فصل: تفسير الآية رقم (24)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏يَقُولُ ياليتنى لَيْتَنِى قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى‏}‏ ويعلم ما فيه مما تقدم من توجيه الاستدلال فلا تغفل وهذه‏.‏ الجملة بدل اشتمال من ‏{‏يتذكر‏}‏ أو استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ منه كأنه قيل ماذا يقول عند تذكره فقيل يقول يا ليتني الخ واللام للتعليل والمراد بحياته حياته في الآخرة ومفعول قدمت محذوف فكأنه قال يا ليتني قدمت لأجل حياتي هذه أعمالاً صالحة انتفع بها فيها وقيل اللام للتعليل إلا أن المعنى يبا ليتني قدمت أعمالاً صالحة لأجل أن أحيا حياة نافعة وقال ذلك لأنه لا يموت ولا يحيا حينئذ وهو كما ترى ويجوز أن تكون اللام توقيتية مثلها في نحو كتبته لخمس عشرة ليلة مضين من المحرم وجئت لطلوع الشمس ويكون المراد بحياته حياته في الدنيا أي يا ليتني قدمت وعملت أعمالاً صالحة وقت حياتي في الدنيا لا نتفع بها اليوم وليس في هذا التمني شائبة دلالة على استقلال العبد بفعله وإنما يدل على اعتقاد كونه متمكناً من تقديم الأعمال الصالحة وإما أن ذلك بمحض قدرته تعالى أو بخلق الله عز وجل عند صرف قدرته الكاسبة إليه فكلا وزعمه الزمخشري دليلاً على الاستقلال ورد به على المجبرة وهو عنده غير المعتزلة زعماً منه المنافاة بين التمني والحجر وقد علمت أنه لا دلالة على ذلك وفي الكشف إن التمني قد يقع على المتحسيل على أنه حالتئذ كالغريق هذا وأهل الحق لا يقولون بسلب الاختيار بالكلية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏فَيَوْمَئِذٍ‏}‏ أي يوم إذ يكون ما ذكر من الأحوال والأقوال‏.‏ ‏{‏لاَّ يُعَذّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يُوثِقُ عَذَابَهُ أَحَدٌ‏}‏ الهاء اما لله عز وجل أي لا يتولى عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه أحد سواه عز وجل وكأنه قيل لا يفعل عذاب الله تعالى ووثاقه ولا يباشرهما أحد وذلك لأن الفعل في ضمن كل فعل خاص واستعمل ذلك استعمالاً شائعاً في مثل‏.‏ وقد حيل بين العير والنزوان *** وان ‏{‏نظن إلا ظناً‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 32‏]‏ فالعذاب مفعول به وكذا الوثاق وفيه تعظيم عذاب الله تعالى ووثاقه سبحانه لهذا الإنسان الذي شرح من أحواله ما شرح على طريق الكناية فما ادعاه ابن الحاجب من عدم قوة المعنى على تقدير عود الضمير إليه تعالى بناء على فوات التعظيم الذي يقتضيه السياق فللغفول عن نكتة الكناية وإما للإنسان الموصوف والإضافة إلى المفعول أي لا يعذب ولا يوثق أحد من الزبانية أحداً من أهل النار مثل ما يعذبونه ويوثقونه كأنه أشدهم عذاباً ووثاقاً لأنه أشدهم سيئات أفعال وقبائح أحوال وهو وجه حسن بل هو أرجح من الأول على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى وقرأ ابن سيرين وابن أبي إسحق وأبو حيوة وابن أبي عبلة وأبو بحرية وسلام والكسائي ويعقوب وسهل وخارجة عن أبي عمر ولا يعذب ولا يوثق بالبتاء للمفعول فالهاء في عذابه ووثاقه للإنسان الموصوف أي لا يعذب أحد مثل عذابه ولا يوثق بالسلاسل والإغلال مثل وثاقه لتناهيه في كفره وشقاقه ونصب العذاب على المصدرية واقع موقع التعذيب إما لأنه بمعناه في الأصل كالسلام بمعنى التسليم ثم نقل إلى ما يعذب به أو لأنه وضع موضعه كما يوضع العطاء موضع الإعطاء وكذلك الوثاق وجوز أن يكون المعنى لا يحمل عذاب الإنسان أحد ولا يوثق وثاقه أحد كقوله تعالى ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ والعذاب عليه جار على المتعارف والنصب على تضمين التعذيب معنى التحميل والأول أنسب بمقام التغليظ على هذا الإنسان المفرط أوان التمكن والوجه الثاني للقراءة الأولى مطابق لهذا كما لا يخفى والمراد من أنه لا يعذب أحد مثل عذابه أنه لا يعذب أحد من جنسه كالعصاة كذلك فلا يلزم كونه أشد عذاباً من إبليس ومن في طبقته ثم إن الظاهر أن المراد جنس المتصف بما ذكر وقيل المراد به أمية بن خلف وقيل أبي بن خلف وهو خلاف الظاهر وإن قيل إن الآية نزلت فيمن ذكر وأما القول بأن هذا المعذب الموثق إبليس عليه اللعنة فليس بشيء إذ لا يقال له إنسان وكون الضمير له وإن لم يسبق له ذكر للإنسان المذكور في قوله تعالى ‏{‏يومئذ يتذكر الإنسان‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 23‏]‏ الخ مما لا ينبغي أن يلتفت إليه وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع بخلاف عنه وثاقه بكسر الواو وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏أَحَدٌ يأَيَّتُهَا النفس المطمئنة‏}‏ الخ حكاية لأحوال من اطمأن بذكر الله تعالى وطاعته عز وجل أثر حكاية من اطمأن بالدنيا وسكن إليها وذكر انه على إرادة القول أي يقول الله تعالى يا أيتها النفس الخ اما بالذات كما كلم سبحانه موسى عليه السلام أو على لسان الملك واستظهر أن ذلك القول عند تمام الحساب وليظهر التفاوت ما بين ذلك الإنسان وهذه النفس ذاك يقول يا ليتني قدمت لحياتي وهذه يقول الله تعالى لها يا أيتهال النفس المطمئة الخ وكأنه للإيذان بغاية التباين لم يذكر القول وتعطف الجملة على الجملة السابقة‏.‏ والنفس قيل بمعنى الذات ووصفت بالإطمئنان بذلك لأنها لترقي بقوتها العاقلة في معارج الأسباب والمسببات إلى المبدأ المؤثر بالذات جلت صفاته وأسماؤه فتضطرب وتقلق قبل الوصول إلى معرفته تعالى فإذا وصلت إليه عز وجل اطمأنت واستغنت به سبحانه عن وجودها وسائر شؤونها ولم تلتفت إلى ما سواه جل وعلا بالكلية وقيل هي النفس المؤمنة المطمئنة إلى الحق الواصلة إلى ثلج اليقين وبرودته بحيث لا يخالطها شك ما ولا بمازجها سخونة اضطراب القلب في الحق أصلاً وهو وجه حسن والارتباط عليه إن هذه النفس هي المتعظة الذاكرة على خلاف الإنسان الموصوف فيما قبل فإن التذكر على قدر قوة اليقين ألا ترى إلى قوله تعالى ‏{‏إنما يتذكر أولو الألباب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 19‏]‏ وقيل هي الآمنة التي لا يستفزها خوف ولا حزن يوم القيامة أعني النفس المؤمنة اليوم المتوفاة على الإيمان وأيد بقراءة أبي يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة وكأنه لأن الوصفين يعتبر تناسبهما في الآكثر وهي على هذا أيضاً تقابل السابق وهو المتحسر المتحزن وقرأ زيد بن علي يا أيها بغير تاء وذكر صاحب البديع أن ايا قد تذكر مع المنادي المؤنث قيل ولذلك وجه من القياس وذلك إنها كما لن تثن ولم تجمع في نداء المثنى والمجموع فكذلك لم تؤنث في نداء المؤنث واعتبار النفس ههنا مذكرة ثم مؤنثة مما لا تلتفت إليه النفس المطمنئة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ارجعى‏}‏ أي من حيث حوسبت ‏{‏إلى رَبّكَ‏}‏ أي إلى محل عنايته تعالى وموقف كرامته عز وجل لك أولاً وهذا لأن للسعداء قبل الحساب كما يفهم من الأخبار موقفاً في المحشر مخصوصاً يكرهم الله تعالى به لا يجدون فيه ما يجده غيرهم في مواقفهم من النصب ومنه ينادي الواحد بعد الواحد للحساب فمتى كان هذا القول عند تمام الحساب اقتضى أن يكون المعنى ما ذكر ويجوز أن يكون المعنى ارجعي بتخلية القلب عن الأعمال والالتفات إليها والاهتمام بأمرها أتقبل أم لا أي إلى ملاحظة ربك والانقطاع إليه وترك الالتفات إلى ما سواه عز وجل كما كنت أولاً كان النفس المطمئنة لما دعيت للحساب شغل فكرها وإن كانت مطمئنة بمقتضى الطبيعة وحال اليوم بأمر الحساب وما ينتهى إليه وأنه ماذا يكون حال أعمالها أتقبل أم لا فلما تم حسابها وقبلت أعمالها قيل لها ذلك تطييباً لقلبها بأن الأمر قد انتهى وفرغ منه وليس بعد الأكل خير ونداؤها بعنوان الاطمئنان لتذكيرها بما يقتضي الرجوع نظير قولك لشجاع مشهور بالشجاعة أحجم في بعض المواقف يا أيها الشجاع أقدم ولا تحجم والظاهر أنه على الأول لا يناسبها ولا يخفى ما في قوله سبحانه إلى ربك على الوجهين من مزيد اللطف بها ولذا لم يقل نحو ارجعي إلى الله تعالى أو إلى ‏{‏رَّاضِيَةٍ‏}‏ أي بما تؤتينه من النعم التي لا تتناهى وقد يقال راضية بما نلتيه من خفة الحساب وقبول الأعمال وليس بذاك ‏{‏مَّرْضِيَّةً‏}‏ أي عند الله عز وجل وقيل المراد راضية عن ربك مرضية عنده وزعم أنه الأظهر واعترض بأنه غير مناسب للسياق وفيه نظر والوصفان منصوبان على الحال والظاهر أن الحال الأولى مقدرة وقيل مقارنة وذكر الحال الثانية من باب الترقي فقد قال سبحانه وتعالى ‏{‏ورضوان من الله أكبر‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29 - 30‏]‏

