فصل: تفسير الآية رقم (9)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْلَمُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله‏}‏ أي لا يشغلكم الاهتمام بتدبير أمورها والاعتناء بمصالحها والتمتع بها عن الاشتغال بذكر الله عز وجل من الصلاة وسائر العبادات المذكرة للمعبود الحق جل شأنه فذكر الله تعالى مجاز عن مطلق العبادة كما يقتضيه كلام الحسن وجماعة، والعلاقة السببية لأن العبادة سبب لذكره سبحانه وهو المقصود في الحقيقة منها‏.‏

وفي رواية عن الحسن أن المراد به جميع الفرائض، وقال الضحاك‏.‏ وعطاء‏:‏ الذكر هنا الصلاة المكتوبة، وقال الكلبي‏:‏ الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ القرآن، والعموم أولى، ويفهم كلام الكشاف أن المراد بالأموال والأولاد الدنيا، وعبر بهما عنها لكونهما أرغب الأشياء منها قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 46‏]‏ فإذا أريد بذكر الله العموم يؤول المعنى إلى لا تشغلنكم الدنيا عن الدين، والمراد بنهي الأموال وما بعدها نهى المخاطبين وإنما وجه إليها للمبالغة لأنها لقوة تسببها للهو وشدة مدخليتها فيه جعلت كأنها لاهية، وقد نهيت عن اللهو فالأصل لا تلهوا بأموالكم الخ، فالتجوز في الإسناد، وقيل‏:‏ إنه تجوز بالسبب عن المسبب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 2‏]‏ أي لا تكونوا بحيث تلهيكم أموالكم الخ‏.‏

‏{‏وَمَن يَفْعَلْ ذلك‏}‏ أي اللهو بها وهو الشغل، وهذا أبلغ مما لو قيل‏:‏ ومن تلهه تلك ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون‏}‏ حيث باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني، وفي التعريف بالإشارة والحصر للخسران فيهم، وفي تكرير الإسناد وتوسيط ضمير الفصل ما لا يخفى من المبالغة، وكأنه لما نهى المنافقون عن الانفاق على من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأريد الحث على الانفاق جعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الخ تمهيداً وتوطئة للأمر بالانفاق لكن على وجه العموم في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رزقناكم‏}‏ أي بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال ادخاراً للآخرة ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ أي أماراته ومقدماته فالكلام على تقدير مضاف ولذا فرع على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبّ لَوْلا أَخَّرْتَنِى‏}‏ أي أمهلتني ‏{‏إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ أي أمد قصير ‏{‏فَأَصَّدَّقَ‏}‏ أي فأتصدق، وبذلك قرأ أبي‏.‏ وعبد الله‏.‏ وابن جبير، ونصب الفعل في جواب التمني والجزم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَكُن مّنَ الصالحين‏}‏ بالعطف على موضع ‏{‏فَأَصَّدَّقَ‏}‏ كأنه قيل‏:‏ إن أخرتني أصدّق وأكن، وإلى هذا ذهب أبو علي الفارسي‏.‏ والزجاج، وحكى سيبويه عن الخليل أنه على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني لأن الشرط غير ظاهر ولا يقدر حتى يعتبر العطف على الموضع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 186‏]‏ ويذرهم فيمن قرأ بالجزم وهو حسن بيد أن التعبير بالتوهم هنا ينشأ منه توهم قبيح، والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود وأثره مفقود، والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود، واستظهر أن الخلاف لفظي فمراد أبي علي‏.‏ والزجاج العطف على الموضع المتوهم أي المقدر إذ لا موضع هنا في التحقيق لكنهما فرا من قبح التعبير‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وابن جبير‏.‏ وأبو رجاء‏.‏ وابن أبي إسحق‏.‏ ومالك بن دينار‏.‏ والأعمش‏.‏ وابن محيصن‏.‏ وعبد الله بن الحسن العنبري‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏وأكون‏}‏ بالنصب وهو ظاهر، وقرأ عبيد بن عمير ‏{‏وأكون‏}‏ بالرفع على الاستئناف، والنحويون‏.‏ وأهل المعاني قدروا المبتدا في أمثال ذلك من أفعال المستأنفة، فيقال هنا‏:‏ أي وأنا أكون ولا تراهم يهملون ذلك، ووجه بأن ذلك لأن الفعل لا يصلح للاستئناف مع الواو الاستئنافية كما هنا ولا بدونها، وتعقب بأنه لم يذهب إلى عدم صلاحيته لذلك أحد من النحاة وكأنه لهذا صرح العلامة التفتازاني بأن التزام التقدير مما لم يظهر له وجهه، وقيل‏:‏ وجهه أن الاستئناف بالاسمية أظهر وهو كما ترى، وجوز كون الفعل على هذه القراءة مرفوعاً بالعطف على أصدّق على نحو القولين السابقين في الجزم، هذا وعن الضحاك أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنفِقُواْ مِمَّا رزقناكم‏}‏ يعني الزكاة والنفقة في الحج، وعليه قول ابن عباس فيما أخرج عنه ابن المنذر‏:‏ ‏{‏فَأَصَّدَّقَ‏}‏ أزكى ‏{‏وَأَكُن مّنَ الصالحين‏}‏ أحج، وأخرج الترمذي‏.‏ وابن جرير‏.‏ والطبراني‏.‏ وغيرهم عنه أيضاً أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان له مال يبلغه حج بيت ربه أو تجب عليه فيه الزجاة فلم يفعل سأل الرجعة عند الموت»

فقال له رجل‏:‏ يا ابن عباس اتق الله تعالى فإنما يسأل الرجعة الكفار فقال‏:‏ سأتلو عليكم بذلك قرآناً ‏{‏يَعْلَمُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 9‏]‏ إلى آخر السورة كذا في «الدر المنثور»‏.‏

وفي «أحكام القرآن» رواية الترمذي عنه ذلك موقوفاً عليه، وحكى عنه في البحر‏.‏ وغيره أنه قال‏:‏ إن الآية نزلت في مانع الزكاة، ووالله لو رأى خيراً لما سأل الرجعة، فقيل له‏:‏ أما تتقي الله تعالى يسأل المؤمنون الكرة‏؟‏ا فأجاب بنحو ما ذكر، ولا يخفى أن الاعتراض عليه وكذا الجواب أوفق بكونه نفسه ادّعى سؤال الرجعة ولم يرفع الحديث بذلك، وإذا كان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلا أَخَّرْتَنِى‏}‏ الخ سؤالاً للرجعة بمعنى الرجوع إلى الدنيا بعد الموت لم يحتج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ أَحَدَكُمُ الموت‏}‏ إلى تقدير مضاف كما سمعت آنفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَن يُؤَخّرَ الله نَفْساً‏}‏ أي ولن يمهلها ‏{‏إِذَا جَاء أَجَلُهَا‏}‏ أي آخر عمرها أو انتهى الزمان الممتد لها من أول العمر إلى آخره على تفسير الأجل به ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ فمجاز عليه، وقرأ أبو بكر بالياء آخر الحروف ليوافق ما قبله في الغيبة ونفساً لكونها نكرة في سياق النفي في معنى الجمع، واستدل الكيا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْفِقُواْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏ الخ على وجوب إخراج الزكاة على الفور ومنع تأخيرها، ونسب للزمخشري أنه قال‏:‏ ليس في الزجر عن التفريط في هذه الحقوق أعظم من ذلك فلا أحد يؤخر ذلك إلا ويجوز أن يأتيه الموت عن قريب فيلزمه التحرز الشديد عن هذا التفريط في كل وقت، وقد أبطل الله تعالى قول المجبرة من جهات‏:‏ منها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْفِقُواْ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏، ومنها أنه إن كان قبل حضور الموت لم يقدر على الانفاق فكيف يتمنى تأخير الأجل، ومنها قوله تعالى‏:‏ مؤيساً له في الجواب‏:‏ ‏{‏وَلَن يُؤَخّرَ الله‏}‏ ولولا أنه مختار لأجيب باستواء التأخير والموت حين التمني، وأجيب بأن أهل الحق لا يقولون بالجبر فالبحث ساقط عنهم على أنه لا دلالة في الأول كما في سائر الأوامر كما حقق في موضعه، والتمني وهو متمسك الفريق لا يصح الاستدلال به، والقول المؤيس إبطال لتمنيهم لا جواب عنه إذ لا استحقاق لوضوح البطلان، والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة التغابن‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

بسم الله الرحمن الرَّحيم ‏{‏يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ أي ينزهه سبحانه وتعالى جميع المخلوقات عما لا يليق بجناب كبريائه سبحانه تسبيحاً مستمراً، وذلك بدلالتها على كمال عز وجل واستغنائه تعالى، والتجدد باعتبار تجدد النظر في وجوه الدلالة على ذلك ‏{‏لَهُ الملك وَلَهُ الحمد‏}‏ لا لغيره تعالى إذ هو جل شأنه المبدىء لكل شيء وهو القائم به والمهيمن عليه وهو عز وجل المولي لأصول النعم وفروعها وأما ملك غيره سبحانه فاسترعاء منه تعالى وتسليط، وأما حمد غيره تبارك وتعالى فلجريان إنعامه تعالى على يده فكلا الأمرين له تعالى في الحقيقة ولغيره بحسب الصورة، وتقديم ‏{‏لَهُ الملك‏}‏ لأنه كالدليل لما بعده ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ‏}‏ لأن نسبة ذاته جل شأنه المقتضية للقدة إلى الكل سواء فلا يتصور كون بعض مقدوراً دون بعض، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ‏}‏ الخ بيان لبعض قدرته تعالى العامة، والمراد هو الذي أوجدكم كما شاء وقوله تعالى‏:‏

