فصل: تفسير الآية رقم (79)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله‏}‏ تنزيه لأنبياء الله تعالى عليهم الصلاة والسلام إثر تنزيه الله تعالى عن نسبة ما افتراه أهل الكتاب إليه، وقيل‏:‏ تكذيب وردّ على عبدة عيسى عليه السلام‏.‏ وأخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «قال أبو رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام‏:‏ أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى ابن مريم‏؟‏ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس‏:‏ أو ذاك تريد منا يا محمد‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ معاذ الله أن نعبد غير الله أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني ‏"‏ فأنزل الله تعالى الآية‏.‏ وأخرج عبد بن حميد عن الحسن قال‏:‏ بلغني أن رجلاً قال‏:‏ يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ لا ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله فإنه لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله تعالى ‏"‏ فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم قال‏:‏ «كان ناس من يهود يتعبدون الناس من دون ربهم بتحريفهم كتاب الله تعالى عن موضعه فقال‏:‏ ما كان لبشر» الخ، والمعنى ما يصح، وقيل‏:‏ ما ينبغي، وقيل لا يجوز لأحد، وعبر بالبشر إيذاناً بعلة الحكم فإن البشرية منافية للأمر الذي أسنده الكفرة إلى أولئك الكرام عليهم الصلاة والسلام‏.‏

والجار خبر مقدم لكان والمنسبك من ‏{‏ءانٍ‏}‏ والفعل بعد اسمها ولا بد لاستقامة المعنى من ملاحظة العطف إذ لو سكت عنه لم يصح لأن الله تعالى قد آتى كثيراً من البشر الكتاب وأخويه، وعطف الفعل على منصوب أن بثم تعظيماً لهذا القول فإنه إذا انتفى بعد مهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى فكأنه قيل‏:‏ إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أصلاً وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام والحكم بمعنى الحكمة، وقد تقدم معناها، والعباد جمع عبد قال القاضي‏:‏ وهو هنا من العبادة ولم يقل عبيداً لأنه من العبودية وهي لا تمتنع أن تكون لغير الله تعالى، ولهذا يقال‏:‏ هؤلاء عبيد زيد ولا يقال‏:‏ عباده، والظرف الذي بعده متعلق بمحذوف وقع صفة له أي عباداً كائنين لي و‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ متعلق بلفظ ‏{‏عِبَادًا‏}‏ لما فيه من معنى الفعل، ويجوز أن يكون صفة ثانية وأن يكون حالاً لتخصيص النكرة بالوصف أي متجاوزين الله تعالى إشراكاً وإفراداً كما قال الجبائي فإن التجاوز متحقق فيهما حتماً، ثم إن هذا الإيتاء في الآية حقيقة على الروايتين الأوليين مجاز على الرواية الأخيرة كما لا يخفى‏.‏

‏{‏ولكن كُونُواْ ربانيين‏}‏ إثبات لما نفى سابقاً، وهو القول المنصوب بأن كأنه قيل‏:‏ ما كان لذلك البشر أن يقول ذلك لكن يقول كونوا ربانيين، فالفعل هنا منصوب أيضاً عطفاً عليه، وجوز رفعه على المعنى لأنه في معنى لا يقول، وقيل‏:‏ يصح عدم تقدير القول على معنى لا تكونوا قائلين لذلك ولكن كونوا ربانيين وفسر علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس الرباني بالفقيه العالم، وقتادة والسدي بالعالم الحكيم، وابن جبير بالحليم التقي، وابن زيد بالمدبر أمر الناس وهي أقوال متقاربة وهو لفظ عربي لا سرياني على الصحيح‏.‏ وزعم أبو عبيدة أن العرب لا تعرفه، وهو منسوب إلى الرب كإلهي والألف والنون يزادان في النسب للمبالغة كثيراً كلحياني لعظيم اللحية، والجماني لوافر الجمة، ورقباني بمعنى غليظ الرقبة، وقيل‏:‏ إنه منسوب إلى ربان صفة كعطشان بمعنى مربي‏.‏

‏{‏بِمَا كُنتُمْ تُعَلّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ‏}‏ الباء السببية متعلقة بكونوا أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على تعليمكم الكتاب ودراستكم له، والمطلوب أن لا ينفك العلم عن العمل إذ لا يعتد بأحدهما بدون الآخر، وقيل‏:‏ متعلقة بربانيين لأن فيه معنى الفعل، وقيل‏:‏ بمحذوف وقع صفة له والدراسة التكرار يقال‏:‏ درس الكتاب أي كرره، وتطلق على القراءة، وتكرير ‏{‏بِمَا كُنتُمْ‏}‏ للإشعار باستقلال كل من استمرار التعليم، واستمرار القراءة المشعر به جعل خبر ‏(‏كان‏)‏ مضارعاً بالفضل، وتحصيل الربانية، وقدم تعليم الكتاب على دراسته لوفور شرفه عليها، أو لأن الخطاب الأول‏:‏ لرؤسائهم، والثاني‏:‏ لمن دونهم، وقيل‏:‏ لأن متعلق التعليم الكتاب بمعنى القرآن، ومتعلق الدراسة الفقه وفيه بعد بعيد وإن أشعر به كلام بعض السلف‏.‏ وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب وأبو عمرو ومجاهد ‏{‏تَعْلَمُونَ‏}‏ بمعنى عالمين، وقرىء ‏{‏تَدْرُسُونَ‏}‏ بالتشديد من التدريس، وتدرسون من الإدراس بمعناه، ومجىء أفعل بمعنى فعل كثير، وجوز كون القراءة المشهورة أيضاً بهذا المعنى على أن يكون المراد تدرسونه للناس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا‏}‏ قرأ ابن عامر وحمزة وعاصم ويعقوب ولا يأمركم بالنصب عطفاً على ‏{‏يِقُولُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79‏]‏، ‏{‏وَلاَ‏}‏ إما مزيدة لتأكيد معنى النفي الشائع في الاستعمال سيما عند طول العهد وتخلل الفصل، والمعنى ما كان لبشر أن يؤتيه الله تعالى ذلك ويرسله للدعوة إلى اختصاصه بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً له، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً فهو كقولك‏:‏ ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ولا يستخف بي، وإما غير زائدة بناءاً على أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن عبادة الملائكة والمسيح وعزير عليهم السلام فلما قيل له‏:‏ أنتخذك رباً‏؟‏ قيل لهم‏:‏ ما كان لبشر أن يتخذه الله تعالى نبياً ثم يأمر الناس بعبادته وينهاهم عن عبادة الملائكة والأنبياء مع أن من يريد أن يستعبد شخصاً يقول له‏:‏ ينبغي أن تعبد أمثالي وأكفائي وعلى هذا يكون المقصود من عدم الأمر النهي وإن كان أعم منه لكونه أمسّ بالمقصود وأوفق للواقع، وقرأ باقي السبعة ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ‏}‏ بالرفع على الاستئناف، ويحتمل الحالية، وقيل‏:‏ والرفع على الاستئناف أظهر، وينصره قراءة ‏{‏وَلَنْ يَأْمُرُكُمْ‏}‏ ووجهت الأظهرية بالخلو عن تكلف جعل عدم الأمر بمعنى النهي، وبأن العطف يستدعي تقديمه على ‏{‏لَكِنِ‏}‏ وكذا الحالية أيضاً‏.‏

وقرىء بإسكان الراء فراراً من توالي الحركات وعلى سائر القراآت ضمير الفاعل عائد على بشر وجوز عوده في بعضها على الله تعالى، وجوز الأمران أيضاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيَأْمُرُكُم بالكفر‏}‏ والاستفهام فيه للإنكار وكون مرجع الضمير في أحد الاحتمالين نكرة يجعله عاماً

‏{‏بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ استدل به الخطيب على أن الآية نزلت في المسلمين القائلين «أفلا نسجد لك‏؟‏» بناءاً على الظاهر، ووجه كون الخطاب للكفار وأن الآية نزلت فيهم بأنه يجوز أن يقال لأهل الكتاب‏:‏ ‏{‏أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ أي منقادون مستعدون للدين الحق إرخاءاً للعنان واستدراجاً، والقول بأن كل مصدق بنبيه مسلم ودعواه أنه أمره نبيه بما يوجب كفره دعوى أنه أمره بالكفر بعد إسلامه فدلالة هذا على أن الخطاب للمسلمين ضعيفة في غاية السقوط كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آَتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين لَمَا ءاتَيْتُكُم مّن كتاب وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ‏}‏ الظرف منصوب بفعل مقدر مخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أي اذكر وقت ذلك واختار السمين كونه معمولاً لأقررتم الآتي، وضعفه عبد الباقي بأن خطاب ‏{‏ءأَقْرَرْتُمْ‏}‏ بعد تحقق أخذ الميثاق، وفيه تردد، وعطفه على ما تقدم من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتِ الملئكة‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 42‏]‏ كما نقله الطبرسي بعيد‏.‏ واختلف في المراد من الآية فقيل‏:‏ إنها على ظاهرها ويؤيد ذلك ما أخرجه ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ لم يبعث الله تعالى نبياً آدم فمن بعده إلا أخذ عليه العهد في محمد صلى الله عليه وسلم لئن بعث وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ويأمره فيأخذ العهد على قومه ثم تلا الآية، وعدم ذكر الأمم فيها حينئذ إما لأنهم معلومون بالطريق الأولى أو لأنه استغنى بذكر النبيين عن ذكرهم، ففي الآية اكتفاء وليس فيها الجمع بين المتنافيين، وقيل‏:‏ إن إضافة الميثاق إلى النبيين إضافة إلى الفاعل، والمعنى وإذ أخذ الله الميثاق الذي وثقه النبيون على أممهم وإلى هذا ذهب ابن عباس فقد أخرج ابن المنذر، وغيره عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ إن أصحاب عبد الله يقرءون ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق الذين أُوتُواْ الكتاب لَمَا ءاتَيْتُكُم‏}‏ الخ ونحن نقرأ ميثاق النبيين فقال ابن عباس إنما أخذ الله تعالى ميثاق النبيين على قومهم، وأشار بذلك رضي الله تعالى عنه إلى أنه لا تناقض بين القراءتين كما توهم حتى ظن أن ذلك منشأ قول مجاهد فيما رواه عنه ابن المنذر وغيره أن ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين‏}‏ خطأ من الكتاب وأن الآية كما قرأ عبد الله وليس كذلك إذ لا يصلح ذلك وحده منشأ وإلا لزم الترجيح بلا مرجح بل المنشأ لذلك إن صح، ولا أظن ما يعلم بعد التأمل فيما أسلفناه في المقدمات وبسطنا الكلام عليه في «الأجوبة العراقية عن الأسئلة الإيرانية» وقيل‏:‏ المراد أمم النبيين على حذف المضاف، وإليه ذهب الصادق رضي الله تعالى عنه؛ وقيل‏:‏ المضاف المحذوف أولاد، والمراد بهم على الصحيح بنو إسرائيل لكثرة أولاد الأنبياء فيهم وأن السياق في شأنهم، وأيد بقراءة عبد الله المشار إليها وهي قراءة أبيّ بن كعب أيضاً، وقيل‏:‏ المراد وإذ أخذ الله ميثاقاً مثل ميثاق النبيين أي ميثاقاً غليظاً على الأمم، ثم جعل ميثاقهم نفسه ميثاقهم بحذف أداة التشبيه مبالغة، وقيل‏:‏ المراد من النبيين بنو إسرائيل وسماهم بذلك تهكماً لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد لأنا أهل الكتاب والنبيون كانوا منا، وهذا كما تقول لمن ائتمنته على شيء فخان فيه ثم زعم الأمانة‏:‏ يا أمين ماذا صنعت بأمانتي‏؟‏‏؟‏ا وتعقبه الحلبي بأنه بعيد جداً إذ لا قرينة تبين ذلك، وأجيب بأن القائل بعد لعله اتخذ مقالهم المذكور قرينة حالية، وقيل‏:‏ إن الإضافة للتعليل لأدنى ملابسة كأنه قيل‏:‏ وإذ أخذ الله الميثاق على الناس لأجل النبيين، ثم بينه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَمَا ءاتَيْتُكُم‏}‏ الخ ولا يخفى أن هذا أيضاً من البعد بمكان، وقال الشهاب‏:‏ لم نر من ذكر أن الإضافة تفيد التعليل في غير كلام هذا القائل، واختار كثير من العلماء القول الأول، وأخذ الميثاق من النبيين له صلى الله عليه وسلم على ما دل عليه كلام الأمير كرم الله تعالى وجهه مع علمه سبحانه أنهم لا يدركون وقته لا يمنع من ذلك لما فيه مع ما علمه الله تعالى من التعظيم له صلى الله عليه وسلم والتفخيم ورفعة الشأن والتنويه بالذكر ما لا ينبغي إلا لذلك الجناب، وتعظم الفائدة إذا كان ذلك الأخذ عليهم في كتبهم لا في عالم الذر فإنه بعيد كبعد ذلك الزمان كما عليه البعض ويؤيد القول بأخذ الميثاق من الأنبياء الموجب لإيمان من أدركه عليه الصلاة والسلام منهم به ما أخرجه أبو يعلى عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا فإما أن تصدقوا بباطل، وإما أن تكذبوا بحق وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ماحل له إلا أن يتبعني ‏"‏ وفي معناه أخبار كثيرة وهي تؤيد بظاهرها ما قلنا، ومن هنا ذهب العارفون إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو النبي المطلق والرسول الحقيقي والمشرع الاستقلالي، وأن من سواه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم التبعية له صلى الله عليه وسلم‏.‏

