فصل: تفسير الآية رقم (152)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏152‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ‏}‏ أخرج الواحدي عن محمد بن كعب قال‏:‏ لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى المدينة، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد، قال ناس من أصحابه‏:‏ من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى النصر‏؟‏ فأنزل الله تعالى الآية، و‏{‏وَعْدَهُ‏}‏ مفعول ثان لصدق صريحاً فإنه يتعدى إلى مفعولين في مثل هذا النحو، وقد يتعدى إلى الثاني بحرف الجر، فيقال‏:‏ صدقت زيداً في الحديث، ومن هنا جوز بعضهم أن يكون نصباً بنزع الخافض؛ والمراد بهذا الوعد ما وعدهم سبحانه من النصر بقوله عز اسمه‏:‏ ‏{‏إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 125‏]‏ الخ وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم حيث قال للرماة‏:‏ «لا تبرحوا مكانكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم2‏.‏

وفي رواية أخرى‏:‏ «لا تبرحوا عن هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم في هذا المكان» وأيد الأول بما أخرجه البيهقي في «الدلائل» عن عروة قال‏:‏ كان الله تعالى وعدهم على الصبر والتقوى أن يمدهم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين وكان قد فعل فلما عصوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا مصافهم وتركت الرماة عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم أن لا يبرحوا منازلهم وأرادوا الدنيا رفع الله تعالى مدد الملائكة، واختار مولانا شيخ الإسلام الثاني، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا‏.‏ والقول بأن المراد ما وعده جل شأنه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 151‏]‏ ليس بشيء كما لا يخفى، وأخرج الإمام أحمد وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ ما نصر الله تعالى نبيه في موطن كما نصره يوم أحد فأنكروا ذلك، فقال ابن عباس‏:‏ بيني وبين من أنكر ذلك كتاب الله تعالى إن الله تعالى يقول يوم أحد‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ‏}‏ أي تقتلونهم وهو التفسير المأثور، واستشهد عليه الحبر بقوله عتبة الليثي‏:‏ ‏(‏نحسهم‏)‏ بالبيض حتى كأننا *** نفلق منهم بالجماجم حنظلا

وبقوله‏:‏

ومنا الذي لاقى بسيف محمد *** ‏(‏فحس‏)‏ به الأعداء عرض العساكر

وأصل معنى حسه أصاب حاسته بآفة فأبطلها مثل كبده ولذا عبر به عن القتل، ومنه جراد محسوس وهو الذي قتله البرد، وقيل‏:‏ هو الذي مسته النار، وكثيراً ما يستعمل الحس بالقتل على سبيل الاستئصال، والظرف متعلق بصدقكم وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفاً للوعد ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ أي بتيسيره وتوفيقه، والتقييد به لتحقيق أن قتلهم بما وعدهم الله تعالى من النصر‏.‏

‏{‏حتى إِذَا فَشِلْتُمْ‏}‏ أي فزعتم وجبنتم عن عدوكم‏.‏ ‏{‏وتنازعتم فِى الامر‏}‏ أي أمر الحرب أو أمره صلى الله عليه وسلم لكم في سدّ ذلك الثغر على ما تقدم تفسيره ‏{‏وَعَصَيْتُمْ‏}‏ إذ لم تثبتوا هناك وملتم إلى الغنيمة ‏{‏مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ‏}‏ من انهزام المشركين وغلبتكم عليهم‏.‏

قال مجاهد‏:‏ نصر الله تعالى المؤمنين على المشركين حتى ركب نساء المشركين على كل صعب وزلول ثم أديل عليهم المشركون بمعصيتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وروي أن خالد بن الوليد أقبل بخيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير رضي الله تعالى عنه أن احمل عليه فحمل عليه فهزمه ومن معه فلما رأى الرماة ذلك انكفأوا إلا قليلاً ودخلوا العسكر وخالفوا الأمر وأخلوا الخلة التي كانوا فيها فدخلت خيول المشركين من ذلك الموضع على الصحابة رضي الله تعالى عنهم فضرب بعضهم بعضاً والتبسوا وقتل من المسلمين أناس كثير بسبب ذلك‏.‏

‏{‏مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا‏}‏ وهم الرماة الذين طمعوا في النهب وفارقوا المركز له ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخرة‏}‏ كعبد الله بن جبير أمير الرماة ومن ثبت معه ممتثلاً أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى استشهد ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ‏}‏ أي كفكم عنهم حتى تحولت الحال من الغلبة إلى ضدها ‏{‏لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ أي ليعاملكم معاملة من يمتحن ليبين أمركم وثباتكم على الإيمان ففي الكلام استعارة تمثيلية، وإلا فالامتحان محال على الله تعالى، وفي حتى هنا قولان، أحدهما‏:‏ أنها حرف جر بمنزلة إلى ومتعلقها ‏{‏تَحُسُّونَهُمْ‏}‏ أو ‏{‏صَدَقَكُمُ‏}‏ أو محذوف تقديره دام لكم ذلك، وثانيهما‏:‏ أنها حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية من إذا وما بعدها وجواب ‏{‏إِذَا‏}‏ قيل‏:‏ ‏{‏تَنَازَعْتُمْ‏}‏، والواو زائدة واختاره الفراء، وقيل‏:‏ ‏{‏صَرَفَكُمْ‏}‏ و‏{‏ثُمَّ‏}‏ زائدة وهو ضعيف جداً والصحيح أنه محذوف وعليه البصريون، وقدره أبو البقاء‏:‏ بأن أمركم، وأبو حيان‏:‏ انقسمتم إلى قسمين بدليل ما بعده، والزمخشري‏:‏ منعكم نصره، وابن عطية‏:‏ انهزمتم ولكل وجهة، وبعض المتأخرين امتحنكم، وردّ بجعل الابتداء غاية للصرف المترتب على منع النصر، وعلى كل تقدير يكون ‏{‏صَرَفَكُمْ‏}‏ معطوفاً على ذلك المحذوف، وقيل‏:‏ إن ‏{‏إِذَا‏}‏ اسم كما في قولهم‏:‏ إذا يقوم زيد إذا يقوم عمرو؛ و‏{‏حتى‏}‏ حرف جر بمعنى إلى متعلقة بـ ‏{‏صَدَقَكُمُ‏}‏ باعتبار تضمنه معنى النصر كأنه قيل‏:‏ لقد نصركم الله تعالى إلى وقت فشلكم وتنازعكم الخ، و‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ‏}‏ حينئذ عطف على ذلك، وهاتان الجملتان الظرفيتان اعتراض بين المتعاطفين‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ بمحض التفضل أو لما علم من عظيم ندمكم على المخالفة، وقيل‏:‏ والمراد بذلك العفو عن الذنب وهو عام لسائر المنصرفين‏.‏ ويؤيد ذلك ما أخرجه البخاري عن عثمان بن موهب قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما فقال‏:‏ إني سائلك عن شيء فحدثني به أنشدك بحرمة هذا البيت أتعلم أن عثمان بن عفان فرّ يوم أحد‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فتعلمه تغيب عن بدر فلم يشهدها‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فتعلم أنه تخلف عن بيعة الرضوان فلم يشهدها‏؟‏ قال‏:‏ نعم فكبر فقال ابن عمر‏:‏ تعال لأخبرك ولأبين لك عما سألتني عنه، أما فراره يوم أحد فأشهد أن الله تعالى عفا عنه، وأما تغيبه عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن لك أجر رجل ممن شهد بدراً وسهمه‏.‏

وأما تغيبه عن بيعة الرضوان فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه فبعث عثمان فكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى وضرب بها على يده فقال‏:‏ هذه يد عثمان اذهب بها الآن معك، وقال البلخي‏:‏ إنه عفو عن الاستئصال، وروي ذلك عن ابن جريج، وزعم أبو علي الجبائي أنه خاص بمن لم يعص الله تعالى بانصرافه والكل خلاف الظاهر‏.‏ وقد يقال‏:‏ الداعي لقول البلخي‏:‏ إن العفو عن الذنب سيأتي ما يدل عليه بأصرح وجه، والتأسيس خير من التأكيد، وكلام ابن عمر رضي الله تعالى عنه ليس فيه أكثر من أن تعالى عفا عن ذنب الفارّين وهو صريح الآية الآتية، وأما أنه يفهم منه ولو بالإشعار أن المراد من العفو هنا العفو عن الذنب فلا أظن منصفاً يدعيه‏.‏

‏{‏والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين‏}‏ تذييل مقرر لمضمون ما قبله وفيه إيذان بأن ذلك العفو ولو كان بعد التوبة بطريق التفضل لا الوجوب أي شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو أو في جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم إذ الابتلاء أيضاً رحمة، والتنوين للتفخيم، والمراد بالمؤمنين إما المخاطبون، والإظهار في مقام الإضمار للتشريف والإشعار بعلة الحكم، وإما الجنس ويدخلون فيه دخولاً أولياً ولعل التعميم هنا وفيما قبله أولى من التخصيص، وتخصيص الفضل بالعفو أولى من تخصيصه بعدم الاستئصال كما زعمه البعض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏153‏]‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏153‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ متعلق بصرفكم أو بيبتليكم وتعلقه بعفا كما قال الطبرسي‏:‏ ليس بشيء، ومثله تعلقه كما قال أبو البقاء، بعصيتم؛ أو تنازعتم أو فشلتم، وقيل‏:‏ متعلق بمقدر كاذكر، واستشكل بأنه يصير المعنى اذكر يا محمد إذا تصعدون وفيه خطابان بدون عطف، فالصواب اذكروا‏.‏ وأجيب بأن المراد باذكر جنس هذا الفعل فيقدر اذكروا لا أذكر، ويحتمل أنه من قبيل ‏{‏الحكيم يأيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وأجاب الشهاب بأن أذكر متضمن لمعنى القول، والمعنى قل لهم يا محمد حين يصعدون الخ ومثله لا منع فيه كما تقول لزيد‏:‏ أتقول كذا فإن الخطاب المحكي مقصود لفظه فلا ينافي القاعدة المذكورة وهم غفلوا عنه فتأمل، ولا يخفى أن هذا خلاف الظاهر أيضاً، والإصعاد الذهاب والإبعاد في الأرض، وفرق بعضهم بين الإصعاد والصعود بأن الإصعاد في مستوى الأرض والصعود في ارتفاع، وقيل‏:‏ لا فرق بين أصعد وصعد سوى أن الهمزة في الأول للدخول نحو أصبح إذا دخل في الصباح والأكثرون على الأول، وقرأ الحسن فيما أخرجه ابن جرير عنه ‏{‏تُصْعِدُونَ‏}‏ بفتح التاء والعين، وحمله بعضهم على صعود الجبل، وقرأ أبو حيوة ‏{‏تُصْعِدُونَ‏}‏ بفتح التاء وتشديد العين وهو إما من تصعد في السلم إذا رقى أو من صعد في الوادي تصعيداً إذا انحدر فيه، فقد قال الأخفش‏:‏ أصعد في الأرض إذا مضى وسار وأصعد في الوادي وصعد فيه إذا انحدر، وأنشد‏:‏

فإما تريني اليوم مزجي ظعينتي *** ‏(‏أصعد‏)‏ طوراً في البلاد وأفرع

وقال الشماخ‏:‏

فإن كرهت هجائي فاجتنب سخطي *** لا يدهمنك إفراعي ‏(‏وتصعيدي‏)‏

وورد عن غير واحد أن القوم لما امتحنوا ذهبوا فراراً في وادي أحد، وقال أبو زيد‏:‏ يقال‏:‏ صعد في السلم صعوداً وصعد في الجبل أو على الجبل تصعيداً ولم يعرفوا فيه صعد، وقرأ أبيّ ‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ في الوادي وهي تؤيد قول من قال‏:‏ إن الإصعاد الذهاب في مستوى الأرض دون الارتفاع، وقرىء يصعدون بالياء التحتية وأمر تعلق إذ باذكر عليه ظاهر‏.‏