‏{‏فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ‏}‏ أي فبعضكم كافر به تعالى وبعضكم مؤمن به عز وجل، أو فبعض منكم كافر به سبحانه وبعض منكم مؤمن به تعالى تفصيل لما في ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ من الإجمال لأن كون بعضهم‏.‏ أو بعض منهم كافراً، وكون بعضهم‏.‏ أو بعض منهم مؤمناً مراد منه فالفاء مثلها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مّن مَّاء فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى على بَطْنِهِ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 45‏]‏ الخ فيكون الكفر والايمان في ضمن الخلق وهو الذي تؤيده الأخبار الصحيحة كخبر البخاري‏.‏ ومسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وأبي داود عن ابن مسعود قال‏:‏ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات‏:‏ يكتب رزقه‏.‏ وأجله‏.‏ وعمله‏.‏ وشقي أو سعيد ثم ينفخ فيه الروح الحديث» وأخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن أبي ذر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا مكث المني في الرحم أربعين ليلة أتاه ملك النفوس فعرج به إلى الرب فيقول‏:‏ يا رب أذكر أم أنثى‏؟‏ فيقضي الله ما هو قاض فيقول‏:‏ أشقي أم سعيد‏؟‏ فيكتب ما هو لاق»‏.‏

وقرأ أبو ذر من فاتحة التغابن خمس آيات إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ المصير‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 3‏]‏ والجمع بين الخبرين مما لا يخفى على من أوتي نصيباً من العلم، وتقديم الكفر لأنه الأغلب‏.‏

واختار بعضهم كون المعنى هو الذي خلقكم خلقاً بديعاً حاوياً لجميع مبادي الكمالات العلمية والعملية، ومع ذلك فمنكم مختار للكفر كاسب له على خلاف ما تستدعيه خلقته، وكان الواجب عليكم جميعاً أن تكونوا مختارين للايمان شاكرين لنعمة الخلق والإيجاد وما يتفرع عليهما من سائر النعم، فما فعلتم ذلك مع تمام تمكنكم منه بل تشعبتم شعباً وتفرقتم فرقاً، وهو الذي ذهب إليه الزمشخري، بيد أنه فسر الكافر بالآتي بالكفر والفاعل له‏.‏ والمؤمن بالآتي بالايمان والفاعل له لأنه الأوفق بمذهبه من أن العبد خالق لأفعاله، وأن الآية لبيان إخلالهم بما يقتضيه التفضل عليهم بأصل النعم الذي هو الخلق والإيجاد من النعم، وأن الآيات بعد في معنى الوعيد على الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته‏.‏ ثم قال‏:‏ فما أجهل من يمزج الكفر وإنكار أن يعصي الخالق ولا تشكر نعمته‏.‏ ثم قال‏:‏ فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق ويجعله من جملته، والخلق أعظم نعمة من الله تعالى على عباده، والكفر أعظم كفران من العباد لربهم سبحانه، وجعل الطيبي الفاء على هذا للترتيب والفرض على سبيل الاستعارة كاللام في قوله تعالى‏:‏

‏{‏فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ وهي كالفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا فِى ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 26‏]‏ ولم يجعلها للتفصيل كما قيل‏.‏

واختار في الآية المعنى السابق مؤيداً له بالأحاديث الصحيحة، وبأن السياق عليه مدعياً أن الآيات كلها واردة لبيان عظمة الله تعالى في ملكه وملكوته واستبداده فيهما، وفي شمول علمه تعالى كلها وفي إنشائه تعالى المكونات ذواتها وأعراضها، ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف، واعترض قول الزمخشري‏:‏ فما أجهل الخ بقوله فيه ما مر مراراً كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقاً كغيره على أن خلق الكفر أيضاً من النعم العظام فلولا خلقه وتبيين ما فيه من المضار ما ظهر مقدار الأنعام بالايمان وما فيه من المنافع، ثم إن كونه كفراً باعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لا باعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه، ثم قال‏:‏ ومنه يظهر أن تكلفه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمِنكُمْ‏}‏ الخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في ‏{‏خَلَقَكُمْ‏}‏ تحريف لكتاب الله تعالى انتهى‏.‏

ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَافِرٍ‏}‏ دون من يكفر ومن يؤمن، نعم عدم دخول الكفر والايمان في الخلق أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَنِيفاً فِطْرَةَ الله التى فَطَرَ الناس عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «كل مولود يولد على الفطرة» والانصاف أن الآية تحتمل كلا من المعنيين‏:‏ المعنى الذي ذكر أولاً‏.‏ والمعنى الذي اختاره البعض، والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصاً في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل‏:‏ إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والايمان لأنهما مكسوبان للعبد، وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما بين في الكلام على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 96‏]‏ لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول، وكأني بك تختار الثاني لأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به، وعن عطاء بن أبي رباح ‏{‏فَمِنكُمْ كَافِرٌ‏}‏ أي بالله تعالى مؤمن بالكوكب ‏{‏وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ‏}‏ بالله تعالى كافر بالكوكب، وقيل‏:‏ ‏{‏فَمِنكُمْ كَافِرٌ‏}‏ بالخلق وهم الدهرية ‏{‏وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ‏}‏ به، وعن الحسن أن في الكلام حذفاً والتقدير ومنكم فاسق، ولا أراه يصح، وكأنه من كذب المعتزلة عليه، والجملة على ما استطهر بعض الأفاضل معطوفة على الصلة، ولا يضره عدم العائد لأن المعطوف بالفاء يكفيه وجود العائد في إحدى الجملتين كما قرروه في نحو الذي يظير فيغضب زيد الذباب، أو يقال‏:‏ فيها رابط بالتأويل أي فمنكم من قدر كفره ومنكم من قدر إيمانه، أو ‏{‏فَمِنكُمْ كَافِرٌ‏}‏ به ‏{‏وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ‏}‏ به، ويقدر الحذف تذريجاً، وجوز أن يكون العطف على جملة ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏خَلَقَ السماوات والارض بالحق‏}‏ بالحكمة البالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية، قيل‏:‏ وأصل الحق مقابل الباطل فأريد به الغرض الصحيح الواقع على أتم الوجوه وهو الحكمة العظيمة‏.‏

‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ حيث برأكم سبحانه في أحسن تقويم وأودع فيكم من القوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة، وقد ذكر بعض المحققين أن الإنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي، وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات وبدنه الذي هو من عالم الماديات وأنشدوا‏:‏ وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر

ولعمري أن الإنسان أعجب نسخة في هذا العالم قد اشتملت على دقائق أسرار شهدت ببعضها الآثار وعلم ما علم منها ذوو الأبصار، وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين كما هو المعروف، وكل ما يشاهد من الصور الإنسانية حسن لكن الحسن كغيره من المعاني على طبقات ومراتب فلانحطاط بعضها عن مراتب ما فوقها انحطاطاً بيناً وإضافتها إلى الموفى عليها لا تستملح وإلا فهي داخلة في حيز الحسن غير خارجة من حده؛ ألا ترى أنك قد تعجب بصورة وتستملحها ولا ترى الدنيا بها ثم ترى أملح وأعلى في مراتب الحسن فينبو عن الأولى طرفك وتستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها وتهالكك عليها، وقالت الحكماء‏:‏ شيآن لا غاية لهما‏:‏ الجمال‏.‏ والبيان‏.‏

وقرأ زيد بن علي‏.‏ وأبو رزين ‏{‏صُوَرَكُمْ‏}‏ بكسر الصاد والقياس الضم كما في قراءة الجمهور‏.‏

‏{‏وَإِلَيْهِ المصير‏}‏ في النشأة الأخرى لا إلى غيره استقلالاً أو اشتراكاً فاصرفوا ما خلق لكم فيما خلق له لئلا يمسخ ما يشاهد من حسنكم بالعذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا فِى السموات والارض‏}‏ من الأمور الكلية والجزئية والأحوال الجلية والخفية ‏{‏وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ‏}‏ أي ما تسرونه فيما بينكم وما تظهرونه من الأمور والتصريح به مع اندراجه فيما قبله للاعتناء بشأنه لأنه الذي يدور عليه الجزاء، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ اعتراض تذييلي مقرر لما قبله من شمول علمه تعالى لسرهم وعلنهم أي هو عز وجل محيط بجميع المضمرات المستكنة في صدور الناس بحيث لا تفارقها أصلاً فكيف يخفى عليه تعالى ما يسرونه وما يعلنونه، وإظهار الجلالة للإشعار بعلة الحكم وتأكيد استقلال الجملة، قيل‏:‏ تقديم تقرير القدرة على العلم لأن دلالة المخلوقات على قدرته تعالى بالذات وعلى علمه سبحانه لما فيها من الإتقان والاختصاص ببعض الأنحاء‏.‏

