة‏.‏

والحنفية يقولون‏:‏ لا يصح منهما، وفي رواية عن أبي حنيفة صحته من الذمي، والرواية المعمول عليها عدم الصحة لأنها ليس من أهل الكفارة، وشنع على الشافعية في قولهم بصحته منه مع اشتراطهم النية في الكفارة والايمان في الرقبة، وتعذر ملكه لها لأن الكافر لا يملك المؤمن، وقال بعض أجلتهم إن في الكفارة شائبة الغرامات ونيتها في كافر كفر بالاعتاق للتمييز كما في قضاء الديون لا الصوم لأنه لا يصح منه لأن عبادة بدنية ولا ينتقل عنه للإطعام لقدرته عليه بالإسلام فإن عجز انتقل ونوى للتمييز أيضاً، ويتصور ملكه للمسلم بنحو إرث أو إسلام قنه، أو يقول‏:‏ لمسلم أعتق قنك عن كفارتي، فيجيب فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو مظاهر موسى منع من الوطء لقدرته على ملكه بأن يسلم فيشتريه انتهى‏.‏

وفي كتب بعض الأصحاب كالبحر وغيره كلام مع الشافعية في هذه المسألة فيه نقض وإبرام لا يخلو عن شيء والسبب في ذلك قلة تتبع معتبرات كتبهم، وقرأ الحرميان‏.‏ وأبو عمرو يظهرون بشد الظاء والهاء، والأخوان‏.‏ وابن عامر ‏{‏يظاهرون‏}‏ مضارع اظاهر، وأبي يتظاهرون مضارع تظاهر، وعنه أيضاً يتظهرون مضارع تظهر، والموصول مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون، وأقيم دليله وهو قوله تعالى؛ ‏{‏مَّا هُنَّ أمهاتهم‏}‏ مقامه أو هو الخبر نفسه أي ما نشاؤهم أمهاتهم على الحقيقة فهو كذب بحت‏.‏

وقرأ المفضل عن عاصم ‏{‏أمهاتهم‏}‏ بالرفع على لغة تميم، وقرأ ابن مسعود بأمهاتهم بزيادة الباء، قال الزمخشري‏:‏ في لغة من ينصب أي بما الخبر وهم الحجازيون يعني أنهم الذي يزيدون الباء دون التميميين وقد تبع في ذلك أبا علي الفارسي، ورد بأنه سمع خلافه كقول الفرزدق وهو تميمي‏:‏ لعمرك ما معن بتارك حقه *** ولا منسيء معن ولا متيسر

‏{‏إِنْ أمهاتهم‏}‏ أي ما أمهاتهم على الحقيقة ‏{‏إِلا اللائى وَلَدْنَهُمْ‏}‏ فلا يشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله تعالى بهن كالمرضعات ومنكوحات الرسول صلى الله عليه وسلم فدخلن في حكم الأمهات، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مّنَ القول‏}‏ ينكره الشرع والعقل والطبع أيضاً كما يشعر به التنكير، ومناط التأكيد كونه منكراً، وإلا فصدور القول عنهم أمر محقق ‏{‏وَزُوراً‏}‏ أي وكذباً باطلاً منحرفاً عن الحق، ووجه كون الظهار كذلك عند من جعله إخباراً كاذباً علق عليه الشارع الحرمة والكفارة ظاهر، وأما عند من جعله إنشاء لتحريم الاستمتاع في الشرع كالطلاق على ما هو الظاهر فوجهه أن ذلك باعتبار ما تضمنه من إلحاق الزوجة بالأم المنافي لمقتضى الزوجية ‏{‏وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ‏}‏ أي مبالغ في العفو والمغفرة فيغفر ما سلف منه ويعفو عمن ارتكبه مطلقاً أو بالتوبة، ويعلم من الآيات أن الظهار حرام بل قالوا‏:‏ إنه كبيرة لأن فيه إقداماً على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه، وهذا أخطر من كثير من الكبائر إذ قضيته الكفر لولا خلو الاعتقاد عن ذلك، واحتمال التشبيه لذلك وغيره، ومن ثم سماه عز وجل ‏{‏مُنكَراً مّنَ القول وَزُوراً‏}‏، وإنما كره على ما ذكره بعض الشافعية أنت علي حرام لأن الزوجية ومطلق الحرمة يجتمعان بخلافها مع التحريم المشابه لتحريم نحو الأم، ومن ثم وجب هنا الكفارة العظمى‏.‏ وثم على ما قالوا‏:‏ كفارة يمين، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يظاهرون مِن نّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ‏}‏ الخ تفصيل لحكم الظهار بعد بيان كونه أمراً منكراً بطريق التشريع الكلي المنتظم لحكم الحادثة انتظاماً أولياً، والموصول مبتدأ، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ مبتدأ آخر خبره مقدر أي فعليهم تحرير رقبة، أو فاعل فعل مقدر أي فيلزمهم تحرير، أو خبر مبتدأ مقدر أي فالواجب عليهم ‏{‏تَحْرِيرُ‏}‏، وعلى التقادير الثلاثة الجملة خبر الموصول ودخلته الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وما موصولة أو مصدرية، واللام متعلقة بـ ‏{‏يَعُودُونَ‏}‏ وهو يتعدى بها كما يتعدى بإلى‏.‏ وبفي فلا حاجة إلى تأويله بأحدهما كما فعل البعض، والعود لما قالوا على المشهور عند الحنفية العزم على الوطء كأنه حمل العود على التدارك مجازاً لأن التدارك من أسباب العود إلى الشيء، ومنه المثل عاد غيث على ما أفسد أي تداركه بالإطلاح، فالمعنى والذين يقولون ذلك القول المنكر ثم يتداركونه بنقضه وهو العزم على الوطء فالواجب عليهم إعتاق رقبة‏.‏

‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا‏}‏ أي كل من المظاهر والمظاهر منها والتماس قيل‏:‏ كناية عن الجماع فيحرم قبل التكفير على ما تدل عليه الآية، وكذا دواعيه من التقبيل ونحوه عندنا، قيل‏:‏ وهو قول مالك‏.‏ والزهري‏.‏ والأوزاعي‏.‏ والنخعي، ورواية عن أحمد فإن الأصل أنه إذا حرم حرم بدواعيه إذ طريق المحرم محرم، وعدم إطراد ذلك في الصوم والحيض لكثرة وجودهما فتحريم الدواعي يفضي إلى مزيد الحرج، وقال العلامة ابن الهمام‏:‏ التحقيق أن الدواعي منصوص على منعها في الهظار فإنه لا موجب لحمل التماس في الآية على المجاز لإمكان الحقيقة، ويحرم الجماع لأنه من أفراد التماس كالمس والقبلة، وقال غيره‏:‏ تحرم أقسام الاستمتاع قبل التكفير لعموم لفظ التماس فيشملها بدلالة النص، ومقتضى التشيه في قوله‏:‏ كظهر أمي فإن المشبه به لا يحل الاستمتاع به بوجه من الوجوه فكذا المشبه، ويحرم عند الشافعية أيضاً الجماع قبله، وكذا يحرم لمس ونحوه من كل مباشرة لا نظر بشهوة في الأظهر كما في المحرر، وقال الإمام النووي عليه الرحمة‏:‏ الأظهر الجواز لأن الحرمة ليست لمعنى يخل بالنكاح فأشبه الحيض، ومن ثم حرم الاستمتاع فيه فيما بين السرة والركبة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تمام الكلام في هذا المقام‏.‏

وحكى البيضاوي عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن نقض القول المراد بالعود بإباحة التمتع بها ولو بنظرة بشهوة، وحمل ذلك على استباحة التمتع بمباشرته بوجه مّا دون عدّه مباحاً من غير مباشرة‏.‏

ولعله أريد بالمباشرة بوجه ما مباشرة ليست من التماس الذي قالوا بحرمته قبل التفكير، وأياً مَّا كان فظاهر تعليق الحكم بالموصول يدل على علية ما في حيز الصلة أعني الظهار والعود له فهما سببان للكفارة وهذا أحد أقوال في المسألة‏.‏

قال العلامة ابن الهمام‏:‏ اختلف في سبب وجوبها فقال في «المنافع»‏:‏ تجب بالظهار والعود لأن الظهار كبيرة فلا يصلح سبباً للكفارة لأنها عبادة، أو المغلب فيها معنى العبادة ولا يكون المحظور سبباً للعبادة فعلق وجوبها بهما ليخف معنى الحرمة باعتبار العود الذي هو إمساك بمعروف فيكون دائراً بين الحظر والإباحة، وعليه فيصلح سبباً للكفارة الدائرة بين العبادة والعقوبة، وقيل‏:‏ سبب وجوبها العود والظهار شرطه، ولفظ الآية أي المذكورة يحتملهما فيمكن كون ترتيبها عليهما، أو على الأخير لكن إذا أمكن البساطة صير إليها لأنها الأصل بالنسبة إلى التركيب فلهذا قال في المحيط‏:‏ سبب وجوبها العزم على الوطء والظهار شرطه، وهو بناء على أن المراد من العود في الآية العزم على الوطء، واعترض بأن الحكم يتكرر بتكرر سببه لا شرطه والكفارة متكررة بتكرر الظهار لا العزم، وكثير من مشايخنا على أنه العزم على إباحة الوطء بناءاً على إرادة المضاف في الآية أي يعودون لضد ما قالوا أو لتداركه، ويرد عليه ما يرد على ما قبله، ونص صاحب المبسوط على أن بمجرد العزم لا تتقرر الكفارة حتى لو أبانها أو ماتت من بعد العزم فلا كفارة فهذا دليل على أنها غير واجبة لا بالظهار ولا بالعود إذ لو وجبت لما سقطت بل موجب الظهار ثبوت التحريم، فإذا أراد رفعه وجب عليه في رفعه الكفارة كما تقول لمن أراد الصلاة النافلة‏:‏ يجب عليك إن صليتها أن تقدم الوضوء انتهى‏.‏

ولا يخفى أن إرادة المضاف غير متعين بناءاً على ما نقل عن الكثير من المشايخ، وأن ظاهر الآية يفيد السببية كما ذكرنا آنفاً، ويكون الموجب للكفارة الأمران، وبه صرح بعض الشافعية وجعل ذلك قياس كفارة اليمين، ثم قال‏:‏ وينافي ذلك وجوبها فوراً مع أن أحد سببيها وهو العود غير معصية لأنه إذا اجتمع حلال وحرام ولم يكن تميز أحدهما عن الآخر غلب الحرام، وظاهر كلام الإمام النووي عليه الرحمة أن موجبها الظهار والعود شرط فيه وهو بعكس ما نقل عن المحيط، ثم إن من جعل السبب العزم أراد به العزم المؤكد حتى لو عزم ثم بدا له أن لا يطأها لا كفارة عليه لعدم العزم المؤكد لا أنها وجبت بنفس العزم‏.‏ ثم سقطت كما قال بعضهم لأنها بعد سقوطها لا تعود إلا بسبب جديد كذا في البدائع، وذكر ابن نجيم في «البحر» عن التنقيح أن سبب الكفارة ما نسيت إليه من أمر دائر بين الحظر والإباحة، ثم قال‏:‏ إن كون كفارة الظهار كذلك على قول من جعل السبب مركباً من الظهار والعود ظاهر لكون الهظار محظوراً والعود مباحاً لكونه إمساكاً بالمعروف ونقضاً للزور‏.‏

