فصل: تفسير الآية رقم (108)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏تِلْكَ آَيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏

‏{‏تِلْكَ‏}‏ أي التي مرّ ذكرها وعظم قدرها ‏{‏ءايات الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ‏}‏ أي نقرؤها شيئاً فشيئاً، وإسناد ذلك إليه تعالى مجاز إذ التالي جبريل عليه السلام بأمره سبحانه وتعالى وفي عدوله عن الحقيقة مع الالتفات إلى التكلم بنون العظمة ما لا يخفى من العناية بالتلاوة والمتلو عليه، والجملة الفعلية في موضع الحال من الآيات والعامل فيها معنى الإشارة‏.‏ وجوز أن تكون في موضع الخبر لتلك، و‏{‏ءايات‏}‏ بدل منه، وقرىء ‏{‏يتلوها‏}‏ على صيغة الغيبة‏.‏ ‏{‏ءادَمَ بالحق‏}‏ أي متلبسة أو متلبسين بالصدق أو بالعدل في جميع ما دلت عليه تلك الآيات ونطقت به فالظرف في موضع الحال المؤكدة من الفاعل أو المفعول‏.‏

‏{‏وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً للعالمين‏}‏ بأن يحلهم من العقاب ما لا يستحقونه عدلاً أو ينقصهم من الثواب عما استحقوه فضلاً، والجملة مقررة لمضمون ما قبلها على أتم وجه حيث نكر ‏{‏ظُلْماً‏}‏ ووجه النفي إلى إرادته بصيغة المضارع المفيد بمعونة المقام دوام الانتفاء، وعلق الحكم بآحاد الجمع المعرف والتفت إلى الاسم الجليل؛ والظلم وضع الشيء في غير موضعه اللائق به أو ترك الواجب وهو يستحيل عليه تعالى للأدلة القائمة على ذلك ونفي الشيء لا يقتضي إمكانه فقد ينفى المستحيل كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏ 3‏]‏، وقيل‏:‏ الظاهر أن المراد أن الله لا يريد ما هو ظلم من العباد فيما بينهم لا أن كل ما يفعل ليس ظلماً منه لأن المقام مقام بيان أنه لا يضيع أجر المحسنين ولا يهمل الكافر ويجازيه بكفره، ولو كان المراد أن كل ما يفعل ليس ظلماً لا يستفاد هذا، وفيه ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏109‏)‏‏}‏

‏{‏وَللَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الارض‏}‏ أي له سبحانه وحده ما فيهما من المخلوقات ملكاً وخلقاً وتصرفاً والتعبير بما للتغليب أو للإيذان بأن غير العقلاء بالنسبة إلى عظمته كغيرهم ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور‏}‏ أي أمورهم فيجازي كلاًّ بما تقتضيه الحكمة من الثواب والعقاب، وتقديم الجار للحصر أي إلى حكم الله تعالى وقضائه لا إلى غيره شركة أو استقلالاً، والجملة مقررة لمضمون ما ورد في جزاء الفريقين، وقيل‏:‏ معطوفة على ما قبلها مقررة لمضمونه والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة، وقرأ يحيى بن وثاب ‏(‏ترجع‏)‏ بفتح التاء وكسر الجيم في جميع القرآن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏110‏]‏

‏{‏كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آَمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏110‏)‏‏}‏

‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏ كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير كذا قيل، وقيل‏:‏ هو من تتمة الخطاب الأول في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ وتوالت بعد هذا خطابات المؤمنين من أوامر ونواهي واستطرد بين ذلك من يبيض وجهه ومن يسود وشيء من أحوالهم في الآخرة، ثم عاد إلى الخطاب الأول تحريضاً على الانقياد والطواعية وكان ناقصة ولا دلالة لها في الأصل على غير الوجود في الماضي من غير دلالة على انقطاع أو دوام، وقد تستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى نحو ‏{‏وَكَانَ الله بِكُلّ شَىْء عَلِيماً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 40‏]‏ وقد تستعمل للزوم الشيء وعدم انفكاكه نحو ‏{‏وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَىء جَدَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 54‏]‏، وذهب بعض النحاة إلى أنها تدل بحسب الوضع على الانقطاع كغيرها من الأفعال الناقصة والمصحح هو الأول وعليه لا تشعر الآية بكون المخاطبين ليسوا خير أمة الآن، وقيل‏:‏ المراد كنتم في علم الله تعالى أو في اللوح المحفوظ أو فيما بين الأمم أي في علمهم كذلك، وقال الحسن‏:‏ معناه أنتم خير أمة، واعترض بأنه يستدعي زيادة كان وهي لا تزاد في أول الجملة‏.‏

‏{‏أُخْرِجَتْ‏}‏ أي أظهرت وحذف الفاعل للعلم به ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ متعلق بما عنده، وقيل‏:‏ بخير أمة، وجملة أخرجت صفة لأمة وقيل‏:‏ لخير، والأول أولى، والخطاب قيل‏:‏ لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وإليه ذهب الضحاك، وقيل‏:‏ للمهاجرين من بينهم وهو أحد خبرين عن ابن عباس، وفي آخر أنه عام لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما أخرجه الإمام أحمد بسند حسن عن أبي الحسن كرم الله تعالى وجهه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أعطيت ما لم يعط أحد من الأنبياء نصرت بالرعب وأعطيت مفاتيح الأرض وسميت أحمد وجعل التراب لي طهوراً وجعلت أمتي خير الأمم ‏"‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الآية في أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، وأخرج ابن جرير عن عكرمة أنها نزلت في ابن مسعود وعمار بن ياسر وسالم مولى أبي حذيفة وأبيّ بن كعب ومعاذ بن جبل، والظاهر أن الخطاب وإن كان خاصاً بمن شاهد الوحي من المؤمنين أو ببعضهم لكن حكمه يصلح أن يكون عاماً للكل كما يشير إليه قول عمر رضي الله تعالى عنه فيما حكى قتادة «يا أيها الناس من سره أن يكون من تلكم الأمة فليؤد شرط الله تعالى منها» وأشار بذلك إلى قوله سبحانه‏.‏

‏{‏تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ فإنه وإن كان استئنافاً مبيناً لكونهم خير أمة أو صفة ثانية لأمة على ما قيل إلا أنه يفهم الشرطية والمتبادر من المعروف الطاعات ومن المنكر المعاصي التي أنكرها الشرع‏.‏ وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس في الآية أن المعنى تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقرّوا بما أنزل الله تعالى وتقاتلونهم عليهم ولا إله إلا الله هو أعظم المعروف وتنهونهم عن المنكر والمنكر هو التكذيب وهو أنكر المنكر وكأنه رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على الفرد الكامل وإلا فلا قرينة على هذا التخصيص‏.‏

‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بالله‏}‏ أريد بالإيمان به سبحانه الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لأن الإيمان إنما يعتد به ويستأهل أن يقال له إيمان إذا آمن بالله تعالى على الحقيقة وحقيقة الإيمان بالله تعالى أن يستوعب جميع ما يجب الإيمان به فلو أخل بشيء منه لم يكن من الإيمان بالله تعالى في شيء، والمقام يقتضيه لكونه تعريضاً بأهل الكتاب وأنهم لا يؤمنون بجميع ما يجب الإيمان به كما يشعر بذلك التعقيب بنفي الإيمان عنهم مع العلم بأنهم مؤمنون في الجملة وأيضاً المقام مقام مدح للمؤمنين بكونهم خير أمة أخرجت للناس وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها المعلل للخيرية فلو لم يرد الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به لم يكن مدحاً فلا يصلح للتعليل والعطف يقتضيه وإنما أخر الإيمان عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع تقدمه عليهما وجوداً ورتبة كما هو الظاهر لأن الإيمان مشترك بين جميع الأمم دون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما أظهر في الدلالة على الخيرية، ويجوز أن يقال قدمهما عليه للاهتمام وكون سوق الكلام لأجلهما، وأما ذكره فكالتتميم، ويجوز أيضاً أن يكون ذلك للتنبيه على أن جدوى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين أظهر مما اشتمل عليه الإيمان بالله تعالى لأنه من وظيفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولو قيل قدما وأخر للاهتمام وليرتبط بقوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ لم يبعد أي لو آمنوا إيماناً كما ينبغي لكان ذلك الإيمان خيراً لهم مما هم عليه من الرياسة في الدنيا لدفع القتل والذل عنهم، والآخرة لدفع العذاب المقيم، وقيل‏:‏ لو آمن أهل الكتاب بمحمد صلى الله عليه وسلم لكان خيراً لهم من الإيمان بموسى وعيسى فقط عليهما السلام، وقيل‏:‏ المفضل عليه ما هم فيه من الكفر فالخيرية إنما هي باعتبار زعمهم، وفيه ضرب تهكم بهم وهذه الجملة معطوفة على ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏ مرتبطة بها على معنى ولو آمن أهل الكتاب كما آمنتم وأمروا بالمعروف كما أمرتم ونهوا عن المنكر كما نهيتم لكان خيراً لهم‏.‏

‏{‏مّنْهُمُ المؤمنون‏}‏ كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن شعبة‏.‏ ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون‏}‏ أي الخارجون عن طاعة الله تعالى وعبر عن الكفر بالفسق إيذاناً بأنهم خرجوا عما أوجبه كتابهم، وقيل‏:‏ للإشارة إلى أنهم في الكفار بمنزلة الكفار في العصاة لخروجهم إلى الحال الفاحشة التي هي منهم أشنع وأفظع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏111‏]‏

‏{‏لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ ‏(‏111‏)‏‏}‏

‏{‏لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى‏}‏ استثناء متصل لأن الأذى بمعنى الضرر اليسير كما يشهد به مواقع الاستعمال فكأنه قيل‏:‏ لن يضروكم ضرراً مّا إلا ضرراً يسيراً، وقيل‏:‏ إنه منقطع لأن الأذى ليس بضرر وفيه نظر‏.‏ والآية كما قال مقاتل‏:‏ نزلت لما عمد رؤساء اليهود مثل كعب وأبي رافع وأبي ياسر وكنانة وابن صوريا إلى مؤمنيهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وآذوهم لإسلامهم وكان إيذاءاً قولياً على ما يفهمه كلام قتادة وغيره، وكان ذلك الافتراء على الله تعالى كما قاله الحسن‏.‏

‏{‏وَإِن يقاتلوكم يُوَلُّوكُمُ الادبار‏}‏ أي ينهزموا من غير أن يظفروا منكم بشيء، وتولية الأدبار كناية عن الانهزام معروفة‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ عطف على جملة الشرط والجزاء، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ للترتيب والتراخي الإخباري أي لا يكن لهم نصر من أحد ثم عاقبتهم العجز والخذلان إن قاتلوكم أو لم يقاتلوكم‏.‏ وفيه تثبيت للمؤمنين على أتم وجه‏.‏ وقرىء ‏(‏ثم لا ينصروا‏)‏ والجملة حينئذٍ معطوفة على جزاء الشرط، وثم للتراخي في الرتبة بين الخبرين لا في الزمان لمقارنته، وجوز بعضهم كونها للتراخي في الزمان على القراءتين بناءاً على اعتباره بين المعطوف عليه وآخر أجزاء المعطوف، وقراءة الرفع أبلغ لخلوها عن القيد‏.‏