‏{‏فَادْخُلِي فِي عِبَادِي ‏(‏29‏)‏ وَادْخُلِي جَنَّتِي ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏فادخلى فِى عِبَادِى‏}‏ في زمرة عبادي الصالحين المخلصين لي وانتظمي في سلكهم وكوني في جملتهم ‏{‏وادخلى جَنَّتِى‏}‏ عطف على الجملة قبلها داخلة معها في حيز الفاء المفيدة لكون ما بعدها عقيب ما قبلها من غير تراخ وكان الأمر بالدخول في جملة عباد الله تعالى الصالحين إشارة إلى السعادة الروحانية لكمال استئناس النفس بالجليس الصالح والأمر بدخول الجنة إشارة إلى السعادة الجسمانية ولفضل الأولى على الثانية قدم الأمر الأول وجيء بالثاني على وجه التتميم ونكتة الالتفات فيهما ظاهرة بأدنى التفات وتعدي الدخول أولاً بفي وثانياً بودنها قال أبو حيان لأن المدخول فيه إن كان غير ظرف حقيقي تعدى إليه في الاستعمال بفي تقول دخلت في الأمر ودخلت في غمار الناس وإذا كان ظرفاً حقيقياً تعدى إليه في الغالب بغير وساطتها فلا تغفل وقيل المراد ارجعي إلى موعد ربك واستظهر أن المراد بموعده تعالى على تقدير كون القول المذكور بعد تمام الحساب ما وعده سبحانه من الجنة والكون مع عباده تعالى الصالحين والفاء تفسيرية واستشكل عليه الأمر بالرجوع إذ يقتضي أن تكون الجنة مقراً للنفس قبل ذلك وأجيب بتحقق هذا المقتضى بناء على وجودا بالقوة في ظهر آدم عليه السلام حين كان في الجنة وقد قيل نحو هذا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذى فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان لرادك إلى معاد‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 85‏]‏ على ما روى عن أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن المراد بالمعاد الجنة دون مكة وأنت تعلم أن هذا على مافيه لا يتم إلا على القول بأن جنة آدم عليه السلام هي الجنة التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة لا جنة أخرى كانت في الأرض والخلاف في ذلك قوي كما لا يخفى على من راجع كتاب «مفتاح السعادة» للعلامة ابن القيم واطلع على أدلة الطرفين وقيل المراد ارجعي إلى أمر ربك واستظهر أن المراد بالأمر على ذلك التقدير واحد الأمور ويفسر بمعاملة الله تعالى إياها بما ليس فيه ما يشغل بالها أو بتمييزها بموقف كريم أو بنحو ذلك مما يتحقق معه ما يقتضيه ظاهر الجروع وقيل المراد ارجعي إلى كرامة ربك ويراد جنس كرامته سبحانه والرجوع إليه باعتبار أنها كانت بعد الموت في البرزخ أو بعد البعث وقبل الحساب في نوع منه والفاء عليه قيل تفسيرية أيضاً وعن عكرمة والضحاك أن ذلك القول عند البعث فقيل النفس بمعنى الذات أيضاً والمراد بالرب هو الله عز وجل والكلام على حذف مضاف ولا يقدر محل كرامته تعالى مراداً به الموقف الخاص على ما سمعت لأنه إنما يكون لها بعد وقيل النفس بمعنى الروح والمراد بالرب الصاحب وفسر بالجسد وباقي الآية على حاله أي ارجعي إلى جسدك كما كنت في الدنيا فادخلي بعد الرجوع إليه في جملة عبادي وادخلي دار ثوابي وقيل المراد بالنفس والرب ما ذكر وقوله تعالى‏:‏