وأما على القول بأن المضاف إليه وهو الظهار سبب وهو قول الأصوليين فكونه دائراً بين الحظر والإباحة مع أنه منكر من القول وزور باعتبار أن التشبيه يحتمل أن يكون للكرامة فلم يتمحض كونه جناية، واستظهر بعد أنه لا ثمرة للاختلاف في سببها معللاً بأنهم اتفقوا على أنه لو عجلها بعد الظهار قبل العود جاز ولو كرر الظهار تكررت الكفارة وإن لم يتكرر العزم، ولو عزم ثم ترك فلا وجوب، ولو عزم ثم أبانها سقطت ولو عجلها قبل الظهار لم يصح، ثم إنه لا استحالة في جعل المعصية سبباً للعبادة التي حكمها أن تكفر المعصية وتذهب السيئة خصوصاً إذا صار معنى الزجر فيها مقصوداً وإنما المحال أن تجعل سبباً للعبادة الموصولة إلى الجنة انتهى، ولا يخلو عن حسن ما عدا توجيه كون الظهار دائراً بين الحظر والإباحة فإنه كما ترى‏.‏

وفسر بعضهم العود بالرجوع واللام بعن كما نقل عن الفراء أي ثم يرجعون عما قالوا‏:‏ فيريدون الوطء، قال الزيلعي‏:‏ وهذا تأويل حسن لأن الظهار موجبه التحريم المؤبد فإذا قصد وطأه وعزم عليه فقد رجع عما قال، ولا يخفى أن جعل اللام بمعنى عن خلاف الظاهر، وقيل‏:‏ العود الرجوع، والمراد بما قالوا ما حرموه على أنفسهم بلفظ الظهار وهو التماس تنزيلاً للقول منزلة المقول فيه نحو ما ذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 80‏]‏ والمعنى ثم يريدون العود للتماس، وفيه تجوزان، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى ‏{‏ثُمَّ يَعُودُونَ‏}‏ ثم يندمون ويتوبون أي يعزمون على التوبة، كأنه حمل العود على التدارك والتائب متدارك لما صدر عنه بالتوبة‏.‏

واعترض بأنه يقتضي أنه إذا لم يندم لا تلزمه الكفارة وإذا جعلت الكفارة نفس التوبة فأين معنى العود‏؟‏ وأيضاً لا معنى لقول القائل ثم يعزمون على الكفارة ‏{‏فَتَحْرِيرُ‏}‏ الخ، والعود عند الشافعية يتحقق في غير مؤقت ورجعية بأن يمسكها على الزوجية ولو جهلاً ونحوه بعد فراغ ظهاره ولو مكرراً للتأكيد وبعد علمه بوجود الصفة في المعلق وإن نسي أو جنّ وجودها زمن إمكان فرقة شرعاً فلا عود في نحو حائض إلا بالإمساك بعد انقطاع دمها لأن تشبيهها بالمحرم يقتضي فراقها فبعدم فعله صار ناقضاً له متداركاً لما قال، فلو اتصل بلفظ الظهار فرقة بموت‏.‏ أو فسخ‏.‏ أو انفساخ بنحو ردة قبل وطء أو طلاق بائن أو رجعي، ولم يراجع أو جن أو أغمي عليه عقب اللفظ ولم يمسكها بعد الإفاقة فلا عود للفرقة أو تعذرها أولا عنها في الأصح بشرط سبق القذف، والرفع للقاضي ظهاره في الأصح ولو راجع من ظاهر منها رجعية أو من طلقها رجعياً عقب الظهار أو ارتد متصلاً وهي موطوءة ثم أسلم، فالمذهب أنه عائد بالرجعة لأن المقصود بها استباحة الوطء لا بالإسلام لأن المقصود به العود للدين الحق والاستباحة أمر يترتب عليه إلا إذا أمسكها بعده زمناً يسع الفرقة، وفي الظهار المؤقت الواقع كما التزم على الصحيح لخبر صحيح فيه الأصح أن العود لا يحصل بإمساك بل بوطء مشتمل على تغييب الحشفة أو قدرها من مقطوعها في المدة للخبر أيضاً ولأن الحل منتظر بعدها، فالإمساك يحتمل كونه لانتظاره أو للوطء فيها فلم يتحقق الامساك لأجل الوطء إلا بالوطء فيها فكان المحصل للعود‏.‏

واعترض ما قالوه بأن ‏{‏ثُمَّ‏}‏ تدل على التراخي الزماني‏.‏ والإمساك المذكور معقب لا متراخ فلا يعطف بثم بل بالفاء، ورد بأن مدة الامساك ممتدة، ومثله يجوز فيه العطف بثم والعطف بالفاء باعتبار ابتدائه وانتهائه، وعلى هذا لا حاجة إلى القول بأنها للدلالة على أن العود أشد تبعة وأقوى إثماً من نفس الظهار حتى يقال عليه‏:‏ إنه غير مسلم، ولا إلى قول الإمام أن مشترك الالزام بين الشافعية والحنفية القائلين‏:‏ بأن العود استباحة الاستمتاع فيمنع أيضاً لأن الاستباحة المذكورة عقب الظهار قولاً نادرة فلا يتوجه ذلك على الحنفية‏.‏