وفي هذه الآية دلالة واضحة على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ولكونها من الإخبار بالغيب الذي وافقه الواقع لأن يهود بني قينقاع وبني قريظة والنضير ويهود خيبر حاربوا المسلمين ولم يثبتوا ولم ينالوا شيئاً منهم ولم تخفق لهم بعد ذلك راية ولم يستقم أمر ولم ينهضوا بجناح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة‏}‏ أي ذلة هدر النفس والمال والأهل، وقيل‏:‏ ذلة التمسك بالباطل وإعطاء الجزية، قال الحسن‏:‏ أذلهم الله تعالى فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين وهذا من ضرب الخيام والقباب كما قاله أبو مسلم، قيل‏:‏ ففيه استعارة مكنية تخييلية، وقد يشبه إحاطة الذلة واشتمالها عليهم بذلك على وجه الاستعارة التبعية، وقيل‏:‏ هو من قولهم‏:‏ ضرب فلان الضريبة على عبده أي ألزمها إياه فالمعنى ألزموا الذلة وثبتت فيهم فلا خلاص لهم منها ‏{‏أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ‏}‏ أي وجدوا، وقيل‏:‏ أخذوا وظفر بهم، و‏{‏أَيْنَمَا‏}‏ شرط، وما زائدة وثقفوا في موضع جزم وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله أو هو بنفسه على رأي ‏{‏إِلاَّ بِحَبْلٍ مّنْ الله وَحَبْلٍ مّنَ الناس‏}‏ استثناء مفرغ من أعم الأحوال، والمعنى على النفي أي لا يسلمون من الذلة في حال من الأحوال إلا في حال أن يكونوا معتصمين بذمة الله تعالى أو كتابه الذي أتاهم وذمة المسلمين فإنهم بذلك يسلمون من القتل والأسر وسبي الذراري واستئصال الأموال‏.‏ وقيل‏:‏ أي إلا في حال أن يكونوا متلبسين بالإسلام واتباع سبيل المؤمنين فإنهم حينئذٍ يرتفع عنهم ذل التمسك والإعطاء ‏{‏وَبَاءوا بِغَضَبٍ مّنَ الله‏}‏ أي رجعوا به وهو كناية عن استحقاقهم له واستيجابهم إياه من قولهم باء فلان بفلان إذا صار حقيقاً أن يقتل به، فالمراد صاروا أحقاء بغضبه سبحانه والتنوين للتفخيم والوصف مؤكد لذلك ‏{‏وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة‏}‏ فهم في الغالب مساكين وقلما يوجد يهودي يظهر الغنى‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي المذكور من المذكورات ‏{‏بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بآيات الله‏}‏ الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَيَقْتُلُونَ الانبياء بِغَيْرِ حَقّ‏}‏ أصلاً، ونسبة القتل إليهم مع أنه فعل أسلافهم على نحو ما مر غير مرة ‏{‏ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ إشارة إلى كفرهم وقتلهم الأنبياء عليهم السلام على ما يقتضيه القرب فلا تكرار، وقيل‏:‏ معناه أن ضرب الذلة وما يليه كما هو معلل بكفرهم وقتلهم فهو معلل بعصيانهم واعتدائهم، والتعبير بصيغة الماضي والمضارع لما مر‏.‏

ثم إن جملة ‏{‏مّنْهُمُ المؤمنون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ وكذا جملة ‏{‏لَن يَضُرُّوكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 111‏]‏ وما عطف عليها واردتان على سبيل الاستطراد ولذا لم يعطفا على الجملة الشرطية قبلهما وإنما لم يعطف الاستطراد الثاني على الأول لتباعدهما وكون كل منهما نوعاً من الكلام، وقال بعض المحققين‏:‏ إن هاتين الجملتين مع ما بعدهما مرتبط بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ ءامَنَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ مبين له، فقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ عمبين لذلك باعتبار أن المفروض إيمان الجميع، وإلا فبعضهم مؤمنون رفعاً لسوء الظن بالبعض، وقوله عز شأنه‏:‏

‏{‏لَن يَضُرُّوكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 111‏]‏ بيان لما هو خير لهم وهو أنهم لعدم إيمانهم مبتلون بمشقة التدبير لإضراركم وبالحزن على الخيبة وتدبير الغلبة عليكم بالمقابلة والغلبة لكم وفي طلب الرياسة بمخالفتكم وضرب الله تعالى عليهم الذلة لتلك المخالفة وفي طلب المال بأخذ الرشوة بتحريف كتابهم وضرب الله عليهم المسكنة، ولو آمنوا لنجوا من جميع ذلك انتهى ولا يخفى أن هذا على تقدير قبوله وتحمل بعده لا يأبى القول بالاستطراد لأنه أن يذكر في أثناء الكلام ما يناسبه وليس السياق له، وإنما يأبى الاعتراض ولا نقول به فتأمل‏.‏

هذا ومن باب الإشارة‏:‏ ‏{‏لَن تَنَالُواْ البر‏}‏ الذي هو القرب من الله ‏{‏حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ أي بعضه، والإشارة به إلى النفس فإنها إذا أنفقت في سبيل الله زال الحجاب الأعظم وهان إنفاق كل بعدها ‏{‏وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَىْء فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 92‏]‏ فينبغي تحرّي ما يرضيه، ويحكى عن بعضهم أنه قال‏:‏ المنفقون على أقسام‏:‏ فمنهم من ينفق على ملاحظة الجزاء والعوض ومنهم من ينفق على مراقبة رفع البلاء والمحن ومنهم من ينفق اكتفاءاً بعلمه ولله تعالى در من قال‏:‏

ويهتز للمعروف في طلب العلا *** لتذكر يوماً عند سلمى شمائله

‏{‏كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لّبَنِى إسراءيل إِلاَّ مَا حَرَّمَ إسراءيل على نَفْسِهِ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 93‏]‏ قيل‏:‏ فائدة الإخبار بذلك تعليم أهل المحبة أن يتركوا ما حبب إليهم من الأطعمة الشهية واللذائذ الدنيوية رغبة فيما عند الله تعالى ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ‏}‏ وهو الكعبة التي هي من أعظم المظاهر له تعالى حتى قالوا‏:‏ إنها للمحمديين كالشجرة لموسى عليه السلام ‏{‏مُبَارَكاً‏}‏ بما كساه من أنوار ذاته ‏{‏وهدى‏}‏ بما كساه من أنوار صفاته ‏{‏للعالمين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 96‏]‏ على حسب استعدادهم ‏{‏فِيهِ ءايات بينات مَّقَامُ إبراهيم‏}‏ المشتمل على الرضا والتسليم والانبساط واليقين والمكاشفة والمشاهدة والخلة والفتوة أو المعرفة والتوحيد والفناء والبقاء والسكر والصحو، أو جميع ذلك ‏{‏وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً‏}‏ من غوائل نفسه لأنه مقام التمكين وتطبيق ذلك على ما في الأنفس أن البيت إشارة إلى القلب الحقيقي، ويحمل ما ورد أن البيت أول ما ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض وخلق قبل الأرض بألفي عام وكان زبدة بيضاء على وجه الماء فدحيت الأرض تحته على ذلك وظهوره على الماء حينئذٍ تعلقه بالنطفة عند خلق سماء الروح الحيوان وأرض البدن، وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه وحدوث البدن، وتقييد ذلك بألفي عام إشارة إلى تقدمه على البدن بطورين طور النفس وطور القلب تقدماً بالرتبة إذ الألف رتبة تامة، وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكون البدن من تأثيره وكون أشكاله وصور أعضائه تابعة لهيئاته ولا يخفى أن محل تعلق الروح بالبدن واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصنوبري وهو أول ما يتكون من الأعضاء وأول عضو يتحرك وأخر عضو يسكن فيكون ‏(‏أول بيت وضع للناس للذي ببكة‏)‏ الصدر صورة، أو أول متعبد وضع لهم للقلب الحقيقي الذي هو ببكة الصدر المعنوي الذي هو أشرف مقام في النفس وموضع ازدحام القوى إليه، ومعنى كونه ‏(‏مباركاً‏)‏ أنه ذو بركة إلهية بسبب فيض الخير عليه، وكونه ‏(‏هدى‏)‏ أنه يهتدي به إلى الله تعالى والآيات التي فيه هي العلوم والمعارف والحكم والحقائق، و‏(‏ مقام إبراهيم‏)‏ إشارة إلى العقل الذي هو مقام قدم إبراهيم الروح يعني محل اتصال نوره من القلب ولا شك أن من دخل ذلك ‏(‏كان آمناً‏)‏ من أعداء سعالى المتخيلة وعفاريت أحاديث النفس واختطاف شياطين الوهم وجن الخيالات واغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها

‏{‏وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً‏}‏ ‏(‏ آل عمران؛ 97‏)‏ وهم أهل معرفته عز شأنه، وأما الجاهلون به فلا قاموا ولا قعدوا، يحكى عن بعضهم أنه قال‏:‏ قلت للشبلي‏:‏ إني حججت فقال‏:‏ كيف فعلت‏؟‏ فقلت‏:‏ اغتسلت وأحرمت وصليت ركعتين ولبيت فقال لي‏:‏ عقدت به الحج‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم قال‏:‏ فسخت بعقدك كل عقد عقدت منذ خلقت مما يضاد هذا العقد‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ فما عقدت، ثم قال نزعت ثيابك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ تجردت عن كل فعل فعلت‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما نزعت، فقال‏.‏ تطهرت‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ أزلت عنك كل علة‏؟‏ فقلت‏:‏ لا قال فما تطهرت، قال لبيت‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ وجدت جواب التلبية مثلاً بمثل‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما لبيت، قال دخلت الحرم‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ اعتقدت بدخولك ترك كل محرم‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما دخلت، قال‏:‏ أشرفت على مكة‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ أشرف عليك حال من الله تعالى‏؟‏ قلت لا قال‏:‏ ما أشرفت، قال‏:‏ دخلت المسجد الحرام‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ دخلت الحضرة‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما دخلت المسجد الحرام، قال‏:‏ رأيت الكعبة‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ رأيت ما قصدت له‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال ما رأيت الكعبة، قال رملت وسعيت‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ هربت من الدنيا ووجدت أمناً مما هربت‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما فعلت شيئاً، قال‏:‏ صافحت الحجر‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ من صافح الحجر فقد صافح الحق ومن صافح الحق ظهر عليه أثر الأمن أفظهر عليك ذلك‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما صافحت؛ قال‏:‏ أصليت ركعتين بعد‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ أوجدت نفسك بين يدي الله تعالى‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما صليت‏.‏ قال‏:‏ خرجت إلى الصفا‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ أكبرت‏؟‏ قلت‏:‏ نعم فقال‏:‏ أصفا سرك وصغرت في عينك الأكوان‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما خرجت ولا كبرت‏.‏ قال‏:‏ هرولت في سعيك‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ هربت منه إليه‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما هرولت، قال‏:‏ وقفت على المروة‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ رأيت نزول السكينة عليك وأنت عليها‏:‏ قلت لا قال‏:‏ ما وقفت على المروة، قال‏:‏ خرجت إلى منى‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ أعطيت ما تمنيت‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما خرجت، قال‏:‏ دخلت مسجد الخيف‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ تجدد لك خوف‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما دخلت، قال‏:‏ مضيت إلى عرفات‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ عرفت الحال الذي خلقت له والحال الذي تصير إليه‏؟‏ وهل عرفت من ربك ما كنت منكراً له‏؟‏ وهل تعرف الحق إليك بشيء‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما مضيت، قال‏:‏ نفرت إلى المشعر الحرام‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ ذكرت الله تعالى فيه ذكراً أنساك ذكر ما سواه‏؟‏ قلت لا قال‏:‏ ما نفرت، قال‏:‏ ذبحت‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ أفنيت شهواتك وإراداتك في رضاء الحق‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما ذبحت، قال‏:‏ رميت‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ رميت جهلك منك بزيادة علم ظهر عليك‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما رميت، قال‏:‏ زرت‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ كوشفت عن الحقائق‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما زرت، قال‏:‏ أحللت‏؟‏ قلت‏:‏ نعم قال‏:‏ عزمت على الأكل من الحلال قدر ما تحفظ به نفسك‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما أحللت، قال‏:‏ ودعت‏؟‏ قلت نعم قال‏:‏ خرجت من نفسك وروحك بالكلية‏؟‏ قلت‏:‏ لا قال‏:‏ ما ودعت ولا حججت وعليك العود إن أحببت وإذا حججت فاجتهد أن تكون كما وصفت لك انتهى‏.‏

 فهذا الذي ذكره الشبلي هو الحج الذي يستأهل أن يقال له حج، ولله تعالى عباد أهّلهمْ لذلك وأقدرهم على السلوك في هاتيك المسالك فحجهم في الحقيقة منه إليه وله فيه فمطافهم حظائر القربة على بساط الحشمة وموقفهم عرفة العرفان على ساق الخدمة ليس لهم غرض في الجدران والأحجار وهيهات هيهات ما غرض المجنون من الديار إلا الديار، ومن كفر وأعرض عن المولى بهوى النفس ‏{‏فإن الله غني عن العالمين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 97‏]‏ فهو سبحانه غني عنه لا يلتفت إليه ‏{‏قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب لَمَن تَكْفُرُونَ بئيات الله‏}‏ الدالة على توحيده ‏{‏والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 98‏]‏ إذ هو أقرب من حبل الوريد ‏{‏قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب لَمَن تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ بالإنكار على المؤمنين ‏{‏مَنْ ءامَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً‏}‏ بإيراد الشبه الباطلة ‏{‏وَأَنْتُمْ شُهَدَاء‏}‏ عالمون بأنها حق لا اعوجاج فيها ‏{‏وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 99‏]‏ فيجازيكم به ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الإيمان الحقيقي ‏{‏إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب‏}‏ خوفاً من إنكارهم ما أنتم عليه من الحقيقة والطريق الموصل إليه سبحانه ‏{‏يَرُدُّوكُم بَعْدَ إيمانكم‏}‏ الراسخ فيكم ‏{‏كافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 100‏]‏ لأن إنكار الحقيقة كفر كإنكار الشريعة،