وقرأ عبيد عن أبي عمرو‏.‏ وأبان عن عاصم ما يسرون وما يعلنون بياء الغيبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ‏}‏ أي أيها الكفرة لدلالة ما بعد على تخصيص الخطاب بهم، وظاهر كلام بعض الأجلة أن المراد بهم أهل مكة فكأنه قيل‏:‏ ألم يأتكم يا أهل مكة ‏{‏نَبَؤُاْ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ‏}‏ كقوم نوح‏.‏ وهود‏.‏ وصالح‏.‏ وغيرهم من الأمم المصرة على الكفرة ‏{‏فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ‏}‏ أي ضرر كفرهم في الدنيا من غير مهلة، وأصل الوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر من الأمور، ومنه الوبيل لطعام يثقل على المعدة، والوابل للمطر الثقيل القطار، واستعمل للضرر لأنه يثقل على الإنسان ثقلاً معنوياً، وعبر عن كفرهم بالأمر للإيذان بأنه أمر هائل وجناية عظيمة ‏{‏وَلَهُمْ‏}‏ في الآخرة ‏{‏عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ لا يقادر قدره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي ما ذكر من العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة ‏{‏بِأَنَّهُ‏}‏ أي بسبب أن الشأن‏.‏

‏{‏كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات‏}‏ بالمعجزات الظاهرة ‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏كَانَتْ‏}‏‏.‏

‏{‏أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا‏}‏ أي قال كل قوم من أولئك الأقوام الذين كفروا في حق رسولهم الذي أتاهم بالمعجزات منكرين لكون الرسول من جنس البشر، أو متعجبين من ذلك أبشر يهدينا كما قالت ثمود‏:‏ ‏{‏أَبَشَراً مّنَّا واحدا نَّتَّبِعُهُ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 24‏]‏، وقد أجمل في الحكاية فأسند القول إلى جميع الأقوام، وأريد بالبشر الجنس، فوصف بالجمع كما أجمل الخطاب، والأمر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ وارتفاع ‏{‏بُشّرَ‏}‏ على الابتداء، وجملة ‏{‏يَهْدُونَنَا‏}‏ هو الخبر عند الحوفي‏.‏ وابن عطية، والأحسن أن يكون مرفوعاً على الفاعلية بفعل محذوف يفسره المذكور لأن همزة الاستفهام أميل إلى الفعل والمادة من باب الاشتغال ‏{‏فَكَفَرُواْ‏}‏ بالرسل عليهم السلام ‏{‏وَتَوَلَّواْ‏}‏ عن التأمل فيما أتوا به من البينات؛ وعن الإيمان بهم ‏{‏واستغنى الله‏}‏ أي أظهر سبحانه غناه عن إيمانهم وعن طاعتهم حيث أهلكهم وقطع دابرهم، ولولا غناه عز وجل عنهما لما فعل ذلك، والجملة عطف على ما قبلها، وقيل‏:‏ في موضع الحال على أن المعنى ‏{‏فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ‏}‏ وقد استغنى الله تعالى عن كل شيء، والأول هو الوجه ‏{‏والله غَنِىٌّ‏}‏ عن العالمين فضلاً عن إيمانهم وطاعتهم ‏{‏حَمِيدٌ‏}‏ يحمده كل مخلوق بلسان الحال الذي هو أفصح من لسان المقال، أو مستحق جل شأنه للحمد بذاته وإن لم يحمده سبحانه حامد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏زَعَمَ الذين كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ‏}‏ الزعم العلم، وأكثر ما يستعمل للادعاء الباطل‏.‏

وعن ابن عمر‏.‏ وابن شريح إنه كنية الكذب، واشتهر أنه مطية الكذب، ولما فيه من معنى العلم يتعدى إلى مفعولين، وقد قام مقامهما هنا ‏{‏ءانٍ‏}‏ المخففة وما في حيزها، والمراد بالموصول على ما في «الكشاف» أهل مكة فهو على ما سمعت في الخطاب من إقامة الظاهر مقام المضمر، ويؤيده ظاهراً قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ بلى وَرَبّى لَتُبْعَثُنَّ‏}‏ قال في «الكشف»‏:‏ ويحتمل التعميم فيتناولهم وأضرابهم لتقدم كفار مكة في الذكر وغيرهم ممن حملوا على الاعتبار بحالهم، وهذا أبلغ أي زعموا أن الشأن لن يبعثوا بعد موتهم ‏{‏قُلْ‏}‏ رداً عليهم وإظهاراً لبطلان زعمهم بإثبات ما نفوه بلى تبعثون، وأكد ذلك بالجملة القسمية فهي داخلة في حيز الأمر، وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ‏}‏ أي لتحاسبن وتجزون بأعمالكم، وزيد ذلك لبيان تحقق أمر آخر متفرع على البعث منوط به ففيه أيضاً تأكيد له ‏{‏وَذَلِكَ‏}‏ أي ما ذكر من البعث والجزاء ‏{‏عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ لتحقق القدرة التامة، وقبول المادة؛ والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏فَئَامِنُواْ‏}‏ مفصحة بشرط قد حذف ثقة بغاية ظهوره أي إذا كان الأمر كذلك ‏{‏فَئَامِنُواْ‏}‏‏.‏

‏{‏بالله‏}‏ الذي سمعتم ما سمعتم من شؤونه عز وجل ‏{‏وَرَسُولُهُ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏والنور الذى أَنزَلْنَا‏}‏ وهو القرآن، فإنه بإعجازه بين بنفسه مبين لغيره كما أن النور كذلك، والالتفات إلى نون العظمة لإبراز العناية بأمر الإنزال، وفي ذلك من تعظيم شأن القرآن ما فيه ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الامتثال بالأمر وتركه ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ عالم بباطنه‏.‏

والمراد كمال علمه تعالى بذلك، وقيل‏:‏ عالم بأخباره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ‏}‏ ظرف ‏{‏لَتُنَبَّؤُنَّ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَئَامِنُواْ‏}‏ إلى ‏{‏خَبِيرٌ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 8‏]‏ من الاعتراض، فالأول‏:‏ يحقق القدرة على البعث، والثاني‏:‏ يؤكد ما سيق له الكلام من الحث على الإيمان به وبما تضمنه من الكتاب وبمن جاء به، وبالحقيقة هو نتيجة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ‏}‏ قدم على معموله للاهتمام فجرى مجرى الاعتراض، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ‏}‏ اعتراض في اعتراض لأنه من تتمة الحث على الإيمان كما تقول‏:‏ اعمل إني غير غافل عنك، وقال الحوفي‏:‏ ظرف لخبير وهو عند غير واحد من الأجلة بمعنى مجازيكم فيتضمن الوعد والوعيد‏.‏

وجعله الزمخشري بمعنى معاقبكم، ثم جوز هذا الوجه، وتعقب بأنه يرد عليه أنه ليس لمجرد الوعيد بل للحث كيف لا والوعيد قد تم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ‏}‏ ‏[‏التغابن‏:‏ 7‏]‏ فلم يحسن جعله بمعنى معاقبكم فتدبر، وجوز كونه منصوباً بإضمار اذكر مقدراً، وتعقب بأنه وإن كان حسناً إلا أنه حذف لا قرينة ظاهرة عليه، وجوز كونه منصوباً بإضمار اذكر مقدراً، وتعقب بأنه وإن كان حسناً إلا أنه حذف لا قرينة ظاهرة عليه، وجوز كونه ظرفاً لمحذوف بقرينة السياق أي يكون من الأحوال والأهوال ما لا يحيط به نطاق المقال يوم يجمعكم، وتعقب بأن فيه ارتكاب حذف لا يحتاج إليه، فالأرجح الوجه الأول، وقرىء ‏{‏يَجْمَعُكُمْ‏}‏ بسكون العين، وقد يسكن الفعل المضارع المرفوع مع ضمير جمع المخاطبين المنصوب، وروي إشمامها الضم، وقرأ سلام‏.‏ ويعقوب‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ والشعبي نجمعكم بالنون ‏{‏لِيَوْمِ الجمع‏}‏ ليوم يجمع فيه الأولون والآخرون، وقيل‏:‏ الملائكة عليهم السلام والثقلان، وقيل‏:‏ غير ذلك، والأول أظهر، واللام قيل‏:‏ للتعليل، وفي الكلام مضاف مقدر أي لأجل ما في يوم الجمع من الحساب، وقيل‏:‏ بمعنى في فلا تقدير ‏{‏ذَلِكَ يَوْمُ التغابن‏}‏ أخرج عبد بن حميد عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة أنهم قالوا‏:‏ يوم غبن فيه أهل الجنة أهل النار فالتفاعل فيه ليس على ظاهره كما في التواضع والتحامل لوقوعه من جانب واحد، واختير للمبالغة، وإلى هذا ذهب الواحدي‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ أي يوم غبن فيه بعض الناس بعضاً بنزول السعداء منازل الأشقياء لو كانوا سعداء وبالعكس، ففي الصحيح «ما من عبد يدخل الجنة إلا أري مقعده من النار لو أساء ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أري مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة» وهو مستعار من تغابن القوم في التجارة، وفيه تهكم بالأشقياء لأنهم لا يغبنون حقيقة السعداء بنزولهم في منازلهم من النار، أو جعل ذلك تغابناً مبالغة على طريق المشاكلة فالتفاعل على هذا القول على ظاهره وهو حسن إلا أن التغابن فيه تغابن السعداء والأشقياء على التقابل، والأحسن الإطلاق، وتغابن السعداء على الزيادة ثبت في الصحاح، واختار ذلك محي السنة حيث قال‏:‏ التغابن تفاعل من الغبن وهو فوت الحظ، والمراد بالمغبون من غبن في أهله ومنازله في الجنة فيظهر يومئذٍ غبن كل كافر بترك الإيمان وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان، قال الطيبي‏:‏ وعلى هذا الراغب حيث قال‏:‏ الغبن أن يبخس صاحبك في معاملة بينك وبينه بضرب من الإخفاء فإن كان ذلك في مال يقال‏:‏ غبن فلان بضم الغين وكسر الباء، وإن كان في رأي يقال‏:‏ غبن بفتح الغين وكسر الباء، و‏{‏يَوْمُ التغابن‏}‏ يوم القيامة لظهور الغبن في المبايعة المشار إليها بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 207‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 111‏]‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ فعلم أنهم قد غبنوا فيما تركوا من المبايعة وفيما تعاطوه من ذلك جميعاً انتهى، والجملة مبتدأ وخبر، والتعريف للجنس، وفيها دلالة على استعظام ذلك اليوم وأن تغابنه هو التغابن في الحقيقة لا التغابن في أمور الدنيا وإن جلت وعظمت‏.‏

