فصل: تفسير الآية رقم (60)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آَمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وتعجيب له عليه الصلاة والسلام أي ألم تنظر أو ألم ينته علمك‏.‏ ‏{‏إِلَى الذين يَزْعُمُونَ‏}‏ من الزعم وهو كما في «القاموس» «مثلث القول‏:‏ الحق والباطل والكذب ضد، وأكثر ما يقال فيما يشك فيه» ومن هنا قيل‏:‏ إنه قول بلا دليل، وقد كثر استعماله بمعنى القول الحق، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «زعم جبريل» وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك» وقد أكثر سيبويه في الكتاب من قوله‏:‏ زعم الخليل كذا في أشياء يرتضيها وفي «شرح مسلم للنووي» أن زعم في كل هذا بمعنى القول، والمراد به هنا مجرد الادعاء أي يدعون‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ أي القرآن‏.‏ ‏{‏وَمَا أَنَزلَ‏}‏ إلى موسى عليه السلام ‏{‏مِن قَبْلِكَ‏}‏ وهو التوراة، ووصفوا بهذا الادعاء لتأكيد التعجيب وتشديد التوبيخ والاستقباح، وقرىء ‏{‏أَنَزلَ وَمَا أَنَزلَ‏}‏ بالبناء للفاعل‏.‏

‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت‏}‏ بيان لمحل التعجيب على قياس نظائره؛ أخرج الثعلبي وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أن رجلاً من المنافقين يقال له بشر‏:‏ خاصم يهودياً فدعاه اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال‏:‏ تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب، فقال اليهودي لعمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ قضى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرض بقضائه، فقال للمنافق أكذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقال عمر‏:‏ مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال‏:‏ هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فنزلت»، وفي بعض الروايات «وقال جبريل عليه السلام إن عمر فرق بين الحق والباطل وسماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاروق رضي الله تعالى عنه»، والطاغوت على هذا كعب ابن الأشرف، وإطلاقه عليه حقيقة بناءاً على أنه بمعنى كثير الطغيان، أو أنه علم لقب له كالفاروق لعمر رضي الله تعالى عنه، ولعله في مقابلة الطاغوت، وفي معناه كل من يحكم بالباطل ويؤثر لأجله، ويحتمل أن يكون الطاغوت بمعنى الشيطان، وإطلاقه على الأخس بن الأشرف إما استعارة أو حقيقة، والتجوز في إسناد التحاكم إليه بالنسبة الإيقاعية بين الفعل ومفعوله بالواسطة، وقيل‏:‏ إن التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنه الحامل عليه فنقله عن الشيطان إليه على سبيل المجاز المرسل، وأخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عباس أيضاً قال‏:‏ كان أبو برزة الأسلمي كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه فتنافر إليه ناس من المسلمين فأنزل الله تعالى فيهم الآية‏.‏

وأخرج ابن جرير عن السدي كان أناس من يهود قريظة والنضير قد أسلموا ونافق بعضهم، وكانت بينهم خصومة في قتيل فأبى المنافقون منهم إلا التحاكم إلى أبي برزة فانطلقوا إليه فسألوه فقال‏:‏ أعظموا اللقمة، فقالوا‏:‏ لك عشرة أوساق فقال‏:‏ لا بل مائة وسق، فأبوا أن يعطوه فوق العشرة، فأنزل الله تعالى فيهم ما تسمعون وعلى هذا ففي الآية من الإشارة إلى تفظيع التحاكم نفسه ما لا يخفى، وهو أيضاً أنسب بوصف المنافقين بادعاء الإيمان بالتوراة، ويمكن حمل خبر الطبراني عليه بحمل المسلمين فيه على المنافقين ممن أسلم من قريظة والنضير‏.‏