‏{‏وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ‏}‏ أي لا تقيمون على أحد ولا تعرجون وهو من لوى بمعنى عطف وكثيراً ما يستعمل بمعنى وقف وانتظر لأن من شأن المنتظر أن يلوي عنقه، وفسر أيضاً بلا ترجعون وهو قريب من ذلك، وذكر الطبرسي أن هذا الفعل لا يذكر إلا في النفي فلا يقال لويت على كذا، وقرأ الحسن ‏(‏تلون‏)‏ بواو واحدة بقلب الواو المضمومة همزة وحذفها تخفيفاً‏.‏ وقرىء ‏{‏تَلْوُونَ‏}‏ بضم التاء على أنه من ألوى لغة في لوى، ويلوون بالياء كيصعدون، قال أبو البقاء ويقرأ ‏{‏على أَحَدٍ‏}‏ بضمتين وهو الجبل والتوبيخ عليه غير ظاهر، ووجهه بعضهم بأن المراد أصحاب أحد أو مكان الوقعة، وفيه إشارة إلى إبعادهم في استشعار الخوف وجدهم في الهزيمة حتى لا يلتفتون إلى نفس المكان‏.‏

‏{‏والرسول يَدْعُوكُمْ فِى‏}‏ أي يناديكم في ساقتكم أو جماعتكم الأخرى أو يدعوكم من ورائكم فإنه يقال‏:‏ جاء فلان في آخر الناس وأخرتهم وأخراهم إذا جاء خلفهم، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان الرسالة للإيذان بأن دعوته صلى الله عليه وسلم كانت بطريق الرسالة من جهته تعالى مبالغة في توبيخ المنهزمين، روي أنه صلى الله عليه وسلم كان ينادي إليّ عباد الله إليّ عباد الله أنا رسول الله من يكر فله الجنة وكان ذلك حين انهزم القوم وجدوا في الفرار قبل أن يصلوا إلى مدى لا يسمع فيه الصوت فلا ينافي ما تقدم عن كعب بن مالك أنه لما عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ونادى بأعلى صوته يا معشر المسلمين أبشروا هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم  أشار إليه رسول الله عليه الصلاة والسلام أن أنصت لأن ذلك كان آخر الأمر حيث أبعد المنهزمون، والجملة في موضع الحال‏.‏

‏{‏أُخْرَاكُمْ فأثابكم‏}‏ عطف على ‏{‏صَرَفَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ والضمير المستتر عائد على الله تعالى، والتعبير بالإثابة من باب التهكم على حد قوله‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** أو أنها مجاز عن المجازاة أي فجازاكم الله تعالى بما عصيتم ‏{‏غَمّاً بِغَمّ‏}‏ أي كرباً بكرب والأكثرون على أنه لا فرق بين الغم والحزن، والباء إما للمصاحبة والظرف مستقر أي جازاكم غماً متصلاً بغم؛ والغم الأول‏:‏ ما حصل لهم من القتل والجرح وغلبة المشركين عليهم، والغم الثاني‏:‏ ما حصل لهم من الإرجاف بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وفوت الغنيمة، وإلى هذا ذهب قتادة والربيع‏.‏ وقيل‏:‏ الغم الثاني إشراف أبي سفيان وأصحابه عليهم وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصخرة وحكي ذلك عن السدي، وقيل‏:‏ المراد مجرد التكثير أي جازاكم بغموم كثيرة متصل بعضها ببعض، وإما للسببية والظرف متعلق بأثابكم والغم الأول للصحابة رضي الله تعالى عنهم بالقتل نحوه، والغم الثاني للرسول صلى الله عليه وسلم بمخالفة أمره أي أثابكم غماً بسبب غم أذقتموه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعصيانكم له ومخالفتكم أمره، وقال الحسن بن علي المغربي‏:‏ الغم الأول للمشركين بما رأوا من قوة المسلمين على طلبهم وخروجهم إلى حمراء الأسد، والغم الثاني للمؤمنين بما نيل منهم أي فجازاكم بغم أعدائكم المشركين بسبب غم أذاقوه إياكم، وقيل‏:‏ الباء على هذا للبدل وكلا القولين بعيد، والعطف عليه غير ظاهر وأبعد من ذلك ما روي عن الحسن أن الغم الأول للمؤمنين بما أصابهم يوم أحد، والغم الثاني للمشركين بما نالهم يوم بدر، والمعنى فجازاكم غماً يوم أحد بالقتل والجرح بسبب غنم أذقتموه المشركين يوم بدر كذلك، واعترض عليه بأن ما لحق المشركين يوم بدر من جهة المسلمين إنما يوجب المجازاة بالكرامة دون الغم، وقيل الضمير المستكن في أثابكم للرسول صلى الله عليه وسلم، وأثابكم بمعنى آساكم أي جعلكم أسوة له متساويين في الحزن فاغتم صلى الله عليه وسلم بما نزل عليكم كما اغتممتم بما نزل عليه ولم يثربكم على عصيانكم تسلية لكم وتنفيساً عنكم، واعترض عليه بأنه خلاف الظاهر للزوم التفكيك على تقدير أن يكون العطف على

‏{‏صَرَفَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ وعدم ظهور الترتب إلا بتكلف إن كان العطف على ‏{‏يَدْعُوكُمْ‏}‏ نعم التعليل عليه بقوله تعالى‏:‏

‏{‏لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أصابكم‏}‏ ظاهر إذ المعنى آساكم بذلك لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر ولا ما أصابكم من الشدائد، وكذا على ما ذهب إليه المغربي، وأما على الأوجه الأخر فالمعنى لتتمرنوا على الصبر في الشدائد فلا تحزنوا على نفع ما فات أو ضر آت، وإنما احتيج إلى هذا التأويل لأن المجازاة بالغم إنما تكون سبباً للحزن لا لعدمه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏(‏لا‏)‏ زائدة والمعنى لكي تأسفوا على ما فاتكم من الظفر والغنيمة وعلى ما أصابكم من الجراح والهزيمة عقوبة لكم، فالتعليل حينئذ ظاهر ولا يخفى أن تأكيد ‏(‏لا‏)‏ وتكريرها يبعد القول بزيادتها، وقيل‏:‏ التعليل على ظاهره و‏(‏ لا‏)‏ ليست زائدة والكلام متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ أي ولقد عفا الله تعالى عنكم لئلا تحزنوا الخ فإن عفو الله تعالى يذهب كل حزن، ولا يخفى ما فيه، وربما يقال‏:‏ إن أمر التعليل ظاهر أيضاً على ما حكي عن السدي من غير حاجة إلى التأويل ولا القول بزيادة لا ويوضح ذلك ما أخرجه ابن جرير عن مجاهد قال‏:‏ أصاب الناس غم وحزن على ما أصابهم في أصحابهم الذين قتلوا فلما اجتمعوا في الشعب وقف أبو سفيان وأصحابه بباب الشعب فظن المؤمنون أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم أيضاً فأصابهم حزن أنساهم حزنهم في أصحابهم فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأثابكم غَمّاً بِغَمّ‏}‏ الخ، وحديث إن المجازاة بالغم إنما تكون سبباً للحزن لا لعدمه غير مسلم على الإطلاق، وأي مانع من أن يكون غم مخصوص سبباً لزوال غم آخر مخصوص أيضاً بأن يعظم الثاني فينسى الأول فتدبر‏.‏

‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ عليم بأعمالكم وبما قصدتم بها، وفي «المقصد الأسني» الخبير بمعنى العليم لكن العلم إذا أضيف إلى الخفايا الباطنة سمي خبرة وسمي صاحبها خبيراً، وفي ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏154‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏154‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ عطف على ‏{‏فأثابكم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 153‏]‏ والخطاب للمؤمنين حقاً، والمعنى ثم وهب لكم أيها المؤمنون ‏{‏مّن بَعْدِ الغم‏}‏ الذي اعتراكم والتصريح بتأخر الإنزال عنه مع دلالة ثم عليه وعلى تراخيه عنه لزيادة البيان، وتذكير عظم المنة ‏{‏ءامِنَةً‏}‏ مصدر كالمنعة وهو مفعول ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ أي ثم أنزل عليكم أمنا ‏{‏نُّعَاساً‏}‏ بدل اشتمال منها، وقيل‏:‏ عطف بيان، وجوز أن يكون نعاساً منصوباً على المفعولية وأمنة حال منه؛ والمراد ذا أمنة ولا يضر كونها من النكرة لتقدمها أو حال من المخاطبين على تقدير مضاف أي ذوي أمنة، أو على أنه جمع آمن كبار وبررة‏.‏ وقيل‏:‏ إن أمنة مفعول له لنعاساً، واعترض بأنه يلزم على ظاهره تقديم معمول المصدر عليه، وإن التزم تقدير فعل أي نعستم أمنة، ورد أنه ليس للفعل موقع حسن، وقيل‏:‏ إنه مفعول له لأنزل‏.‏ واعترض بأنه فاسد لاختلال شرطه وهو اتحاد الفاعل إذ فاعل ‏{‏أَنَزلَ‏}‏ هو الله تعالى وفاعل الأمنة هو المنزل عليهم، ورد بأن الأمنة كما يكون مصدراً لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أوقعه، والمراد هنا الثاني كأنه قيل‏:‏ أنزل عليكم النعاس ليؤمنكم به وحينئذ لا شبهة في اتحاد الفاعل؛ وقرىء بسكون الميم كأنها لوقوعها في زمن يسير مرة من الأمن فلا ينافي كون المقصود مطلق الأمن وتقديم الظرفين على المفعول الصريح للاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر، وتخصيص الخوف من بين فنون الغم بالإزالة لأنه المهم عندهم في ذلك المقام، فقد أخرج ابن جرير عن السدي أن المشركين انصرفوا يوم أحد بعد الذي كان من أمرهم وأمر المسلمين فواعدوا النبي صلى الله عليه وسلم بدراً من قابل فقال لهم‏:‏ نعم فتخوف المسلمون أن ينزلوا المدينة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً فقال‏:‏ انظر فإن رأيتهم قد قعدوا على أثقالهم وجنبوا خيولهم فإن القوم ذاهبون، وإن رأيتهم قد قعدوا على خيولهم وجنبوا أثقالهم فإن القوم ينزلون المدينة فاتقوا الله تعالى واصبروا، ووطنهم على القتال فلما أبصرهم الرسول قعدوا على الأثقال سراعاً عجالاً نادى بأعلى صوته بذهابهم فلما رأى المؤمنون ذلك صدقوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فناموا وبقي أناس من المنافقين يظنون أن القوم يأتونهم فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ الخ، وعن ابن عباس في الآية قال‏:‏ آمنهم الله تعالى يومئذ بنعاس غشاهم، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام‏.‏ وأخرج خلق كثير عن أنس أن أبا طلحة قال غشينا النعاس يوم أحد ونحن في مصافنا وكنت ممن غشيه النعاس يومئذ فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ويسقط وآخذه، وفي رواية أخرى عنه أنه قال‏:‏ رفعت رأسي يوم أحد فجعلت أنظر وما منهم من أحد إلا وهو يميد تحت حجفته أي ترسه من النعاس، وعن الزبير بن العوام مثله قيل‏:‏ وهذه عادة الله تعالى مع المؤمنين جعل النعاس في الحرب علامة للظفر وقد وقع كذلك لعلي كرم الله تعالى وجهه في صفين وهو من الواردات الرحمانية والسكينة الآلهية‏.‏

