فصل: تفسير الآية رقم (5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ‏}‏ أي أن يعطيه عليه الصلاة والسلام بدلكن ‏{‏أزواجا خَيْراً مّنكُنَّ‏}‏ والخطاب لجميع زوجاته صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين على سبيل الالتفات، وخوطبن لأنهن في مهبط الوحي وساحة العز والحضور، ويرشد إلى هذا ماأخرج البخاري عن أنس قال‏:‏ قال عمر‏:‏ اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت‏:‏ ‏{‏عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ خَيْراً مّنكُنَّ‏}‏ فنزلت هذه الآية، وليس فيها أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيراً منهن مع أن المذهب على ما قيل؛ إنه ليس على وجه الأرض خير منهن لأن تعلق طلاق الكل لا ينافي تطليق واحدة والمعلق بما لم يقع لا يجب وقوعه، وجوز أن يكون الخطاب للجميع على التغليب، وأصل الخطاب لاثنتين منهن وهما المخاطبتان أولاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَتُوبَا إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏ الخ فكأنه قيل‏:‏ عسى ربه إن طلقكما وغيركما أن يبدله خيراً منكما ومن غير كما من الأزواج، والظاهر أن عدم دلالة الآية على أنه عليه الصلاة والسلام لم يطلق حفصة وأن في النساء خيراً من أزواجه صلى الله عليه وسلم على حاله لأن التعليق على طلاق الاثنتين ولم يقع فلا يجب وقوع المعلق ولا ينافي تطليق واحدة، وقال الخفاجي‏.‏ التغليب في خطاب الكل مع أن المخاطب أولاً اثنتان، وفي لفظة ‏{‏ءانٍ‏}‏ الشرطية أيضاً الدالة على عدم وقوع الطلاق‏.‏

وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم طلق حفصة فغلب ما لم يقع من الطلاق على الواقع وعلى التعميم لا تغليب في الخطاب ولا في ‏{‏ءانٍ‏}‏ انتهى، وفيه بحث، ثم إن المشهور إن ‏{‏عَسَى‏}‏ في كلامه تعالى للوجب، وأن الوجوب هنا إنما هو بعد تحقق الشرط، وقيل‏:‏ هي كذلك إلا هنا، والشرط معترض بين اسم ‏{‏عَسَى‏}‏ وخبرها‏.‏ والجواب محذوف أي إن طلقكن فعسى الخ، و‏{‏أزواجا‏}‏ مفعول ثان ليبدل و‏{‏خَيْرًا‏}‏ صفته وكذا ما بعد، وقرأ أبو عمرو في رواية عياش ‏{‏طَلَّقَكُنَّ‏}‏ بإدغام القاف في الكاف‏.‏

وقرأ نافع‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وابن كثير ‏{‏يُبْدِلَهُ‏}‏ بالتشديد للتكثير ‏{‏مسلمات‏}‏ مقران ‏{‏مؤمنات‏}‏ مخلصات لأنه يعتبر في الإيمان تصديق القلب، وهو لا يكون إلا مخلصاً، أو منقادات على أن الإسلام بمعناه اللغوي مصدقات ‏{‏قانتات‏}‏ مصليات أو مواظبات على الطاعة مطلقا ‏{‏تائبات‏}‏ مقلعات عن الذنب ‏{‏عابدات‏}‏ متعبدات أو متذللات لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏عابدات سائحات‏}‏ صائمات كما قال ابن عباس‏.‏ وأبو هريرة‏.‏ وقتادة‏.‏ والضحاك‏.‏ والحسن‏.‏ وابن جبير‏.‏ وزيد بن أسلم‏.‏

وابنه عبد الرحمن، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال الفراء‏:‏ وسمي الصائم سائحاً لأن السائح لا زاد معه‏.‏ وإنما يأكل من حيث يجد الطعام، وعن زيد بن أسلم‏.‏ ويمان مهاجرات، وقال ابن زيد‏:‏ ليس في الإسلام سياحة إلا الهجرة، وقيل‏:‏ ذاهبات في طاعة الله تعالى أي مذهب‏.‏

وقرأ عمرو بن قائد سيحات ‏{‏ثيبات‏}‏ جمع ثيب من ثاب يثوب ثوباً، وزنه فيعل كسيد وهي التي تثوب أي ترجع عن الزوج أي بعد زوال عذرتها ‏{‏وَأَبْكَاراً‏}‏ جمع بكر من بكر إذا خرج بكرة وهي أول النهار، وفيها معنى التقدم سميت بها التي لم تفتض اعتباراً بالثيب لتقدمها عليها فيما يراد له النساء، وترك العطف في الصفات السابقة لأنها صفات تجتمع في شيء واحد وبينها شدة اتصال يقتضي ترك العطف ووسط العاطف هنا للدلالة على تغاير الصفتين وعدم اجتماعهما في ذات واحدة، ولم يؤت بأو قيل‏:‏ ليكون المعنى أزواجاً بعضهن ثيبات وبعضهن أبكار، وقريب منه ما قيل‏:‏ وسط العاطف بين الصفتين لأنهما في حكم صفة واحدة إذ المعنى مشتملات على الثيبات والأبكار فتدبر، وفي الانتصاف لابن المنير ذكر لي الشيخ ابن الحاج أن القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني الكاتب كان يعتقد أن الواو في الآية هي الواو التي سماها بعض ضعفة النحاة واو الثمانية لأنها ذكرت مع الصفة الثامنة، وكان الفاضل يتبجح باستخراجها زائدة على المواضع الثلاثة المشهورة قبله‏:‏ أحدها في التوبة ‏{‏التائبون العابدون‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والناهون عَنِ المنكر‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 112‏]‏ والثاني في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 22‏]‏، والثالث في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفُتِحَتْ أبوابها‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 73‏]‏ إلى أن ذكر ذلك يوماً بحضرة أبي الجود النحوي المقري فبين له أنه واهم في عدها من ذلك القبيل، وأحال على المعنى الذي ذكره الزمخشري من دعاء الضرورة إلى الاتيان بها ههنا لامتناع اجتماع الصفتين في موصوف واحد وواو الثمانية إن ثبتت فإنما ترد بحيث لا حاجة إليها إلا الاشعار بتمام نهاية العدد الذي هو السبعة فأنصفه الفاضل واستحسن ذلك منه، وقال‏:‏ أرشدتنا يا أبا الجود انتهى‏.‏

وذكر الجنسان لأن في أزواجه صلى الله عليه وسلم من تزوجها ثيباً وفيهن من تزوجها بكراً، وجاء أنه عليه الصلاة والسلام لم يتزوج بكراً إلا عائشة رضي الله تعالى عنها وكانت تفتخر بذلك على صواحباتها، وردت عليها الزهراء على أبيها وعليها الصلاة والسلام بتعليم النبي صلى الله عليه وسلم إياها حين افتخرت على أمها خديجة رضي الله تعالى عنه بقولها‏:‏ إن أمي تزوج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بكر لم يره أحد من النساء غيرها ولا كذلك أنتن فسكتت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَبْكَاراً يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً‏}‏ أي نوعاً من النار ‏{‏وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ تتقد بهما اتقاد غيرها بالحطب، ووقاية النفس عن النار بترك المعاصي وفعل الطاعات، ووقاية الأهل بحملهم على ذلك بالنصح والتأديب، وروى أن عمر قال حين نزلت‏:‏ يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ تنهوهن عما نهاكم الله عنه وتأمروهن بما أمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار ‏"‏‏.‏

وأخرج ابن المنذر‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال في الآية‏:‏ علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم، والمراد بالأهل على ما قيل‏:‏ ما يشمل الزوجة والولد والعبد والأمة‏.‏

واستدل بها على أنه يجب على الرجل تعلم ما يجب من الفرائض وتعليمه لهؤلاء، وأدخل بعضهم الأولاد في الأنفس لأن الولد بعض من أبيه، وفي الحديث ‏"‏ رحم الله رجلاً قال‏:‏ يا أهلاه صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم لعل الله يجمعكم معه في الجنة ‏"‏ وقيل‏:‏ إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من جهل أهله‏.‏

وقرىء وأهلوكم بالواو وهو عطف على الضمير في ‏{‏قُواْ‏}‏ وحسن العطف للفصل بالمفعول، والتقدير عند بعض وليق أهلوكم أنفسهم ولم يرتضه الزمخشري، وذكر ما حاصله أن الأصل ‏{‏قُواْ‏}‏ أنتم وأهلوكم أنفسكم وأنفسهم بأن يقي ويحفظ كل منكم ومنهم نفسه عما يوبقها، فقدم أنفسكم، وجعل الضمير المضاف إليه الأنفس مشتملاً على الأهلين تغليباً فشملهم الخطاب، وكذا اتعتبر التغليب في ‏{‏قُواْ‏}‏، وفيه تقليل للحذف وإيثار العطف المفرد الذي هو الأصل والتغليب الذي نكتته الدلالة على الأصالة والتبعية‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ ومجاهد ‏{‏وَقُودُهَا‏}‏ بضم الواو أي ذو وقودها، وتمام الكلام في هذه الآية يعلم مما مر في سورة البقرة ‏{‏عَلَيْهَا مَلَئِكَةٌ‏}‏ أي أنهم موكولون يلون أمرها وتعذيب أهلها وهم الزبانية التسعة عشر قيل‏:‏ وأعوانهم ‏{‏غِلاَظٌ شِدَادٌ‏}‏ غلاظ الأقوال شداد الأفعال، أو غلاظ الخلق شداد الخلق أقوياء على الأفعال الشديدة، أخرج عبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» عن أبي عمران الجوني قال‏:‏ بلغنا أن خزنة النار تسعة عشر ما بين منكبي أحدهم مسيرة مائة خريف ليس في قلوبهم رحمة إنما خلقوا للعذاب يضرب الملك منهم الرجل من أهل النار الضربة فيتركه طحناً من لدن قرنه إلى قدمه ‏{‏لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ‏}‏ صفة أخرى لملائكة و‏{‏مَا‏}‏ في محل النصب على البدل أي لا يعصون ما أمر الله أي أمره تعالى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 93‏]‏ أو على إسقاط الجار أي لا يعصون فيما أمرهم به ‏{‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ أي الذي يأمرهم عز وجل به، والجملة الأولى لنفي المعاندة والاستكبار عنهم صلوات الله تعالى عليهم فهي كقوله تعالى‏:‏

‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 19‏]‏، والثانية لإثبات الكياسة لهم ونفي الكسل عنهم فهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ‏}‏ إلى ‏{‏لاَ يَفْتُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 19‏]‏، وبعبارة أخرى إن الأولى لبيان القبول باطناً فإن العصيان أصله المنع والإباء، وعصيان الأمر صفة الباطن بالحقيقة لأن الإتيان بالمأمور إنما يعدّ طاعة إذا كان بقصد الامتثال فإذا نفي العصيان عنهم دل على قبولهم وعدم إبائهم باطناً، والثانية لأداء المأمور به من غير تثاقل وتوان على ما يشعر به الاستمرار المستفاد من ‏{‏يَفْعَلُونَ‏}‏ فلا تكرار، وفي المحصول ‏{‏لاَّ يَعْصُونَ‏}‏ فيما مضى على أن المضارع لحكاية الحال الماضية ‏{‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏}‏ في الآتي‏.‏