‏{‏وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏يُرِيدُونَ‏}‏ وفيه تأكيد للتعجيب كالوصف السابق، والضمير المجرور راجع إلى الطاغوت وهو ظاهر على تقدير أن يراد منه الشيطان وإلا فهو عائد إليه باعتبار الوصف لا الذات، أي أمروا أن يكفروا بمن هو كثير الطغيان أو شبيه بالشيطان، وقيل الضمير للتحاكم المفهوم من ‏{‏يَتَحَاكَمُواْ‏}‏ وفيه بعد، وقرأ عباس بن المفضل بها، وقرىء بهن، والضمير أيضاً للطاغوت لأنه يكون للواحد والجمع، وإذا أريد الثاني أنث باعتبار معنى الجماعة وقد تقدم ‏{‏وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضلالا بَعِيداً‏}‏ عطف على الجملة الحالية داخلة في حكم التعجيب، وفيها على بعض الاحتمالات وضع المظهر موضع المضمر على معنى‏:‏ يريدون أن يتحاكموا إلى الشيطان وهو بصدد إرادة إضلالهم ولا يريدون أن يتحاكموا إليك وأنت بصدد إرادة هدايتهم، و‏{‏ضَلاَلاً‏}‏ إما مصدر مؤكد للفعل المذكور بحذف الزوائد على حد ما قيل في ‏{‏أَنبَتَكُمْ مّنَ الارض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ وإما مؤكد لفعله المدلول عليه بالمذكور أي ‏(‏فيضلون ضلالاً‏)‏، ووصفه بالبعد الذي هو نعت موصوفه للمبالغة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ أي لأولئك الزاعمين ‏{‏تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله‏}‏ في القرآن من الأحكام ‏{‏وَإِلَى الرسول‏}‏ المبعوث للحكم بذلك ‏{‏رَأَيْتُ‏}‏ أي أبصرت أو علمت ‏{‏المنافقين‏}‏ وهم الزاعمون، والإظهار في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق وذمهم به والإشعار بعلة الحكم أي رأيتهم لنفاقهم ‏{‏يَصِدُّونَ‏}‏ أي يعرضون ‏{‏عَنكَ صُدُوداً‏}‏ أي إعراضاً أيُّ إعراض فهو مصدر مؤكد لفعله وتنوينه للتفخيم، وقيل‏:‏ هو اسم للمصدر الذي هو الصد وعزي إلى الخليل، والأظهر أنه مصدر لصد اللازم، والصد مصدر للمتعدي، ودعوى أن يصدون هنا متعد حذف مفعوله أي يصدون المتحاكمين أي يمنعونهم مما لا حاجة إليه، وهذه الجملة تكملة لمادة التعجيب ببيان إعراضهم صريحاً عن التحاكم إلى كتاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم إثر بيان إعراضهم عن ذلك في ضمن التحاكم إلى الطاغوت، وقرأ الحسن ‏{‏تَعَالَوْاْ‏}‏ بضم اللام على أنه حذف لام الفعل اعتباطاً كما قالوا‏:‏ ما باليت به بالة وأصلها بالية كعافية، وكما قال الكسائي في آية‏:‏ إن أصلها أيية كفاعلة فصارت اللام كاللام فضمت للواو، ومن ذلك قول أهل مكة‏:‏ تعالى بكسر اللام للمرأة، وهي لغة مسموعة أثبتها ابن جني فلا عبرة بمن لحن ‏(‏كابن هشام‏)‏ الحمداني فيها حيث يقول‏:‏

أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا *** ‏(‏تعالى اقاسمك الهموم تعالى‏)‏