وهذا وقد عدوا هذه الآية من مشكلات القرآن إعراباً وقد غاص النحويون في تحقيق ذلك وشقوا الشعر فيه ولنذكر بعض الكلام في ذلك فنقول‏:‏ قال غير واحد‏:‏ اللام في ‏{‏لَمَا ءاتَيْتُكُم‏}‏ على قراءة الفتح والتخفيف وهي قراءة الجمهور موطئة للقسم المدلول عليه بأخذ الميثاق لأنه بمعنى الاستحلاف وسميت بذلك لأنها تسهل تفهم الجواب على السامع، وعرفها النحاة كما قال الشهاب‏:‏ بأنها اللام التي تدخل على الشرط سواء إن وغيرها لكنها غلبت في إن بعد تقدم القسم لفظاً أو تقديراً لتؤذن أن الجواب له لا للشرط كقولك‏:‏ لئن أكرمتني لأكرمنك ولو قلت‏:‏ أكرمك، أو فإني أكرمك، أو ما أشبهه مما يجاب به الشرط لم يجز على ما صرح به ابن الحاجب وخالفه الفراء فيه فجوز أن يجاب الشرط مع تقدم القسم عليه لكن الأول هو المصحح وكونها يجب دخولها على الشرط هو المشهور وخالف فيه بعض النحاة، قال‏:‏ يجوز دخولها على غير الشرط إما مطلقاً أو بشرط مشابهته للشرط كما الموصولة دون الزائدة وقال الزمخشري في سورة هود‏:‏ إنه لا يجب دخولها على كلم المجازاة، ونقله الأزهري عن الأخفش، وذكر أن ثعلباً غلطه فيه فالمسألة خلافية، وما شرطية في موضع نصب بآتيت والمفعول الثاني ضمير المخاطب، و‏{‏مِنْ‏}‏ بيان لما واعترض بأن حمل ‏{‏مِنْ‏}‏ على البيان شائع بعد الموصولة، وأما بعد الشرطية فيحتاج إلى النقل، ومثل ذلك القول بزيادتها لأن زيادتها بعد الموصولة أيضاً كزيادتها بعد الشرطية محتاج لما ذكر، وأجيب بأن السمين نقل ما يدل على الوقوع عند الأئمة، وفي «جني الداني»‏.‏

ومن الناس من قال‏:‏ إن ‏(‏من‏)‏ تزاد بالشروط في غير باب التمييز، وأما فيه فتزاد وإن لم تستوف الشروط نحو لله درك من رجل، ومن هنا قال مولانا عبد الباقي‏:‏ يجوز أن تكون ‏(‏من‏)‏ تبعيضية ذكرت لبيان ‏(‏ما‏)‏ الشرطية، أو زائدة داخلة على التمييز، و‏{‏لَتُؤْمِنُنَّ‏}‏ جواب القسم وحده على الصحيح، ولدلالته على جواب الشرط واتحاد معناهما تسامح بعضهم فجعله ساداً مسد الجوابين، ولم يرد أنه جواب القسم وجواب الشرط لتنافيهما من حيث إن الأول‏:‏ لا محل له، والثاني‏:‏ له محل، والقول بأن الجملة الواحدة قد يحكم عليها بالأمرين باعتبارين التزام لما لا يلزم، وجوزوا كون ‏(‏ما‏)‏ موصولة واللام الداخلة عليها حينئذ لام الابتداء، ويشعر كلام البعض أن اللام بعد موطئة وكأنه مبني على مذهب من جوز دخول الموطئة على غير الشرط من النحاة كما مر وهي على هذا التقدير مبتدأ، والخبر إما مقدر أو جملة ‏{‏لَتُؤْمِنُنَّ‏}‏ مع القسم المقدر، والكلام في مثله شهير، وأورد عليه أن الضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ إن عاد على المبتدأ على ما هو الظاهر كان الميثاق هو إيمانهم بما آتاهم، والمقصود من الآية أخد الميثاق بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم ونصرته، وإن عاد على الرسول كالضمير الثاني المنصوب العائد عليه مطلقاً دفعاً للزوم التفكيك خلت الجملة التي هي خبر عن العائد، وأجيب بأن الجملة المعطوفة لما كانت مشتملة على ما هو بمعنى المبتدأ الموصول، ولذلك استغنى عن ضميره فيها مع لزومه في الصلتين المتعاطفتين في المشهور وكان ضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ راجعاً للرسول مع ملاحظة ‏{‏مُّصَدّقٌ لّمَا مَعَكُمْ‏}‏ القائم مقام الضمير العائد على ‏(‏ما‏)‏ اكتفى بمجرد ذلك عن ضمير في خبرها لارتباط الكلام بعضه ببعض، وإلى ذلك يشير كلام الإمام السهيلي في «الروض الأنف»، ولا يخفى أنه مع ما فيه من التكلف مبني على اتحاد ما أوتوه، وما هو معهم، وفي ذلك إشكال لأن آتيناكم، وجاءكم إن كان كلاهما مستقبلين فالظاهر أن المراد بما آتيناكم القرآن لأنه الذي يؤتوه في المستقبل باعتبار إيتائه للرسول الذي كلفوا باتباعه وبما معهم الكتب التي أوتوها، وحمله على القرآن يأباه الذوق لأنه مع كونه ليس معهم بحسب الظاهر لا يظهر حسن لكون القرآن مصدقاً للقرآن وهو لازم على ذلك التقدير وإن كانا ماضيين ظهر الفساد من جهة أن هذا الرسول الذي أوجب الله تعالى عليهم الإيمان به ونصرته لم يجيء إذا ذاك، وإن كان الفعل الأول ماضياً‏.‏

والثاني‏:‏ مستقبلاً جاء عدم التناسب بين المعطوفين وهما ماضيان لفظاً، وفيه نوع بعد، ولعل المجيب يختار هذا الشق ويتحمل هذا البعد لما أن ثم مع كونه لا يعبأ بمثله لضعفه تهون أمره، وجوز أبو البقاء على ذلك التقدير كون الخبر من كتاب أي الذي آتيتكموه من الكتاب، وجعل النكرة هنا كالمعرفة وسوغ كون العائد على الموصول من المعطوف محذوفاً أي جاءكم به مع عدم تحقق شروط حذف مثل هذا الضمير عند الجمهور بل مع خلل في المعنى لأن المؤتى كتاب كل نبي في زمان بعثته وشريعته؛ والجائي به الرسول هو القرآن بحسب الظاهر لا كتاب كل نبي، وعود الضمير المقدر يستدعي ذلك، وعلى تقدير التزام كون المؤتى القرآن أيضاً كما يقتضيه حمل الفعلين على الاستقبال يرد أنه لا معنى لمجيء الرسول إليهم بالقرآن بعد إيتائهم القرآن بمهلة، والعطف بثم كالنص بهذا المعنى، وعلى تقدير التزام كون الجائي به الرسول هو كتاب كل نبي بنوع من التكلف يكون وصف الرسول بكونه مصدقاً لما معكم كالمستغني عنه فتدبر‏.‏

وقرأ حمزة لما آتيتكم بكسر اللام على أن ‏(‏ما‏)‏ مصدرية واللام جارّة أجلية متعلقة بلتؤمنن أي لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له أخذ الله الميثاق لتؤمنن به ولتنصرنه، واعترض بأن فيه إعمال ‏(‏ما‏)‏ بعد لام القسم فيما قبلها وهو لا يجوز، وأجيب بأنه غير مجمع عليه فإن ظاهر كلام الزمخشري يشعر بجوازه ولعل من يمنعه يخصه بما إذا لم يكن المعمول المتقدم ظرفاً لأن ذاك يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، نعم الأولى حسماً للنزاع تعلقه بأقسم المحذوف، وجوز أن تكون ‏(‏ما‏)‏ في هذه القراءة موصولة أيضاً، والجار متعلق بأخذ وروى عبد بن حميد عن سعيد بن جبير أنه قرأ لما آتيتكم بالتشديد، وفيها احتمالان‏:‏ الأول‏:‏ أن تكون ظرفية بمعنى حين كما قاله الجمهور خلافاً لسيبويه، وجوابها مقدر من جنس جواب القسم كما ذهب إليه الزمخشري أي لما آتيتكم بعض الكتاب والحكمة ثم جاءكم رسول مصدق وجب عليكم الإيمان به ونصرته وقدره ابن عطية من جنس ما قبلها أي لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأماثلهم أخذ عليكم الميثاق وكذا وقع في تفسير الزجاج، ومآل معناها التعليل، الثاني‏:‏ أن أصلها من ‏(‏ما‏)‏ فأبدلت النون ميماً لمشابهتها إياها فتوالت ثلاث ميمات فحذفت الثانية لضعفها بكونها بدلاً وحصول التكرير بها، ورجحه أبو حيان في «البحر»‏.‏

وزعم ابن جني أنها الأولى، ونظر فيه الحلبي، و‏{‏مِنْ‏}‏ إما مزيدة في الإيجاب على رأي الأخفش، وإما تعليلية على ما اختاره ابن جني قيل‏:‏ وهو الأصح لاتضاح المعنى عليه وموافقته لقراءة التخفيف واللام إما زائدة، أو موطئة بناءاً على عدم اشتراط دخولها على أداة الشرط، وقرأ نافع آتيناكم على لفظ الجمع للتعظيم، والباقون آتيتكم على التوحيد، ولكل من القراءتين حسن من جهة فافهم ذاك فبعيد أن تظفر بمثله يداك

‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله تعالى للنبيين وهو بيان لأخذ الميثاق، أو مقول بعده للتأكيد ‏{‏ءأَقْرَرْتُمْ‏}‏ بذلك المذكور ‏{‏وَأَخَذْتُمْ‏}‏ أي قبلتم على حدّ ‏{‏إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ معناه هل أخذتم ‏{‏على ذلكم إِصْرِى‏}‏ على الأمم‏.‏ والإصر بكسر الهمزة كما قال ابن عباس، وأصله من الإصار وهو ما يعقد به ويشد وكأنه إنما سمي العهد بذلك لأنه يشدّ به، وقرىء بالضم وهو إما لغة فيه كعبر وعبر في قولهم ناقة عبر أسفار أو هم بالضم جمع إصار استعير للعهد، وجمع إما لتعدد المعاهدين وهو الظاهر، أو للمبالغة ‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف مبني على السؤال كأنه قيل‏:‏ فماذا قالوا عند ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ قالوا‏:‏ ‏{‏أَقْرَرْنَا‏}‏، وكان الظاهر في الجواب أقررنا على ذلك إصرك لكنه لم يذكر الثاني اكتفاءاً بالأول ‏{‏قَالَ‏}‏ أي الله تعالى لهم ‏{‏فَأَشْهِدُواْ‏}‏ أي فليشهد بعضكم على بعض بذلك الإقرار، فاعتبر المقر بعضاً، والشاهد بعضاً آخر لئلا يتحد المشهود عليه والشاهد، وقيل‏:‏ الخطاب فيه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام فقط أمروا بالشهادة على أممهم ونسب ذلك إلى عليّ كرم الله تعالى وجهه، وقيل‏:‏ للملائكة فكيون ذلك كناية عن غير مذكور ونسب إلى سعيد بن المسيب ‏{‏وَأَنَاْ مَعَكُمْ مّنَ الشاهدين‏}‏ أي على إقراركم وتشاهدكم على ما يقتضيه المعنى لأنه لا بد في الشهادة من مشهود عليه‏.‏ وهنا ما ذكرناه للمقام‏.‏ وعن ابن عباس أن المراد اعلموا وأنا معكم أعلم‏.‏ وعلى كل تقدير فيه توكيد وتحذير عظيم، والجار والمجرور خبر أنا و‏{‏مَّعَكُمْ‏}‏ حال، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب‏.‏ وجوز أن تكون في محل نصب على الحال من ضمير ‏{‏فَأَشْهِدُواْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنْ تولى‏}‏ أي أعرض عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ونصرته قاله علي كرم الله وجهه ‏{‏بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ أي الميثاق والإقرار والتوكيد بالشهادة ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى ‏(‏من‏)‏ مراعى معناه كما روعي من قبل لفظها ‏{‏هُمُ الفاسقون‏}‏ أي الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتبه، والمشهور عدم دخول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في حكم هذه الشرطية، أو ما هي في حكمها لأنهم أجل قدراً من أن يتصور في حقهم ثبوت المقدم ليتصفوا، وحاشاهم بما تضمنه التالي بل هذا الحكم بالنسبة إلى أتباعهم، وجوز أن يراد العموم والآية من قبيل‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 56‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ‏}‏ ذكر الواحدي عن ابن عباس أنه قال اختصم أهل الكتابين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا بينهم من دين إبراهيم عليه السلام كل فرقة زعمت أنها أولى بدينه فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم فغضبوا وقالوا‏:‏ والله ما نرضى بقضائك ولانأخذ بدينك فأنزل الله تعالى هذه الآية، والجملة في النظم معطوفة على مجموع الشرط والجزاء، وقيل‏:‏ على الجزاء فقط، وعطف الإنشاء على الأخبار مغتفر هنا عند المانعين، والهمزة على التقديرين متوسطة بين المعطوف والمعطوف عليه للانكار، وقيل‏:‏ إنها معطوفة على محذوف تقديره أيتولون فغير دين الله يبغون قال ابن هشام‏:‏ والأول‏:‏ مذهب سيبويه والجمهور، وجزم به الزمخشري في مواضع، وجوز الثاني في بعض ويضعفه ما فيه من التكلف وأنه غير مطرد، أما الأول‏:‏ فلدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه على قولهم‏:‏ أقل لفظاً مع أن في هذا التجوز تنبيهاً على أصالة شيء في شيء أي أصالة الهمزة في التصدر، وأما الثاني‏:‏ فلأنه غير ممكن في نحو ‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏ انتهى‏.‏

وتعقبه الشمس بن الصائغ بأنه أي مانع من تقدير ألا مدبر للموجودات فمن هو قائم على كل نفس على الاستفهام التقريري المقصود به تقرير ثبوت الصانع، والمعنى أنتفى المدبر فلا أحد قائم على كل نفس لا يمكن ذلك بل المدبر موجود فالقائم على كل نفس هو وهو أولى من تقدير البدر ابن الدماميني أهم ضالون فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت لم يوحدوه، وجعله الهمزة للإنكار التوبيخي، وعلى العلات يوشك أن يكون التفصيل في هذه المسألة أولى بأن يقال‏:‏ إن انساق ذلك المقدر للذهن قيل‏:‏ بالتقدير، وإلا قيل‏:‏ بما قاله الجماعة، وتقديم المفعول لأنه المقصود بالإنكار لا للحصر كما توهم لأن المنكر اتخاذ غير الله رباً ولو معه، ودعوى أنه إشارة إلى أن دين غير الله لا يجامع دينه في الطلب، فالتقديم للتخصيص، والإنكار متوجه إليه أي أيخصون غير دين الله بالطلب تكلف، وقول أبي حيان‏:‏ إن تعليل التقديم بما تقدم لا تحقيق فيه لأن الإنكار الذي هو معنى الهمزة لا يتوجه إلى الذوات، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء الذي متعلقه غير دين الله، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع، ولشبه ‏{‏يَبْغُونَ‏}‏ بالفاصلة لا تحقيق فيه عند ذوي التحقيق لأنا لم ندع توجه الإنكار إلى الذوات كما لا يخفى، وقرأ أبو عمرو وعاصم في رواية لحفص ويعقوب يبغون بالياء التحتية، وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على معنى أتتولون أو أتفسقون، وتكفرون فغير دين الله تبغون وذهب بعضهم إلى أنه التفات فعنده لا تقدير، وعلى تقدير التقدير يجيء قصد الإنكار فيما أشير إليه ولا ينافيه لأنه منسحب عليه

‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السماوات والارض‏}‏ جملة حالية مؤكدة للإنكار أي كيف يبغون ويطلبون غير دينه، والحالة هذه ‏{‏طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ مصدران في موضع الحال أي طائعين وكارهين، وجوز أبو البقاء أن يكونا مصدرين على غير المصدر لأنه أسلم بمعنى انقاد وأطاع قيل‏:‏ وفيه نظر لأنه ظاهر في ‏{‏طَوْعاً‏}‏ لموافقة معناه ما قبله لا في ‏{‏كَرْهاً‏}‏ والقول بأن يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل غير نافع، وقد يدفع بأن الكره فيه انقياد أيضاً، والطوع مصدر طاع يطوع، كالإطاعة مصدر أطاع يطيع ولم يفرقوا بينهما، وقيل‏:‏ طاعه يطوعه انقاد له، وأطاعه يطيعه بمعنى مضى لأمره، وطاوعه بمعنى وافقه، وفي معنى الآية أقوال‏:‏ الأول‏:‏ أن المراد من الإسلام بالطوع الإسلام الناشيء عن العلم مطلقاً سواء كان حاصلاً للاستدلال كما في الكثير منا، أو بدون استدلال وإعمال فكر كما في الملائكة ومن الإسلام بالكره ما كان حاصلاً بالسيف ومعاينة ما يلجىء إلى الإسلام، الثاني‏:‏ أن المراد انقادوا له تعالى مختارين لأمره كالملائكة والمؤمنين ومسخرين لإرادته كالكفرة فإنهم مسخرون لإرادة كفرهم إذ لا يقع ما لا يريده تعالى، وهذا لا ينافي على ما قيل‏:‏ الجزء الاختياري حتى لا يكون لهم اختيار في الجملة فيكون قولاً بمذهب الجبرية، ولا يستدعي عدم توجه تعذيبهم على الكفر ولا عدم الفرق بين المؤمن والكافر بناءاًعلى أن الجميع لا يفعلون إلا ما أراده الله تعالى بهم كما وهم، الثالث‏:‏ ما إشار إليه بعض ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الإسلام طوعاً هو الانقياد والامتثال لما أمر الله تعالى من غير معارضة ظلمة نفسانية وحيلولة حجب الأنانية، والإسلام كرهاً هو الانقياد مع توسط المعارضات والوساوس وحيلولة الحجب والتعلق بالوسائط، والأول‏:‏ مثل إسلام الملائكة وبعض من في الأرض من المصطفين الأخيار، والثاني‏:‏ مثل إسلام الكثير ممن تقلبه الشكوك جنباً إلى جنب حتى غدا يقول‏:‏

لقد طفت في تلك المعاهد كلها *** وسرحت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر *** على ذقن أو قارعاً سن نادم

والكفار من القسم الثاني عند أهل الله تعالى لأنهم أثبتوا صانعاً أيضاً إلا أن ظلمة أنفسهم حالت بينهم وبين الوقوف على الحق ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ‏}‏

‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏ ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 61‏]‏ وإلى هذا يشير كلام مجاهد، وأخرج ابن جرير، وغيره عن أبي العالية أنه قال‏:‏ كل آدمي أقرّ على نفسه بأن الله تعالى ربي وأنا عبده فمن أشرك في عبادته فهذا الذي أسلم كرهاً، ومن أخلص لله تعالى العبودية فهو الذي أسلم طوعاً، وقرأ الأعمش كرهاً بالضم ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ أي إلى جزائه تصيرون على المشهور فبادروا إلى دينه، ولا تخالفوا الإسلام، وجوزوا في الجملة أن تكون مستأنفة للأخبار بما تضمنته من التهديد، وأن تكون معطوفة على ‏{‏وَلَهُ أَسْلَمَ‏}‏ فهي حالية أيضاً، وقرأ عاصم بياء الغيبة، والضمير لمن أو لمن عاد إليه ضمير ‏{‏يَبْغُونَ‏}‏ فإن قرىء بالخطاب فهو التفات، وقرأ الباقون بالخطاب، والضمير عائد لمن عاد إليه ضمير ‏{‏يَبْغُونَ‏}‏ فعلى الغيبة فيه التفات أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏قُلْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ءامَنَّا بالله‏}‏ أمر للرسول صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن نفسه والمؤمنين بالإيمان بما ذكر، فضمير ‏(‏آمنا‏)‏ للنبي صلى الله عليه وسلم والأمة، وقال المولى عبد الباقي‏:‏ لما أخذ الله تعالى الميثاق من النبيين أنفسهم أن يؤمنوا بمحمد عليه الصلاة والسلام وينصروه أمر محمداً أيضاً صلى الله عليه وسلم أن يؤمن بالأنبياء المؤمنين به وبكتبهم فيكون ‏{‏مِنَ‏}‏ في موضع آمنت لتعظيم نبينا عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام، أو لما عهد مع النبيين وأممهم أن يؤمنوا أمر محمداً عليه الصلاة والسلام وأمته أن يؤمنوا بهم وبكتبهم‏.‏ والحاصل أخذ الميثاق من الجانبين على الإيمان على طريقة واحدة ولم يتعرض هنا لحكمة الأنبياء السالفين إما لأن الإيمان بالكتاب المنزل إيمان بما فيه من الحكمة، أو للإشارة إلى أن شريعتهم منسوخة في زمن هذا النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما على تقدير كون الحكمة بمعنى الشريعة ولم يتعرض لنصرته عليه الصلاة والسلام لهم إذ لا مجال بوجه لنصرة السلف، ويؤيد دعوى أخذ الميثاق من الجانبين ما أخرجه عبد الرزاق وغيره عن طاوس أنه قال‏:‏ أخذ الله تعالى ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً‏.‏