واعترض أيضاً بأن الظهار لم يوجب تحريم العقد حتى يكون العود إمساكها، ومن تعليل الشافعية السابق يعلم ما فيه، وفي التفريع لابن الجلاب المالكي أنه روى عن الإمام مالك في المراد بالعود روايتان‏:‏ إحداهما أنه العزم على إمساكها بعد الظهار منها، والرواية الأخرى أنه العزم على وطئها، ثم قال‏:‏ ومن أصحابنا من قال‏:‏ العود في إحدى الروايتين عن مالك هو الوطء نفسه، والصحيح عندي ما قدمته انتهى من مدونه‏.‏

وابن حجر نسب القول‏:‏ بأنه العزم على الوطء إلى الإمام مالك‏.‏ والإمام أحمد، والقول‏:‏ بأنه الوطء نفسه إلى الإمام أبي حنيفة، وذكر أنهما قولان للإمام الشافعي في القديم، وما حكاه عن الإمام أبي حنيفة لم يحكه عنه فيما نعلم أحد من أصحابه، وحكاه الزيلعي عن الإمام مالك، ولم يحك عنه غيره، وحكاه أبو حيان في البحر عن الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وطاوس‏.‏ والزهري‏.‏ وجماعة، وأفاد أنه إحدى روايتين عن مالك، وثانيتهما أنه العزم على الإمساك والوطء

واعترض القول به ممن كان وكذا القول‏:‏ بأنه العزم على الوطء بأن الآية لما نزلت، وأمر صلى الله عليه وسلم المظاهر بالكفارة لم يسأله هل وطىء أو عزم على الوطء‏؟‏ والأصل عدم ذلك، والوقائع القولية كهذه يعممها الاحتمال، وأنها ناصة على وجوب الكفارة قبل الوطء فيكون العود سابقاً عليه، فكيف يكون هو الوطء‏؟‏ا وأجاب القائل‏:‏ بأنه العزم على الوطء عن ترك السؤال بأن ذلك لعلمه عليه الصلاة والسلام به من خولة، فقد أخرج الإمام أحمد‏.‏

وأبو داود‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي من طريق يوسف بن عبد الله بن سلام قال‏:‏ حدثتني خولة بنت ثعلبة قالت‏:‏ فيّ وفي أوس بن الصامت أنزل الله تعالى صدر سورة المجادلة كنت عنده وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه فدخل علي يوماً فراجعته بشيء فغضب فقال‏:‏ أنت علي كظهر أمي، ثم رجع فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل علي فإذا هو يريدني عن نفسي قلت‏:‏ كلا والذي نفس خولة بيده لا تصل إلى وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فينا، ثم جئت إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام فذكرت له ذلك فما برحت حتى نزل القرآن الخبر، فإن ظاهر قولها‏:‏ فذكرت له ذلك أنها ذكرت كل ما وقع، ومنه طلب أوس وطأها المكنى عنه بيريدني عن نفسي، وذكر ذلك له عليه الصلاة والسلام أهم لها من ذكرها إياه ليوسف بن عبد الله بن سلام‏.‏

وأجيب من جهة القائل‏:‏ بأنه الوطء عن الأخير بأن المراد من الآية عند ذلك القائل من قبل أن يباح التماس شرعاً، والوطء أولاً حرام موجب للتكفير وهو كما ترى ونقل عن الثوري‏.‏ ومجاهد أن معنى الآية والذين كانت عادتهم أن يقولوا هذا القول المنكر فقطعوه بالإسلام، ثم يعودون لمثله فكفارة من عاد أن يحرر رقبة ثم يماس المظاهر منها، فحملا العود والقول على حقيقتهما، وفي اعتبار العادة دلالة على أن العدول إلى المضارع في الآية للاستمرار فيما مضى وقتاً فوقتاً، وأخذ القطع من دلالة ‏{‏ثُمَّ‏}‏ على التراخي؛ وليصح على وجه لا يلزم تعليق وجوب الكفارة بتكرار لفظ الظهار كما سيأتي إن شاء الله تعالى حكايته‏.‏

وتعقب ذلك بأن فيه أن الاستمرار ينافي القطع، ثم إنهم ما كانوا قطعوه بالإسلام لأن الشرع لم يكن ورد بعد بتحريمه، وظاهر النظم الجليل أنه مظاهرة بعد الإسلام لأنه مسوق لبيان حكمه فيه، وعليه ينطبق سبب النزول وهو يقتضي أن يكون مجرد الظهار من غير عود موجباً للكفارة، وهو خلاف ما عليه علماء الأمصار؛ وأجيب عن هذا الأخير بأنهما إن نقل عنهما ذلك اجتهاداً فلا يلزمهما موافقة غيرهما وهو المصرح به في كتاب «الأحكام»‏.‏ وغيره، وإن لم ينقل عنهما غير تفسير العود في الآية بما أشير إليه، فيجوز أن يشترطا لوجوب الكفارة شيئاً مما مر لكن لا يقولان‏:‏ إنه المراد بالعود فيها، وقال أهل الظاهر‏:‏ المعنى الذين يقولون هذا القول المنكر ثم يعودون له فيكررونه بأن يقول أحدهم‏:‏ أنت علي كظهر أمي ثم يعود له ويقوله ثانياً فكفارته تحرير رقبة الخ فحملوا العود والقول على حقيقتهما أيضاً‏.‏