وجوز أن يكون ذلك من باب الطرد والعكس وهو كل كلامين يقرر الأول بمنطوقه مفهوم الثاني وبالعكس مبالغة في أنهم لا تأخذهم رأفة في تنفيذ أو أمر الله عز وجل والغضب له سبحانه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏يُؤْمَرُونَ يأَيُّهَا الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم‏}‏ مقول لقول قد حذف ثقة بدلالة الحال عليه يقال لهم ذلك عند إدخال الملائكة إياهم النار حسبما أمروا به، فتعريف اليوم للعهد ونهيهم عن الاعتذار لأنهم لا عذر لهم أو لأن العذر لا ينفعهم ‏{‏إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا من الكفر والمعاصي بعد ما نهيتهم عنهما أشد النهي وأمرتم بالايمان والطاعة على أتم وجه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏تَعْمَلُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ تُوبُواْ إِلَى الله‏}‏ من الذنوب‏.‏

‏{‏تَوْبَةً نَّصُوحاً‏}‏ أي بالغة في النصح فهو من أمثلة المبالغة كضروب وصفت التوبة به على الإسناد المجازي وهو وصف التائبين، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم فيأتوا بها على طريقها، ولعله ما تضمنه ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس قال‏:‏ «قال معاذ بن جبل‏:‏ يا رسول الله ما التوبة النصوح‏؟‏ قال‏:‏ أن يندم العبد على الذنب الذي أصاب فيعتذر إلى الله تعالى ثم لا يعود إليه كما لا يعود اللبن إلى الضرع» وروى تفسيرها بما ذكر عن عمر‏.‏ وابن مسعود‏.‏ وأبي‏.‏ والحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وغيرهم، وقيل‏:‏ نصوحاً من نصاحة الثوب أي خياطته أي توبة ترفو خروقك في دينك وترم خللك، وقيل‏:‏ خالصته من قولهم‏:‏ عسل ناصح إذا خلص من الشمع، وجوز أن يراد توبة تنصح الناس أي تدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها في صاحبها، واستعمال الجد والعزيمة في العمل بمقتضياتها، وفي المراد بها أقوال كثيرة أوصلها بعضهم إلى نيف وعشرين قولاً‏:‏ منها ما سمعت‏.‏

وقرأ زيد بن علي توبا بغير تاء، وقرأ الحسن‏.‏ والأعرج‏.‏ وعيسى‏.‏ وأبو بكر عن عاصم‏.‏ وخارجة عن نافع ‏{‏نَّصُوحاً‏}‏ بضم النون وهو مصدر نصح فإن النصح والنصوح كالشر والشكور والكفر والكفور أي ذات نصح أو تنصح نصوحاً أو توبواً لنصح أنفسكم على أنه مفعول له‏.‏

هذا والكلام في التوبة كثير وحيث كانت أهم الأوامر الإسلامية وأول المقامات الإيمانية ومبدأ طريق السالكين ومفتاح باب الواصلين لا بأس في ذكر شيء مما يتعلق بها فنقول‏:‏ هي لغة الرجوع، وشرعاً وصفاً لنا على ما قال السعد‏:‏ الندم على المعصية لكونها معصية لأن الندم عليها بإضرارها بالبدن أو إخلالها بالعرض أو المال مثلاً لا يكون توبة، وأما الندم لخوف النار أو للطمع في الجنة ففي كونه توبة تردد، ومبناه على أن ذلك هل يكون ندماً عليها لقبحها ولكونها معصية أم لا‏؟‏ وكذا الندم عليها لقبحها مع غرض آخر، والحق أن جهة القبح إن كانت بحيث لو انفردت لتحقق الندم فتوبة وإلا فلا كما إذا كان الغرض مجموع الأمرين لا كل واحد منهما، وكذا في التوبة عند مرض مخوف بناءاً على أن ذلك الندم هل يكون لقبح المعصية بل للخوف، وظاهر الاخبار قبول التوبة ما لم تظهر علامات الموت ويتحقق أمره عادة، ومعنى الندم تحزن وتوجع على أن فعل وتمني كونه لم يفعل ولا بد من هذا للقطع بأن مجرد الترك كالماجن إذا مل مجون فاستروح إلى بعض المباحات ليس بتوبة، ولقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «الندم توبة»

وقد يزاد قيد العزم على ترك المعاودة‏.‏

واعترض بأن فعل المعصية في المستقبل قد لا يخطر بالبال لذهول أو جنون أو نحوه، وقد لا يقدر عليه لعارض آفة كخرس في القذف مثلاً أوجب في الزنا فلا يتصور العزم على الترك لما فيه من الإشعار بالقدرة والاختيار‏.‏

وأجيب بأن المراد العزم على الترك على تقدير الخطور والاقتدار حتى لو سلب القدرة لم يشترط العزم على الترك، وبذلك يشعر كلام إمام الحرمين حيث قال‏:‏ إن العزم على ترك المعاودة إنما يقارن التوبة في بعض الأحوال ولا يطرد في كل حال إذ العزم إنما يصح ممن يتمكن من مخثل ما قدمه، ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا‏.‏ ومن الأخرس العزم على ترك القذف، وقال بعض الأجلة‏:‏ التحقيق أن ذكر العزم إنما هو للبيان والتقرير لا للتقييد والاحتراز إذ النادم على المعصية لقبحها لا يخلو عن ذلك العزم البتة على تقدير الخطور والاقتدار، وعلامة الندم طول الحسرة والخوف وانسكاب الدمع، ومن الغريب ما قيل‏:‏ إن علامة صدق الندم عن ذنب كالزنا أن لا يرى في المنام أنه يفعله اختياراً إذ يشعر ذلك ببقاء حبه وإياه وعدم انقلاع أصوله من قلبه بالكلية وهو ينافي صدق الندم، وقال المعتزلة‏:‏ يكفي في التوبة أن يعتقد أنه أساء وأنه لو أمكنه رد تلك المعصية لردها ولاحاجة إلى الأسف والحزن لافضائه إلى التكليف بما لا يطاق‏.‏

وقال الإمام النووي‏:‏ التوبة ما استجمعت ثلاثة أمور‏:‏ أن يقلع عن المعصية‏.‏ وأن يندم على فعلها وأن يعزم عزماً جازماً على أن لا يعود إلى مثلها أبداً فإن كانت تتعلق بآدمي لزم رد الظلامة إلى صاحبها أو وارثه أو تحصيل البراءة منه، وركنها الأعظم الندم‏.‏

وفي «شرح المقاصد» قالوا‏:‏ إن كانت المعصية في خالص حق الله تعالى فقد يكفي الندم كما في ارتكاب الفرار من الزحف وترك الأمر بالمعروف، وقد تفتقر إلى أمر زائد كتسليم النفس للحد في الشرب وتسليم ما وجب في ترك الزكاة، ومثله في ترك الصلاة وإن تعلقت بحقوق العباد لزم مع الندم، والعزم إيصال حق العبد أو بدله إليه إن كان الذنب ظلماً كما في الغصب والقتل العمد، ولزم إرشاده إن كان الذنب إضلالاً له، والاعتذار إليه إن كان إيذاءاً كما في الغيبة إذا بلغته ولا يلزم تفصيل ما اغتابه به إلا إذا بلغه على وجه أفحش، والتحقيق أن هذا الزائد واجب آخر خارج عن التوبة على ما قاله إمام الحرمين من أن القاتل إذا ندم من غير تسليم نفسه للقصاص صحت توبته في حق الله تعالى وكان منعه القصاص من مستحقه معصية متجددة تستدعي توبة ولا يقدح في التوبة عن القتل، ثم قال‏:‏ وربما لا تصح التوبة بدون الخروج من حق العبد كما في الغصب ففرق بين القتل والغصب، ووجهه لا يخفى على المتأمل، ولم يختلف أهل السنة‏.‏

وغيرهم في وجوب التوبة على أرباب الكبائر، واختلف في الدليل، فعندنا السمع كهذه الآية وغيرها وحمل الأمر فيها على الرخصة والإيذان بقولها ودفع القنوط كما جوزه الآمدي احتمالاً وبني عليه عدم الإثابة عليها مما لا يكاد يقبل، وعند المعتزلة العقل، وأوجبت الجهمية التوبة عن الصغائر سمعاً لا عقلا، وأهل السنة على ذلك، ومقتضى كلام النووي‏.‏ والمازري‏.‏ وغيرهما وجوبها حال التلبس بالمعصية، وعبارة المازري اتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة، وأنها واجبة على الفور، ولا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة‏.‏

وفي «شرح الجوهرة» أن التمادي على الذنب بتأخير التوبة منه معصية واحدة ما لم يعتقد معاودته، وصرحت المعتزلة بأنها واجبة على الفور حتى يلزم بتأخيرها ساعة إثم آخر تجب التوبة عنه‏.‏ وساعتين إثمان وهلم جرا، بل ذكروا أن بتأخير التوبة عن الكبيرة ساعة واحدة يكون له كبيرتان‏:‏ المعصية‏.‏ وترك التوبة، وساعتين أربع‏:‏ الأوليان‏.‏ وترك التوبة على كل منهما، وثلاث ساعات ثمان وهكذا، وتصح عن ذنب دون ذنب لتحقق الندم والعزم على عدم العود، وخالف أبو خالف أبو هاشم محتجاً بأن الندم على المعصية يجب أن يكون لقبحها وهو شامل لها كلها فلا يتحقق الندم على قبيح مع الإصرار على آخر‏.‏

وأجيب بأن الشامل للكل هو القبح لا خصوص قبح تلك المعصية وهذا الخلاف في غير الكافر إذا أسلم وتاب من كفره مع استدامته بعض المعاصي أما هو فتوبته صحيحة وإسلامه كذلك بالإجماع ولا يعاقب إلا عقوبة تلك المعصية، نعم اختلف في أن مجرد إيمانه هل يعدّ توبة أم لا بد من الندم على سالف كفره‏؟‏ فعند الجمهور مجرد إيمانه توبة، وقال الإمام‏.‏ والقرطبي‏:‏ لا بد من الندم على سالف الكفر وعدم اشتراط العمل الصالح مجمع عليه عند الأئمة خلافاً لابن حزم، وكذا تصح التوبة عن المعاصي إجمالاً من غير تعيين المتون عنه ولو لم يشق عليه تعيينه، وخالف بعض المالكية فقال‏:‏ إنما تصح إجمالاً مما علم إجمالاً، وأما ما علم تفصيلاً فلا بد من التوبة منه تفصيلاً ولا تنتقض التوبة الشرعية بالعود فلا تعود عليه ذنوبه التي تاب منها بل العود والنقض معصية أخرى يجب عليه أن يتوب منها‏.‏

وقالت المعتزلة‏:‏ من شروط صحتها أن لا يعاود الذنب فإن عاوده انتقضت توبته وعادت ذنوبه لأن الندم المعتبر فيها لا يتحقق إلا بالاستمرار، ووافقهم القاضي أبو بكر‏.‏ والجمهور على أن استدامة الندم غير واجبة بل الشرط أن لا يطرأ عليه ما ينافيه ويدفعه لأنه حينئذ دائم حكماً كالإيمان حال النوم، ويلزم من اشتراط الاستدامة مزيد الحرج والمشقة، وقال الآمدي‏:‏ يلزم أيضاً اختلاف الصلوات وسائر العبادات، ويلزم أيضاً أن لا يكون بتقدير عدم استدامة الندم وتذكره تائباً، وأن يجب عليه إعادة التوبة وهو خلاف الإجماع، نعم اختلف العلماء فيمن تذكر المعصية بعد التوبة منها، هل يجب عليه أن يجدد الندم‏؟‏ وإليه ذهب القاضي منا‏.‏

وأبو علي من المعتزلة زعماً منهما أنه لو لم يندم كلما ذكرها لكان مشتهياً لها فرحاً بها، وذلك إبطال للندم ورجوع إلى الإصرار، والجواب المنع إذ ربما يضرب عنها صفحاً من غير ندم عليها ولا اشتهاء لها وابتهاج بها ولو كان الأمر كما ذكر للزم أن لا تكون التوبة السابقة صحيحة، وقد قال القاضي نفسه‏:‏ إنه إذا لم يجدد ندماً كان ذلك معصية جديدة يجب الندم عليها والتوبة الأولى مضت على صحتها إذ العبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد ثبوتها انتهى‏.‏

