فصل: تفسير الآية رقم (18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ‏}‏ شروع في بيان إفراطه في الكفران بتفصيل ما أفاض عز وجل عليه من مبدأ فطرته إلى منتهى عمره من فنون النعم الموجبة لأن تقابل بالشكر والطاعة مع إخلافه بذلك والاستفهام قيل للتحقير وذكر الجواب أعني قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ‏}‏ لا يقتضي أنه حقيقي لأنه ليس بجواب في الحقيقة بل على صورته وهو بدل من قوله سبحانه من أي شيء خلقه وجوز أن يكون للتقرير والتحقير مستفاد من شيء المنكر وقيل التحقير يفهم أيضاً من قوله سبحانه من نطفة الخ أي من أي شيء حقير مهين خلقه من نطفة مذرة خلقه ‏{‏فَقَدَّرَهُ‏}‏ فهيأه لمايصلح ويليق به من الأعضاء والأشكال فالتقدير بمعنى التهيئة لما يصلح ولذا ساغ عطفه بالفاء دون التسوية لأن الخلق بمعنى التقدير بهذا المعنى أو يتضمنه فلا تصلح الفاء وجوز أن يكون هذا تفصيلاً لما أجمل أولاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ‏}‏ أي فقدره أطواراً إلى أن أتم خلقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ‏}‏ أي ثم سهل مخرجه من البطن كما جاء في رواية عن ابن عباس بأن فتح فم الرحم ومدد الأعصاب في طريقه ونكس رأسه لأسفل بعد أن كان في جهة العلو وعن ابن عباس أيضاً وقتادة وأبي صالح والسدي المراد بالسبيل سبيل النظر القويم المؤدي إلى الايمان وتيسيره له هو هبة العقل وتمكينه من النظر وقال مجاهد والحسن وعطاء وهو رواية عن الحبر أيضاً هو سبيل الهدي والضلال أي سهل له الطريق الذي يريد سلوكه من طريق الخير والهدي وطريق الشر والضلال بأن أقدره عز وجل على كل ومكنه منه والإقدار على المراد نعمة ظاهرة بقطع النظر عن خيرته وشريته فلا يرد عليه أنه كيف يعد تسهيل طريق الشهر والضلال من النعم وقيل أنه عد منها لأنه لو لم يكن مسهلاً كسبيل الخير لم يستحق المدح والثواب بالإعراض عنه وتركه وهو مبني على القول بأن ترك المحرم كالزنا مع عدم القدرة عليه لعنة مثلاً لا يثاب عليه وقيل يثاب ويمدح عليه إذا قدر التارك في نفسه أنه لو تمكن لم يفعل وقال بعضهم العجز عن الشر نعمة وأنشد‏:‏

جكونه شكر ابن نعمت كزارم *** كه زور مردم أزاري ندارم

ونصب لسبيل بمضمر يفسره الظاهر وفيه مبالغة في التيسير وتمكين في النفس بسبب التكرير قيل وفي تعريفه باللام دون الإضافة إشعار بعمومه فأنه لو قيل سبيله أوهم أنه على التوزيع وإن لكل إنسان سبيلاً يخصه وخص بعضهم هذه النكتة بالمعنى الأخير للسبيل فتدبر وعلى هذا المعنى قيل إن فيه إيماء إلى أن الدنيا طريق والمقصد غيرها لما أشعرت به الآية من أن الميسر سبيل المكلفين الذي يترتب عليه الثواب والعقاب وفيه خفاء وأياً ما كان فالضمير المنصوب في يسره للسبيل وليس في التفكيك لبس حتى يكون نقصاً في البيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ‏}‏ أي جعله ذا قبر توارى فيه جيفته تكرمة له ولم يجعله مطروحاً على الأرض يستقذره من يراه وتقتسمه السباع والطير إذا ظفرت كسائر الحيوان والمراد من جعله إذا قبر أمره عز وجل بدفنه يقال قبر الميت إذا دفنه بيده ومنه قول الأعشى‏:‏ لو أسندت ميتاً إلى نحرها *** عاش ولم ينقل إلى قابر