ولا حاجة إلى القول بأن تعالى الأولى‏:‏ مفتوحة اللام، والثانية‏:‏ مكسورتها للقافية كما لا يخفى، وأصل معنى هذا الفعل طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَيْفَ‏}‏ يكون حالهم ‏{‏إِذَا أصابتهم‏}‏ نالتهم ‏{‏مُّصِيبَةٍ‏}‏ نكبة تظهر نفاقهم ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي بسبب ما عملوا من الجنايات كالتحاكم إلى الطاغوت والإعراض عن حكمك ‏{‏ثُمَّ جَاءوكَ‏}‏ للاعتذار وهو عطف على ‏{‏أصابتهم‏}‏ والمراد تهويل ما ‏(‏دهاهم‏)‏، وقيل‏:‏ على ‏{‏يَصِدُّونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 61‏]‏ وما بينهما اعتراض ‏{‏يَحْلِفُونَ‏}‏ حال من فاعل ‏{‏جَاءوكَ‏}‏ أي حالفين لك ‏{‏بالله إِنْ أَرَدْنَا‏}‏ أي ما أردنا بتحاكمنا إلى غيرك ‏{‏إِلا إحسانا‏}‏ إلى الخصوم ‏{‏وَتَوْفِيقاً‏}‏ بينهم ولم نرد بالمرافعة إلى غيرك عدم الرضا بحكمك فلا تؤاخذنا بما فعلنا، وهذا وعيد لهم على ما فعلوا وأنهم سيندمون حين لا ينفعهم الندم، ويعتذرون ولا يغني عنهم الاعتذار، وقيل‏:‏ جاء أصحاب القتيل طالبين بدمه وقالوا‏:‏ إن أردنا بالتحاكم إلى عمر رضي الله تعالى عنه إلا أن يحسن إلى صاحبنا ويوفق بينه وبين خصمه فإذا على هذا لمرجد الظرفية دون الاستقبال‏.‏ وقيل‏:‏ المعنّي بالآية عبد الله بن أبيّ والمصيبة ما أصابه وأصحابه من الذل برجوعهم من غزوة بني المصطلق وهي غزوة مريسيع حين نزلت سورة المنافقين فاضطروا إلى الخشوع والاعتذار على ما سيذكر في محله إن شاء الله تعالى‏.‏ وقالوا‏:‏ ما أردنا بالكلام بين الفريقين المتنازعين في تلك الغزوة إلا الخير، أو مصيبة الموت لما تضرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإقالة والاستغفار واستوهبه ثوبه ليتقي به النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ أي المنافقون المذكورون ‏{‏الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ من فنون الشرور المنافية لما أظهروا لك من ‏(‏بنات غير وجاءوا به من أذنى عناق‏)‏ ‏{‏فَأَعْرَضَ‏}‏ حيث كانت حالهم كذلك ‏{‏عَنْهُمْ‏}‏ أي قبول عذرهم، ويلزم ذلك الإعراض عن طلبهم دم القتيل لأنه هدر، وقيل‏:‏ عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم، ولا تظهر لهم علمك بما في بواطنهم الخبيثة حتى يبقوا على نيران الوجل ‏{‏وَعِظْهُمْ‏}‏ بلسانك وكفهم عن النفاق ‏{‏وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ أي قل لهم خالياً لا يكون معهم أحد لأنه أدعى إلى قبول النصيحة، ولذا قيل‏:‏ النصح بين الملأ تقريع، أو قل لهم في شأن أنفسهم ومعناها ‏{‏قَوْلاً بَلِيغاً‏}‏ مؤثراً واصلا إلى كنه المراد مطابقاً لما سيق له من المقصود فالظرف على التقديرين متعلق بالأمر‏.‏ وقيل‏:‏ متعلق بـ ‏{‏بَلِيغاً‏}‏ وهو ظاهر على مذهب الكوفيين، والبصريون لا يجيزون ذلك لأن معمول الصفة عندهم لا يتقدم على الموصوف لأن المعمول إنما يتقدم حيث يصح تقدم عامله، وقيل‏:‏ إنه إنما يصح إذا كان ظرفاً وقواه البعض، وقيل‏:‏ إنه متعلق بمحذوف يفسره المذكور وفيه بعد والمعنى على تقدير التعلق‏:‏ قل لهم قولاً بليغاً في أنفسهم مؤثراً فيها يغتمون به اغتماماً، ويستشعرون منه الخوف استشعاراً، وهو التوعد بالقتل والاستئصال، والإيذان بأن ما انطوت عليه قلوبهم الخبيثة من الشر والنفاق بمرأى من الله تعالى ومسمع غير خاف عليه سبحانه وإن ذلك مستوجب ‏(‏لما تشيب منه النواصي، وإنما هذه المكافة‏)‏ والتأخير لإظهارهم الإيمان وإضمارهم الكفر، ولئن أظهروا الشقاق وبرزوا بأشخاصهم من نفق النفاق ‏(‏لتسامرنهم السمر والبيض، وليضيقن عليهم رحب الفلا بالبلاء العريض‏)‏، واستدل بالآية الأولى على أنه قد تصيب المصيبة بما يكتسبه العبد من الذنوب، ثم اختلف في ذلك فقال الجبائي‏:‏ لا يكون ذلك إلا عقوبة في التائب، وقال أبو هاشم‏:‏ يكون ذلك لطفاً‏.‏ وقال القاضي عبد الجبار‏:‏ قد يكون لطفاً وقد يكون جزاءاً وهو موقوف على الدليل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله‏}‏ تمهيد لبيان خطئهم باشتغالهم بستر نار جنايتهم بهشيم اعتذارهم الباطل وعدم إطفائها بماء التوبة أي وما أرسلنا رسولاً من الرسل لشيء من الأشياء إلا ليطاع بسبب إذنه تعالى وأمره المرسل إليهم أن يطيعوه لأنه مؤد عنه عز شأنه فطاعته طاعته ومعصيته معصيته أو بتيسيره وتوفيقه سبحانه في طاعته، ولا يخفى ما في العدول عن الضمير إلى الإسم الجليل، واحتج المعتزلة بالآية على أن الله تعالى لا يريد إلا الخير والشر على خلاف إرادته، وأجاب عن ذلك صاحب «التيسير» بأن المعنى إلا ليطيعه من أذن له في الطاعة وأرادها منه، وأما من لم يأذن له فيريد عدم طاعته فلذا لا يطيعه ويكون كافراً، أو بأن المراد إلزام الطاعة أي وما أرسلنا رسولاً إلا لإلزام طاعته الناس ليثاب من انقاد ويعاقب من سلك طريق العناد فلا تنتهض دعواهم الاحتجاج بها على مدعاهم، واحتج بها أيضاً من أثبت الغرض في أفعاله تعالى وهو ظاهر، ولا يمكن تأويل ذلك بكونه غاية لا غرضاً لأن طاعة الجميع لا تترتب على الإرسال إلا أن يقال إن الغاية كونه مطاعاً بالإذن لا للكل إذ من لا إذن له لا يطيع، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ وعرضوها للبوار بالنفاق والتحاكم إلى الطاغوت ‏{‏جَاءوكَ‏}‏ على إثر ظلمهم بلا ريث متوسلين بك تائبين عن جنايتهم غير جامعين حشفاً وسوء كيلة باعتذارهم الباطل وأيمانهم الفاجرة ‏{‏فاستغفروا الله‏}‏ لذنوبهم ونزعوا عما هم عليه وندموا على ما فعلوا‏.‏ ‏{‏واستغفر لهم الرسول‏}‏ وسأل الله تعالى أن يقبل توبتهم ويغفر ذنوبهم، وفي التعبير باستغفر الخ دون استغفرت تفخيم لشأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث عدل عن خطابه إلى ما هو من عظيم صفاته على طريق حكم الأمير بكذا مكان حكمت، وتعظيم لاستغفاره عليه الصلاة والسلام حيث أسنده إلى لفظ منبيء عن علو مرتبته ‏{‏لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً‏}‏ أي لعلموه قابلاً لتوبتهم متفضلاً عليهم بالتجاوز عما سلف من ذنوبهم، ومن فسر الوجدان بالمصادفة كان الوصف الأول‏:‏ حال والثاني‏:‏ بدلاً منه أو حالا من الضمير فيه أو مثله، وفي وضع الاسم الجامع موضع الضمير إيذان بفخامة القبول والرحمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏فَلاَ وَرَبّكَ‏}‏ أي فوربك و‏(‏ لا‏)‏ مزيدة لتأكيد معنى القسم لا لتأكيد النفي في جوابه أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ لأنها تزاد في الإثبات أيضاً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 75‏]‏ وهذا ما اختاره الزمخشري ومتابعوه في ‏(‏لا‏)‏ التي تذكر قبل القسم، وقيل‏:‏ إنها رد لمقدر أي لا يكون الأمر كما زعمتم واختاره الطبرسي، وقيل‏:‏ مزيدة لتأكيد النفي في الجواب ولتأكيد القسم إن لم يكن نفي، وقال ابن المنير‏:‏ الظاهر عندي أنها ههنا لتوطئة النفي المقسم عليه، والزمخشري لم يذكر مانعاً من ذلك سوى مجيئها لغير هذا المعنى في الإثبات وهو لا يأبى مجيئها في النفي على الوجه الآخر من التوطئة على أنها لم ترد في القرآن إلا مع صريح فعل القسم ومع القسم بغير الله تعالى مثل ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 1‏]‏ ‏{‏فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 16‏]‏ قصداً إلى تأكيد القسم وتعظيم المقسم به إذ لا يقسم بالشيء إلا إعظاماً له فكأنه بدخولها يقول إن إعظامي لهذه الأشياء بالقسم بها كلا إعظام يعني أنها تستوجب من التعظيم فوق ذلك، وهو لا يحسن في القسم بالله تعالى إذ لا توهم ليزاح، ولم تسمع زيادتها مع القسم بالله إلا إذا كان الجواب منفياً فدل ذلك على أنها معه زائدة موطئة للنفي الواقع في الجواب، ولا تكاد تجدها في غير الكتاب العزيز داخلة على قسم مثبت وإنما كثر دخولها على القسم وجوابه نفي كقوله‏:‏ ‏(‏فلا وأبيك‏)‏ ابنة العامري *** ‏(‏لا يدعي‏)‏ القوم أني أفر