وبعدم وجوب التجديد عند ذكر المعصية صرح إمام الحرمين، ويفهم من كلامهم أن محل الخلاف إذا لم يبتهج عند ذكر الذنب به ويفرح ويتلذذ بذكره أو سماعه، وإلا وجب التجديد اتفاقاً، وظاهر كلامهم أن المعاودة غير مبطلة ولو كانت في مجلس التوبة بل ولو تكررت تكراراً يلتحق بالتلاعب، وفي هذا الأخير نظر فقد قال القاضي عياض‏:‏ إن الواقع في حق الله تعالى بما هو كفر تنفعه توبته مع شديد العقاب ليكون ذلك زجراً له‏.‏ ولمثله إلا من تكرر ذلك منه وعرف استهانته بما أتى به فهو دليل على سوء طويته وكذب توبته انتهى‏.‏

وينبغي عليه أن يقيد ذلك بأن لا تكثر كثرة تشعر بالاستعانة وتدخل صاحبها في دائرة الجنون، واختلف في صحة التوبة الموقتة بلا إصرار كأن لا يللابس الذنوب أو ذنب كذا سنة فقيل‏:‏ تصح، وقيل‏:‏ لا، وفي «شرح الجوهرة» قياس صحتها من بعض الذنوب دون بعض صحتها فيما ذكر، ثم إن للتوبة مراتب من أعلاها ما روى عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه أنه سمع أعرابياً يقول‏:‏ اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك فقال‏:‏ يا هذا إن سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذابين، فقال الأعرابي‏:‏ وما التوبة‏؟‏ قال كرم الله تعالى وجهه‏:‏ يجمعها ستة أشياء‏:‏ على الماضي من الذنوب الندامة‏.‏ وللفرائض الإعادة‏.‏ ورد المظالم‏.‏ واستحلال الخصوم‏.‏ وأن تعزم على أن لا تعود‏.‏ وأن تذيب نفسك في طاعة الله كما ربيتها في المعصية‏.‏ وأن تذيقها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعاصي، وأريد بإعادة الفرائض أن يقضي منها ما وقع في زمان معصيته كشارب الخمر يعيد صلاته قبل التوبة لمخامرته للنجاسة غالباً، وهذه توبة نحو الخواص فلا مستند في هذا الأثر لابن حزم وأضرابه كما لا يخفى، ثم إنه تعالى بين فائدة التوبة بقوله سبحانه‏:‏

‏{‏عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ عَنكُمْ سيئاتكم وَيُدْخِلَكُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار‏}‏ قيل‏:‏ المراد أنه عز وجل يفعل ذلك لكن جيء بصيغة الأطماع للجري على عادة الملوك فإنهم إذا أرادوا فعلاً قالوا‏:‏ ‏{‏عَسَى‏}‏ أن نفعل كذا، والإشعار بأن ذلك تفضل منه سبحانه والتوبة غير موجبة له‏.‏

وإن العبد ينبغي أن يكون بين خوف ورجاء‏.‏ وإن بالغ في إقامة وظائف العبادة، واستدل بالآية على عدم وجوب قبول التوبة لأن التكفير أثر القبول، وقد جيء معه بصيغة الأطماع دون القطع، وهذه المسألة خلافية فذهب المعتزلة إلى أنه يجب على الله تعالى قبولها عقلاً وأتوا في ذلك بمقدمات مزخرفات، وقال إمام الحرمين‏.‏ والقاضي أبو بكر‏:‏ يجب قبولها سمعاً ووعداً لكن بدليل ظني إذ لم يثبت في ذلك نص قاطع لا يحتمل التأويل، وقال الشيخ أبو الحسن الأشعري‏:‏ بل بدليل قطعي ومحل النزاع بين الأشعري وتلميذيه ما عدا توبة الكافر أما هي فالإجماع على قبولها قطعاً بالسمع لوجود النص المتواتر بذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَأَنْ *يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏ بخلاف ما جاء في توبة غيره فإنه ظاهر، وليس بنص في غفران ذنوب المسلم بالتوبة كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ ياأهل عِبَادِى الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 53‏]‏، وأما حديث «التوبة تجب ما قبلها» فليس بمتواتر ولأنه إذا قطع بقبول توبة الكافر كان ذلك فتحاً لباب الإيمان وسوقاً إليه، وإذا لم يقطع بتوبة المؤمن كان ذلك سداً لباب العصيان ومنعاً منه، وهذا وما قبله ذكرهما القاضي لما قيل له‏:‏ إن الدلائل مع الشيخ أبي الحسن‏:‏ وقال ابن عطية‏:‏ إن جمهور أهل السنة على قول القاضي، والدليل على ذلك دعاء كل أحد من التائبين بقبول توبته ولو كان مقطوعاً به لما كان للدعاء معنى، ومثل ذلك وجوب الشكر على القبول فإنه لو كان واجباً لما وجب الشكر عليه‏.‏

وتعقب ذلك السعد بأنه ربما يدفع بأن المسؤول في الدعاء هو استجماعها لشرائط القبول فإن الأمر فيه خطير، ووجوب القبول لا ينافي وجوب الشكر لكونه إحساناً في نفسه كتربية الوالد لولده؛ وقال الإمام النووي‏:‏ لا يجب على الله تعالى قبول التوبة إذا وجدت بشروطها عند أهل السنة لكنه سبحانه يقبلها كرماً منه وتفضلاً، وعرفنا قبولها بالشرع والإجماع فلا تغفل، وقرىء ‏{‏يدخلكم‏}‏ بسكون اللام، وخرجه أبو حيان على أن يكون حذف الحركة تخفيفاً وتشبيهاً لما هو في كلمتين بالكلمة الواحدة فإنه يقال في قمع‏:‏ قمع‏.‏ وفي نطع‏:‏ نطع، وقال‏:‏ إنه أولى من كونه للعطف على محل ‏{‏نَّصُوحاً عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفّرَ‏}‏، واختاره الزمخشري كأنه قيل‏:‏ توبوا يرج تكفير أو يوجب تكفير سيئآتكم ويدخلكم ‏{‏يَوْمٌ لاَّ يُخْزِى الله النبى‏}‏ ظرف ليدخلكم وتعريف ‏{‏النبى‏}‏ للعهد، والمراد به سيد الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، والمراد بنفي الإخزاء إثبات أنواع الكرامة والعز‏.‏

وفي «القاموس» يقال‏:‏ أخزى الله تعالى فلاناً فضحه، وقال الراغب‏:‏ يقال‏:‏ خزي الرجل لحقه انكسار إما من نفسه وهو الحياء المفرط ومصدره الخزاية‏.‏ وإما من غيره وهو ضرب من الاستخفاف، ومصدره الخزي، و‏{‏يَوْمٌ لاَّ يُخْزِى الله النبى‏}‏ هو من الخزي أقرب، ويجوز أن يكون منهما جميعاً ‏{‏والذين ءامَنُواْ مَعَهُ‏}‏ عطف عليه عليه الصلاة والسلام، وفيه تعريض بمن أخزاهم الله تعالى من أهل الكفر والفسوق، واستحماد على المؤمنين على أن عصمهم من مثل حالهم، والمراد بالإيمان هنا فرده الكامل على ما ذكره الخفاجي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم‏}‏ أي على الصراط كما قيل، ومر الكلام فيه جملة مستأنفة، وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ الخ، وجوز أن تكون الجملتان في موضع الحال من الموصول، وأن تكون الأولى حالاً منه‏.‏ والثانية حالاً من الضمير في ‏{‏يسعى‏}‏، وأن تكون الأولى مستأنفة‏.‏ والثانية من الضمير، وأن تكون الأولى حالاً من الموصول‏.‏ والثانية مستأنفة أو حالاً من الضمير، وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره معه، والجملتان خبران آخران‏.‏ أو مستأنفتان‏.‏ أو حالان من الموصول، أو الأولى حال منه‏.‏ والثانية حال من الضمير، أو الأولى مستأنفة‏.‏ والثانية حال من الضمير، أو الأولى حال‏.‏ والثانية مستأنفة، أو الأولى خبر بعد خبر‏.‏ والثانية حال من الضمير أو مستأنفة، وجوز أن يكون الموصول مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نُورُهُمْ يسعى‏}‏ الخ، والجملة الأخرى مستأنفة أو حال أو خبر بعد خبر فهذه عدة احتمالات لا يخفى ما هو الأظهر منها‏.‏

والقول على ما روي عن ابن عباس‏.‏ والحسن‏:‏ يكون إذا طفىء نور المنافقين أي يقولون إذا طفىء نور المنافقين ‏{‏رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَا إِنَّكَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ‏}‏ وفي رواية أخرى عن الحسن يدعون تقرباً إلى الله تعالى مع تمام نورهم، وقيل‏:‏ يقول ذلك من يمر على الصراط زحفاً وحبواً‏.‏

وقيل‏:‏ من يعطي من النور بقدر ما يبصر به موضع قدمه، ويعلم منه عدم تعين حمل الإيمان على فرده الكامل كما سمعت عن الخفاجي، وقرأ سهل بن شعيب السهمي‏.‏ وأبو حيوة ‏{‏وبأيمانهم‏}‏ بكسر الهمزة على أنه مصدر معطوف على الظرف أي كائناً بين أيديهم وكائناً بسبب إيمانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏يأَيُّهَا النبى جاهد الكفار‏}‏ بالسيف ‏{‏والمنافقين‏}‏ بالحجة ‏{‏واغلظ عَلَيْهِمْ‏}‏ واستعمل الخشونة على الفريقين فيما تجاهدهم به إذا بلغ الرفق مداه‏.‏

وعن الحسن أكثر ما كان يصيب الحدود في ذلك الزمان المنافقين فأمر عليه الصلاة والسلام أن يغلظ عليهم في إقامة الحدود، وحكى الطبرسي عن الباقر أنه قرأ جاهد الكفار بالمنافقين وأظن ذلك من كذب الإمامية عاملهم الله تعالى بعدله ‏{‏لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ‏}‏ أي وسيرون فيها عذاباً غليظاً ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ أي جهنم أو مأواهم، والعطف قيل‏:‏ من عطف القصة على القصة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ضرب المثل في مثل هذا الموقع عبارة عن إيراد حالة غريبة لتعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها في الغرابة أي جعل الله تعالى مثلاً لحال الكفرة حالاً ومآلاً على أن مثلاً مفعول ثان لضرب‏.‏ واللام متعلقة به، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏امرأت نُوحٍ‏}‏ واسمها قيل‏:‏ والعة ‏{‏وامرأت لُوطٍ‏}‏ واسمها قيل‏:‏ واهلة، وقيل‏:‏ والهة، وعن مقاتل اسم امرأة نوح والهة‏.‏ واسم امرأة لوط والعة مفعوله الأول؛ وأخر عنه ليتصل به ما هو شرح وتفسير لحالهما، ويتضح بذلك حال الكفرة، والمراد ضرب الله تعالى مثلاً لحال أولئك حال ‏{‏امرأت‏}‏ الخ، فقوله تعالى‏:‏

‏{‏كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صالحين‏}‏ بياناً لحالهما الداعية لهما إلى الخير والصلاح، ولم يقل‏:‏ تحتهما للتعظيم أي كانتا في عصمة نبيين عظيمي الشأن متمكنتين من تحصيل خير الدنيا والآخرة، وحيازة سعادتهما، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَخَانَتَاهُمَا‏}‏ بيان لما صدر عنهما من الخيانة العظيمة مع تحقق ما ينافيها من مرافقة النبي عليه الصلاة والسلام، أما خيانة امرأة نوح عليه السلام فكانت تقول للناس‏:‏ إنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل على الضيف رواه جمع وصححه الحاكم عن ابن عباس‏.‏