‏{‏وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا‏}‏ وهو القرآن المنزل عليه صلى الله عليه وسلم أولاً وعليهم بواسطة تبليغه إليهم، ومن هنا أتى بضمير الجمع، وقد يعتبر الإنزال عليه عليه الصلاة والسلام وحده، ولكن نسب إلى الجمع ما هو منسوب لواحد منه مجازاً على ما قيل، ويحتمل أن تكون النون نون العظمة لا ضمير الجماعة،  وعدى الإنزال هنا بعلى وفي البقرة ‏(‏136‏)‏ بإلى لأنه له جهة علو باعتبار ابتدائه وانتهاء باعتبار آخره، وقد جعل الخطاب هنا للنبي صلى الله عليه وسلم فناسبه الاستعلاء وهناك للعموم، فناسب الانتهاء كذا قيل، ويرد عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَت طَّائِفَةٌ مّنْ أَهْلِ الكتاب ءامِنُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 72‏]‏ والتحقيق أنه لا فرق بين المعدى بإلى والمعدى بعلى إلا بالاعتبار، فإن اعتبرت مبدأه عديته بعلى لأنه فوقاني وإن اعتبرت انتهاءه إلى من هو له عديته بإلى ويلاحظ أحد الاعتبارين تارة والآخر أخرى تفنناً بالعبارة، وفرّق الراغب بأن ما كان واصلاً من الملأ الأعلى بلا واسطة كان لفظ على المختص بالعلو أولى به، وما لم يكن كذلك كان لفظ إلى المختص بالإيصال أولى به وقيل‏:‏ أنزل عليه يحمل على أمر المنزل عليه أن يبلغه غيره، وأنزل إليه يحمل على ما خص به نفسه لأن إليه انتهاء الإنزال وكلا القولين لا يخلو عن نظر

‏{‏وَمَا أُنزِلَ على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والاسباط‏}‏ قيل‏:‏ خص هؤلاء الكرام بالذكر لأن أهل الكتاب يعترفون بنبوتهم وكتبهم، والمراد بالموصول الصحف كما هو الظاهر وقدم المنزل عليه عليه الصلاة والسلام على المنزل عليهم إما لتعظيمه والاعتناء به، أو لأنه المعرف له ومعرفة المعرف تتقدم على معرفة المعرف، والأسباط الأحفاد لا أولاد البنات، والمراد بهم على رأي أبناء يعقوب الإثنا عشر وذراريهم، وليس كلهم أبناءاً خلافاً لزاعمه ‏{‏وَمَا أُوتِىَ موسى وعيسى‏}‏ من «التوراة» «والإنجيل» وسائر المعجزات كما يشعر به إيثار الإيتاء على الإنزال الخاص بالكتاب وقيل‏:‏ هو خاص بالكتابين، وتغيير الأسلوب للاعتناء بشأن الكتابين، وتخصيص هذين النبيين بالذكر لما أن الكلام مع اليهود والنصارى ‏{‏والنبيون‏}‏ عطف على ‏{‏موسى وعيسى‏}‏ أي وبما أوتي النبيون على تعدد أفرادهم واختلاف أسمائهم ‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ متعلق بأوتي، وفي التعبير بالرب مضافاً إلى ضميرهم ما لا يخفى من اللطف‏.‏

‏{‏لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مّنْهُمْ‏}‏ أي بالتصديق والتكذيب ما فعل اليهود والنصارى والتفريق بغير ذلك كالتفضيل جائز ‏{‏وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏}‏ أي مستسلمون بالطاعة والانقياد في جميع ما أمر به ونهى عنه، أو مخلصون له في العبادة، وعلى التقديرين لا تكون هذه الجملة مستدركة بعد جملة الإيمان كما هو ظاهر، وقيل‏:‏ إن أهل الملل المخالفة للإسلام كانوا كلهم يقرون بالإيمان ولم يكونوا يقرون بلفظ الإسلام فلهذا أردف تلك الجملة بهذه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ نزلت في جماعة ارتدوا وكانوا اثني عشر رجلاً وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفاراً، منهم الحرث بن سويد الأنصاري، والإسلام قيل‏:‏ التوحيد والانقياد، وقيل‏:‏ شريعة نبينا عليه الصلاة والسلام بين تعالى أن من تحرى بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم غير شريعته فهو غير مقبول منه، وقبول الشيء هو الرضا به وإثابة فاعله عليه، وانتصاب ‏{‏دِينًا‏}‏ على التمييز من ‏{‏غَيْرِ‏}‏ وهي مفعول ‏{‏يَبْتَغِ‏}‏ وجوز أن يكون ‏{‏دِينًا‏}‏ مفعول ‏{‏يَبْتَغِ‏}‏ و‏{‏غَيْرِ‏}‏ صفة قدمت فصارت حالاً، وقيل‏:‏ هو بدل من ‏{‏غَيْرَ الإسلام‏}‏ والجمهور على إظهار الغينين، وروي عن أبي عمرو الادغام، وضعفه أبو البقاء بأن كسرة الغين الأولى تدل على الياء المحذوفة

‏{‏وَهُوَ فِى الاخرة مِنَ الخاسرين‏}‏ إما معطوفة على جواب الشرط فتكون في محل جزم، وإما في محل الحال من الضمير المجرور فتكون في محل نصب، وإما مستأنفة فلا محل لها من الإعراب، و‏{‏فِى الاخرة‏}‏ متعلق بمحذوف يدل عليه ما بعده أي وهو خاسر في الآخرة أو متعلق بالخاسرين على أن الألف واللام ليست موصولة بل هي حرف تعريف، والخسران في الآخرة هو حرمان الثواب وحصول العقاب، وقيل‏:‏ أصل الخسران ذهاب رأس المال، والمراد به هنا تضييع ما جبل عليه من الفطرة السليمة المشار إليها في حديث «كل مولود يولد على الفطرة» وعدم الانتفاع بذلك وظهوره بتحقق ضده ‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 88، 89‏]‏ والتعبير بالخاسرين أبلغ من التعبير بخاسر كما أشرنا إليه فيما قبل وهو منزل منزلة اللازم ولذا ترك مفعوله، والمعنى وهو من جملة الواقعين في الخسران واستدل بالآية على أن الإيمان هو الإسلام إذ لو كان غيره لم يقبل، واللازم باطل بالضرورة فالملزوم مثله، وأجيب بأن ‏{‏فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ ينفي قبول كل دين يباين دين الإسلام والإيمان، وإن كان ‏{‏غَيْرَ الإسلام‏}‏ لكنه لا يغاير دين الإسلام بل هو هو بحسب الذات، وإن كان غيره بحسب المفهوم، وذكر الإمام أن ظاهر هذه الآية يدل على عدم المغايرة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَتِ الاعراب ءامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14‏]‏ يدل على المغايرة، ووجه التوفيق بينهما أن تحمل الآية الأولى على العرف الشرعي، والثانية على الوضع اللغوي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏كَيْفَ يَهْدِى الله‏}‏ إلى الدين الحق ‏{‏قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم‏}‏ أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسداً للعرب حين بعث من غيرهم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله، وقال عكرمة‏:‏ هم أبو عامر الراهب والحرث بن سويد في اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة‏؟‏ فنزلت الآية فيهم وأكثر الروايات على هذا والمراد من الآية استبعاد أن يهديهم أي يدلهم دلالة موصولة لا مطلق الدلالة قاله بعضهم، وقيل‏:‏ إن المعنى كيف يسلك بهم سبيل المهديين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد فعلوا ما فعلوا، وقيل‏:‏ إن الآية على طريق التبعيد كما يقال‏:‏ كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته أي لا طريق يهديهم به إلى الإيمان إلا من الوجه الذي هداهم به وقد تركوه ولا طريق غيره، وقيل‏:‏ إن المراد كيف يهديهم إلى الجنة ويثيبهم والحال ما ترى‏؟‏ا

‏{‏وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول‏}‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏حَقّ‏}‏ لا شك في رسالته ‏{‏وَجَاءهُمُ البينات‏}‏ أي البراهين والحجج الناطقة بحقية ما يدعيه، وقيل‏:‏ القرآن، وقيل‏:‏ ما في كتبهم من البشارة به عليه الصلاة والسلام، ‏{‏وَشَهِدُواْ‏}‏ عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأنه بمعنى آمنوا، والظاهر أنه عطف على المعنى كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 18‏]‏ لا على التوهم كما توهم؛ واختار بعضهم تأويل المعطوف ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله بأن يقدر معه أن المصدرية أي‏:‏ وإن شهدوا أي وشهادتهم على حد قوله‏:‏

