فصل: تفسير الآية رقم (5)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَكُونُ الجبال كالعهن‏}‏ أي الصوف مطلقاً أو المصبوغ كما قيده الراغب به وقد تقدم الكلام فيه في المعارج وكان بمعنى صار أي وتصير جميع الجبال كالعهن ‏{‏المنفوش‏}‏ المفرق بالإصبع ونحوها في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو حسبما ينطق به غير آية وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه‏}‏ إلى آخره بيان إجمالي لتحزب الناس حزبين وتنبيه على كيفية الأحوال الخاصة بكل منهما أثر بيان الأحوال الشاملة للكل وهذا إشارة إلى وزن الأعمال وهو مما يجب الايمان به حقيقة ولا يكفر منكره ويكون بعد تطاير الصحف وأخذها بالايمان والشمائل وبعد السؤال والحساب كما ذكره الواحدي وغيره وجزم به صاحب كنز الأسرار بميزان له لسان وكفتان كإطباق السموات والأرض والله تعالى أعلم بماهيته وقد روى القول به عن ابن عباس والحسن البصري وعزاه في «شرح المقاصد» لكثير من المفسرين ومكانه بين الجنة والنار كما في «نوادر الأصول» وذكر يتقبل به العرش يأخذ جبريل عليه السلام بعموده ناظراً إلى لسانه وميكائيل عليه السلام أمين عليه والأشهر الأصح أنه ميزان واحد كما ذكرنا لجميع الأمم ولجميع الأعمال فقوله تعالى موازينه وهو جمع ميزان وأصله موازن بالواو لكن قلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها قيل للتعظيم كالجمع في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذبتْ عَادٌ المرسلين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 123‏]‏ في وجه أو باعتبار أجزائه نحو شابت مفارقة أو باعتبار تعدد الأفراد للتغاير الاعتباري كما قيل في قوله‏:‏ لمعان برق أو شعاع شموس *** وزعم الرازي على ما نقل عنه أن فيه حديثاً مرفوعاً وقال آخرون يوزن نفس الأعمال فتصور الصالحة بصور حسنة نوارنية ثم تطرح في كفة النور وهي اليمنى المعدة للحسنات فتثقل بفضل الله تعالى وتصور الأعمال السيئة بصور قبيحة ظلمانية ثم تطح في كفة الظلمة وهي الشمال فتخف بعدل الله تعالى وامتناع قلب الحقائق في مقام خرق العادات ممنوع أو مقيد ببقاء آثار الحقيقة الأولى وقد ذهب بعضهم إلى أن الله تعالى يخلق أجساماً على عدد تلك الأعمال من غير قلب لها وادعى أن فيه أثراً والظاهر أن الثقل والخفة مثلهما في الدنيا فما ثقل نزل إلى أسفل ثم يرتفع إلى عليين وما خف طاش إلى أعلى ثم نزل إلى سجين وبه صرح القرطبي وقال بعض المتأخرين هما على خلاف ما في الدنيا وإن عمل المؤمن إذا رجح صعد وثقلت سيآته وأن الكافر تثقل كفته لخو الأخرى من الحسمات ثم تلا ‏{‏والعمل الصالح يرفعه‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 10‏]‏ وفي كونه دليلاً نظر وذكر بعضهم أن صفة الوزن أن يجعل جميع أعمال العباد في الميزان مرة واحدة الحسنات في كفة النور عن يمين العرش جهة الجنة والسيآت في كفة الظلمة جهة النار ويخلق الله تعالى لكل إنسان علماً ضرورياً يدرك به خفة أعماله وثقلها وقيل نحوه إلا أن علامة الرجحان عمود من نور يثور من كفة الحسنات حتى يكسو كفة السيآت وعلامة الخفة عمود ظلمة يثور من كفة السيآت حتى يكسو كفة الحسنات فالكيفيات أربع وستظهر حقيقة الحال بالعيان وهو قال القرطبي لا يكون في حق كل أحد لما في الحديث الصحيح فيقال يا محمد أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن الحديث وأحرى الأنبياء عليهم السلام وقوله سبحانه‏:‏

‏{‏يُعْرَفُ المجرمون بسيماهم‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 41‏]‏ فيؤخذ بالنواصي والأقدام وإنما يبقى الوزن لمن شاء الله تعالى من الفريقين وذكر القاضي منذر بن سعيد البلوطي أن أهل الصبر لا توزن أعمالهم وإنما يصب لهم الأجر صباً والظاهر أنه يدرج المنافق في الكافر والحق أن أعمالهم مطقلاً توزن لظواهر الآيات والأحاديث الكثيرة والمراد في الآية ‏{‏وَزْناً‏}‏ والصحيح أن الجن مؤمنهم وكافرهم كالإنس في هذا الشأن كما قرر في محله والتقسيم فيما نحن فيه على ما سمعت عن القرطبي بالنسبة إلى من توزن أعماله لا بالنسبة إلى الناس مطلقاً وأنكر المعتزلة الوزن حقيقة وجماعة من أهل السنة والجماعة منهم مجاهد والضحاك والأعمش قالوا إن الإعمال أعراض إن أمكن بقاؤها لا يمكن وزنها فالوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل وجوزوا فيما هنا أن تكون الموازين جمع موزون وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله تعالى وأن معنى ثقلها رجحانها وروى هذا عن الفراء أي فمن ترجحت مقادير حسناته ورتبها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏حِسَابِيَهْ فَهُوَ فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ المشهور جعل ذلك من باب النسب أي ذات رضا وجوز أن تكون ‏{‏رَّاضِيَةٍ‏}‏ بمعنى المفعول أي مرضية على التجوز في الكلمة نفسها وأن يكون الإسناد مجازياً وهو حقيقة إلى صاحب العيشة وجوز أن يكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية على ما قرر في كتب المعاني لكن ذكر بعض الأجلة ههنا كلاماً نفيساً وهو أن ما كان للنسب يؤول بذي كذا فلا يؤنث لأنه لم يجر على موصوف فالحق بالجوامد ونقل عن السيرافي أنع قال يقدح فيما عللوا به سقوط الهاء في ‏{‏عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ وفيه وجهان‏.‏ أحدهما‏:‏ أن تكون بمعنى أنها ‏{‏رَّاضِيَةٍ‏}‏ أهلها فهي ملازمة لهم راضية بهم والآخر أن تكون الهاء للمبالغة كعلامة وراوية ووجه بإن الهاء لزمت لئلا تسقط الياء فيخل بالبنية كناقة مشلية وكلبة مجرية وهم يقولون ظبية مطفل ومشدان وباب مفعل ومفعال لا يؤنث وقد أدخلوا الهاء في بعضه كمصكة انتهى ثم قال إن هذا حقيق بالقبول ومحصله الجواب بوجه‏.‏ أحدها‏:‏ ان راضية هنا فيه ليس من باب النسب بل هو اسم فاعل أريد به لازم معناه لأن من شاء شيئاً ورضى به لازمه فهو مجاز مرسل أو استعارة ويجوز أن يراد أنه مجاز في الإسناد وما ذكر بيان لمعناه الثاني‏:‏ إن الهشاء للمبالغة ولا تختص بفعال ولذا مثل برواية أيضاً والثالث‏:‏ أنه يجوز الحاق الهاء في المعتل لحفظ البلية ومصكة أما شاذاً ولتشبيه المضاعف بالمعتل انتهى فاحفظه فإنه نفيس خلا عنه أكثر الكتب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ موازينه‏}‏ بأن لم يكن له حسنة يعتد بها أو ثقلت سيئآته على حسناته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏فَأُمُّهُ‏}‏ أي فماواه كما قال ابن زيد وغيره ‏{‏هَاوِيَةٌ‏}‏ أريد بها النار كما يؤذن به قوله تعالى‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 11‏]‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ‏(‏10‏)‏ نَارٌ حَامِيَةٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ‏}‏ فإنه تقرير لها بعد إبهامها والاشعار بخروجها عن المعهود للتفخيم والتهويل وذكر أن إطلاق ذلك عليها لغاية عمقها وبعد مهواها فقد روى أن أهل النار تهوى فيها سبعين خريفاً وخصها بعضهم بالباب الأسفل من النار وعبر عن المأوى بالأم على التشبيه بها فالام مفزع الولد ومأواه وفيه تهكم به وقيل شبه النار بالأم في أنها تحيط بها إحاطة رحم الولد بالأم‏.‏ وعن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم المعنى فام رأسه هاوية في قعر جهنم لأنه يطرح فيها منكوساً وفي رواية أخرى عن قتادة هو من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة هوت أمه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلاً وحزناً ومن ذلك قول كعب بن سعد الغنوي

هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا *** وماذا يرد الليل حين يؤب