‏{‏وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صالحا‏}‏ أي عملاً صالحاً ‏{‏يَكْفُرْ‏}‏ أي الله تعالى ‏{‏عَنْهُ سيئاته‏}‏ في ذلك اليوم ‏{‏وَيُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار خالدين فِيهَا أَبَدًا‏}‏ أي مقدرين الخلود فيها، والجمع باعتبار معنى ‏{‏مِنْ‏}‏ كما أن الإفراد باعتبار لفظه، وقرأ الأعرج‏.‏ وشيبة‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وطلحة‏.‏ ونافع‏.‏ وابن عامر‏.‏ والمفضل عن عاصم‏.‏ وزيد بن علي‏.‏ والحسن بخلاف عنه نكفر‏.‏ وندخله بنون العظمة فيهما ‏{‏ذلك‏}‏ أي ما ذكر من تكفير السيآت وإدخال الجنات ‏{‏الفوز العظيم‏}‏ الذي لا فوز وراءه لانطوائه على النجاة من أعظم الهلكات والظفر بأجل الطلبات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أُولَئِكَ أصحاب النار خالدين فِيهَا وَبِئْسَ المصير‏}‏ أي النار، وكأن هذه الآية والتي قبلها لاحتوائهما على منازل السعداء والأشقياء بيان للتغابن على تفسيره بتغابن الفريقين على التقابل ولما فيه من التفصيل نزل منزلة المغاير فعطف بالواو وكذا على الإطلاق لكنه عليه بيان في الجملة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ‏}‏ أي ما أصاب أحداً مصيبة على أن المفعول محذوف، و‏{‏مِنْ‏}‏ زائدة، و‏{‏مُّصِيبَةٍ‏}‏ فاعل، وعدم إلحاق التاء في مثل ذلك فصيح لكن الإلحاق أكثر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 5‏]‏ ‏{‏وَمَا تَأْتِيهِم مّنْ ءايَةٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 4‏]‏ والمراد بالمصيبة الرزية وما يسوء العبد في نفس‏.‏ أو مال‏.‏ أو ولد‏.‏ أو قول‏.‏ أو فعل أي ما أصاب أحداً من رزايا الدنيا أي رزية كانت ‏{‏إِلاَّ بِإِذْنِ الله‏}‏ أي بإرادته سبحانه وتمكينه عز وجل كأن الرزية بذاتها متوجهة إلى العبد متوقفة على إرادته تعالى وتمكينه جل وعلا، وجوز أن يراد بالمصيبة الحادثة من شر أو خير، وقد نصوا على أنها تستعمل فيما يصيب العبد من الخير وفيما يصيبه من الشر لكن قيل‏:‏ إنها في الأول‏:‏ من الصوب أي المطر، وفي الثاني‏:‏ من إصابة السهم، والأول هو الظاهر، وإن كان الحكم بالتوقف على الإذن عاماً‏.‏

‏{‏وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ عند إصابتها للصبر والاسترجاع على ما قيل، وعن علقمة للعلم بأنها من عند الله تعالى فيسلم لأمر الله تعالى ويرضى بها، وعن ابن مسعود قريب منه، وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ لليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وقيل‏:‏ ‏{‏يَهْدِ قَلْبَهُ‏}‏ أي يلطف به ويشرحه لازدياد الخير والطاعة، وقرأ ابن جبير‏.‏ وطلحة‏.‏ وابن هرمز‏.‏ والأزرق عن حمزة نهد بنون العظمة‏.‏

وقرأ السلمي‏.‏ والضحاك‏.‏ وأبو جعفر ‏{‏يَهْدِ‏}‏ بالياء مبنياً للمفعول ‏{‏قَلْبَهُ‏}‏ بالرفع على النيابة عن الفاعل، وقرىء كذلك لكن بنصب ‏{‏قَلْبَهُ‏}‏، وخرج على أن نائب الفاعل ضمير ‏{‏مِنْ‏}‏ و‏{‏قَلْبَهُ‏}‏ منصوب بنزع الخافض أي يهد في قلبه، أو يهد إلى قلبه على معنى أن الكافر ضال عن قلبه بعيد منه، والمؤمن واجد له مهتد إليه كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 37‏]‏ فالكلام من الحذف والإيصال نحو ‏{‏اهدنا الصراط المستقيم‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 6‏]‏، وفيه جعل القلب بمنزلة المقصد فمن ضل فقد منع منه ومن وصل فقد هدي إليه، وجوز أن يكون نصبه على التمييز بناءاً على أنه يجوز تعريفه‏.‏

وقرأ عكرمة‏.‏ وعمرو بن دينار‏.‏ ومالك بن دينار يهدأ بهمزة ساكنة ‏{‏قَلْبَهُ‏}‏ بالرفع أي يطمئن قلبه ويسكن الإيمان ولا يكون فيه قلق واضطارب، وقرأ عمرو بن قايد يهدا بألف بدلاً من الهمزة الساكنة، وعكرمة‏.‏ ومالك بن دينار أيضاً ‏{‏يَهْدِ‏}‏ بحذف الألف بعد إبدالها من الهمزة، وإبدال الهمزة في مثل ذلك ليس بقياس على ما قال أبو حيان، وأجاز ذلك بعضهم قياساً، وبني عليه جواز حذف تلك الألف للجازم، وخرج عليه قول زهير بن أبي سلمى