‏{‏يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ هم المهاجرون وعامة الأنصار، وفيه إشعار بأنه لم يغش الكل ولا يقدح ذلك في عموم الإنزال للكل، والجملة في موضع نصب على أنها صفة لنعاساً وقرأ حمزة والكسائي تغشى بالتاء الفوقانية على أن الضمير للأمنة‏.‏ والظاهر أن الجملة حينئذ مستأنفة وقعت جواباً لسؤال تقديره ما حكم هذه الأمنَة‏؟‏ فأجيب بأنها تغشى طائفة، وقيل‏:‏ إنها في موضع الصفة لأمنة، واعترض بأن الصفة حقها أن تتقدم على البدل وعطف البيان وأن لا يفصل بينها وبين الموصوف بالمفعول له وأن المعهود أن يحدث عن البدل دون المبدل منه‏.‏

‏{‏وَطَائِفَةٌ‏}‏ وهم المنافقون‏.‏ ‏{‏قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ أي جعلتهم ذوي هم وأوقعتهم فيه أو ما يهمهم إلا أنفسهم لا النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره من أهمه بمعنى جعله مهماً له ومقصوداً والحصر مستفاد من المقام، وذكر بعضهم أن العرب تطلق هذا اللفظ على الخائف الذي شغله هم نفسه عن غيره، و‏{‏طَائِفَةٌ‏}‏ مبتدأ وجملة ‏{‏قَدْ أَهَمَّتْهُمْ‏}‏ الخ خبره، وجاز ذلك مع كونها نكرة لوقوعها بعد واو الحال كما في قوله‏:‏

سرينا ونجم قد أضاء فمذ بدا *** محياك أخفى ضوء كل شارق

أو لوقوعها موقع التفصيل كما في قوله‏:‏

إذا مت كان الناس صنفان شامت *** وآخر مثن بالذي أنا صانع

وجوز أن تكون الجملة نعتاً لها والخبر حينئذ محذوف أي ومعكم، أو وهناك طائفة وتقدير ومنكم طائفة يقتضي أن يكون المنافقون داخلين في الخطاب بإنزال الأمنة وأياً ما كان فالجملة إما حالية مبينة لفظاعة الهول مؤكدة لعظم النعمة في الخلاص عنه، وإما مستأنفة مسوقة لبيان حال المنافقين فالواو إما حالية وإما استئنافية وكونها بمعنى إذ ليس بشيء كما نص عليه أبو البقاء‏.‏

‏{‏يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏أَهَمَّتْهُمْ‏}‏ لا من ‏{‏طَائِفَةٌ‏}‏ وإن تخصصت لما في مجيء الحال من المبتدأ من المقال، وجوز أن تكون صفة بعد صفة لطائفة، أو خبراً بعد خبر، أو هي الخبر و‏{‏قَدْ أَهَمَّتْهُمْ‏}‏ صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها وغير منصوب على المصدرية المؤكدة لأنه مضاف إلى مصدر محذوف وهو بحسب ما يضاف إليه أي غير الظن الحق وهو الذي يحق أن يظن به تعالى، وقال بعضهم‏:‏ إنه مفعول مطلق نوعي، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ظَنَّ الجاهلية‏}‏ بدل مما قبله‏.‏

وقال ابن الحاجب‏:‏ ‏{‏غَيْرَ الحق‏}‏ و‏{‏ظَنَّ‏}‏ مصدران أحدهما للتشبيه والآخر تأكيد لغيره أي يقولون غير الحق ومفعولا ‏{‏يَظُنُّونَ‏}‏ محذوفان أي يظنون أن إخلاف وعده سبحانه حاصل، وأبو البقاء يجعل ‏{‏غَيْرَ الحق‏}‏ مفعولاً أولاً أي أمراً غير الحق، و‏{‏بالله‏}‏ في موضع المفعول الثاني وإضافة ‏{‏ظَنَّ‏}‏ إلى الجاهلية، قيل‏:‏ إما من إضافة الموصوف إلى مصدر صفته ومعناها الاختصاص بالجاهلية كرجل صدق وحاتم الجود فهي على معنى اللام أي المختص بالصدق والجود فالياء مصدرية والتاء للتأنيث اللازم له، وإما من إضافة المصدر إلى الفاعل على حذف المضاف أي ظن أهل الجاهلية أي الشرك والجهل بالله تعالى وهي اختصاصية حقيقية أيضاً‏.‏

‏{‏يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الامر مِن شَىْء‏}‏ أي يقول بعضهم لبعض على سبيل الإنكار‏:‏ هل لنا من النصر والفتح والظفر نصيب أي ليس لنا من ذلك شيء لأن الله سبحانه وتعالى لا ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم، أو يقول الحاضرون منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على صورة الاسترشاد‏:‏ هل لنا من أمر الله تعالى ووعده بالنصر شيء، واختاره بعض المحققين‏.‏ والجملة قيل‏:‏ إما حال أو خبر إثر خبر أو صفة إثر صفة أو مستأنفة مبينة لما قبلها، أو بدل من ‏{‏يَظُنُّونَ‏}‏ وهو بدل الكل بحسب الصدق، وبدل الاشتمال بحسب المفهوم، واستشكل بأن قوله‏:‏ ‏{‏يَقُولُونَ هَل لَّنَا‏}‏ الخ تفسير لـ‏{‏يظنون‏}‏ وترجمة له والاستفهام لا يكون ترجمة للخبر كما لا يصح أن تقول‏:‏ أخبرني زيد قال‏:‏ لا تذهب أو أمرني قال‏:‏ لا تضرب، أو نهاني قال‏:‏ اضرب فإن المطابقة بين الحكاية والمحكي واجبة‏.‏ وحاصل الإشكال أن متعلق الظن النسبة التصديقية فكيف يقع استفهام ترجمة له‏؟‏ وأجيب بأن الاستفهام طلب علم فيما يشك ويظن فجاز أن يكون متعلق الظن وتحقيقه أن الظن أو العلم يتعلق بما يقال في جواب ذلك الاستفهام على ما ذكر في باب تعليق أفعال القلوب باستفهام، ولا يخفى أن هذا إنماهو على تقدير كون الاستفهام حقيقياً، وأما على تقدير كونه إنكارياً فلا إشكال، ولا قيل ولا قال لأنه خبر فيتطابق مع ما قبله في الخبرية، وبعض من جعله إنكارياً ذهب إلى أن المعنى إنا منعنا تدبير أنفسنا وتصريفها باختيارنا فلم يبق لنا من الأمر شيء، وقد قال ذلك عبد الله بن أبيّ حين أخبره المنافقون بقتل بني الخزرج ثم قال‏:‏ والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل قيل‏:‏ وظنهم السوء على هذا تصويبهم رأي عبد الله ومن تبعه، وقيل‏:‏ الاستفهام على ظاهره والمعنى هل يزول عنا هذا القهر فيكون لنا من الأمر شيء، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، و‏{‏صَلَحَ مِنْ‏}‏ الثانية سيف خطيب، و‏{‏شَىْء‏}‏ في موضع رفع على الإبتداء، وفي خبره كما قال أبو البقاء‏:‏ وجهان، أحدهما‏:‏ ‏{‏لَنَا‏}‏ فمن الأمر حال، والثاني‏:‏ ‏{‏مِنَ الامر‏}‏ فلنا تبيين وبه تتم الفائدة‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ‏}‏ أي إن الشأن والغلبة الحقيقية لحزب الله تعالى، وأوليائه فينصر رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويخذل أعداءه ويقهرهم وكنى بكون الغلبة لله تعالى عن كونها لأوليائه لكونهم من الله سبحانه بمكان، أو أن القضاء أو التدبير له تعالى مخصوص به لا يشاركه فيه غيره فيفعل ما يشاء ويجري الأمور حسبما جرى به القلم في سابق القضاء، وعلى هذا لا كناية في الكلام، وجاء مؤكداً لما أن الكلام الذي وقع هو في مقابلته كذلك‏.‏

واستظهر في «البحر» من هذا الأمر كون الاستفهام فيما تقدمه باقياً على حقيقته إذ لو كان معناه نفي أن يكون لهم شيء من الأمر لم يجابوا بإثبات أن الأمر كله لله اللهم إلا أن يقدر مع جملة النفي جملة ثبوتية ليكون المعنى ليس لنا من الأمر شيء بل لغيرنا ممن حملنا على الخروج وأكرهنا عليه فحينئذ يمكن أن يكون ذلك جواباً لهذا المقدّر، وفيه أنه لا حاجة إلى هذا التقدير على ذلك التقدير أيضاً أماإذا كان مرادهم نفي نصر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ومن معه فواضح لأن في هذا القول إثبات ذلك النصر على أتم وجه، وأما إذا كان مرادهم أنه لم يبق لهم من الأمر شيء حيث منعوا تدبير أنفسهم فلأن في ذلك النفي إشعاراً بأن لهم تدبيراً وأنهم لو تركوا وتدبيرهم ما غمزت قناتهم وهذا الإثبات متكفل برد ذلك وإبطاله على وجه سترة عليه كما لا يخفى فلا أرى التقدير على ما فيه إلا من ضيق العطن، وقرأ أبو عمرو ويعقوب ‏{‏كُلُّهُ‏}‏ بالرفع على الابتداء والجار متعلق بمحذوف وقع خبراً له، والجملة خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏، وأما على قراءة النصب فكل توكيد لاسم ‏{‏ءانٍ‏}‏ و‏{‏لِلَّهِ‏}‏ خبرها‏.‏ وزعم أبو البقاء أنه يجوز أن يكون ‏{‏كُلُّهُ‏}‏ بدلاً من ‏{‏الامر‏}‏ وفيه بعد‏.‏

‏{‏يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم‏}‏ أي يضمرون فيها أو يسرون فيما بينهم ‏{‏مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ‏}‏ أي ما لا يستطيعون إظهاره لك، والجملة إما استئناف أو حال من ضمير ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ‏}‏ اعتراض بين الحال وصاحبها أي يقولون ما يقولون مظهرين أنهم مسترشدون طالبون للنصر مبطنين الإنكار والتكذيب وهذا ظاهر على الاحتمال الثاني في الآية الأولى، والذاهب إلى حمل الاستفهام فيها على الإنكار يتعين عنده الاستئناف أو يجوز الخبرية ونحوها أيضاً على ما مر، والجملة الجوابية اعتراضية في كل حال سوى احتمال الاستئنافية على الصحيح، وأما جعل هذه الجملة حالاً من ضمير ‏{‏قُلْ‏}‏ والرابط لك فلا يخفى حاله‏.‏

‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ أي في أنفسهم أو خفية لبعضهم إذ لو كان القول جهاراً لم يكونوا منافقين، والجملة إما بدل من ‏{‏يخافون‏}‏ أو استئناف وقع جواباً عن سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل‏:‏ ما الذي أخفوه‏؟‏ فقيل ذلك، ورجحه بعض المحققين بأنه أكثر فائدة وبأن القول إذا حمل على ظاهره لم يتفاوت القولان لأن قولهم ‏{‏هَل لَّنَا‏}‏ للمؤمنين ليس في حال قولهم ‏{‏لَوْ كَانَ لَنَا‏}‏ لأصحابهم، وبدل الحال حال، وأنت تعلم أن هذا الأخير مبني على أن القول الأول كان للمؤمنين وقد علمت أنه غير متعين، وقيل‏:‏ لأنه لا يجتمع قولان من متكلم واحد، وفيه أن زمان الحال المقارن ليس مبنياً على التضييق كما لا يخفى، ومن هنا علل بعض الفضلاء نفي المقارنة بترتب هذا على ما قبله وعدل عن هذا التعليل فان‏.‏