وأخرج ابن عدي‏.‏ والبيهقي في «شعب الإيمان»، وابن عساكر عن الضحاك أنه قال‏:‏ خيانتهما النميمة، وتمامه في رواية‏:‏ كانتا إذا أوحى الله تعالى بشيء أفشتاه للمشركين، وأخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال‏:‏ خيانتهما أنهما كانتا كافرتين مخالفتين، وقيل‏:‏ كانتا منافقتين، والخيانة‏.‏ والنفاق قال الراغب‏:‏ واحد إلا أن الخيانة تقال اعتباراً بالعهد والأمانة، والنفاق يقال اعتباراً بالدين ثم يتداخلان، فالخيانة مخالفة الحق بنقض العهد في السر ونقيضها الأمانة، وحمل ما في الآية على هذا، ولا تفسر ههنا بالفجور لما أخرج غير واحد عن ابن عباس ‏"‏ ما زنت امرأة نبي قط ‏"‏ ورفعه أشرس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي «الكشاف» لا يجوز أن يراد بها الفجور لأنه سمج في الطبع نقيصة عند كل أحد بخلاف الكفر فإن الكفر لا يستسمجونه ويسمونه حقاً‏.‏

ونقل ابن عطية عن بعض تفسيرها بالكفر‏.‏ والزنا‏.‏ وغيره، ولعمري لا يكاد يقول بذلك إلا ابن زنا، فالحق عندي أن عهر الزوجات كعهر الأمهات من المنفرات التي قال السعد‏:‏ إن الحق منعها في حق الأنبياء عليهم السلام، وما ينسب للشيعة مما يخالف ذلك في حق سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم كذب عليهم فلا تعول عليه وإن كان شائعاً، وفي هذا على ما قيل‏:‏ تصوير لحال المرأتين المحاكية لحال الكفرة في خيانتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالكفر والعصيان مع تمكنهم التام من الإيمان والطاعة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يُغْنِينَا‏}‏ الخ بيان لما أدى إليه خيانتهما أي فلم يغن ذانك العبدان الصالحان والنبيان العظيمان ‏{‏عَنْهُمَا‏}‏ بحق الزواج ‏{‏مِنَ الله‏}‏ أي من عذابه عز وجل ‏{‏شَيْئاً‏}‏ أي شيئاً من الإغناء، أو شيئاً من العذاب‏.‏

‏{‏وَقِيلَ‏}‏ لهما عند موتهما‏.‏ أو يوم القيامة، وعبر بالماضي لتحقق الوقوع ‏{‏ادخلا النار مَعَ الدخلين‏}‏ أي مع سائر الداخلين من الكفرة الذي لا وصلة بينهم وبين الأنبياء عليهم السلام‏.‏

وذكر غير واحد أن المقصود الإشارة إلى أن الكفرة يعاقبون بكفرهم ولا يراعون بما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من الوصلة، وفيه تعريض لأمهات المؤمنين وتخويف لهنّ بأنه لا يفيدهن إن أتين بما حظر عليهم كونهن تحت نكاح النبي صلى الله عليه وسلم وليس في ذلك ما يدل على أن فيهن كافرة أو منافقة كما زعمه يوسف الأوالي من متأخري الإمامية سبحانك هذا بهتان عظيم‏.‏

وقرأ مبشر بن عبيد تغنيا بالتاء المثناة من فوق، و‏{‏عَنْهُمَا‏}‏ عليه بتقدير عن نفسهما قال أبو حيان‏:‏ ولا بد من هذا المضاف إلا أن يجعل عن اسماً كهي في‏:‏ دع عنك لأنها إن كانت حرفاً كان في ذلك تعدية الفعل الرافع للضمير المتصل إلى ضميره المجرور وهو يجري مجرى الضمير المنصوب وذلك لا يجوز، وفيه بحث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَضَرَبَ الله مَثَلاً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ امرأت فِرْعَوْنَ‏}‏ أي جعل حالها مثلاً لحال المؤمنين في أن وصلة الكفرة لا تضرهم حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله عز وجل وهي في أعلى غرف الجنة واسمها آسية بنت مزاحم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَتِ‏}‏ ظرف لمحذوف أي وضرب الله مثلاً للذين آمنوا حال امرأة فرعون إذ قالت ‏{‏رَبّ ابن لِى عِندَكَ‏}‏ قيل‏:‏ أي قريباً من رحمتك لتنزهه سبحانه عن المكان‏.‏

وجوز في ‏{‏عِندَكَ‏}‏ كونه حالاً من ضمير المتكلم وكونه حالاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بياتا‏}‏ لتقدمه عليه وكان صفة لو تأخر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى الجنة‏}‏ بدل أو عطف بيان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عِندَكَ‏}‏ أو متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ابن‏}‏ وقدم ‏{‏عِندَكَ‏}‏ لنكتة، وهي كما في الفصوص الإشارة إلى قولهم‏:‏ الجار قبل الدار، وجوز أن يكون المراد بعندك أعلى درجات المقربين لأن ما عند الله تعالى خير، ولأن المراد القرب من العرش، و‏{‏عِندَكَ‏}‏ بمعنى عند عرشك ومقر عزك وهو على ما قيل‏:‏ على الاحتمالات في إعرابه ولا يلزم كونه ظرفاً للفعل ‏{‏وَنَجّنِى مِن فِرْعَوْنَ‏}‏ أي من نفس فرعون الخبيثة وسلطانه الغشوم ‏{‏وَعَمَلِهِ‏}‏ أي وخصوصاً من عمله وهو الكفر وعبادة غير الله تعالى والتعذيب بغير جرم إلى غير ذلك من القبائح؛ والكلام على أسلوب ‏{‏مولاه وَجِبْرِيلُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 98‏]‏، وجوز أن يكون المراد ‏{‏نَجّنِى‏}‏ من عمل فرعون فهو من أسلوب أعجبني زيد وكرمه، والأول أبلغ لدلالته على طلب البعد من نفسه الخبيثة كأنه بجوهره عذاب ودمار يطلب الخلاص منه، ثم طلب النجاة من عمله ثانياً تنبيهاً على أنه الطامة العظمى، وخص بعضهم عمله بتعذيبه، وعن ابن عباس أنه الجماع، وما تقدم أولى ‏{‏وَنَجّنِى مِنَ القوم الظالمين‏}‏ من القبط التابعين له في الظلم قاله مقاتل، وقال الكلبي‏:‏ من أهل مصر‏:‏ وكأنه أراد بهم القبط أيضاً، والآية ظاهرة في أنها كانت مؤمنة مصدقة بالبعث، وذكر بعضهم أنها عمة موسى عليه السلام آمنت حين سمعت بتلقف العصا الإفك فعذبها فرعون‏.‏

وأخرج أبو يعلى‏.‏ والبيهقي بسند صحيح عن أبي هريرة أن فرعون وتد لامرأته أربعة أوتاد في يديها ورجليها فكانت إذا تفرقوا عنها أظلتها الملائكة عليهم السلام فقالت‏:‏ ‏{‏رَبّ ابن لِى عِندَكَ بَيْتاً فِى الجنة‏}‏ فكشف لها عن بيتها في الجنة وهو على ما قيل‏:‏ من درة، وفي رواية عبد بن حميد عنه أنه وتد لها أربعة أوتاد وأضجعها على ظهرها وجعل على صدرها رحى واستقبل بها عين الشمس فرفعت رأسها إلى السماء فقالت ‏{‏رَبّ ابن لِى‏}‏ إلى ‏{‏الظالمين‏}‏ ففرج الله تعالى عن بيتها في الجنة فرأته، وقيل‏:‏ أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة فدعت الله تعالى فرقى بروحها فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه، وعن الحسن فنجاها الله تعالى أكرم نجاة فرفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب وتتنعم فيها، وظاهره أنها رفعت بجسدها وهو لا يصح‏.‏

وفي الآية دليل على أن الاستعاذة بالله تعالى والالتجاء إليه عز وجل ومسألة الخلاص منه تعالى عند المحن والنوازل من سير الصالحين وسنن الأنبياء، وهو في القرآن كثير، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَرْيَمَ ابنة عِمْرَانَ‏}‏ عطف على ‏{‏امرأة فِرْعَوْنَ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 11‏]‏ أي وضرب مثلاً للذين آمنوا حالتها وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء مع كون أكثر قومها كفاراً، وجمع في التمثيل بين من لها زوج ومن لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييباً لقلوبهن على ما قيل، وهو من بدع التفاسير كما في «الكشاف»، وقرأ السختياني ابنه بسكون الهاء وصلاً أجراه مجرى الوقف ‏{‏التى أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا‏}‏ صانته ومنعته من الرجال؛ وقيل‏:‏ منعته عن دنس المعصية‏.‏

والفرج ما بين الرجلين وكني به عن السوءة؛ وكثر حتى صار كالصريح، ومنه ما هنا عند الأكثرين ‏{‏فَنَفَخْنَا فِيهِ‏}‏ النافخ رسوله تعالى وهو جبريل عليه السلام فالإسناد مجازي، وقيل‏:‏ الكلام على حذف مضاف أي فنفنخ رسولنا، وضمير ‏{‏فِيهِ‏}‏ للفرج، واشتهر أن جبريل عليه السلام نفخ في جيبها فوصل أثر ذلك إلى الفرج‏.‏

وروي ذلك عن قتادة، وقال الفراء‏:‏ ذكر المفسرون أن الفرج جيب درعها وهو محتمل لأن الفرج معناه في اللغة كل فرجة بين الشيئين، وموضع جيب درع المرأة مشقوق فهو فرج، وهذا أبلغ في الثناء عليها لأنها إذا منعت جيب درعها فهي للنفس أمنع، وفي «مجمع البيان» عن الفراء أن المراد منعت جيب درعها عن جبريل عليه السلام، وكان ذلك على ما قيل‏:‏ قولها ‏{‏إِنّى أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 18‏]‏ وأفاد كلام البعض أن أحصنت فرجها على ما نقل أولاً عن الفراء كناية عن العفة نحو قولهم‏:‏ هو نقي الجيب طاهر الذيل‏.‏

وجوز في ضمير ‏{‏فِيهِ‏}‏ رجوعه إلى الحمل، وهو عيسى عليه السلام المشعر به الكلام، وقرأ عبد الله فيها كما في الأنبياء، فالضمير لمريم، والإضافة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن رُّوحِنَا‏}‏ للتشريف، والمراد من روح خلقناه بلا توسط أصل، وقيل‏:‏ لأدنى ملابسة وليس بذاك ‏{‏وَصَدَّقَتْ‏}‏ آمنت ‏{‏بكلمات رَبَّهَا‏}‏ بصحفه عز وجل المنزلة على إدريس عليه السلام‏.‏ وغيره، وسماها سبحانه كلمات لقصرها ‏{‏وَكُتُبِهِ‏}‏ بجميع كتبه والمراد بها ما عدا الصحف مما فيه طول، أو التوراة‏.‏ والإنجيل‏.‏ والزبور، وعد المصحف من ذلك وإيمانها به ولم يكن منزلاً بعد كالإيمان بالنبي الموعود عليه الصلاة والسلام فقد كان صلى الله عليه وسلم من ذلك وإيمانها به ولم يكن منزلاً بعد كالإيمان بالنبي الموعود عليه الصلاة والسلام فقد كان صلى الله عليه وسلم مذكوراً بكتابه في الكتب الثلاث، وتفسير الكلمات والكتب بذلك هو ما اختاره جمع، وجوز غير واحد أن يراد بالكلمات ما أوحاه الله تعالى إلى أنبيائه عليهم السلام، وبالكتب ما عرف فيها مما يشمل الصحف وغيرها، وقيل‏:‏ جميع ما كتب مما يشمل اللوح وغيره، وأن يراد بالكلمات وعده تعالى ووعيده أو ذلك وأمره عز وجل ونهيه سبحانه، وبالكتب أحد الأوجه السابقة، وإرادة كلامه تعالى القديم القائم بذاته سبحانه من الكلمات بعيد جداً، وقرأ يعقوب‏.‏