وفي «الكشف» أن هذا أحسن ليطابق قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ‏[‏القارعة‏:‏ 7‏]‏ وما فيه من المبالغة وقال الطيبي أنه الأظهر وللبحث فيه مجال والضمير أعني هي عليه للداهية التي دل عليها الكلام وعلى ما قدمنا لهاوية وعلى الوجه الثاني لما يشعر به الكلام كأنه قيل فأم رأسه هاوية في نار ‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ‏}‏ الخ والهاء الملحقة في هيه هاء السكت وحذفها في الوصل ابن أبي إسحق والأعمش وحمزة وأثبتها الجمهور ورفع نار على أنها خبر مبتدأ محذوف أي هي نار وحامية نعت لها وهو من الحمى اشتداد الحر قال في «القاموس» حمى الشمس والنار حمياً وحمياً وحموا اشتد حرهما وجعله بعضهم على ما قيل من حميت القدر فهي محمية ففسره بذات حمى وهو كما ترى وقرأ طلحة فأمه بكسر الهمزة قال ابن خالويه وحكى ابن دريد أنها لغة وأما النحويون فيقولون لا يجوز كسر الهمزة إلا أن يتقدمها كسرة أو ياء والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة التكاثر‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏ألهاكم‏}‏ أي شغلكم وأصل اللهو الغفلة ثم شاعر في كل شاغر وخصه العرف بالشاغل الذي يسر المرء وهو قريب من اللعب ولذا ورد بمعناه كثيراً وقال الراغب اللهو ما يشغلك عما يعني ويهم وقيل ليس بذاك المراد به هنا الغفلة والمعنى جعلكم لاهين غافلين ‏{‏التكاثر‏}‏ أي التباري في الكثرة والتباهي بها بأن يقول هؤلاء نحن أكثر وهؤلاء نحن أكثر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏حتى زُرْتُمُ المقابر‏}‏ حتى إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر وانتقلتم إلى ذكر من فيها فتكاثرتم بالأموات فالغاية داخلة في المغيا وقد تقدم من سبب النزول ما يوضح ذلك‏.‏ وعن الكلبي ومقاتل أن بني عبد مناف وبني سهم تفاخروا أيهم أكثر عدداً فكثرتهم بنو عبد مناف فقالت بنو سهم أن البغي أهلكنا في الجاهلية فعادونا بالإحياء والأموات فكثرتهم بنو سهم وزيارة المقابر على ما تقدم على ظاهرها وأما على هذا فقد عبر بها عن بلوغهم ذكر الموتى كناية أو مجازاً واستحسن جعله تمثيلاً وفي «الكشاف» عبر بذلك عما ذكر تهكماً بهم ووجهه بعض بأنه كأنه قيل أنتم في عفلكم هذا كمن يزور القبور من غير غرض صحيح وبعض آخر بأن زيارة القبور للاتعاظ وتذكر الموت وهم عكسوا فجعلوها سبباً للغفلة وهذا أولى والمعنى ‏{‏ألهاكم‏}‏ ذلك وهو لا يعنيكم ولايجدي عليكم في دنياكم وآخرتكم عما يعنيكم من أمر الدين الذي هو أهم وأعنى من كل مهم وحذف الملهى عنه للتعظيم المأخوذ من الإبهام بالحذف والمبالغة في الذم حيث أشار إلى أن ما يلهي مذموم فضلاً عن الملهى عن أمر الدين وقيل المراد ‏{‏ألهاكم التكاثر‏}‏ بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم منفقين أعماركم في طلب الدنيا والاشتياق إليها والتهالك عليها إلى أتاكم الموت لا هم لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم والعمل لآخرتكم وصدره قد أخرجه ابن المنذر عن ابن عباس وهو ابن أبي حاتم وابن أبي شيبة عن الحسن وزيارة المقابر عليه عبارة عن الموت كما قال الشاعر‏:‏ إني رأيت الضمد شيئاً نكراً *** لن يخلص العام خليل عشرا ذاق الضماد أو يزور القبرا

وقال جرير‏:‏ زار القبور أبو مالك *** فأصبح ألام زوارها

وفي ذلك إشارة إلى تحقيق البعث‏.‏ يحكى أن أعرابياً سمع ذلك فقال بعث القوم للقيامة ورب الكعبة فإن الزائد منصرف لا مقيم وعن مر بن عبد العزيز أنه قال لا بد لمن زاد أن يرجع إلى جنة أو نار وفيه أضياً إشارة إلى قصر زمن اللبث في القبور والتعبير بالماضي لتحقق الوقوع أو لتغليب من مات أولاً أو لجعل موت آبائهم بمنزلة موتهم‏.‏ ومما يقضي منهم العجب قول أبي مسلم أن الله عز وجل يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعييراً للكفار وهم في ذلك الوقت قد تقدمت منهم زيارة القبور وقيل هذا تأنيب على الإكثار من زيارة القبور تكثراً بمن سلف ومباهاة وتفاخراً به لا اتعاظاً وتذكراً للآخرة كما هو المشروع ويشير إليه خبر أبي داود نهيتكم عن زيادة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ولا يخفى أن الآية بمعزل عن ذلك نعم لا كلام في ذم زيارة القبور للتفاخر بالمزور أو للتباهي بالزيارة كما يفعل كثير من الجهلة المنتسبين إلى المتصوفة في زياراتهم لقبور المشايخ عليهم الرحمة هذا مع ما لهم فيها من منكرات اعتقدوها طاعات وشنائع اتخذوها شرائع إلى أمور تضيق عنها صدور السطور وقرأ ابن عباس وعائشة ومعاوية وأبو عمران الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة آلهاكم بالمد على الاستفهام وروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وابن عباس أيضاً والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية أألهاكم بهمزتين والاستفهام للتقرير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع عن الاشتغال بما لا يعنيه عما يعنيه وتنبيه على الخطا فيه لأن عاقبته وخيمة ‏{‏سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ سوء مغبة ما أنتم عليه إذا عاينتم عاقبته والعلم بمعنى المعرفة المتعدية لواحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ تكرير للتأكيد وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ كما يقول العظيم لعبده أقول لك ثم أقول لك لا تفعل قيل ولكونه أبلغ نزل منزلة المغايرة فعطف وإلا فالمؤكد لا يعطف على المؤكد لما بينهما من شدة الاتصال وأنت تعلم أن المنع هو رأي اللغويين وقد صرح المفسرون والنحاة بخلافه‏.‏ وقال علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه الأول في القبور والثاني في النشور فلا تكرير والتراخي على ظاهره ولا كلام في العطف وقال الضحاك الزجر الأول ووعيده للكافرين وما بعد للمؤمنين وهو خلاف الظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين‏}‏ أي لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر المتيقن أي كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور فالعلم مضاف للمفعول واليقين بمعنى المتيقن صفة لمقدر وجوز أبو حيان كون الإضافة من إضافة الموصوف إلى صفته أي العلم اليقين وفائدة الوصف ظاهرة بناء على أن العلم يطلق على غير اليقين وجواب لو محذوف للتهويل أي لو تعلمون كذلك لفعلتم ما لا يوصف ولا يكتنه أو لشغلكم ذلك عن التكاثر وغيره أو نحو ذلك وقوله تعالى