وقوله‏:‏

ألا نادت أمامة ‏(‏بارتحال *** لتحزنني ‏(‏فلا بك‏)‏ ما أبالي

وقوله‏:‏

رأى برقا فأوضع فوق بكر *** ‏(‏فلا بك ما أسال ولا أغاما‏)‏

إلى ما لا يحصى كثرة، ومن هذا يعلم الفرق بين المقامين؛ والجواب عن قولهم‏:‏ إنه لا فرق بينهما فتأمل ذلك فهو حقيق بالتأمل‏)‏‏.‏

‏{‏حتى يُحَكّمُوكَ‏}‏ أي يجعلوك حكماً أو حاكماً، وقال شيخ الإسلام‏:‏ «يتحاكموا إليك ويترافعوا، وإنما جيء بصيغة التحكيم مع أنه صلى الله عليه وسلم حاكم بأمر الله إيذاناً بأن اللائق بهم أن يجعلوه عليه الصلاة والسلام حكماً فيما بينهم ويرضوا بحكمه وإن قطع النظر عن كونه حاكماً على الإطلاق» ‏{‏فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط، ومنه الشجر لتداخل أغصانه، وقيل‏:‏ للمنازعة تشاجر لأن المتنازعين تختلف أقوالهم وتتعارض دعاويهم ويختلط بعضهم ببعض ‏{‏ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ‏}‏ عطف على مقدر ينساق إليه الكلام أي فتحكم بينهم ثم لا يجدوا ‏{‏فِى أَنفُسِهِمْ‏}‏ وقلوبهم ‏{‏حَرَجاً‏}‏ أي شكاً كما قاله مجاهد أو ضيقاً كما قاله الجبائي أو إثماً كما روي عن الضحاك واختار بعض المحققين تفسيره بضيق الصدر لشائبة الكراهة والإباء لما أن بعض الكفرة كانوا يستيقنون الآيات بلا شك ولكن يجحدون ظلماً وعتواً فلا يكونوا مؤمنين، وما روي عن الضحاك يمكن إرجاعه إلى أيّ الأمرين شئت ونفي وجْدَان الحرج أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى، وهو مفعول به ليجدوا والظرف قيل‏:‏ حال منه أو متعلق بما عنده، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّمَّا قَضَيْتَ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لحرجاً، وجوز أبو البقاء تعلقه به، و‏(‏ ما‏)‏ يحتمل أن تكون موصولة ونكرة موصوفة ومصدرية أي من الذي قضيته أي قضيت به أو من شيء قضيت أو من قضائك‏.‏