‏:‏ جرى متى يظلم يعاقب بظلمه *** سريعاً وأن «لا يبد» بالظلم يظلم

أصله يبدأ فأبدلت الهمزة ألفاً ثم حذفت للجازم تشبيهاً بألف يخشى إذا دخل عليه الجازم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله بِكُلّ شَيْء‏}‏ من الأشياء التي من جملتها القلوب وأحوالها ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ فيعلم إيمان المؤمن ويهدي قلبه عند إصابة المصيبة؛ فالجملة متعلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يُؤْمِن‏}‏ الخ، وجوز أن تكون متعلقة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ‏}‏ الخ على أنها تذييل له للتقرير والتأكيد، وذكر الطيبي أن في كلام الكشاف رمزاً إلى أن في الآية حذفاً أي فمن لم يؤمن لم يلطف به أو لم يهد قلبه، ومن يؤمن بالله يهد قلبه، وبنى عليه أن المصيبة تشمل الكفر والمعاصي أيضاً لورودها عقيب جزاء المؤمن والكافر وإردافها بالأمر الآتي» وأي مصيبة أعظم منهما‏؟‏ وهو كما أشار إليه يدفع في نحر المعتزلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ كرر الأمر للتأكيد والإيذان بالفرق بين الإطاعتين في الكيفية، وتوضيح مورد التولي في قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَإِن تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أي عن إطاعة الرسول، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين‏}‏ تعليل للجواب المحذوف أقيم مقامه أي فلا بأس عليه إذ ما عليه إلا التبليغ المبين وقد فعل ذلك بما لا مزيد عليه، وإظهار الرسول مضافاً إلى نون العظمة في مقام إضماره لتشريفه عليه الصلاة والسلام، والإشعار بمدار الحكم الذي هو كون وظيفته صلى الله عليه وسلم محض البلاغ ولزيادة تشنيع التولي عنه، والحصر في الكلام إضافي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ الكلام فيها كالكلام في كلمة التوحيد، وقد مر وحلا ‏{‏وَعَلَى الله‏}‏ أي عليه تعالى خاصة دون غيره لا استقلالاً ولا اشتراكاً ‏{‏فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ وإظهار الجلالة في موقع الإضمار للإشعار بعلة التوكل‏.‏ أو الأمر به فإن الألوهية مقتضية للتبتل إليه تعالى بالكلية، وقطع التعلق بالمرة عما سواه من البرية، وذكر بعض الأجلة أن تخصيص المؤمنين بالأمر بالتوكل لأن الإيمان بأن الكل منه تعالى يقتضي التوكل، ومن هنا قيل‏:‏ ليس في الآيات لمن تأمل في الحث على التوكل أعظم من هذه الآية لإيمائها إلى أن من لا يتوكل على الله تعالى ليس بمؤمن، وهي على ما قال الطيبي‏:‏ كالخاتمة والفذلكة لما تقدم، وكالمخلص إلى مشرع آخر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم وأولادكم عَدُوّاً لَّكُمْ‏}‏ أي إن بعضهم كذلك فمن الأزواج أزواجاً يعادين بعولتهن ويخاصمنهم ويجلبن عليهم، ومن الأولاد أولاداً يعادون آباءهم ويعقونهم ويجرعونهم الغصص والأذى، وقد شاهدنا من الأزواج من قتلت زوجها، ومن أفسدت عقله بإطعام بعض المفسدات للعقل، ومن كسرت قارورة عرضه، ومن مزقت كيس ماله ومن، ومن وكذا من الأولاد من فعل نحو ذلك ‏{‏فاحذروهم‏}‏ أي كونوا منهم على حذر ولا تأمنوا غوائلهم وشرهم، والضمير للعدو فإنه يطلق على الجمع نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِى‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 77‏]‏ فالمأمور به الحذر عن الكل، أو للأزواج، والأولاد جميعاً، فالمأمور به إما الحذر عن البعض لأن منهم من ليس بعدو، وإما الحذر عن مجموع الفريقين لاشتمالهم على العدو ‏{‏وَأَن تَعْفُواْ‏}‏ عن ذنوبهم القابلة للعفو بأن تكون متعلقة بأمور الدنيا، أو بأمور الدين لكن مقارنة للتوبة بأن لم تعاقبوهم عليها ‏{‏وَتَصْفَحُواْ‏}‏ تعرضوا بترك التثريب والتعيير ‏{‏وَتَغْفِرُواْ‏}‏ تستروها بإخفائها وتمهيد معذرتهم فيها ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ قائم مقام الجواب، والمراد يعاملكم بمثل ما عملتم، ويتفضل عليكم فإنه عز وجل ‏{‏غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ولما كان التكليف ههنا شاقاً لأن الأذى الصادر ممن أحسنت إليه أشد نكاية وأبعث على الانتقام ناسب التأكيد في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَن تَعْفُواْ‏}‏ الخ، وقال غير واحد‏:‏ إن عداوتهم من حيث إنهم يحولون بينهم وبين الطاعات والأمور النافعة لهم في آخرتهم، وقد يحملونهم على السعي في اكتساب الحرام وارتكاب الآثام لمنفعة أنفسهم كما روي عنه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يأتي زمان على أمتي يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك»‏.‏

ومن الناس من يحمله حبهم والشفقة عليهم على أن يكونوا في عيش رغد في حياته وبعد مماته فيرتكب المحظورات لتحصيل ما يكون سبباً لذلك وإن لم يطلبوه منه فيهلك، وسبب النزول أوفق بهذا القول‏.‏

أخرج الترمذي‏.‏ والحاكم وصححاه‏.‏ وابن جرير‏.‏ وغيرهم عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏{‏المؤمنون يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم‏}‏ الخ في قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى الآية؛ وفي رواية أخرى عنه أنه قال‏:‏ كان الرجل يريد الهجرة فيحبسه امرأته وولده فيقول‏:‏ أما والله لئن جمع الله تعالى بيني وبينكم في دار الهجرة لأفعلنّ ولأفعلنّ فجمع الله عز وجل بينهم في دار الهجرة فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏المؤمنون يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إِنَّ مِنْ أزواجكم‏}‏ الآية‏.‏

وقيل‏:‏ إنهم قالوا لهم لئن جمعنا الله تعالى في دار الهجرة لم نصبكم بخير فلما هاجروا منعوهم الخير فنزلت، وعن عطاء بن أبي رباح أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمع أهله أولاده فثبطوه وشكوا إليه فراقه فرق ولم يغز، ثم إنه ندم فهم بمعاقبتهم فنزلت، واستدل بها على أنه لا ينبغي للرجل أن يحقد على زوجه وولده إذا جنوا معه جناية وأن لا يدعو عليهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏}‏ أي بلاء ومحنة لأنهم يترتب عليهم الوقوع في الإثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك، وفي الحديث ‏"‏ يؤتى برجل يوم القيامة فيقال‏:‏ أكل عياله حسناته ‏"‏ وعن بعض السلف العيال سوس الطاعات‏.‏

وأخرج الإمام أحمد‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والحاكم وصححه عن بريدة قال‏:‏ ‏"‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فأقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل رسول الله عليه الصلاة والسلام من المنبر فحملهما واحداً من ذا الشق وواحداً من ذا الشق، ثم صعد المنبر فقال‏:‏ صدق الله ‏{‏إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏}‏ إني لما نظرت إلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إليهما ‏"‏ وفي رواية ابن مردويه عن عبد الله بن عمر «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يخطب الناس على المنبر خرج حسين بن علي على رسول الله عليهما الصلاة والسلام فوطىء في ثوب كان عليه فسقط فبكى فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنبر فلما رآه الناس سعوا إلى حسين يتعاطونه يعطيه بعضهم بعضاً حتى وقع في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ قاتل الله الشيطان إن الولد لفتنة، والذي نفسي بيده ما دريت أني نزلت عن منبري»‏.‏

وقيل‏:‏ إذا أمكنكم الجهاد والهجرة فلا يفتنكم الميل إلى الأموال والأولاد عنهما قال في «الكشف»‏:‏ الفتنة على هذا الميل إلى الأموال والأولاد دون العقوبة والإثم، وقدمت الأموال قيل‏:‏ لأنها أعظم فتنة ‏{‏كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّءاهُ استغنى‏}‏ ‏[‏العلق‏:‏ 6، 7‏]‏، وأخرج أحمد‏.‏ والطبراني‏.‏ والحاكم‏.‏ والترمذي وصححه عن كعب بن عياض سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إن لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال ‏"‏‏.‏

وأخرج نحوه ابن مردويه عن عبد الله بن أوفى مرفوعاً؛ وكأنه لغلبة الفتنة في الأموال والأولاد لم تذكر من التبعيضية كما ذكرت فيما تقدم ‏{‏والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ لمن آثر محبة الله تعالى وطاعته على محبة الأموال والأولاد والسعي في مصالحهم على وجه يخل بذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ أي ابذلوا في تقواه عز وجل جهدكم وطاقتكم كما أخرجه عبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر عن الربيع بن أنس، وحكي عن أبي العالية‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ اشتد على القوم العمل فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم فأنزل الله تعالى تخفيفاً على المسلمين ‏{‏فاتقوا الله مَا استطعتم‏}‏ فنسخت الآية الأولى، وجاء عن قتادة نحو منه، وعن مجاهد المراد أن يطاع سبحانه فلا يعصى، والكثير على أن هذا هو المراد في الآية التي ذكرناها ‏{‏واسمعوا‏}‏ مواعظه تعالى ‏{‏وَأَطِيعُواْ‏}‏ أوامره عز وجل ونواهيه سبحانه ‏{‏وَأَنْفِقُواْ‏}‏ مما رزقكم في الوجوه التي أمركم بالإنفاق فيها خالصاً لوجهه جل شأنه كما يؤذن به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَيْراً لاِنفُسِكُمْ‏}‏ وذكر ذلك تخصيص بعد تعميم، ونصب ‏{‏خَيْرًا‏}‏ عند سيبويه على أنه مفعول به لفعل محذوف أي وأتوا خيراً لأنفسكم أي افعلوا ما هو خير لها وأنفع، وهذا تأكيد للحث على امتثال هذه الأوامر وبيان لكون الأمور خيراً لأنفسهم من الأموال والأولاد، وفيه شمة من التجريد، وعند أبي عبيد على أنه خبر ليكن مقدراً جواباً للأمر أي يكن خيراً، وعند الفراء‏.‏ والكسائي على أنه نعت لمصدر محذوف أي إنفاقاً خيراً، وقيل‏:‏ هو نصب بأنفقوا والخير المال، وفيه بعد من حيث المعنى، وقال بعض الكوفيين‏:‏ هو نصب على الحال وهو بعيد في المعنى والإعراب ‏{‏وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ‏}‏ وهو البخل مع الحرص‏.‏

‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون‏}‏ الفائزون بكل مرام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تُقْرِضُواْ الله‏}‏ تصرفوا المال إلى المصارف التي عينها عز وجل، وفي الكلام استعارة تمثيلية ‏{‏قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ مقروناً بالإخلاص وطيب النفس‏.‏