وأبو مجلز‏.‏ وقتادة‏.‏ وعصمة عن عاصم ‏{‏صَدَّقْتَ‏}‏ بالتخفيف، ويرجع إلى معنى المشدد؛ وفي «البحر» أي كانت صادقة بما أخبرت به من أمر عيسى وما أظهره الله تعالى لها من الكرامات، وفيه قصور لا يخفى‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ والجحدري بكلمة على التوحيد فاحتمل أن يكون اسم جنس، وأن يكون عبارة عن كلمة التوحيد، وأن يكون عبارة عن عيسى عليه السلام فقد أطلق عليه عليه السلام أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم، وقد مر شرح ذلك، وقرأ غير واحد من السبعة وكتابه على الافراد فاحتمل أن يراد به الجنس وأن يراد به الإنجيل لا سيما إن فسرت الكلمة بعيسى عليه السلام، وقرأ أبو رجاء ‏{‏وَكُتُبِهِ‏}‏ بسكون التاء على ما قال ابن عطية، وبه‏.‏ وبفتح الكاف على أنه مصدر أقيم مقام الاسم على ما قال صاحب اللوامح‏.‏

‏{‏وَكَانَتْ مِنَ القانتين‏}‏ أي من عداد المواظبين على الطاعة فمن للتبعيض، والتذكير للتغليب، والإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال حتى عدت من جملتهم فهو أبلغ من قولنا‏:‏ وكانت من القانتات، أو قانتة، وقيل‏:‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية، والمراد كانت من نسل القانتين لأنها من أعقاب هارون أخي موسى عليهما السلام، ومدحها بذلك لما أن الغالب أن الفرع تابع لأصله ‏{‏والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ والذى خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏ وهي على ما في بعض الأخبار سيدة النساء ومن أكملهن، روى أحمد في مسنده‏:‏ سيدة نساء أهل الجنة مريم‏.‏ ثم فاطمة‏.‏ ثم خديجة‏.‏ ثم آسية‏.‏ ثم عائشة، وفي «الصحيح» كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا أربع‏:‏ آسية بنت مزاحم امرأة فرعون‏.‏ ومريم ابنة عمران‏.‏ وخديجة بنت خويلد‏.‏ وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام وخص الثريد وهو خبز يجعل في مرق وعليه لحم كما قيل‏:‏ إذا ما الخبز تأدمه بلحم *** فذاك أمانة الله الثريد

لا اللحم فقط كما قيل لأن العرب لا يؤثرون عليه شيئاً حتى سموه بحبوحة الجنة، والسر فيه على ما قال الطيبي‏:‏ إن الثريد مع اللحم جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة المؤنة في المضغ وسرعة المرور في المرىء فضرب به مثلاً ليؤذن بأنها رضي الله تعالى عنها أعطيت مع حسن الخلق حلاوة المنطق وفصاحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل والتحبب للبعل فهي تصلح للبعل والتحدث والاستئناس بها والإصغاء إليها، وحسبك أنها عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعقل غيرها من النساء وروت ما لم يرو مثلها من الرجال، وعلى مزيد فضلها في هذه السورة الكريمة من عتابها وعتاب صاحبتها حفصة رضي الله تعالى عنهما ما لا يخفى، ثم لا يخفى أن فاطمة رضي الله تعالى عنها من حيث البضعية لا يعدلها في الفضل أحد، وتمام الكلام في ذلك في محله‏.‏

وجاء في بعض الآثار أن مريم‏.‏ وآسية زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة، أخرج الطبراني عن سعد بن جنادة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله زوجني في الجنة مريم بنت عمران وامرأة فرعون وأخت موسى عليه السلام» وزعم نبوتها كزعم نبوة غيرهما من النساء كهاجر‏.‏ وسارة غير صحيح لاشتراط الذكورة في النبوة على الصحيح خلافاً للأشعري، وقد نبه على هذا الزعم العلامة ابن قاسم في الآيات البينات وهو غريب فليحفظ، والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة الملك‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏تَبَارَكَ الذى بِيَدِهِ الملك‏}‏ البركة النماء والزيادة حسية كانت أو عقلية وكثرة الخير ودوامه ونسبتها إلى الله عز وجل على المعنى الأول وهو الأليق بالمقام باعتبار تعاليه جل وعلا عما سواه في ذاته وصفاته وأفعاله وصيغة التفاعل للمبالغة في ذلك كما في نظائره مما لا يتصور نسبته إليه تعالى من الصيغ كالتكبر وعلى الثاني باعتبار كثرة ما يفيض منه سبحانه على مخلوقاته من فنون الخيرات والصيغة حينئذ يجوز أن تكون لإفادة نماء تلك الخيرات وازديادها شيئاً فشيئاً وآنا فآنا بحسب حدوثها أو حدوث متعلقاتها قيل ولاستقلالها بالدلالة على غاية الكمال وانبائها عن نهاية التعظيم لم يجز استعمالها في حق غيره سبحانه ولا استعمال غيرها من الصيغ في حقه تبارك وتعالى وقد مر تمام الكلام في هذا المقام وإسنادها إلى الموصول للاستشهاد بما في حيز الصلة على تحقق مضمونها لأن المراد بذلك أنه سبحانه كامل الإحاطة والاستيلاء بناء على أن بيده الملك استعارة تمثيلة لذلك ولا تجوز في شيء من مفرداته أو أن الملك على حقيقته واليد مجاز عن الإحاطة والاستيلاء كما قيل ولاستدعاء ذلك استغناء المنصف به مع افتقار الغير إليه في وجوده وكمالات وجوده كان له اختصاص بالموجود وكذلك في العرف العامي لا يطلق الملك على ما ليس كذلك فلذا قيل هنا في بيان معنى الآية تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا الكامل الإحاطة والاستيلاء على كل موجود وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ على كُلّ شَىْء قَدِيرٌ‏}‏ تكميل لذلك لأن القرينة الأولى تدل على التصرف التام في الموجودات على مقتضى إرادته سبحانه ومشيئته من غير منازع ولا مدافع لا متصرف فيها غيره عز وجل كما يؤذن به تقديم الظرف وهذه تدل على القدرة الكاملة الشاملة ولو اقتصر على الأولى لأوهم أن تصرفه تعالى مقصور على تغيير أحوال الملك كما يشاهد من تصرف الملاك المجازي فقرنت بالثانية ليوذن بانه عز سلطانه قادر على التصرف وعلى إيجاد الأعيان المتصرف فيها وعلى إيجاد عوارضها الذاتية وغيرها ومن ثم عقب ذلك بالوصف المتضمن للعوارض وهذا ما اختاره العلامة الطيبي وصاحب الكشاف اختار في القرينة الأولى ما ذكرناه فيها من التخصيص بالموجود فقال أي تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين الذي بيده الملك على كل موجود لما سمعت وفي الثانية التخصيص بالمعدوم فقال وهو على كل ما لم يوجد مما يدخل تحت القدرة قد ير ووجهه على ما في الكشف أن الشيء وان كان عاماً في كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه لكن لما قرن بالقدرة اختص بالمعدوم لاستغناء الموجود عن الفاعل عند جمهور المتكلمين القائلين بأن علة الاحتياج الحدوث وعليه الزمخشري وأصحابه وأما عند القائلين بأن علة الاحتياج الإمكان كالمحققين فلأن الاختيار يستدعي سبق العدم وجيء بالقرينة الثانية عليه تكميلاً أيضاً لأن الاختصاص بالموجود فيها إيهام نقص واختار صاحب التقريب أن قوله تعالى الذي بيده الملك مطلق وقوله سبحانه وهو على كل شيء قدير عام لما وضع له الشيء فيكون قد قصد بيان القدرة أولا وعمومها ثانيا ولم يرتض صنيع الزمخشري ونظر فيه بأن الشيء اما أن يختص بالموجود أو يشمل الموجود والمعدوم وعلى المذهبين فلا وجه لتخصيصه بما لم يوجد مع انضمام كل إليه اللهم إلا أن يقال خصصه به ليغاير ما قبله إذ خصصه بالموجود وفيه أيضاً نظر إذ لو عمم الثاني لتحقق التغاير أيضاً مع أن اليد مجاز عن القدرة فإن تخصصت به كما هو مذهبه تخصص الأول بالمعدوم وان لم تتخصص لم يتخصص الثاني بالمعدوم وادعى صاحب الكشف سقوطه بما نقلناه عنه واعترض عليه وأجيب بما لا يخلوا عن نظر فليتأمل ومن الناس من حمل الملك على الموجودات وجعل إليه مجازاً عن القدرة فيكون المعنى في قدرته الموجودة وتعقبه بعضهم بأن فيه ركاكة وأشار إلى أن الخلاص منها إما بجعل اليد مجازاً عن التصرف أو بتفسير الملك بالتصرف وقيل المراد من كون الملك بيده تعالى أنه عز وجل مالكه فمعنى بيده الملك مالك الملك وفسر الراغب الملك في مثل ذلك بضبط الشيء المتصرف فيه بالحكم وشاع تخصيصه بعالم الشهادة ويقابله حينئذ الملكوت وليس بمراد هنا كما لا يخفى وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الذى خَلَقَ الموت والحياة‏}‏ شروع في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة وبيان ابتنائهما على قوانين الحكم والمصالح واستتباعهما لغايات جليلة والموصول بدل من الموصول الأول وصلته كصلته في الشهادة بتعاليه عز وجل وجوز الطبرسي كونه خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي الخ والموت على ما ذهب الكثير من أهل السنة صفة وجودية تضاد الحياة واستدل على وجوديته بتعلق الخلق به وهو لا يتعلق بالعدمي لازلية الاعدام وأما ما روى عن ابن عباس من أنه تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء لا مات وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء لا تمر بشيء ولا يجد رائحتها شيء إلا حي فهو أشبه شيء بكلام الصوفية لا يعقل ظاهره وقيل هو وارد على منهاج التمثيل والتصوير وذهب القدرية وبعض أهل السنة إلى أنه أمر عدمي هو عدم الحياة عما هي من شأنه وهو المتبادر الأقرب وأجيب عن الاستدلال بالآية بأن الخلق فيها بمعنى التقدير وهو يتعلق بالعدمي كما يتعلق بالوجودي أوان الموت ليس عدما مطلقا صرفا بل عو عدم شيء مخصوص ومثله يتعلق به الخلق والإيجاد بناء على أنه إعطاء الوجود ولو للغير دون إعطاء الوجود للشيء في نفسه أو أن الخلق بمعنى الإنشاء والإثبات دون الإيجاد وهو بهذا المعنى يجري في العدميات أو أن الكلام على تقدير مضاف أي خلق أسباب الموت أو أن المراد بخلق الموت والحياة خلق زمان ومدة معينة لهما لا يعلمها إلا الله تعالى فإيجادهما عبارة عن إيجاد زمانهما مجازاً ولا يخفى الحال في هذه الاحتمالات ومن الغريب ما قيل أنه كنى بالموت عن الدنيا إذ هو واقع فيها وبالحياة عن الآخرة من حيث لا موت فيها فكأنه قيل الذي خلق الدنيا والآخرة والحق أنهما بمعناهما الحقيقي والموت على ما سمعت والحياة صفة وجودية بلا خلاف وهي ما يصح بوجوده الإحساس أو معنى زائد على العلم والقدرة يوجب للموصوف به حالاً لم يكن قبله من صحة العلم والقدرة وتقديم الموت على تقدير كونه عدما مطلقاً أعني عدم الحياة عما هي من شأنه ظاهر لسبقه على الوجود وعلى تقدير كونه العدم اللاحق كما هو الأنسب بالاردة هنا أعني عدم الحياة عما انصف بها فلان فيه مزيد عظة وتذكرة وزجر عن ارتكاب المعاصي وحث على حسن العمل ولذا ورد أكثروا من ذكرها ذم اللذات والحياة وان كانت داعية لذلك ضرورة أن من عرف أنها نعمة عظيمة وكان ذا بصيرة عمل شكر الله تعالى عليها لكنها ليست بمثابة الموت في ذلك فمن زعم أنها لا داعية فيها أصلاً وإنما ذكرت باعتبار توقف العمل عليها لم يدقق النظر وأل في الموضعين عوض عن المضاف إليه أي الذي خلق موتكم الطارىء وحياتكم أيها المكلفون ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ‏}‏ أي ليعاملكم معاملة من يختبركم ‏{‏أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏ أي أصوبه وأخلصه فيجازيكم على مراتب متفاوتة حسب تفاوت مراتب أعمالكم وأصل البلاء الاختبار ولأنه يقتضي عدم العلم بما اختبره وهو غير صحيح في حقه عز وجل حمل الكلام على ما ذكر ويرجع ذلك إلى الاستعارة التمثيلية واعتبار الاستعارة التبعية فيه دونها دون في البلاغة والمراد بالعمل ما يشمل عمل القلب وعمل الجوارح ولذا قال صلى الله عليه وسلم في الآية