‏{‏وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِىَ إلى صراط مّسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 101‏]‏ أي من يعتصم به منه فقد اهتدى إليه به، قال الواسطي‏:‏ ومن زعم أنه يعتصم به من غيره فقد جهل عظمة الربوبية، وحقيقة الاعتصام عند بعضهم انجذاب القلب عن الأسباب التي هي الأصنام المعنوية والتبري إلى الله تعالى من الحول والقوة، وقيل‏:‏ الاعتصام للمحبين هو اللجأ بطرح السوي، ولأهل الحقائق رفع الاعتصام لمشاهدتهم أنهم في القبضة ‏{‏مّسْتَقِيمٍ ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ بصون العهود وحفظ الحدود والخمود تحت جريان القضاء بنعت الرضا، وقيل‏:‏ حق التقوى عدم رؤية التقوى ‏{‏وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 102‏]‏ أي لا تموتن إلا على حال إسلام الوجود له أي ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد ‏{‏واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏ وهو عهده الذي أخذه على العباد يوم ‏{‏أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ ‏{‏وَلاَ تَفَرَّقُواْ‏}‏ باختلاف الأهواء ‏{‏واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ بالهداية إلى معالم التوحيد المفيد للمحبة في القلوب ‏{‏إِذْ كُنتُم أَعْدَاء‏}‏ لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية ‏{‏فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ‏}‏ بالتحاب في الله تعالى لتنورها بنوره ‏{‏فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ‏}‏ عليكم ‏{‏إِخْوَانًا‏}‏ في الدين ‏{‏وَكُنتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النار‏}‏ وهي مهوى الطبيعة الفاسقة وجهنم الحرمان ‏{‏فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 103‏]‏ بالتواصل الحقيقي بينكم إلى سدرة مقام الروح وروح جنة الذات ‏{‏وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ‏}‏ كالعلماء العارفين أرباب الاستقامة في الدين ‏{‏يَدْعُونَ إِلَى الخير‏}‏ أي يرشدون الناس إلى الكمال المطلق من معرفة الحق تعالى والوصول إليه ‏{‏وَيَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ المقرب إلى الله تعالى ‏{‏وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ المبعد عنه تعالى ‏{‏وأولئك هُمُ المفلحون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 104‏]‏ الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله تعالى في أرضه ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ‏}‏ واتبعوا الأهواء والبدع ‏{‏واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات‏}‏ الحجج العقلية والشرعية الموجبة للاتحاد واتفاق الكلمة ‏{‏وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 105‏]‏ وهو عذاب الحرمان من الحضرة ‏{‏يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ‏}‏ قالوا‏:‏ ابيضاض الوجه عبارة عن تنور وجه القلب بنور الحق المتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة ولا يكون ذلك إلا بالتوحيد واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة لحظوظها والإعراض عن الجهة العلوية النورانية ‏{‏فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ‏}‏ فيقال لهم ‏{‏أَكْفَرْتُمْ‏}‏ أي احتجبتم عن الحق بصفات النفس ‏{‏بَعْدَ إيمانكم‏}‏ أي تنوركم بنور الاستعداد وصفاء الفطرة وهداية العقل ‏{‏فَذُوقُواْ العذاب‏}‏ وهو عذاب الاحتجاب عن الحق ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 106‏]‏ به ‏{‏وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِى رَحْمَةِ الله‏}‏ الخاصة التي هي شهود الجمال ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 107‏]‏ باقون بعد الفناء ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ‏}‏ من مكامن الأزل ‏{‏لِلنَّاسِ‏}‏ أي لنفعهم ‏{‏تَأْمُرُونَ بالمعروف‏}‏ الموصل إلى مقام التوحيد ‏{‏وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ وهو القول بتحقق الكثرة على الحقيقة ‏{‏وَلَوْ ءامَنَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ كإيمانكم ‏{‏لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ مما هم عليه ‏{‏مّنْهُمُ المؤمنون‏}‏ كإيمانكم ‏{‏وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 110‏]‏ الخارجون عن حرم الحق ‏{‏لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى‏}‏ وهو الإنكار عليكم بالقول ‏{‏وَإِن يقاتلوكم‏}‏ ولم يكتفوا بذلك الإيذاء ‏{‏يُوَلُّوكُمُ الادبار‏}‏ ولا ينالون منكم شيئاً لقوة بواطنكم وضعفهم ‏{‏ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 111‏]‏ لا ينصرهم أحد أصلاً بل يبقون مخذولين لعدم ظهور أنوار الحق عليهم، والله تعالى الموفق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آَيَاتِ اللَّهِ آَنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏لَيْسُواْ سَوَاء‏}‏ أخرج ابن إسحق والطبراني والبيهقي وغيرهم عن ابن عباس قال‏:‏ لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة وأسيد بن عبيد ومن أسلم من يهود معهم فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام قالت أحبار يهود وأهل الكفر منهم‏:‏ ما آمن بمحمد وتبعه إلا أشرارنا ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره فأنزل الله تعالى في ذلك ‏{‏لَيْسُواْ سَوَاء‏}‏ إلى قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصالحين‏}‏ ‏(‏آل عمران؛ 114‏)‏ والجملة على ما قاله مولانا شيخ الإسلام تمهيد لتعداد محاسن مؤمني أهل الكتاب، وضمير الجمع لأهل الكتاب جميعاً لا للفاسقين ‏(‏منهم‏)‏ خاصة وهو اسم ليس وسواء خبره، وإنما أفرد لكونه في الأصل مصدراً والوقف هنا تام على الصحيح والمراد بنفي المساواة نفي المشاركة في أصل الاتصاف بالقبائح ‏(‏المذكورة‏)‏ ‏(‏1‏)‏ لا نفي المساواة في الاتصاف بمراتبها مع تحقق المشاركة في أصل الاتصاف ومثله كثير في الكلام‏.‏

‏{‏مّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَائِمَةٌ‏}‏ استئناف مبين لكيفية عدم التساوي ومزيل لما فيه من الإبهام، وقال أبو عبيدة‏:‏ إنه مع الأول كلام واحد، وجعل أمة اسم ليس والخبر سواء فهو على حد أكلوني البراغيث، وقيل‏:‏ أمة مرفوع بسواء وضعف كلا القولين ظاهر، ووضع ‏{‏أَهْلِ الكتاب‏}‏ موضع الضمير زيادة في تشريفهم والاعتناء بهم والقائمة من قام اللازم بمعنى استقام أي‏:‏ أمة مستقيمة على طاعة الله تعالى ثابتة على أمره لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه، وحكي عن ابن عباس وغيره، وزعم الزجاج أن الكلام على حذف مضاف والتقدير ذو أمة قائمة أي ذو طريقة مستقيمة، وفيه أنه عدول عن الظاهر من غير دليل‏.‏ والمراد من هذه الأمة من تقدم في سبب النزول، وجعل بعضهم أهل الكتاب عاماً لليهود والنصارى وعد من الأمة المذكورة نحو النجاشي وأصحابه ممن أسلم من النصارى‏.‏

‏{‏يَتْلُونَ ءايات الله‏}‏ صفة لأمة بعد وصفها بقائمة، وجوز أن تكون حالا من الضمير في ‏{‏قَائِمَةً‏}‏ أو من الأمة لأنها قد وصفت، أو من الضمير في الجار الواقع خبراً عنها، والمراد يقرءون القرآن ‏{‏ءانَاء اليل‏}‏ أي ساعاته وواحده أنى بوزن عصا، وقيل‏:‏ أنى كمعا، وقيل‏:‏ أنى فتح فسكون أو كسر فسكون؛ وحكى الأخفش أنو كجرو؛ فالهمزة منقلبة عن ياء أو واو وهو متعلق بيتلون أو بقائمة ومنع أبو البقاء تعلقه بالثاني بناءاً على أنه قد وصف فلا يعمل فيما بعد الصفة ‏{‏وَهُمْ يَسْجُدُونَ‏}‏ حال من ضمير يتلون على ما هو الظاهر، والمراد وهم يصلون إذ من المعلوم أن لا قراءة في السجود وكذا الركوع بل وقع النهي عنها فيهما كما في الخبر، والمراد بصلاتهم هذه التهجد على ما ذهب إليه البعض وعلل بأنه أدخل في المدح وفيه تتيسر لهم التلاوة لأنها في المكتوبة وظيفة الإمام، واعتبار حالهم عند الصلاة على الانفراد يأباه مقام المدح وهو الأنسب بالعدول عن إيرادها باسم الجنس المتبادر منه الصلوات المكتوبة وبالتعبير عن وقتها بالآناء المبهمة، وإنما لم يعبر على هذا بالتهجد دفعاً لاحتمال المعنى اللغوي الذي لا مدح فيه‏.‏

والذي عليه بعض السلف أنها صلاة العتمة‏.‏ واستدل عليه بما أخرجه الإمام أحمد والنسائي وابن جرير والطبراني بسند حسن واللفظ للأخيرين عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال‏:‏ «أما إنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب قال‏:‏ وأنزلت هذه الآية ‏{‏لَّيْسُواْ‏}‏ حتى بلغ ‏{‏يُكْفَروهُ والله عَلِيمٌ بالمتقين‏}‏» ‏[‏آل عمران‏:‏ 115‏]‏ وعليه تكون الجملة معطوفة على جملة ‏{‏يَتْلُونَ‏}‏، وقيل‏:‏ مستأنفة ويكون المدح لهم بذلك لتميزهم واختصاصهم بتلك الصلاة الجليلة الشأن التي لم يتشرف بأدائها أهل الكتاب كما نطق به الحديث بل ولا سائر الأمم، فقد روى الطبراني بسند حسن أيضاً عن المنكدر أنه قال‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وأنه أخر صلاة العشاء حتى ذهب من الليل هنيهة أو ساعة والناس ينتظرون في المسجد فقال‏:‏ «أما إنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتموها» ثم قال‏:‏ «أما إنها صلاة لم يصلها أحد ممن كان قبلكم من الأمم» ولعل هذا هو السر في تقديم هذا الحكم على الحكم بالإيمان، ولا يرد عليه أن التلاوة لا تتيسر لهم إلا بصلاتهم منفردين ولا تمدح في الإنفراد مع أنه خلاف الواقع من حال القوم على ما يشير إليه الخبران لأنه لم تقيد التلاوة فيه بالصلاة وإنما يلزم التقييد لو كانت الجملة حالاً من الضمير كما سبق وليس فليس‏.‏

والتعبير عن الصلاة بالسجود لأنه أدل على كمال الخضوع وهو سر التعبير به عنها في قوله صلى الله عليه وسلم لمن طلب أن يدعو له بأن يكون رفيقه في الجنة لفرط حبه له وخوف حيلولة الفراق يوم القيامة أعني بكثرة السجود، وكذا في كثير من المواضع، وقيل‏:‏ المراد بها الصلاة ما بين المغرب والعشاء الآخرة وهي المسماة بصلاة الغفلة، وقيل‏:‏ المراد بالسجود سجود التلاوة‏.‏ وقيل‏:‏ الخضوع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السموات والارض‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 15‏]‏ واختيرت الجملة الإسمية للدلالة على الاستمرار وكرر الإسناد تقوية للحكم وتأكيداً له، واختيار صيغة المضارع للدلالة على التجدد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الاخر‏}‏ صفة أخرى لأمة، وجوز أن تكون حالاً على طرز ما قبلها وإن شئت كما قال أبو البقاء استأنفتها، والمراد بهذا الإيمان الإيمان بجميع ما يجب الإيمان به على الوجه المقبول، وخص الله تعالى اليوم الآخر بالذكر إظهاراً لمخالفتهم لسائر اليهود فيما عسى أن يتوهم متوهم مشاركتهم لهم فيه لأنهم يدّعون أيضاً الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر لكن لما كان ذلك مع قولهم‏:‏ ‏{‏عُزَيْرٌ ابن الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 30‏]‏ وكفرهم ببعض الكتب والرسل ووصفهم اليوم الآخر بخلاف ما نطقت به الشريعة المصطفوية جعل هو والعدم سواء‏.‏