وأقبره إذا أمر بدفنه أو مكن منه ففي الآية إشارة إلى مشروعية دفن الإنسان وهي مما لا خلاف فيه وأما دفن غيهر من الحيوانات فقيل هو مباح لا مكروه وقد يطلب لأمر مشروع يقتضيه كدفع أذى جيفته مثلاً وعد الإماتة من النعم لأنها وصلة في الجملة إلى الحياة الأبدية والنعيم المقيم وخصت هذه النعم بالذكر لما فيها من ذكر أحوال الإنسان من ابتدائه إلى انتهائه وما تتضمن من النعم التي هي محض فضل من الله تعالى فإذا تأمل ذلك العاقل علم قبح الكفر وكفران نعم الرب سبحانه وتعالى فشكره جل وعلا بالايمان والطاعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ‏}‏ أي ءذا شاء إنشاره أنشره على القاعدة المعروفة في حذف مفعول المشيئة وفي تعليق الإنشار بمشيئته تعالى إيذان بأن وقته غير معين أصلاً بل هو تابع لها وهذا بخلاف الاماتة فإن وقتها معين إجمالاً على ما هو المعهود في الأعمار الطبيعية وكذا الحال في وقت الاقبار بل هو أظهر في ذلك وقرأ شعيب بن الحجاب كما في «كتاب اللوامح» وابن أبي حمزة كما في تفسير بن عطية نشره بدون همزة وهما لغتان في الاحياء وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع للإنسان عما هو عليه من كفران النعم البالغ نهايته وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏}‏ بيان لسبب الردع ولما نافية جازمة ونفيها غير منقطع وما موصولة وضمير أمره إما للإنسان كالمستتر في يقض والعائد إلى الموصول محذوف أي به أو للموصول على الحذف والإيصال والعائد إلى الموصول والمراد بما أمره جميع ما أمره والمعنى على ما قال غير واحد لم يقض من أول زمان تكليفه إلى زمان أمانته وإقباره أو من لدن آدم عليه السلام إلى هذه الغاية مع طول المدى وامتداده جميع ما أمره فلم يخرج من جميع أوامره تعالى إذ لا يخلو أحد عن تقصير ما ونقل هذا عن مجاهد وقتادة وفيه حمل عدم القضاء على نفي العموم وتعقب بأنه لا ريب في أن مساق الآيات الكريمة لبيان غاية عظم الإنسان وتحقيق كفرانه المفرط المستوجب للسخط العظيم وظاهر أن ذلك لا يتحقق بهذا القدر من نوع تقصير لا يخلو عنه أحد من أفراده واختير أن يحمل عدم القضاء على عموم النفي أما على أن المحكوم عليه هو الإنسان المستغني أوهو الجنس لكن لا على الإطلاق بل على أن مصداق الحكم بعدم القضاء بعض أفراده وقد أسند إلى الكل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الإنسان لظلوم كفار‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏ وأما على أن مصداقه الكل من حيث هو كل بطريق رفع الايجاب الكلي دون السلب الكلي فالمعنى لما يقض جميع أفراده ما أمره بل أخل به بضعها بالكفر والعصيان مع أن مقتضى ما فصل من فنون النعماء الشاملة للكل أن لا يتخلف عنه أحد وعن الحسن أن ‏{‏كَلاَّ‏}‏ بمعنى حقاً فيتعلق بما بعده أي حق لم يعمل بما أمره به وقال ابن فورك الضمير يقض لله تعالى أي لم يقض الله تعالى لهذا الكافر ما أمره به من الايمان بل أمره إقامة للحجة عليه بما لم يقض له ولا يخفى بعده والظاهر عليه أن ‏{‏كَلاَّ‏}‏ بمعنى حقاً أيضاً وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ‏}‏ على معنى إذا كان هذا حال الإنسان وهو أنه إلى الآن لم يقض ما أمره مع أن مقتضى النعم السابقة القضاء فلينظر إلى طعامه الخ لعله يقضي وفي «الحواشي العصامية» لا يخفى ما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 23‏]‏ من كمال تهييج الإنسان وتحريضه على امتثال ما يعقبه من الأمر بالنظر وتفريع الأمر عليه مبني على أن الائتمار كما ينبغي أن يتيسر بعد الارتداع عما هو عليه والظاهر أن المراد بالإنسان هنا نحو ما أريد به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُتِلَ الإنسان‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 17‏]‏ ولما جوز «صاحب الحواشي» المذكورة حمل عدم القضاء على السلب الكلي وجعل الكلام في الإنسان المبالغ في الكفر قال فالمراد بضمير يقض غير الإنسان الذي أمر بالنظر فإنه عام فلذا أظهر وتضمن ما مر ذكر النعم الذاتية أي ما يتعلق بذات الإنسان من الذات نفسها ولوازمها وهذا ذكر النعم الخارجية المقابلة لذلك وقيل الأولى نعم خاصة والثانية نعم عامة وقيل تلك نعم متعلقة بالحدوث وهذه نعم متعلقة بالبقاء وفيه نظر والظاهر أن المراد بالطعام المطعوم بأنواعه واقتصر عليه ولم يذكر المشروب لأن آثار القدرة فيه أكثر من آثارها في المشروب واعتبار التغليب لا يخفى ما فيه وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏أَنَّا صَبَبْنَا الماء‏}‏ بدل منه بدل اشتمال فإنه لكونه من أسباب تكونه كالمشتمل عليه والعائد محذوف أي ‏{‏صَبَبْنَا‏}‏ له وجوز كونه بدل كل من كل على معنى فلينظر الإنسان إلى انعامنا في طعامه أنا ‏{‏صَبَبْنَا‏}‏ الخ وهو كما ترى وأياً ما كان فالمقصود بالنظر هو البدل وبذلك يضعف ما روى عن أبي وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم أن المعنى فلينظر إلى طعامه إذا صار رجيعاً ليتأمل عاقبة الدنيا وما تهالك عليه أهلها ولعمري أن هذا بعيد الإرادة عن السياق ولا أظن أنه وقع على صحة روايته عن هؤلاء الأجلة الاتفاق وظاهر الصب يقتضي تخصيص الماء بالغيث وهو المروي عن ابن عباس وجوز بعضهم إرادة الأعم وقال إن في كل ماء صبا من الله تعالى بخلق أسبابه على أصول النباتات وأنت تعلم أن إيصال الماء إلى أصول النباتات يبعد تسميته صباً وتأكيد الجملة للاعتناء بمضمونها مع كونها مظنة لإنكار القاصر لعدم الإحساس بفعل من الله تعالى وإنما يعرف الاستناد إليه عز وجل بالنظر الصحيح وقرأ الأكثر إنا بالكسر على الاستئناف البياني كأنه لما أمر سبحانه بالنطر إلى ما رزقه جل وعلا من أنواع المأكولات قيل كيف أحدث ذلك وأوجد بعد أن لم يكن فقيل ‏{‏أَنَّا صَبَبْنَا‏}‏ الخ وقرأ الإمام الحسين بن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجههما ورضي سبحانه عنهما أنى ‏{‏صَبَبْنَا‏}‏ بفتح الهمزة والإمالة على معنى فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء ‏{‏صَبّاً‏}‏ عجيباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ شَقَقْنَا الارض‏}‏ أي بالنبات كما قال ابن عباس ‏{‏شَقّاً‏}‏ بديعاً لائقاً بما يشقها من النبات صغراً وكبراً وشكلاً وهيئة وقيل شقها بالكراب وإسناده إلى ضميره تعالى مجاز من باب الإسناد إلى السبب وإن كان الله تعالى عز وجل هو الموجد حقيقة فقد تبين في موضعه أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا من صدر عنه إيجاداً ولهذا يشتق اسم الفاعل له وتعقب بأنه يأباه كلمة ثم والفاء في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً‏}‏ فإن الشق بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الأمطار أصلاً ولأبينه وبين إنبات الحب بلا مهلة فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان النعم الفائضة من جنابه تعالى على وجه بديع خارج عن العادات المعهودة كما ينبىء عنه أرداف الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام وللبحث فيه مجال وقيل عليه أيضاً أن الشق بالكراب لا يظهر في العنب والزيتون والنخل وأجيب بأنه ليس من لوازم العطف تقييد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ويحتمل أن يكون ذكر الكراب في القيل على سبيل التمثيل أو أريد به ما يشمل الحفر وجوز أن يكون المراد شقها بالعيون على أن المراد بصب الماء أمطار المطر وبهذا إجراء الأنهار وتعقب بأنه يأباه ترتب الشب على صب الماء بكلمة التراخي وأيضاً ترتب الانبات على مجموع الصب والشق بالمعنى المذكور لا يلائم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَاء ثَجَّاجاً لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً‏}‏ ‏[‏النبأ‏:‏ 14، 15‏]‏ الآية لإشعاره باستقلال الصب وإنزال الغيث في ذلك ودفعاً بأن ماء العيون من المطر لا من الأبخرة المحتبسة في الأرض ولا يخفى على ذي عين أن هذا الوجه بعيد متكلف والمراد بالحب جنس الحبوب التي يتقوت بها وتدخر كالحنطة والشعير والذرة وغيرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَعِنَبًا وَقَضْبًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَعِنَباً‏}‏ معروف ‏{‏وَقَضْباً‏}‏ أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال هو الفصفصة وقيدها الخليل بالرطبة وقال إذا يبست فهي القت وسميت بمصدر قضبه أي قطعه مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثره نفس القطع وضعف هذا من فسر الأب بما يشمل ذلك وقيل هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضاً من النبات كالبقول والهليون وفي «البحر» عن الحبر أنه الرطب وهو يقضب من النخل واستأنس له بذكره مع العنب ولا يخفى ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً‏}‏ هما معروفان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَحَدَائِقَ غُلْبًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَحَدَائِقَ‏}‏ رياضاً ‏{‏غُلْباً‏}‏ أي عظاماً وأصله جمع أغلب وغلباء صفة العنق وقد يوصف به الرجل لكن الأول هو الأغلب ومنه قول الأعشى‏:‏ يمشي بها غلب الرقاب كأنهم *** بزل كسين من الكحيل جلالا