‏{‏لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَىْء مَّا قُتِلْنَا هاهنا‏}‏ على معنى لو كان لنا شيء من ذلك كما وعد محمد وادعى أن الأمر لله تعالى ولأوليائه ‏{‏مَّا قُتِلْنَا‏}‏ فكأن هذا في زعمهم ردّ لما أجيبوا به أولاً، ويحتمل أن يكون المراد لو كان لنا اختيار وتدبير لم نبرح كما كان رأي ابن أبيّ وأتباعه، ومعنى ‏{‏مَّا قُتِلْنَا‏}‏ ما غلبنا لأن القائلين ليسوا ممن قتل لاستحالته، ويحتمل أن يكون الإسناد مجازياً بإسناد ما للبعض للكل، فالمعنى لو كان لنا شيء من ذلك ما قتل من قتل منا في هذه المعركة، ثم لا يخفى أن القول بالترتب يستدعي سبق نزول الآية الجوابية وسماعهم لها حتى يتأتى القول بزعم ردها بهذه الشبهة الفاسدة، والظاهر من الآثار عدم نزولها إذ ذاك، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه سئل عن هذه الآية فقال‏:‏ لما قتل من قتل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أتوا عبد الله بن أبيّ فقالوا له‏:‏ ما ترى فقال‏:‏ إنا والله ما نؤامر لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا‏.‏ وأخرج ابن إسحق وابن المنذر وابن جرير وخلق كثير عن الزبير رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علنيا أرسل الله تعالى علينا النوم فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم‏:‏ ‏{‏لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَىْء مَّا قُتِلْنَا هاهنا‏}‏ فحفظتها منه، وفي ذلك أنزل الله تعالى ‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ‏}‏ إلى ‏{‏هاهنا‏}‏ وقد يقال‏:‏ إن هذا القول منهم كالاستدلال على القول الأول وإن كلا القولين وقع منهم ابتداءاً وقصه الله تعالى علينا راداً له وهذا ظاهر على تقدير أن يكون الاستفهام إنكارياً وأما على تقدير أن يكون حقيقياً ففيه خفاء فتأمل‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد في جواب ذلك ‏{‏لَوْ كُنتُمْ‏}‏ أيها المنافقون ‏{‏فِى بُيُوتِكُمْ‏}‏ ومنازلكم بالمدينة ولم تخرجوا للقتال بجملتكم ‏{‏لَبَرَزَ‏}‏ أي لخرج لسبب من الأسباب الداعية إلى البروز ‏{‏الذين كُتِبَ‏}‏ في اللوح المحفوظ أو قدر في سابق علم الله تعالى ‏{‏عَلَيْهِمُ القتل‏}‏ في تلك المعركة ‏{‏إلى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏ أي مصارعهم التي علم الله تعالى وقدر قتلهم فيها وقتلوا هناك البتة فإن قضاء الله تعالى لا يرد وحكمه لا يعقب، وفيه من المبالغة في ردّ مقالتهم الباطلة ما لا يخفى، وزعم بعض أن الظاهر الأبلغ أن يراد بمن كتب عليهم القتل الكفار القاتلون أي لخرج الذين يقتلون من بين قومهم إلى مضاجع المقتولين ولم ينج أحد منهم مع تحصنهم بالمدينة وتحفظهم في بيوتهم ولا يخفى بعده لما فيه من التفكيك، ولأن الظاهر من ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ أنهم مقتولون لا قاتلون، وقيل‏:‏ المعنى لو لزمتم منازلكم أيها المنافقون والمرتابون وتخلفتم عن القتال لخرج إلى البراز المؤمنون الذين فرض عليهم القتال صابرين محتسبين فيقتلون ويقتلون، ويؤول إلى قولنا‏:‏ لو تخلفتم عن القتال لا يتخلف المؤمنون، والمضاجع جمع مضجع فإن كان بمعنى المرقد فهو استعارة للمصرع، وإن كان بمعنى محل امتداد البدن مطلقاً للحي والميت فهو حقيقة، وقرىء ‏{‏كتاب‏}‏ بالبناء للفاعل، ونصب ‏{‏القتل‏}‏ و‏{‏كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال‏}‏ و‏{‏لَبَرَزَ‏}‏ بالتشديد على البناء للمفعول‏.‏

‏{‏وَلِيَبْتَلِىَ الله مَا فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ أي ليختبر الله تعالى ما في صدوركم بأعمالكم فإنه قد علمه غيباً ويريد أن يعلمه شهادة لتقع المجازاة عليه قاله الزجاج، أو ليعاملكم معاملة المبتلي الممتحن قاله غير واحد، وهو خطاب للمؤمنين واللام للتعليل ومدخولها علة لفعل مقدر قبل مطوف على علل أخرى مطوية للإيذان بكثرتها كأنه قيل فعل ما فعل لمصالح جمة وليتلي الخ أو لفعل مقدر بعد أي وللابتلاء المذكور فعل ما فعل لا لعدم العناية بشأن أوليائه وأنصار نبيه صلى الله عليه وسلم مثلاً‏.‏ والعطف على هذا عند بعض المحققين على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنزَلَ عَلَيْكُم‏}‏ والفصل بينهما مغتفر لأن الفاصل من متعلقات المعطوف عليه لفظاً أو معنى، وقيل‏:‏ إنه لا حذف في الكلام وإنما هو معطوف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 153‏]‏ أي أثابكم بالغم لأمرين عدم الحزن والابتلاء، واستبعد بأن توسط تلك الأمور محتاج إلى نكتة حينئذٍ، وهي غير ظاهرة، وأبعد منه بل لا يكاد يقبل العطف على قوله تعالى‏:‏

‏{‏لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏ أي صرفكم عنهم ليبتليكم وليبتلي ما في صدوركم، وجعله بعضهم معطوفاً على علة محذوفة وكلتا العلتين ‏{‏لَبَرَزَ الذين‏}‏ كأنه قيل لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم لنفاذ القضاء أو لمصالح جمة وللابتلاء‏.‏

واعترض بأن الذوق السليم يأباه فإن مقتضى المقام بيان حكمة ما وقع يومئذٍ من الشدة والهول لا بيان حكمة البروز المفروض، وإنما جعل الخطاب للمؤمنين لأنهم المعتدّ بهم ولأن إظهار حالهم مظهر لغيرهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه لهم وللمنافقين أي ليبتلي ما في سرائركم من الإخلاص والنفاق، وقيل‏:‏ للمنافقين خاصة لأن سوق الآية لهم‏.‏

وظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ أي ليخلص ما فيها من الاعتقاد من الوسواس، يرجح الأول‏:‏ لأن المنافقين لا اعتقاد لهم ليمحص من الوساوس ويخلص منها، ولعل القائلين بكون الخطاب للمنافقين فقط أو مع المؤمنين يفسرون التمحيص بالكشف والتمييز أي ليكشف ما في قلوبكم من مخفيات الأمور أو النفاق ويميزها، إلا أن حمل التمحيص على هذا المعنى يجعل هذه الجملة كالتأكيد لما قبلها وإنما عبر بالقلوب هنا كما قيل‏:‏ لأن التمحيص متعلق بالاعتقاد على ما أشرنا إليه وقد شاع استعمال القلب مع ذلك فيقال‏:‏ اعتقد بقلبه ولا تكاد تسمعهم يقولون اعتقد بصدره أو آمن بصدره، وفي القرآن ‏{‏أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 22‏]‏ وليس فيه كتب في صدورهم الإيمان، نعم يذكر الصدر مع الإسلام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ للإسلام‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 22‏]‏ ومن هنا قال بعض السادات‏:‏ القلب مقر الإيمان، والصدر محل الإسلام، والفؤاد مشرق المشاهدة، واللب مقام التوحيد الحقيقي، ولعل الآية على هذا تؤول إلى قولنا ليبتلي إسلامكم وليمحص إيمانكم، وربما يقال عبر بذلك مع التعبير فيما قبل بالصدور للتفنن بناءاً على أن المراد بالجمعين واحد‏.‏

‏{‏والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ أي بما في القلوب التي في الصدور من الضمائر الخفية ووصفت بذلك لأنها لتمكنها من الصدور جعلت كأنها مالكة لها فذات بمعنى صاحبة لا بمعنى ذات الشيء ونفسه، وفي الآية وعد ووعيد أو أحدهما فقط على الخلاف في الخطاب وفيها تنبيه على أن الله تعالى غني عن الابتلاء وإنما يبرز صورة الابتلاء لحكم يعلمها كتمرين المؤمنين أو إظهار حال المنافقين، واختار الصدور ههنا لأن الابتلاء الغني عنه سبحانه كان متعلقاً بما فيها والتمحيص على المعنى الأول تصفية وتطهير وليس ذلك مما تشعر به هذه الجملة بأنه سبحانه غني عنه وإنما فعله لحكمة، نعم إذا أريد به الكشف والتمييز يصح أن يقال‏:‏ إن هذه الجملة مشعرة بأنه تعالى غني أيضاً‏.‏ ومن هنا جوّز بعض المحققين كونها حالاً من متعلق الفعلين أي فعل ما فعل للابتلاء والكشف، والحال أنه تعالى غني عنهما محيط بخفيات الأمور إلا أنه لا يظهر حينئذٍ سر التعبير عن الأسرار والخفيات بذات الصدور دون ذات القلوب مع أن التعبير الثاني أولى بها لأن القلوب محلها بلا واسطة ومحلية الصدور لها بحسب الظاهر بواسطة القلوب اللهم إلا أن يقال‏:‏ إن ذات الصدور بمعنى الأشياء التي لا تكاد تفارق الصدور لكونها حالة فيها بل تلازمها وتصاحبها أشمل من ذات القلوب لصدق الأولى على الأسرار التي في القلوب وعلى القلوب أنفسها لأن كلاً من هذين الأمرين ملازم للصدور باعتبار كونه حالاً فيها دون الثانية لأنك لا تصدق إلا على الأسرار لأنها الحالة فيها دون الصدور فحينئذٍ يمكن أن يراد من ذات الصدور هذا المعنى الشامل ويكون التعبير بها لذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏155‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏155‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ‏}‏ الدبر عن المشركين بأحد ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ أيها المسلمون، أو إن الذين هربوا منكم إلى المدينة ‏{‏يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏ وهما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمع أبي سفيان‏.‏ ‏{‏إِنَّمَا استزلهم الشيطان‏}‏ أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه ‏{‏بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ‏}‏ من ذنوبهم يعني إن الذين تولوا كان السبب في توليتهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان فاقترفوا ذنوباً فمنعوا من التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا، وعلى هذا لا يكون الزلل هو التولي بل الذنوب المفضية إليه، وجوز أن يكون الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه ودعاهم إليه هو التولي نفسه، وحينئذٍ يراد ببعض ما كسبوا إما الذنوب السابقة ومعنى السببية انجرارها إليه لأن الذنب يجرّ الذنب كما أن الطاعة تجرّ الطاعة، وإما قبول مازين لهم الشيطان من الهزيمة وهو المروي عن الحسن، وإما مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم بالثبات في المركز فجرّهم ذلك إلى الهزيمة، وإما الذنوب السابقة لا بطريق الانجرار بل لكراهة الجهاد معها فقد قال الزجاج‏:‏ إن الشيطان ذكرهم خطايا لهم كرهوا لقاء الله تعالى معها فأخروا الجهاد وتولوا حتى يصلحوا أمرهم ويجاهدوا على حال مرضية، والتركيب على الوجهين من باب تحقيق الخبر كقوله‏:‏

إن التي ضربت بيتاً مهاجرة *** بكوفة الجند غالت ودها غول

وليس من باب أن الصفة علة للخبر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ جنات النعيم‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 8‏]‏ لأن ببعض ما كسبوا يأباه ويحقق التحقيق، وهو أيضاً من باب الترديد للتعليق كقوله‏:‏

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها *** لو مسها حجر مسته سراء