‏{‏وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر‏}‏ إشارة إلى وفور نصيبهم من فضيلة تكميل الغير إثر الإشارة إلى وفوره من فضيلة تكميل النفس، وفيه تعريض بالمداهنين الصادين عن سبيل الله تعالى ‏{‏ويسارعون فِى الخيرات‏}‏ أي يبادرون إلى فعل الخيرات والطاعات خوف الفوات بالموت مثلا، أو يعملون الأعمال الصالحة راغبين فيها غير متثاقلين لعلمهم بجلالة موقعها وحسن عاقبتها وهذه صفة جامعة لفنون الفضائل والفواضل وفي ذكرها تعريض بتباطؤ اليهود وتثاقلهم عن ذلك، وأصل المسارعة المبادرة وتستعمل بمعنى الرغبة، واختيار صيغة المفاعلة للمبالغة، وقيل‏:‏ ولم يعبر بالعجلة للفرق بينها وبين السرعة فإن السرعة التقدم فيما يجوز أن يتقدم فيه وهي محمودة وضدها الإبطاء وهو مذموم، والعجلة التقدم فيما لا ينبغي أن يتقدم فيه وهي مذمومة وضدها اوناة وهي محمودة، وإيثار ‏(‏في‏)‏ على إلى وكثيراً ما تتعدى المسارعة بها للإيذان كما قال شيخ الإسلام‏:‏ بأنهم مستقرون في أصل الخير متقلبون في فنونه لا أنهم خارجون ‏(‏عنها‏)‏ منتهون إليها؛ وصيغة جمع القلة هنا تغني عن جمع الكثرة كما لا يخفى‏.‏

‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ أي الموصوفون بتلك الصفات الجليلة الشأن بسبب اتصافهم بها كما يشعر به العدول عن الضمير ‏{‏مّنَ الصالحين‏}‏ أي من عداد الذين صلحت عند الله تعالى حالهم وهذا رد لقول اليهود‏:‏ ما آمن به إلا شرارنا‏.‏ وقد ذهب الجل إلى أن في الآية استغناءاً بذكر أحد الفريقين عن الآخر على عادة العرب من الاكتفاء بذكر أحد الضدين عن الآخر، والمراد ومنهم من ليسوا كذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ‏}‏ أي طاعة متعدية أو سارية ‏{‏فَلَنْ يُكْفَروهُ‏}‏ أي لن يحرموا ثوابه ألبتة، وأصل الكفر الستر ولتفسيره بما ذكرنا تعدي إلى مفعولين والخطاب قيل‏:‏ لهذه الأمة وهو مرتبط بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ‏}‏ ‏(‏آل عمران؛ 110‏)‏ وجميع ما بينهما استطراد، وقيل‏:‏ لاولئك الموصوفين بالصفات المذكورة وفيه التفات؛ ونكتته الخاصة هنا الإشارة إلى أنهم لاتصافهم بهذه المزايا أهل لأن يخاطبوا، وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر بالياء في الفعلين، والباقون بالتاء فيهما غير أبي عمرو فإنه روي عنه أنه كان يخبر بهما، وعلى قراءة الغيبة يجوز أن يراد من الضمير ما أريد من نظائره فيما قبل ويكون الكلام حينئذ على وتيرة واحدة، ويحتمل أن يعود للأمة ويكون العدول إلى الغيبة مراعاة للأمة كما روعيت أولاً في التعبير بأخرجت دون أخرجتم وهذه طريقة مشهورة للعرب في مثل ذلك‏.‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بالمتقين‏}‏ أي بأحوالهم فيجازيهم وهذا تذييل مقرر لمضمون ما قبله‏.‏ والمراد بالمتقين إما عام ويدخل المخاطبون دخولاً أولياً وإما خاص بالمتقدمين وفي وضع الظاهر موضع المضمر إيذان بالعلة وأنه لا يفوز عنده إلا أهل التقوى، وعلى هذا يكون

‏[‏بم قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَن تُغْنِىَ عَنْهُمْ أموالهم وَلاَ أولادهم مّنَ الله شَيْئاً‏}‏ مؤكداً لذلك ولهذا فصل‏.‏ والمراد من الموصول إما سائر الكفار فإنهم فاخروا بالأموال والأولاد حيث قالوا‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 35‏]‏ فرد الله تعالى عليهم بما ترى عليهم، وإما بنو قريظة وبنو النضير حيث كانت معالجتهم بالأموال والأولاد‏.‏ وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل‏:‏ مشركو قريش وقيل وقيل ولعل من ادعى العموم وهو الظاهر قال بدخول المذكورين دخولاً أولياً، والمراد من الإغناء الدفع، ويقال‏:‏ أغنى عنه إذا دفع عنه ضرراً لولاه لنزل به أي لن تدفع عنهم يوم القيامة أموالهم التي عولوا عليها في المهمات ولا من هو أرجى من ذلك وأعظم عندهم وهم أولادهم من عذاب الله تعالى لهم شيئاً يسيراً منه، وقال بعضهم‏:‏ المراد بالاغناء الإجزاء، ويقال‏:‏ ما يغني عنك هذا أي ما يجزي عنك وما ينفعك، ومن للبدل أو الابتداء، وشيئاً مفعول مطلق أي لن يجزي عنهم ذلك من عذاب الله تعالى شيئاً من الإجزاء، وعلى التفسير الأول للإغناء وجعل هذا معنى حقيقياً له دونه يقال بالتضمين وأمر المفعولية عليه ظاهر لتعديه حينئذ‏.‏

‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ أي الموصوفون بالكفر بسبب كفرهم ‏{‏أصحاب النار‏}‏ أي ملازموها وهو معنى الأصحاب عرفاً‏.‏ ‏{‏هُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ تأكيد لما يراد من الجملة الأولى واختيار الجملة الاسمية للايذان بالدوام والاستمرار وتقديم الظرف محافظة على رؤوس الآي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِى هذه الحياة الدنيا‏}‏ كالدليل لعدم إغناء الأموال، ولعل عدم بيان إغناء الأولاد ظاهر لأنهم إن كانوا كفاراً وهو الظاهر كان حكمهم وإن كانوا مسلمين كانوا عليهم لا لهم في الدنيا، وبغضهم لهم في الآخرة ‏{‏يَوْمَ تبلى السرائر‏}‏ ‏[‏الطارق‏:‏ 9‏]‏ و‏{‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 42‏]‏ وتبريهم منهم حين يفر المرء من أمه وأبيه أظهر من أن يخفى، وما موصولة والعائد محذوف أي ينفقونه والإشارة للتحقير، والمراد تمثيل جميع صدقات الكفار ونفقاتهم كيف كانت وهو المروي عن مجاهد وقيل‏:‏ مثل لما ينفقه الكفار مطلقاً في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ لما أنفقه قريش يوم بدر وأحد لما تظاهروا عليه عليه الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ لما أنفقه سفلة اليهود على علمائهم المحرفين أي حال ذلك وقصته العجيبة‏.‏

‏{‏كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ‏}‏ أي برد شديد قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وجماعة، وقال الزجاج الصر صوت لهيب النار وقد كانت في تلك الريح، وقيل أصل الصر كالصرصر الريح الباردة، وعليه يكون معنى النظم ريح فيها ريح باردة وهو كما ترى محتاج إلى التوجيه، وقد ذكر فيه أنه وارد على التجريد كقوله‏:‏

ولولا ذاك قد سومت مهري *** وفي الرحمن للضعفاء كاف

أي هو كاف ومنع بعضهم كونه في الأصل الريح الباردة وإنما هو مصدر بمعنى البرد كما قال الحبر واستعماله فيما ذكر مجاز وليس بمراد، وقيل‏:‏ إنه صفة بمعنى بارد إلا أن موصوفه محذوف أي برد بارد فهو من الإسناد المجازي كظل ظليل وفيه بعد لأن المعروف في مثله ذكر الموصوف وأما حذفه وتقديره فلم يعهد، وقيل‏:‏ هو في الأصل صوت الريح الباردة من صر القلم والباب صريراً إذا صوت، أو من الصرة الضجة والصيحة وقد استعمل هنا على أصله، وفيه أن هذا المعنى مما لم يعهد في الاستعمال، والريح واحدة الرياح، وفي «الصحاح» والأرياح، وقد تجمع على أرواح لأن أصلها الواو، وإنما جاءت بالياء لانكسار ما قبلها فإذا رجعوا إلى الفتح عادت إلى الواو كقولك‏:‏ أروح الماء وتروحت بالمروحة، ويقال أيضاً‏:‏ ريح وريحة كما قالوا‏:‏ دار ودارة، وسيأتي إن شاء الله تعالى للعلماء من الكلام في هذا المقام، وأفرد الريح لما في «البحر» أنها مختصة بالعذاب والجمع مختص بالرحمة ولذلك روي اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً‏.‏

‏{‏أَصَابَتْ حَرْثَ‏}‏ أي زرع‏.‏ ‏{‏قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ بالكفر والمعاصي فباءوا بغضب من الله تعالى وإنما وصفوا بذلك لما قيل‏:‏ إن الاهلاك عن سخط أشد وأفظع أو لأن المراد الإشارة إلى عدم الفائدة في الدنيا والآخرة وهو إنما يكون في هلاك مال الكافر وأما غيره فقد يثاب على ما هلك له لصبره، وقيل‏:‏ المراد ظلموا أنفسهم بأن زرعوا في غير موضع الزراعة وفي غير وقتها ‏{‏فَأَهْلَكَتْهُ‏}‏ عن آخره ولم تدع له عيناً ولا أثراً عقوبة لهم على معاصيهم، وقيل‏:‏ تأديباً من الله تعالى لهم في وضع الشيء في غير موضعه الذي هو حقه وهذا من التشبيه المركب الذي توجد فيه الزبدة من الخلاصة والمجموع ولا يلزم فيه أن يكون ما يلي الأداة هو المشبه به كقوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 24‏]‏ وإلا لوجب أن يقال‏:‏ كمثل حرث لأنه المشبه به المنفق، وجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمهلك ريح والمهلك اسم مفعول هو الحرث، والوجه عند كونه مركباً قلة الجدوى والضياع، ويجوز أن يكون من التشبيه المفرق فيشبه إهلاك الله تعالى بإهلاك الريح، والمنفق بالحرث وجعل الله تعالى أعمالهم هباءاً منثوراً بما في الريح الباردة من جعله حطاماً، وقرىء تنفقون بالتاء‏.‏

‏{‏وَمَا ظَلَمَهُمُ الله‏}‏ الضمير إما للمنفقين أي ما ظلمهم بضياع نفقاتهم التي أنفقوها على غير الوجه اللائق المعتدّ به، وإما للقوم المذكورين أي ما ظلم الله تعالى أصحاب الحرث بإهلاكه لأنهم استحقوا ذلك وحينئذ يكون هذا النفي مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ‏}‏ تأكيداً لما فهم من قبل إشعاراً وتصريحاً، وقرىء ‏(‏ولكن‏)‏ بالتشديد على أن ‏(‏أنفسهم‏)‏ اسمها، وجملة يظلمون خبرها والعائد محذوف، والتقدير يظلمونها وليس مفعولاً مقدماً كما في قراءة التخفيف، واسمها ضمير الشأن لأنه لا يحذف إلاّ في الشعر كقوله‏:‏