وروي ذلك عن أبي العالية‏.‏

وبكير بن عبد الله بن الأشج‏.‏ والفراء أيضاً، وحكاه أبو حيان رواية عن الإمام أبي حنيفة، ولا نعلم أحداً من أصحابه رواه عنه، وتعقب بأنه لو أريد ذلك لقيل‏:‏ يعودون له فإنه أخصر ولا يبقى لكلمة ‏{‏ثُمَّ‏}‏ حسن موقع، هذا ولا فقه فيه من حيث المعنى، والمنزل فيه أعني قصة خولة يدفعه إذ لم ينقل التكرار، ولا سأل عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا الدفع قوي، وأما ما قيل‏:‏ فقد أجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون الفقه فيه أنه ليس صريحاً في التحريم فلعله يسبق لفظه به من غير قصد لمعناه، فإذا كرره تعين أنه قصده وأن العدول عن له إلى ‏{‏لِمَا قَالُواْ‏}‏ لقصد التأكيد بالإظهار، وأن العطف بثم لتراخي رتبة الثاني وبعده عن الأول لأنه الذي تحقق به الظهار، وقول الزيلعي في الاعتراض عليه‏:‏ إن اللفظ لا يحتمله لأنه لو أريد ذلك لقيل‏:‏ يعيدون القول الأول بضم الياء وكسر العين من الإعادة لا من العود جهل ناشىء من قلة العود لكلام الفصحاء والرجوع إلى محاوراتهم، وقال أبو مسلم الأصفهاني‏:‏ معنى العود أن يحلف أولاً على ما قال من الظهار بأن يقول‏:‏ والله أنت علي كظهر أمي وهو عود لما قال وتكرار له معنى لأن القسم لكونه مؤكداً للمقسم عليه يفيد ذلك فلا تلزم الكفارة في الظهار من غير قسم عنده، وهذا القول إلغاء للظهار معنى لأن الكفارة لحلفه على أمر كذب فيه، وأيضاً المنزل فيه يدفعه إذ لم ينقل الحلف ولا سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصل عدمه، وقيل‏:‏ عوده تكراره الظهار معنى بأن يقول‏:‏ أنت عليّ كظهر أمي إن فعلت كذا ثم يفعله فإنه يحنث وتلزمه الكفارة، وتعد مباشرته ذلك تكريراً للظهار وليس بشيء كما لا يخفى، وأما تعليق الظهار فقد ذكر الشافعية أنه يصح لأنه لاقتضاء التحريم كالطلاق والكفارة كاليمين وكلاهما يصح تعليقه، فإذا قال‏:‏ إن دخلت الدار فأنت عليّ كظهر أمي فدخلت ولو في حال جنونه أو نسيانه صح لكن لا عود عندهم في الصورة المفروضة حتى يمسكها عقب الإفاقة أو تذكره وعلمه بوجود الصفة قدر إمكان طلاقها ولم يطلقها، وقد أطالوا في تفاريع التعليق الكلام بما لا يسعه هذا المقام‏.‏

وعندنا أيضاً يصح تعليقه وكذا تقييده بيوم أو شهر، ولا يبقى بعد مضي المدة، نعم لو ظاهر واستثنى يوم الجمعة مثلاً لم يجز ولو علق الظهار بشرط ثم أبانها ثم وجد الشرط في العدة لا يصير مظاهراً بخلاف الإبانة المعلقة كما بين في محله، وقال الأخفش‏:‏ في الآية تقديم وتأخير وتقديرها والذين يظاهرون من نسائهم فتحرير رقبة لما قالوا‏:‏ ثم يعودون إلى نسائهم ولا يذهب إليه إلا أخفش أو أعشى أو أعمش، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن نّسَائِهِمْ‏}‏ دليل لنا وكذا للشافعي‏.‏

وأحمد‏.‏ وجمع كثير من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عليهم أجمعين على أنه لو ظاهر من أمته الموطوأة أو غيرها لا يصح، وبيان ذلك أنه يتناول نساءنا والأمة، وإن صح إطلاق لفظ نسائنا عليها لغة لكن صحة الإطلاق لا تستلزم الحقيقة لأن حقيقة إضافة النساء إلى رجل أو رجال إنما تتحقق مع الزوجات دون الإماء لأنه المتبادر حتى يصح أن يقال‏:‏ هؤلاء جواريه لا نساؤه، وحرمة بنت الأمة ليس لأن أمها من نسائنا مرادة بالنص بل لأنها موطوءة وطءاً حلالاً عند الجمهور، وبلا هذا القيد عندنا على أنه لو أريد بالنساء هناك ما تصح به الإضافة حتى يشمل المعنى الحقيقي وهن الزوجات‏.‏ والمجازي أعني الإماء بعموم المجاز لأمكن للاتفاق على ثبوت ذلك الحكم في الإماء كثبوته في الزوجات أما هنا فلا اتفاق ولا لزوم عندنا أيضاً ليثبت بطريق الدلالة لأن الإمام لسن في معنى الزوجات لأن الحل فيهن تابع غير مقصود من العقد ولا من الملك حتى يثبتا مع عدمه في الأمة المجوسية والمراضعة بخلاف عقد النكاح لا يصح في موضع لا يحتمل الحل، واستدل أيضاً بأن القياس شأنه أن لا يوجب هذا التشبيه الذي في الظهار سوى التوبة، وورد الشرع بثبوت التحريم فيه في حق من لها حق الاستمتاع ولا حق للأمة فيه فيبقى في حقها على أصل القياس، وبأن الظهار كان طلاقاً فنقل عنه إلى تحريم مغياً بالكفارة ولا طلاق في الأمة، وهذا ليس بشيء للمتأمّل‏.‏