‏{‏يضاعفه لَكُمْ‏}‏ يجعل لكم جل شأنه بالواحد عشراً إلى سبعمائة وأكثر، وقرىء يضعفه ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ببركة الإنفاق ما فرط منكم من بعض الذنوب ‏{‏والله شَكُورٌ‏}‏ يعطى الجزيل بمقابلة النزر القليل ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاجل بالعقوبة مع كثرة الذنوب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏عَالِمُ الغيب والشهادة‏}‏ لا يخفى عليه سبحانه شيء ‏{‏العزيز الحكيم‏}‏ المبالغ في القدرة والحكمة، وفي الآية من الترغيب بالإنفاق ما فيها لكن اختلف في المراد به فقيل‏:‏ الإنفاق المفروض يعني الزكاة المفروضة وقد صرح به، وقيل‏:‏ الإنفاق المندوب، وقيل‏:‏ ما يعم الكل، والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة الطلاق‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ خص النداء به صلى الله عليه وسلم وعم الخطاب بالحكم لأن النبي عليه الصلاة والسلام إمام أمته كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم‏:‏ يا فلان افعلوا كيت وكيت إظهاراً لتقدمه واعتباراً لترؤسه، وأنه المتكلم عنهم والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكمهم كلهم وساداً مسد جميعهم، وفي ذلك من إظهار جلالة منصبه عليه الصلاة والسلام ما فيه، ولذلك اختير لفظ ‏{‏النبى‏}‏ لما فيه من الدلالة على علو مرتبته صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ الخطاب كالنداء له صلى الله عليه وسلم إلا أنه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله‏:‏ ألا فارحموني يا إله محمد *** وقيل‏:‏ إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريماً له صلى الله عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيماً، وجعل بعضهم الكلام على هذا بتقدير القول أي قل لأمتك‏:‏ ‏{‏إِذَا طَلَّقْتُمُ‏}‏، وقيل‏:‏ حذف نداء الأمة، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم، وأياً مّا كان فالمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه، واتفقوا على أنه لولا هذا التجوز لم يستقم الكلام لما فيه من تحصيل الحاصل، أو كون المعنى إذا طلقتم فطلقوهن مرة أخرى وهو غير مراد، وقال بعض المحققين‏:‏ لك أن تقول‏:‏ لا حاجة إلى ذلك بل هو من تعليق الخاص بالعام وهو أبلغ في الدلالة على اللزوم كما يقال‏:‏ إن ضربت زيداً فاضربه ضرباً مبرحاً لأن المعنى إن يصدر منك ضرب فليكن ضرباً شديداً، وهو أحسن من تأويله بالإرادة فتدبر انتهى، وأنت تعلم أن المتبادر فيما ذكره كونه على معنى الإرادة أيضاً ‏{‏فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏ أي لاستقبال عدتهن، واللام للتوقيت نحو كتبته لأربع ليال يقين من جمادى الأولى، أو مستقبلات لها على ما قدره الزمخشري، وتعقبه أبو حيان بما فيه نظر واعتبار الاستقبال رأي من يرى أن العدة بالحيض وهي القروء في آية البقرة كالإمام أبي حنيفة ليكون الطلاق في الطهر وهو الطلاق المأمور به، والمراد بالأمر بإيقاعه في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض‏.‏

وقد صرحوا جميعاً بأن ذلك طلاق بدعى حرام، وقيد الطهر بكونه لم يجامعن فيه، واستدل لذلك، ولاعتبار الاستقبال بما أخرجه الإمامان‏:‏ مالك‏.‏ والشافعي‏.‏ والشيخان‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ وآخرون عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء»

وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن وكان ابن عمر كما أخرج عنه ابن المنذر‏.‏ وغيره يقرأ كذلك، وكذلك ابن عباس، وفي رواية عنهما أنهما قرآ لقبل عدتهن‏.‏ ومن يرى أن العدة بالاطهار وهي القروء في تلك الآية كالإمام الشافعي يعلق لام التوقيت بالفعل ولا يعتبر الاستقبال، واعترض على التأويل بمستقبلات لعدتهن بأنه إن أريد التلبس بأولها فهو للسافعي، ومن يرى رأيه لا عليه وعلى الخالف لا له، وإن أريد المشارفة عادة فخلاف مقتضى اللفظ لأن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التأقيت والاختصاص بذلك الوقت لا استقبال الوقت، وعلى الاستدلال بقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم تعالى عله وسلم حسبما تضمنه الحديث السابق بأن قبل الشيء أو له نقيض دبره فهي مؤكدة لمذهب الشافعي لا دافعة له، ويشهد لكون العدة بالإطهار قراءة ابن مسعود لقبل طهرهن ومنهم من قال‏:‏ التقدير لاطهار عدتهن، وتعقب بأنه إن جعلت الإضافة بمعنى من دل على أن القرء هو الحيض والطهر معاً، وإن جعلت بمعنى اللام فيكفي ما في قولك لإطهار الحيض من التنافر رداً مع ما فيه من الإضمار من غير دليل‏.‏

وفي الكشاف المراد أي من الآية أن يطلقن في طهر لم يجامعن فيه، ثم يخلين حتى تنقضي عدتهن وهو أحسن الطلاق وأدخله في السنة وأبعد من الندم، ويدل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستحبون أن لا يطلقها للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة، وكان أحسن عندهم من أن يطلق الرجل ثلاثاً في ثلاثة أطهار، وقال مالك‏:‏ لا أعرف طلاق السنة إلا واحدة وكان يكره الثلاث مجموعة كانت أو مفروقة، وأما أبو حنيفة‏.‏ وأصحابه فإنما كرهوا ما زاد على الواحدة في طهر واحد فأما مفروقا في الاطهار فلا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عمر حين طلق امرأته وهي حائض‏:‏ «ما هكذا أمرك الله إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً وتطلقها لكل قرء تطليقة» وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال لعمر‏:‏ «مر ابنك فليراجعها ثم ليدعها حتى تحيض ثم تطهر ثم ليطلقها إن شاء»‏.‏

وعند الشافعي لا بأس بإرسال الثلاث، وقال‏:‏ لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة وهو مباح، فمالك يراعي في طلاق السنة الواحدة‏.‏

والوقت، وأبو حنيفة يراعى التفريق‏.‏ والوقت، والشافعي يراعى الوقت انتهى‏.‏

وفي فتح القدير في الاحتجاج على عدم كراهة التفريق على الاطهار وكونه من الطلاق السني رواية غير ما ذكر عن ابن عمر أيضاً، وقد قال فيها ما قال إلا أنه في الآخرة رجح قبولها، والمراد بإرسال الثلاث دفعة ما يعم كونها بألفاظ متعددة كأن يقال‏:‏ أنت طالق أنت طالق أنت طالق، أو بلفظ واحد كأن يقال‏:‏ أنت طالق ثلاثاً، وفي وقوع هذا ثلاثاً خلاف، وكذا في وقوع الطلاق مطلقاً في الحيض، فعند الإمامية لا يقع الطلاق بلفظ الثلاث‏.‏ ولا في حالة الحيض لأنه بدعة محرمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» ونقله غير واحد عن ابن المسيب‏.‏ وجماعة من التابعين، وقال قوم منهم فيما قيل طاوس‏.‏ وعكرمة‏:‏ الطلاق الثلاث بفم واحد يقع به واحدة، وروي هذا أبو داود عن ابن عباس وهو اختيار ابن تيمية من الحنابلة وفي الصحيحين أن أبا الصهباء قال لابن عباس‏:‏ ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأبي بكر‏.‏ وصدر من خلافة عمر قال‏:‏ نعم، وفي رواية لمسلم أن ابن عباس قال‏:‏ كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأبي بكر‏.‏ وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فقال عمر‏:‏ إن الناس قد استعجلوا في أمر كان لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم، ومنهم من قال في المدخول بها‏:‏ يقع ثلاث، وفي الغير واحدة لما في مسلم‏.‏ وأبي داود‏.‏ والنسائي أن أبا الصهباء كان كثير السؤال من ابن عباس قال‏:‏ أما علمت أن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة‏؟‏ فقال ابن عباس‏:‏ بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثاً قبل أن يدخل بها جعلوا ذلك واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأبي بكر‏.‏ وصدر من خلافة عمر الحديث، والذي ذهب إليه جمهور الصحابة‏.‏ والتابعين، ومن بعدهم من أئمة المسلمين ومنهم الأئمة الأربعة وقوع الثلاث بفم واحد‏.‏ بل ذكر الإمام ابن الهمام وقوع الإجماع السكوتي من الصحابة على الوقوع‏.‏