ووصف الحدائق بذلك على سبيل الاستعارة شبه تكاثف أوراق الأشجار وعروقها بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع اندماج بعضها في بعض في غلظ الرقبة ولا يرد أن الغلظ في الأشجار أقوى لأن الأمر بالعكس نظراً إلى الاندماج وتقوي البعض بالبعض حتى صارت شيئاً واحداً وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل كما في المرسن بأن يراد بالأغلب الغليظ مطلقاً وتجوز في الإسناد أيضاً لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها وقال بعض المراد بالحدائق نفس الأشجار لمكان العطف على ما في حيز ‏{‏أنبتنا‏}‏ فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وفاكهة‏}‏ قيل هي الثمار كلها وقيل بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان وأياً ما كان فذكر ما يدخل فيها أولاً للاعتناء بشأنه ‏{‏وَأَبّاً‏}‏ عن ابن عباس وجماعة أنه الكلأ والمرعى من أبه إذا أمه وقصده لأنه يؤم ويقصد أو من أب لكذا إذا تهيأ له متهىء المرعى ويطلق على نفس مكان الكلأ ومنه قوله‏:‏ جذمنا قيس ونجد دارنا *** ولنا الأب بها والمكرع

وذكر بعضهم أن ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيدة والحصيد وما يأكله غيرهم يسمى الأب وعليه قول بعض الصحابة يمدح النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ له دعوة ميمونة ريحها الصبا *** بها ينبت الله الحصيدة والأبا

وأخرج عبد بن حميد عن الضحاك أنه التبن خاصة وقيل هو يابس الفاكهة لأنها تؤب وتهيأ للشتاء للتفكه بها وأخرج أبو عبيد في فضائله وعبد بن حميد عن إبراهيم التيمي قال سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الأب ما هو فقال أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله تعالى ما لا أعلم وأخرج ابن سعد وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وغيرهم عن أنس أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأ على المنبر ‏{‏فأنبتنا فيها حباً وعنباً‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏ 27‏]‏ إلى قوله‏:‏ وأباً فقال كل هذا قد عرفناه فما الأب ثم رفض عصا كانت في يده فقال هذا لعمر الله هو التكلف فما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري ما الأب ابتغوا ما بين لكم من هذا الكتاب فاعملوا به وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه وفي «صحيح البخاري» من رواية أنس أيضاً أنه قرأ ذلك وقال فما الأب ثم قال ما كلفنا أو ما أمرنا بهذا ويتراءى من ذلك النهي عن تتبع معاني القرآن والبحث عن مشكلاته وفي «الكشاف» لم يذهب إلى ذلك ولكن القوم كانت أكبر همتهم عاكفة على العمل وكان التشاغل بشيء من العلم لا يعمل به تكلفاً فأراد رضي الله تعالى عنه أن الآية مسوقة في الامتنان على الإنسان بمطمعه واستدعاء شكره وقد علم من فحواها أن الأب بعض ما أنبت سبحانه للإنسان متاعاً له أو لأنعامه فعليك بما هو أهم من النهوض بالشكر له عز وجل على ما تبين لك ولم يشكل مما عدد من نعمته تعالى ولا تتشاغل عنه بطلب معنى الأب ومعرفة النبات الخاص الذي هو اسم له واكتف بالمعرفة الجملية إلى أن يتبين لك في غير هذا الوقت ثم وصى الناس بأن يجروا على هذا السنن فيما أشبه ذلك من مشكلات القرآن انتهى وهو قصارى ما يقال في توجيه ذلك لكن في بعض الآثار عن الفاروق كما في «الدر المنثور» ما يبعد فيه إن صح هذا التوجيه في شيء وهو أنه ينبغي أن خفاء تعيين المراد من الأب على الشيخين رضي الله عنهما ونحوها من الصحابة وكذا الاختلاف فيه لا يستدعي كونه غريباً مخلاً بالفصاحة وأنه غير مستعمل عند العرب العرباء وقد فسره ابن عباس لابن الأزرق بما تعتلف منه الدواب واستشهد به بقول الشاعر‏:‏ ترى به الأب واليقطين مختلطاً *** ووقع في شعر بعض الصحابة كما سمعت ومن تتبع وجد غير ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏متاعا لَّكُمْ ولانعامكم‏}‏ قيل إما مفعول له أي فعل ذلك تمتيعاً لكم ولمواشيكم فإن بعض النعم المعدودة طعام لهم وبعضها علف لدوابهم ويوزع وينزل كل على مقتضاه والالتفات لتكميل الامتنان وإما مصدر مؤكد لفعله المضمر بحذف الزوائد أي متعكم بذلك متاعاً أو لفعل مرتب عليه أي فتمتعتم بذلك متاعاً أي تمتعاً أو مصدر من غير لفظه فإن ما ذكر من الأفعال الثلاثة في معنى التمتيع وقد مر الكلام في نظيره فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا جَاءتِ الصاخة‏}‏ شروع في بيان أحوال معادهم بعد بيان ما يتعلق بخلقهم ومعاشهم والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشعر به لفظ المتاع من سرعة زوال هاتيك النعم وقرب اضمحلالها والصاخة هي الداهية العظيمة من صخ بمعنى أصاخ أي استمع والمراد بها النفخة الثانية ووصفت بها لأن الناس يصخون لها فجعلت مستمعة مجازاً في الظرف أو الإسناد وقال الراغب الصاخة شدة صوت ذي النطق يقال صخ يصخ فهو صاخ فعليه هي بمعنى الصائحة مجازاً أيضاً وقيل مأخوذة من صخه بالحجر أي صكه وقال الخليل هي صيحة تصخ الآذان صخاً أي تصمها لشدة وقعتها ومنه أخذ الحافظ أبو بكر بن العربي قوله الصاخة هي التي تورث الصمم وأنها لمسمعة وهو من بديع الفصاحة كقوله‏:‏ أصم بك الداعي وإن كان اسمعا *** ثم قال ولعمر الله تعالى‏:‏ إن صيحة القيامة مسمعة تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة والكلام في جواب إذا وفي يوم من قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 35‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ ‏(‏34‏)‏ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ وَأُمّهِ وَأَبِيهِ وصاحبته‏}‏ أي زوجته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏وَبَنِيهِ‏}‏ على نحو ما تقدم في النازعات فتذكره فما في العهد من قدم أي يوم يعرض عنهم ولا يصاحبهم ولا يسأل عن حالهم كما في الدنيا لاشتغاله بحال نفسه كما يؤذن به قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏لِكُلّ امرىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ‏}‏ فإنه استئناف وارد لبيان سبب الفرار وجعله جواب إذا والاعتذار عن عدم التصدير بالفاء بتقدير الماضي بغير قد أو المضارع المثبت أو بالفاء إبدال يوم يفر المرء عنه إياه لأن البدل لا يطلب جزاء لا يخفى حاله على من شرط الإنصاف على نفسه أي لكل واحد من المذكورين شغل شاغل وخطب هائل يكفيه في الاهتمام به وأخرج الطبراني وابن مردويه والبيهقي والحاكم وصححه عن أم المؤمنين سودة بنت زمعة قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً قد الجمهم العرق وبلغ شحوم الآذان قلت يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضهم إلى بعض قال شغل الناس عن ذلك وتلا يوم يفر» الآية وجاء في رواية الطبراني عن سهل بن سعد أنه قيل له عليه الصلاة والسلام ما شغلهم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نشر الصحائف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل» وقيل يفر منهم لعلمه أنهم لا يغنون عنه شيئاً وكلام الكشاف يشعر بذلك ويأباه ما سمعت وكذا ما قيل يفر منهم حذراً من مطالبتهم بالتبعات يقول الأخ لم تواسني بمالك والأبوان قصرت في برنا والصاحبة أطعمتني الحرام وفعلت وصنعت والبنون لم تعلمنا ولم ترشدنا ويشعر بذلك ما أخرج أبو عبيد وابن المنذر عن قتادة قال ليس شيء أشد على الإنسان يوم القيامة من أن يرى من يعرفه مخافة أن يكون يطلبه بمظلمة ثم قرأ يوم يفر الآية وذكر المرء بناءً على أنه الرجل لا الإنسان ليعلم منه حال المرأة من باب أولى وقيل هو من باب التغليب وفيه نظر وجعل القاضي ذكر المتعاطفات على هذا النمط من باب الترقي على اعتبار عطف الأب على الأم سابقاً على عطفهما على الأخ فيكون المجموع معطوفاً عليه وكذا في صاحبته وبنيه فقال تأخير الأحب فالأحب للمبالغة كأنه قيل يفر من أخيه بل من أبويه بل من صاحبته وبنيه ولا يخفى تكلفه مع اختلاف الناس والطباع في أمر الحب ولعل عدم مراعاة ترق أو تدل لهذا الاختلاف مع الرمز إلى أن الأمر يومئذٍ أبعد من أن يخطر بالبال فيه ذلك وروي عن ابن عباس أنه يفر قابيل من أخيه هابيل ويفر النبي صلى الله عليه وسلم من أمه ويفر إبراهيم عليه السلام من أبيه ويفر نوح عليه السلام من ابنه ويفر لوط عليه السلام من امرأته وفي خبر رواه ابن عساكر عن الحسن نحو ذلك وفيه فيرون أن هذه الآية أعني يوم يفر الخ نزلت فيهم وكلا الخبرين لا يعول عليهما ولا ينبغي أن يلتفت إليهما كما لا يخفى والذي أدين الله تعالى به نجاة أبويه صلى الله عليه وسلم وقد ألفت رسائل في ذلك رغماً لأنف علي القاري ومن وافقه وأعتقد أن جميع آبائه عليه الصلاة والسلام لا سيما من ولداه بلا واسطة أوفر الناس حظاً مما أوتي هناك من السعادة والشرف وسمو القدر