ولبس عباءة وتقرّ عيني *** أحب إليّ من لبس الشفوف

وإلى هذا ذهب الراغب وأبو البقاء، وجوز عطفه على ‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ وفساد المعنى يدفعه أن العطف لا يقتضي الترتيب فليكن المنكر الشهادة المقارنة بالكفر أو المتقدمة عليه، واعترض بأن الظاهر تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه وشهادتهم هذه لم تكن بعد إيمانهم بل معه أو قبله؛ وأجيب بالمنع لأنه لا يلزم تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه ولو قصد ذلك لأخر، وقيل‏:‏ يمنع من ذلك العطف أنهم ليسوا جامعين بين الشهادة والكفر، وأجيب بالمنع بل هم جامعون وإن لم يكن ذلك معاً، ومن الناس من جعله معطوفاً على ‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ ولم يتكلم شيئاً مما ذكر، وزعم أن ذلك في المنافقين وهو خلاف المنقول والمعقول، والأكثرون من المحققين على اختيار الحالية من الضمير في ‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ وقد معه مقدرة، ولا يجوز أن يكون العامل يهدي لأنه يهدي من شهد أن الرسول حق وعليه، وعلى تقدير العطف على الإيمان استدل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان، ووجه ذلك أن العطف يقتضي بظاهره «المغايرة» بين المعطوف والمعطوف عليه وأن الحالية تقتضي التقييد ولو كان الإقرار داخلاً في حقيقة الإيمان لخلا ذكره عن الفائدة، ولو كان عينه يلزم تقييد الشيء بنفسه ولا يخفى ما فيه، وادعى بعضهم أن المراد من الإيمان الإيمان بالله، ومن الشهادة المذكورة الإيمان برسول صلى الله عليه وسلم، والأمر حينئذ واضح فتدبر ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ أي الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر، ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه؛ ويجوز حمل الظلم مطلقه فيدخل فيه الكفر دخولاً أولياً، والجملة اعتراضية أو حالية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ أي المذكورون المتصفون بأشنع الصفات وهو مبتدأ، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏جَزَآؤُهُمْ‏}‏ أي جزاء فعلهم مبتدأ ثان، وقوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملئكة والناس أَجْمَعِينَ‏}‏ خبر المبتدأ الثاني، وهو وخبره خبر المبتدأ الأول قيل‏:‏ وهذا يدل بمنطوقه على جواز لعنهم، ومفهومه ينفي جواز لعن غيرهم، ولعل الفرق بينهم وبين غيرهم حتى خص اللعن بهم أنهم مطبوع على قلوبهم ممنوعون بسبب خياثة ذواتهم وقبح استعدادهم من الهدى آيسون من رحمة الله تعالى بخلاف غيرهم، والخلاف في لعن أقوام بأعيانهم ممن ورد لعن أنواعهم كشارب خمر معين مثلا مشهور والنووي على جوازه استدلالا بما ورد أنه صلى الله عليه وسلم مر بحمار وسم في وجهه فقال‏:‏ لعن الله تعالى من فعل هذا وبما صح أن الملائكة تلعن من خرجت من بيتها بغير إذن زوجها، وأجيب بأن اللعن هناك للجنس الداخل فيه الشخص أيضاً، واعترض بأنه خلاف الظاهر كتأويل إن وراكبها بذلك والاحتياط لا يخفى والمراد من الناس إما المؤمنون لأنهم هم الذين يلعنون الكفرة، أو المطلق لأن كل واحد يلعن من لم يتبع الحق، وإن لم يكن غير متبع بناءاً على زعمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 78‏]‏ والعامل فيه الاستقرار، والضمير المجرور للعنة أو للعقوبة أو للنار، وإن لم يجر لها ذكر اكتفاءاً بدلالة اللعنة عليها ‏{‏لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ‏}‏ أي لا يمهلون ولا يؤخر عنهم العذاب من وقت إلى وقت آخر، أو لا ينظر إليهم ولا يعتد بهم، والجملة إما مستأنفة أو في محل نصب على الحال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ أي الكفر الذي ارتكبوه بعد الإيمان ‏{‏وَأَصْلَحُواْ‏}‏ أي دخلوا في الصلاح بناءاً على أن الفعل لازم من قبيل أصبحوا أي دخلوا في الصباح، ويجوز أن يكون متعدياً والمفعول محذوف أي أصلحوا ما أفسدوا ففيه إشارة كما قيل إلى أن مجرد الندم على ما مضى من الارتداد، والعزم على تركه في الاستقبال غير كاف لما أخلوا به من الحقوق، واعترض بأن مجرد التوبة يوجب تخفيف العذاب ونظر الحق إليهم، فالظاهر أنه ليس تقييداً بل بيان لأن يصلح ما فسد‏.‏ وأجيب بأنه ليس بوارد لأن مجرد الندم والعزم على ترك الكفر في المستقبل لا يخرجه منه فهو بيان للتوبة المعتد بها، فالمآل واحد عند التحقيق‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ أي فيغفر كفرهم ويثيبهم، وقيل‏:‏ ‏{‏غَفُورٌ‏}‏ لهم في الدنيا بالستر على قبائحهم ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ بهم في الآخرة بالعفو عنهم ولا يخفى بعده والجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم ثُمَّ ازدادوا كُفْرًا‏}‏ قال عطاء وقتادة‏:‏ نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم وكتبهم، ثم ‏{‏ازدادوا كُفْراً‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وقيل‏:‏ في أهل الكتاب آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، ثم كفروا به بعد مبعثه، ثم ازدادوا كفراً بالإصرار والعناد والصد عن السبيل، ونسب ذلك إلى الحسن، وقيل‏:‏ في أصحاب الحرث بن سويد فإنه لما رجع قالوا‏:‏ نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا فمتى أردنا الرجعة رجعنا فينزل فينا ما نزل في الحرث، وقيل‏:‏ في قوم من أصحابه ممن كان يكفر ثم يراجع الإسلام، وروي ذلك عن أبي صالح مولى أم هانىء‏.‏ و‏{‏كُفْراً‏}‏ تمييز محول عن فاعل، والدال الأولى في ‏{‏ازدادوا‏}‏ بدل من تاء الافتعال لوقوعها بعد الزاي‏.‏

‏{‏لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ‏}‏ قال الحسن وقتادة والجبائي‏:‏ لأنهم لا يتوبون إلا عند حضور الموت والمعاينة وعند ذلك لا تقبل توبة الكافر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لأنها لم تكن عن قلب، وإنما كانت نفاقاً، وقيل‏:‏ إن هذا من قبيل‏:‏

ولا ترى الضب بها ينجحر *** أي لا توبة لهم حتى تقبل لأنهم لم يوفقوا لها فهو من قبيل الكناية كما قال العلامة دون المجاز حيث أريد بالكلام معناه لينتقل منه إلى الملزوم، وعلى كل تقدير لا ينافي هذا ما دل عليه الاستثناء وتقرر في الشرع كما لا يخفى، وقيل‏:‏ إن هذه التوبة لم تكن عن الكفر وإنما هي عن ذنوب كانوا يفعلونها معه فتابوا عنها مع إصرارهم على الكفر فردت عليهم لذلك، ويؤيده ما أخرجه ابن جرير عن أبي العالية قال‏:‏ هؤلاء اليهود والنصارى كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً بذنوب أذنبوها ثم ذهبوا يتوبون من تلك الذنوب في كفرهم فلم تقبل توبتهم ولو كانوا على الهدى قبلت ولكنهم على ضلالة، وتجيء على هذا مسألة تكليف الكافر بالفروع وقد بسط الكلام عليها في الأصول‏.‏

‏{‏وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضالون‏}‏ عطف إما على خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ فمحلها الرفع، وإما على ‏{‏ءانٍ‏}‏ مع اسمها فلا محل لها، و‏{‏الضالون‏}‏ المخطؤون طريق الحق والنجاة، وقيل‏:‏ الهالكون المعذبون والحصر باعتبار أنهم كاملون في الضلال فلا ينافي وجود الضلال في غيرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ أي على كفرهم‏.‏ ‏{‏فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الارض‏}‏ من مشرقها إلى مغربها ‏{‏ذَهَبًا‏}‏ نصب على التمييز، وقرأ الأعمش ذهب بالرفع، وخرج على البدلية من ‏{‏مّلْء‏}‏ أو عطف البيان، أو الخبر لمحذوف، وقيل عليه‏:‏ إنه لا بد من تقدير وصف ليحسن البدل ولا دلالة عليه ولم يعهد بيان المعرفة بالنكرة، وجعله خبراً إنما يحسن إذا جعلت الجملة صفة، أو حالاً ولا يخلو عن ضعف، وملء الشيء بالكسر مقدار ما يملؤه، وأمل مَلء بالفتح فهو مصدر ملأه ملأ، وأما الملاءة بالضم والمد فهي الملحفة‏.‏

وههنا سؤال مشهور وهو أنه لم دخلت الفاء في خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ هنا ولم تدخل في الآية السابقة مع أن الآيتين سواء في صحة إدخال الفاء لتصور السببية ظاهراً‏؟‏ وأجاب غير واحد بأن الصلة في الآية الأولى الكفر وازدياده وذلك لا يترتب عليه عدم قبول التوبة بل إنما يترتب على الموت عليه إذ لو وقعت على ما ينبغي لقبلت بخلاف الموت على الكفرة في هذه الآية فإنه يترتب عليه ذلك ولذلك لو قال‏:‏ من جاءني له درهم كان إقراراً بخلاف ما لو قرنه بالفاء كما هو معروف بين الفقهاء ولا يرد أن ترتب الحكم على الوصف دليل على السببية لأنا لا نسلم لزومه لأن التعبير بالموصول قد يكون لأغراض كالإيماء إلى تحقق الخبر كقوله‏:‏

إن التي ضربت بيتاً مهاجرة *** بكوفة الجند غالت دونها غول

وقد فصل ذلك في المعاني؛ وقرىء فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض على البناء للفاعل وهو الله تعالى ونصب ملء وملء الأرض بتخفيف الهمزتين‏.‏

‏{‏وَلَوِ افتدى بِهِ‏}‏ قال ابن المنير في «الانتصاف»‏:‏ إن هذه الواو المصاحبة للشرط تستدعي شرطاً آخر تعطف عليه الشرط المقترنة به ضرورة والعادة في مثل ذلك أن يكون المنطوق به منبها على المسكوت عنه بطريق الأولى مثاله قولك‏:‏ أكرم زيداً ولو أساء فهذه الواو عطفت المذكور على محذوف تقديره أكرم زيداً لو أحسن ولو أساء إلا أنك نبهت بإيجاب إكرامه وإن أساء على أن إكرامه إن أحسن بطريق الأولى؛ ومنه ‏{‏كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَاء للَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 135‏]‏ فإن معناه والله تعالى أعلم لو كان الحق على غيركم ولو كان عليكم ولكنه ذكر ما هو أعسر عليهم فأوجبه تنبيهاً على أن ما كان أسهل أولى بالوجوب، ولما كانت هذه الآية مخالفة لهذا النمط من الاستعمال لأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَوِ افتدى بِهِ‏}‏ يقتضي شرطاً آخر محذوفاً يكون هذا المذكور منبهاً عليه بطريق الأولى، والحالة المذكورة أعني حالة افتدائهم بملء الأرض ذهباً هي أجدر الحالات بقبول الفدية، وليس وراءها حالة أخرى تكون أولى بالقبول منها خاض المفسرون بتأويلها فذكر الزمخشري ثلاثة أوحه حاصل الأول‏:‏ أن عدم قبول ملء الأرض كناية عن عدم قبول فدية مّا لدلالة السياق على أن القبول يراد للخلاص وإنما عدل تصويراً للتكثير لأنه الغاية التي لا مطمح وراءها في العرف، وفي الضمير يراد ‏{‏مّلْء الارض‏}‏ على الحقيقة فيصير المعنى لا تقبل منه فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً ففي الأول نظر إلى العموم وسده مسد فدية ما، وفي الثاني إلى الحقيقة أو لكثرة المبالغة من غير نظر إلى القيام مقامها، وحاصل الثاني‏:‏ أن المراد ولو افتدى بمثله معه كما صرح به في آية أخرى ولأنه علم أن الأول فدية أيضاً كأنه قيل‏:‏ لا يقبل ملء الأرض فدية ولو ضوعف، ويرجع هذا إلى جعل الباء بمعنى مع، وتقدير مثل بعده أي مع مثله، وحاصل الثالث‏:‏ أنه يقدر وصف يعينه المساق من نحو كان متصدقاً به، وحينئذ لا يكون الشرط المذكور من قبل ما يقصد به تأكيد الحكم السابق بل يكون شرطاً محذوف الجواب ويكون المعنى لا يقبل منه ملء الأرض ذهباً لو تصدق ولو افتدى به أيضاً لم يقبل منه وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ للمال من غير اعتبار وصف التصدق فالكلام من قبيل

‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 11‏]‏، وعندي درهم ونصفه انتهى، ولا يخفى ما في ذلك من الخفاء والتكلف، وقريب من ذلك ما قيل‏:‏ إن الواو زائدة، ويؤيد ذلك أنه قرىء في الشواذ بدونها وكذا القول‏:‏ بأن ‏{‏لَوْ‏}‏ ليست وصلية بل شرطية، والجواب ما بعد أو هو ساد مسده، وذكر ابن المنير في الجواب مدعياً أن تطبيق الآية عليه أسهل وأقرب بل ادعى أنه من السهل الممتنع أن قبول الفدية التي هي ملء الأرض ذهباً تكون على أحوال تارة تؤخذ قهراً كأخد الدية، وكرة يقول المفتدي‏:‏ أنا أفدي نفسي بكذا ولا يفعل، وأخرى يقول ذلك والفدية عتيدة ويسلمها لمن يؤمل قبولها منه فالمذكور في الآية أبلغ الأحوال وأجدرها بالقبول، وهي أن يفتدي بملء الأرض ذهباً افتداءاً محققاً بأن يقدر على هذا الأمر العظيم ويسلمه اختياراً، ومع ذلك لا يقبل منه فلأن لا يقبل منه مجرد قوله‏:‏ أبذل المال وأقدر عليه، أو ما يجري هذا المجرى بطريق الأولى فتكون الواو والحالة هذه على بابها تنبيهاً على أن ثم أحوالاً أخر لا يقع فيها القبول بطريق الأولى بالنسبة إلى الحالة المذكورة، وقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ولو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به‏)‏ مصرح بذلك، والمراد به أنه لا خلاص لهم من الوعيد وإلا فقد علم أنهم في ذلك اليوم أفلس من ابن المُذَلَّق لا يقدرون على شيء، ونظير هذا قولك‏:‏ لا أبيعك هذا الثوب بألف دينار ولو سلمتها إليَّ في يدي انتهى، وقريب منه ما ذكره أبو حيان قائلاً‏:‏ إن الذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها ولو في حال افتدائه من العذاب لأن حالة الافتداء لا يمتن فيها المفتدي على المفتدى منه إذ هي حالة قهر من المفتدى منه، وقد قررنا في نحو هذا التركيب أن ‏(‏لو‏)‏ تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنه لا تندرج فيما قبلها كقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏

«أعطوا السائل ولو جاء على فرس» و«ردوا السائل ولو بظلف محرق» كأن هذه الأشياء مما لا ينبغي أن يؤتى بها لأن كون السائل على فرس يشعر بغناه فلا يناسب أن يعطى، وكذلك الظلف المحرق لا غناء فيه فكان يناسب أن لا يرد السائل به‏.‏ وكذلك حال الافتداء يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهباً لكنه لا يقبل، ونظيره ‏{‏وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صادقين‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 17‏]‏ لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها ولو لتعميم النفي والتأكيد له‏.‏ هذا وقد أخرج الشيخان وابن جرير واللفظ له عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له‏:‏ أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت مفتدياً به‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم فيقال‏:‏ لقد سئلت ما هو أيسر من ذلك فلم تفعل فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مّلْء الارض ذَهَبًا وَلَوِ افتدى بِهِ‏}‏‏.‏

‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ إسم الإشارة مبتدأ والظرف خبر ولاعتماده على المبتدأ رفع الفاعل، ويجوز أن يكون ‏{‏لَهُمْ‏}‏ خبراً مقدماً، و‏{‏عَذَابِ‏}‏ مبتدأ مؤخراً، والجملة خبر عن اسم الإشارة والأول أحسن، وفي تعقيب ما ذكر بهذه الجملة مبالغة في التحذير والإقناط لأن من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرماً ‏{‏وَمَا لَهُم مّن ناصرين‏}‏ في رفع العذاب أو تخفيفه، و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة بعد النفي للاستغراق وتزاد بعده سواء دخلت على مفرد أو جمع خلافاً لمن زعم أن ذلك مخصوص بالمفرد، وصيغة الجمع لمراعاة الضمير، وفيها توافق الفواصل، والمراد ليس لواحد منهم ناصر واحد‏.‏

وما باب الإشارة‏:‏

‏{‏قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب *تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 64‏]‏ وهي كلمة التوحيد وترك اتباع الهوى والميل إلى السوى فإن ذلك لم يختلف فيه نبي ولا كتاب قط ‏{‏مَا كَانَ إبراهيم‏}‏ الخليل يهودياً متعلقاً بالتشبيه ‏{‏وَلاَ نَصْرَانِيّا‏}‏ قائلاً بالتثليث ‏{‏وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا‏}‏ مائلا عن الكون برؤية المكون ‏{‏مُسْلِمًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 67‏]‏ منقاداً عند جريان قضائه وقدره، أو ذاهباً إلى ما ذهب إليه المسلمون المصطفون القائلون ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ السميع البصير‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 11‏]‏، ‏{‏إِنَّ أَوْلَى الناس بإبراهيم لَلَّذِينَ اتبعوه‏}‏ بشرط التجرد عن الكونين ومنع النفوس عن الالتفات إلى العالمين فإن الخليل لما بلغ حضرة القدس زاغ بصره عن عرائس الملك والملكوت فقال ‏{‏إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ السموات والارض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78، 79‏]‏ ‏{‏وهذا النبى‏}‏ العظيم يعني محمداً عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل التسلم أولى أيضاً بمتابعة أبيه الخليل وسلوك منهجه الجليل لأنه زبدة مخيض محبته وخلاصة حقيقة فطرته ‏{‏والذين ءامَنُواْ‏}‏ به صلى الله عليه وسلم وأشرقت عليهم أنواره وأينعت في رياض قلوبهم أسراراه ‏{‏والله وَلِىُّ المؤمنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 68‏]‏ كافة يحفظهم عن آفات القهر ويدخلهم في قباب العصمة ويبيح لهم ديار الكرامة ‏{‏وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ‏}‏ جعله أهل الله سبحانه خطاباً للمؤمنين كما قال بذلك بعض أهل الظاهر أي لا تفشوا أسرار الحق إلا إلى أهله ولا تقرّوا بمعاني الحقيقة للمحجوبين من الناس فيقعون فيكم ويقصدون سفك دمائكم ‏{‏قُلْ إِنَّ الهدى‏}‏ أعني ‏{‏هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ من علم الباطن، أو مثل ما يحاجوكم به في زعمهم عند ربكم وهو علم الظاهر‏.‏ وحاصل المعنى‏:‏ إن الهدى بين الظاهر والباطن وأما الاقتصار على علم الظاهر وإنكار الباطن فليس بهدى ‏{‏قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله‏}‏ فيتصرف به حسب مشيئته التابعة لعلمه التابع للمعلوم في أزل الآزال ‏{‏والله واسع عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 73‏]‏ فكيف يتقيد بالقيود بل يتجلى حسبما تقتضيه الحكمة في المظاهر لأهل الشهود ‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ‏}‏ الخاصة ‏{‏مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ وهي المعرفة به وهي فوق مكاشفة غيب الملكوت ومشاهدة سر الجبروت، ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 74‏]‏ الذي لا يكتنه ‏{‏بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ‏}‏ وهو عهد الروح بنعت الكشف؛ وعهد القلب بتلقي الخطاب، وعهد العقل بامتثال الأوامر والنواهي ‏{‏واتقى‏}‏ من خطرات النفوس وطوارق الشهوات ‏{‏فَإِنَّ الله يُحِبُّ المتقين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 76‏]‏ أي فهو بالغ مقام حقيقة المحبة ‏{‏إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 77‏]‏ الآية إشارة إلى من مال إلى خضرة الدنيا وآثرها على مشاهدة حضرة المولى وزين ظاهره بعبادة المقربين ومزجها بحب الرياسة فذلك الذي سقط عن رؤية اللقاء ومخاطبة الحق في الدنيا والآخرة ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لّى مِن دُونِ الله‏}‏ لأن الاستنباء لا يكون إلا بعد الفناء في التوحيد فمن محا الله تعالى بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجوداً نورانياً حقياً قابلاً للكتاب والحكمة العقلية لا يمكن أن يدعو إلى نفسه إذ الداعي إليها لا يكون إلا محجوباً بها، وبين الأمرين تناقض ‏{‏ولكن‏}‏ يقول‏:‏

‏{‏كُونُواْ ربانيين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 79‏]‏ أي منسوبين إلى الرب، والمراد عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات لتغلب على أسراركم أنوار الرب، ولهم في الرباني عبارات كثيرة، فقال الشبلي‏:‏ الرباني الذي لا يأخذ العلوم إلا من الرب ولا يرجع في شيء إلا إليه، وقال سهل‏:‏ الرباني الذي لا يختار على ربه حالا، وقال القاسم‏:‏ هو المتخلق بأخلاق الرب علماً وحكماً، وقيل‏:‏ هو الذي محق في وجوده ومحق عن شهوده، وقيل‏:‏ هو الذي لا تؤثر فيه تصاريف الأقدار على اختلافها وقيل وقيل‏.‏ وكل الأقوال ترد من منهل واحد، ‏{‏وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَابًا‏}‏ فإنها بعض مظاهره وهو سبحانه المطلق حتى عن قيد الإطلاق ‏{‏أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 80‏]‏ أي أيأمركم بالاحتجاب برؤية الأشكال والنظر إلى الأمثال بعد أن لاح في أسراركم أنوار التوحيد وطلعت في قلوبكم شموس التفريد ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ الله ميثاق النبيين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ الآية فيه إشارة إلى أنه سبحانه أخذ العهد من نواب الحقيقة المحمدية في الأزل بالانقياد والطاعة والإيمان بها، وخصهم بالذكر لكونهم أهل الصف الأول ورجال الحضرة، وقيل‏:‏ إن الله تعالى أخذ عليهم ميثاق التعارف بينهم وإقامة الدين وعدم التفرق وتصديق بعضهم بعضاً ودعوة الخلق إلى التوحيد وتخصيص العبادة بالله تعالى وطاعة النبي وتعريف بعضهم بعضاً لأممهم، وهذا غير الميثاق العام المشار إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ الخ ‏{‏فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك‏}‏ أي بعد ما علم عهد الله تعالى مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد إليهم ‏{‏فَأُوْلَئِكَ هُمُ الفاسقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 82‏]‏ أي الخارجون عن دين الله تعالى ولا دين غيره معتداً به في الحقيقة إلا توهماً ‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِى السموات والارض‏}‏ أي من في عالم الأرواح وعالم النفوس، أو من في عالم الملكوت وعالم الملك ‏{‏طَوْعاً‏}‏ باختياره وشعوره ‏{‏وَكَرْهًا‏}‏ من حيث لا يدري ولا يدري أنه لا يدري بسبب احتجابه برؤية الأغيار، ولهذا سقط عن درجة القبول ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 83‏]‏ في العاقبة حين يكشف عن ساق ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام‏}‏ وهو التوحيد ‏{‏دِينًا‏}‏ له ‏{‏فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ لعدم وصوله إلى الحق لمكان الحجاب ‏{‏وَهُوَ فِى الاخرة‏}‏ ويوم القيامة الكبرى ‏{‏مّنَ الخاسرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 85‏]‏ الذين خسروا أنفسهم ‏{‏كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 86‏]‏ الآية استبعاد لهداية من فطره الله على غير استعداد المعرفة، وحكم عليه بالكفر في سابق الأزل فإن من لم يكن له استعداد لم يقع في أنوار التجلي، ومن خاض في بحر القهر ولزم قعر بعد البعد لم يكن له سبيل إلى ساحل قرب القرب والله غالب على أمره ولله در من قال‏:‏

إذ المرء لم يخلق سعيداً تحيرت *** ظنون مربيه وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر *** وموسى الذي رباه فرعون مرسل

هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ كلام مستأنف لبيان ما ينفع المؤمنين ويقبل منهم إثر بيان ما لا ينفع الكفار ولا يقبل منهم، وتنال من نال نيلاً إذا أصاب ووجد، ويقال‏:‏ نال العلم إذا وصل إليه واتصف به، والبر الاحسان وكمال الخير، وبعضهم يفرق بينه وبين الخير بأن البر هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك، والخير هو النفع مطلقاً وإن وقع سهواً، وضد البر العقوق، وضد الخير الشر، وأل فيه إما للجنس والحقيقة، والمراد لن تكونوا أبراراً حتى تنفقوا وهو المروي عن الحسن، وإنا لتعريف العهد، والمراد لن تصيبوا بر الله تعالى يا أهل طاعته حتى تنفقوا، وإلى ذلك ذهب مقاتل وعطاء‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه تفسير البر بالجنة، وروي مثله عن مسروق والسدي وعمرو بن ميمون، وذهب بعضهم إلى أن الكلام على حذف مضاف أي لن تنالوا ثواب البر، وحتى بمعنى إلى، ومن تبعيضية، ويؤيده قراءة عبد الله ‏(‏بعض ما تحبون‏)‏، وقيل‏:‏ بيانية، وعليه أيضاً لا تخالف بين القراءتين معنى، و‏(‏ ما‏)‏ موصولة أو موصوفة، وجعلها مصدرية والمصدر بمعنى المفعول جائز على رأي أبي علي‏.‏ وفي المراد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ أقوال، فقيل المال وكنى بذلك عنه لأن جميع الناس يحبونه، وقيل‏:‏ نفائس الأموال وكرائمها، وقيل‏:‏ ما يعم ذلك وغيره من سائر الأشياء التي يحبها الإنسان ويهواها، والإنفاق على هذا مجاز، وعلى الأولين حقيقة‏.‏

وكان السلف رضي الله تعالى عنهم إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله تعالى، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي عن أنس رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ كان أبو طلحة أكثر الأنصار نخلاً بالمدينة وكان أحب أمواله إليه بيرحاء وكانت مستقبلة المسجد وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فلما نزلت ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ قال أبو طلحة‏:‏ يا رسول الله إن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وإنها صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها عند الله تعالى فضعها يا رسول الله حيث أراك الله تعالى فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بخ بخ ذلك مال رابح وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة‏:‏ أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه» وفي رواية لمسلم وأبي داود «فجعلها بين حسان بن ثابت وأُبي بن كعب»‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن محمد بن المنكدر قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية جاء زيد بن حارثة بفرس يقال لها سبل لم يكن له مال أحب إليه منها فقال‏:‏ هي صدقة فقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمل عليها ابنه أسامة فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في وجه زيد فقال‏:‏ إن الله تعالى قد قبلها منك»‏.‏

وأخرج عبد بن حميد عن ابن عمر قال‏:‏ «حضرتني هذه الآية ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر‏}‏ الخ فذكرت ما أعطاني الله تعالى فلم أجد أحب إلي من مرجانة جارية لي رومية فقلت هي حرة لوجه الله تعالى فلو أني أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها فأنكحتها نافعاً، وأخرج ابن المنذر عن نافع قال‏:‏ كان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يشتري السكر يتصدق به فنقول له‏:‏ لو اشتريت لهم بثمنه طعاماً كان أنفع لهم من هذا فيقول‏:‏ أنا أعرف الذي تقولون ولكن سمعت الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ وأن ابن عمر يحب السكر‏.‏

وظاهر هذه الأخبار يدل على أن الإنفاق في الآية يعم المستحب، وروي عن ابن عباس أن المراد به إخراج الزكاة الواجبة وما فرضه الله تعالى في الأموال فكأنه قيل‏:‏ لن تنالوا البر حتى تخرجوا زكاة أموالكم وهو مبني على أن المراد من ما تحبون المال لا كرائمه، فقول النيسابوري‏:‏ إنه يرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها، ناشيء من قلة التأمل، ولو تأمل ما اعترض على ترجمان القرآن وحبر الأمة، ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي أن الآية منسوخة بآية الزكاة، وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب في سبيل الله تعالى، واستشكلت هذه الآية بأن ظاهرها يستدعي أن الفقير الذي لم ينفق طول عمره مما يحبه لعدم إمكانه لا يكون باراً أو لا يناله برّ الله تعالى بأهل طاعته مع أنه ليس كذلك، وأجيب بأن الكلام خارج مخرج الحث على الإنفاق وهو مقيد بالإمكان وإنما أطلق على سبيل المبالغة في الترغيب، وقيل‏:‏ الأولى أن يكون المراد‏:‏ لن تنالوا البر الكامل الواقع على أشرف الوجوه حتى تنفقوا مما تحبون والفقير الذي لم ينفق طول عمره لا يبعد القول بأنه لا يكون باراً كاملاً ولا يناله برّ الله تعالى الكامل بأهل طاعته، وقيل‏:‏ الأولى من هذا الأولى أن يقال‏:‏ إن المراد‏:‏ لن تنالوا البر على الإنفاق حتى تنفقوا مما تحبون وحاصله أن الإنفاق من المحبوب يترتب عليه نيل البر وأن الإنفاق مما عداه لا يترتب عليه نيل البر، وليس في الآية ما يدل على حصر ترتب البر على الإنفاق من المحبوب، ونفي ترتب البر على فعل آخر من الأفعال المأمور بها، وحينئذ لا يبعد أن يكون الفقير الغير المنفق باراً أو نائلاً برّ الله تعالى بأهل طاعته من جهة أخرى، وربما تستدعي أفعاله الخالية عن إنفاق المال من البرّ ما هو أكمل وأوفر مما يستدعيه الإنفاق المجرد منه؛ وينجر الكلام إلى مسألة تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر، وهي مسألة طويلة الذيل قد ألفت فيها الرسائل ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء‏}‏ أي أي شيء تنفقونه من الأشياء، أو أى شيء تنفقوا طيب تحبونه، أو خبيث تكرهونه فمن على الأول متعلقة بمحذوف وقع صفة لاسم الشرط، وعلى الثاني في محل نصب على التمييز ‏{‏فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ تعليل لجواب الشرط واقع موقعه أي فيجازيكم يحسبه فإنه تعالى عليم بكل ما تنفقونه، وقيل‏:‏ إنه جواب الشرط، والمراد أن الله تعالى يعلمه موجوداً على الحدّ الذي تفعلونه من حسن النية وقبحها، وتقديم الظرف لرعاية الفواصل، وفي الآية ترغيب وترهيب قيل‏:‏ وفيها إشارة إلى الحث على إخفاء الصدقة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل‏}‏ روى الواحدي عن الكلبي أنه حين قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنا على ملة إبراهيم قالت اليهود‏:‏ كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كان ذلك حلالاً لإبراهيم عليه السلام فنحن نحله فقالت اليهود‏:‏ كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فإنه كان محرماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية تكذيباً لهم» والطعام بمعنى المطعوم، ويراد به هنا المطعومات مطلقاً أو المأكولات وهو لكونه مصدراً منعوتاً به معنى يستوي فيه الواحد المذكور وغيره وهو الأصل المطرد فلا ينافيه قول الرضيّ‏:‏ إنه يقال‏:‏ رجل عدل ورجلان عدلان لأنه رعاية لجانب المعنى، وذكر بعضهم أن هذا التأويل يجعل كلا للتأكيد لأن الاستغراق شأن الجمع المعرف باللام، والحل مصدر أيضاً أريد منه حلالاً، والمراد الإخبار عن أكل الطعام بكونه حلالاً لا نفس الطعام لأن الحل كالحرمة مما لا يتعلق بالذوات ولا يقدر نحو الانفاق وإن صح أن يكون متعلق الحل وربما توهم بقرينة ما قبله لأنه خلاف الغرض المسوق له الكلام‏.‏ و‏{‏إسراءيل‏}‏ هو يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم السلام، وعن أبي مجلز أن ملكاً سماه بذلك بعد أن صرعه وضرب على فخذه‏.‏

‏{‏إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ حرم لحوم الأنعام، وروى عكرمة عن ابن عباس أنه حرم زائدتي الكبد والكليتين والشحم إلا ما كان على الظهر، وعن عطاء أنه حرم لحوم الإبل وألبانها‏.‏ وسبب تحريم ذلك كما في الحديث الذي أخرجه الحاكم وغيره بسند صحيح عن ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام كان به عرق النسا فنذر إن شفي لم يأكل أحب الطعام إليه وكان ذلك أحب إليه، وفي رواية سعيد بن جبير عنه أنه كان به ذلك الداء فأكل من لحوم الإبل فبات بليلة يزقو فحلف أن لا يأكله أبداً، وقيل‏:‏ حرمه على نفسه تعبداً وسأل الله تعالى أن يجيز له فحرم سبحانه على ولده ذلك، ونسب هذا إلى الحسن، وقيل‏:‏ إنه حرمه وكف نفسه عنه كما يحرم المستظهر في دينه من الزهاد اللذائذ على نفسه‏.‏ وذهب كثير إلى أن التحريم كان بنص ورد عليه، وقال بعض‏:‏ كان ذلك عن اجتهاد ويؤيده ظاهر النظم، وبه استدل على جوازه للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والاستثناء متصل لأن المراد على كل تقدير أنه حرمه على نفسه وعلى أولاده، وقيل‏:‏ منقطع، والتقدير ولكن حرم إسرائيل على نفسه خاصة ولم يحرمه عليهم وصحح الأول‏.‏

‏{‏مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ‏}‏ الظاهر أنه متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الطعام كَانَ حِلاًّ‏}‏ ولا يضر الفصل بالاستثناء إذ هو فصل جائز، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن في جواز أن يعمل ما قبل إلا فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو جاراً ومجروراً أو حالاً، وقيل‏:‏ متعلق بحرم، وتعقبه أبو حيان بأنه بعيد إذ هو من الإخبار بالواضح المعلوم ضرورة ولا فائدة فيه، واعتذر عنه بأن فائدة ذلك بيان أن التحريم مقدم عليها وأن التوراة مشتملة على محرمات أخر حدثت عليهم حرجاً وتضييقاً، واختار بعضهم أنه متعلق بمحذوف، والتقدير‏:‏ كان حلا من قبل أن تنزل التوراة في جواب سؤال نشأ من سابق المستثنى كأنه قيل‏:‏ متى كان حلاً‏؟‏ فأجيب به والذي دعاه إلى ذلك عدم ظهور فائدة تقييد التحريم ولزوم قصر الصفة قبل تمامها على تقدير جعله قيداً للحل‏.‏