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏لَتَرَوُنَّ الجحيم‏}‏ جواب قسم مضمر أكد به الوعيد وشدد به التهديد وأوضح به ما أنذروه بعد إبهامه تفخيماً ولا يجوز أن يكون جواب لو الامتناعية لأنه محقق الوقوع وجوابها لا يكون كذلك وقيل يجوز ويكون المعنى سوف تعلمون الجزاء ثم قال سبحانه لو تعلمون الجزاء علم اليقين الآن لترون الجحيم يعني تكون الجحيم دائماً في نظركم لا تغيب عنكم وهو ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا‏}‏ تكرير للتأكيد وثم للدلالة على الأبلغية وجوز أن تكون الرؤية الأولى إذا رأتهم من بعيد والثاني إذا وردوها أو إذ دخلوها أو الأولى إذا وردوها والثانية إذا دخلوها أو الأولى المعرفة والثانية المشاهدة والمعاينة وقيل يجوز أن يكون المراد لترون الجحيم غير مرة إشارة إلى الخلود وهذا نحو التثنية في وقوله تعالى ‏{‏ثم ارجع البصر كرتين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 4‏]‏ وهو خلاف الظاهر جداً‏.‏ ‏{‏عَيْنَ اليقين‏}‏ أي الرؤية التي هي نفس اليقين فإن الانكشاف بالرؤية والمشاهدة فوق سائر الانكشافات فهو أحق بأن يكون عين اليقين فعين بمعنى النفس مثله في نحو جاء زيد نفسه وهو صففة مصدر مثدر أي رأية عين اليقين والعامل فيه لترونها وجوز أن يكون متنازعاً فيه للفاعلين قبله وفي إطلاقه كلام لا أظنه يخفى عليك واليقين في اللغة على ما قال السيد السند العلم الذي لا شك فيه وفي الاصطلاح اعتقاد الشيء إنه كذا مع اعقاد أنه لا يمكن إلا كذا اعتقاداً مطابقاً للواقع غير ممكن الزوال وقال الراغب اليقيم من صفة العلم فوق المعرفة والدراية وإخواتهما يقال علم يقين ولا يقال معرفة يقين وهو سكون النفس مع ثبات الفهم وفسر السيد اليقين بما سمعت ونقل عن أهل الحقيقة عدة تفسيرات فيه وعلم اليقين بما أعطاه الدليل من إدراك الشيء على ما هو عليه وعين اليقين بما أعطاه المشاهدة والكشف وجعل وراء ذلك حق اليقين وقال على سبيل التمثيل علم كل عاقل بالموت علم اليقين وإذا عاين الملائكة عليهم السلام فهو عين اليقين وإذا ذاق الموت فهو حق اليقين ولهم غير ذلك ومبنى أكثر ما قالوه على الاصطلاح فلا تغفل وقرأ ابن عامر والكسائي لترون بضم التاء وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن كثير في رواية وعاصم كذلك بفتحها في لترون وضمها في لترونها ومجاهد وأشهب وابن أبي عبلة بضمها فيهما وروي عن الحسن وأبي عمر وبخلاف عنهما أنهما همزاً الواوين ووجه بأنهم اسثقلوا الضمة على الواو فهمزوا للتخفيف كما همزوا في ‏{‏وقتت‏}‏ وكان القياس ترك الهمز لأن الضمة حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها لكن لما لزمن الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا وقد همزوا من الحركة العارضة التي تزول في الوقف نحو ‏{‏اشترؤوا الضلالة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 16‏]‏ فالهمز من هذه أولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم‏}‏ قيل الخطاب للكفار وحكى ذلك عن الحسن ومقاتل واختاره الطيبي والنعيم عام لكل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب وكذا قيل في الخطابات السابقة وقد روي عن ابن عباس أنه صرح بأن الخطاب في ‏{‏لترون الجحيم‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 6‏]‏ للمشركين وحملوا الرؤية عليه على رؤية الدخول وحملوا السؤال هنا على سؤال التقريع والتوبيخ لما أنهم لم يشكروا ذلك بالإيمان به عز وجل والسؤال قيل يجوز أن يكون بعد رؤية الجحيم ودخولها كما يسألون كذلك عن أشياء أخر على ما يؤذن به قوله تعالى ‏{‏كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 8‏]‏ وقوله سبحانه ‏{‏ما سلككم في سقر‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 42‏]‏ وذلك لأنه إذ ذاك أشد إيلاماً وادعى للاعتراف بالتقصير فثم على ظاهرها وأن يكون في موقف الحساب قبل الدخول فتكون ثم للترتيب الذكرى وقيل الخطاب مخصوص بكل من ألهاه دنياه عن دينه والنعيم مخصوص بما شغله عن ذلك لظهور أن الخطاب في ‏{‏ألهاكم‏}‏ الخ للمهلين فيكون قرينة على ما ذكر وللنصوص الكثيرة كقوله تعالى ‏{‏قل من حرم زينة الله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 32‏]‏ و‏{‏كلوا من الطيبات‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ وهذا أيضاً يحمل السؤال على سؤال التوبيخ ويدخل فيما ذكر الكفار وفسقة المؤمينن وقيل الخطاب عام وكذا السؤال يعم سؤال التوبيخ وغيره والنعيم خاص واختلف فيه على أقوال فاخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن ابن مسعود مرفوعاً هو الأمن والصحة وأخرج البيهقي عن الأمير على كرم الله تعالى وجهه قال النعيم العافية وأخرج ابن مردويه عن أبي الدرداء مرفوعاً أكل خبز البر والنوم في الظل وشرب ماء الفرات مبردا وأخرج ابن جرير عن ثابت البناني مرفوعاً النعيم المسؤول عنه يوم القيامة كسرة تقوته وماء يرويه وثوب يواريه وأخرج الخطيب عن ابن عباس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسره قال الخصاف والماء وفلق الكسر وروي عنه وعن جابر أنه ملاذ المأكول والمشروب وقال الحسين بن الفضل هو تخفيف الشرائع وتيسير القرآن ويروى عن جابر الجعفي من الإمامية قال دخلت على الباقر رضي الله تعالى عنه قال ما يقول أرباب التأويل في قوله تعالى لتسئلن يومئذ عن النعيم فقلت يقولون الظل والماء البارد فقال لو أنك ادخلت بيتك أحداً وأقعدته في ظل وسقيته اتمن عليه قلت لا قال فالله تعالى أكرم من أن يطعم عبده ويسقيه ثم يسأله عنه قلت ما تأويله قال النعيم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم أنعم الله تعالى به على أهل العالم فاستنقذهم به من الضلالة أما سمعت قوله تعالى ‏{‏لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 164‏]‏ ومن رواية العياش من الإمامية أيضاً ان أبا عبد الله رضي الله تاعلى عنه قال لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في الآية ما لنعيم عندك يا نعمان فقال القوت من الطعام والماء البارد فقال أبو عبد الله بئن أوقفك الله تعالى بين يديه حتى يسألك عن كل أكلة أكلتها أو شربة شربتها ليطولن وقوفك بين يديه فقال أبو حينفة فما النعيم قال نحن أهل البيت النعيم أنعم الله تعالى بنا على العباد وبنا ائتلفوا بعدان كانوا مختلفين وبنا ألف الله تاعلى بين قلوبهم وجعلهم إخواناً بعد ان كانوا أعداء وبنا هداهم إلى الإسلام وهو النعمة التي لا تنقطع والله تعالى سائلهم عن حث النعيم الذي أنعم سبحانه به عليهم وهو محمد وعثرته عليه وعليهم الصلاة والسلام وكلا الخبرين لا أرى لهما صحة وفيهما ما ينادي عن عدم صحتهما كما لا يخفى على من ألقى السمع وهو شهيد والحق عموم الخطاب والنعيم بيد أن المؤمن لا يثرب عليه في شيء ناله منه في الدنيا بل يسئل غير مثرب وإنما يثرب على الكافر كما ورد ذلك في حديث رواه الطبراني عن ابن مسعود ويدل على عموم الخطاب ما أخرج مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أبي هريرة قال خرج النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فقال ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة قالا الجوع يا رسول الله قال والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما فقوموا فقاموا معه عليه الصلاة والسلام فاتى رجلاً من الأنصار فإذا هو ليس في بيته فلما رأته صلى الله عليه وسلم المرأة قالت مرحباً فقال النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فقال الحمد لله ما أحد اليوم أكرم أضيافاً مني فانطلق فجاء بعذق فيه بسر وتمر فقال كلوا من هذا وأخذ المدية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إياك والحلوب فذبح لهم فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا فلما شبعوا ورووا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر والذي نفسي بيده لتسألن عن هذا النعيم يوم القيامة وفي رواية ابن حبان وابن مردويه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبيه انطلقوا إلى منزل أبي أيوب الأنصاري فقالت امرأته مرحباً بنبي الله صلى الله عليه وسلم ومن معه فجاء أبو أيوب فقطع عذقاً فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما أردت أن تقطع لنا هذا ألا جنيت من تمره قال أحببت يا رسول الله إن تأكلوا من تمره وبسره ورطبه ثم ذبح جدياً فشوي نصفه وطبخ نصفه فلما وضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من الجدي فجعله في رغيف وقال يا أبا أيوب ابلغ هذا فاطمة رضي الله تعالى عنها فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام فذهب به أبو أيوب إلى فاطمة رضي الله تعالى عنها فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى الله عليه وسلم خبز ولحم وتمر وبسر ورطب ودمعت عيناه عليه الصلاة والسلام والذي نفسي بيده ان هذا لهو النعيم الذي تسألون عنه قال الله تعالى ثم لتسألن يوئذ عن النعيم فهذا النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة فكبر ذلك على أصحابه فقال عليه الصلاة والسلام بلى إذا أصبتم مثل هذا فضربتم بأيديكم فقولوا بسم الله فإذا شبعتم فقولوا الحمد لله الذي أشبعنا وأنعم علينا وأفضل فإن هذا كفاف بذاك وليس المراد في هذا الخبر حصر النعيم مطلقاً فيما ذكر بل حصر النعيم بالنسبة إلى ذلك الوقت الذي كانوا فيه جياعاً وكذا فيما يصح من الأخبار التي فيها الاقتصار على شيء أو شيئين أو أكثر فكل ذلك من باب التمثيل ببعض أفراد خصت بالذكر لأمر اقتضاه الحال ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في غير رواية عند ذكر شيء من ذلك هذا من النعيم الذي تسألون عنه بمن التبعيضية وفي التفسير الكبير الحق أن السؤال يعم المؤمن والكافر عن جميع النعم سواء كان ما لا بد منه أولاً لأن كل ما يهب الله تعالى يجب أن يكون مصروفاً إلى طاعته سبحانه لا إلى معصيته عز وجل فيكون السؤال واقعاً عن الكل ويؤكده قوله عليه الصلاة والسلام لا تزول قدما العبد حتى يسأل عن أربع عن عمره فيم أفناه وعن شبابه فيم ابلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه وعن علمه ماذا عمل به لأن كل نعيم داخل فيما ذكره عليه الصلاة والسلام ويشكل عليه ما أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد الزهد والديلمي عن الحسن قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