‏.‏ كم من أب قد سما بابن ذرى شرف *** كما سما برسول الله عدنان

وقرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميفع يعنيه بفتح الياء وبالعين المهملة أي يهمه من عناه الأمر إذا أهمه أي أوقعه في الهم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» لا من عناه إذا قصده كما زعمه أبو حيان وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ‏}‏ بيان لمآل أمر المذكورين وانقسامهم إلى السعداء والأشقياء بعد ذكر وقوعهم في داهية دهياء فوجوه مبتدأ وسوغ الابتداء به كونه في حيز التنويع كما مر ومسفرة خبره ويومئذٍ متعلق به أي مضيئة متهللة من أسفر الصبح إذا أضاء وعن ابن عباس أن ذلك من قيام الليل وعن الضحاك من آثار الوضوء فيختص ذلك بهذه الأمة أي لأن الوضوء من خواصهم قيل أي بالنسبة إلى الأمم السابقة فقط لا مع أنبيائهم عليهم السلام وقيل من طول ما اغبرت في سبيل الله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏ضاحكة مُّسْتَبْشِرَةٌ‏}‏ أي مسرورة بما تشاهد من النعيم المقيم والبهجة الدائمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ‏}‏ أي غبار وكدورة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏تَرْهَقُهَا‏}‏ أي تعلوها وتغشاها ‏{‏قَتَرَةٌ‏}‏ أي سواد وظلمة ولا ترى أوحش من اجتماع الغرة والسواد في الوجه وسوى الفيروزأبادي والجوهري بين الغبرة والقترة فقيل المراد بالقترة الغبار حقيقة وبالغبرة ما يغشاهم من العبوس من الهم وقيل هما على حقيقتهما والمعنى أن عليها غباراً وكدورة فوق غبار وكدورة وقال زيد بن أسلم الغبرة ما انحطت إلى الأرض والقترة ما ارتفع إلى السماء والمراد وصول الغبار إلى وجوههم من فوق ومن تحت والمعول عليه ما تقدم وقرأ ابن أبي عبلة قترة بسكون التاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى أصحاب تلك الوجوه وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتهم في سوء الحال أي أولئك الموصوفون بما ذكر ‏{‏هُمُ الكفرة الفجرة‏}‏ أي الجامعون بين الكفر والفجور فلذلك جمع الله تعالى لهم بين الغبرة والقترة وكان الغبرة للفجور والقترة للكفور نعوذ بالله عز وجل من ذلك‏.‏