‏{‏وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ أي ينقادوا لأمرك ويذعنوا له بظاهرهم وباطنهم كما يشعر به التأكيد، ولعل حكم هذه الآية باق إلى يوم القيامة وليس مخصوصاً بالذين كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم فإن قضاء شريعته عليه الصلاة والسلام قضاؤه، فقد روي عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ لو أن قوماً عبدوا الله تعالى وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وصاموا رمضان وحجوا البيت ثم قالوا لشيء صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا صنع خلاف ما صنع، أو وجدوا في أنفسهم حرجاً لكانوا مشركين ثم تلا هذه الآية، وسبب نزولها كما قال الشعبي ومجاهد‏:‏ ما مر من قصة بشر واليهودي اللذين قضى بينهما عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما قضى‏.‏ وأخرج الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي من طريق الزهري «أن عروة بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام أنه خاصم رجلاً من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة كانا يسقيان به كلاهما النخل فقال الأنصاري‏:‏ سرح الماء يمر فأبى عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري وقال‏:‏ يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك، واستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه وكان رسول الله عليه الصلاة والسلام قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه السعة له وللأنصاري فلما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصاري استوعى للزبير حقه في صريح الحكم فقال الزبير‏:‏ ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك ‏{‏فَلاَ وَرَبّكَ‏}‏» الخ‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ‏}‏ أي فرضنا وأوجبنا ‏{‏أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ أي كما أمرنا بني إسرائيل وتفسير ذلك بالتعرض له بالجهاد بعيد ‏{‏أَوِ اخرجوا مِن دياركم‏}‏ كما أمرنا بني إسرائيل أيضاً بالخروج من مصر‏.‏ والمراد إنما كتبنا عليهم إطاعة الرسول والانقياد لحكمه والرضا به ولو كتبنا عليهم القتل والخروج من الديار كما كتبنا ذلك على غيرهم ‏{‏مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ‏}‏ وهم المخلصون من المؤمنين كأبي بكر رضي الله تعالى عنه‏.‏ فقد أخرج ابن أبي حاتم عن عامر بن عبد الله بن الزبير قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر يا رسول الله لو أمرتني أن أقتل نفسي لفعلت فقال‏:‏ صدقت يا أبا بكر» وكعبد الله بن رواحة، فقد أخرج عن شريح بن عبيد «أنها لما نزلت أشار صلى الله عليه وسلم إليه بيده فقال‏:‏ لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان هذا من أولئك القليل»، وكابن أم عبد، فقد أخرج عن سفيان «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيه لو نزلت كان منهم»، وأخرج عن الحسن قال‏:‏ «لما نزلت هذه الآية قال أناس من الصحابة‏:‏ لو فعل ربنا لفعلنا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ للإيمان أثبت في قلوب أهله من الجبال الرواسي ‏"‏ وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «والله لو أمرنا لفعلنا فالحمد لله الذي عافانا فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏ إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي ‏"‏

وفي بعض الآثار أن الزبير وصاحبه لما خرجا بعد الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مرا على المقداد فقال‏:‏ لمن القضاء‏؟‏ فقال الأنصاري‏:‏ لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال‏:‏ قاتل الله تعالى هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ويتهمونه في قضاء يقضى بينهم وأيم الله تعالى لقد أذنبنا ذنباً مرة في حياة موسى عليه السلام فدعانا إلى التوبة منه، وقال‏:‏ اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفاً في طاعة ربنا حتى رضي عنا؛ فقال ثابت بن قيس‏:‏ أما والله إن الله تعالى ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد صلى الله عليه وسلم أن أقتل نفسي لقتلتها، وروي أن قائل ذلك هو وابن مسعود وعمار بن ياسر، وأنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم فقال‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالاً الإيمان في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي وإن الآية نزلت فيهم ‏"‏، وفي رواية البغوي الاقتصار على ثابت بن قيس، وعلى هذا الأثر وجه مناسبة ذكر هذه الآية مما لا يخفى، وكأنه لذلك قال صاحب «الكشاف» في معناها‏:‏ «لو أوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني إسرائيل من قتلهم أنفسهم، أو خروجهم من ديارهم حين استتيبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل»، وقال بعضهم‏:‏ إن المراد أننا قد حففنا عليهم حيث اكتفينا منهم في توبتهم بتحكيمك والتسليم له ولو جعلنا توبتهم كتوبة بني إسرائيل لم يتوبوا، والذي يفهم من فحوى الأخبار المعول عليها أن هذه الكتابة لا تعلق لها بالاستتابة، ولعل المراد من ذكر ذلك مجرد التنبيه على قصور كثير من الناس ووهن إسلامهم إثر بيان أنه لا يتم إيمانهم إلا بأن يسلموا حق التسليم، وظاهر ما ذكره الزمخشري من أن بني إسرائيل أمروا بالخروج حين استتيبوا مما لا يكاد يصح إذا أريد بالديار الديار المصرية لأن الاستتابة من عبادة العجل إنما كانت بعد الخروج منها وبعد انفلاق البحر وهذا مما لا امتراء فيه على أنا لا نسلم أنهم أمروا بالخروج استتابة في وقت من الأوقات، وحمل الذلة على الخروج من الديار لأن ذل الغربة مثل مضروب في قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّ الذين اتخذوا العجل سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّهِمْ وَذِلَّةٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 152‏]‏ لا يفيد إذ الآية لا تدل على الأمر به والنزاع فيه على أن في كون هذه الآية في التائبين من عبادة العجل نزاعاً، وقد حقق بعض المحققين أنها في المصرين المستمرين على عبادته كما ستعلمه إن شاء الله تعالى؛ والعجب من صاحب «الكشف» كيف لم يتعقب كلام صاحب «الكشاف» بأكثر من أنه ليس منصوصاً في القرآن، ثم نقل كلامه في الآية‏.‏