‏{‏فِى عِبَادِى‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 29‏]‏ على حذف مضاف أي داخلي في أجساد عبادي وجاء هذا في رواية عن ابن عباس وابن جبير ولا يضر الأفراد أولاً والجمع ثانياً لأن المعنى على الجنس وقال ابن زيد وجماعة إن ذلك القول عند الموت وأيد بما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو نعيم في الحلية عن ابن جبير قال قرئت عند النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏يأَيَّتُهَا النفس المطمئنة‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 27‏]‏ الآية فاقل أبو بكر رضي الله تعالى عنه إن هذا الحسن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أن الملك سيقولها لك عند الموت وجاء نحو هذا من رواية الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» من طريق ثابت بن عجلان عن سليم بن عامر عن الصديق رضي الله تعالى عنه والنفس عليه بمعنى الروح والمعنى على ما قيل ارجعي بالموت إلى عالم قدس ربك راضية بما تؤتين من النعيم أو راضية عن ربك مرضية عنده تعالى فادخلي في زمرة عبادي المقربين سكنة حظائر القدس وادخلي جنتي التي أعددتها لذوي النفوس المطمئنة وهذا الدخولان يعقبان الرجوع إلا أن الدخول الأول يعقبه بلا تراخ قبل يوم القيامة والثاني يعقبه بتراخ لأنه يوم القيامة إن أريد بدخول الجنة دخولها على وجه الخلود إلا أن الأمر لتحققه يجوز تعقيبه بالفاء وجوز أن يكون تعقيب الأمرين على هذا النمط إن أريد بالدخول في عباده تعالى انتظامها في سلك العباد الصالحين المخلصين من جنسها ويجوز على إرادة هذا التعقيب أن يراد فادخلي في أجساد عبادي وجوز أن يكون تعقيب الأمرين بلا تراخ إن أريد بالدخول في العباد الدخول في زمرة المقربين من سكنة حظائر القدس وبالدخول في الجنة الدخول لا على وجه الخلود بل لنوع من التنعم إلى أن تقوم الساعة ففي الحديث أن أرواح المؤمنين في حواصل طيور في الجنة وفي بعض الآثار إذا مات المؤمن أعطى نصف الجنة أي نصف جنته التي وعد دخولها يوم القيامة وذكر في وجه ادخالها مع الأرواح القدسية كالمرايا المصقولة فإذا انظم بعضها إلى بعض تعاكست أشعة أنوار المعارف فيظهر لكل منه ما يكملها فيكون سبباً أنها لتكامل السعادات وتعاظم الدرجات وهو عندي كلام خطابي وعن بعض السلف ما يؤيد بعض هذه الأوجه أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي صالح أنه قال في الآية ‏{‏ارجعى إلى رَبّكِ‏}‏ ‏[‏الفجر‏:‏ 28‏]‏ هذا عند الموت ورجوعها إلى ربها خروجها من الدنيا فإذا كان يوم القيامة قيل لها ادخلي في عبادي وادخلي جنتي وقيل إن هذا القول بعد الموت وقبل القيامة والمراد برجوعها إلى ربها رجوعها إلى جسدها لسؤال الملكين أخرج ابن المنذر عن محمد بن كعب القرظي أنه قال في الآية إن المؤمن إذا مات أرى منزله من الجنة فيقول تبارك وتعالى‏:‏ «يا أيها النفس المطمئنة عندي ارجعي إلى جسدك الذي خرجت منه راضية بما رأيت من ثوابي مرضياً عنك حتى يسألك منكر ونكير» وقيل إنه في مواطن ثلاثة أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أنه قال في الآية «بشرت بالجنة عند الموت وعند البعث يوم الجمع» وتفسر عليه بما ينطبق على الجمع وقيل يجوز أن يكون ذلك في سائر أوقات النفس في حياتها الدنيا والمراد بالأمر بالرجوع إلى الرب الأمر بالرجوع إليه تعالى في كل أمر من الأمور والمراد بالأمر بالدخول في العباد الأمر بالدخول في زمرة العباد الخلص الذين ليس للشيطان عليهم سلطان بالاكثار من العمل الصالح وبالأمر بالدخول في الجنة الأمر بالدخول فيها بالقوة القريبة فكأنه سبحانه بعد أن بالغ جل وعلا في سوء حال الامارة ووعيدها خاطب المطمئنة بذاك وأرشدها سبحانه إلى ما فيه صلاحها ونجاتها ولا يخفى ما فيه فلا ينبغي أن يعد وجهاً وأياً ما كان من الأوجه فالظاهر العموم فيها وإن أخرج ابن أبي حاتم من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عبا سأنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حين اشترى بئر رومة وجعلها سقاية للناس وقيل إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب وقيل نزلت في خبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة وجعلوا وجهه إلى المدينة فقال اللهم إن كان لي عندك خير فحول وجهي نحو قبلتك فحول لله تعالى وجهه نحوها فلم يستطع أحد أن يحوله بعد فتفسير النفس المذكور بأحد هؤلاء المذكورين كما نقل عن بعض من باب التمثيل وأن صورة السبب قطعية الدخول وينبغي أن يحمل قول ابن عباس في تلك النفس كما أخرجه عنه ابن مردويه هو النبي صلى الله عليه وسلم على نحو ذلك واشعرت الآية على بعض أوجهها بأن على بعض أوجهها بأن الأرواح مخلوقة قبل الأبدان ومقرها إذ ذاك في عالم الملكوت والخلاف في المسألة شهير وجمهور المتكلمين على أنها مخلوقة عند استعداد الأبدان لها وكذا أفلاطون وأصحابه وقرأ ابن عباس وعكرمة والضحاك ومجاهد وأبو جعفر وأبو صالح وأبو شيخ واليماني في عبدي على الأفراد واستظهر أن المراد الجنس كما في النفس‏.‏

وللسادة الصوفية قدست نفوسهم كلام طويل في تقسيم مراتب النفس وقالوا إن الآية متضمنة لمراتب ثلاث منها المطمئنة والراضية والمرضية وفسروا كلا بما فسروه فمن أراده فليرجع إليه في كتبهم وأنا أقول كما علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة على ما أخرج للطبراني وابن عساكر عن أبي إمامة رضي الله تعالى عنه اللهم إني أسألك نفساً مطمئنة تؤمن بلقائك وترضى بقضائك وتقنع بعطائك‏.‏

‏[‏سورة البلد‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد‏}‏ أقسم سبحانه بالبلد الحرام أعني مكة فإنه المراد بالمشار إليه بالإجماع وما عطف عليه على الإنسان خلق مغموراً في مكابدة المشاق ومعاناة الشدائد وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد‏}‏ على ما اختاره في «الكشاف» اعتراض بين القسم وجوابه وفيه تحقيق مضمونه بذكر بعض المكابدة على نهج براعة الاستهلال وإدماج لسوء صنيع المشركين ليصرح بذمهم على أن الحل بمعنى المستحل بزنة المفعول الذي لا يحترم فكأنه قيل ومن المكابدة أن مثلك على عظم حرمته يستحل بهذا البلد الحرام ولا يحترم كما يستحل الصيد في غير الحرم عن شرحبيل بن سعد يحرمون أن يقتلوا به صيداً ويعضدوا شجره ويستحلون إخراجك وقتلك وفي تأكيد كون الإنسان في كبد بالقسم تثبيت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث على أن يطأ من نفسه الكريمة على احتماله فإن ذلك قدر محتوم وجوز أن يكون الحل بمعنى الحلال ضد الحرام قال ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير وغيره وأنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به وأما غيرك فلا وقال مجاهد أحله لله تعالى له عليه الصلاة والسلام ساعة من نهار وقال سبحانه له ماصنعت فيه من شيء فأنت في حل لا تؤاخذ به وروى نحو ذلك عن أبي صالح وقتادة وعطية وابن زيد والحسن والضحاك ولفظه يقول سبحانه أنت حل بالحرم فاقتل إن شئت أودع وذلك يوم الفتح وقد قتل صلى الله عليه وسلم يومئذ عبد الله بن خطل وهو الذي كانت قريش تسميه ذا القلبين قدمه أبو برزة سعد بن حرب الأسلمي فضرب بأمره صلى الله عليه وسلم عنقه وهو متعلق بأستاذ الكعبة وكان قد أظهر الإسلام وكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من الوحي فارتد وشنع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ما يمليه من القرآن منه عليه الصلاة والسلام لا من الله تعالى وقتل غيره أيضاً كما هو مذكور في كتب السير ثم قال عليه الصلاة والسلام ‏"‏ إن الله تعالى حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لا تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار فلا يعضد شجرها ولا يختلى خلاها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد فقال العباد يا رسول الله إلا الأذخر فإنه لقيوننا وقبورنا وبيوتنا فقال عليه الصلاة والسلام إلا الأذخر ‏"‏ وتقديم المسند إليه على هذا للاختصاص كما أشير إليه في خبر ابن عباس وحل على معنى الاستقبال بناء على أن نزول السورة قبل الهجرة التي هي قبل الفتح بكثير وفي خبر رواه عبد بن حميد عن ابن جبير ما هو ظاهر في أن الآية نزلت بعد أن ضرب أبو برزة عنق ابن خطل يوم الفتح فإن صح لا يكون في معنى الاستقبال لكن الجمهور على الأول وفي تعظيم المقسم به وتوكيد المقسم عليه بالاقسام توكيد لما سيق له الكلام وهو على ما ذكر أن عاقبة الاحتمال والمكابدة إلى الفتح والظفر والغرض تسليته صلى الله عليه وسلم ثم ترشيحها بالتصريح بما سيكون من الغلبة وتعظيم البلد يدل على تعظيم من أهل له وفي الاقسام به توطئة للتسلية لأن تعظيم البلد تعظيم للساكن فيه وجوز أن يكون الحل على نحو ما ذكر في هذا الوجه لكن المعنى وأنت حل بهذا البلد مما يقترفه أهله من المآثم متحرج بريء منها والمعنى في الأقسام بالبلد تعظيمه وفي الاعتراض ترشيح التعظيم والتشريف بكون مثله صلى الله عليه وسلم في جلالة القدر ومنصب النبوة ساكناً فيه مبايناً لما عليه الغاغة والهمج والفائدة فيه تأكيد المقسم عليه بأنهم من أهل الطبع فلا ينفعهم شرف مكان والمتمكن فيه كأنه قيل أقسم بهذا البلد الطيب بنفسه وبمن سكن فيه أن أهلهل لفي مرض قلب وشك لا يقادر قدره وقيل الحل صفة أو مصدر بمعنى الحال يقال حل أي نزل يحل حلاً وحلولاً ويقال أيضاً هو حل بموضع كذا كما يقال حال به والقول بأن الصفة من الحلول حال لا حل ومصدر حل بمعنى نزل الحلول والحل بفتح الحاء والحلل فقط ناشيء من قلة التتبع والاعتراض لتشريفه صلى الله عليه وسلم بجعل حلوله عليه الصلاة والسلام مناطاً لإعظام البلد بالاقسام به وجعل بعض الأجلة الجملة على هذا الوجه حالاً من هذا البلد وكذا جعلها بعضهم حالية على الوجهين قبل إلا أن الحال على ثانيهما مقارنة وعلى أولهما مقدرة أو مقارنة إن قيل أن النزول ساعة احلت مكة وجعلها ابن عطية حالاً على الوجه الأول أيضاً أعني كون الحل بمعنى المستحل لكن قيده بكون لا نافية غير زائدة فتأمل وأياً ما كان ففي الإشارة وإقامة الظاهر مقام الضمير من تعظيم البلد ما فيهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَالِدٍ‏}‏ عطف على ‏{‏هذا البلد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 1‏]‏ المقسم به وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا وَلَدَ‏}‏ والمراد بالأول آدم عليه السلام وبالثاني جميع ولده على ما أخرج الحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عباس ورواه جماعة أيضاً عن مجاهد وقتادة وابن جبير وقيل المراد آدم عليه السلام والصالحون من ذريته وقيل نوح عليه السلام وذريته وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي عمران أنهما إبراهيم عليه السلام وجميع ولده وقيل إبراهيم عليه السلام وولده إسمعيل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم ادعى أنه ينبىء عن ذلك المعطوف عليه فإنه حرم ابراهيم ومنشأ اسمعيل ومسقط رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم أجمعين وقال الطبري والماوردي يحتمل أن يكون الوالد النبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره وما ولد أمته لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما أنا لكم بمنزلة الوالد» ولقراءة عبد الله ‏{‏وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 6‏]‏ وفي القسم بذلك مبالغة في شرفه عليه الصلاة والسلام وهو كما ترى وقيل المراد كل والد وولده من العقلاء وغيرهم ونسب ذلك لابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم وغيره من طريق عكرمة عنه أنه قال ‏{‏الصمد لَمْ يَلِدْ‏}‏ وما ولد العاقر الذي لا يلد من الرجال والنساء ونسب إلى ابن جبير أيضاً فما عليه نافية فحيتاج إلى تقدير موصول يصح به المعنى الذي أريد كأنه قيل ووالد والذي ما ورد وإضمار الموصول في مثله لا يجوز عند البصريين ومع هذا هو خلاف الظاهر ولعل ظاهر اللفظ عدم التعيين في المعطوفين وظاهر العطف على هذا البلد إرادة من له دخل فيه وشهرة بنسبة البلد إليه والمشهور في ذلك ابراهيم واسمعيل عليهما السلام وتنكير والد على ما اختاره غير واحد للتعظيم وإيثار ما على من بناء على أن المراد بما ولد العاقل لإرادة الوصف فتفيد التعظيم في مقام المدح وأنه مما لا يكتنه كنهه لشدة إبهامها ولذا أفادت التعجب أو التعجيب وإن لم تكن استفهامية كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 36‏]‏ أي أي مولود عظيم الشأن وضعته والتعظيم والتعجيب على تقدير أن يراد بما ولد ذرية آدم عليه السلام مثلاً قيل باعتبار التغليب وقيل باعتبار الكثرة وما خص به الإنسان من خواص البشر كالعقل وحسن الصورة ومن تأمل في شؤون الإنسان من حيث هو إنسان يعلم أنه من تلك الحيثية معظم يتعجب منه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِى كَبَدٍ‏}‏ أي في تعب ومشكقة فإنه لا يزال يقاسي فنون الشداد من وقت نفخ لروح إلى حين نزعها وما وراءه يقال كبد الرجل كبداً فهو أكبد إذا وجعته كبده وانفتخت فاتسع فيه حتى استعمل في كل تعب ومشقة ومنه اشتقت المكابدة لمقاساة الشداد كما قيل كبته بمعنى أهلكه وأصله كبده إذا أصاب كبده قال لبيد يرثي أخاه‏.‏ يا عين هل بكيت أربد إذ *** قمنا وقام الخضوم في كبد