«أيكم أحسن عقلاً وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عز وجل» أي أيكم أتم فهما لما يصدر عن جناب الله تعالى وأكمل ضبطا لما يؤخذ من خطابه سبحانه وايراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للمكلفين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضاً لا إلى الحسن والأحسن فقط للإيذان بأن المراد بالذات والمقصد الأصلي من الابتلاء هو ظهور كمال احسان المحسنين مع تحقق أصل الإيمان والطاعة في الباقين أيضاً لكمال تعاضد الموجبات له وأما الاعراض عن ذلك فبمعزل من الإندراج تحت لوقوع فضلاً عن الانتظام في سلك الغاية أو الفرض عند من يراه لأفعال الله عز وجل وإنما هو عمل يصدر عن عامله لسوء اختياره من غير مصحح له ولا تقريب وفيه من الترغيب في الترقي إلى معارج العلوم ومدارج الطاعات والزجر عن مباشرة نقائصها ما لا يخفى وجعل ذلك من باب الزيادة المطلقة أو من باب ‏{‏أي الفريقين خير مقاماً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 73‏]‏ ليس بذاك وأيكم أحسن مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب على أنها مفعول ثان ليبلوكم وذلك على ما في الكشاف لتضمنه معنى العلم وهل يسمى نحو هذا تعليقاً أم لا قيل فيه خلاف ففي البحر لأبي حيان نقلاً عن أصحابه أنه يسمى بذلك قال إذا عدى الفعل إلى اثنين ونصب الأول وجاءت بعده جملة استفهامية أو مقرونة بلام الابتداء أو بحرف نفي كانت الجملة معلقا عنها الفعل وكانت في موضع نصب كما لو وقعت في موضع المفعولين وفيها ما يعلق الفعل عن العمل وفي الكشاف هنا لا يسمى تعليقاً إنما التعليق أن يوقع بعد الفعل الذي يعلق ما يسد مسد المفعولين جميعاً كقولك علمت أيهما زيد وعلمت أزيد منطلق واما إذا ذكر بعده أحد المفعولين نحو علمت القوم أيهم أفضل فلا يكون تعليقاً والآية من هذا القبيل واعترضه صاحب التقريب بأن العلم مضمر وهو المعلق كما قال الفراء والزجاج ولا يلزم ذكر المفعول معه بل التقدير ليبلوكم فيعلم أيكم أحسن وأيضاً لا تقع الجملة الاستفهامية مفعولاً ثانياً لعلمت وإنما تقع موقع المفعولين في علمت أيهم خرج لأن المعنى علمت جواب هذا الاسفهام ولا معنى لتقدير مثله في علمته أيهم خرج وأجيب بأن التضمين يغني عن الإضمار وكون الجملة الاستفهامية لا تقع مفعولاً ثانياً ضعيف لأنها إذا وقعت مفعولاً أولاً في نحو لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على معنى لننزعن الذين يقال فيهم أيهم أشد كما قال الخليل فلم يمتنع وقوعها مفعولاً ثانياً بتأويل ليعلمكم الذين يقال في حقهم أيهم أحسن وإليه ذهب الطيبي ثم قال وقد انصف صاحب الانتصاف حيث قال التعليق عن أحد المفعولين فيه خلاف والأصح هو الذي اختاره الزمخشري وهذا النحو عشه فيه يدرج ويدري كيف يدخل ويخرج انتهى والذي ذكره في سورة هود أن في الآية تعليقاً لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إليه ومثله بقوله أنظر أيهم أحسن وجهاً فجعلوا بين كلاميه تنافيا وفي الكشف أن كلامه هناك صريح بأن التعليق فيه بمعنى تعليق فعل القلب على ما فيه استفهام وهو بهذا المعنى خاص بفعل القلب من غير تخصيص بالسبعة المتعدية إلى مفعولين وفي الاستفهام خاصة دون ما فيه لام الابتداء ونحوها صرح به الشيخ ابن الحاجب نصاً فلا ينافي ما ذكر في هذه السورة من أنه ليس بتعليق فإنما نفي التعليق بالمعنى المشهور وأما الحمل عن الاضمار في آية هود والتضمين في آية الملك للتفنن فلا وجه له بعد تصريحه بأنه استعارة انتهى وكذا على هذا لا وجه لكون ما هناك اختياراً لمذهب الفراء والزجاج وما هنا اختيار لمذهب آخر فتدبر وتذكر فإنه كثيراً ما يسئل عن ذلك قديماً وحديثاً والله تعالى الموفق ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ أي الغالب الذي لا يعجزه عقاب من أساء ‏{‏الغفور‏}‏ لمن شاء منهم أو لمن تاب على ما اختاره بعضهم لأنه أنسب بالمقام ‏{‏الذى‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏خَلَقَ سَبْعَ سموات‏}‏ قيل هو نعت للعزيز الغفور أو بيان أو بدل واختار شيخ الإسلام أنه نصب أو رفع على المدح متعلق بالموصولين السابقين معنى وان كان منقطعاً عنهما اعراباً منتظم معهما في سلك الشهادة بتعاليه سبحانه وتعالى ومع الموصول الثاني في كونه مداراً للبلاء كما نطق به قوله تعالى وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم ‏{‏أيكم أحسن عملا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 7‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏طِبَاقاً‏}‏ صفة لسبع وكون الوصف للمضاف إليه العدد ليس بلازم بل أكثرى وهو مصدر طابقت النعل بالنعل إذا خصفتها وصف به للمبالغة أو على حذف مضاف أي ذات طباق أو بتأويل اسم المفعول أي مطابقة وجوز أن يكون مفعولاً مطلقاً مؤكداً لمحذوف أي طوبقت طباقاً والجملة في موضع الصفة وأن يكون جمع طبق كجمل وجمال أو جمع طبقة كرحبة بفتح الحاء ورحاب والكلام بتقدير مضاف لأنه اسم جامد لا يوصف به أي ذات طباق وقيل يجوز كونه حالاً من سبع سموات لقربه من المعرفة بشموله الكل وعدم فرد وراء ذلك وتعقب بأن قصارى ذلك بعد القيل والقال أن يكون نحو شمس مما انحصر في فرد وهو لا تجىء الحال المتأخرة منه فلا يقال طلعت علينا شمس مشرقة وأياً ما كان فالمراد كما أخرج عبد بن حميد بعضها فوق بعض ولا دليل في ذلك على تلاصقها كما زعمه متقدمو الفلاسفة ومن وافقهم من الإسلاميين مخالفين لما نطقت به الأحاديث الصحيحة وان لم يكفر منكر ذلك فيما أرى واختلف في موادها فقيل الأولى من موج مكفوف والثانية من درة بيضاء والثالثة من حديد والرابعة من نحاس والخامسة من فضة والسادسة من ذهب والسابعة من زمردة بيضاء وقيل غير ذلك ولا أظنك تجد خبراً يعول عليه فيما قيل ولو طرت إلى السماء وأظنك لو وجدت لأولت مع اعتقاد أن الله عز وجل على كل شيء قدير وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّا ترى فِى خَلْقِ الرحمن مِن تفاوت‏}‏ صفة أخرى على ما في الكشاف لسبع سموات وضع فيها خلق الرحمن موضع الضمير الرابط للتعظيم والاشعار بعلة الحكم بحيث يمكن أن يترتب قياس من الشكل الأول ينتج نفي رؤية تفاوت فيها وبأنه عز وجل خلقها بقدرته القاهرة رحمة وتفضلاً وبأن في إبداعها نعماً جليلة وما ذكره ابن هشام في الباب الرابع من المغنى من أن الجملة الموصوف بها لا يربطها إلا الضمير اما مذكوراً وإما مقدراً ليس بحجة على جار الله والتوفيق بأن ذلك إذا لم يقصد التعظيم ليس بشيء لأنه لا بد له من نكتة سواء كانت التعظيم أو غيره واستظهر أبو حيان أنه استئناف وان خلق الرحمن عام للسموات وغيرها والخطاب لكل أحد ممن يصلح للخطاب وجوز أن يكون لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم ولعل الأول أولى ومن لتأكيد النفي أي ما ترى شيئاً من تفاوت أي اختلاف وعدم تناسب كما قال قتادة وغيره من الفوت فإن كلا من المتفاوتين يفوت منه بعض ما في الآخر وفسر بعضهم التفاوت بتجاوز الشيء الحد الذي يجب له زيادة أو نقصاً وهو المعنى بالاختلاف وعلى ذلك قول بعض الأدباء

‏.‏ تناسبت الأعضاء فيه فلا ترى *** بهن اختلافاً بل أتين على قدر

وقال السدى أي من عيب وإليه يرجع قول من قال أي من تفاوت يورث نقصاً وقال عطاء بن يسار أي من عدم استواء وقيل أي من اضطراب وقيل أي من اعوجاج وقيل أي من تناقض ومآل الكل ما ذكرنا ومن الغريب ما قاله شيخ الطائفة الكشفية في زماننا من أن بين الأشياء جميعها ربطاً وهو نوع من التجاذب لا يفوت بسببه بعضها عن بعض وحمل الآية على ذلك وإلى نحو هذا ذهب الفلاسفة اليوم فزعموا أن بين الأجرام علويها وسفليها تجاذباً على مقادير مخصوصة به حفظت أوضاعها وارتبط بعضها ببعض لكن ذهب بعضهم إلى أن ما به التجاذب والارتباط يضعف قليلاً قليلاً على وجه لا يظهر له أثر إلا في مدد طويلة جداً واستشعروا من ذلك إلى أنه لا بد من خروج هذا العالم المشاهد عن هذا النظام المحسوس فيحصل التصادم ونحوه بين الأجرام وقالوا إن كان قيامة فهو ذاك ولا يخفى حال ما قاله وما قالوه وإن الآية على ما سمعت بمعزل عن ذلك وقرأ عبد الله وعلقمة والأسود وابن جبير وطلحة والأعمش من تفوت بشد الواو مصدر تفوت وحكى أبو زيد عن العرب في تفاوت فتح الواو وضمها وكسرها والفتح والكسر شاذان كما في البحر وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ‏}‏ متعلق بما قبله على معنى التسبب أي عن الاخبار بذلك فإنه سبب للأمر بالرجوع دفعا لما يتوهم من الشبهة فهو في المعنى جواب شرط مقدر أي ان كنت في ريب من ذلك فارجع البصر حتى يتضح الحال ولا يبقى لك ريب وشبهة في تحقق ما تضمنه ذلك المقال من تناسب خلق الرحمن واستجماعه ما ينبغي له‏.‏ والفطور قال مجاهد الشقوق جمع فطر وهو الشق يقال فطره فانفطر والظاهر أن المراد الشق مطلقاً لا الشق طولاً على ما هو أصله كما قال الراغب وفي معناه قول أبي عبيدة الصدوع وأنشدوا قول عبيد الله بن عقبة بن مسعود‏.‏ شققت القلب ثم ذررت فيه *** هواك فليط فالتأم الفطور