هذا والكلام في ‏{‏لَوْ‏}‏ هنا أشهر من نار على علم، وحقها كما قالوا‏:‏ أن يليها فعل، ومن هنا قال الطبرسي‏:‏ «التقدير لو وقع كتبنا عليهم»، وقال الزجاج‏:‏ إنها وإن كان حقها ذلك إلا أن إن الشديدة تقع بعدها لأنها تنوب عن الاسم والخبر فنقول ظننت أنك عالم كما تقول‏:‏ ظننتك عالماً أي ظننت علمك ثابتاً فهي هنا نائبة عن الفعل والاسم كما أنها هناك نائبة عن الاسم والخبر، وضمير الجمع في ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ وما بعده قيل‏:‏ للمنافقين ونسب إلى ابن عباس ومجاهد، واعترض بأن فعل القليل منهم غير متصور إذ هم المنافقون الذين لا تطيب أنفسهم بما دون القتل بمراتب، وكل شيء دون المنية سهل، فكيف تطيب بالقتل ويمتثلون الأمر به‏؟‏ وأجيب بأن المراد لو كتبنا على المنافقين ذلك ما فعله إلا قليل منهم رياءاً وسمعة وحينئذٍ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم، فإذ لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم الأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص، ونسب ذلك للبلخي‏.‏

ولا يخفى أن قوله صلى الله عليه وسلم في عبد الله بن رواحة‏:‏

«لو أن الله تعالى كتب ذلك لكان منهم» وكذا غيره من الأخبار السالفة تأبى هذا التوجيه غاية الإباء لأنها مسوقة للمدح، ولا مدح في كون أولئك المذكورين من القليل الذين يمتثلون الأمر رياءاً وسمعة بل ذلك غاية في الذم لهم وحاشاهم، وقيل‏:‏ للناس مطلقاً، والقلة إضافية لأن المراد بالقليل المؤمنون وهم وإن كثروا قليلون بالنسبة إلى من عداهم من المنافقين، والكفرة المتمردين ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 103‏]‏ وحينئذٍ لا يرد أنه يلزم من الآية كون بني إسرائيل أقوى إيماناً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث امتثلوا أمر الله تعالى لهم بقتل أنفسهم حتى بلغ قتلاهم سبعين ألفاً، ولا يمتثله لو كان من الصدر الأول إلا قليل ومن الناس من جعل الآية بياناً لكمال اللطف بهذه الأمة حيث إنه لا يقبل القتل منهم إلا القليل لأن الله تعالى يعفو عنهم بقتل قليل ولا يدعهم أن يقتل الكثير كبني إسرائيل إلا أنهم لا يفعلون كما فعل بنو إسرائيل لقلة المخلصين فيهم وكثرة المخلصين في بني إسرائيل ليلزم التفضيل‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون قتل كثير من بني إسرائيل لأنهم لو لم ينقادوا لأهلكهم عذاب الله تعالى، وهذه الأمة مأمونون إلى يوم القيامة فلا يقدمون كما أقدموا لعدم خوف الاستئصال لا لأنهم دون، وأن بني إسرائيل أقوى منهم إيماناً، وأنت تعلم أن الآية بمراحل عن إفادتها كمال اللطف، والسباق والسياق لا يشعران به أصلاً، وأن خوف الاستئصال وعدمه مما لا يكاد يخطر ببال كما لا يخفى على من عرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال، والضمير المنصوب في ‏{‏فَعَلُوهُ‏}‏ للمكتوب الشامل للقتل والخروج لدلالة الفعل عليه، أو هو عائد على القتل والخروج وللعطف بأو لزم توحيد الضمير لأنه عائد لأحد الأمرين، وقول الإمام الرازي‏:‏ إن الضمير عائد إليهما معاً بالتأويل تنبو عنه الصناعة، و‏{‏قَلِيلٌ‏}‏ لكون الكلام غير موجب بدل من الضمير المرفوع في ‏{‏فَعَلُوهُ‏}‏، وقرأ ابن عامر ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ بالنصب وجعله غير واحد على أنه صفة لمصدر محذوف، والاستثناء مفرغ أي ما فعلوه إلا فعلاً قليلاً، ومن في ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ حينئذٍ للابتداء على نحو ما ضربته إلا ضرباً منك مبرحاً، وقال الطيبي‏:‏ إنها بيان للضمير في فعلوا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 73‏]‏ على التجريد وليس بشيء، وكأن الذي دعاهم إلى هذا والعدول عن القول بنصبه على الاستثناء أن النصب عليه في غير الموجب غير مختار، فلا يحمل القرآن عليه كما يشير إليه كلام الزجاج حيث قال‏:‏ النصب جائز في غير القرآن لكن قال ابن الحاجب‏:‏ لا بعد في أن يكون أقل القراء على الوجه الأقوى، وأكثرهم على الوجه الذي هو دونه بل التزم بعض الناس أنه يجوز أن يجمع القراء غير الأقوى وحققه الحمصي، وقيل‏:‏ بل يكون إجماعهم دليلاً على أن ذلك هو القوي لأنهم هم المتفننون الآخذون عن مشكاة النبوة، وأن تعليل النحاة غير ملتفت إليه‏.‏