ونقل عن مالك‏.‏ والثوري صحة الظهار في الأمة مطلقاً، وعن سعيد بن جبير‏.‏ وعكرمة‏.‏ وطاوس‏.‏ والزهري صحته في الموطوءة، ثم إن الشرط كونها زوجة في الابتداء فلو ظاهر من زوجته الأمة ثم ملكها بقي الظهار فلا يجوز له وطؤها حتى يكفر كما صرحوا به، والمراد بالزوجة المنكوحة التي يصح إضافة الطلاق إليها فلا فرق بين مدخول بها وغيرها فلا يصح الظهار من مبانة، ومنه ما سمعت آنفاً ولا من أجنبية إلا إذا أضافه إلى التزوج كأن قال لها‏:‏ إن تزوجتك فأنت عليّ كظهر أمي ثم تزوجها فإنه يكون مظاهراً، نعم في التاتارخانية‏:‏ لو قال‏:‏ إذا تزوجتك فأنت طالق، ثم قال‏:‏ إذا تزوجتك فأنت عليّ كظهر أمي فتزوجها يقع الطلاق، ولا يلزم الظهار في قول أبي حنيفة، وقال صاحباه‏:‏ لزماه جميعاً، وعن مالك أنه إذا ظاهر من أجنبية ثم نكحها لزم الظهار أضافه إلى التزوّج أم لا‏.‏

وقال بعض العلماء لا يصح ظهار غير المدخول بها، وقال المزني‏:‏ لا يصح ظهار المطلقة الرجعية، وظاهر ‏{‏الذين يظاهرون‏}‏ يشمل العبد فيصح ظهاره، وقد ذكر أصحابنا أنه يصح ظهار الزوج البالغ العاقل المسلم ويكفر العبد بالصوم، ولا ينصف لما فيه من معنى العبادة كصوم رمضان، ومثله المحجور عليه بالسفه على قولهما المفتي به‏.‏

وحكى الثعلبي عن مالك أنه لا يصح ظهار العبد، ولا تدخل المرأة في هذا الحكم فلو ظاهرت من زوجها لم يلزم شيء كما نقل ذلك في التاتارخانية عن أبي يوسف، وقال أبو حيان‏:‏ قال الحسن بن زياد‏:‏ تكون مظاهرة، وقال الأوزاعي‏.‏ وعطاء‏.‏ وإسحاق‏.‏ وأبو يوسف‏:‏ إذا قالت المرأة لزوجها‏:‏ أنت عليّ كظهر فلانة فهي يمين تكفرها، وقال الزهري‏:‏ أرى أن تكفر كفارة الظهار ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها انتهى، والرقبة من الحيوان معروفة، وتطلق على المملوك، وذلك من تسمية الكل باسم الجزء كما في المغرب، وهو المراد هنا‏.‏

وفي «الهداية» هي عبارة عن الذات المرقوق من كل وجه فيجزىء في الكفارة إعتاق الرقبة الكافرة والمؤمنة والذكر والأنثى والكبير والصغير ولو رضيعاً لأن الاسم ينطلق على كل ذلك، ومقتضى ذلك إجزاء إعتاق المرتد والمرتدة والمستأمن والحربي، وفي التاتارخانية أن المرتد يجوز عند بعض المشايخ، وعند بعضهم لا يجوز، والمرتدة تجوز بلا خلاف أي لأنها لا تقتل، وفي «الفتح» إعتاق الحربي في دار الحرب لا يجزيه في الكفارة، وإعتاق المستأمن يجزيه، وفي التاتارخانية لو أعتق عبداً حربياً في دار الحرب إن لم يخل سبيله لا يجوز وإن خلي سبيله ففيه اختلاف المشايخ، فبعضهم قالوا‏:‏ لا يجوز وشمل الرقبة الصحيح والمريض فيجزى كل منهما واستثنى في الخانية مريضاً لا يرجى برؤه فإنه لا يجوز لأنه ميت حكماً، وفي جواز إعتاق حلال الدم كلام‏:‏ فحكي في «البحر» أنه إذا أعتق عبداً حلال الدم قد قضى بدمه ثم عفي عنه فلو كان أبيض العينين فزال البياض أو كان مرتداً فأسلم لا يجوز‏.‏

وفي «جامع الفقه» جاز المديون والمرهون ومباح الدم، ويجوز إعتاق الآبق إذا علم أنه حي، ولا بد أن تكون الرقبة غير المرأة المظاهر منها لما في الظهيرية‏.‏ والتاتارخانية أمة تحت رجل ظاهر منها ثم اشتراها وأعتقها كفارة ظهارها قيل‏:‏ تجزى، وقيل‏:‏ لا تجزى في قول أبي حنيفة‏.‏ ومحمد خلافاً لأبي يوسف، ويجوز الأصم استحساناً إذا كان بحيث إذا صيح عليه يسمع، وفي رواية النوادر لا يجوز ولا تجزى العمياء ولا المقطوعة اليدين أو الرجلين، وكذا مقطوع إبهام اليدين ومقطوع إحدى اليدين وإحدى الرجلين من جانب واحد والمجنون الذي لا يعقل، ولا يجوز إعتاق المدبر وأم الولد، وكذا المكاتب الذي أدى بعض المال وإن اشترى أباه أو ابنه ينوي بالشراء الكفارة جاز عنها، وإن أعتق نصف عبد مشترك وهو موسر فضمن قيمة باقية لم يجز عند الإمام، وجاز عند صاحبيه، وإن أعتق نصف عبده عن كفارته ثم جامع ثم أعتق باقيه لم يجزه عنده لأن الاعتاق يتجزأ عنده، وشرط الإعتاق أن يكون قبل المسيس بالنص؛ وإعتاق النصف حصل بعده، وعندهما إعتاق النصف إعتاق الكل فحصل الكل قبل المسيس، واشترط الشافعي عليه الرحمة كون الرقبة مؤمنة ولو تبعاً لأصل‏.‏