أي في شدة الأمر وصعوبة الخطب وعن ابن عمر يكابد الشكر على السراء ويكابد الصبر على الضراء وعن ابن عباس وعبد الله بن شداد وأبي صالح والضحاك ومجاهد أنهم قالوا أي خلقناه منتصب القامة واقفاً ولم نجعله منكباً على وجهه وقال ابن كيسان أي منتصباً رأسه في بطن أمه فإذاأدن له في الخروج قلب رأسه إلى قدمي أمه وهذه الأقوال كلها ضعيفة لا يعول عليها بخلاف الأول وقد رواه الحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس وروى عن غير واحد من السلف نعم جوز أن يكون المعنى لقد خلفناه في مرض شاق وهو مرض القلب وفساد الباطن وهذا بناء على الوجه الثالث من الأوجه الأربعة السابقة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد وَأَنتَ حِلٌّ بهذا *البلد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 1، 2‏]‏ المراد بالإنسان عليه الذين علم الله تعالى منهم حين خلقهم أنهم لا يؤمنون ولا يعملون الصالحات والظاهر أن المراد على ما عداه جنس الإنسان مطلقاً وقال ابن زيد المراد بالإنسان آدم عليه السلام وبالكبد السماء وشاع في وسط السماء كالكبيداء والكبيداة والكبداء والكبد بفتح فسكون وليس بشيء أصلاً والضمير في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏أَيَحْسَبُ‏}‏ على ما عدا ذلك راجع إلى ما دل عليه السياق ممن يكابد منه صلى الله عليه وسلم ما يكابد من كفار قريش وينتهك حرمة البيت وحرمته عليه الصلاة والسلام وعليه للإنسان والتهديد مصروف لمن يستحقه وقيل على إرادة البعض هو أبو الأشد أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد القوة مغتراً بقوته وكان يبسط له الأديم العكاظي فيقوم عليه ويقول من أزالني عنه فله كذا فيجذبه عشرة فينقطع قطعاً ويبقى موضع قدميه وقيل عمرو بن عبدود وقيل الوليد بن المغيرة وقيل أبو جعل بن هشام وقيل الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ويجوز أن يكون كل من هؤلاء سبب النزول فلا تغفل وجعل عصام الدين الاستفهام للتعجيب على معنى أيظن ‏{‏أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ‏}‏ أي على الانتقام منه ومكافأته بما هو عليه ‏{‏أَحَدٌ‏}‏ مع أنه لا يتخلص من المكابدة ومقاساة الشدائد وإن مخففة من الثقيلة ولعل في ذلك إدماج عدم الايمان بالقيامة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً‏}‏ أي كثيراً من تلبد الشيء إذا اجتمع أي يقول ذلك وقت الاغترار فخراً ومباهاة وتعظماً على المؤمنين وأراد بذلك ما أنفقه رياء وسمعة وعبر عن الانفاق بالإهلاك إظهاراً لعدم الاكتراث وأنه لم يفعل ذلك رجاء نفه فكأنه جعل المال الكثيرة ضائعاً وقيل يقول ذلك إظهاراً لشدة عداوته لرسول الله صلى الله عليه وسلم مريداً بالمال ما أنفقه في معاداته عليه الصلاة والسلام وقيل يقول ذلك إيذاء له عليه الصلاة والسلام فعن مقاتل أن الحرث بن نوفل كان إذا أذنب استفتى الرسول صلى الله عليه وسلم فيأمره عليه الصلاة والسلام بالكفارة فقال لقد أهلكت مالاً لبداً في الكفارات والتبعات منذ أطعت محمداً صلى الله عليه وسلم وقيل المراد ما تقدم أولاً إلا أن هذا القول وقت الانتقام منه وذلك يوم القيامة والتعبير عن الانفاق بالإهلاك لما أنه لم ينفعه يومئذ وقرأ أبو جعفر لبداً بشد الباء وعنه وعن زيد بن علي لبداً بسكون الباء وقرأ مجاهد وابن أبي الزنا لبداً بضم اللام والباء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ‏}‏ أي حين كان ينفق ما ينفق رئاء الناس أو حرصاً على معاداته صلى الله عليه وسلم يعني أن الله تعالى كان يراه وكان سبحانه عليه رقيباً فهو عز وجل يسأله عنه ويجازيه عليه وفي الحديث «لا تزل قدما العبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن ماله مم جمعه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به» وجوز أن يكون المعنى أن لم يجده أحد على المراد بالرؤية الوجدان اللازم له ولم بمعنى لن وعبر بها لتحقق الوقوع يعني أنه تعالى يجده يوم القيامة فيحاسبه على ذلك وعن الكلبي أن هذا القائل كان كاذبا لم ينفق شيئاً فقال تعالى‏:‏ أيظن أن الله تعالى ما رأى ذلك منه فعل أو لم يفعل أنفق أو لم ينفق بل رآه عز وجل وعلم منه خلاف ما قال وقرر سبحانه القدرة على مجازاته ومحاسبته والإطلاع على حاله بقوله جل وعلا‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ‏}‏ يبصر بهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِسَاناً‏}‏ يفصح به عما في ضميره ‏{‏وَشَفَتَيْنِ‏}‏ يستر بهما فاه ويستعين بهما على النطق والأكل والشرب والنفخ وغير ذلك والمفرد شفة وأصلها شفهة حذفت منها الهاء ويدل عليه شفيهة وشفاه وشافهت وهي مما لا يجوز جمعه بالألف والتاء وإن كان فيه تاء التأنيث على ما في «البحر»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ أي طريقي الخير والشر كما أخرجه الحاكم وصححه والطبراني وغيرهما عن ابن مسعود وأخرجه عبد بن حميد وابن جرير عن ابن عباس وروى عن عكرمة والضحاك وآخرين وأخرجه الطبراني عن أبي إمامة مرفوعاً والنجد مشهور في الطريق المرتفع قال امرؤ القيس