‏[‏سورة التكوير‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏إِذَا الشمس كُوّرَتْ‏}‏ أي لفت من كورت العمامة إذا لففتها وهو مجاز عن رفعها وإزالتها من مكانها بعلاقة اللزوم فإن الثوب إذا أريد رفعه يلف لفاً ويطوى ثم يرفع ونحوه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ نَطْوِى السماء‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 104‏]‏ ويجوز أن يراد لف ضوئها المنبسط في الآفاق المنتشر في الأقطاء إما على أن الشمس مجاز عن الضوء فإنه شائع في العرف أو على تقدير المضاف أو على التجوز في الإسناد ويراد من لفه إذهابه مجازاً بعلاقة اللزوم كما سمعت آنفاً أو رفعه وستره استعارة كما قيل وقد اعتبر تشبيه الضوء بالجواهر والأمور النفيسة التي إذا رفعت لفت في ثوب ثم تعتبر الاستعارة ويجعل التكوير بمعنى اللف قرينة ليكون هناك استعارة مكنية تخييلية وكون المراد إذهاب ضوئها مروى عن الحسن وقتادة ومجاهد وهو ظاهر ما رواه جماعة عن ابن عباس من تفسيره كورت باظلمت والظاهر أن ذاك مع بقاء جرمها كالقمر في خسوفه وفي الآثار ما يؤيد ذلك وقيل أن ذاك عبارة عن إزالة نفس الشمس والذهاب بها للزوم العادي واستلزام زوال اللازم لزوال الملزوم ويجوز أن يكون المراد بكورت ألقيت عن فلكها وطرحت من طعنه فحوره وكوره أي ألقاه مجتمعاً على الأرض والقاؤها في جهنم مع عبدتها كما يدل عليه بعض الأخبار المرفوعة ويذهب إذ ذاك نورها كما صرح به القرطبي أو في «البحر» كما يدل عليه خبر ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن عتيك وفيه أن الله تعالى يبعث ريحاً دبوراً فتنفخه أي البحر حتى يرجع ناراً وعظم جرم الشمس اليوم لا يقتضي استحالة القائها في البحر ذلك اليوم لجواز اختلاف الحال في الوقتين والله عز وجل على كل شيء قدير لكن جاء في الأخبار الصحيحة أن الشمس تدنو يوم القيامة من الرؤوس في المحشر حتى تكون قدر ميل ويلجم الناس العرق يومئذٍ ولا بحر حينئذٍ لتلقى فيه بعد فلا تغفل وعن أبي صالح كورت نكست وفي رواية عن ابن عباس تكويرها إدخالها في العرش وعن مجاهد أيضاً اضمحلت ومدار التركيب على الإدارة والجمع هذا ولم نقف لأحد من السلف على إرادة لفها حقيقة وللمتأخرين في جواز إرادته خلاف فقيل لا تجوز إرادته لأن الشمس كرية مصمتة وغاية اللف هي الإدارة وهي حاصلة فيها وقيل تجوز لأن كون الشمس كذلك مما لا يثبته أهل الشرع وعلى تسليمه يجوز أن يحدث فيها قابلية اللف بأن يصيرها سبحانه منبسطة ثم يلفها وله عز وجل في ذلك ما له من الحكم ويبعد إرادة الحقيقة فيما أرى كونها كيفما كانت من الأجرام التي لا تلف كالثياب نعم القدرة في كل وقت لا يتعاصاها شيء وارتفاع الشمس بفعل مضمر يفسره المذكور عند جمهور البصريين لاختصاص إذا الشرطية عندهم بالفعل وعلى الابتداء عند الأخفش والكوفيين لعدم الاختصاص عندهم وكون التقدير خلاف الأصل وكذا يقال في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا النجوم انكدرت‏}‏ أي انقضت وسقطت كما أخرجه عبد بن حميد عن مجاهد وقتادة ومنه انكدر البازي إذا نزل بسرعة على ما يأخذه قال العجاج يمدح عمر بن معمر التيمي‏:‏