ونقل عن أكثر مجتهديهم كعلي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وابن عباس‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وأبي هريرة‏.‏ وعثمان بن عفان‏.‏ وعبد الله بن عمرو بن العاص الإفتاء الصريح بذلك، وذكر أيضاً أن إمضاء عمر الثلاث عليهم مع عدم مخالفة الصحابة له مع علمهم بأنه كانت واحدة لا يمكن إلا لأنهم قد اطلعوا في الزمان المتأخر على وجود ناسخ، أو لعلمهم بانتهاء الحكم لعلمهم بإناطته بمعان علموا انتهاءها في الزمان المتأخر، واستحسن ابن حجر في التحفة الجواب بالاطلاع على ناسخ بعد نقله جوابين سواه وتزييفه لهما، وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى بعض أخبار مرفوعة يستدل بها على وقوع الثلاث، لكن قيل‏:‏ إن الثلاث فيها يحتمل أن تكون بألفاظ ثلاثة كأنت طالق أنت طالق أنت طالق، ولعله هو الظاهر لا بلفظ واحد كأنت طالق ثلاثاً، وحينئذ لا يصلح ذلك للرد على من لم يوقع الثلاث بهذا اللفظ لكن إذا صح الإجماع ولو سكوتياً على الوقوع لا ينبغي إلا الموافقة والسكوت، وتأويل ما روي عن عمر، ولذا قال بعض الأئمة‏:‏ لو حكم قاض بأن الثلاث بفم واحد واحدة لم ينفذ حكمه لأنه لا يسوغ الاجتهاد فيه لإجماع الأئمة المعتبرين عليه، وإن اختلفوا في معصية من يوقعه كذلك، ومن قال‏:‏ بمعصيته استدل بما روي النسائي عن محمود بن لبيد قال‏:‏

«أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاثاً جميعاً فقام غضبان فقال‏:‏ أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم‏؟‏ا حتى قام رجل فقال‏:‏ يا رسول الله ألا أقتله» وبما أخرجه عبد الرزاق عن عبادة بن الصامت أن أباه طلق امرأة له ألف تطليقة فانطلق عبادة فسأله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «بانت بثلاث في معصية الله وبقي تسعمائة وسبعة وتسعون عدوان وظلم إن شاء الله تعالى عذبه وإن شاء غفر له» ويفهم من هذا حرمة إيقاع الزائد أيضاً وهو ظاهر كلام ابن الرفعة، ومقتضى قول الروياني واعتمده الزركشي‏.‏ وغيره أنه يعزر فاعله، ووجه بأنه تعاطي نحو عقد فاسد وهو حرام، ونوزع في ذلك بما فيه نظر، وبما في سنن أبي داود عن مجاهد قال‏:‏ كنت عند ابن عباس فجاءه رجل فقال‏:‏ إنه طلق زوجته ثلاثاً فقال له‏:‏ عصيت ربك وبانت منك امرأتك إلى غير ذلك‏.‏

ومن قال بعدمها استدل بما رواه الشيخان من أن عويمراً العجلاني لما لاعن امرأته طلقها ثلاثاً قبل أن يخبره صلى الله عليه وسلم بحرمتها عليه، وقال‏:‏ إنه لو كان معصية لنهاه عنه لأنه أوقعه معتقداً بقاء الزوجية، ومع اعتقادها يحرم الجمع عند المخالف، ومع الحرمة يجب الإنكار على العالم وتعليم الجاهل ولم يوجدا، فدل على أن لا حرمة وبأنه قد فعله‏.‏ جماعة من الصحابة منهم عبد الرحمن بن عوف طلق زوجته تماضر ثلاثاً في موضعه‏.‏ والحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما طلق زوجته شهبانوا ثلاثاً لما هنته بالخلافة بعد وفاة علي كرم الله تعالى وجهه، وقال بعض الحنفية في ذلك‏:‏ إنه محمول على أنهم قالوا‏:‏ ثلاثاً للسنة، وهو أبعد من قول بعض الشافعية فيما روي من الأدلة الدالة على العصيان فيه أنه محمول على أنه كان في الحيض فالمعصية فيه من تلك الحيثية‏.‏

واستدل على كونه معصية إذا كان في الحيض بما هو أظهر من ذلك كالروايتين السابقتين فيما نقل عن الكشاف، وفي الاستدلال بهما على حرمة إرسال الثلاث بحث، وربما يستدل بالثانية على وجوب الرجعة لكن قد ذكر بعض أجلة السافعية أنها لا تجب بل تندب في الطلاق البدعي، وإنما لم تجب لأن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء، وليس في فليراجعها أمر لابن عمر لأنه تفريع على أمر عمر، فالمعني فليراجعها لأجل أمرك لكونك والده، واستفادة الندب منه حينئذ إنما هي من القرينة، وإذا راجع ارتفع الاثم المتعلق بحق الزوجة لا في الرجعة قاطعة للضرر من أصله فكانت بمنزلة التوبة ترفع أصل المعصية، وبه فارق دفن البصاق في المسجد فإنه قاطع لدوام ضرره لا لأصله لأن تلويث المسجد به قد حصل، ويندفع بما ذكر ما قيل‏:‏ رفع الرجعة للتحريم كالتوبة يدل على وجوبها إذ كون الشيء بمنزلة الواجب في خصوصية من خصوصياته لا يقتضي وجوبه، ولا يستدل بما اقتضته الآية من النهي عن إيقاع الطلاق في الحيض على فساد الطلاق فيه إذا النهي عند أبي حنيفة لا يستلزم الفساد مطلقاً، وعند الشافعي يدل على الفساد في العبادات وفي المعاملات إذا رجع إلى نفس العقد أو إلى أمر داخل فيه أو لازم له فإن رجع إلى أمر مقارن كالبيع وقت النداء فلا، وما نحن فيه لأمر مقارن وهو زمان الحيض فهو عنده لا يستلزم الفساد هنا أيضاً، وأيد ذلك بأمر ابن عمر بالرجعة إذ لو لم يقع الطلاق لم يؤمر بها قيل‏:‏ وما كان منه من التطليق في الحيض سبب نزول هذه الآية والذي رواه ابن مردويه من طريق أبي الزبير عنه وحكى عن السدي‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال‏:‏ بلغنا أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحكيم يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ‏}‏ الآية نزل في عبد الله بن عمرو بن العاص‏.‏ وطفيل بن الحرث‏.‏ وعمرو بن سعيد بن العاص، وقال بعضهم‏:‏ فعله ناس منهم ابن عمرو بن العاص‏.‏ وعتبة بن غزوان فنزلت الآية، وأخرج ابن المنذر عن ابن سيرين أنها نزلت في حفصة بنت عمر طلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة فنزلت إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً‏}‏ فراجعها عليه الصلاة والسلام، ورواه قتادة عن أنس، وقال القرطبي نقلاً عن علماء الحديث‏:‏ إن الأصح أنها نزلت ابتداءاً لبيان حكم شرعي، وكل ما ذكر من أسباب النزول لها لم يصح، وحكى أبو حيان نحوه عن الحافظ أبي بكر بن العربي، وظاهرها أن نفس الطلاق مباح، واستدل له أيضاً بما رواه أبو داود‏.‏

وابن ماجه عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن من أبغض المباحات عند الله عز وجل الطلاق ‏"‏ وفي لفظ ‏"‏ أبغض الحلال إلى الله الطلاق ‏"‏ لوصفه بالإباحة والحل لأن أفعل بعض ما يضاف إليه، والمراد من كونه مبغوضاً التنفير عنه أو كونه كذلك من حيث أنه يؤدي إلى قطع الوصلة وحل قيد العصمة لا من حيث حقيقته في نفسه‏.‏

وقال البيهقي‏:‏ البغض على إيقاعه كل وقت من غير رعاية لوقته المسنون، وبطلاقه صلى الله عليه وسلم حفصة ثم أمره تعالى إياه أن يراجعها فإنها صوامة قوامة، وقال غير واحد‏:‏ هو محظور لما فيه من كفران نعمة النكاح، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ لعن الله كل مذواق مطلاق ‏"‏ وإنما أبيح للحاجة، قال ابن الهمام‏:‏ وهذا هو الأصح فيكره إذا لم يكن حاجة، ويحمل لفظ المباح على أما أبيح في بعض الأوقات أعني أوقات تحقق الحاجة المبيحة وهو ظاهر في رواية لأبي داود ما أحل الله تعالى شيئاً أبغض إليه من الطلاق فإن الفعل لا عموم له في الأزمان، ومن الحاجة الكبر وعدم اشتهائه جماعها بحيث يعجز أو يتضرر بإكراهه نفسه عليه وهي لا ترضي بترك ذلك، وما روي عن الحسن وكان قيل له في كثرة تزوجه وطلاقه من قوله‏:‏ أحب الغني قال الله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مّن سَعَتِهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 130‏]‏ فهو رأي منه إن كان على ظاهره، وكل ما نقل من طلاق الصحابة كطلاق المغيرة بن شعبة الزوجات الأربعة دفعة فقد قال لهن‏:‏ أنتن حسنات الأخلاق ناعمات الأطواق طويلات الأعناق اذهبن فأنتن طلاق فمحمله وجود الحاجة، وإن لم يصرح بها، وقال ابن حجر‏:‏ هو إما واجب كطلاق مول لم يرد الوطء وحكمين رأياه، أو مندوب كأن يعجز عن القيام بحقوقها ولو لعدم الميل إليها، أو تكون غير عفيفة ما لم يخش الفجور بها، ومن ثم أمر صلى الله عليه وسلم من قال‏:‏ «إن زوجتي لا ترد يد لامس» أي لا تمنع من يريد الفجور بها على أحد أقوال في معناه بإمساكها خشية من ذلك‏.‏ ويلحق بخشية الفجور بها حصول مشقة له بفراقها تؤدي إلى مبيح تيمم، وكون مقامها عنده أمنع لفجورها فيما يظهر فيهما، أو سيئة الخلق أي بحيث لا يصبر على عشرتها عادة فيما يظهر، وإلا فغير سيئة الخلق كالغراب الأعضم أو يأمره به أحد والديه أي من غير تعنت كما هو شأن الحمقي من الآباء والأمهات، ومع عدم خوف فتنة أو مشقة بطلاقها فيما يظهر، أو حرام كالبدعي، أو مكروه بأن سلم الحال عن ذلك كله للخبر الصحيح «ليس شيء من الحلال أبغض إلى الله من الطلاق» ولدلالته على زيادة التنفير عنه قالوا‏:‏ ليس فيه مباح لكن صورة الإمام بما إذا لم يشتهها أي شهوة كاملة ولا تسمح نفسه بمؤنتها من غير تمتع اه‏.‏