لأن إنما استزلهم الخ خبر إن وزيد إن للتوكيد وطول الكلام، وما لتكفها عن العمل، وأصل التركيب إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما تولوا لأن الشيطان استزلهم ببعض الخ فهو كقولك‏:‏ إن الذي أكرمك إنما أكرمك لأنك تستحقه، وذكر بعض للإشارة إلى أن في كسبهم ما هو طاعة لا يوجب الاستزلال، أو لأن هذه العقوبة ليست بكل ما كسبوا لأن الكل يستدعي زيادة عليها لكنه تعالى منّ بالعفو عن كثير ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ‏}‏‏.‏ أعاد سبحانه ذكر العفو تأكيداً لطمع المذنبين فيه ومنعاً لهم عن اليأس وتحسيناً للظنون بأتم وجه، وقد يقال‏:‏ هذا تأسيس لا تأكيد فتذكر ‏{‏أَنَّ الله غَفُورٌ‏}‏ للذنوب صغائرها وكبائرها ‏{‏حَلِيمٌ‏}‏ لا يعاجل بعقوبة المذنب، وقد جاءت هذه الجملة كالتعليل للعفو عن هؤلاء المتولين وكانوا أكثر القوم، فقد ذكر أبو القاسم البلخي أنه لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد إلا ثلاثة عشر نفساً خمسة من المهاجرين أبو بكر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص، والباقون من الأنصار رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ ومن مشاهير المنهزمين عثمان ورافع بن المعلى وخارجة بن زيد وأبو حذيفة بن عتبة والوليد بن عقبة وسعد وعقبة ابنا عثمان من الأنصار من بني زريق، وروي عن ابن عباس أن الآية نزلت في الثلاثة الأول، وعن غيره غير ذلك ولم يوجد في الآثار تصريح بأكثر من هؤلاء، ولعل الاقتصار عليهم لأنهم بالغوا في الفرار ولم يرجعوا إلا بعد مضي وقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أن منهم من لم يرجع إلا بعد ثلاث، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ لقد ذهبتم بها عريضة، وأما سائر المنهزمين فقد اجتمعوا في ذلك اليوم على الجبل، وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان من هذا الصنف كما في خبر ابن جرير خلافاً للشيعة وبفرض التسليم لا تعيير بعد عفو الله تعالى عن الجميع، ونحن لا ندعي العصمة في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولا نشترطها في الخلافة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏156 - 157‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏156‏)‏ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏

‏{‏حَلِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ‏}‏ وهم المنافقون كعبد الله بن أبيّ وأصحابه قاله السدي ومجاهد وإنما ذكر في صدر الجملة كفرهم تصريحاً بمباينة حالهم لحال المؤمنين وتنفيراً عن مماثلتهم وهم هم، وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان كما يقوله الكرامية وإلا لما سمي المنافق كافراً، وقيل‏:‏ المراد بالذين كفروا سائر الكفار على العموم أي لا تكونوا كالكفرة في نفس الأمر ‏{‏وَقَالُواْ لإخوانهم‏}‏ في المذهب أو النسب، واللام تعليلية أي قالوا لأجلهم، وجعلها ابن الحاجب بمعنى عن، ولا يجوز أن يكون المراد مخاطبة الأخوان كما هو المتبادر لدلالة ما بعد على أنهم كانوا غائبين حين هذا القول، وقول بعضهم‏:‏ يصح أن يكون جعل القول لإخوانهم باعتبار البعض الحاضرين والضرب الآتي لضرب آخر تكلف لا حاجة إليه سوى كثرة الفضول‏.‏

‏{‏إِذَا ضَرَبُواْ فِى الارض‏}‏ أي سافروا فيها لتجارة، أو طلب معاش فماتوا قاله السدي وأصل الضرب إيقاع شيء على شيء، واستعمل في السير لما فيه من ضرب الأرض بالرجل، ثم صار حقيقة فيه، وقيل‏:‏ أصل الضرب في الأرض الإبعاد في السير وهو ممنوع وخص الأرض بالذكر لأن أكثر أسفارهم كان في البر، وقيل‏:‏ اكتفى بذكر الأرض مراداً بها البر عن ذكر البحر، وقيل‏:‏ المراد من الأرض ما يشمل البر والبحر وليس بالبعيد، وجىء بإذا وحق الكلام إذ كما قالوا لقالوا الدال بهيئته على الزمان المنافي للزمان الدالة عليه ‏{‏إِذَا‏}‏ مراعاة لحكاية الحال الماضية، ومعنى ذلك أن تقدر نفسك كأنك موجود في ذلك الزمان الماضي أو تقدر ذلك الزمان كأنه موجود الآن وهذا كقولك‏:‏ قالوا ذلك حين يضربون والمعنى حين ضربوا إلا أنك جئت بلفظ المضارع استحضاراً لصورة ضربهم في الأرض، واعترض بوجهين‏:‏ الأول‏:‏ أن حكاية الحال إنما تكون حيث يؤتى بصيغة الحال وهذه صيغة استقبال لأن معنى ‏{‏إِذَا ضَرَبُواْ‏}‏ حين يضربون فيما يستقبل، الثاني‏:‏ أن قولهم‏:‏ لو كانوا عندنا إنما هو بعد موتهم فكيف يتقيد بالضرب في الأرض‏.‏ وأجيب عن الأول‏:‏ بأن ‏{‏إِذَا ضَرَبُواْ‏}‏ في معنى الاستمرار كما في ‏{‏وَإِذَا لَقُواْ الذين ءامَنُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 14‏]‏ فيفسد الاستحضار نظراً للحال، وعن الثاني‏:‏ بأن ‏{‏قَالُواْ لإخوانهم‏}‏ في موقع جزاء الشرط من جهة المعنى فيكون المعنى لا تكونوا كالذين كفروا، وإذا ضرب إخوانهم فماتوا أو كانوا غزا فقتلوا قالوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا فالضرب والقتل كلاهما في معنى الاستقبال، وتقييد القول بالضرب إنما هو باعتبار الجزء الأخير وهو الموت، والقتل فإنه وإن لم يذكر لفظاً لدلالة ما في القول عليه فهو مراد معنى والمعتبر المقارنة عرفاً كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 198‏]‏ وكقولك إذا طلع هلال المحرم‏:‏ أتيتك في منتصفه‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ ‏{‏إِذَا‏}‏ هنا تنوب عما مضى من الزمان وما يستقبل يعني أنها لمجرد الوقت أو لقصد الاستمرار والذي يقتضيه النظر الصائب أن لا يجعل ‏{‏إِذَا ضَرَبُواْ‏}‏ ظرفاً لقالوا بل ظرف لما يحصل للأخوان حين يقال لأجلهم وفي حقهم ذلك كأنه قيل‏:‏ قالوا لأجل الأحوال العارضة للأخوان إذا ضربوا بمعنى حين كانوا يضربون قاله العلامة الثاني، وأنت تعلم أن تجريد ‏{‏إِذَا‏}‏ عن معنى الاستقبال وجعلها بمعنى الوقت مطلقاً كاف في توجيه الآية مزيل لإشكالها، وقصد الاستمرار منها لا يدفع الاعتراض عن ذلك التوجيه لأنها إذا كانت للاستمرار تشمل الماضي فلا تكون لحكاية الحال وكذا إذا كان قالوا جواباً إذ يصير مستقبلاً فلا تتأتى فيه الحكاية المذكورة أيضاً ويرد على ما اقتضاه النظر الصائب أن دون إثبات صحة مثله في العربية خرط القتاد، وأقعد منه وإن كان بعيداً ما قاله أبو حيان من أنه «يمكن إقرار ‏{‏إِذَا‏}‏ على ‏(‏ما استقر لها من‏)‏ الاستقبال بأن يقدر العامل فيها مضاف مستقبل ‏(‏محذوف‏)‏ على أن ضمير ‏{‏لَّوْ كَانُواْ‏}‏ عائداً على إخوانهم لفظاً ‏(‏لا‏)‏ معنى على حد عندي درهم ونصفه، والتقدير وقالوا مخافة هلاك إخوانهم إذا ضربوا أو كانوا غزاً لو كانوا أي إخواننا الآخرون الذين تقدم موتهم وقتلهم عندنا ما ماتوا وما قتلوا فتكون هذه المقالة تثبيطاً لإخوانهم الباقين عن السفر والغزو لئلا يصيبهم ما أصاب الأولين» وإنما لم يحملوا ‏{‏إِذَا‏}‏ هنا على الحال كما قيل بحملها عليه بعد القسم نحو ‏{‏واليل إِذَا يغشى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 1‏]‏ لتصفو لهم دعوى حكاية الحال عن الكدر لأن ذلك غير مسلم عند المحققين هناك فقد صححوا فيه بقاءها على الاستقبال من غير محذور، وجوز في الآية كون قالوا بمعنى يقولون؛ وقد جاء في كلامهم استعمال الماضي بمعنى المستقبل ومنه قوله‏:‏

وإني لآتيكم تشكر ما مضى *** من الأمر واستيجاب ما كان في غد

وكذا جوز بقاؤه على معناه وحمل ‏{‏إِذَا‏}‏ على الماضي فإنها تجىء له كما جاءت إذ للمستقبل في قول البعض وذلك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 11‏]‏، وقوله‏:‏

وندمان يزيد الكاس طيبا *** سقيت إذا تغورت النجوم

وحينئذٍ لا منافاة بين زماني القيد والمقيد فتدبر ذلك كله‏.‏

والجملة المعينة لوجه الشبه والمماثلة التي نهوا عنها هي الجملة المعطوفة على جملة الصلة والمعنى لا تتشبهوا بالكفار في قولهم لإخوانهم إذا سافروا ‏{‏أَوْ كَانُواْ غُزًّى‏}‏ جمع غاز كعاف وعفى وهو من نوادر الجمع في المعتل، واستشهد عليه بعضهم بقول امرىء القيس‏:‏

ومغبرة الآفاق خاشعة الصوى *** لها قلب ‏(‏عفى‏)‏ الحياض أجون

ويجمع على غزاة كقاض وقضاة، وعلى غزى مثل حاج وحجيج وقاطن وقطين، وعلى غزاء مثل فاسق وفساق، وأنشدوا له قول تأبط شراً‏:‏

فيوماً ‏(‏بغزاء‏)‏ ويوماً بسرية *** ويوماً بخشخاش من الرجل هيضل

وعلى غازون مثل ضارب وضاربون، وهو منصوب بفتحة مقدرة على الألف المنقلبة عن الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين إذ أصله غزوا تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً ثم حذفت، وقرىء بتخفيف الزاي قال أبو البقاء‏:‏ وفيه وجهان، الأول‏:‏ أن أصله غزاة فحذفت الهاء تخفيفاً لأن التاء دليل الجمع، وقد حصل من نفس الصيغة‏.‏ والثاني‏:‏ إنه أريد قراءة الجمهور فحذفت إحدى الزاءين كراهية التضعيف وذكر هذا الشق مع دخوله فيما قبله لأنه المقصود في المقام وما قبله توطئة له على أنه قيل‏:‏ قد يوجد بدون الضرب في الأرض بناءاً على أن المراد به السفر البعيد فبين الضرب على هذا وكونهم غزاة عموم من وجه وإنما لم يقل أو غزواً للإيذان باستمرار اتصافهم بعنوان كونهم غزاة أو لانقضاء ذلك أي كانوا غزاة فيما مضى‏.‏

لَّوْ كَانُواْ مقيمين عندَنَا بأن لم يسافروا أو يغزوا ‏{‏مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ‏}‏ بل كانوا يبقون زيادة على ما بقوا، والجملة الامتناعية في محل النصب مفعول لقالوا ودليل على أن في الكلام السابق مضمراً قد حذف أي إذا ضربوا في الأرض فماتوا ‏{‏أَوْ كَانُواْ‏}‏ فقتلوا، وتقدير فماتوا أو قتلوا في كل من الشقين خلاف الظاهر ‏{‏قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ متعلق بقالوا داخل في حيز الصلة ومن جملة المشبه به، والإشارة إلى القول لكن باعتبار ما فيه من الاعتقاد واللام لام العاقبة والمعنى لا تكونوا مثلهم في القول الباطل والمعتقد الفاسد المؤديين إلى الحسرة والندامة والدمار في العاقبة، وإلى هذا يشير كلام الزجاج وأبي علي، وقيل‏:‏ متعلق بلا تكونوا على أنه علة للنهي فهو خارج عن جملة المشبه به لكن القول والمعتقد داخلان فيه أي لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعل انتفاء كونكم معهم في ذلك القول والاعتقاد حسرة في قلوبهم خاصة، واعترضه أبو حيان «بأنه قول لا تحقيق فيه لأن جعل الحسرة لا يكون سبباً للنهي إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي وهو انتفاء المماثلة فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذ لم يوافقوهم فيما قالوه واعتقدوه ‏(‏فيترك الضرب في الأرض والغزو‏)‏، وكأن القائل التبس عليه استدعاء انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء وفهم هذا فيه خفاء ودقة‏.‏