«ثلاث لا يحاسب بهن العبد ظل خص يستظل به وكسرة يشد بها صلبه وثوب يوارى به عورته» وأجيب بأنه إن صح فالمراد لا يناقش الحساب بهن وقيل المراد ما يضطر العبد إليه من ذلك لحياته فتأمل ورأيت في بعض الكتب أن الطعام الذي يؤكل مع اليتيم لا يسأل عنه وكان ذلك لأن في الأكل معه جبراً لقلبة وازالة لوحشته فيكون ذلك بمنزلة الشكر فلا يسأل عنه سؤال تقريع وفي القلب من صحة ذلك شيء والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة العصر‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏وَالْعَصْرِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏والعصر‏}‏ قال مقاتل أقسم سبحانه بصلاة العصر لفضلها لأنها الصلاة الوسطى عند الجمهور لقوله عليه الصلاة والسلام شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ولما في مصحف حفصة والصلاة الوسطى صلاة العصر وفي الحديث «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» وروي أن امرأة كانت تصيح في سكك المدينة دلوني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرآها عليه الصلاة والسلام فسألها ماذا حدث فقال يا رسول الله إن زوجي غاب فزنيت فجاءني ولد من الزنا فألقيت الولد في دن خل فمات ثم بعت ذلك الخل فهل لي من توبة فقال عليه الصلاة والسلام أما الزنا فعليك الرجم بسببه وأما القتل فجزاؤه جهنم وأما بيع الخل فقد ارتكبت كبيراً لكن ظننت أنك تركت صلاة العصر ذكر ذلك الإمام وهو لعمر إمام في نقل مثل ذلك مما لا يعول عليه عند أئمة الحديث فإياك والاقتداء به وخصت بالفضل لأن التكليف في أدائها أشق لتهافت الناس في تجاراتهم ومكاسبهم آخر النهار واستغالهم بمعايشهم وقيل أقسم عز وجل بوقت تلك الصلاة لفضيلة صلاته أو لخلق آدم أبي البشر عليه السلام فيه من يوم الجمعة وإلى هذا ذهب قتادة فقد روي عنه أنه قال العصر العشى أقسم سبحانه به كما أقسم بالضحى لما فيهما من دلائل القدرة وقال الزجاج العصر اليوم والعصر الليلة وعلية قول حميد بن ثور‏.‏ ولم يلبث العصران يوم وليلة *** إذا طلبا أن يدركا ما تيمما

وقيل العصر بكرة والعصر عشية وهما إلا برادان وعليه وعلى ما قبله يكون القسم بواحد من الأمرين غير معين وقيل المراد به عصر النبوة وكأنه عني به وقت حياته عليه الصلاة والسلام فإنه أشرف الأعصار لتشريف النبي صلى الله عليه وسلم وقيل هو زمان حياته صلى الله عليه وسلم وما بعده إلى يوم القيامة ومقداره فيما مضى من الزمان مقدار وقت العصر من النهار ويؤذن بذلك ما رواه البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إنما بقاؤكم فيمن سلف قلبكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس» وشرفه لكونه زمان النبي صلى الله عليه وسلم وأمته التي هي خير أمة أخرجت للناس ولا يضره تأخيره كما لا يضر السنان تأخره عن أطراف مرانه والنور تأخره عن أطراف أغصانه وقال ابن عباس هو الدهر أقسم عز وجل به لاشتماله على أصناف العجائب ولذا قيل له أبو العجب وكأنه تعالى يذكر بالقسم به ما فيه من النعم وأضدادها لتنبيه الإنسان المستعد للخسران والسعادة ويعرض عز وجل لما في الأقسام به من التعظيم بنفي أن يكون له خسران أو دخل فيه كما يزعمه من يضيف الحوادث إليه وفي إضافة الخسران بعد ذلك للإنسان اشعار بأنه صفة له لا للزمان كما قيل‏:‏ يعيبون الزمان وليس فيه *** معايب غير أهل للزمان

وتعقب بأن استعمال العصر بذلك المعنى غير ظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ‏}‏ أي خسران في متاجرهم ومساعيهم وصرف أعمارهم في مباغيهم التي لا ينتفعون بها في الآخرة بل ربما تضربهم إذا حلوا الساهرة والتعريف للاستغراق بقرينة الاستثناء والتنكير قيل للتعظيم أي في خسر عظيم ويجوز أن يكون للتنويع أي نوع من الخشر غير ما يعرفه الإنسان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏إِلاَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ فإنهم في تجارة لن تبور حيث باعوا الفاني الخسيس واشتروا الباقي النفيس واسبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات فيا لها من صقفة ما أربحها ومنفعة جامعة للخير ما أوضحها والمراد بالموصول كل من اتصف بعنوان الصلة لا علي كرم الله تعالى وجهه وسلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه فقط كما يتوهم من اقتصار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في الذكر عليهما بل هما داخلان في ذلك دخولاً أولياً ومثل ذلك اقتصاره في الإنسان الخاسر على أبي جهل وهو ظاهر وهذا بيان لتكميلهم لأنفسهم وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَوَاصَوْاْ بالحق‏}‏ الخ بيان لتكميلهم لغيرهم أي وصى بعضاً بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا زوال في الدارين لمحاسن آثاره وهو الخير كله من الإيمان بالله عز وجل واتباع كتبه ورسله عليهم السلام في كل عقد وعمل ‏{‏وَتَوَاصَوْاْ بالصبر‏}‏ عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها وعلى ما يبتلى الله تعالى به عباده من المصائب والصبر المذكور داخل في الحق وذكر بعده مع إعادة الجاروالفعل المتعلق هو به لإبراز كمال العناية به ويجوز أن يكون الأول عبارة رتبة العبادة التي هي فعل ما يرضى الله تعالى والثاني عبارة رتبة العبودية التيهي الرضا بما فعل الله تعالى فإن المراد بالصبر ليس مجرد حبس النفس عما تتوق إليه من فعل أو ترك بل هو تلقي ما ورد منه عز وجل بالجميل والرضا به باطناً وظاهراً وقرأ سلام وهرون وابن موسى عن أبي عمرو والعصر بكسر الصاد والصبر بكسر الباء قال ابن عطية وهذا لا يجوز ألا في الوقف على نقل الحركة وروي عن أبي عمرو بالصبر بكسر الباء اشماما وهذا كما قال لا يكون أيضاً إلا في الوقف وقال صاحب اللوامح قرأ عيسى البصرة بالصبر بنقل حركة الراء إلى الباء لئلا يحتاج إلى أن يؤتى ببعض الحركة في الوقف ولا إلى أن يسكن فيجمع بين ساكنين وذلك لغة شائعة وليست بشاذة بل مستفيضة وذلك دلالة على الاعراب وانفصال من التاء الساكنين وتأدية حق الموقوف عليه من السكون انتهى ومن هذا كما في البحر قوله‏:‏ أنا جرير كنيتي أبو عمرو *** اضرب بالسيف وسعد في العصر

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقرى والعصر ونوائب الدهر إن الإنسان لفي خسر وانه لقيه إلى آخر الدهر وأخرج عبد بن حميد وابن أبي داود في المصاحف عن ميمون بن مهران أنه قرأ والعصر إن الإنسان لفي خسر وإنه لفيه إلى آخر الدهر إلا الذين آمنوا الخ وذكر انها قراءة ابن مسعود هذا واستدل بعض المعتزلة بما في هذه السورة على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأنه لم يستثن فيها عن الخسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الخ وأجيب عنه بأنهلا دلالة في ذلك على أكثر من كون غير المستثنى في خسر وأما على كونه مخلداً في النار فلا كيف والخسر عام فهو اما بالخلود ان مات كافراً وأما بالدخول في النار ان مات عاصياً ولم يغفروا ما بفوت الدرجات العاليات إن غفر وهو جواب حسن وللشيخ الماتريدي رحمه الله تعالى في التفصي عن ذلك تكلفات مذكورة في التأويلات فلا تغفل وفي السورة من الندب إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه ما لا يخفى‏.‏