وقول السدى الخروق وأريد بكل ذلك على ما يفهم من كلام بعض الأجلة الخلل وبه فسره قتادة وفسره ابن عباس بالوهن وجملة هل ترى الخ قال أبو حيان في موضع نصب بفعل معلق محذوف أي فانظر هل ترى أو ضمن فارجع البصر معنى فانظر ببصرك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ‏}‏ أي رجعتين أخريين في ارتياد الخلل والمراد بالتثنية التكرير والتكثير كما قالوا في لبيك وسعديك أي رجعة بعد رجعة أي رجعات كثيرة بعضها في أثر بعض وهذا كما أريد باصل المثنى التكثير في قوله‏:‏ لوعد قبر وقبر كان أكرمهم *** بيتاً وأبعدهم عن منزل الذام

فإنه يريد لوعدت قبور كثيرة وقيل هو على ظاهره وأمر برجع البصر إلى السماء مرتين إذ يمكن غلط في الأولى فيستدرك بالثانية أو الأولى ليرى حسنها واستواءها والثانية ليبصر كواكبها في سيرها وانتهائها وليس بشيء ويؤيد الأول قوله تعالى ‏{‏يَنقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا‏}‏ فإنه جواب الأمر والجوابية تقتضي الملازمة وما تضمنه لا يلزم من المرتين غالباً والمعنى يعد إليك البصر محروماً من إصابة ما التمسه من إصابة العيب والخلل كأنه طرد عنه طردا بالصغار بناء على ما قيل أنه مأخوذ من خسأ الكلب المتعدي أي طرده على أنه استعارة لكن في الصحاح يقال خسا بصره خسا وخسوأ أي سدر والسدر تحير النظر فكان تفسير خاسئاً بمتحيراً أخذاً له من ذلك أقرب وكأنهم اختاروا ما تقدم لأن فيه مبالغة وبلاغة ظاهرة مع كونه أبعد عن التكرار مآلا مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ حَسِيرٌ‏}‏ أي كليل من طول المعاودة وكثرة المراجعة يقال حسر بعيره يحسر حسوراً أي كل وانقطع فهو حسير ومحسور وقال الراغب الحسر كشف الملبس عما عليه يقال حسرت عن الذراع أي كشفت والحاسر من لا درع عليه ولا مغفر وناقة حسير انحسر عنها اللحم والقوة ونوق حسرى والحاسر أيضاً المعيي لانكشاف قواه ويقال له أيضاً محسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وحسير في الآية يصح أن يكون بمعنى حاسر وأن يكون بمعنى محسور والجملة في موضع الحال كالوصف السابق من البصر ويحتمل أن تكون حالاً من الضمير فيه وقرأ الخوارزمي عن الكسائي ينقلب بالرفع وخرج على أن الجملة في موضع حال مقدرة وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ زَيَّنَّا السماء‏}‏ الخ كلام مسوق للحث على النظر قدرة وامتناناً وفي الإرشاد بيان لكون خلق السموات في غاية الحسن والبهاء أثر بيان خلوها عن شائبة العيب والقصور وتصدير الجملة بالقسم لإبراز كمال العناية بمضمونها أي وبالله لقد زينا السماء ‏{‏الدنيا‏}‏ منكم أي التي هي أتم دنوا منكم من غيرها فدنوها بالنسبة إلى ما تحت وأما بالنسبة إلى من حول العرش فبالعكس ‏{‏بمصابيح‏}‏ جمع مصباح وهو السراج وتجوز به عن الكوكب ثم جمع أو تجوز بالمصابيح ابتداء عن الكواكب وفسره بعض اللغويين بمقر السراج فيكون حينئذ تجوزاً على تجوز ولا حاجة إليه مع تصريحهم بأن المصباح نفس السراج أيضاً وتنكيرها للتعظيم أي بمصابيح عظيمة ليست كمصابيحكم التي تعرفونها وقيل للتنويع والأول أولى والظاهر أن المراد الكواكب المضيئة بالليل إضاءة السراج من السيارات والثوابت بناء على أنها كلها في أفلاك ومجار متفاوتة قرباً وبعدا في ثخن السماء الدنيا وكون السماء هي الفلك خلاف المعروف عن السلف وإنما هو قول قاله من أراد الجمع بين كلام الفلاسفة الأولى وكلام الشريعة فشاع فيما بين الإسلام واعتقده من اعتقده وعن عطاء أن الكواكب في قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور في أيدي ملائكة وعليه فزينا السماء بمصابيح كقول القائل

زينت السقف بالقناديل *** وهو ظاهر لكن الخبر لا يكاد يصح ومن اعتقد أن السماء الدنيا فلك القمر والست الباقية أفلاك السيارات الباقية على الترتيب المشهور وأن للثوابت فلكاً مخصوصاً يسمى بلسان الشرع بالكرسي أو جوز أن تكون هذه في فلك زحل وهو السماء السابعة أو يكون بعضها في فلك وبعضها الآخر في آخر فوقه أو كل منها في فلك وسماء غير السبع والاقتصار على العدد القليل لا ينفي الكثير قال إن تخصيص السماء بالتزيين بها لأنها إنما ترى عليها ولا ترى جرم ما فوقها أو رعاية لمقتضى إفهام العامة لتعذر التمييز بين سماء وسماء عليهم فهم يرون الكواكب كجواهر متلألئة على بساط الفلك الأزرق الأقرب ومن اعتبر ما عليه أهل الهيئة اليوم من أن الكواكب فلك عجائب القدرة مواخر في بحر جو الفضاء على وجه مخصوص تقتضيه الحكمة ومجاريها فيه هي أفلاكها وقد تحركت إذ تحركت في خلاء أو ما يشبهه مع قوى بها تجاذبت وارتبطت ولها حركات على أنفسها وحركات غير ذلك وليست مركوزة كما اشتهر في أجرام صلبة شفافة لا ثقيلة ولا خفيفة تسمى أفلاكاً أو سماء وهي متفاوتة قرباً وبعداً تفاوتاً كلياً وإن رؤيت كلها قريبة لسبب خفي إلى الآن عليهم حتى أن منها ما لا يصل شعاعه إلينا إلا في عدة سنين مع أن شعاع الشمس وبيننا وبينها أربعة وثلاثون مليوناً من الفراسخ والمليون ألف ألف يصل إلينا في ثمان دقائق وثلاث عشرة ثانية إلى آخر ما زعموا فيها قال يجوز أن يراد بالسماء الدنيا طبقة مخصوصة في هذا الفضاء وبالمصابيح كواكب فيها نفسها قد زينت تلك الطبقة بها تزيين فضاء دار بطيور يطرن وحائمات فيه مثلاً أو جميع ما يرى من الكواكب وإن كان فوقها وتزيينها بذلك بإظهاره فيها كما مر وأنت تعلم أن من تصدى لتطبيق الآيات والأخبار على ما قاله الفلاسفة مطلقاً فقد تصدى لأمر لا يكاد يتم له والله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أحق بالاتباع نعم تأويل النقلي إنما ينبغي إذا قام الدليل العقلي على خلاف ما دل عليه وأكثر أدلة الفلاسفة قاعدة على العجز عن إثباتها إثباتاً صحيحاً ما يخالف أدلة أهل الشرع كما لا يخفى على من استضاء بمصابيحه ‏{‏وجعلناها رُجُوماً للشياطين‏}‏ الضمير للمصابيح على ما هو الظاهر لا للسماء الدنيا على معنى جعلنا منها أي من جهتها كما قيل والرجوم جمع رجم بالفتح وهو مصدر سمي به ما يرجم به أي يرمى فصار له حكم الأسماء الجامدة ولذا جمع وإن كان الأصل في المصادر أنها لا تجمع وقيل أنه هنا مصدر بمعنى الرجم أيضاً والمراد بالشياطين مسترقوا السمع ورجمهم على ما اشتهر بانقضاض الشهب المسببة عن الكواكب وإليه ذهب غير واحد من المفسرين وهو مبني على ما قرره الفلاسفة المتقدمون من أن الكواكب نفسها غير منقضة وإنما المنقض شعل نارية تحدث من أجزاء متصاعدة لكرة النار لكنها بواسطة تسخين الكواكب للأرض فالتجوز في إسناد الجعل إليها أو في لفظها وهو مجاز بوسايط وقال الشهاب لا مانع من جعل المنقض نفسه من جنس الكواكب وإن خالف اعتقاد الفلاسفة وأهل الهيئة ولكن في النصوص الإلهية ما فيه رجوم للشياطين انتهى‏.‏

وأقول‏:‏ لا يخفى أن ذلك المبنى لا يتم أيضاً إلا بثبوت كرة النار الذي لا تراهم يستدلون عليه إلا بحدوث هذه الشهب وسلف الأمة لا يقولون بذلك وكذا أهل الفلسفة الجديدة وهؤلاء لم يحققوا إلى الآن أمر هذه الشهب لكن يميلون إلى أنها أجسام انفصلت عن الكواكب التي يزعمونها عوالم مشتملة على جبال ونحوها اشتمال الأرض على ذلك وخرجت لبعض الحوادث عن حد القوى الجاذبة لها إلى ما انفصلت عنه ولم تصل إلى حد جذب قوة الأرض لها فبقيت تدور عند منتهى كرة الأرض وما يحيط بها من الهواء فإذا عرض لها الدخول في هواء الأرض أثناء حركتها احترقت كلاً أو بعضاً كما تحترق بعض الأجسام المحفوظة عن الهواء إذا صادمها الهواء وربما تصل في بعض حركاتها إلى حد جذب الأرض فتقع عليها وبعضهم يزعم في الحجارة الساقطة من الجو التي تسمى عندهم بالابروليت يعنون حجارة الهواء أنها من تلك الأجسام وكل ذلك حديث خرافة ورجم بظنون فاسدة وقصارى ما يقال في هذه الشهب أنها تحتمل أن تكون ناشئة من أجرام من جنس الكواكب فيها قوة الإحراق سواء كان كل مضىء محرقاً أم لا متكونة في جو هذا الفضاء المشاهد إلا أنها لغاية صغرها لا تشاهد ولو بالنظارات حتى إذا قربت بانقضاضها شوهدت وقد تصادف في انقضاضها أجساماً متصاعدة من الأرض فتحرقها وربما يتصل الحريق إلى ما يقرب من الأرض جداً وربما تكونت الحجارة من ذلك ثم إن العقل يجوز أن يكون لها دوران على شكل من الأشكال فترجع بعد ما يشاهد لها من الانقضاض وأن تتلاشى بعد انقضاضها ويخلق الله تعالى غيرها من مادة لا يعلمها إلا هو عز وجل والضمير المنصوب في جعلناها وإن عاد على المصابيح لكن لم يعد عليها إلا باعتبار الجنس دون خصوصية كونها مزينة بها السماء الدنيا نظير