والآية على ما لا يخفى على المنصف لا تدل على أكثر من حرمته في الحيض، والمراد بالنساء فيها المدخول بهن من المعتدات بالحيض على ما في الكشاف، وغيره لمكان قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ‏}‏‏.‏

‏{‏وَأَحْصُواْ العدة‏}‏ واضبطوها وأكملوها ثلاثة قروء كوامل، وأصل معنى الإحصاء العد بالحصى كما كان معتاداً قديماً ثم صار حقيقة فيما ذكر ‏{‏واتقوا الله رَبَّكُمْ‏}‏ في تطويل العدة عليهن والاضرار بهن، وفي وصفه تعالى بربوبيته عز وجل لهم تأكيد للأمر ومبالغة في إيجاب الاتقاء ‏{‏لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ‏}‏ من مساكنهن عند الطلاق إلى أن تنقضي عدتهن، وإضافتها إليهن وهي لأزواجهن لتأكيد النهي ببيان كمال استحقاقهن لسكناها كأنها أملاكهن، وعدم العطف للإيذان باستقلاله بالطلب اعتناءاً به، والنهي عن الإخراج يتناول عدم إخراجهن غضباً عليهن‏.‏ أو كراهة لمساكنتهن‏.‏ أو لحاجة لهم إلى المساكن‏.‏ أو محض سفه بمنطوقه، ويتناول عدم الاذن لهن في الخروج بإشارته لأن خروجهن محرم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَخْرُجْنَ‏}‏ أما إذا كانت لا ناهية كالتي قبلها فظاهر، وأما إذا كانت نافية فلأن المراد به النهي، وهو أبلغ من النهي الصريح كما لا يخفى، والاذن في فعل المحرم محرم فكأنه قيل‏:‏ لا تخرجوهن ولا تأذنوا لهن في الخروج إذا طلبن ذلك ولا يخرجن بأنفسهن إن أردن، فهناك دلالة على أن سكونهن في البيوت حق للشرع مؤمد فلا يسقط بالاذن، وهذا على ما ذكره الجلبي مذهب الحنفية، ومذهب الشافعية أنهما لو اتفقا على الانتقال جاز إذ الحق لا يعدوهما، فالمعنى لا تخرجوهن ولا يخرجن باستبدادهن؛ وتعقب الشهاب كون ذلك مذهب الحنفية بقوله‏:‏ فيه نظر، وقد ذكر الرازي في الأحكام ما يدل على خلافه وأن السكنى كالنفقة تسقط بالاسقاط انتهى‏.‏

والذي يظهر من كلامهم ما ذكره الجلبي» وقد نص عليه الحصكفي في الدر المختار، وعلله بأن ذلك حق الله تعالى فلا يسقط بالاذن، وفي الفتح لو اختلعت على أن لا سكنى لها تبطل مؤنة السكنى عن الزوج ويلزمها أن تكتري بيته، وأما أن يحل لها الخروج فلا ‏{‏إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ‏}‏ أي ظاهرة هي نفس الخروج قبل انقضاء العدة كما أخرجه عبد الرزاق‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن المنذر‏.‏ والبيهقي في سننه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والحاكم وصححه عن ابن عمر، وروي عن السدى‏.‏ وابن السائب‏.‏ والنخعي وبه أخذ أبو حنيفة والاستثناء عليه راجع إلى ‏{‏لا يَخْرُجْنَ‏}‏ والمعنى لا يطلق لهن في الخروج إلا في الخروج الذي هو فاحشة، ومن المعلوم أنه لا يطلق لهن فيه فيكون ذلك منعاً عن الخروج على أبلغ وجه، وقال الإمام ابن الهمام‏:‏ هذا كما يقال في الخطابية‏:‏ لا تزن إلا أن تكون فاسقاً‏.‏

ولا تشتم أمك إلا أن تكون قاطع رحم، ونحو ذلك وهو بديع وبليغ جداً، والزنا على ما روي عن قتادة‏.‏ والحسن‏.‏ والشعبي‏.‏ وزيد بن أسلم‏.‏ والضحاك‏.‏ وعكرمة‏.‏ وحماد‏.‏ والليث، وهو قول ابن مسعود‏.‏ وقول ابن عباس؛ وبه أخذ أبو يوسف، والاستثناء عليه راجع إلى لا تخرجوهن على ما يقتضيه ظاهر كلام جمع أي لا تخرجوهن إلا إن زنين فأخرجوهن لإقامة الحد عليهن، وقال بعض المحققين‏:‏ هو راجع إلى الكل وما يوجب حداً من زنا‏.‏ أو سرقة‏.‏ أو غيرهما كما أخرجه عبد بن حميد عن سعيد بن المسيب واختاره الطبري، والبذاء على الأحماء أي أو على الزوج كما أخرجه جماعة من طرق عن ابن عباس والاستثناء راجع إلى الأول أي لا تخرجوهن إلا إذا طالت ألسنتهن وتكلمن بالكلام الفاحش القبيح على أزواجهن أو أحمائهن، وأيد بقراءة أبيّ إلا أن يفحشن عليكم بفتح الياء وضم الحاء، وفي موضح الأهواري يفحشن من أفحش، قال الجوهري‏:‏ أفحش عليه في النطق أي أتى بالفحس، وفي حرف ابن مسعود إلا أن يفحشن بدون عليكم والنشوز، والمراد إلا أن يطلقن على النشوز على ما روي عن قتادة أيضاً، والاستثناء عليه قيل‏:‏ راجع إلى الأول أيضاً، وفي الكشف هو راجع إلى الكل لأنه إذا سقط حقها في السكنى حل الإخراج والخروج أيضاً، وأياً مّا كان فليس في الآية حصر المبيح لفعل المنهى عنه بالاتيان بالفاحشة، وقد بينت المبيحات في كتب الفروع فليراجعها من أراد ذلك‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو بكر ‏{‏مُّبَيّنَةٍ‏}‏ بالفتح ‏{‏وَتِلْكَ‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من الأحكام أي تلك الأحكام الجليلة الشأن ‏{‏حُدُودَ الله‏}‏ التي عينها لعباده عز وجل ‏{‏وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله‏}‏ أي حدوده تعالى المذكورة بأن أخل بشيء منها على أن الإظهار في موضع الاضمار لتهويل أمر التعدي والاشعار بعلة الحكم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ‏}‏ أي أضر بها كما قال شيخ الإسلام، ونقل عن بعض تفسير الظلم بتعريضها للعقاب، وتعقبه بأنه يأباه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لا تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً‏}‏ فإنه استئناف مسوق لتعليل مضمون الشرطية؛ وقد قالوا‏:‏ إن الأمر الذي يحدثه الله تعالى أن يقلب قلبه عما فعله بالتعدي إلى خلافه فلا بد أن يكون الظلم عن ضرر دنيوي يلحقه بسبب تعديه ولا يمكنه تداركه، أو عن مطلق الضرر الشامل للدنيوي والأخروي، وخص التعليل بالدنيوي لكون احتراز أكثر الناس منه أشد واهتمامهم بدفعه أقوى‏.‏

ورد بأن الضرر الدنيوي غير محقق فلا ينبغي تفسير الظلم ههنا به، وأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَدْرِى‏}‏ الخ ليس تعليلاً لما ذكر بل هو ترغيب للمحافظة على الحدود بعد الترهيب، وفيه أنه بالترهيب أشبه منه بالترغيب، ولعل المراد من أضر بها عرضها للضرر، فالظلم هو ذلك التعريض ولا محذور في تفسيره به فيما يظهر، وجملة الترجي في موضع النصب بـ ‏{‏لا تَدْرِى‏}‏، وعد أبو حيان ‏{‏لَعَلَّ‏}‏ من المعلقات، والخطاب في ‏{‏لا تَدْرِى‏}‏ للمتعدي بطريق الالتفات لمزيد الاهتمام بالزجر عن التعدي لا للنبي صلى الله عليه وسلم كما قيل، فالمعنى من يتعدى حدود الله تعالى فقد عرض نفسه للضرر فإنك لا تدري أيها المتعدي عاقبة الأمر ‏{‏لَعَلَّ الله‏}‏ تعالى يحدث في قلبك ‏{‏بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ الذي فعلت من التعدي ‏{‏أمْراً‏}‏ يقتضي خلاف ما فعلته فيكون بدل بغضها محبة وبدل الاعراض عنها إقبالاً إليها، ولا يتسنى تلا فيه برجعة أو استئناف نكاح‏.‏