فريقان منهم جازع بطن نخلة *** وآخر منهم قاطع نجد كبكب

وسميت نجد به لارتفاعها عن انخفاض تهامة والامتنان المحدث عنه بأن هداه سبحانه وبين له تعالى شأنه ما إن سلكه نجا وما أن سلكه هلك ولا يتوقف الامتنان على سلوك طريق الخير وقد جعل الإمام هذه الآية كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا هديناه السبيل‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 3‏]‏ إما شاكراً وإما كفوراً ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف سبيل الشر فإن فيه هبوطاً من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعوداً ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله كذا قيل وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنهما الثديان وروى ذلك عن ابن المسيب أي ثديي الأم لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه والارتفاع فيهما ظاهر والبطن تحتهماكالغور والعرب تقسم بثديي الأم فتقول أما ونجديها ما فعلت ونسب هذا التفسير لعلي كرم الله تعالى وجهه أيضاً والمذكور في «الدر المنثور» من رواية الفريابي وعبد بن حميد وكذا في مجمع البيان أنه كرم الله تعالى وجهه إن أناساً يقولون أن النجدين الثديان فقال لا هما الخير والشر ولعل القائل بذلك رأى أن للفظ يحتمله مع ظهور الامتنان عليه جداً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ اقتحم العقبة‏}‏ الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة ويقال قحم في الأمر قحوماً رمى نفسه فيه من غير روية والعقبة الطريق الوعر في الجبل وفي البحر هي ما صعب منه وكان صعوداً والجمع عقب وعقاب وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى والقرينة ظاهرة وإثبات الاقتحام والمراد به الفعل والكسب ترشيح ويجوز أن يكون قد جعل فعل ما ذكر اقتحاماً وصعوداً شاقاً وذكره بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة والمراد ذم المحدث عنه بأنه مقصدر مع ما أنعم الله تعالى به عليه من النعم العظام والأيادي الجليلة الجسام كأنه قيل فقصر ولم يشكر تلك النعم العظيمة والأيادي الجسيمة بفعل الأعمال الصالحة بل غمط النعمة وكفر بالمنعم واتبع هوى نفسه وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة‏}‏ أي أي شيء أعلمك ما هي تعظيم تعظيم لشأن العقبة المفسرة بقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ‏}‏ الخ وتفسيرها بذلك بناء على الادعاء والمجاز وهو مما لا شبهة في صحته وإن لم يتحد العقبة والفك حقيقة فلا حاجة إلى تقدير مضاف كما زعمه الإمام ليصح التفسير أي وما أدراك ما اقتحام العقبة ‏{‏فَكُّ‏}‏ الخ وقال بعضهم يحتمل أن يراد بالعقبة نفس الشكر عبر بها عنه لصعوبته ولا يأباه ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ‏}‏ ما الشكر ‏{‏فَكُّ رَقَبَةٍ‏}‏ وهو كما ترى وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن أبي شيبة عن ابن عمر أن العقبة جبل زلال في جهنم وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها النار وفي راية عبد بن حميد عنه أنها عقبة بين الجنة والنار وعن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط وقد جاء في صفته ما جاء ولعل المراد بعقبة بين الجنة والنار هذا وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رجاء أنه قال بلغني أن العقبة التي ذكر الله تعالى في القرآن مطلعها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة وهذه الأقوال إن صحت يتعين عليها أن يراد بالاقتحام المرور والجواز بسرعة وأن يقدر المضاف أي وما أدراك ما اقتحام العقبة ‏{‏فَكُّ‏}‏ وجعل الفك وما عطف عليه نفس الاقتحام على سبيل المبالغة في سببيته له حتى كأنه نفسه ومآل المعنى فلا فعل ما ينجو به ويجوز بسبب العقبة الكؤد يوم القيامة وبهذا يندفع ما نقله الإمام عن الواحدي بعد نقله تفسيرها بجبل زلال في جهنم وبالصراط ونحو ذلك وهو قوله وفي هذا التفسير نظر لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحاً للواضحات ثم قال ويدل عليه أنه لما قال سبحانه ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة‏}‏ فحمل الآية عليه يكون إيضاحاً للواضحات ثم قال ويدل عليه أنه لما قال سبحانه ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة‏}‏ فسرها جل شأنه بفك الرقبة والإطعام انتهى نعم إنا لا أقول بشيء من ذلك حتى تصح فيه تفسيراً للآية رواية مرفوعة والفك تخليص شيء من شيء قال الشاعر‏:‏ فيا رب مكروب كررت وراءه *** وعان فككت الغل منه ففداني

وهو مصدر فك وكذا الفكاك بفتح الفاء كما نص عليه الفراء والمشهور أن المراد به هنا تخليص رقبة الرقيق من وصف القرقية بالاعتاق وأخرج أحمد وابن حبان وابن مردويه والبيهقي عن البراء رضي الله تعالى عنه أن اعرابياً قال يا رسول الله علمني عملاً يدخلني الجنة قال أعتق النسمة وفك الرقبة قال أو ليسا بواحد قال لا إن عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في عتقها الحديث وعليه يكون نفي العتق عن المحدث عنه متحققاً من باب أولى ومن الفك بهذا المعنى إعطاء المكاتب ما يصرفه في جهة فكاك نفسه وجاء في فضل الاعتاق أخبار كثيرة منها ما أخرجه أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضواً منه من النار حتى الفرج بالفرج» وهو أفضل من الصدقة عند أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وعند صاحبيه الصدقة أفضل والآية على ما قيل أدل على قول الإمام لمكان تقديم الفك على الإطعام وعن الشعبي تفضيل العتق أيضاً على الصدقة على ذي القرابة فضلاً عن غيره وقال الإمام في الآية وجه آخر حسن وهو أن يكون المراد أن يفك المرء رقبة نفسه بما يكلفه من العبادة التي يصير بها إلى الجنة فهي الحرية الكبرى وعليه قيل يكون ما بعد من قبيل التخصيص بعد التعميم وفيه بعد كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ إِطْعَامٌ فِى يَوْمٍ ذِى مَسْغَبَةٍ‏}‏ مصدر ميمي بمعنى السغب قال أبو حيان وهو الجوع العام وقد يقال سغب الرجل إذا جاع وقال الراغب هو الجوع مع التعب وربما قيل في العطش مع التعب وفسره ابن عباس هنا بالجوع من غير قيد وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن إبراهيم أنه قال في يوم فيه الطعام عزيز وليس بتفسير بالمعنى الموضوع له‏.‏ ووصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويون في قولهم هم ناصب ذو نصب وليل نائم ذو نوم ونهار صائم ذو صوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ‏}‏ أي قرابة فهو مصدر ميمي أيضاً من قرب في النسب يقال فلان ذو قرابتي وذو مقربتي بمعنى قال الزجاج وفلان قرابتي قبيح لأن القرابة مصدر قال‏:‏ يبكي الغريب عليه ليس يعرفه *** وذو قرابته في الحي مسرور