أو دار‏.‏ أو ساب حملاً للمطلق في هذه الآية على المقيد في آية القتل بجامع عدم الاذن في السبب‏.‏

وقال الحنفية‏:‏ لا يحمل المطلق على المقيد إلا في حكم واحد في حادثة واحدة لأنه حينئذٍ يلزم ذلك لزوماً عقلياً إذ الشيء لا يكون نفسه مطلوباً إدخاله في الوجود مطلقاً ومقيداً كالصوم في كفارة اليمين‏.‏ ورد مطلقاً ومقيداً بالتتابع في القراءة المشهورة التي تجوز القراءة بمثلها، والكلام في تحقيق هذا الأصل في الأصول‏.‏

وقالوا على تقدر التنزل إلى أصل الشافعية من الحمل مطلقاً‏:‏ إنه لا يلزم من التضييق في كفارة الأمر الأعظم وهو القتل ثبوت مثله فيما هو أخف منه ليكون التقييد فيه بياناً في المطلق، وما ذكروه من الجامع لا يكفي، ووافقوا في كثير مما عدا ذلك، وخالفوا أيضاً في كثير فقالوا‏:‏ يشترط في الرقبة أن تكون بلا عيب يخل بالعمل والكسب فيجزىء صغير ولو عقب ولادته‏.‏ وأقرع‏.‏ وأعرج يمكنه من غير مشقة لا تحتمل عادة تتابع المشي‏.‏ وأعور لم يضعف نظر سليمته حتى أخل بالعمل إخلالاً بيناً‏.‏ وأصم‏.‏ وأخرس يفهم إشارة غيره ويفهم غيره إشارته مما يحتاج إليه‏.‏ وأخشم‏.‏ وفاقد أنفه‏.‏ وأذنيه‏.‏ وأصابع رجليه‏.‏ وأسنانه‏.‏ وعنين‏.‏ ومجبوب‏.‏ ورتقاء‏.‏ وقرناء‏.‏ وأبرص‏.‏ ومجذوم‏.‏ وضعيف بطش‏.‏ ومن لا يحسن صنعة‏.‏ وولد زنا‏.‏ وأحمق وهو من يضع الشيء في غير محله مع علمه بقبحه وآبق‏.‏ ومغصوب‏.‏ وغائب علمت حياته أو بانت وإن جهلت حالة العتق لازمن‏.‏ وجنين وإن انفصل لدون ستة أشهر من الإعتاق‏.‏ أو فاقد يد‏.‏ أو رجل‏.‏ أو أشل أحدهما‏.‏ أو فاقد خنصر وبنصر معاً من يد‏.‏ أو أنملتين من غيرهما‏.‏ أو أنملة إبهام كما قال النووي عليه الرحمة ولا هرم عاجز؛ ولا من هو في أكثر وقته مجنون ولا مريض لا يرجى عند العتق برء مرضه كسلال فإن برأ بعد إعتاقه بأن الإجزاء في الأصح‏.‏ ولا من قدم لقتل بخلاف من تحتم قتله في المحاربة قبل الرفع للإمام، ولا يجزى شراء أو تملك قريب أصل أو فرع بنية كفارة ولا عتق أم ولد ولا ذو كتابة صحيحة قبل تعجيزه، ويجزى مدبر ومعلق عتقه بصفة غير التدبير، وقالوا‏:‏ لو أعتق معسر نصفين له من عبدين عن كفارة فالأصح الإجزاء إن كان باقيهما أو باقي أحدهما حرّاً إلى غير ذلك‏.‏

وفي الإتيان بالفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ‏}‏ الخ دلالة على ما قال بعض الأجلة‏:‏ على تكرر وجوب التحرير بتكرر الظهار، فإذا كان له زوجتان مثلاً فظاهر من كل منهما على حدة لزمه كفارتان‏.‏

وفي التلويح لو ظاهر من امرأته مرتين أو ثلاثاً في مجلس واحد أو مجالس متفرقة لزمه بكل ظهار كفارة، وفي إطلاقه بحث، فقد ذكر بعضهم أنه لو قصد التأكيد في المجلس الواحد لم تتعدد، وفي شرح الوجيز للغزالي ما محصله‏:‏ لو قال لأربع زوجات‏:‏ أنتن عليّ كظهر أمي فإن كان دفعة واحدة ففيه قولان، وإن كان بأربع كلمات فأربع كفارات، ولو كررها والمرأة واحدة فإما أن يأتي بها متوالية أولاً، فعلى الأول‏:‏ إن قصد التأكيد فواحدة وإلا ففيه قولان‏:‏ القديم وبه قال أحمد واحدة كما لو كرر اليمين على شيء واحد، والقول الجديد التعدد وبه قال أبو حنيفة‏.‏ ومالك وإذا لم تتوال أو قصد بكل واحدة ظهاراً أو أطلق ولم ينو التأكيد فكل مرة ظهار برأسه، وفيه قول‏:‏ إنه لا يكون الثاني ظهاراً إن لم يكفر عن الأول، وإن قال‏:‏ أردت إعادة الأول ففيه اختلاف بناءاً على أن الغالب في الظهار أن معنى الطلاق أو اليمين لما فيه من الشبهين انتهى‏.‏