وتعقبه السفاقسي بأنه يلزم على هذا الاعتراض أن لا يجوز نحو لا تعص لتدخل الجنة لأن النهي ليس سبباً لدخول الجنة، وكذا لا يجوز أطع الله تعالى لتدخل الجنة لأن الأمر ليس سبباً لدخولها، ثم قال‏:‏ والحق أن اللام تتعلق بالفعل المنهي عنه والمأمور به على معنى أن الكف عن الفعل أو الفعل المأمور به سبب لدخول الجنة ونحوه وهذا لا إشكال فيه، وقيل‏:‏ متعلق بلا تكونوا والإشارة إلى ما دل عليه النهي والكل خارج عن المشبه به والمعنى لا تكونوا مثلهم ليجعل الله انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم وعلى هذا يكون وقالوا ابتداء كلام معطوفاً على مقدرات شتى كما يقتضيه أقوال المنافقين وأحوالهم وأفعالهم، ووجه اتصاله بما قبله أنه لما وقع التنبيه على عدم الكون مثلهم عم جميع ما يتصل بهم من الرذائل وخص المذكور لكونه أشنع وأبين لنفاقهم أي أنهم أعداء الدين لم يقصروا في المضارة والمضادة بل فعلوا كيت وكيت وقالوا كذا وكذا، ومن هذا يعلم ما في تلك المقدرات، وعلى كل من الأوجه الثلاثة يكون الضمير المجرور في قلوبهم عائداً إلى الكافرين، وذكر القلوب مع أن الحسرة لا تكون إلا فيها لإرادة التمكن والإيذان بعدم الزوال‏.‏

وجوز ابن تمجيد رجوع الضمير إلى المؤمنين واللام متعلقة بقالوا حينئذٍ لا غير، ووجه الآية بما يقضي منه العجب‏.‏

‏{‏والله يُحْيىِ وَيُمِيتُ‏}‏ ردّ لقولهم الباطل إثر بيان غائلته أي والله هو المؤثر الحقيقي في الحياة والممات وحده لا الإقامة أو السفر فإنه تعالى قد يحيي المسافر والغازي مع اقتحامهما موارد الحتوف ويميت المقيم والقاعد وإن كانا تحت ظلال النعيم، وليس المراد أنه تعالى يوجد الحياة والممات وإن كان هو الظاهر لأن الكلام ليس فيه ولا يحصل به الرد وإنما الكلام في إحداث ما يؤثرهما، وقيل‏:‏ المراد أنه تعالى يحيي ويميت في السفر والحضر عند حضور الأجل ولا مؤخر لما قدم ولا مقدم لما أخر، ولا راد لما قضى ولا محيص عما قدر، وفيه منع المؤمنين عن التخلف في الجهاد لخشية القتل والواو للحال فلا يرد أنه لا يصح عطف الإخبار على الإنشاء‏.‏

‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ترغيب في الطاعة وترهيب عن المعصية أو تهديد للمؤمنين على أن يماثلوا الكفار لأن رؤية الله تعالى كعلمه تستعمل في القرآن للمجازاة على المرئي كالمعلوم، والمؤمنون وإن لم يماثلوهم فيما ذكر لكن ندمهم على الخروج من المدينة يقتضيه، وقرأ ابن كثير وأهل الكوفة غير عاصم يعملون بالياء، وضمير الجمع حينئذٍ للكفار، والعمل عام متناول للقول المذكور ولمنشئه الذي هو الاعتقاد الفاسد ولما ترتب على ذلك من الأعمال ولذلك تعرض لعنوان البصر لا لعنوان السمع؛ وإظهار الاسم الجليل لما مر غير مرة وكذا تقديم الظرف‏.‏

هذا ومن باب الإشارة‏:‏ ‏{‏وَكَأَيّن‏}‏ وكم ‏{‏مّن نَّبِىٍّ‏}‏ مرتفع القدر جليل الشأن وهو في الأنفس الروح القدسية ‏{‏قَاتَلَ مَعَهُ‏}‏ عدو الله تعالى أعني النفس الأمارة ‏{‏رِبّيُّونَ‏}‏ متخلقون بأخلاق الرب وهم القوى الروحانية ‏{‏فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ الله‏}‏ وطريق الوصول إليه من تعب المجاهدات ‏{‏وَمَا ضَعُفُواْ‏}‏ في طلب الحق ‏{‏وَمَا استكانوا‏}‏ وما خضعوا للسوي

‏{‏والله يُحِبُّ الصابرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 146‏]‏ على مقاساة الشدائد في جهاد النفس ‏{‏وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا‏}‏ استر لنا وجوداتنا بإفاضة أنوار الوجود الحقيقي علينا ‏{‏وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا‏}‏ أي تجاوزنا حدود ظاهر الشريعة عند صدمات التجليات ‏{‏وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا‏}‏ في مواطن حروب أنفسنا ‏{‏وانصرنا‏}‏ بتأييدك وإمدادك ‏{‏عَلَى القوم الكافرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 147‏]‏ الساترين لربوبيتك ‏{‏فاتاهم الله‏}‏ بسبب دعائهم بألسنة الاستعدادات والانقطاع إليه تعالى ‏{‏ثَوَابَ الدنيا‏}‏ وهو مرتبة توحيد الأفعال وتوحيد الصفات ‏{‏وَحُسْنَ ثَوَابِ الاخرة‏}‏ وهو مقام توحيد الذات ‏{‏والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 148‏]‏ في الطلب الذين لا يلتفتون إلى الأغيار ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الإيمان الحقيقي ‏{‏إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وهم النفوس الكافرة وصفاتها ‏{‏يَرُدُّوكُمْ على أعقابكم‏}‏ إلى أسفل سافلين وهو سجين البهيمية ‏{‏فَتَنقَلِبُواْ‏}‏ ترجعوا القهقرى ‏{‏خاسرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 149‏]‏ أنفسكم ‏{‏بَلِ الله مولاكم‏}‏ ناصركم ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الناصرين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 150‏]‏ لمن عول عليه وقطع نظره عمن سواه ‏{‏سَنُلْقِى فِى قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب‏}‏ أي الخوف ‏{‏بِمَا أَشْرَكُواْ‏}‏ أي بسبب إشراكهم ‏{‏بالله مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ‏}‏ أي بوجوده ‏{‏سلطانا‏}‏ أي حجة إذ لا حجة على وجوده حتى ينزلها لتحقق عدمه بحسب ذاته، وجعل سبحانه إلقاء الرعب في قلوبهم مسبباً عن شركهم لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس عند تنورها بنور القلب المنور بنور التوحيد فلا تكون تامة حقيقية إلا للموحد الموقن، وأما المشرك فمحجوب عن منبع القوة بما أشرك ما لا وجود ولا ذات في الحقيقة له فهو ضعيف عاذ بقرملة ‏{‏وَمَأْوَاهُمُ النار‏}‏ وهي نار الحرمان ‏{‏وَبِئْسَ مثوى الظالمين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 151‏]‏ الذين وضعوا الشيء في غير موضعه وعبدوا أسماء سموها ما أنزل الله تعالى بها من كتاب ‏{‏وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ‏}‏ المشروط بالصبر والتقوى ‏{‏إِذْ تَحُسُّونَهُمْ‏}‏ أي تقتلون جنود الصفات البشرية قتلاً ذريعاً ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ وأمره لا على وفق الطبع ‏{‏حتى إِذَا فَشِلْتُمْ‏}‏ جبنتم عند تجلي الجلال ‏{‏وتنازعتم فِى الامر‏}‏ وخالفتم في أمر الطلب ‏{‏وَعَصَيْتُمْ‏}‏ المرشد المربي ‏{‏مّن بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ‏}‏ من الفوز بأنوار الحضرة ‏{‏مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا‏}‏ لقصور همته وضعف رأيه ‏{‏وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الاخرة‏}‏ لطول باعه وقوة عقله ‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ‏}‏ أي عن أعداء نفوسكم وجنودها ‏{‏لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ أي يمتحنكم بالستر بعد التجلي بأنوار المشاهدات والصحو بعد السكر بأقداح الواردات والفطام بعد إرضاع ألبان الملاطفات كما يقتضي ذلك الجلال ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ‏}‏ بعد ذلك فانقطعتم إليه كما هو مقتضى الجمال ‏{‏والله ذُو فَضْلٍ

‏{‏عَلَى المؤمنين‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 152‏]‏، في طوري التقريب والإبعاد، وما ألطف قول من قال‏:‏

فقسا ليزدجروا ومن يك حازما *** فليقس أحياناً على من يرحم

‏{‏إِذْ تُصْعِدُونَ‏}‏ في جبل التوجه إلى الحق ‏{‏وَلاَ تَلْوُونَ‏}‏ أي لا تلتفتون ‏{‏على أَحَدٍ‏}‏ من الأمرين الدنيا والآخرة ‏{‏والرسول‏}‏ أي رسول الواردات ‏{‏يَدْعُوكُمْ‏}‏ إليّ عباد الله إليّ عباد الله ‏{‏فأثابكم غَمّاً بِغَمّ‏}‏ فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة بغم طلب الحق ‏{‏لّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ‏}‏ من زخارف الدنيا ‏{‏وَلاَ مَا أصابكم‏}‏ من صدمات تجلي القهر ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 153‏]‏ لأنه سبحانه أقرب إليكم منكم ‏{‏ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً‏}‏ أي وارداً من ألطافه ظهر في صورة النعاس وهو السكينة الرحمانية ‏{‏يغشى طَائِفَةً مّنْكُمْ‏}‏ وهم الصادقون في الطلب ‏{‏وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ وهم أرباب النفوس فإنهم لا هم لهم سوى حظ نفوسهم واستيفاء لذاتها ‏{‏يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق‏}‏ بمقتضى سوء استعدادهم ‏{‏يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الامر مِن شَىْء‏}‏ أي إن الخلق حالوا بيننا وبين التدبير ولو لم يحولوا لفعلنا ما به صلاحنا ‏{‏قُلْ إِنَّ الامر كُلَّهُ للَّهِ‏}‏ فهو المتصرف وحده حسبما يقتضيه الاستعداد فلا تدبير مع تدبيره ولا وجود لأحد سواه ‏{‏يُخْفُونَ فِى أَنْفُسِهِم‏}‏ الخبيثة ‏{‏مَّا لاَ يُبْدُونَ‏}‏ بزعمهم لك أيها المرشد الكامل ‏{‏يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الامر شَىْء مَّا قُتِلْنَا‏}‏ بسيف الشهوات ‏{‏هاهنا‏}‏ أي في هذه النشأة ‏{‏قُل لَّوْ كُنتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ‏}‏ وهي منازل العدم الأصلي قبل ظهور هذه التعينات ‏{‏لَبَرَزَ‏}‏ على حسب العلم ‏{‏الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل‏}‏ في لوح الأزل ‏{‏إلى مَضَاجِعِهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏ وهي بيداء الشهوات، فقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الارض وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كتاب مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏ أي نظهرها بهذا التعين، وإنما فعل سبحانه ما فعل لحكم شتى ‏{‏عَبْدُ الله‏}‏ تعالى ‏{‏مَا فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ أي ليمتحن ما في استعدادكم من الصدق والإخلاص والتوكل ونحو ذلك من الأخلاق ويخرجها من القوة إلى الفعل ‏{‏وَلِيُمَحّصَ مَا فِى قُلُوبِكُمْ‏}‏ أي يخلص ما برز من مكمن الصدر إلى مخزن القلب من غش الوساوس وخواطر النفس فإن البلاء سوط يسوق الله تعالى به عباده إليه، ولهذا ورد «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل» ولله تعالى در من قال‏:‏