وفيه بحث وفي إطعام هذا جمع بين الصدقة والصلة وفهيما من الأجر ما فيهما وقيل إنه لا يخص القريب نسباً بل يشمل من له قرب بالجوار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ‏}‏ أي افتقار وهو مصدر ميمي كما تقدم من ترب إذا افتقر ومعناه التصق بالتراب وأما أترب فاستغنى أي صار ذا مال كالتراث في الكثرة كما قيل أقرى وعن ابن عباس أنه فسره هنا بالذي لا يقيه من التراب شيء وفي رواية أخرى هو المطروح على ظهر الطريق قاعداً على التراب لا بيت له وهو قريب مما أخرجه ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعاً هو الذي مأواه المزابل فإن صح لا يعدل عنه وفي رواية أخرى عن ابن عباس هو الذي يخرج من بيته ثم يقلب وجهه إليه مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه أنه قال في ذلك يعني بعيد التربة أي بعيداً من وطنه وهو بعيد والصفة على بعض هذه التفاسير صفة كاشفة وبعض آخر مخصصة واو على مافي البحر للتنويع وقد استشكل عدم تكرار لا هنا مع أنها دخلت على الماضي وهم قالوا يلزم تكرارها حينئذ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31‏]‏ وقول الحطيئة‏:‏

وإن كانت النعماء فيهم جزوا بها *** وإن أنعموا لا كدروها ولا كدوا

وشذ قوله‏:‏

لا هم أن الحرث بن جبلة *** جنى على أبيه ثم قتله

وكان في جاراته لا عهد له *** فأي أمر سيىء لا فعله

وأجيب بأن اللازم تكرارها لفظاً أو معنى وهي هنا مكررة معنى لأن تفسير العقبة بما فسرت به من الأمور المتعددة يلزم منه تفسير الاقتحام فيكون ‏{‏فَلاَ اقتحم العقبة‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 11‏]‏ في معنى فلا فك رقبة ‏{‏وَلاَ مَسْغَبَةٍ يَتِيماً‏}‏ الخ وقد يقال في البيت نحو ذلك بأن يقال إن العموم فيه قائم مقام التكرار ويلزمه على ما قيل جواز لا جاءني زيد وعمر ولأنه في معنى لا جاءني زيد ولا جاءني عمرو ومنعه بعضهم وقال الزجاج والفراء يجوز أن يكون منه قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ‏}‏ فإن عطف على المنفي أعني اقتحم فكأنه قيل فلا ‏{‏أقتحم‏}‏ ولا آمن ولا يلزم منه كون الايمان غير داخل في مفهوم العقبة لأنه يكفي في صحة العطف والتكرار كونه جزءاً أشرف خص بالذكر عطفاً فجاءت صورة التكرار ضرورة إذ الحمل على غير ذلك مفسد للمعنى ويلزمه جواز لا أكل زيد وشرب على العطف على المنفي والبعض المتقدم يمنعه وقيل إن لا للدعاء والكلام دعاء على ذلك الكافر أن لا يرزقه الله تعالى ذلك الخير وقيل لا مخفف ألا للتحضيض كهلا فكأنه قيل فهلا أقتحم أو الاستفهام محذوف والتقدير أفلا أقتحم ونقل ذلك عن ابن زيد والجبائي وأبي مسلم وفيه أنه لم يعرف تخفيف ألا التحضيضية وأنه كما قال المرتضى يقبح حذف حرف الاستفهام في مثل هذا الموضع وقد عيب على عمر بن أبي ربيعة قوله‏:‏ ثم قالوا تحبها قلت بهرا *** عدد الرمل والحصى والتراب

وقولهم لو أريد النفي لم يتصل الكلام ليس بشيء لظهور كان تحت النفي واتصال الكلام عليه قيل الكلام إخبار عن المستقبل فليس مما يلزم فيه التكرير أي فلا يقتحم العقبة لأن ماضيه معلوم بالمشاهدة فالأهم الإخبار عن حاله في الاستقبال لكن لتحقق الوقوع عبر بالماضي ونقل الطيبي عن أبي علي الفارسي عدم وجوب تكريرها راداً على الزجاج في زعمه ذلك وقال هي كلم والتكرر في نحو ‏{‏فلا صدق ولا صلى‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 31‏]‏ لا يدل على الوجوب كما في لم يسرفوا ولم يقتروا وعلى عدم التكرر جاء قول أمية السابق‏:‏ أن تغفر اللهم تغفر جما *** وأي عبد لك لا ألما

والمتيقن عندي أكثرية التكرر وأما وجوبه فليس بمتيقن والله تعالى أعلم وقرأ ابن كثير والنحويان فك فعلاً ماضياً رقبة بالنصب أو أطعم فعلاً ماضياً أيضاً وعلى هذه القراءة ففك مبدلة من اقتحم وما بينهما اعتراض ومعناه أنك لم تدر كنه صعوبتها على النفس وكنه ثوابها عند الله عز وجل وقرأ أبو رجاء كذلك إلا أنه قرأ ذا مسغبة بالألف على أن ذا منصوب على المفعولية بأطعم أي أطعم في يوم من الأيام إنساناً ذا مسغبة ويكون يتيماً بدلاً منه أو صفة له وقرأ هو أيضاً والحسن أو إطعام في يوم ذا بالألف أيضاً على أنه مفعول به للمصدر وقرأ بعض التابعين فك رقبة بالإضافة أو أطعم فعلاً ماضياً وهو معطوف على المصدر لتأويله به والتراخي المفهوم من ثم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ كَانَ‏}‏ الخ رتبي فالإيمان فوق جميع ما قبله لأنه يستقل بكونه سبباً للنجاة وشكراً بدون الأعمال كما فيمن آمن بشرطه ومات في يومه قبل أن يجب عليه شيء من الأعمال فإن ذلك ينفعه ويخلصه بخلاف ما عداه فإنه لا يعتد به بدونه وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْاْ بالصبر‏}‏ عطف على آمنوا أي أوصى بعضهم بعضاً بالصبر على الإيمان والثبات عليه أو بذلك والصبر على الطاعات أو به والصبر عن المعاصي وعلى المحن التي يبتلي بها الإنسان ‏{‏وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة‏}‏ أي بالرحمة على عباده عز وجل ومن ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو تواصوا بأسباب رحمة الله تعالى وما يؤدي إليها من الخيرات على أن المرحمة مجاز عن سببها أو الكلام على تقدير مضاف وذكر أن تواصوا بالصبر إشارة إلى تعظيم أمر الله تعالى وتواصوا بالمرحمة إشارة إلى الشفقة على خلق الله تعالى وهما أصلان عليهما مدار الطاعة وهو الذي قاله بعض المحققين الأصل في التصوف أمران صدق مع الحق وخلق مع الخلق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز صلته وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه لما مر غير مرة أي أولئك الموصوفون بالنعوت الجليلة المذكورة ‏{‏الميمنة مَا‏}‏ أي جهة اليمين التي فيها السعداء أو اليمن لكونهم ميامين على أنفسهم وعلى غيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏والذين كَفَرُواْ بئاياتنا‏}‏ بما نصبناه دليلاً على الحق من كتاب وحجة أو بالقرآن ‏{‏هُمْ أصحاب المشئمة‏}‏ أي جهة الشمال التي فيها الأشقياء أو الشؤم على أنفسهم وعلى غيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏عَلَيْهِمْ نَارٌ‏}‏ عظيمة ‏{‏مُّؤْصَدَةُ‏}‏ مطبقة من آصدت الباب إذا غلقته وأطبقته وهي لغة قريش على ما روي عن مجاهد وظاهر كلام ابن عباس عدم الاختصاص بهم ومن ذلك قول الشاعر‏:‏ تحن إلى أجبال مكة ناقتي *** ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة

ويجوز أن يكون من أوصدت بمعنى غلقت أيضاً وهمز على حد من قرأ ‏{‏بالسؤق‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 33‏]‏ مهموزاً وقرأ غير واحد من السبعة موصدة بغير همز فيظهر أنه من أوصدت وقيل يجوز أن يكون من آصدت وسهلت الهمزة وقال الشاعر‏:‏ قوماً يعالج قملا أبناؤهم *** وسلاسلاً ملساً وباباً موصداً