وما كنت ممن يدخل العشق قلبه *** ولكن من يبصر جفونك يعشق

وتعين حذفه فيه لمكان من الشرطية التي لا تدخل عليها النواسخ وتقديم ‏{‏أَنفُسِهِمْ‏}‏ على الفعل للفاصلة لا للحصر وإلا لا يتطابق الكلام لأن مقتضاه وما ظلمهم الله ولكن هم يظلمون أنفسهم لا أنهم يظلمون أنفسهم لا غيرهم وهو في الحصر لازم، وصيغة المضارع للدلالة على التجدد والاستمرار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ‏}‏ أخرج ابن إسحق وغيره عن ابن عباس قال‏:‏ كان رجال من المسلمين يواصلون رجالاً من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الآية، وأخرج عبد بن حميد أنها نزلت في المنافقين من أهل المدينة نهي المؤمنون أن يتولوهم، وظاهر ما يأتي يؤيده، والبطانة خاصة الرجل الذين يستبطنون أمره مأخوذ من بطانة الثوب للوجه الذي يلي البدن لقربه وهي نقيض الظهارة ويسمى بها الواحد والجمع والمذكر والمؤنث و‏(‏ من‏)‏ متعلقة بـ لا تتخذوا أو بمحذوف وقع صفة لبطانة، وقيل‏:‏ زائدة، و‏(‏ دون‏)‏ إما بمعنى غير أو بمعنى الأدون والدنيء، وضمير الجمع المضاف إليه للمؤمنين والمعنى لا تتخذوا الكافرين كاليهود والمنافقين أولياء وخواص من غير المؤمنين أو ممن لم تبلغ منزلته منزلتكم في الشرف والديانة، والحكم عام وإن كان سبب النزول خاصاً فإن اتخاذ المخالف ولياً مظنة الفتنة والفساد ولهذا ورد تفسير هذه البطانة بالخوارج‏.‏ وأخرج البيهقي وغيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ لا تنقشوا في خواتيمكم عربياً ولا تستضيئوا بنار المشركين ‏"‏ فذكر ذلك للحسن فقال‏:‏ نعم لا تنقشوا في خواتيمكم محمد رسول الله ولا تستسروا المشركين في شيء من أموركم، ثم قال الحسن‏:‏ وتصديق ذلك من كتاب الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَظْلِمُونَ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً‏}‏ أصل الألو التقصير يقال‏:‏ ألا كغزا يألو ألواً إذا قصر وفتر وضعف، ومنه قول امرىء القيس‏:‏

وما المرء ما دامت حشاشة نفسه *** بمدرك أطراف الخطوب ولا ‏(‏آلى‏)‏

أراد ولا مقصر في الطلب وهو لازم يتعدى إلى المفعول بالحرف، وقد يستعمل متعدياً إلى مفعولين في قولهم‏:‏ لا آلوك نصحاً ولا آلوك جهداً على تضمين معنى المنع أي لا أمنعك ذلك وقد يجعل بمنع الترك فيتعدى إلى واحد، وفي «القاموس» «ما ألوت الشيء أي ما تركته»، والخبال في الأصل الفساد الذي يلحق الإنسان فيورثه اضطراباً كالمرض والجنون، ويستعمل بمعنى الشر والفساد مطلقاً‏.‏

ومعنى الآية على الأول لا يقصرون لكم في الفساد والشر بل يجهدون في مضرتكم؛ وعليه يكون الضمير المنصوب والاسم الظاهر منصوبين بنزع الخافض وإليه ذهب ابن عطية وجوز أن يكون الثاني منصوباً على الحال أي مخبلين، أو على التمييز‏.‏ واعترض ذلك بأنه لا إبهام في نسبة التقصير إلى الفاعل ولا يصح جعله فاعلاً إلا على اعتبار الاسناد المجازي والنصب بنزع الخافض، ووقوع المصدر حالا ليس بقياس إلا فيما يكون المصدر نوعاً من العامل نحو أتاني سرعة وبطئاً كما نص عليه الرضي في بحث المفعول به والحال واعتمده السيالكوتي ونقل أبو حيان أن التمييز هنا محول عن المفعول نحو

‏{‏وَفَجَّرْنَا الارض عُيُوناً‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 12‏]‏ وهو من الغرابة بمكان لأن المفروض أن الفعل لازم فمن أين يكون له مفعول ليحول عنه‏؟‏ا وملاحظة تعديه إليه بتقدير الحرف قول بالنصب على نزع الخافض وقد سمعت ما فيه‏.‏ وأجيب بالتزام أحد الأمرين الحالية أو كونه منصوباً على النزع مع القول بالسماع هنا والمعنى على الثاني لا يمنعونكم خبالا أي أنهم يفعلون معكم ما يقدرون عليه من الفساد ولا يبقون عندهم شيئاً منه في حقكم وهو وجه وجيه، والتضمين قياسي على الصحيح والخلاف فيه واه لا يلتفت إليه، والمعنى والاعراب على الثالث ظاهران بعد الإحاطة بما تقدم‏.‏

‏{‏وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ‏}‏ أي أحبوا عنتكم أي مشقتكم الشديدة وضرركم‏.‏ وقال السدي‏:‏ تمنوا ضلالتكم عن دينكم، وروي مثله عن ابن جرير‏.‏ ‏{‏قَدْ بَدَتِ البغضاء مِنْ أفواههم‏}‏ أي ظهرت أمارات العداوة لكم من فلتات ألسنتهم وفحوى كلماتهم لأنهم لشدة بغضهم لكم لا يملكون أنفسهم ولا يقدرون أن يحفظوا ألسنتهم، وقال قتادة‏:‏ ظهور ذلك فيما بينهم حيث أبدى كل منهم ما يدل على بغضه للمسلمين لأخيه، وفيه بعد إذ لا يناسبه ما بعده، والأفواه جمع فم وأصله فوه، فلامه هاء والجموع ترد الأشياء إلى أصولها ويدل على ذلك أيضاً تصغيره على فويه والنسبة إليه فوهي، وقرأ عبد الله ‏(‏قد بدا البغضاء‏)‏ ‏{‏وَمَا تُخْفِى صُدُورُهُمْ‏}‏ من البغضاء ‏{‏أَكْبَرَ‏}‏ أي أعظم مما بدا لأنه كان عن فلتة ومثله لا يكون إلا قليلا‏.‏

‏{‏قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الايات‏}‏ أي أظهرنا لكم الآيات الدالة على النهي عن موالاة أعداء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، أو قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحات التي يتميز بها الولي من العدو ‏{‏إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي إن كنتم من أهل العقل، أو إن كنتم تعلمون الفضل بين الولي والعدو، أو إن كنتم تعلمون مواعظ الله تعالى ومنافعها، وجواب ‏(‏إن‏)‏ محذوف لدلالة الكلام عليه، ثم إن هذه الجمل ما عدا وما تخفي صدورهم أكبر لأنها حال لا غير جاءت مستأنفات جواباً عن السؤال عن النهي وترك العطف بينها إيذاناً باستقلال كل منها في ذلك، وقيل‏:‏ إنها في موضع النعت لبطانة إلا قد بينا لظهور أنها لا تصلح لذلك، والأول أحسن لما في الاستئناف من الفوائد وفي الصفات من الدلالة على خلاف المقصود أو إيهامه لا أقل وهو تقييد النهي وليس المعنى عليه، وقيل‏:‏ إن ودوا ما عنتم بيان وتأكيد لقوله‏:‏ ‏{‏لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً‏}‏ فحكمه حكمه وما عدا ذلك مستأنف للتعليل على طريق الترتيب بأن يكون اللاحق علة للسابق إلى أن تكون الأولى علة للنهي ويتم التعليل بالمجموع أي لا تتخذوهم بطانة لأنهم لا يألونكم خبالاً لأنهم يودّون شدّة ضرركم بدليل أنهم قد تبدو البغضاء من أفواههم وإن كانوا يخفون الكثير ولا بد على هذا من استثناء قد بينا إذ لا يصلح تعليلا لبدو البغضاء ويصلح تعليلاً للنهي فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏تَعْقِلُونَ هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ‏}‏ تنبيه على أن المخاطبين مخطئون في اتخاذهم بطانة، وفي إعراب مثل هذا التركيب مذاهب للنحويين فقال الأزهري وابن كيسان وجماعة‏:‏ إن ها للتنبيه؛ وأنتم مبتدأ وجملة تحبونهم خبره وأولاء منادى أو منصوب على الاختصاص، وضعف بأنه خلاف الظاهر والاختصاص لا يكون باسم الإشارة، وقيل‏:‏ أنتم مبتدأ، وأولاء خبره، والجملة بعد مستأنفة، ويؤيد ذلك ما قاله الرضى من أنه ليس المراد من ها أنا ذا أفعل، وها أنت ذا تفعل تعريف نفسك أو المخاطب إذ لا فائدة فيه بل استغراب وقوع مضمون وقوع الفعل المذكور بعد من المتكلم أو المخاطب، فالجملة بعد اسم الإشارة لازمة لبيان الحال المستغربة ولا محل لها إذ هي مستأنفة، وقال البصريون‏:‏ هي في محل النصب على الحال أي ها أنت ذا قائلاً والحال ههنا لازمة لأن الفائدة معقودة بها وبها تتم، والعامل فيها حرف التنبيه أو اسم الإشارة‏.‏

واعترضه الرضي بأنه لا معنى للحال إذ ليس المعنى أنت المشار إليه في حال فعلك ولا يخفى أن ما قاله البصريون هو الظاهر من كلام العرب لأنهم قالوا‏:‏ ها أنت ذا قائماً فصرحوا بالحالية وإن كان المعنى على الإخبار بالحال لأنه المقصود بالاستبعاد، ومدلول الضمير واسم الإشارة متحد واعتبار معنى الإشارة لمجرد تصحيح العمل لا أن المعنى عليه وبه يندفع بحث الرضي على أنه قد أجيب عنه بغير ذلك، وقال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون أولاء بمعنى الذين خبراً عن المبتدأ، وتحبونهم في موضع الصلة وليس بشيء، وقيل‏:‏ أنتم مبتدأ أول وأولاء مبتدأ ثان، وتحبونهم خبر المبتدأ الثاني، والجملة خبر المبتدأ الأول على حدّ أنت زيد تحبه، وقيل‏:‏ إن أولاء هو الخبر، والجملة ما بعده خبر ثان، وقيل‏:‏ أولاء في محل نصب بفعل يفسره ما بعده، والجملة خبر المبتدأ والإشارة للتحقير فاستعملت هنا للتوبيخ كأنه ازدرى بهم لظهور خطئهم في ذلك الاتخاذ‏.‏

والمراد بمحبة المؤمنين لهم المحبة العادية الناشئة من نحو الإحسان والصداقة، ومثلها وإن كان غريباً يلام عليه إذا وقع من المؤمنين في حق أعداء الدين الذين يتربصون بهم ريب المنون لكن لا يصل إلى الكفر وإنما لم يصل إليه باعتبار آخر لا يكاد يقع من أولئك المخاطبين، وقيل‏:‏ المراد‏:‏ تحبونهم لأنكم تريدون الإسلام لهم وتدعونهم إلى الجنة ولا يحبونكم لأنهم يريدون لكم الكفر والضلال وفي ذلك الهلاك، ولا يخفى ما فيه‏.‏

‏{‏وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلّهِ‏}‏ أي بالجنس كله وجعل ذلك من قبيل أنت الرجل أي الكامل في الرجولية ويكون الكتاب حينئذ إشارة إلى القرآن تعسف، والجملة حال من ضمير المفعول في ‏{‏لا يُحِبُّونَكُمْ‏}‏ واعترضه في «البحر» بأن المضارع المثبت إذا وقع حالاً لا تدخل عليه واو الحال ولهذا تأولوا قمت وأصك عينيه على حذف المبتدأ أي قمت وأنا أصك عينيه، ومثل هذا التأويل وإن جاء هنا أي ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله إلا أن العطف على تحبونهم أولى لسلامته من الحذف، وفيه أن الكلام في معرض التخطئة ولا كذلك الإيمان بالكتاب كله فإنه محض الصواب، والحمل على أنكم تؤمنون بالكتاب كله وهم لا يؤمنون بشيء منه لأن إيمانهم كلا إيمان فلا يجامع المحبة سديد كما قال العلامة الثاني في تقرير الحالية دون العطف، وبهذا يندفع ما في «البحر» من الاعتذار والمعنى يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بكتابكم‏.‏

‏{‏وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ ءامَنَّا‏}‏ نفاقاً ‏{‏وَإِذَا خَلَوْاْ‏}‏ أي خلا بعضهم ببعض ‏{‏عَضُّواْ عَلَيْكُمُ‏}‏ أي لأجلكم ‏{‏الانامل‏}‏ أي أطراف الأصابع ‏{‏مِنَ الغيظ‏}‏ أي لأجل الغضب والحنق لما يرون من ائتلاف المؤمنين واجتماع كلمتهم ونصرة الله تعالى إياهم بحيث عجز أعداؤهم عن أن يجدوا سبيلاً إلى التشفي واضطروا إلى مداراتهم، وعض الأنامل عادة النادم الأسيف العاجز، ولهذا أشير به إلى حال هؤلاء وليس المراد أن هناك عضاً بالفعل‏.‏

 ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد بلسانك، وقيل‏:‏ المراد حدث نفسك بإذلالهم وإعزاز الإسلام من غير أن يكون هناك قول، وقيل‏:‏ هو خطاب لكل مؤمن وتحريض لهم على عداوتهم وحث لهم على خطابهم خطاب الخصماء فإنه لا أقطع للمحبة من جراحة اللسان فالمقصود على هذا من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ‏}‏ مجرد الخطاب بما يكرهونه، والصحيح الذي اتفقت عليه كلمتهم أنه دعاء عليهم وكون ذلك مما فيه خفاء إذ لا يخاطب المدعو عليه بل الله تعالى ويسأل منه ابتلاؤه لا خفاء في خفائه وأنه غفلة عن قولهم قاتلك الله تعالى، وقولهم‏:‏ دم بعز، وبت قرير عين، وغيره مما لا يحصى، والمراد كما قيل‏:‏ الدعاء بدوام الغيظ وزيادته بتضاعف قوة الإسلام وأهله حتى يهلكوا به، وهذا عند العلامة الثاني من كناية الكناية حيث عبر بدعاء موتهم بالغيظ عن ملزومه الذي هو دعاء ازدياد غيظهم إلى حين الهلاك وبه عن ملزومه الذي هو قوة الإسلام وعز اسمه وذلك لأن مجرد الموت بالغيظ أو ازدياده ليس مما يحسن أن يطلب ويدعى به‏.‏

وتعقب بأن المجاز على المجاز مذكور وأما الكناية على الكناية فنادرة وقد صرح بها السبكي في «قواعده الأصولية» ونقل فيها خلافاً، ومع هذا الفرق بين الكناية بالوسائط والكناية على الكناية مما يحتاج إلى التأمل الصادق ولعله فرق اعتباري، وأيضاً ما ذكره من أن مجرد الموت بالغيظ الخ مدفوع بأنه يمكن أن يكون المحسن لذلك ما فيه من الإشارة إلى ذمهم حيث إنهم قد استحقوا هذا الموت الفظيع والحال الشنيع‏.‏

‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ أي بما خفي فيها، وهذا يحتمل أن يكون من تتمة المقول أي قل لهم إن الله تعالى عليم بما هو أخفى مما تخفونه من عض الأنامل إذا خلوتم فيجازي به، وأن يكون خارجاً عنه أي قل لهم ما تقدم ولا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني عليم بالأخفى من ضمائرهم، والنهي عن التعجب حينئذ إما خارج مخرج العادة مجازاً بناءاً على أن المخاطب عالم بمضمون هذه الجملة، وإما باق على حقيقته إن كان المخاطب غير ذلك ممن يقف على هذا الخطاب فلا إشكال على التقديرين خلافاً لمن وهم في ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تَمْسَسْكُمْ‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏حَسَنَةٌ‏}‏ نعمة من ربكم كالألفة واجتماع الكلمة والظفر بالأعداء ‏{‏تَسُوْهُمْ‏}‏ أي تحزنهم وتغظهم ‏{‏تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ أي محنة كإصابة العدو منكم واختلاف الكلمة فيما بينكم ‏{‏يَفْرَحُواْ‏}‏ أي يبتهجوا ‏{‏بِهَا‏}‏ وفي ذلك إشارة إلى تناهي عداوتهم إلى حد الحسد والشماتة، والمس قيل‏:‏ مستعار للإصابة فهما هنا بمعنى، وقد سوى بينهما في غير هذا الموضع كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 50‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 20، 21‏]‏ والتعبير هنا بالمسّ مع الحسنة وبالإصابة مع السيئة لمجرد التفنن في التعبير، وقال بعض المحققين‏:‏ الأحسن والأنسب بالمقام ما قيل‏:‏ إنه للدلالة على إفراطهم في السرور والحزن لأن المسّ أقل من الإصابة كما هو الظاهر فإذا ساءهم أقلّ خير نالهم فغيره أولى منه، وإذا فرحوا بأعظم المصائب مما يرثي له الشامت ويرق الحاسد فغيره أولى فهم لا ترجى موالاتهم أصلاً فكيف تتخذونهم بطانة‏؟‏ا والقول بأنه لا يبعد أن يقال‏:‏ إن ذلك إشارة إلى أن ما يصيبهم من الخير بالنسبة إلى لطف الله تعالى معهم خير قليل وما يصيبهم من السيئة بالنسبة لما يقابل به من الأجر الجزيل عظيم بعيد كما لا يخفى‏.‏

‏{‏وَأَن تَصْبِرُواْ‏}‏ على أذاهم أو على طاعة الله تعالى ومضض الجهاد في سبيله ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ ما حرم عليكم ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ‏}‏ أي مكرهم وأصل الكيد المشقة، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ بكسر الضاد وجزم الراء على أنه جواب الشرط من ضاره يضيره بمعنى ضره يضره، وضم الراء في القراءة المشهورة لاتباع ضمة الضاد كما في الأمر المضاعف المضموم العين كمد، والجزم مقدر، وجوزوا في مثله الفتح للخفة والكسر لأجل تحريك الساكن، وقيل‏:‏ إنه مرفوع بتقدير الفاء وهو تكلف مستغنى عنه ‏{‏شَيْئاً‏}‏ نصب على المصدر أي لا يضركم كيدهم شيئاً من الضرر لا كثيراً ولا قليلاً ببركة الصبر والتقوى لكونهما من محاسن الطاعات ومكارم الأخلاق ومن تحلى بذلك كان في كنف الله تعالى وحمايته من أن يضره كيد عدو، وقيل‏:‏ لا يضركم كيدهم لأنه أحاط بكم فلكم الأجر الجزيل وإن بطل فهو النعمة الدنيا فأنتم لا تحرمون الحسنى على كلتا الحالتين وفيه بعد‏.‏

‏{‏إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ من الكيد‏.‏

‏{‏إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ من الكيد‏.‏ وقرأ الحسن وأبو حاتم تعملون بالتاء الفوقانية وهو خطاب للمؤمنين أي ما تعملون من الصبر والتقوى ‏{‏مُحِيطٌ‏}‏ علماً أو بالمعنى اللائق بجلاله فيعاقبهم به أو فيثيبكم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏121‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ غَدَوْتَ‏}‏ أي واذكر إذ خرجت غدوة ‏{‏مِنْ‏}‏ عند ‏{‏أَهْلِكَ‏}‏ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة والكلام مستأنف سيق للاستشهاد بما فيه من استتباع عدم الصبر والتقوى للضرر على أن وجودهما مستتبع لما وعد من النجاة عن مضرة كيد الأعداء وكان الخروج من حجرة عائشة رضي الله تعالى عنها ‏{‏تُبَوّىء المؤمنين‏}‏ أي توطنهم قاله ابن جبير وقيل‏:‏ تنزلهم، وقيل‏:‏ تسوي وتهيء لهم، ويؤيده قراءة للمؤمنين إذ ليس محل التقوية والزيادة غير فصيحة ‏{‏مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ‏}‏ أي مواطن ومواقف ومقامات له، وأصل المقعد والمقام محل القعود والقيام ثم توسع فيه فأطلق بطريق المجاز على المكان مطلقاً وإن لم يكن فيه قيام وقعود، وقد يطلق على من به كقولهم المجلس السامي والمقام الكريم وجملة ‏{‏تُبَوّىء‏}‏ حال من فاعل ‏{‏غَدَوْتَ‏}‏ ولكون المقصود تذكير الزمان الممتد المتسع لابتداء الخروج والتبوئة وما يترتب عليها إذ هو المذكر للقصة لم يحتج إلى القول بأنها حال مقدرة أي ناوياً وقاصداً للتبوئة، ومقاعد مفعول ثان لتبوىء والجار والمجرور متعلق بالفعل قبله أو بمحذوف وقع صفة لمقاعد، ولا يجوز كما قال أبو البقاء أن يتعلق به لأن المراد به المكان وهو لا يعمل‏.‏

روى ابن إسحق وجماعة عن ابن شهاب ومحمد بن يحيى والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم وكل قد حدث بعض الحديث «أنه لما أصيب يوم بدر من كفار قريش أصحاب القليب ورجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية في رجال من قريش ممن أصيبت آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم يوم بدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة فقالوا‏:‏ يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل أخياركم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا ندرك به ثأرنا بمن أصاب منا ففعلوا فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرجت بجدها وجديدها وأحابيشها ومن تابعها من بني كنانة وأهل تهامة وخرجوا معهم بالظعن التماس الحفيظة وأن لا يفروا وخرج أبو سفيان وهو قائد الناس بهند بنت عتبة وخرج آخرون بنساء أيضاً فأقبلوا حتى نزلوا بعينين بجبل ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مقابل المدينة فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلوا حيث نزلوا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني رأيت بقراً تنحر ورأيت في ذباب سيفي ثلما ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة فأولتها المدينة فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها وكان رأي عبد الله بن أبيّ بن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى رأيه في ذلك أن لا يخرج إليهم وكان صلى الله عليه وسلم يكره الخروج فقال رجال من المسلمين ممن أكرمه الله تعالى بالشهادة يوم أحد وغيرهم ممن كان فاته يوم بدر‏:‏ أخرج بنا يا رسول الله إلى أعدائنا لا يرون أنا جبنا عنهم وضعفنا فقال عبد الله بن أبيّ بن سلول‏:‏ يا رسول الله أقم بالمدينة لا تخرج إليهم فوالله ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا ولا دخل علينا إلا أصبنا منه فدعهم يا رسول الله فإن أقاموا أقاموا بشر محبس وإن دخلوا قاتلهم الرجال من فوقهم وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء القوم حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمة حربه وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة ثم خرج عليهم وقد ندم الناس وقالوا‏:‏ استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن لنا ذلك فإن شئت فاقعد صلّى الله تعالى عليك وسلّم فقال‏:‏ ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمتهُ أن يضعها حتى يقاتل فخرج صلى الله عليه وسلم بألف من أصحابه وقد وعدهم الفتح أن يصبروا، واستعمل ابن أم مكتوم على الصلاة بالناس حتى إذا كان بالشوط بين المدينة وأحد انخذل عنه عبد الله بثلث الناس، وقال‏:‏ أطاعهم وعصاني وما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس فرجع بمن تبعه من قومه من أهل النفاق والريب واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حزام أخو بني سلمة يقول‏:‏ يا قوم أذكركم الله تعالى أن تخذلوا قومكم ونبيكم عند ما حضر من عدوهم قال‏:‏ لو نعلم أنكم تقاتلون لما أسلمناكم ولكنا لا نرى أنه يكون قتال فلما استعصوا عليه وأبو إلا الانصراف قال‏:‏ أبعدكم الله تعالى أعداء الله فسيغني الله تعالى عنكم نبيه صلى الله عليه وسلم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله فقال صلى الله عليه وسلم وكان يحب الفأل ولا يعتاف لصاحب السيف‏:‏ «شم سيفك فإني أرى السيوف ستسل اليوم» ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل الشعب من أحد من عدوة الوادي إلى الجبل فجعل ظهره وعسكره إلى أحد وقال‏:‏ «لا يقاتل أحد حتى نأمره بالقتال وتعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال ومشى على رجليه وجعل يصف أصحابه فكأنما يقوم بهم القدح إن رأى صدراً خارجاً قال‏:‏ تأخر وهو في سبعمائة رجل وأمر على الرماة عبد الله بن جبير وهو معلم يومئذ بثياب بيض وكانوا خمسين رجلاً وقال‏:‏ انضح الخيل عنا بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كان علينا أو لنا فاثبت مكانك لا يؤتين من قبلك وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير وتعبأت قريش وهم ثلاث آلاف فيهم مائتا فرس قد جنبوها ووقع القتال وكان ذلك يوم السبت للنصف من شوال سنة ثلاث من الهجرة وكان ما كان» وأشار الله تعالى إلى هذا اليوم بهذه الآية، والقول بأنها إشارة إلى يوم بدر كقول مقاتل بأنها إشارة إلى يوم الأحزاب خلاف ما عليه الجمهور‏.‏