إذا الكرام ابتدروا الباع بدر *** تقضي البازي إذا البازي كسر

داني جناحيه من الطود فمر *** أبصر خربان فضاء فانكدر

وهذا إحدى روايتين عن ابن عباس وروي عنه أنه قال لا يبقى يومئذٍ نجم إلا سقط في الأرض وعنه أيضاً أن النجوم قناديل معلقة بين السماء والأرض بسلاسل من نور بأيدي ملائكة من نور فإذا مات من في السموات والأرض تساقطت من أيديهم وظاهر هذا أن النجوم ليست في جرم أفلاك لها كما يقول الفلاسفة المتقدمون بل معلقة في فضاء ويقرب منه من وجه قول الفلاسفة المحدثين فإنهم يقولون بكونها في فضاء أيضاً لكن بقوى متجاذبة لا معلقة بسلاسل بأيدي ملائكة وليس وراء ما يشاهد منها الأسماء بمعنى جهة علو لا سماء بالمعنى المعروف وإن صح خبر الحبر وهو في حكم المرفوع لم نعدل عن ظاهره إلا أن ظهر استحالته وهيهات ذلك وحينئذٍ فالأمر سهل وقد ذكر بعض المتألهين أن الملائكة قد تطلق على الأرباب النورية كما في خير إن لكل شيء ملكاً وأن كل قطرة من قطرات المطر ينزل معها ملك وخبر أتاني ملك الجبال وملك البحار وتسمى المثل الأفلاطونية وهي أنوار مجردة قائمة بنفسها مدبرة بإذن الله تعالى للمربوبات حافظة إياها وهي المنمية والغاذية والمولدة في النباتات والحيوانات ويقال في السلاسل أنه أريد بها القوى التي بها حفظ الأوضاع أو نحو ذلك وقيل انكدرت تغيرت وانطمس نورها كما هو الرواية الأخرى عن ابن عباس من كدرت الماء فانكدر ففيه تشبيه انطماس نورها بتكدر الماء الذي لا يبقى معه صفاؤه ورونق منظره وتكون هي حينئذٍ على ما في بعض الآثار مع عبدتها في النار وظاهر أن النجوم لا تشمل الشمس وقيل تشملها وذكرها بعدها تعميم بعد تخصيص فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا الجبال سُيّرَتْ‏}‏ أي أزيلت عن أماكنها من الأرض بالرجفة الحاصلة على أن التسيير مجاز عن ذلك وقيل سيرت بعد رفعها في الجو كما قال تعالى ‏{‏وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِىَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 88‏]‏ وهذا إنما يكون بعد النفخة الثانية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا العشار‏}‏ جمع عشراء كنفاس جمع نفساء وهي الناقة التي أتى عليها من يوم أرسل فيها الفحل عشرة أشهر ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع وقد يقال لها ذلك بعدما تضع أيضاً وهي أنفس ما يكون عند أهلها وأعز شيء عليهم ‏{‏عُطّلَتْ‏}‏ تركت مهملة لا راعي لها ولا طالب وقيل عطلها أهلها عن الحلب والصر وقيل عن أن يرسل فيها الفحول وذلك إذا كان قبيل قيام القيامة لاشتغال أهلها بما عراهم مما يكون إذ ذاك وقيل إن هذا التعطيل يوم القيامة فقال القرطبي الكلام على التمثيل إذ لا عشار حينئذٍ والمعنى أنه لو كانت عشار لعطلها أهلها واشتغلوا بأنفسهم وقيل على الحقيقة أي إذا قاموا من القبور وشاهدوا الوحوش والأنعام والدواب محشورة ورأوا عشارهم التي كانت كرائم أموالهم فيها لم يعبؤا بها لشغلهم بأنفسهم وهو كما ترى وقيل المرادب العشاء السحاب على تشبيه السحابة المتوقع مطرها بالناقة العشراء القريب وضع حملها وفيه استعارة لطيفة مع المناسبة التامة بينه وبين ما قبله فإن السحب تنعقد على رؤوس الجبال وترى عندها ولا ينافيه كونه مناسباً لما بعده على الأول فإنه معنى حقيقي مرجح بنفسه وتعطيلها مجاز عن عدم ارتقاب مطرها لأنهم في شغل عنه وقيل عن عدم إمطارها وقيل هي الديار تعطل فلا تسكن وقيل الأرض التي يعشر زرعها تعطل فلا تزرع وقرأ مضر عن اليزيدي عطلت بالتخفيف والبناء للمجهول ونقله في اللوامح عن ابن كثير ثم قال هو وهم إنما هو عطلت بفتحتين بمعنى تعطلت لأن تشديده للتعدية يقال عطلت الشيء وأعطلته فعطل بنفسه وعطلت المرأة فهي عاطل إذا لم يكن عليها حلى فلعل هذه القراءة لغة استوى فيها فعلت وافعلت أي في التعدي وقيل اوظهر أنه عدي بالحرف ثم حذف وأوصل الفعل بنفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا الوحوش‏}‏ جمع وحش وهو حيوان البر الذي ليس في طبعه التأنس ببني آدم والمراد به ما يعم البهائم مطلقاً ‏{‏حُشِرَتْ‏}‏ أي جمعت من كل جانب وذلك قبيل النفخة الأولى حين تخرج نار تفر الناس والأنعام منها حتى تجتمع وقيل أميتت من قولهم إذا أجحنت السنة الناس حشرتهم ونحوه ما أخرج عبد بن حميد عن مجاهد أنهق ال حشرها موتها وعن ابن عباس تفسير الحشر بالجمع إلا أنه قال كما أخرجه جماعة وصححه الحاكم جمعت بالموت فلا تبعث ولا يحضر في القيامة غير الثقلين وقيل بعثت للقصاص فيحشر كل شيء حتى الذباب وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً وعن قتادة وجماعة وفي رواية عن الحبر تحشر الوحوش حتى يقتص من بعضها لبعض فيقتص للجماء من القرناء ثم يقال لها موتي فتموت وقيل إذا قضى بينها ردت تراباً فلا يبقى منها إلا ما فيه سرور لبني آدم وإعجاب بصورته كالطاووس والظبي وقيل يبقى كل ما لم ينتفع به إلا المؤمن كشاة لم يأكل منها إلا هو ويدخل ما يبقى الجنة على حال لائقة بها وذهب كثير إلى بعض جميع الحيوانات ميلاً إلى هذه الأخبار ونحوها فقد أخرج مسلم والترمذي عن أبي هريرة في هذه الآية قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجماء من الشاة القرناء» وزاد أحمد بن حنبل وحتى الذرة من الذرة ومال حجة الإسلام الغزالي وجماعة إلى أنه لا يحشر غير الثقلين لعدم كونه مكلفاً ولا أهلاً للكرامة بوجه وليس في هذا الباب نص من كتاب أو سنة معول عليها يدل على حشر غيرهما من الوحوش وخبر مسلم والترمذي وإن كان صحيحاً لكنه لم يخرج مخرج التفسير للآية ويجوز أن يكون كناية عن العدل التام وإلى هذا القول أميل ولا أجزم بخطأ القائلين بالأول لأن لهم ما يصلح مستنداً في الجملة والله تعالى أعلم وقرأ الحسن وعمرو بن ميمون حشرت بالتشديد للتكثير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ أي أحميت بأن تغيض مياهها وتظهر النار في مكانها ولذا ورد على ما قيل أن البحر غطاء جهنم أو ملئت بتفجير بعضها إلى بعض حتى يكون مالحها وعذبها بحراً واحداً من سجر التنور إذا ملأه بالحطب ليحميه وقيل ملئت نيراناً تضطرم لتعذيب أهل النار وقيل ملئت تراباً تسوية لها بأرض المحشر وليس له مستند أثر عن السلف ونقل في «البحر» عن كتاب لغات القرآن إن سجرت بمعنى جمعت بلغة خثعم ولعل جمعها عليه بالتفجير وقال ابن عطية يحتمل أن يكون المعنى ملكت وقيد اضطرابها حتى لا يخرج عن الأرض من الهول فيكون ذلك مأخوذاً من ساجور الكلب وهو خشبة تجعل في عنقه ويقال سجره إذا شده به وقرأ ابن كثير وأبو عمرو سجرت بالتخفيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا النفوس زُوّجَتْ‏}‏ أي قرنت كل نفس بشكلها أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن النعمان بن بشير عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن ذلك فقال يقرن الرجل الصالح مع الرجل الصالح في الجنة ويقرن الرجل السوء مع الرجل السوء في النار فذلك تزويج الأنفس وفي حديث مرفوع رواه النعمان أيضاً ما يقتضي ظاهره ذلك وقال بعض هذا في الموقف أن يقرن بين الطبقات الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل وقال مقاتل بن سليمان تقرن نفوس المؤمنين بأزواجهم من الحور وغيرهن ونفوس الكافرين بالشياطين وقيل تقرن كل نفس بكتابها وقيل بعملها وجوز أن يراد تقرن كل نفس بخصمها فلا يمكنها الفرار منه وأنت تعلم أن كون كل نفس ذا خصم بين الانتفاء وأياً ما كان فالنفس بمعنى الذات والتزويج جعل الشيء زوجاً أي مقارناً وقال عكرمة والضحاك والشعبي نقرن النفوس بأزواجها وذلك عند البعث والنفس عليه بمعنى الروح وقرأ عاصم زوجت على فوعلت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا‏}‏ وهي البنت التي تدفن حية من الوأد وهو الثقل كأنها سميت بذلك لأنها تثقل بالتراب حتى تموت وقيل هو مقلوب الأود وحكاه المرتضى في درره عن بعض أهل اللغة وهو غير مرتضى عند أبي حيان وكانت العرب تئد البنات مخافة لحوق العار بهم من أجلهن وقيل مخافة الإملاق ولعله بالنسبة إلى بعضهم ومنهم من يقول الملائكة بنات الله سبحانه عما يقولون فالحقوا البنات به تعالى فهو عز وجل أحق بهن وذكر غير واحد أنه كان الرجل منهم إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبة من صوف أو شعر ترعى له الإبل والغنم في البادية وإن أراد قتلها تركها حتى إذا كانت سداسية فيقول لأمها طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئراً في الصحراء فيبلغ بها البئر فيقول لها انظري فيها ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تستوي البئر بالأرض وقيل كانت الحامل إذا قربت حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت بنتاً رمت بها فيها وإن ولدت ابناً حبسته ورأيت إذ أنا يافع في بعض الكتب أن أول قبيلة وأدت من العرب ربيعة وذلك أنهم أغير عليهم فنهبت بنت لأمير لهم فاستردها بعد الصلح فخيرت برضا منه بين أبيها ومن هي عنده فاختارت من هي عنده وآثرته على أبيها فغضب وسن لقومه الوأد ففعلوه غيرة منهم ومخافة أن يقع لهم بعد مثل ما وقع وشاع في العرب غيرهم والله تعالى أعلم بصحة ذلك وقرأ البزي في رواية الموؤدة كمعونة فاحتمل أن يكون الأصل الموؤدة كقراءة الجمهور فنقل حركة الهمزة إلى الواو قبلها وحذفت ثم همزت تلك الواو قبلها وحذفت ثم همزت تلك الواو واحتمل أن يكون اسم مفعول من آد والأصل المأوودة فحذف أحد الواوين فصارت الموودة كما حذف من مقوول فصار مقولاً وقرىء الموودة بضم الأولى وتسهيل الهمزة أعني التسهيل بحذفها ونقل حركتها إلى ما قبلها وفي «مجمع البيان» والعهدة عليه روي عن أبي جعفر وأبي عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أنهم قرؤا المودة بفتح الميم والواو والمراد بها الرحم والقرابة وعن أبي جعفر قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم ويراد بقتلها قطعها أو هو على حقيقته والإسناد مجازي والمراد قتل المتصف بها وتوجيه السئال إلى الموؤدة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الموءودة سُئِلَتْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ‏}‏ دون الوائد مع أن الذنب له دونها لتسليتها وإظهار كمال الغيظ والسخط لوائدها وإسقاطه عن درجة الخطاب والمبالغة في تبكيته فإن المجني عليه إذا سئل بمحضر الجاني ونسبت إليه الجناية دون الجاني كان ذلك بعثاً للجاني على التفكر في حال نفسه وحال المجني عليه فيرى براءة ساحته وأنه هو المستحق للعتاب والعقاب وهذا نوع من الاستدراج واقع على طريق التعريض كما في قوله تعالى ‏{‏أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ وقرأ أبي وابن مسعود والربيع بن خيثم وابن يعمر سألت أي خاصمت أو سألت الله تعالى أو قاتلها وإنما قيل قتلت لما أن الكلام أخبار عنها لا حكاية لما خوطبت به حين سئلت ليقال قتلت على الخطاب ولا حكاية لكلامها حين سألت ليقال قتلت على الحكاية عن نفسها وقد قرأ كذلك علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وابن مسعود أيضاً وجابر بن يزيد وأبو الضحى ومجاهد وقرأ الحسن والأعرج سيلت بكسر السين وذلك على لغة من قال ‏{‏سال‏}‏ بغير همز وقرأ أبو جعفر بشد الياء لأن الموؤدة اسم جنس فناسب التكثير باعتبار الأشخاص وفي الآية دليل على عظم جناية الوأد وقد أخرج البزار والحاكم في الكنى والبيهقي في سننه عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه قال جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني وأدت ثمان بنات لي في الجاهلية فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أعتق عن كل واحدة رقبة قال‏:‏ إني صاحب إبل قال فاهد عن كل واحدة بدنة ‏"‏ وكان الأمر للندب لا للوجوب لتوقف صحة التوبة عليه فإن الإسلام يجب ما قبله من مثل ذلك وفيه تعظيم أمر الوأد وكان من العرب من يستقبحه كصعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق كان يفتدي الموؤدات من قومه بني تميم وبه افتخر الفرزدق في قوله‏:‏