ورجح بعضهم أيضاً النصب على الاستثناء هنا بأن فيه توافق القراءتين معنى وهو مما يهتم به، وبأن توجيه الكلام على غيره لا يخلو عن تكلف ودغدغة، وقرأ أبو عمرو ويعقوب أن اقتلوا بكسر النون على الأصل في التخلص من الساكنين، و‏{‏أَوِ اخرجوا‏}‏ بضم الواو للاتباع، والتشبيه بواو الجمع في نحو ‏{‏وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 237‏]‏، وقرأ حمزة وعاصم بكسرهما على الأصل، والباقون بضمهما وهو ظاهر، و‏{‏ءانٍ‏}‏ كيفما كانت نونها إما مفسرة لأنا كتبنا في معنى أمرنا ولا يضر تعديه بعلى لأنه لم يخرج عن معناه، ولو خرج فتعديه باعتبار معناه الأصلي جائز كما في نطقت الحال بكذا حيث تعدى الفعل بالباء مع أنهم قدير يدون به دل وهو يتعدى بعلى‏.‏ وإن أبيت هذا ولا أظن قلنا‏:‏ إنه بمعنى أو حيناً وإما مصدرية وهو الظاهر ولا يضر زوال الأمر بالسبك لأنه أمر تقديري‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ أي ما يؤمرون به مقروناً بالوعد والوعيد من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم والانقياد إلى حكمه ظاهراً وباطناً ‏{‏لَكَانَ‏}‏ فعلهم ذلك ‏{‏خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ عاجلاً وآجلاً ‏{‏وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً‏}‏ لهم على الحق والصواب وأمنع لهم من الضلال وأبعد من الشبهات كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 17‏]‏، وقيل‏:‏ معناه أكثر انتفاعاً لأن الانتفاع بالحق يدوم ولا يبطل لاتصاله بثواب الآخرة، والانتفاع بالباطل يبطل ويضمحل ويتصل بعقاب الآخرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏وَإِذًا لَآَتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذاً لاتيناهم‏}‏ لأعطيناهم ‏{‏مّن لَّدُنَّا‏}‏ من عندنا ‏{‏أَجْراً‏}‏ ثواباً ‏{‏عَظِيماً‏}‏ لا يعرف أحد مبداه ولا يبلغ منتهاه، وإنما ذكر ‏(‏من لدنا‏)‏ تأكيداً ومبالغة وهو متعلق بآتيناهم، وجوز أن يكون حالاً من ‏{‏أَجْراً‏}‏ والواو للعطف ولآتيناهم معطوف على لكان خيراً لهم لفظاً و‏{‏إِذَا‏}‏ مقحمة للدلالة على أن هذا الجزاء الأخير بعد ترتب التالي السابق على المقدم ولإظهار ذلك وتحقيقه قال المحققون‏:‏ إنه جواب لسؤال مقدر كأنه قيل‏:‏ وماذا يكون لهم بعد التثبيت‏؟‏ فقيل‏:‏ وإذاً لو ثبتوا لآتيناهم وليس مرادهم أنه جواب لسؤال مقدر لفظاً ومعنى، وإلا لم يكن لاقترانه بالواو وجه، أو إظهار ‏(‏لو‏)‏ ليس لأنها مقدرة بل لتحقيق أن ذلك جواب للشرط لكن بعد اعتبار جوابه الأول، والمراد بالجواب في قولهم جميعاً‏:‏ إن إذاً حرف جواب دائماً أنها لا تكون في كلام مبتدأ بل هو في كلام مبني على شيء تقدمه ملفوظ، أو مقدر سواء كان شرطاً، أو كلام سائل، أو نحوه كما أنه ليس المراد بالجزاء اللازم لها، أو الغالب إلا ما يكون مجازاة لفعل فاعل سواء السائل وغيره، وبهذا تندفع الشبه الموردة في هذا المقام، وزعم الطيبي أن ما أشرنا إليه من التقدير تكلف من ثلاثة أوجه وهو توهم منشأه الغفلة عن المراد كالذي زعمه العلامة الثاني فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏68‏)‏‏}‏