‏{‏والله سَمِيعٌ‏}‏ لسائر المسموعات ويدخل ما وقع في هذه الغزوة من الأقوال دخولاً أولياً ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بسائر المعلومات ومنها ما في ضمائر القوم يومئذ والجملة اعتراض للإيذان بأنه قد ‏(‏صدر عنهم هناك‏)‏ من الأقوال والأفعال ما لا ينبغي صدوره منهم، ومن ذلك قول أصحاب عبد الله بن جبير حين رأوا غلبة المسلمين على كفار قريش‏:‏ قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة وجعلوا ينسلون رجلاً فرجلاً حتى أخلوا مراكزهم ولم يبق مع عبد الله سوى اثني عشر رجلاً مع إيصاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بثبوتهم مكانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ هَمَّتْ‏}‏ قيل‏:‏ بدل من ‏{‏إِذْ غَدَوْتَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏ مبين لما هو المقصود بالتذكير‏.‏ وجوز أن يكون ظرفاً لتبوىء أو لغدوت أو لسميع عليم على سبيل التنازع أو لهما معاً في رأي، وليس المراد تقييد كونه سميعاً عليماً بذلك الوقت ‏{‏طَّائِفَتَانِ مِنكُمْ‏}‏ أي فرقتان من المسلمين وهما حيان من الأنصار بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله ابن عباس وجابر بن عبد الله والحسن وخلق كثير، وقال الجبائي‏:‏ همت طائفة من المهاجرين وطائفة من الأنصار ‏{‏أَن تَفْشَلاَ‏}‏ أي تضعفا وتجبنا حين رأوا انخذال عبد الله بن أبيّ بن سلول مع من معه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنسبك من أن والفعل متعلق بهمت والباء محذوفة أي همت بالفشل وكان المراد به هنا لازمه لأن الفعل الاختياري الذي يتعلق الهم به والظاهر أن هذا الهم لم يكن عن عزم وتصميم على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم ومفارقته لأن ذلك لا يصدر مثله عن مؤمن بل كان مجرد حديث نفس ووسوسة كما في قوله‏:‏

أقول لها إذا جشأت وجاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي

ويؤيد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله وَلِيُّهُمَا‏}‏ أي ناصرهما والجملة اعتراض‏.‏ وجوز أن تكون حالاً من فاعل همت أو من ضميره في تفشلا مفيدة لاستبعاد فشلهما أو همهما مع كونهما في ولاية الله تعالى، وقرأ عبد الله والله وليهم بضمير الجمع على حد ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 9‏]‏‏.‏

‏{‏وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ أي عليه سبحانه لا على غيره كما يؤذن به تقديم المعمول وإظهار الاسم الجليل للتبرك به والتعليل وأل في ‏{‏المؤمنون‏}‏ للجنس ويدخل فيه الطائفتان دخولاً أولياً، وفي هذا العنوان إشعار بأن الإيمان بالله تعالى من موجبات التوكل عليه، وحذف متعلق التوكل ليفيد العموم أي ليتوكلوا عليه عز شأنه في جميع أمورهم جليلها وحقيرها سهلها وحزنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ‏}‏ بيان لما يترتب على الصبر والتقوى إثر بيان ما ترتب على عدمهما أو مساقة لإيجاب التوكل على الله تعالى بتذكير ما يوجبه‏.‏ وبدر كما قال الشعبي بئر لرجل من جهينة يقال له بدر فسميت به، وقال الواقدي‏:‏ اسم للموضع، وقيل‏:‏ للوادي وكانت كما قال عكرمة متجراً في الجاهلية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إن بدراً ماء بين مكة والمدينة التقى عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمشركون وكان أول قتال قاتله النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في السابع عشر من شهر رمضان يوم الجمعة سنة اثنتين من الهجرة، والباء بمعنى في أي نصركم الله في بدر ‏{‏وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ‏}‏ حال من مفعول نصركم وأذلة جمع قلة لذليل، واختير على ذلائل ليدل على قلتهم مع ذلتهم، والمراد بها عدم العدة لا الذل المعروف فلا يشكل دخول النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الخطاب إن قلنا به، وقيل‏:‏ لا مانع من أن يراد المعنى المعروف ويكون المراد وأنتم أذلة في أعين غيركم وإن كنتم أعزة في أنفسكم، وقد تقدم الكلام على عددهم وعدد المشركين إذ ذاك‏.‏

‏{‏فاتقوا الله‏}‏ باجتناب معاصيه والصبر على طاعته ولم يصرح بالأمر بالصبر اكتفاءاً بما سبق وما لحق مع الإشعار على ما قيل بشرف التقوى وأصالتها وكون الصبر من مباديها اللازمة لها وفي ترتيب الأمر بها على الإخبار بالنصر إعلام بأن نصرهم المذكور كان بسبب تقواهم فمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ لعلكم تقومون بشكر ما أنعم به عليكم من النصر القريب بسبب تقواكم إياه، ويحتمل أن يكون كناية أو مجازاً عن نيل نعمة أخرى توجب الشكر كأنه قيل‏:‏ فاتقوا الله لعلكم تنالون نعمة من الله تعالى فتشكرونه عليها فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له ومستعد إياه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ظرف لـِ ‏{‏نَصَرَكُمُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 123‏]‏، والمراد به وقت ممتد وقدم عليه الأمر بالتقوى إظهاراً لكمال العناية، وقيل‏:‏ بدل ثان من ‏{‏إذ غدوت‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 121‏]‏ وعلى الأول‏:‏ يكون هذا القول ببدر، وعلى ذلك الحسن وغيره‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وغيرهما عن الشعبي أن المسلمين بلغهم يوم بدر أن كرز بن جابر المحاربي يريد أن يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى ‏{‏أَلَنْ يَكْفِيكُمْ‏}‏ الخ فبلغت كرزاً الهزيمة فلم يمد المشركين؛ وعلى الثاني‏:‏ يكون القول بأحد وكان مع اشتراط الصبر والتقوى عن المخالفة ولم يوجدا منهم فلم يمدوا، ونسب ذلك إلى عكرمة وقتادة في إحدى الروايتين عنه‏.‏

‏{‏أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاَفٍ مّنَ الملئكة مُنزَلِينَ‏}‏ الكفاية سد الحاجة وفوقها الغنى بناءاً على أنه الزيادة على نفي الحاجة والإمداد في الأصل إعطاء الشيء حالاً بعد حال، ويقال مد في السير إذا استمر عليه، وامتد بهم السير إذا طال واستمر، وعن بعضهم ما كان بطريق التقوية والإعانة يقال فيه أمده يمده إمداداً وما كان بطريق الزيادة يقال فيه‏:‏ مده مداً، وقيل‏:‏ يقال‏:‏ مده في الشر وأمده في الخير والهمزة لإنكار أن لا يكفيهم ذلك، وأتى بلن لتأكيد النفي بناءاً على ما ذهب إليه البعض، وفيه إشعار بأنهم كانوا حينئذ كالآيسين من النصر لقلة عددهم وعددهم، وفي التعبير بعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضمير المخاطبين ما لا يخفى من اللطف وتقوية الإنكار، وأن يمدكم في تأويل المصدر فاعل بيكفيكم ومن الملائكة بيان أو صفة لآلاف أو لما أضيف إليه‏.‏ ومنزلين صفة لثلاثة آلاف، وقيل‏:‏ حال من ‏(‏الملائكة‏)‏ وفي وصفهم بذلك إشارة إلى أنهم من أشرف الملائكة وقد أنزلوا على ما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره من السماء الثالثة وذكر سر ذلك في «الفتوحات»، وقرىء منزلين بالتشديد للتكثير أو للتدريج، وقرىء مبنياً للفاعل من الصيغتين على معنى منزلين الرعب في قلوب أعدائكم أو النصر لكم والجمهور على كسر التاء من ثلاثة، وقد أسكنت في الشواذ ووقف عليها بإبدالها هاءاً أيضاً على أنه أجرى الوصل مجرى الوقف فيهما ويضعف ذلك أن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آَلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏بلى‏}‏ إيجاب لما بعد لن أي‏:‏ بلى يكفيكم ذلك ثم وعدهم الزيادة بالشرط فقال سبحانه وتعالى ‏{‏إِن تَصْبِرُواْ‏}‏ على مضض الجهاد وما أمرتم به ‏{‏وَتَتَّقُواْ‏}‏ ربكم بالاجتناب عن معاصيه وعدم المخالفة له ‏{‏وَيَأْتُوكُمْ‏}‏ أي المشركون أو أصحاب كرز كما قال الشعبي‏:‏ ‏{‏مّن فَوْرِهِمْ هذا‏}‏ أصل الفور مصدر من فارت القدر إذا اشتد غليانها ومنه «إن شدة الحر من فور جهنم» ويطلق على الغضب لأنه يشبه فور القدر وعلى أول كل شيء، ثم إنه استعير للسرعة، ثم أطلق على الحال التي لا بطء فيها ولا تراخي، والمعنى ويأتوكم في الحال ووصف بهذا لتأكيد السرعة بزيادة التعيين والتقريب ونظم إتيانهم بسرعة في سلك شرطي الإمداد ومداريه مع تحقق الإمداد لا محالة ‏(‏سواء‏)‏ أسرعوا أو أبطأوا إيذاناً بتحقق سرعة الإمداد لا لتحقيق أصله، أو لبيان تحققه على أي حال فرض على أبلغ وجه وآكده حيث علقه بأبعد التقادير ليعلم تحققه على سائرها بالأولى فإن هجوم الأعداء بسرعة من مظان عدم لحوق المدد عادة فمتى علق به تحقق الإمداد مع منافاته له أفاد تحققه لا محالة مع ما هو غير مناف له كذا قيل‏.‏

وربما يفهم منه أن الإمداد المرتب على الشرط في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ واتخذ مِنَ الملئكة‏}‏ وقع لهم وفي ذلك ترديد وتردد لأن هذا الكلام إن كان في غزوة أحد فلا شبهة في عدم وقوع ذلك ولا بملك واحد لعدم وقوع الشرط ولذا وقعت الهزيمة وإن كان في غزوة بدر كما هو المعتمد فقد وقع الاختلاف في أنهم أمدوا بهذه الخمسة آلاف أو لا‏.‏ فذهب الشعبي إلى أنهم أمدوا بغيرها ولم يمدوا بها بناءاً على تعليق الامداد بها بمجموع الأمور الثلاثة وهي الصبر والتقوى وإيتاء أصحاب كرز وقد فقد الأمر الثالث كما نقلناه أولاً فلم يوجد المجموع لانعدامه بانعدام بعض أجزائه فلم يوجد الإمداد المذكور كما صرح به الشعبي، نعم ذهب جمع إلى خلافه ولعله مبنى صاحب القيل لكن يبقى أن تفسير الفور بما فسر به غير متعين بل لم يوجد صريحاً في كلام السلف، والذي ذهب إليه عكرمة ومجاهد وأبو صالح مولى أم هانىء أنه بمعنى الغضب فحينئذ تكون ‏(‏من‏)‏ للسببية أي يأتوكم بسبب غضبهم عليكم، والإشارة إما لتعظيم ذلك الغضب من حيث إنه شديد ومتمكن في القلوب، وإما لتحقيره من حيث إنه ليس على الوجه اللائق والطريق المحمود فإنه إنما كان على مخالفة المسلمين لهم في الدين وتسفيه آرائهم وذم آلهتهم أو على ما أوقعوا فيهم وحطموا رؤوس رؤسائهم يوم بدر، وإلى الثاني ذهب عكرمة وهو مبني على أن هذا القول وقع في أحد‏.‏

وذهب ابن عباس فيما أخرجه عنه ابن جرير إلى تفسيره بالسفر أي ويأتوكم من سفرهم هذا، قيل‏:‏ وهو مبني أيضاً على ما بني عليه سابقه لأن الكفار في غزوة أحد ندموا بعد انصرافهم حيث لم يعبروا على المدينة وهموا بالرجوع فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر أصحابه بالتهيؤ إليهم، ثم قال‏:‏ إن صبرتم على الجهاد واتقيتم وعادوا إليكم من سفرهم هذا أمدكم الله تعالى بخمسة آلاف من الملائكة فأخذوا في الجهاد وخرجوا يتبعون الكفار على ما كان بهم من الجراح فأخبر المشركين من مر برسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج يتبعكم فخاف المشركون إن رجعوا أن تكون الغلبة للمسلمين وأن يكون قد التأم إليهم من كان تأخر عنهم وانضم إليهم غيرهم فدسوا نعيماً الأشجعي حتى يصدهم بتعظيم أمر قريش وأسرعوا بالذهاب إلى مكة وكفى الله تعالى المسلمين أمرهم والقصة معروفة‏.‏