‏[‏سورة الهمزة‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ‏}‏ تقدم الكلام على اعراب مثل هذه الجملة والهمز والكسر كالهمز واللمز الطعن كاللهز شاعا في الكسر من اعراض الناس والغض منهم واغتيابهم والطعن فيهم وأصل ذلك كان استعارة لأنه لا يتصور الكسر والطعن الحقيقيان في الأجسام فصار حقيقة عرفية ذلك وبناء فعلة يدل على الاعتياد فلا يقال ضحكة ولعنة إلا للمكثر المتعود قال زياد الأعجم‏.‏ إذا لقيتك عن شحط تكاشرني *** وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وجماعة عن ابن عباس أن سئل عن ذلك فقال هو المشاء بالنميمة المفرق بين الجمع المغري بين الإخوان وأخرج ابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهما عن مجاهد الهمزة الطعان في الناس واللمزة الطعان في الأنساب وأخرج عبد بن حميد عن أبي العالية الهمز في الوجه واللمز في الخلف وأخرج البيهقي في الشعب عن ابن جريج الهمز بالعين والشدق واليد واللمز باللسان وقيل غير ذلك وما تقدم أجمع‏.‏ وقرأ الباقر رضي الله تعالى عنه لكل همزة لمزة بسكون الميم فيهما على البناء الشائع في معنى المفعول وهو المسخرة الذي يأتي بالأضاحيك فيضحك منه ويشتم ويهمز ويلمز ونزل ذلك على ما أخرج بن أبي حاتم من طريق ابن إسحق عن عثمان بن عمر في أبي بن خلف وعلى ما أخرج عن السدى في أبي بن عمر والثقفي الشهير بالاخنس بن شريق فإنه كان متغتاباً كثير الوقعية وعلى ما قال ابن اسحق في أمية بن خلف الجمحي وكان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبه وعلى ما أخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد في جميل بن عامر وعلى ما قيل في الوليد بن المغيرة واغتيابه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وغضه منه وعلى قول في العاص بن وائل ويجوز أن يكون نازلاً في جميع من ذكر لكن استشكل نزولها في الأخنس بأنه على ما صححه ابن حجر في «الإصابة» أسلم وكان من المؤلفة قلوبهم فلا يتأتى الوعيد الآتي في حقه فاماً أن لا يصح ذلك أو لا يصح إسلامه وأيضاً استشكلت قراءة الباقر رضي الله تعالى عنه بناء على ما سمعت في معناها وكون الآية نازلة في الوليد بن المغيرة ونحوه من عظماء قريش وبه اندفع ما في التأويلات من أنه كيف عيب الكافر بهذين الفعلين مع أن فيه حالا أقبح منهما وهو الكفر وأما ما أجاب به من أن الكفر غير قبيح لنفسه بخلافهما فلا يخفى ضعفه لأن فوت الاعتقاد الصحيح أقبح من كل شيء قبيح وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏الذى جَمَعَ مَالاً‏}‏ بدل من ‏{‏كل‏}‏ بدل كل وقيل بدل بعض من كل وقال الجاربردي يجوز أن يكون صفة له لأنه معرفة على ما ذكره الزمخشري في قوله تعالى ‏{‏وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 21‏]‏ إذ جعل جملة معها سائق حالا من كل نفس لذلك ولا يخفى ما فيه ويجوز أن يكون منصوباً أو مرفوعاً على الذم وتنكير مالا للتفخيم والتكثير وقد كان عند القائلين إنها نزلت في الأخنس أربعة آلاف دينار وقيل عشرة آلاف وجوز أن يكون للتحقير والتقليل باعتبار أنه عند الله تعالى أقل وأحقر شيء وقرأ الحسن وأبو جعفر وابن عامر والاخوان جمع بشد الميم للتكثير وهو أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَدَّدَهُ‏}‏ أي عدة مرة بعد أخرى حباله وشغفا به وقيل جعله أصنافاً وأنواعاً كعقار ومتاع ونقود حكاه في التأويلات وقال غير واحد أي جعله عدة ومدخراً لنوائب الدهر ومصائبه وقرأ الحسن والكلبي وعدده بالتخفيف فقيل معناه وعده فهو فعل ماض فك إدغامه على خلاف القياس كما في قوله‏:‏

مهلا اعاذل هل جربت من خلقي *** إنى أجود لأقوام وان ضننوا

وقيل هو اسم بمعنى العدد المعروف معطوف على ماله أي جمع ماله وضبط عدده وأحصاه وليس ذلك على ما في الكشف من باب

علفتها تبنا وماء بارداً *** لأن جمع العدد عبارة عن ضبطه وإحصائه فلا يحتاج إلى تكلف وعلى الوجهين أيد بالقراءة المذكورة المعنى الأول لقراءة الجمهور وقيل هو اسم بمعنى الاتباع والأنصار يقال فلان ذو عدد وعدد إذا كان له عدد وافر من الأنصار وما يصلحهم وهو معطوف على ماله أيضاً أي جمع ماله وقومه الذين ينصرونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ‏}‏ جملة حالية أو استئنافية وأخلده وخلده بمعنى أي تركه خالذاً أي ما كثا مكثاً لا يتناهى أو مكثا طويلاً جداً والكلام من باب الاستعارة التمثيلية والمرادان المال طول أمله ومناه الأماني البعيدة فهو يعمل من تشييد البنيان وغرس الأشجار وكرى الأنهار ونحو ذلك عمل من يظن أنه ماله أبقاه حيا والاظهار في مقام الاضمار لزيادة التقرير والتعبير بالماضي للمبالغة في المعنى المراد وجوز أن يراد انه حاسب ذلك حقيقة لفرط غروره واشتغاله بالجمع والتكاثر عما امامه من قوارع الآخرة أو لزعمه إن الحياة والسلامة عن الأمراض والآفات تدور على مراعاة الأسباب الظاهرة وإن المال هو المحور لكرتها والملك المطاع في مدينتها وقيل المراد انه يحسب المال من المخلدات ولا نظر فيه إلى أن الخلود دنيوي أو أخروي ذكراً أو عيناً إنما النظر في إثباتا هذه الخاصة للمال والغرض منه التعريض بأن ثم مخلداً ينبغي للعاقل أن يكب عليه وهو السعي للآخرة وهو بعيد جداً ولذا لم يجعل بعض الأجلة التعريض وجهاً مستقلاً وزعم عصام الدين أنه يحتمل أن يكون فاعل أخلد الحاسب ومفعوله المال أن يظن أن يحفظ ماله أبداً ولا يعرف أنه مرعض للحوادث أو للمفارقة بالموت كما قيل بشر مال البخيل بحادث أو وارث وهو لعمري مما لا عصام له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع له عن ذلك الحسبان الباطل أو عنه وعن جمع المال وحبه المفرط على ما قيل واستظهر أنه ردع عن الهمز واللمز وتعقب بأنه بعيد لفظاً ومعنى وأنا لا أرى بأساً في كون ذلك ردعاً له عن كل ما تضمنته الجمل السابقة من الصفات القبيحة وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيُنبَذَنَّ‏}‏ جواب قسم مقدر والجملة استئناف مبين لعلة الردع أي والله ليطرحن بسبب أفعاله المذكورة ‏{‏فِى الحطمة‏}‏ أي في النار التي من شأنها أن تحطم كل من يلقي فيها وبناء فعلة لتنزيل الفعل لكونه طبيعياً منزلة المعتاد‏.‏ والحطم كسر الشيء كالهشم ثم استعمل لكل كسر متناه وأنشدوا‏:‏ انا حطمنا بالقضيب مصعبا *** يوم كسرنا أنفه ليغضبا

ويقال رجل حطمة أي أكول تشبيهاً له بالنار ولذا قيل في أكول‏.‏ كإنمافي جوفه تنور، وفسر الضحاك الحطمة هنا بالدرك الرابع من النار وقال الكلبي هي الطبقة السادسة من جهنم وحكى القشيري عنه أنها الدرك الثاني وقال الواحدي هي باب من أبواب جهنم وزعم أبو صالح انها النار التي في قبورهم وليس بشيء وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا الحطمة‏}‏ لتهويل أمرها ببيان انها ليست من الأمور التي تنالها عقول الخلق وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه والحسن بخلاف عنه وابن حيصن وحميد وهرون عن أبي عمرو ‏{‏لينبذان‏}‏ بضمير الاثنين العائد على الهمزة وماله وعن الحسن أيضاً لينبذن بضم الذال وحذف ضمير الجمع فقيل هو راجع لكل همزة باعتبار أنه متعدد وقيل له ولعدده أي اتباعه وانصاره بناء على ما سمعت في قراءته هناك وعن أبي عمرو لننبذنه بنون العظمة وهاء النصب ونون التأكيد وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنه في الحاطمة وما أدراك ما الحاطمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏نَارُ الله‏}‏ خبر مبتدأ محذوف والجملة لبيان شان المسؤول عنها أي هي نار الله ‏{‏الموقدة‏}‏ بأمر الله عز وجل وفي إضافتها إليه سبحانه ووصفها بالايقاد من تهويل ما لا مزيد عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