‏{‏وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏ وعندي درهم ونصفه لما أن التزيين باعتبار الظهور ولا ظهور لهذه الأجرام قبل انقضاضها وإن اعتبر في كونها مصابيح أو كواكب أو نجوماً ظهورها في نفسها ولمن يقرب منها دون خصوصية ظهورها لنا وفي كونها زينة للسماء كونها زينة لها في الجملة فالأمر ظاهر جداً ويحتمل أن تكون ناشئة من المصابيح المشاهدة المزين بها بأن ينفصل عنها وهي في محلها شعل هي الشهب وما ذاك إلا كقبس يؤخذ من نار والنار ثابتة وإليه ذهب الجبائي وكثير وهو محتمل لأن يكون لكل منها قابلية أن ينفصل عنه ذلك وأن يكون القابلية لبعضها دون بعض وهذا لعدم الاطلاع على حقائق الأجرام العلوية وأحوالها في أنفسها والكلام نحو قولك اسكن الأمير قبيلة كذا في ثغر كذا وجعلها ترمى بالبنادق من يقرب منه فإنه لا يلزم أن يكون لكل واحد منها قابلية الرمي ثم لا يلزم أن يكون كل ما يشاهد من الشهب قبساً من المصابيح بل يجوز أن يكون بعضه وهو الذي ترمى به الشياطين منها وبعضه من أمور تحدث في الجو من اصطكاك أو نحوه وتفاوت الشهب قلة وكثرة يحتمل أن يكون لتفاوت حوادث الجو وأن يكون لتفاوت الاستراق وليس في الآيات والأخبار ما هو نص في أن الشهب لا تكون إلا لرمي الشياطين فيحتمل أن يكون أكثر الشهب من الحوادث الجوية وذوات الأذناب منها في رأي المتقدمين وهي في أنفسها دون أذنابها نجوم كثيرة جداً تدور لا كما يدور غيرها من النجوم فتقرب تارة وتبعد أخرى فتخرج عن مدارات السيارات إلى حيث لا تشاهد أصلاً عند فلاسفة العصر ولهم فيها كلام أطول من أذنابها وقد أورد الإمام الرازي في هذا الفصل أسئلة وشبهاً أجاب عنها بما أجاب ونحن فعلنا نحو ذلك فيما تقدم على وجه أتم فليتذكر وقد أطنبنا هناك الكلام فيما يتعلق بهذا المقام إلا أن بعضاً مما ذكرناه هناك فخذ من الموضعين ما صفا ودع ما كدر بعد أن تتأمل حق التأمل وتتدبر وقيل معنى الآية وجعلناها ظنوناً ورجوماً بالغيب لشياطين الإنس وهم المنجمون المعتقدون تأثير النجوم في السعادة والشقاوة ونحوهما وقد رددنا عليهم أي رد فيما تقدم فارجع إليه إن أردته فإنه نفيس جداً ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ‏}‏ وهيأنا للشياطين ‏{‏عَذَابِ السعير‏}‏ عذاب النار المسعرة المشعلة في الآخرة بعد الإحراق في الدنيا بالشهب ولا يمنع من ذلك أنهم خلقوا من نار لأنهم ليسوا ناراً فقط بل هي أغلب عناصرهم فهي منهم كالتراب من بني آدم فيتأثرون من ذلك على أنه تكون ناراً أقوى من نار واستدل بالآية على أن النار مخلوقة الآن وعلى أن الشياطين مكلفون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ‏}‏ من غير الشياطين أو منهم ومن غيرهم على أنه تعميم بعد التخصيص لدفع ايهام اختصاص العذاب بهم والجار والمجرور خبر مقدم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَذَابَ جَهَنَّمَ‏}‏ مبتدأ مؤخر والحصر إضافي بقرينة النصوص الواردة في تعذيب العصاة فلا حجة فيه لمن قال من المرجئة لا يعذب غير الكفرة وقرأ الضحاك والأعرج وأسيد بن أسيد المزني وحسن في رواية هارون عنه عذاب بالنصب عطفاً عن ‏{‏عذاب السعير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏ أي وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم ‏{‏وَبِئْسَ المصير‏}‏ أي جهنم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا‏}‏ أي طرحوا فيها كما يطرح الحطب في النار العظيمة ‏{‏سَمِعُواْ لَهَا‏}‏ أي لجهنم نفسها كما هو الظاهر ويؤيده ما بعد والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏شَهِيقًا‏}‏ لأنه في الأصل صفته فلما قدمت صارت حالاً أي سمعوا كائناً لها شهيقاً أي صوتاً كصوت الحمير وهو حسيسها المنكر الفظيع ففي ذلك استعارة تصريحية وجوز أن يكون الشهيق لأهلها ممن تقدم طرحهم فيها ومن أنفسهم كقوله تعالى ‏{‏لهم فيها زفير وشهيق‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 106‏]‏ والكلام على حذف مضاف أو تجوز في النسبة واعترض بأن ذلك إنما يكون لهم بعد القرار في النار وبعد ما يقال لهم ‏{‏اخسؤا فيها‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 108‏]‏ وهو بعد ستة آلاف سنة من دخولهم كما في بعض الآثار ورد بأن ذلك إنما يدل على انحصار حالهم حينئذٍ في الزفير والشهيق لا على عدم وقوعهما منهم قبل ‏{‏تَكَادُ تَمَيَّزُ‏}‏ أي والحال أنها تغلي بهم غليان المرجل بما فيه ‏{‏وَهِىَ تَفُورُ‏}‏ أي ينفصل بعضها من بعض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏مِنَ الغيظ‏}‏ من شدة الغضب عليهم قال الراغب الغيظ أشد الغضب وقال المرزوقي في الفصيح أنه الغضب أو أسؤه وقد شبه اشتعال النار بهم في قوة تأثيرها فيهم وإيصال الضرر إليهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر إليه على سبيل الاستعارة التصريحية ويجوز أن تكون هنا تخييلية تابعة للمكنية بأن تشبه جهنم في شدة غليانها وقوة تأثيرها في أهلها بإنسان شديد الغيظ على غيره مبالغ في إيصال الضرر إليه فتوهم لها صورة كصورة الحالة المحققة الوجدانية وهي الغضب الباعث على ذلك واستعير لتلك الحالة المتوهمة للغيظ وجوز أن يكون الإسناد في تكاد تميز إلى جهنم مجازاً وإنما الإسناد الحقيقي إلى الزبانية وأن يكون الكلام على تقدير مضاف أي تميز زبانيتهم من الغيظ وقيل إن الله تعالى يخلق فيها إدراكاً فنغتظ عليهم فلا مجاز بوجه من الوجوه وورد في بعض الأخبار ما يؤيد ذلك وزعم بعضهم أنه لا حاجة لشيء مما ذكر لمكان تكاد كما في قوله تعالى ‏{‏يكاد زيتها يضىء ولو لم تمسسه نار‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 35‏]‏ وفيه ما فيه والجملة إما حال من فاعل تفور أو خبر آخر وقرأ طلحة تتميز بتاءين وأبو عمرو تكاد تميز بإدغام الدال في التاء والضحاك تمايز على وزن تفاعل وأصله تتمايز بتاءين وزيد بن علي وابن أبي عبلة تميز من ماز ‏{‏كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ‏}‏ استئناف مسوق لبيان حال أهلها بعد بيان نفسها وقيل لبيان حال آخر من أحوال أهلها وجوز أن تكون الجملة حالاً من ضميرها أي كلما ألقي فيها جماعة من الكفرة ‏{‏سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا‏}‏ وهم مالك وأعوانه عليهم السلام والسائل يحتمل أن يكون واحداً وأن يكون متعدداً وليس السؤال سؤال استعلام بل هو سؤال توبيخ وتقريع وفيه عذاب روحاني لهم منضم إلى عذابهم الجسماني ‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ‏}‏ يتلو عليكم آيات الله وينذركم لقاء يومكم هذا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ اعترافاً بأنه عز وجل قد أزاح عللهم بالكلية ‏{‏بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ‏}‏ وجمعوا بين حرف الجواب ونفس الجملة المجاب بها مبالغة في الاعتراف بمجىء النذير وتحسراً على ما فاتهم من السعادة في تصديقهم وتمهيداً لما وقع منهم من التفريط تندماً واغتماماً على ذلك أي قال كل فوج من تلك الأفواج قد جاءنا نذير أي واحد حقيقة أو حكماً كنذر بني إسرائيل فإنهم في حكم نذير واحد فانذرنا وتلا علينا ما أنزل الله تعالى من آياته ‏{‏فَكَذَّبْنَا‏}‏ ذلك النذير في كونه نذيراً من جهته تعالى ‏{‏وَقُلْنَا‏}‏ في حق ما تلاه من الآيات إفراطاً في التكذيب وتمادياً في النكير ‏{‏مَّا نَزَّلَ الله‏}‏ على أحد ‏{‏مِن شَىْء‏}‏ من الأشياء فضلاً عن تنزيل الآيات على بشر مثلكم ‏{‏إِنْ أَنتُمْ‏}‏ أي ما أنتم في ادعاء ما تدعونه ‏{‏إِلاَّ فِى ضلال كَبِيرٍ‏}‏ بعيد عن الحق والصواب وجمع ضمير الخطاب مع أن مخاطب كل فوج نذيره لتغليبه على أمثاله ولو فرضاً ليشمل أول فوج أنذرهم نذير والأصل أنت وأمثالك ممن ادعى أو يدعي دعواك مبالغة في التكذيب وتمادياً في التضليل كما ينبىء عنه تعميم المنزل مع ترك ذكر المنزل عليه فإنه ملوح بعمومه حتماً وأما إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكل فقيل أمر تحقيقي يصار إليه لتهويل ما ارتكبوه من الجناية لكن لا مساغ لاعتباره من جهتهم ولا لإدراجه تحت عبارتهم كيف لا وهو منوط بملاحظة اجتماع النذر على ما لا يختلف من الشرائع والأحكام باختلاف العصور والأعوام وأين هم من ذلك وقد حال الجريض دون القريض هذا إذا جعل ما ذكر حكاية عن كل واحد من الأفواج كما هو الظاهر وأما إذا جعل حكاية عن الكل فالنذير إما بمعنى الجمع لأنه فعيل وهو يستوي فيه الواحد وغيره أو مصدر مقدر بمضاف عام أي أهل نذير أو منعوت به للمبالغة فيتفق كلا طرفي الخطاب في الجمعية ويستشعر من بعض العبارات جواز اعتبار الجمعية بأحد الأوجه المذكورة على الوجه الأول أيضاً وفيه بحث وجوز أن يكون الخطاب من كلام الخزنة للكفار على إرادة القول على أن مرادهم بالضلال ما كانوا عليه في الدنيا أو هلاكهم أو عقاب ضلالهم تسمية له باسم سببه وهو خلاف الظاهر كما لا يخفى وكذا ما قيل من جواز كونه من كلام النذير للكفرة حكوه للخزنة وفي «الكشف» هذا الوجه فيه تكلف بين فأما أن يكون مقول قول محذوف يستدعيه قد جاءنا نذير كأنه قيل بلى قد جاءنا نذير قال إن أنتم إلا في ضلال كبير فكذبنا وقلنا وقدم فكذبنا وقلنا تنبيهاً على أن التكذيب لم يكن مقصوراً على قولهم هذا وأما أن يكون التكذيب واقعاً على الجملة أعني إن أنتم وقوله سبحانه وقلنا ما نزل الله من شيء عطف على كذبنا قدم على صلته ليجري مجرى الاعتراض مؤكداً لحكم التكذيب ودالاً على عدم القصر أيضاً والأول أولى انتهى واستدل بالآية على أنه لا تكليف قبل البعثة وحمل النذير على ما في العقول من الأدلة مما لا يقبله منصف ذوي العقول‏.‏