والمراد مغلقة أبوابها وإنما أغلقت لتشديد العذاب والعياذ بالله تعالى عليهم وصرح بوعيدهم ولم يصرح بوعد المؤمنين لأنه الأنسب بما سيق له الكلام والأوفق بالغرض والمرام ولذا جىء بضمير الفصل معهم لإفادة الحصر واعتبروا غيباً كأنهم بحيث لا يصلحون بوجه من الوجوه لأن يكونوا مشاراً إليهم ولم يسلك نحو هذا المسلك في الجملة الأولى التي في شأن المؤمنين ونقل عن الشمني أنه قال الحكمة في ترك ضمير الفصل في الأولين والإتيان بدله باسم الإشارة أن اسم الإشارة يؤتى به لتمييز ما أريد به أكمل تمييز كقوله‏:‏ هذا أبو الصقر فردا في محاسنه *** من نسل شيبان بين الضال والسلم

ولا كذلك الضمير فإن اسم الإشارة البعيد يفيد التعظيم لتنزيل رفعة محل المشار به إليه منزلة بعد درجته فاسم الإشارة للتعظيم والإشارة إلى تمييزهم واستحقاقهم كمال الشهرة بخلاف أصحاب المشأمة والضمير لا يفيد ذلك انتهى وفيه أن اسم الإشارة كما يفيد التعظيم يفيد التحقير كما في قوله تعالى ‏{‏فذلك الذي يدع اليتيم‏}‏ ‏[‏الماعون‏:‏ 2‏]‏ وكمال الشهرة كما يكون في الخير يكون في الشر فأي مانع من اعتبار استحقاقهم كمال الشهرة في الشر وبالجملة لما ذكره ليس بشيء ولعل ما ذكرناه هو الأولى فتدبر‏.‏

‏[‏سورة الشمس‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ أي ضوئها كما أخرجه الحاكم وصححه عن ابن عباس والمراد إذا أشرقت وقام سلطانها وقال بعض المحققين حقيقة الضحى تباعد الشمس عن الأفق الشرقي المرئي وبروزها للناظرين ثم صار حقيقة في وقته ثم إنه قيل لأول الوقت ضحوة ولما يليه ضحى ولما بعده إلى قريب الزوال ضحاء بالفتح والمد فإذا أضيف إلى الشمس فهو مجاز عن إشراقها كما هنا ونقل عن المبرد أن الضحى مشتق من الضح وهو نور الشمس والألف مقلوبة من الحاء الثانية وكذلك الواو من ضحوة مقلوبة منها وتعقبه أبو حيان بقوله لعله مختلق عليه لأن المبرد أجل من أن يذهب إلى هذا وهذان مادتان مختلفتان لا تشتق إحداهما من الأخرى وأجيب بأنه لم يرد الاشتقاق الصغير ولا يخفى حاله على الصغير والكبير وعن مقاتل أن ضحاها حرها وهو تفسير باللازم وعن مقاتل المراد به النهار كله وفيه أنه تعالى أقسم به بعيد ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏والقمر إِذَا تلاها‏}‏ أي تبعها فقيل باعتبار طلوعه وطلوعها أي إذا تلا طلوعه طلوعها بأن طلع من الأفق الشرقي بعد طلوعها وذلك أول الشهر فإن الشمس إذا طلعت من الأفق الشرقي أول النهار يطلع بعدها القمر لكن لا سلطان له فيرى بعد غروبها هلالاً ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وصف له بابتداء أمره فكما أن الضحى كشباب النهار فكذا غرة الشهر كولادته وقيل باعتبار طلوعه وغروبها أي إذا تلا طلوعه غروبها وذلك في ليلة البدر رابع عشر الشهر فإنه حينئذٍ في مقابلة الشمس والبعد بينهما نصف دور الفلك فإذا كانت في النصف الفوقاني منه أعني ما يلي رؤوسنا كان القمر في التحتاني منه أعني ما يلي اقدامنا فإذا غربت طلع من الأفق الشرقي وهو المروى عن قتادة وقولهم سمي بدراً لأنه يسبق طلوعه غروب الشمس فكأنه بدرها بالطلوع لا ينافيه لأنه مبني على التقريب ومناسبة ذلك للقسم به لأنه وقت ظهور سلطانه فيناسب تعظيم شأنه وقال ابن زيد تبعها في الشهر كله ففي النصف الأول تبعها بالطلوع وفي الآخر بالغروب ومراده ما ذكر في القولين وقيل المراد تبعها في الإضاءة بأن طلع وظهر مضيئاً عند غروبها آخذاً من نورها وذلك في النصف الأول من الشهر فإنه فيه يأخذ كل ليلة منه قدراً من النور بخلافه في النصف الثاني وهو مروى عن ابن سلام واختاره الزمخشري وقال الحسن والفراء كما في «البحر» أي تبعها في كل وقت لأنه يستضىء منها فهو يتلوها لذلك وأنكر بعض الناس ذهاب أحد من السلف إلى أن نور القمر مستفاد من ضوء الشمس وزعم أنه رأى المنجمين لا غير وما ذكر حجة عليه والحجة عن أصل المسألة أظهر من الشمس وهي اختلاف تشكلاته النورية قرباً وبعداً منها مع ذهاب نوره عند حيلولة الأرض بينه وبينها وكون الاختلاف لاحتمال أن يكون أحد نصفيه مضيئاً والنصف الآخر غير مضىء وأنه يتحرك على محوره حركة وضعية حتى يرى كل نصف منهما تدريجاً وكون ذهاب النور عند الحيلولة لاحتمال حيلولة جسم كثيف بيننا وبينه لا نراه أضعف من حبال القمر كما لا يخفى وقال الزجاج وغيره تلاها معناه امتلأ واستدار فكان تابعاً لها في الاستدارة وكمال النور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏والنهار إِذَا جلاها‏}‏ أي جلى النهار الشمس أي أظهرها فإنها تنجلي وتطهر إذا انبسط النهار ومضى منه مدة فالإسناد مجازي كالإسناد في نحو صام نهاره وقيل الضمير المنصوب يعود على الأرض وقيل على الدنيا والمراد بها وجه الأرض وما عليه وقيل يعود على الظلمة وجلاها حينئذٍ بمعنى أزالها وعدم ذكر المرجع على هذه الأقوال للعلم به والأول أولى لذكر المرجع واتساق الضمائر وجوز بعضهم أن يكون الضمير المرفوع المستتر في جلاها عليه عائداً على الله عز وجل كأنه قيل والنهار إذا جلى الله تعالى الشمس فيكون قد أقسم سبحانه بالنهار في أكمل حالاته وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏واليل إِذَا يغشاها‏}‏ أي الشمس فيغطي ضوءها والإسناد كما مر وقيل أي الأرض وقيل أي الدنيا وجيء بالمضارع هنا دون الماضي كما في السابق بأن يقال إذا غشيها قال أبو حيان رعاية للفاصلة ولم يقل غشاها لأنه يحتاج إلى حذف أحد المفعولين لتعديه إليهما فإنه يقال غشيته كذا كما قال الراغب كذا قيل وقال بعض الأجلة جيء بالمضارع للتنبيه على استواء الأزمنة عنده تعالى شأنه وقال الخفاجي الأولى أن يقال المراد بالليل الظلمة الحادثة بعدم الضوء لا العدم الأصلي والظلمة الأصلية فإن هذه أظهر في الدلالة على القدرة وهي مستقبلة بالنسبة لما قبلها فلا بد من تغيير التعبير ليدل على المراد واستصعب الزمخشري الأمر في نصب إذا بأن ما سوى الواو الأولى أن كانت عاطفة لزم العطف على معمولي عاملين مختلفين كعطف النهار مثلاً على الشمس المعمول لحرف القسم وعطف الظرف أعني إذا في ‏{‏إذا جلاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 3‏]‏ على نظيرتها في ‏{‏إذا تلاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 2‏]‏ المعمولة لفعل القسم وإن كانت قسمية لزم اجتماع المقسمات المتعددة على جواب واحد وقد استكرهه الخليل وسيبويه وأجاب باختيار الشق الأول ونفى ما لزمه فقال إن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل اطراحاً كلياً فكان لها شأن خلاف شأن الباء حيث أبرز معها الفعل تارة وأضمر أخرى فكانت الواو قائمة مقام فعل القسم وباؤه سادة مسدهما معاً والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو فهي عاملة الجر وعاملة النصب فالعطف من قبيل العطف على معمولي عامل واحد وهذا كما تقول ضرب زيد عمراً وبكر خالداً فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام ضرب الذي هو عاملها انتهى وأنت تعلم أن أول الواوات العواطف ههنا ليس معها ما تعمل فيه النصب فلعله أراد أنها تعمل ذلك إن كان هناك منصوب أو هي عاملة باعتبار أن معنى ‏{‏والشمس وضحاها‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 1‏]‏ والشمس وضوئها إذا أشرقت وفيه أيضاً أنه لم يقل أحد بأن الحروف العواطف عوامل وأيضاً الإشكال مبني على امتناع العطف على معمولي عاملين مطلقاً حتى لو جوز مطلقاً أو بشرط كون المعطوف مجروراً على ما ذهب إليه جمع كما في قولك في الدار زيد والحجرة عمرو لم يكن إشكال وأيضاً هو مبني على قبول هذا الاستكراه وعدم إمكان التخلص من الاجتماع بتقدير جواب لكل من المقسمات حتى إذا لم يقبل أو قبل وقدر لكل جواب لم يبق أشكال وأيضاً هو مبني على أن إذا ظرفية وهو ممنوع لجواز أن تكون قد تجردت عن الظرفية وحينئذٍ تكون بدلاً مما بعد الواو كما قيل في قوله‏:‏ وبعد غد يا لهف نفسي من غد *** إذا راح أصحابي ولست برائح