َطَّلِعُ عَلَى الافئدة‏}‏ أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها وتخصيصها بالذكر لما أن الفؤاد الطف ما في الجسد وأشده تالما بادنى أذى يمسه أو لأنه محل العقائد الزائغة والنيات الخبيثة والملكات القبيحة ومنشأ الأعمال السيئة فهو أنسب بما تقدم من جميع أجزاء الجسد وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب انه قال في الآية تأكل كل كل شيء منه حتى تنتهي إلى فؤاد فإذا بلغت فؤاده ابتدأ خلقه وجوز أن يراد الإطلاع العلمي والكلام على سبيل المجاز وذلك أنه لما كان لكل من المعذبين عذاب من النار على قدر ذنبه المتولد من صفات قلبه قيل اناه تطالع الأفئدة التي هي معادن الذنوب فتعلم ما فيها فتجازي كلا بحسب ما فيه من الصفة المقتضية للعذاب‏.‏ وأرباب الإشارة يقولون ان ما ذكر إشارة إلى العذاب الروحاني الذي هو أشد العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ‏}‏ أي مطبقة وتمام الكلام مر في سورة البلد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏فِى عَمَدٍ‏}‏ جمع عمود كما قال الراغب والفراء وقال أبو عبيدة جمع عماد وفي البحر وهو اسم جمع الواحد عمود وقرأ الإخوان وأبو بكر عمد بضمتين وهارون عن أبي عمرو بضم العين وسكون الميم وهو في القراءتين جمع عمود بلا خلاف وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّمَدَّدَةِ‏}‏ ضفة عمد في القراآت الثلاث أي طوال والجار والمجرور في موضع الحال من الضمير المجرور في عليهم أي كائنين في عمد ممددة أي موثقين فيها مثل المقطر وهي خشب أو جذوع كبار فيها خروق يوضع فيها أرجل المحبوسين من اللصوص ونحوهم أو خبر لمبتدأ محذوف أي هم كائنون في عمد موثقون فيها وهي والعياذ بالله تاعلى على ما روي عن ابن زيد عمد من حديد وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أنها من نار واستظهر بعضهم أن العمد تمدد على الأبواب بعد أن تؤصد عليهم تأكيداً ليأسهم واستيثاقاً في استيثاق وفي حديث طويل أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أبي هريرة مرفوعاً أن الله تعالى بعد أن يخرج من النار عصاة المؤمنين وأطولهم مكثا فيها من يمكث سبعة آلاف سنة يبعث عز وجل إلى أهل النار ملائكة باطباق من نار ومسامير من نار وعمد من نار فيطبق عليهم بتلك الأطباق ويشد بتلك المسامير وتمدد تلك العمد ولا يبقى فيها خلل يدخل فيه روح ولا يخرج منه غم وينساهم الجبار عز وجل على عرشه ويتشاغل أهل الجنة بنعيمهم ولا يستغيثون بعدها أبداً وينقطع الكلام فيكون كلامهم زفيراً وشهيقاً وفيه فذلك قوله تعالى إنها عليهم مؤصدة في عمد ممدة اللهم أجرنا من النار يا خير مستجار وعلى هذا يكون الجار والمجرور متعلقاً بمؤصدة حالا من الضمير فيها كما قال صاحب الكشف وحكان الطيبي وفي الإرشاد عن أبي البقاء أنه صفة لمؤصدة وقال بعض لا مانع عليه أن يكون صلة مؤصدة على معنى أن الأبواب أوصدت بالعمد وسدت بها وأيد بما أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال في الآية أدخلهم في عمد وتمددت عليهم في أعناقهم السلاسل فسدت بها الأبواب ثم أن ما ذكر لإشعاره بالخلود وأشدية العذاب يناسب كون المحدث عنهم كفاراً همزوا ولمزوا خير البشر صلى الله عليه وسلم وما تقدم من حمل العمد على المقاطر قيل يناسب العموم لأن المغتاب كأنه سارق من أعراض الناس فيناسب أن يعذب بالمقاطر كاللصوص فلا يلزم الخلود وقد يقال من تأمل في هذه السورة ظهر له العجب العجاب من التناسب فإنه لما بولغ في الوصف في قوله تعالى همزة لمزة قيل ‏{‏الحطمة‏}‏ للتعادل ولما أفاد ذلك كسر الأعراض قوبل بكسر الاضلاع المدلول عليه بالحطمة وجيء بالنبيذ المنبىء عن الاستحقار في مقابلة ما ظن الهامز اللامز بنفسه من الكرامة ولما كان منشأ جمع المال استيلاء حبه على القلب جيء في مقابله ‏{‏تطلع على الأفئدة‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 7‏]‏ ولما كان من شأن جامع المال المحب له أن ياصد عليه قيل في مقابله إنها عليهم مؤصدة ولما تضمن ذلك طول الأمل قيل في عمد ممددة وقد صرح بذلك بعض الأجلة فليتأمل والله تعالى أعلم‏.‏