لله در النائبات فإنها *** صدأ اللئام وصيقل الأحرار

ما كنت إلا زبرة فطبعنني *** سيفاً وأطلع صرفهن غراري

وذلك لأنهم حينئذٍ ينقطعون إلى الحق ولا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده كما قيل‏:‏ عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، والخطاب في كلا الموضعين للمؤمنين، وقيل‏:‏ إن الخطاب الأول‏:‏ للمنافقين، والثاني‏:‏ للمؤمنين وأنه سبحانه إنما خص الصدور بالأولين لأن الصدر معدن الغل والوسوسة فهو أوفق بحال المنافقين، وخص القلوب بالآخرين لأن القلب مقر الإيمان والاطمئنان وهو أوفق بحال المؤمنين وأن نسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب قيل‏:‏ ولهذا قال سبحانه‏:‏ ‏{‏والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 154‏]‏ بناءاً على أن المراد به الترهيب والتحذير عن الاتصال بما لا يرضى من تلك الصفات التي يكون الصدر مكمناً لها ‏{‏إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏ جمع الروح وقواها وجمع النفس وقواها ‏{‏إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ‏}‏ من الذنوب لأنها تورث الظلمة والشيطان لا مجال له على ابن آدم بالتزيين والوسوسة إلا إذا وجد ظلمة في القلب، ولك أن تبقي الجمعين على ظاهرهما وباقي الإشارة بحاله ‏{‏وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ‏}‏ حين استنارت قلوبهم بنور الندم والتوبة ‏{‏أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 155‏]‏ وبمقتضى ذلك ظهرت المخالفات وأردفت بالتوبة ليكون ذلك مرآة لظهور صفات الله تعالى‏.‏ ومن هنا جاء «لو لم تذنبوا لأتى الله تعالى بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم»‏.‏ وحكي أن إبراهيم بن أدهم رضي الله تعالى عنه أكثر ليلة في الطواف من قوله‏:‏ اللهم اعصمني من الذنوب فسمع هاتفاً من قلبه يقول يا إبراهيم أنت تسأله العصمة وكل عباده يسألونه العصمة فإذا عصمكم على من يتفضل وعلى من يتكرم ‏{‏حَلِيمٌ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ‏}‏ برؤية الأغيار واعتقاد تأثير السوي، وقالوا لأجل إخوانهم إذا ضربوا في الأرض إذا فارقوهم بترك ما هم عليه وسافروا في أرض نفوسهم وسلكوا سبيل الرشاد ‏{‏أَوْ كَانُواْ‏}‏ أي مجاهدين مع أعدى أعدائهم وهي نفوسهم التي بين جنوبهم وقواها وجنودها من الهوى والشيطان ‏{‏غُزًّى لَّوْ كَانُواْ‏}‏ مقيمين ‏{‏عِنْدِنَا‏}‏ موافقين لنا ‏{‏مَا مَاتُواْ‏}‏ بمقاساة الرياضة ‏{‏وَمَا قُتِلُواْ‏}‏ بسيف المجاهدة، ولاستراحوا من هذا النصب ‏{‏لِيَجْعَلَ الله ذلك‏}‏ أي عدم الكون مثلهم ‏{‏حَسْرَةً‏}‏ يوم القيامة ‏{‏فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ حين يرون ما أعد الله تعالى لكم ‏{‏والله يُحْيىِ‏}‏ من يشاء بالحياة الأبدية ‏{‏وَيُمِيتُ‏}‏ من يشاء بموت الجهل والبعد عن الحضرة ‏{‏والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 156‏]‏ تحذير عن الميل إلى قول المنكرين واعتقادهم‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏فِى سَبِيلِ الله‏}‏ أي في الجهاد ‏{‏أَوْ مُتُّمْ‏}‏ حتف الأنف وأنتم متلبسون به فعلاً أو نية‏.‏

‏{‏لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مّمَّا يَجْمَعُونَ‏}‏ أي الكفار من منافع الدنيا ولذاتها مدة أعمارهم وهذا ترغيب للمؤمنين في الجهاد وأنه مما يجب أن يتنافس فيه المتنافسون، وفيه تعزية لهم وتسلية مما أصابهم في سبيل الله تعالى إثر إبطال ما عسى أن يثبطهم عن إعلاء كلمة الله تعالى، واللام الأولى‏:‏ هي موطئة للقسم، والثانية‏:‏ واقعة في جواب القسم، وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ووفائه بمعناه ومغفرة مبتدأ و‏{‏مِنْ‏}‏ متعلقة بمحذوف وقع صفة لها ووصفت بذلك إظهاراً للاعتناء بها، ورمزاً إلى تحقق وقوعها، وذهب غير واحد إلى تقدير صفة أخرى أي لمغفرة لكم من الله، وحذفت صفة ‏{‏رَحْمَةً‏}‏ لدلالة المذكور عليها والتنوين فيهما للتقليل ولا ينافي ذلك ما يشير إليه الوصف، وثبوت أصل الخيرية لما يجمعه الكفار كما يقتضيه أفعل التفضيل إما بناءاً على أن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من الحلال الذي يعد خيراً في نفس الأمر‏.‏ وإما أن ذلك وارد على حسب قولهم ومعتقدهم أن تلك الأموال خير، وجوز في ما أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة والعائد محذوف، أو مصدرية ويكون المفعول حينئذٍ محذوفاً أي من جمعهم المال، وقرأ نافع وأهل الكوفة غير عاصم ‏{‏مُّتُّمْ‏}‏ بالكسر ووافقهم حفص في سائر المواضع إلا ههنا، وقرأ الباقون بضم الميم وهو على الأول‏:‏ من مات يمات مثل خفتم من خاف يخاف، وعلى الثاني‏:‏ من مات يموت مثل كنتم من كان يكون، وقرأ حفص عن عاصم ‏{‏يَجْمَعُونَ‏}‏ بالياء على صيغة الغيبة، وقرأ الباقون تجمعون بالتاء على صيغة الخطاب والضمير للمؤمنين، وقدم القتل على الموت لأنه أكثر ثواباً وأعظم عند الله تعالى، فترتب المغفرة والرحمة عليه أقوى وعكس

‏[‏بم في قوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏

لأن الموت أكثر من القتل وهما مستويان في الحشر، والمعنى إنكم بأي سبب اتفق هلاككم تحشرون إلى الله تعالى لا إلى غيره فيجزي كلاً منكم كما يستحق فيجازي المحسن على إحسانه والمسىء على إساءته وليس غيره يرجى منه ثواب، أو يتوقع منه دفع عقاب فآثروا ما يقرّبكم إليه ويجرّ لكم رضاه من العمل بطاعته والجهاد في سبيله ولا تركنوا إلى الدنيا، ومما ينسب للحسين رضي الله تعالى عنه‏:‏

فإن تكن الأبدان للموت أنشئت *** فقتل امرىء بالسيف والله أفضل

والكلام في اللامين كالكلام في أختيهما بلامين، وإدخال لام القسم على المعمول المقدم مشعر بتأكيد الحصر والاختصاص بأن ألوهيته تعالى هي التي تقتضي ذلك، وادعى بعضهم أن تقديم هذا المعمول لمجرد الاهتمام ويزيده حسناً وقوع ما بعده فاصلة، وما أشرنا إليه أولاً أولى، قالوا‏:‏ ولولا هذا التقديم لوجب توكيد الفعل بالنون لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده مع اللام خلافاً للكوفيين حيث يجوزون التعاقب بينهما؛ وظاهر صنيع بعض المحققين يشعر بأن في هذه الجملة مقدراً بقرينة ما قبله أي ولئن متم أو قتلتم في سبيل الله، ولعل الحمل على العموم أولى، وزعم بعض أن في الآية تقسيم مقامات العبودية إلى ثلاث أقسام، فمن عبد الله تعالى خوفاً من ناره آمنه مما يخاف وإليه الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 157‏]‏ ومن عبد الله تعالى شوقاً إلى جنته أناله ما يرجو، وإليه الإشارة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَةً‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 157‏]‏ لأن الرحمة من أسماء الجنة، ومن عبد الله تعالى شوقاً إلى وجهه الكريم لا يريد غيره فهو العبد المخلص الذي يتجلى عليه الحق جل جلاله في دار كرامته، وإليه الإشارة بقوله عز اسمه‏:‏ ‏{‏لإِلَى الله تُحْشَرُونَ‏}‏ ولا يخفى أنه من باب التأويل لا من قبيل التفسير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ‏(‏159‏)‏‏}‏

‏{‏فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ الله لِنتَ لَهُمْ‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والفاء لترتيب مضمون الكلام على ما ينبىء عنه السياق من استحقاق الفارّين الملامة والتعنيف منه صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية حيث صدروا عنه وحياض الأهوال مترعة وشمروا للهزيمة والحرب قائمة على ساق، أو من سعة فضاء مغفرته ورحمته والباء متعلقة بلنت والتقديم للقصر، وما مزيدة للتأكيد وعليه أجلة المفسرين وهو المأثور عن قتادة، وحكى الزجاج الإجماع عليه وفيه نظر، فقد قال الأخفش وغيره يجوز أن تكون نكرة بمعنى شيء، ورحمة بدل منها، وجوز أن تكون صفة لها، وقيل‏:‏ إنها استفهامية للتعجب والتقدير فبأي رحمة لنت لهم، والتنوين في رحمة على كل تقدير للتفخيم، و‏{‏مِنْ‏}‏ متعلقة بمحذوف وقع صفة لها أي‏:‏ فبما رحمة عظيمة كائنة من الله تعالى كنت لين الجانب لهم ولم تعنفهم، ولعل المراد بهذه الرحمة ربطه سبحانه وتعالى على جأشه صلى الله عليه وسلم وتخصيصه له بمكارم الأخلاق، وجعل الرفق ولين الجانب مسبباً عن ربط الجأش لأن من ملك نفسه عند الغضب كان كامل الشجاعة‏.‏ قيل‏:‏ وأفاد الكلام في هذا المقام فائدتين‏:‏ إحداهما‏:‏ ما يدل على شجاعته صلى الله عليه وسلم، والثانية‏:‏ ما يدل على رفقه فهو من باب التكميل، وقد اجتمعت فيه صلى الله عليه وسلم هاتان الصفتان يوم أحد حيث ثبت حتى كر عليه أصحابه مع أنه عراه ما عراه ثم ما زجرهم ولا عنفهم على الفرار بل آساهم في الغم‏.‏

‏{‏وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً‏}‏ أي خشن الجانب شرس الأخلاق جافياً في المعاشرة قولاً وفعلاً ‏{‏غَلِيظَ القلب‏}‏ أي قاسيه، وقال الكلبي‏:‏ فظاً في الأقوال غليظ القلب في الأفعال‏.‏ وذكر بعضهم أن الفظ سيء الخلق في الأمور الظاهرة من الأقوال والأفعال، وغليظ القلب السيء في الأمور الباطنة، والثاني‏:‏ سبب للأول وقدم المسبب لظهوره إذ هو الذي يطلع عليه ويمكن أن يقال المراد لو كنت على خلاف تينك الصفتين المعبر عنهما بالرحمة وهو التهور المشار إليه بالفظاظة وسوء الأخلاق المرموز إليه بغلظ القلب فإن قساوة القلب وعدم تأثره يتبعها كل صفة ذميمة، ولهذا ورد أبعد القلوب عن الله تعالى القلوب القاسية وكأنه لبعده صدّر بيمكن وعلى كل تقدير في الكلام حذف أي ولو كنت فظاً غليظ القلب فلم تلن لهم وأغلظت عليهم ‏{‏لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ‏}‏ أي لتفرقوا عنك ونفروا منك ولم يسكنوا إليك وتردّوا في مهاوي الردى ولم ينتظم أمر ما بعثت به من هدايتهم وإرشادهم إلى الصراط‏.‏