ولا يخفى ما فيه، والمعنى على الظاهر أن كل الطعام ما عدا المستثنى كان حلالاً لبني إسرائيل قبل نزول التوراة مشتملة على تحريم ما حرم عليهم لظلمهم، وفي ذلك رد لليهود في دعواهم البراءة فيما نعى عليهم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 160‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏ الآيتين، وتبكيت لهم في منع النسخ ضرورة أن تحريم ما كان حلالاً لا يكون إلا به ودفع الطعن في دعوى الرسول صلى الله عليه وسلم موافقته لأبيه إبراهيم عليه السلام على ما دل عليه سبب النزول‏.‏ وذهب السدي إلى أنه لم يحرم عليهم عند نزول التوراة إلا ما كان يحرمونه قبل نزولها اقتداءاً بأبيهم يعقوب عليه السلام، وقال الكلبي‏:‏ لم يحرم سبحانه عليهم ما حرم في التوراة، وإنما حرمه بعدها بظلمهم وكفرهم، فقد كانت بنو إسرائيل إذا أصابت ذنباً عظيماً حرم الله تعالى عليهم طعاماً طيباً وصب عليهم رجزاً، وعن الضحاك أنه لم يحرم الله تعالى عليهم شيئاً من ذلك في التوراة ولا بعدها، وإنما هو شيء حرموه على أنفسهم اتباعاً لأبيهم وإضافة تحريمه إلى الله تعالى مجاز وهذا في غاية البعد‏.‏

‏{‏قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها‏}‏ أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يحاجهم بكتابهم الناطق بصحة ما يقول في أمر التحليل والتحريم وإظهار اسم التوراة لكون الجملة كلاماً مع اليهود منقطعاً عما قبله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ أي في دعواكم شرط حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه أي إن كنتم صادقين فأتوا بالتوراة فاتلوها، روي أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجراً‏.‏ وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم إذ علم بأن ما في التوراة يدل على كذبهم وهو لم يقرأها ولا غيرها من زبر الأولين ومثله لا يكون إلا عن وحي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب‏}‏ أي اخترع ذلك بزعمه أن التحريم كان على الأنبياء وأممهم قبل نزول التوراة فمن عبارة عن أولئك اليهود، ويحتمل أن تكون عامة ويدخلون حينئذٍ دخولاً أولياً، وأصل الافتراء قطع الأديم يقال‏:‏ فرى الأديم يفريه فرياً إذا قطعه، واستعمل في الابتداع والاختلاق، والجملة يحتمل أن تكون مستأنفة وأن تكون منصوبة المحل معطوفة على جملة ‏{‏فَاتُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93‏]‏ فتدخل تحت القول، ومن يجوز أن تكون شرطية وأن تكون موصولة وقد روعي لفظها ومعناها‏.‏

‏{‏مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ أي أمرهم بما ذكر وما يترتب عليه من قيام الحجة وظهور البينة‏.‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ أي المفترون المبعدون عن عز القرب ‏{‏هُمُ الظالمون‏}‏ لأنفسهم بفعل ما أوجب العقاب عليهم، وقيل‏:‏ هم الظالمون لأنفسهم بذلك ولأشياعهم بإضلالهم لهم بسبب إصرارهم على الباطل وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما قيد بالبعدية مع أنه يستحق الوعيد بالكذب على الله تعالى في كل وقت وفي كل حال للدلالة على كمال القبح، وقيل‏:‏ لبيان أنه إنما يؤاخذ به بعد إقامة الحجة عليه ومن كذب فيما ليس بمحجوج فيه فهو بمنزلة الصبي الذي لا يستحق الوعيد بكذبه وفيه تأمل، ثم مناسبة هذه الآية لما قبلها أن الأكل إنفاق مما يحب لكن على نفسه وإلى ذلك أشار علي بن عيسى، وقيل‏:‏ إنه لما تقدم محاجتهم في ملة إبراهيم عليه السلام وكان مما أنكروا على نبينا صلى الله عليه وسلم أكل لحوم الإبل وادعوا أنه خلاف ملة إبراهيم ناسب أن يذكر رد دعواهم ذلك عقيب تلك المحاجة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ صَدَقَ الله‏}‏ أي ظهر وثبت صدقه في أن كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وقيل‏:‏ في أن محمداً صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم عليه السلام وأن دينه الإسلام، وقيل‏:‏ في كل ما أخبر به ويدخل ما ذكر دخولاً أولياً وفيه كما قيل‏:‏ تعريض بكذبهم الصريح ‏{‏فاتبعوا مِلَّةَ إبراهيم‏}‏ وهي دين الإسلام فإنكم غير متبعين ملته كما تزعمون، وقيل‏:‏ اتبعوا مثل ملته حتى تخلصوا عن اليهودية التي اضطرتكم إلى الكذب على الله والتشديد على أنفسكم، وقيل‏:‏ اتبعوا ملته في استباحة أكل لحوم الإبل وشرب ألبانها مما كان حلاً له ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ أي مائلاً عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحق، أو مستقيماً على ما شرعه الله تعالى من الدين الحق في حجه ونسكه ومأكله وغير ذلك ‏{‏وَمَا كَانَ مِنَ المشركين‏}‏ أي في أمر من أمور دينهم أصلاً ‏(‏وفرعاً‏)‏ وفيه تعريض بشرك أولئك المخاطبين، والجملة تذييل لما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ‏}‏‏.‏ أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جريج قال‏:‏ بلغنا أن اليهود قالت‏:‏ بيت المقدس أعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء ولأنه في الأرض المقدسة، فقال المسلمون‏:‏ بل الكعبة أعظم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت إلى ‏{‏مَّقَامِ إبراهيم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ وروي مثل ذلك عن مجاهد ووجه ربطها بما قبلها أن الله تعالى أمر الكفرة باتباع ملة إبراهيم ومن ملته تعظيم بيت الله تعالى الحرام فناسب ذكر البيت وفضله وحرمته لذلك، وقيل‏:‏ وجه المناسبة أن هذه شبهة ثانية ادعوها فأكذبهم الله تعالى فيها كما أكذبهم في سابقتها، والمعنى‏:‏ إن أول بيت وضع لعبادة الناس ربهم أي هيىء وجعل متعبداً؛ والواضع هو الله تعالى كما يدل عليه قراءة من قرأ ‏{‏وُضِعَ‏}‏ بالبناء للفاعل لأن الظاهر حينئذٍ أن يكون الضمير راجعاً إلى الله تعالى وإن لم يتقدم ذكره سبحانه صريحاً في الآية بناءاً على أنها مستأنفة واحتمال عوده إلى إبراهيم عليه السلام لاشتهاره ببناء البيت خلاف الظاهر، وجملة ‏{‏وُضِعَ‏}‏ في موضع جر على أنها صفة ‏{‏بَيَّتَ‏}‏ و‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ متعلق به واللام فيه للعلة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَلَّذِى بِبَكَّةَ‏}‏ خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ واللام مزحلقة وأخبر بالمعرفة عن النكرة لتخصيصها، وهذا في باب إن، وبكة لغة في مكة عند الأكثرين والباء والميم تعقب إحداهما الأخرى كثيراً، ومنه نميط ونبيط ولازم ولازب وراتب وراتم، وقيل‏:‏ هما متغايران فبكة موضع المسجد ومكة البلد بأسرها، وأصلها من البك بمعنى الزحم يقال بكه يبكه بكاً إذا زحمه، وتباك الناس إذا ازدحموا وكأنها إنما سميت بذلك لازدحام الحجيج فيها، وقيل‏:‏ بمعنى الدق وسميت بذلك لدق أعناق الجبابرة إذا أرادوها بسوء وإذلالهم فيها ولذا تراهم في الطواف كآحاد الناس ولو أمكنهم الله تعالى من تخلية المطاف لفعلوا؛ وقيل‏:‏ إنها مأخوذة من بكأت الناقة أو الشاة إذا قل لبنها وكأنها إنما سميت بذلك لقلة مائها وخصبها، قيل‏:‏ ومن هنا سميت البلد مكة أيضاً أخذاً لها من أمتك الفصيل ما في الضرع إذا امتصه ولم يبق فيه من اللبن شيئاً، وقيل‏:‏ هي من مكه الله تعالى إذا استقصاه بالهلاك‏.‏

ثم المراد بالأولية الأولية بحسب الزمان، وقيل‏:‏ بحسب الشرف، ويؤيد الأول‏:‏ ما أخرجه الشيخان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول بيت وضع للناس فقال‏:‏ «المسجد الحرام ثم بيت المقدس فقيل‏:‏ كم بينهما‏؟‏ فقال‏:‏ أربعون سنة» واستشكل ذلك بأن باني المسجد الحرام إبراهيم عليه السلام وباني الأقصى داود ثم ابنه سليمان عليهما السلام، ورفع قبته ثمانية عشر ميلاً وبين بناء إبراهيم وبنائهما مدة تزيد على الأربعين بأمثالها‏.‏

وأجيب بأن الوضع غير البناء والسؤال عن مدة ما بين وضعيهما لا عن مدة ما بين بناءيهما فيحتمل أن واضع الأقصى بعض الأنبياء قبل داود وابنه عليهما السلام ثم بنياه بعد ذلك، ولا بد من هذا التأويل قاله الطحاوي وأجاب بعضهم على تقدير أن يراد من الوضع البناء بأن باني المسجد الحرام والمسجد الأقصى هو إبراهيم عليه السلام وأنه بنى الأقصى بعد أربعين سنة من بنائه المسجد الحرام وادعى فهم ذلك من الحديث فتدبر‏.‏

وورد في بعض الآثار أن أول من بنى البيت الملائكة وقد بنوه قبل آدم عليه السلام بألفي عام، وعن مجاهد وقتادة والسدي ما يؤيد ذلك، وحكي أن بناء الملائكة له كان من ياقوتة حمراء ثم بناه آدم ثم شيث ثم إبراهيم ثم العمالقة ثم جرهم ثم قصي ثم قريش ثم عبد الله بن الزبير ثم الحجاج واستمر بناء الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب والعتبة ووقع الترميم في الجدار والسقف غير مرة وجدد فيه الرخام، وقيل‏:‏ إنه نزل مع آدم من الجنة ثم رفع بعد موته إلى السماء، وقيل‏:‏ بني قبله ورفع في الطوفان إلى السماء السابعة، وقيل‏:‏ الرابعة، وذهب أكثر أهل الأخبار أن الأرض دحيت من تحته، وقد أسلفنا لك ما ينفعك هنا فتذكر‏.‏

‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ أي كثير الخير لما أنه يضاعف فيه ثواب العبادة قاله ابن عباس، وقيل‏:‏ لأنه يغفر فيه الذنوب لمن حجه وطاف به واعتكف عنده‏.‏ وقال القفال‏:‏ يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 57‏]‏، وقيل‏:‏ بركته دوام العبادة فيه ولزومها، وقد جاءت البركة بمعنيين‏:‏ النمو وهو الشائع، والثبوت ومنه البركة لثبوت الماء فيها والبرك الصدر لثبوت الحفظ فيه وتبارك الله سبحانه بمعنى ثبت ولم يزل، ووجه الكرماني كونه مباركاً بأن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز ولا شك أن فيهم أشخاصاً أرواحهم علوية وقلوبهم قدسية وأسرارهم نورانية وضمائرهم ربانية ومن كان في المسجد الحرام يتصل أنوار تلك الأرواح الصافية المقدسة بنور روحه فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه وهذا غاية البركة ثم إن الأرض كرية وكل آن يفرض فهو صبح لقوم ظهر لثان عصر لثالث وهلم جراً، فليست الكعبة منفكة قط عن توجه قوم إليها لأداء الفرائض فهو دائماً كذلك والمنصوب حال من الضمير المستتر في الظرف الواقع صلة‏.‏ وجوز أبو البقاء جعله حالاً من الضمير في وضع‏.‏

‏{‏وَهُدًى للعالمين‏}‏ أي هاد لهم إلى الجنة التي أرادها سبحانه أو هاد إليه جل شأنه بما فيه من الآيات العجيبة كما قال تعالى‏:‏