‏[‏سورة الفيل‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بأصحاب الفيل‏}‏ الظاهر أن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والهمزة لتقرير رؤيته عليه الصلاة والسلام بإنكار عدمها وهي بصرية تجوز بها عن العلم على سبيل الاستعارة التبعية أو المجاز المرسل لأنها سببية ويجوز جعلها علمية من أول الأمر إلا أن ذاك أبلغ وعلمه صلى الله عليه وسلم بذلك لما أنه سمعه متواتراً وكيف في محل نصب على المصدرية بفعل والمعنى أي فعل فعل وقيل على الحالية من الفاعل والكيفية حقيقة للفعل لا بألم تر لمكان الاستفهام والجملة سادة مسد المفعولين لتر وجوز بعضهم نصب كيف بتر لانسلاخ معنى الاستفهام عنه كما في «شرح المفتاح» الشريفي وصرح أبو حيان بامتناعه لأنه يراعي صدارته إبقاء لحكم أصله وتعليق الرؤية بكيفية فعله تعالى شأنه لا بنفسه بأن يقال‏:‏ ألم تر ما فعل ربك الخ لتهويل الحادثة والإيذان بوقوعها على كيفية هائلة وهيئة عجيبة دالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته وغريبته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم فإن ذلك كما قال غير واحد من الإرهاصات لما روي أن القصة وقعت في السنة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم بن المنذر شيخ البخاري لا يشك في ذلك أحد من العلماء وعليه الإجماع وكل ما خالفه وهم أي من أنها كانت قبل بعشر سنين أو بخمس عشرة سنة أو بثلاث وعشرين سنة أو بثلاثين سنة أو بأربعين سنة أو بسبعين سنة الأقوال المذكورة في كتب السير وعلى الأول المرجح الذي عليه الجمهور قيل ولادته عليه الصلاة والسلام في اليوم الذي بعث الله تعالى فيه الطير على أصحاب الفيل من ذلك العام وهو المذكور في تاريخ ابن حبان وهو ظاهر قول ابن عباس ولد عليه الصلاة والسلام يوم الفيل وذهب السهيلي أنه صلى الله عليه وسلم ولد بعدها بخمسين يوماً وكانت في المحرم والولادة في شهر ربيع الأول وقال الحافظ الدمياطي بخمسة وخمسين يوماً وقيل بأربعين وقيل بشهر والمشهور ما ذهب إليه السهيلي وفي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبَّكَ‏}‏ نوع رمز إلى الإرهاص وكون ذلك لشرف البيت ودعوة الخليل عليه السلام لا ينافي الإرهاص وكذا لا ينافيه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديبية لما بركت ناقته وقال الناس‏:‏ خلأت أي حزنت ما خلأت ولكن حبسها حابس الفيل إذ لم يدع أن ما كان للإرهاص لا غير ومثل هذه العلل لا يضر تعددها ويؤيد الإرهاص قصة القرامطة وغيرهم وتفصيل القصة أن أبرهة الأشرم بن الصباح الحبشي كما قال ابن إسحاق وغيره وهو الذي يكنى بأبي يكسوم بالسين المهملة ولا يأباه التسمية بأبرهة بناءً على أن معناه بالحبشة الأبيض الوجه كما لا يخفى وقيل أنه الحميري خرج على ارباط ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي بكسر النون بعد سنتين من سلطانه فتبارزا وقد أرصد الأشرم خلفه غلامه عتورة فحمل عليه أرباط بحربة فضربه يريد يافوخه فوقعت على جبهته فشرمت حاجبه وأنفه وعينه وشفته ولذا سمي الأشرم فحمل عتورة من خلف أبرهة فقتله وملك مكانه فغضب النجاشي فاسترضاه فرضي فأثبته ثم أنه بنى بصنعاء كنيسة لم ير مثلها في زمانها سماها القليس بقاف مضمومة ولام مفتوحة مشددة كما في ديوان الأدب أو مخففة كما قيل وبعدها ياء مثناة سفلية ثم سين مهملة وكان ينقل إليها الرخام المجزع والحجارة المنقوشة بالذهب على ما يقال من قصر بلقيس زوج سليمان عليه السلام وكتب إلى النجاشي إنني قد بنيت لك أيها الملك كنيسة لم يبن مثلها قبلك ولست بمنته حتى أصرف إليها حجر العرب فلما تحدثت العرب بكتابه ذلك غضب رجل من النساءة أحد بني فقيم بن عدي من كنانة فخرج حتى أتاها فقعد فيها أي أحدث ولطخ قبلتها بحدثه ثم خرج ولحق بأرضه فأخبر أبرهة فقال من صنع هذا فقيل رجل من أهل هذا البيت الذي تحج إليه العرب بمكة غضب لما سمع قولك اصرف إليها حج العرب ففعل ذلك فاستشاط أبرهة غضباً وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه وقيل أججت رفقة من العرب ناراً حولها فحملتها الريح فأحرقتها فغضب لذلك فأمر الحبشة فتهيأت وتجهزت فخرج في ستين ألفاً على ما قيل منهم ومعه فيل اسمه محمود وكان قوياً عظيماً واثنا عشر فيلاً غيره وقيل ثمانية وروي ذلك عن الضحاك وقيل ألف فيل وقيل معه محمود فقط وهو قول الأكثرين الأوفق بظاهر الآية فسمعت العرب بذلك فأعظموه وقلقوا به ورأوا جهاده حقاً عليهم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر بمن أطاعه من قومه وسائر العرب فقاتله فهزم وأخذ أسيراً فأراد قتله فقال أيها الملك لا تقتلني فعسى أن يكون بقائي معك خيراً لك من قتلي فتركه وحبسه عنده حتى إذا كان بأرض خثعم عرض له نفيل بن حبيب الخثعمي بمن معه من قومه وغيرهم فقاتله فهزم وأخذ أسيراً فهم بقتله فقال نحو ما سبق فخلى سبيله وخرج به يدله حتى إذا مر بالطائف خرج إليه مسعود بن معيب بن مالك الثقفي في رجال من ثقيف فقال له أيها الملك إنما نحن عبيدك سماعون لك مطيعون ليس لك عندنا خلاف وليس بيتنا هذا الذي تريد يعنون بيت اللات إنما تريد البيت الذي بمكة ونحن نبعث معك من يدلك عليه فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال فخرج ومعه أبو رغال حتى أنزله المغمس كمعظم موضع بطريق الطائف معروف فلما نزله مات أبو رغال ودفن هناك فرجمت قبره العرب كما قال ابن إسحاق وقيل القبر الذي هناك لأبي رغال رجل من ثمود وهو أبو ثقيف كان بالحرم يدفع عنه فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بالمغمس فدفن فيه واختاره صاحب القاموس ذاكراً فيه حديثاً رواه أبو داود في سننه وغيره عن ابن عمر مرفوعاً وقال فيما تقدم بعد نقله عن الجوهري ليس بجيد وجمع بعض بجواز أن يكون قبران لرجلين كل منهما أبو رغال ثم أن أبرهة بعث وهو بالمغمس رجلاً من الحبشة يقال له الأسود بن مقصور حتى انتهى إلى مكة فساق أموال أهل تهامة من قريش وغيرهم وأصاب فيها مائتي بعير وقيل أربعمائة بعير لعبد المطلب وكان يومئذٍ سيد قريش فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بالحرم بحربه فعرفوا أن لا طاقة لهم به فكفوا وبعث أبرهة حياطة الحميري إلى مكة وقال قل لسيد أهل هذا البلد أن الملك يقول‏:‏ إني لم آت لحربكم إنما جئت لهدم هذا البيت فإن لم تعرضوا دونه بحرب فلا حاجة لي بدمائكم فإن هو لم يرد حربي فإنني به فلما دخل حياطة دل على عبد المطلب فقال له ما أمر به فقال عبد المطلب والله ما نريد حربه وما لنا به طاقة هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه وأن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه ثم انطلق معه عبد المطلب ومعه بعض بنيه حتى أتى العسكر فسأل عن ذي نفر وكان صديقه فدخل عليه فقال له هل عندك من غناء فيما نزل بنا فقال وما غناء رجل أسير بيدي ملك ينتظر أن يقتله غدواً وعشياً ما عندي غناءً في شيء مما نزل بك إلا أن أنيساً سائس الفيل سأرسل إليه فأوصيه بك وأعظم عليه حقك وأسأله أن يستأذن لك على الملك فتكلمه بما بدا لك ويشفع لك عنده بخير إن قدر على ذلك فقال حسبي فبعث إليه فقال له‏:‏ إن عبد المطلب سيد قريش وصاحب عين مكة ويطعم الناس بالسهل والوحوش في رؤوس الجبال وقد أصاب الملك له مائتي بعير فاستأذن له عليه وأنفعه عنده بما استطعت فقال افعل فكلم أبرهة ووصف عبد المطلب بما وصفه به ذو نفر فأذن له وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم فلما رآه أكرمه عن أن يجلس تحته وكره أن تراه الحبشة يجلسه معه على سرير ملكه فنزل عن سريره فجلى على بساطه وأجلسه معه عليه إلى جنبه والقول بأنه أعظمه لما رأى من نور النبوة الذي كان في وجهه ضعيف لما فيه من الدلالة على كون القصة قبل ولادة عبد الله وهو خلاف ما علمت من القول المرجح اللهم إلا أن يقال أنه تجلى فيه ذلك النور وإن كان قد انتقل ثم قال لترجمانه قل له ما حاجتك فقال حاجتي أن يرد علي الملك إبلي فقال أبرهة لترجمانه‏:‏ قل له قد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم قد زهدت فيك حين كلمتني في مائتي بعير أصبتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه فلا تكلمني فيه فقال عبد المطلب‏:‏ إني رب الإبل وإن للبيت رباً سيمنعه قال ما كان ليمنع مني قال أنت وذاك، وفي رواية أنه دخل عليه مع عبد المطلب ثقانة بن عدي سيد بني بكر وخويلد بن واثلة سيد هذيل فعرضا عليه ثلث أموال أهل تهامة على أن يرجع ولا يهدم البيت فأبى فرد الإبل على عبد المطلب فانصرف إلى قريش فأخبرهم الخبر فتحرزوا في شعف الجبال تخوفاً من معرة الجيش ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة ومعه نفر من قريش يدعون الله عز وجل ويستنصرونه فقال وهو آخذ بالحلقة‏:‏

لا هم أن المرء يم *** نع رحله فامنع حلالك

وانصر على آل الصلي *** بـ وعابديه اليوم آلك

لا يغلبن صليبهم *** ومحالهم غدوا محالك

جروا جموع بلادهم *** والفيل كي يسبوا عيالك

عمدوا حماك بكيدهم *** جهلاً وما رقبوا جلالك

إن كنت تاركهم وكعب *** تنا فأمر ما بدا لك

وقال أيضاً‏:‏

يا رب لا أرجو لهم سواكا *** يا رب فامنع عنهم حماكا

أن عدو البيت من عادا كا *** امنعهم أن يخربوا فناكا

ثم أرسل الحلقة وانطلق هو ومن معه إلى شعف الجبال ينتظرون ما أبرهة فاعل بمكة إذا دخلها فلما أصبح تهيأ للدخول وعبى جيشه وهيأ الفيل فلما وجهوه إلى مكة أقبل نفيل بن جبيب حتى قام إلى جنبه فأخذ بإذنه فقال ابرك محمود وارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ثم أرسل إذن فبرك أي سقط وخرج نفيل يشتد حتى أصعد في الجبل فضربوا الفيل وأوجعوه ليقوم فأبى ووجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول إلى الشام ففعل مثل ذلك فوجهوه إلى مكة فبرك فسقوه الخمر ليذهب تمييزه فلم ينجع ذلك وقيل إن عبد المطلب هو الذي عرك أذنه وقال له ما ذكر وكان ذلك عند وادي محسر وأرسل الله تعالى طيراً من البحر قيل سوداً وقيل خضراً وقيل بيضاً مثل الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحمص والعدس لا تصيب أحداً منهم إلا هلك ويروى أنه يلقيها على رأس أحدهم فتخرج من دبره ويتساقط لحمه فخرجوا هاربين يبتدرون الطريق الذي منه جاؤا يسألون عن نفيل ليدلهم على الطريق إلى اليمن فقال نفيل حين رأى ما نزل بهم‏:‏

أين المفر والاله الطالب *** والأشرم المغلوب ليس الغالب

وقال أيضاً‏:‏

ألا حييت عنا يا ردينا *** نعمناكم عن الإصباح عينا

ردينة لو رأيت ولا تريه *** لدى جنب المحصب ما رأينا

إذا لعذرتني وحمدت أمري *** ولا تأسى على ما فات بينا

فكل القوم تسأل عن نفيل *** كأن عليه للحبشان دينا

وجعلوا يتساقطون بكل طريق ويهلكون في كل منهل وأصيب أبرهة في جسده وخرجوا به معهم تسقط أنملة أنملة كلما سقطت أنملة تبعها منه مدة ثم دم وقيح حتى قدموا به صنعاء وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وقد أشار إلى ذلك ابن الزبعرى بقوله من أبيات يذكر فيها مكة‏:‏