ثم إن تفسير الفور بالسفر مما لم نظفر به فيما بين أيدينا من الكتب اللغوية فلعل الفور بمعنى الحال التي لا بطء فيها وهذا التفسير بيان لحاصل المعنى، وذهب الحسن والربيع والسدي وقتادة وغيرهم أن ‏{‏مّن فَوْرِهِمْ‏}‏ بمعنى وجههم وليس بنص فيا ذهب إليه متأخرو المفسرين أصحاب القيل لأنه يحتمل أن يكون المراد من الوجه الجهة التي يقصدها المسافر، ويحتمل أن يكون من وجه الدهر بمعنى أوله اللهم إلا أن يقال‏:‏ إنه وإن لم يكن نصاً لكنه ظاهر قريب من النص لأن كون الوجه بمعنى الجهة المذكورة وإن جاء في اللغة إلا أن كون الفور كذلك في حيز المنع واحتمال كونه من وجه الدهر بمعنى أوله يجع إلى ما قالوا فتدبر‏.‏ واعلم أن هذا الإمداد وقع تدريجاً فكان أولاً بألف ثم صاروا ألفين ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف لا غير؛ فمعنى يمددكم بخمسة آلاف يمددكم بتمام خمسة آلاف، وإليه ذهب الحسن، وقال غيره‏:‏ كانت الملائكة ثمانية آلاف فالمعنى يمددكم بخمسة آلاف أخر‏.‏

‏{‏مُسَوّمِينَ‏}‏ من التسويم وهو إظهار علامة الشيء، والمراد معلمين أنفسهم أو خيلهم، وقد اختلفت الروايات في ذلك، فعن عبد الله بن الزبير أن الزبير كانت عليه عمامة صفراء معتجراً بها فنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر، وأخرج ابن إسحق والطبراني عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كانت سيماء الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم، ويوم حنين عمائم حمر، وفي رواية أخرى عنه لكن بسند ضعيف أنها كانت يوم بدر بعمائم سود ويوم أحد بعمائم حمر‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال‏:‏ كانت سيماء الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في نواصي الخيل وأذنابها وكانوا كما قال الربيع على خيل بلق، وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة أنهم كانوا مسومين بالعهن الأحمر، وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه قال‏:‏ كانوا معلمين مجزوزة أذناب خيولهم ونواصيها فيها الصوف والعهن، وأنت تعلم أنه لا مانع من أن يكونوا معلمين أنفسهم وخيولهم أيضاً وهذا على قراءة ابن كثير وأبي عمرو وعاصم ‏{‏مُسَوّمِينَ‏}‏ بكسر الواو، وأما على قراءة الباقين ‏{‏مُسَوّمِينَ‏}‏ بفتح الواو على أنه اسم مفعول فقيل‏:‏ المراد به معلمين من جهة الله تعالى، وقيل‏:‏ مرسلين مطلقين، ومنه قولهم‏:‏ ناقة سائمة أي مرسلة في المرعى، وإليه ذهب السدي والمتبادر على هذه القراءة أن الإسامة لهم، وأما أنها كانت لخيلهم فغير ظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ‏(‏126‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا جَعَلَهُ الله‏}‏ أي الامداد المفهوم من الفعل المقدر المدلول عليه بقوة الكلام كأنه قيل‏:‏ فأمدكم الله تعالى بما ذكر وما جعل الله تعالى ذلك الإمداد ‏{‏إِلاَّ بشرى لَكُمْ‏}‏ وقيل‏:‏ الضمير للوعد بالإمداد، وقيل‏:‏ للتسويم أو للتنزيل أو للنصر المفهوم من نصركم السابق ومتعلق البشارة غيره، وقيل‏:‏ للإمداد المدلول عليه بأحد الفعلين، والكل ليس بشيء كما لا يخفى، والبشرى إما مفعول له، و‏(‏ جعل‏)‏ متعدية لواحد أو مفعول لها إن جعلت متعدية لاثنين، وعلى الأول‏:‏ الاستثناء مفرغ من أعم العلل أي وما جعل إمدادكم بإنزال الملائكة لشيء من الأشياء إلا للبشارة لكم بأنكم تنصرون، وعلى الثاني‏:‏ مفرغ من أعم المفاعيل أي وما جعله الله تعالى شيئاً من الأشياء إلا بشرى لكم‏.‏ والجملة ابتداء كلام غير داخل في حيز القول بل مسوق من جنابه تعالى لبيان أن الأسباب الظاهرة بمعزل عن التأثير بدون إذنه سبحانه وتعالى، فإن حقيقة النصر مختص به عز اسمه ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا منه عند فقدان أسبابه وأماراته وهي معطوفة على فعل مقدر كما أشرنا إليه، ووجه الخطاب نحو المؤمنين تشريفاً لهم وإيذاناً بأنهم هم المحتاجون لما ذكر، وأما رسوله صلى الله عليه وسلم فغني عنه بما منّ به عليه من التأييد الروحاني والعلم الرباني‏.‏

‏{‏وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ‏}‏ أي ولتسكن قلوبكم بالإمداد فلا تخافوا كثرة عدد العدو وقلة عددكم وهذا إما معطوف على ‏{‏بُشْرىً‏}‏ باعتبار الموضع وهو كالمعطوف عليه علة غائية للجعل إلا أنه نصب الأول لاجتماع شرائطه ولم ينصب الثاني لفقدانها، وقيل‏:‏ للإشارة أيضاً إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 8‏]‏ وإما متعلق بمحذوف معطوف على الكلام السابق أي ولتطمئن قلوبكم به، فعل ذلك وهو أولى من تقدير بشركم كما فعل أبو البقاء، والثاني متعين على الاحتمال الثاني في الأول‏.‏

‏{‏وَمَا النصر‏}‏ أي على الإطلاق فيندرج فيه النصر المعهود دخولاً أولياً ‏{‏إِلاَّ مِنْ عِندِ الله‏}‏ المودع في الأسباب بمقتضى الحكمة قوة لا تأثر إلا به أو وما النصر المعهود إلا من عنده سبحانه وتعالى لا من الملائكة لأن قصارى أمرهم ما ذكر من البشارة وتقوية القلوب ولم يقاتلوا أو لأن قصارى أمرهم أنهم قاتلوا بتمكين الله تعالى لهم ولم يكن لهم فعل استقلالاً ولو شاء الله تعالى ما فعلوا على أن مجرد قتالهم لا يستدعي النصر بل لا بد من انضمام ضعف المقابلين المقاتلين ولو شاء الله تعالى لسلطهم عليهم فحيث أضعف وقوى ومكن وما مكن وبه حصل النصر كان ذلك منه سبحانه وتعالى‏.‏

والآية على هذا لا تكون دليلاً لمن زعم أن المسببات عند الأسباب لا بها وقد مر تحقيقه فتذكر، وكذا لا دليل فيها على وقوع قتالهم ولا على عدمه لاحتمالها الأمرين، وبكل قال بعض‏.‏ والمختار ما روي عن مجاهد أن الملائكة لم يقاتلوا في غزواته صلى الله عليه وسلم إلا في غزوة بدر وإنما حضروا في بعضها بمقتضى ما علم الله تعالى من المصلحة مثل حضورهم حلق أهل الذكر، وربما أعانوا بغير القتال كما صنعوا في غزوة أحد على قول، فعن ابن إسحق أن سعد بن مالك كان يرمي في غزوة أحد وفتى شاب كان ينبل له كلما فني النبل أتاه به وقال له‏:‏ ارم أبا إسحق ارم أبا إسحق، فلما انجلت المعركة سأل عن ذلك الرجل فلم يعرف، وأنكر أبو بكر الأصم الإمداد بالملائكة، وقال‏:‏ إن الملك الواحد يكفي في إهلاك سائر أهل الأرض كما فعل جبريل عليه السلام بمدائن قوم لوط فإذا حضر هو مأموراً بالقتال فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار، وأيضاً أي فائدة في إرسال سائر الملائكة معه وهو القوي الأمين، وأيضاً إن أكابر الكفار الموجودين في غزوة القتال قاتل كل منهم من الصحابة معلوم ولم يعلم أن أحداً من الملائكة قتل أحداً منهم، وأيضاً لو قاتلوا فإما أن يكونوا بحيث يراهم الناس أو لا، وعلى الأول‏:‏ يكون المشاهد من عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر ألوفاً عديدة ولم يقل بذلك أحد، وهو أيضاً خلاف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 44‏]‏ ولو كانوا في غير صورة ابن آدم لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك ولو كان لنقل ألبتة، وعلى الثاني‏:‏ يلزم حز الرؤوس وتمزيق البطون ونحو ذلك من الكفار من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات وقد وقع بين جمعين سالم ومكسر فكان يجب أن يتواتر ويشتهر لدى الموافق والمخالف فحيث إنه لم يشتهر دلّ على أنه لم يكن، وأيضاً أنهم لو كانوا أجساماً كثيفة وجب أن يراهم الكل وإن كانوا أجساماً لطيفة هوائية تعذر ثبوتهم على الخيل انتهى‏.‏

ولا يخفى أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة ولا بمن يعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فعال لما يريد فما كان يليق بالأصم إلا أن يكون أخرس عن ذلك إذ نص القرآن ناطق بالإمداد؛ ووروده في الأخبار قريب من المتواتر فكأن الأصم أصم عن سماعه أو أعمى عن رؤية رباعه، وقد روى عبد بن عمير قال‏:‏ لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون لم نر الخيل البلق ولا الرجال البيض الذين كنا نراهم يوم بدر، والتحقيق في هذا المقام كما قال بعض المحققين‏:‏ إن التكليف ينافي الإلجاء وأنه تعالى شأنه وإن كان قادراً على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك بل بلا سبب، وكذا هو قادر على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم لكنه سبحانه أراد إظهار هذا الدين على مهل وتدريج وبواسطة الدعوة وبطريق الابتلاء والتكليف فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى وله الحكم في الآخرة والأولى، وبهذا يندفع كثير من تلك الشبه، وإهلاك قوم لوط عليه الصلاة والسلام كان بعد انقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس فلا جرم أظهر الله تعالى القدرة وجعل عاليها سافلها، وفي غزوة أحد كان الزمان زمان تكليف فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق عن المنافق والثابت عن المضطرب ولو أجري الأمر فيها كما أجري في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب، ثم لا يخفى أن الملائكة إما أجسام لطيفة نورانية وإما أرواح شريفة قدسية‏.‏

وعلى التقديرين لهم الظهور في صور بني آدم مثلاً من غير انقلاب العين وتبدل الماهية كما قال ذلك العارفون من المحققين في ظهور جبريل عليه السلام في صورة دحية الكلبي ومثل هذا من وجه ولله تعالى المثل الأعلى ما صح من تجلي الله تعالى لأهل الموقف بصورة فيقول لهم‏:‏ أنا ربكم فينكرونه فإن الحكم في تلك القضية صادق مع أن الله تعالى وتقدس وراء ذلك وهو سبحانه في ذلك التجلي باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق، ومن سلم هذا ولا يسلمه إلا ذو قلب سليم لم يشكل عليه الإمداد بالملائكة وظهورهم على خيول غيبية ثابتين عليهما حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية والمصلحة الربانية ولا يلزم من ذلك رؤية كل ذي بصر لهم لجواز إحداث أمر مانع عنها إما في الرائي أو في المرئي ولا مانع من أنهم يرون أحياناً ويخفون أحياناً ويرى البعض ويخفى البعض، وزمام ذلك بيد الحكيم العليم فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن والشيء متى أمكن وورد به النص عن الصادق وجب قبوله ومجرد الاستبعاد لا يجدي نفعاً ولو ساغ التأويل لذلك لزم تأويل أكثر هذه الشريعة بل الشرائع بأسرها وربما أفضى ذلك إلى أمر عظيم، فالواجب تسليم كل ممكن جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وتفويض تفصيل ذلك وكيفيته إلى الله تعالى‏.‏

‏{‏العزيز‏}‏ أي الغالب الذي لا يغالب فيما قضى به، وقيل‏:‏ القادر على انتقامه من الكفار بأيدي المؤمنين وفي إجراء هذا الوصف هنا عليه تعالى إيذان بعلة اختصاص النصر به سبحانه‏.‏ ‏{‏الحكيم‏}‏ أي الذي يضع الأشياء مواضعها ويفعل على ما تقتضيه الحكمة في سائر أفعاله ومن ذلك نصره للمؤمنين بواسطة إنزال الملائكة، وفي الاتيان بهذا الوصف رد على أمثال الأصم في إنكارهم ما نطقت به الظواهر فسبحانه من عليم حكيم وعزيز حليم‏.‏