‏{‏فاعف عَنْهُمْ‏}‏ مترتب على ما قبله أي إذا كان الأمر كذلك فاعف عنهم فيما يتعلق بحقوقك ‏{‏واستغفر لَهُمُ‏}‏ الله تعالى فيما يتعلق بحقوقه سبحانه وتعالى إتماماً للشفقة وإكمالاً للتربية ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر‏}‏ أي في الحرب أخرجه ابن أبي حاتم من طريق ابن سيرين عن عبيدة وهو المناسب للمقام، أو فيه وفي أمثاله مما تجري فيه المشاورة عادة، وإليه ذهب جماعة، واختلف في مشاورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه رضي الله تعالى عنهم في أمر الدين إذا لم يكن هناك وحي فمن أبى الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم ذهب إلى عدم جوازها ومن لا يأباه وهو الأصح ذهب إلى جوازها، وفائدتها الاستظهار برأيهم، ويؤيد ذلك ما أخرجه الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر‏:‏ «لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما» أو التطييب لأنفسهم، وإليه ذهب قتادة، فقد أخرج ابن جرير عنه أنه قال‏:‏ أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يشاور أصحابه في الأمور وهو يأتيه وحي السماء لأنه أطيب لأنفس القوم، أو أن تكون سنة بعده لأمته وإليه ذهب الحسن، فقد أخرج البيهقي عنه أنه قال في الآية‏:‏ قد علم الله تعالى ما به إليهم حاجة ولكن أراد أن يستن به من بعده، ويؤيده ما أخرجه ابن عدي والبيهقي في «الشعب» بسند حسن عن ابن عباس قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشداً ومن تركها لم يعدم غياً ‏"‏؛ وقيل‏:‏ فائدة ذلك أن يمتحنهم فيتميز الناصح من الغاش وليس بشيء، وادعى الجصاص «أن كون الأمر بالمشاورة على جهة تطييب النفوس مثلاً غير جائز لأنه لو كان معلوماً عندهم أنهم إذا استفرغوا مجهودهم في استنباط الصواب عما سئلوا عنه ثم لم يكن معمولاً به لم يكن في ذلك تطييب نفوسهم بل فيه إيحاشهم بأن آراءهم غير مقبولة ولا معوّل عليها؛ وجزم بأنه لا بد أن يكون لمشاورته صلى الله عليه وسلم إياهم فائدة هي الاستظهار بما عندهم وأن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم معهم ضرب من الاجتهاد فما وافق رأيه عمل به وما خالفه ترك من غير لوم، وفيه إرشاد للاجتهاد وجوازه بحضرته صلى الله عليه وسلم وإشعار بمنزلة الصحابة وأنهم كلهم أهل اجتهاد وأن باطنهم مرضي عند الله تعالى» انتهى، وفيه نظر إذ لا خفاء على من راجع وجدانه أن في قول الكبير للصغير ماذا ترى في أمر كذا وماذا عندك فيه تطييباً لنفسه وتنشيطاً لها لاكتساب الآراء وإعمال الفكر لا سيما إذا صادف رأيه رأي الكبير أحياناً وإن لم يكن العمل برأيه الموافق بل العمل بالرأي الموافق، وما ادعاه من أن الرأي إذا لم يكن معمولاً به كان فيه إيحاش غير مسلم لا سيما فيما نحن فيه لعلم الصحابة رضي الله تعالى عنهم بعلو شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن عقولهم بالنسبة إلى عقله الشريف كالسها بالنسبة إلى شمس الضحى، على أن من قال‏:‏ إن فادة المشاورة تطييب النفس أشار إلى أن الوحي يأتيه فهو غني عنها، وحينئذٍ يكون قصد التطييب أتم وأظهر لما في المشاورة إذ ذاك من تعريضهم لما يمكن أن يوافق الوحي والإيحاش بعدم العمل هنا أبعد لأن مستنده اتباع الوحي ومعلوم لديهم أنه أولى بالاتباع لأنه من قبل الله تعالى اللطيف الخبير كما لا يخفى، ثم ما ذكر من أن في ذلك إشعاراً بأن الصحابة كلهم أهل اجتهاد في حيز المنع لأن أمر السلطان مثلاً لعامله أن يشاور أهل بلده في أموره لا يستدعي أن يشاور كل واحد واحد منهم في ذلك بل لا يكاد أن يكون ذلك مراداً أصلاً بل المراد أن يشاور أهل الآراء منهم والمتدربين فيهم، وكون الصحابة كلهم كذلك أول المدعى، ودون إثباته وقعة الجمل وحرب صفين‏.‏

ويؤيد كون المراد من الصحابة المأمور صلى الله عليه وسلم بمشاورتهم أهل الرأي والتدبير لا مطلقاً بما أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس أنه قال في ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِى الامر‏}‏‏:‏ أبو بكر وعمر، ومن طريق الكلبي عن أبي صالح عن الحبر أن الآية نزلت فيهما، نعم لو كانت المشاورة لمجرد تطييب النفوس دون الاستظهار كان لمشاورة أي واحد منهم وإن لم يكن من أرباب الرأي وجه لكن الجصاص لم يبن كلامه على ذلك‏.‏ بقي أن بين ما أخرجه الإمام أحمد من قوله صلى الله عليه وسلم للعمرين رضي الله تعالى عنهما‏:‏ «لو اجتمعتما على مشورة ما خالفتكما» وأما أخرجه ابن عدي والبيهقي من قوله عليه الصلاة والسلام عند نزول الآية «أما إن الله ورسوله لغنيان عنها ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمتي» تنافياً إلا أن يحمل خبر عدم مخالفتهما لو اجتمعا على الإشارة إلى رفعة قدرهما وعلو شأنهما وأن اجتماعهما على أمر لا يكون إلا موافقاً لما عند الله تعالى وهو الذي عليه المعول وبه العمل، وكأن في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما خالفتكما» دون لعملت بقولكما مثلاً نوع إشعار بما قلنا فتدبر، وقرأ ابن عباس كما أخرج البخاري في «الأدب المفرد» عنه ‏{‏وَشَاوِرْهُمْ فِى بَعْضِ الامر‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِذَا عَزَمْتَ‏}‏ أي إذا عقدت قلبك على الفعل وإمضائه بعد المشاورة كما تؤذن به الفاء‏.‏ ‏{‏فَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ أي فاعتمد عليه وثق به وفوض أمرك إليه فإنه الأعلم بما هو الأصلح، وأصل التوكل إظهار العجز والاعتماد على الغير والاكتفاء به في فعل ما يحتاج إليه، وهو عندنا على الله سبحانه لا ينافي مراعاة الأسباب بل يكون بمراعاتها مع تفويض الأمر إليه تعالى شأنه و«اعقلها وتوكل» يرشد إلى ذلك، وعند ساداتنا الصوفية هو إهمال التدبير بالكلية، وعن جابر بن زيد أنه قرأ ‏{‏فَإِذَا عَزَمْتَ‏}‏ بصيغة المتكلم، والمعنى فإذا قطعت لك بشيء وعينته لك فتوكل علي ولا تشاور به أحداً، والالتفات لتربية المهابة وتعليل التوكل والأمر به فإن عنوان الألوهية الجامعة لجميع صفات الكلام مستدعي للتوكل عليه سبحانه والأمر به‏.‏

‏{‏إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين‏}‏ عليه الواثقين به المنقطعين إليه فينصرهم ويرشدهم إلى ما هو خير لهم كما تقتضيه المحبة، والجملة تعليل للتوكل عليه سبحانه، وقد روعي في الآية حسن الترتيب وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم أمر أولاً بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصة نفسه فإذا انتهوا إلى هذا المقام أمر أن يستغفر لهم ما بينهم وبين الله تعالى لتنزاح عنهم التبعتان فلما صاروا إلى هنا أمر بأن يشاورهم في الأمر إذ صاروا خالصين من التبعتين مصفين منهما، ثم أمر صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بالتوكل على الله تعالى والانقطاع إليه لأنه سبحانه السند الأقوم والملجأ الأعظم الذي لا تؤثر الأسباب إلا به ولا تنقضي الحاج إلا عند بابه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏160‏)‏‏}‏

‏{‏إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ‏}‏ جملة مستأنفة سيقت بطريق تلوين الخطاب تشريفاً للمؤمنين لإيجاب التوكل عليه والترغيب في طاعته التي يستحق بها النصرة والتحذير عن معصيته التي يستحق بها الخذلان أي إن يرد نصركم كما أراده يوم بدر فلا أحد يغلبكم على طريق نفي الجنس المنتظم بجميع أفراد الغالب ذاتاً وصفة فهو أبلغ من لا يغلبكم أحد لدلالته على نفي الصفة فقط‏.‏ ثم المفهوم من ظاهر النظم الكريم كما قال شيخ الإسلام وإن كان نفي مغلوبيتهم من غير تعرض لنفي المساواة أيضاً وهو الذي يقتضيه المقام لكن المفهوم منه فهماً قطعياً هو نفي المساواة وإثبات الغالبية للمخاطبين، فإذا قلت‏:‏ لا أكرم من فلان ولا أفضل منه فالمفهوم منه حتماً أنه أكرم من كل كريم وأفضل من كل فاضل وهذا أمر مطرد في جميع اللغات ولا اختصاص ‏(‏له‏)‏ بالنفي الصريح بل هو مطرد فيما ورد على طريق الاستفهام الإنكاري كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 144‏]‏ في مواقع كثيرة من التنزيل وقد أشرنا إلى هذا المبحث فيما تقدم‏.‏

‏{‏وَإِن يَخْذُلْكُمْ‏}‏ أي وإن يرد خذلانكم ويمنعكم معونته كما فعل يوم أحد‏.‏ وقرىء ‏{‏يَخْذُلْكُمْ‏}‏ من أخذله إذا جعله مخذولاً ‏{‏فَمَن ذَا الذى يَنصُرُكُم‏}‏ استفهام إنكاري مفيد لانتفاء الناصر على نحو انتفاء الغالب، وقيل‏:‏ وجاء جواب الشرط في الأول صريح النفي ولم يجىء في الثاني كذلك تلطفاً بالمؤمنين حيث صرح لهم بعدم الغلبة ولم يصرح بأنه لا ناصر لهم وإن كان الكلام مفيداً له ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ أي من بعد خذلانه أو من بعد الله تعالى على معنى إذا جاوزتموه فعلى الأول‏:‏ بعد ظرف زمان وهو الأصل فيها، وعلى الثاني‏:‏ مستعار للمكان‏.‏

‏{‏وَعَلَى الله‏}‏ لا على غيره كما يؤذن بذلك تقديم المعمول‏.‏ ‏{‏فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون‏}‏ المراد بهم إما جنس المؤمنين والمخاطبون داخلون فيه دخولاً أولياً، وإما المخاطبون خاصة بطريق الالتفات وعلى التقديرين لا يخفى ما في ذلك من تشريف المخاطبين مع الإيماء إلى تعليل تحتم التوكل عليه تعالى، والفاء كما قالوا‏:‏ لترتيب ما بعدها أو الأمر به على ما مرّ من غلبة المؤمنين ومغلوبيتهم على تقدير نصر الله تعالى لهم وخذلانه إياهم فإن العلم بذلك مما يستدعي قصر التوكل عليه سبحانه لا محالة‏.‏