سائل أمير الحبش عنا ما ترى *** ولسوف يلبي الجاهلين عليمها

ستون ألفاً لم يؤبوا أرضهم *** بل لم يعش بعد الإياب سقيمها

ولهم في ذلك شعر كثير ذكر ابن هشام جملة منه في سيره وفيها أن الطير لم تصب كلهم وذكر بعضهم أنه لم ينج منهم غير واحد دخل على النجاشي فأخبره الخبر والطير على رأسه فلما فرغ ألقى عليه الحجر فخرقت البناء ونزلت على رأسه فألحقته بهم وقيل إن سائس الفيل وقائده تخلفاً في مكة فسلما فعن عائشة أنها قالت‏:‏ أدركت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان الناس وعن عكرمة أن من أصابه الحجر جدرته وهو أول جدري ظهر أي بأرض العرب فعن يعقوب بن عتبة أنه حدث أن أول ما رؤيت الحصبة والجدري بأرض العرب ذلك العام وأنه أول ما رؤي بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشر ذلك العام أيضاً ويروى أن عبد المطلب لما ذهب إلى شعف الجبال بمن معه بقي ينتظر ما يفعل القوم وما يفعل بهم فلما أصبح بعث أحد أولاده على فرس له سريع ينظر ما لقوا فذهب فإذا القوم مشدخين جميعاً فرجع رافعاً رأسه كاشفاً عن فخذه فلما رأى ذلك أبوه قال ألا إن ابني أفرس العرب وما كشف عن عورته إلا بشيراً أو نذيراً فلما دنا من ناديهم قالوا ما وراءك قال هلكوا جميعاً فخرج عبد المطلب وأصحابه إليهم فأخذوا أموالهم وقال عبد المطلب‏:‏

أنت منعت الحبش والافيالا *** وقد رعوا بمكة الاحبالا

وقد خشينا منهم القتالا *** وكل أمر منهم معضالا

شكراً وحمداً لك ذا الجلالا *** هذا ومن أراد استيفاء القصة على أتم مما ذكر فعليه بمطولات كتب السير وقرأ السلمي ألم تر بسكون الراء جداً في إظهار أثر الجازم لأن جزمه بحذف آخره فإسكان ما قبل الآخر للاجتهاد في إظهار أثر الجازم قيل والسر فيه هنا الإسراع إلى ذكر ما يهم من الدلالة على أمر الألوهية والنبوة أو الإشارة إلى الحث في الإسراع بالرؤية إيماءً إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر من لم يسارع إلى رؤيته لم يدركه حق إدراكه وتعقب هذا بأن تقليل البنية يدل على قلة المعنى وهو الرؤية لا على قلة زمانه وقيل لعل السر فيه الرمز من أول الأمر إلى كثرة الحذف في أولئك القوم فتدبر وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِى تَضْلِيلٍ‏}‏ الخ بيان إجمالي لما فعل الله تعالى بهم والهمزة للتقرير كما سبق ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها كأنه قيل قد جعل كيدهم في تعطيل الكعبة وتخريبها وصرف شرف أهلها لهم في تضييع وإبطال بأن دمرهم أشنع تدمير وأصل التضليل من ضل عنه إذا ضاع فاستعير هنا للإبطال ومنه قيل لامرىء القيس الضليل لأنه ضلل ملك أبيه وضيعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ‏}‏ أي جماعات جمع إبالة بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة وحكى الفراء إبالة مخففاً وهي حزمة الحطب الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها وتستعمل أيضاً في غيرها ومنه قوله‏:‏ كادت تهد من الأصوات راحلتي *** إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

وقيل واحده إبول مثل عجول وقيل إبيل مثل سكين وقيل أبال وقال أبو عبيدة والفراء لا واحد له من لفظه كعباديد الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه والشماطيط القطع المتفرقة وجاءت هذه الطير على ما روي عن جمع من جهة البحر ولم تكن نجدية ولا تهامية ولا حجازية وزعم بعض أن حمام الحرم من نسلها ولا يصح ذلك ومثله ما نقل عن حياة الحيوان من أنها تعشش وتفرخ بين السماء والأرض وقد تقدم الخلاف في لونها وعن عكرمة كأن وجهوها مثل وجوه السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ‏}‏ صفة أخرى لطير وعبر بالمضارع لحكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة وقرأ أبو حنيفة وأبو يعمر وعيسى وطلحة في رواية يرميهم بالياء التحتية والضمير المستتر للطير أيضاً والتذكير لأنه اسم جمع وهو على ما حكى الخفاجي لازم التذكير فتأنيثه لتأويله بالجماعة وقيل يجوز الأمران وهو ظاهر كلام أبي حيان وقيل الضمير عائد على ‏{‏ربك‏}‏ وليس بذاك ونسبة القراءة المذكورة لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه حكاها في «البحر» وعن صاحب النشر أنه رضي الله تعالى عنه لا قراءة له وأن القراآت المنسوبة له موضوعة ‏{‏مّن سِجّيلٍ‏}‏ صفة حجارة أي كائنة من طين متحجر معرب سنك كل وقيل هو عربي من السجل بالكسر وهو الدلو الكبيرة ومعنى كون الحجارة من الدلو أنها متتابعة كثيرة كالماء الذي يصب من الدلو ففيه استعارة مكنية وتخييلية وقيل من الاسجال بمعنى الإرسال والمعنى من مثل شيء مرسل ومن في جميع ذلك ابتدائية وقيل من السجل وهو الكتاب أخذ منه السجين وجعل علماً للديوان الذي كتب فيه عذاب الكفار والمعنى من جملة العذاب المكتوب المدون فمن تبعيضية واختلف في حجم تلك الطير وكذا في حجم تلك الحجارة فمن أنها مثل الخطاطيف وأن الحجارة أمثال الحمص والعدس وأخرج أبو نعيم عن نوفل بن أبي معاوية الديلمي أنه قال رأيت الحصى التي رمى بها أصحاب الفيل حصى مثل الحمص وأكبر من العدس حمر بحتمة كأنها جزع ظفار وأخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس أنه قال حجارة مثل البندق وفي رواية ابن مردويه عنه مثل بعر الغنم وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن عبيد بن عمير أنه قال في الآية هي طير خرجت من قبلة البحر كأنها رجال السند معها حجارة أمثال الإبل الوارك وأصغرها مثل رؤوس الرجال لا تريد أحداً منهم إلا أصابته ولا أصابته إلا قتلته والمعول عليه أن الطير في الحجم كالخطاطيف وأن الحجارة منها ما هو كالحمصة ودوينها وفويقها وروى ابن مردويه وأبو نعيم عن أبي صالح أنه مكتوب على الحجر اسم من رمى به واسم أبيه وأنه رأى ذلك عند أم هانىء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولِ‏}‏ كورق زرع وقع فيه الأكال وهو أن يأكله الدود أو أكل حبه فبقي صفراً منه والكلام على هذا على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه أو على الإسناد المجازي والتشبيه بذلك لذهاب أرواحهم وبقاء أجسادهم أو لأن الحجر بحرارته يحرق أجوافهم وذهب غير واحد إلى أن المعنى كتبن أكلته الدواب وراثته والمراد كروث إلا أنه لم يذكر بهذا اللفظ لهجنته فجاء على الآداب القرآنية فشبه تقطع أوصالهم بتفرق أجزاء الروث ففيه إظهار تشويه حالهم وقيل المعنى كتبن تأكله الدواب وتروثه والمراد جعلهم في حكم التبن الذي لا يمنع عنه الدواب أي مبتذلين ضائعين لا يلتفت إليهم أحد ولا يجمعهم ولا يدفنهم كتبن في الصحراء تفعل به الدواب ما شاءت لعدم حافظ له إلا أنه وضع مأكول موضع أكلته الدواب لحكاية الماضي في صورة الحال وهو كما ترى وكأنه لما أن مجيئهم لهدم الكعبة ناسب إهلاكهم بالحجارة ولما أن الذي أثار غضبهم عذرة الكناني شبههم فيما فعل سبحانه بهم على القول الأخير بالروث أو لما أن الذي أثاره احتراقها بما حملته الريح من نار العرب على ما سمعت شبههم عز وجل فيما فعل جل شأنه بهم بعصف أكل حبه على ما أشرنا إليه أخيراً وقرأ أبو الدرداء فيما نقل ابن خالويه مأكول بفتح الهمزة اتباعاً لحركة الميم وهو شاذ وهذا كما أتبعوا في قولهم محموم الحاء لحركة الميم والله تعالى أعلم‏.‏