إن إذا بدل من غد وعلى تسليم أنها ظرفية يجوز أن يقدر مع كل مضاف تتعلق به كان يقدر وتلو القمر إذا تلاها وتجلية النهار إذا جلاها وغشيان الليل إذا يغشاها أو تجعل متعلقة بمحذوف وقع حالاً مقدرة مما تليه أي أقسم بالقمر كائناً إذا تلاها وبالليل كائناً إذا جلاها كما زعمه بعضهم وفيه بحث وأيضاً يرد على الزمخشري مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واليل إِذَا عَسْعَسَ والصبح إِذَا تَنَفَّسَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 17، 18‏]‏ لأن الواو هنالك عاطفة وقد تقدم صريح فعل القسم كما ذكره الشيخ ابن الحاجب على أن التحقيق كما قال بعض المحققين أن الظرف ليس معمولاً لفعل القسم لفساد المعنى إذا التقييد بالزمان غير مراد حالاً كان أو استقبالاً وإنما هو معمول مضاف مقدر من نحو العظمة لأن الإقسام بالشيء إعظام له فكأنه أقسم بعظمة زمان كذا وما قيل عليه من أن إقسامه تعالى بشيء مستعار لإظهار عظمته وإبانة شرفه فيجوز تقييده باعتبار جزء المعنى المراد يعني الإظهار وأيضاً إذا كان الإقسام إعظاماً لغا تقديره فلو سلم فالاستعارة إما تبعية أو تمثيلية وعلى كل حال فليس ثمت ما يكون متعلقاً بحسب الصناعة والتقدير ليتعلق به وليظهر ما أريد منه مؤكداً فلا لغوية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏والسماء وَمَا بناها‏}‏ أي ومن بناها وإيثار ما على من لإرادة الوصفية تفخيماً على ما تقدم في ‏{‏وما ولد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 3‏]‏ كأنه قيل والقادر العظيم الشأن الذي بناها ودل على وجوده وكمال قدرته بناؤهما والمراد به إيجادها بحيث تدل على ذلك ويستدل بها عليه وهو أولى من تفسيره بيانيها لإشعاره بالمراد من البناء وكذا الكلام في قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏والارض وَمَا طحاها‏}‏ أي بسطها من كل جانب ووطأها كدحاها ويكون طحا بمعنى ذهب كقول علقمة‏:‏ طحا بك قلب في الحسان طروب *** بعيد الشباب عصر حان مشيب

وبمعنى أشرف وارتفع ومن أيمانهم لا والقمر الطاحي ويقال طحا يطحو طحوا وطحى يطحي طحياً وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا‏}‏ أي أنشأها وأبدعها مستعدة لكمالها وذلك بتعديل أعضائها وقواها الظاهرة والباطنة والتنكير للتكثير وقيل للتفخيم على أن المراد بالنفس آدم عليه السلام والأول أنسب بجواب القسم الآتي ومن ذهب إلى ذلك جعله من الاستخدام وذهب الفراء والزجاج والمبرد وقتادة وغيرهم إلى أن ما في المواضع الثلاث مصدرية أي وبنائها وطحوها وتسويتها وتعقبه الزمخشري بأنه ليس بالوجه لقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ وما يؤدي إليه من فساد النظم وذلك على ما في «الحواشي» لما يلزم من عطف الفعل على الاسم وأنه لا يكون له فاعل لا ظاهر وهو ظاهر ولا مضمر لعدم مرجعه واعترض بأن الأخير منتقض بالأفعال السابقة أعني بناها طحاها سواها على أن دلالة السياق كافية في صحة الإضمار وأما الأول ففيه أن عطف الفعل على الاسم ليس بفاسد وإن كان خلاف الظاهر على أنه عطف على ما بعد ما كانه قيل ونفس وتسويتها فالهامها فجورها وتقواها واعترض هذا بأن الفاء يدل على الترتيب من غير مهملة والتسوية قبل نفخ الروح والإلهام بعد البلوغ وأجيب بأن التشوية تعديل الأعضاء والقوى ومنها المفكرة والإلهام عبارة عن بيان كيفية استعمالها في النجدين في هذا المحل وهو غير مفارق عنه منذ سوى نعم يزداد بحسب ازدياد القوى كيفية لا وجوداً على أن المهلة في نحوها عرفي وقد يعد متعقباً دون تراخ ثم أنه مشترك الإلزام ولا معنى لقول الطيبي النظم السري يوجب موافقة القرائن فلا يجوز ونفس وتسويتها فألهمها الله فهي حاصلة وإنما ذلك بناءً على توهم أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فألهما‏}‏ جملة وبالجملة لا يلوح فساد هذا الوجه وأبى القاضي عبد الجبار إلا المصدرية دون الموصولية قال لما يلزم منها تقديم الإقسام بغير الله تعالى على إقسامه سبحانه بنفسه عز وجل وأجاب عنه الإمام بأن أعظم المحسوسات الشمس فذكرها الله تعالى مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمها ثم ذكر سبحانه ذاته المقدسة ووصفها جل وعلا بصفات ثلاث ليحظى العقل بإدراك جلال الله تعالى وعظمته سبحانه كما يليق به جل جلاله ولا ينازعه الحس فكان ذلك طريقاً إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى بيداء أوج كبريائه جل شأنه وجوز أن تكون ما عبارة عن الأمر الذي له بنيت السماء وطحيت الأرض وسويت النفس من الحكم والمصالح التي لا تحصى ويكون إسناد الأفعال إليها مجازاً وفاعل ألهمها يجوز أن يكون ذلك أمر ويكون الإسناد مجازاً أيضاً وهو كما ترى والفجور والتقوى على ما أخرج عبد بن حميد وغيره عن الضحاك المعصية والطاعة مطلقاً قلبيين كانا أو قالبيين وإلهامهما النفس على ما أخرج هو وابن جرير وجماعة عن مجاهد تعريفهما إياها بحيث تميز رشدها من ضلالها وروي ذلك عن ابن عباس كما في «البحر» وقريب منه قول ابن زيد ألهمها فجورها وتقواها بينهما لها وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وغيرهما نحوه عن قتادة والآية على ذلك نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وهديناه النجدين‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 10‏]‏ وقدم الفجور على التقوى لأن إلهامه بهذا المعنى من مبادىء تجنبه وهو تخلية والتخلية مقدمة على التحلية وقيل قدم مراعاة للفواصل وأضيفا إلى ضمير النفس قيل إشارة إلى أن الملهم للنفس فجور وتقوى قد استعدت لهما فهماً لها بحكم الاستعداد وقيل رعاية للفواصل أيضاً وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها‏}‏ جواب القسم على ما أخرجه الجماعة عن قتادة وإليه ذهب الزجاج وغيره وحذف اللام كثير لا سيما عند طول الكلام المقتضي للتخفيف أو لسده مسدها وفاعل زكاها ضمير من والضمير المنصوب للنفس وكذا في قوله تعالى‏:‏