وجدي الذي منع الوائدات *** فأحيا الوئيد فلم تفتد

وأخرج الطبراني عنه قال قلت يا رسول الله إني عملت أعمالاً في الجاهلية فهل فيها من أجر أحييت ثلثمائة وستين من الموؤدة اشترى كل واحد منهن بناقتين عشراوين وجمل فهل في ذلك من أجر فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لك أجره إذ منَّ الله تعالى عليك بالإسلام وعد من الواد العزل ‏"‏ لما أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والطبراني وابن مردويه عن خذامة بنت وهب قالت سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل فقال ذلك الوأد الخفي ومن هنا قيل بحرمته وأنت تعلم أن المسألة خلافية فقد قال الإمام النووي في شرح «صحيح مسلم» العزل وهو أن يجامع فإذا قارب الإنزال نزع وأنزل خارج الفرج مكروه عندنا في كل حال وكل امرأة سواء رضيت أم لا لأنه طريق إلى قطع النسل وأما التحريم فقد قال أصحابنا يعني الشافعية لا يحرم في مملوكته ولا في زوجته الأمة سواء رضيت أم لا لأن عليه ضرراً في مملوكته بمصيرها أم ولد وامتناع بيعها وعليه ضرر في زوجته الرقيقة بمصير ولده رقيقاً تبعاً لأمه وأما زوجته الحرة فإن أذنت فيه لم يحرم وإلا فوجهان أصحهما لا يحرم ثم الأحاديث التي ظاهرها التعارض في هذا المطلب يجمع بينها بأن ما ورد منها في النهي محمول على كراهة التنزيه وما ورد في الإذن في ذلك محمول على أنه ليس بحرام وليس معناه نفي الكراهة انتهى وأجيب على الحديث السابق بأن تسميته بالوأد الخفي لا يدل على أن حكمه حكم الوأد الظاهر فقد صح أن الرياء شرك خفي ولم يقل أحد بأن حكمه حكمه ولا يبعد أن يكون الاستمناء باليد كالعزل وأداً خفياً وذكر بعضهم أنه إذا لم يخش الزنا حرام وإن خشي لم يحرم وكذا لا يبعد أن يكون التفخيذ مع من يحل له وطؤها كذلك ولم أر قائلاً بحرمته وتمام الكلام في هذا المقام في كتب الفقه فلتراجع واستدل الزمخشري بالآية على أن أطفال المشركين لا يعذبون وعلى أن العذاب لا يستحق إلا بالذنب أما الأول فلان تبكيت قاتلها يباين تعذيبها لأن استحقاق التبكيت لبراءتها من الذنب فمتى بكت سبحانه الكافر ببراءتها من الذنب كيف يكر سبحانه عليها فيفعل بها ما ينسى عنده فعل المبكت من العذاب السرمدي وأما الثاني فلإشارة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِأَىّ ذَنبٍ قُتِلَتْ‏}‏ إلى أن القتل إنما يصار إليه بذنب وأنه لا يستحسن ارتكابه دونه ومعلوم أن في معناه كل تعذيب ثم الآية لما دلت على أن الموؤدة لا ذنب لها ليتم التبكيت تضمنت عدم استحقاقها العقاب وزعم أن ابن عباس سئل عن ذلك فاحتج بهذه الآية وتعقب بأن مبنى ما ذكره التحسين والتقبيح وقد بين ما فيهما في موضعه وعلى التسليم نمنع انحصار سبب التبكيت في البراءة على أن القتل للباعث المذكور في القرآن بمعنى خشية الإملاق رذيلة يستحق بها التبكيت استحق بها المقتول التعذيب الأخروي أولاً وإشارة الآية على أن باعثهم على القتل لم يكن الذنب لا إلى أن الذنب أعني ما يستحق به الموؤدة التعذيب معدوم من كل وجه وما روي عن ابن عباس لا نسلم صحته وفي الأخبار ما ينافيه أخرج الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن سلمة بن يزيد الجعفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏

‏"‏ الوائدة والموؤدة في النار إلا أن تدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله تعالى عنها وأخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عباس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولاد المشركين فقال الله تعالى إذ خلقهم أعلم بما كانوا عاملين ‏"‏ وتفسيره على ما قيل ما روى أبو داود عن عائشة قلت‏:‏ يا رسول الله فذراري المشركين فقال من آبائهم قلت بلا عمل قال‏:‏ الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي مسند الإمام أحمد سألت خديجة عن ولدين ما بالهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما في النار وأنت تعلم أن في مسألة الأطفال من هذه الحيثية ما عدا أطفال الأنبياء عليهم السلام فإنهم أجمع على كونهم من أهل الجنة كما قال اللقاني خلافاً فقد قال الإمام النووي في شرح «صحيح مسلم» ‏"‏ أجمع من يعتد به من علماء المسلمين على أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفاً وتوقف فيه بعض من لا يعتد به لحديث عائشة توفي صبي من الأنصار فقالت طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه قال صلى الله عليه وسلم أو غير ذلك‏:‏ يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلاً خلقهم لها وهم في أصلاب أبائهم ‏"‏ وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم صلى الله عليه وسلم قال ذلك في قوله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ما من مسلم يموت له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم ‏"‏ وغير ذلك من الأحاديث وأما أطفال المشركين ففيهم ثلاثة مذاهب قال الأكثرون هم في النار تبعاً لآبائهم لحديث سئل عن أولاد المشركين من يموت منهم صغيراً فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين أي وغير ذلك وتوقفت طائفة فيهم وقالت الثالثة وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون أنهم من أهل الجنة ويستدل له بأشياء منها حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة حوله أولاد الناس قالوا يا رسول الله وأولاد المشركين قال وأولاد المشركين رواه البخاري في صحيحه ومنها قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏ ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول حتى يبلغ وهذا متفق عليه والجواب عن حديث ‏"‏ الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين ‏"‏