وظاهر بعض عبارات أصحابنا أنه لو قيد الظهار بعدد اعتبر ذلك العدد؛ ففي التتارخانية لو قال لأجنبية‏:‏ إن تزوجتك فأنت عليّ كظهر أمي مائة مرة فعليه أي إذا تزوجها لكل كفارة، وتدل الآية على أن الكفارة المذكورة قبل المسيس فإن مس أثم ولا يعاود حتى يكفر، فقد روى أصحاب السنن الأربعة عن ابن عباس أن رجلاً وهو سلمة بن صخر الأنصاري كما في حديث أبي داود‏.‏ والترمذي‏.‏ وغيرهما ظاهر من امرأته فوقع عليها قبل أن يكفر فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما حملك على ذلك‏؟‏ا فقال‏:‏ رأيت خلخالها في ضوء القمر وفي لفظ بياض ساقها قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ فاعتزلها حتى تكفر» ولفظ ابن ماجه «فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يقربها حتى يكفر» قال الترمذي‏:‏ حديث حسن صحيح غريب، ونفى كونه صحيحاً ردّه المنذري في مختصره بأنه صححه الترمذي ورجاله ثقات مشهور سماع بعضهم من بعض‏.‏

وروى الترمذي وقال‏:‏ حسن غريب عن ابن إسحاق بالسند إلى سلمة المذكور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المظاهر يواقع قبل أن يكفر‏:‏ «كفارة واحدة تلزمه» ويردّ به على مجاهد في قوله‏:‏ يلزمه كفارة أخرى، ونقل هذا عن عمرو بن العاص‏.‏ وقبيصة‏.‏ وسعيد بن جبير‏.‏ والزهري‏.‏ وقتادة، وعلى من قال تلزمه ثلاث كفارات، ونقل ذلك عن الحسن‏.‏

والنخعي، وبه‏.‏ وبما تقدم يردّ على ما قيل‏:‏ من أنه تسقط الكفارة الواجبة عليه ولا يلزمه شيء ولا ترتفع حرمة المسيس إلا بها لا بملك ولا بزوج ثان حتى لو طلقها من بعد الظهار ثلاثاً فعادت إليه من بعد زوج آخر أو كانت أمة فملكها بعد ما ظاهر منها لا يحل قربانها حتى يكفر، وهو واجب على التراخي على الصحيح لكون الأمر الدالة عليه الآية مطلقاً حتى لا يأثم بالتأخير عن أول أوقات الامكان، ويكون مؤدياً لا قاضياً، ويتعين في آخر عمره، ويأثم بموته قبل الأداء، ولا تؤخذ من تركته إن لم يوص ولو تبرع الورثة في الإعتاق، وكذا في الصوم لا يجوز كذا في «البدائع» فإن أوصى كان من الثلث، وفي التاتارخانية لو كان مريد التكفير مريضاً فأعتق عبده عن كفارته وهو لا يخرج من ثلث ماله فمات من ذلك المرض لا يجوز عن كفارته وإن أجازت الورثة، ولو أنه برىء من مرضه جاز، وللمرأة مطالبته بالوطء والتكفير؛ وعليها أن تمنعه من الاستمتاع بها حتى يكفر، وعلى القاضي أن يجبره على التكفير دفعاً للضرر عنها بحبس فإن أبى ضربه؛ ولو قال‏:‏ قد كفرت صدّق ما لم يكن معروفاً عند الناس بالكذب‏.‏

هذا وبقيت مسائل أخر مذكورة في كتب الفقه ‏{‏ذلكم‏}‏ الإشارة إلى الحكم بالكفارة والخطاب للمؤمنين الموجودين عند النزول أو لهم ولغيرهم من الأمة ‏{‏تُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ أي تزجرون به عن ارتكاب المنكر، فإن الغرامات مزاجر عن تعاطي الجنايات، والمراد بيان أن المقصود من شرع هذا الحكم ليس تعريضكم للثواب بمباشرتكم لتحرير الرقبة الذي هو علم في استتباع الثواب العظيم بل هو ردعكم وزجركم عن مباشرة ما يوجبه كذا في «الإرشاد»، وهو ظاهر في كون الكفارة عقوبة محضة، وقد تقدم القول بأنها دائرة بين العبادة والعقوبة، وكلام الزيلعي يدل على أن جهة العبادة فيها أغلب، وفي شرح منهاج النووي لابن حجر في كتاب كفارة الظهار الكفارة من الكفر وهو الستر لسترها الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه بناءاً على أن الكفارات زواجر كالتعازير أو جوابر للخلل، ورجح ابن عبد السلام الثاني لأنها عبادة لافتقارها للنية أي فهي كسجود السهو‏.‏

والفرق بينها على الثاني وبين الدفن الكفارة للبص على ما هو المقرر فيه أنه يقطع دوام الإثم أن الدفن مزيل لعين ما به المعصية فلم يبق بعده شيء يدوم إثمه بخلافها هنا فإنها ليست كذلك، وعلى الأول الممحو هو حق الله تعالى من حيث هو حقه، وأما بالنظر لنحو الفسق بموجبها فلا بد فيه من التوبة نظير نحو الحد انتهى‏.‏

ومتى قيل‏:‏ بأن الإعتاق المذكور كفارة وأن الكفارة تستر الذنب بمحوه أو تخفيف إثمه لم يكن بدّ من استتباعه الثواب وكون ذلك لا يعدّ ثواباً لا يخلو عن نظر؛ ولعل المراد أن المقصود الأعظم من شرع هذا الحكم الردع والزجر عن مباشرة ما يوجبه دون التعريض للثواب، وإن تضمنه في الجملة فتأمل ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الأعمال كالتفكير وما يوجبه من جناية الظهار ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ أي عالم بظواهرها وبواطنها ومجازيكم بها فحافظوا على حدود ما شرع لكم ولا تخلو بشيء منها‏.‏