أنه ليس فيه تصريح بأنهم في النار وحقيقة لفظة الله تعالى أعلم بما كانوا يعملون لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ انتهى وتعقب ما ذكره من الاحتمال في حديث عائشة رضي الله تعالى عنها بأنه يأباه ما ذكره من حديث إبراهيم عليه السلام فإن حديث عائشة كان بالمدينة لأنه في صبي من الأنصار وبناؤه عليه الصلاة والسلام عليها إنما كان فيها وحديث إبراهيم عليه السلام كان بمكة لأن الظاهر أن تلك الرؤية كانت ليلة المعراج وهو قد كان فيها ومنه يعلم أنه صلى الله عليه وسلم قد علم أن الأطفال كلهم في الجنة يومئذٍ فكيف يحتمل أن يكون ما قاله بعد قاله قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة وأيضاً إذا كان حديث إبراهيم عليه السلام في مكة يضعف الجواب الأول عن حديث عائشة باحتمال أن تكون قالت ما قالت لأنه بلغها ذلك الحديث ثم ما ذكر من أن المذاهب في أطفال المشركين ثلاثة الظاهر أنه مبني على ما وقف عليه وإلا فهي غير منحصرة فيها بل منها أنهم في برزخ بين الجنة والنار ومنها أنهم يمتحنون بدخول النار يوم القيامة فمن كتب له السعادة أطاع بدخولها فيرد إلى الجنة ومن كتب له الشقاوة امتنع فيسحب إلى النار كما جاء في بعض الروايات فلا يحكم على معين منهم بجنة ولا نار وعليه حمل الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين وفي اختيارات الشيخ ابن تيمية إن هذا أحسن الأجوبة فيهم وقال الجلال السيوطي هو الصحيح المعتمد ومنها ما ذكره هذا الجلال واختاره الإمام الرباني الفاروقي السرهندي قدس سره أنهم يحشرون ثم يصيرون تراباً كالوحوش وإن أريد مما تقدم من أنهم في الجنة كونهم فيها كسائر أهلها فهناك قول آخر وهو أنهم فيها خدماً لأهلها وقد نقله النسفي في بحر الكلام على أهل السنة والجماعة وفيه أحاديث جمة والظاهر أن المراد بأطفال المشركين الأطفال الذين ولدوا لهم وهم مشركون ولو آمنوا بعد ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام السابق في ولدي خديجة هما في النار وهو يعكر على من يقول أطفال الذين ماتوا مشركين في النار وأطفال المشركين الذين آمنوا بعد موتهم في الجنة إكراماً لهم والذي اختاره القول بأن الأطفال مطلقاً وكذا فرخ الزنا ومن جن قبل البلوغ في الجنة فهو إلا خلق بكرم الله تعالى وواسع رحمته عز وجل والأوفق للحكمة بحسب الظاهر والأكثر تأيداً بالآيات ولا بعد في ترجح الأخبار الدالة على ذلك بما ذكر على الأخبار الدالة على خلافه والقول بأن ما تضمنته هاتيك الأخبار كان منه عليه الصلاة والسلام قبل علمه صلى الله عليه وسلم بأن الأطفال في الجنة بعيد عندي نعم جوز أن يكون قد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنهم من أهل النار بناءً على أخبار الوحي به كإخباره بالوعيدات التي يعفو الله تعالى عنها من حيث إنه مقيد بشرط كان لم يشملهم الفضل مثلاً لكنه لم يذكر معه كما لو يذكر معها لحكمة ثم أخبر عليه الصلاة والسلام بأنهم من أهل الجنة بناءً على أخبار الوحي به أيضاً ويكون متضمناً للأخبار بأن شرط كونهم من أهل النار لا يتحقق فضلاً من الله تعالى وكرماً ويكون ذلك كالعفو عما يقتضيه الوعيد ومثل ذلك إخباره بما ذكر بناءً على مشاهدة كونهم في الجنة عند إبراهيم عليه السلام فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ‏}‏ أي صحف الأعمال أخرج ابن المنذر عن ابن جريج أنه قال إذا مات الإنسان طويت صحيفته ثم تنشر يوم القيامة فيحاسب بما فيها وقيل نشرت أي فرقت بين أصحابها عن مرثد بن وداعة إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنة عالية وتقع صحيفة الكافر في يده في سموم وحميم أي مكتوب فيها ذلك وهي صحف غير صحف الأعمال وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي نشرت بالتشديد للمبالغة في النشر بمعنييه أو لكثرة الصحف أو لشدة التطاير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا السماء كُشِطَتْ‏}‏ قلعت وأزيلت كما يكشف الإهاب عن الذبيحة والغطاء عن الشيء المستور به فأصل الكشط السلخ واستعير هنا للإزالة وقرأ عبد الله قشطت بالقاف مكان الكاف واعتقابهما غير عزيز كالكافور والقافور وعربي قح وكح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا الجحيم سُعّرَتْ‏}‏ أي أوقدت إيقاداً شديداً قال قتادة سعرها غضب الله تعالى وخطايا بني آدم وقرأ جمع منهم علي كرم الله تعالى وجهه سعرت بالتخفيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ‏}‏ أي قربت من المتقين كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأزلفت للجنة للمتقين غير بعيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 31‏]‏ أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن أبي العالية أنه قال‏:‏ ست آيات من هذه السورة في الدنيا والناس ينظرون وست في الآخرة إذا الشمس كورت إلى ‏{‏وإذا البحار سجرت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 1-6‏]‏ هذه في الدنيا وإذا النفوس زوجت إلى ‏{‏وإذا الجنة أزلفت‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 7-13‏]‏ هذه في الآخرة وأخرج ابن أبي الدنيا وابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب أنه قال‏:‏ ست آيات قيل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ انكدرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فتحركت واضطربت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش فماجوا بعضهم في بعض وأهملت العشار وقال الجن للإنس نحن نأتيكم بالخبر فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة فبينما هم كذلك إذ جاءتهم ريح فإما تتهم وقال بعضهم‏:‏ إن الست الأولى فيما بين النفختين وأنه مراد من قال إنها في الدنيا وقيل هي فيما قبل النفخة الأولى وما بعدها إلى النفخة الثانية فلا تغفل‏.‏