‏{‏ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ وهو المراتب بعد الإيمان التي تفتح أبوابها للعاملين، فقد أخرج أبو نعيم في «الحلية» عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم ‏"‏، وقال الجبائي‏:‏ المعنى ولهديناهم في الآخرة إلى طريق الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَن يُطِعِ الله‏}‏ بالانقياد لأمره ونهيه ‏{‏والرسول‏}‏ المبلغ ما أوحي إليه منه باتباع شريعته والرضا بحكمه، والكلام مستأنف فيه فضل ترغيب في الطاعة ومزيد تشويق إليها ببيان أن نتيجتها أقصى ما تنتهي إليه همم الأمم، وأرفع ما تمتد إليه أعناق ‏(‏أمانيهم، وتشرأب إليه أعين‏)‏ عزائمهم من مجاورة أعظم الخلائق مقداراً وأرفعهم مناراً، ومتضمن لتفسير ما أبهم وتفصيل ما أجمل في جواب الشرطية السابقة و‏{‏مِنْ‏}‏ شرطية وإفراد ضمير ‏{‏يُطِعِ‏}‏ مراعاة للفظ، والجمع في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ مراعاة للمعنى أي فالمطيعون الذين علت درجتهم وبعدت منزلتهم شرفاً وفضلاً‏.‏

‏{‏مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم‏}‏ بما تقصر العبارة عن تفصيله وبيانه ‏{‏مّنَ النبيين‏}‏ بيان للمنعم عليهم فهو حال إما من ‏{‏الذين‏}‏ أي مقارنيهم حال كونهم من النبيين وإما من ضميره والتعرض لمعية الأنبياء دون نبينا صلى الله عليه وسلم خاصة مع أن الكلام في بيان حكم طاعته عليه الصلاة والسلام لجريان ذكرهم في سبب النزول مع الإشارة إلى أن طاعته متضمنة لطاعتهم، أخرج الطبراني وأبو نعيم والضياء المقدسي وحسنه قال‏:‏ «جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي وإنك لأحب إليّ من ولدي وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين وإني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً حتى نزل جبريل بهذه الآية ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله‏}‏» الخ، وروي مثله عن ابن عباس‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ إن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب له عليه الصلاة والسلام قليل الصبر عنه، وقد نحل جسمه وتغير لونه خوف عدم رؤيته صلى الله عليه وسلم بعد الموت فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وعن مسروق «إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا فإنك إذا فارقتنا رفعت فوقنا فنزلت» وبدأ بذكر النبيين لعلو درجتهم وارتفاعهم على من عداهم، وقد نقل الشعراني عن مولانا الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال‏:‏ «فتح لي قدر خرم إبرة من مقام النبوة تجلياً لا دخولاً فكدت أحترق» ثم عطف ‏(‏عليهم‏)‏ على سبيل التدلي قوله سبحانه‏:‏

‏{‏والصادقين والشهداء والصالحين‏}‏ فالمنازل أربعة بعضها دون بعض‏:‏ الأول‏:‏ منازل الأنبياء وهم الذين تمدهم قوة إلهية وتصحبهم نفس في أعلى مراتب القدسية ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من قريب، ولذلك قال تعالى في صفة نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏{‏أفتمارونه على مَا يرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 12‏]‏، والثاني‏:‏ منازل الصديقين وهم الذين يتأخرون على الأنبياء عليهم السلام في المعرفة، ومثلهم كمن يرى الشيء عياناً من بعيد، وإياه عنى علي كرم الله تعالى وجهه حيث قيل له‏:‏ هل رأيت الله تعالى‏؟‏ فقال‏:‏ ما كنت لأعبد رباً لم أره، ثم قال‏:‏ لم تره العيون بشواهد العيان ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان، والثالث‏:‏ منازل الشهداء وهم الذين يعرفون الشيء بالبراهين، ومثلهم كمن يرى الشيء في المرآة من مكان قريب كحال من قال‏:‏ كأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏"‏ أعبد الله تعالى كأنك تراه ‏"‏، والرابع‏:‏ منازل الصالحين وهم الذين يعلمون الشيء بالتقليد الجازم، ومثلهم كمن يرى الشيء من بعيد في مرآة وإياه قصد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ ‏"‏ فإن لم تكن تراه فإنه يراك ‏"‏ قاله الراغب ونقله الطيبي وغيره، ونقل بعض تلامذة مولانا الشيخ خالد النقشبندي قدس سره عنه «أنه قرر يوماً أن مراتب الكمل أربعة‏:‏ نبوة وقطب مدارها نبينا صلى الله عليه وسلم، ثم صديقية وقطب مدارها أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، ثم شهادة وقطب مدارها عمر الفاروق رضي الله تعالى عنه، ثم ولاية وقطب مدارها علي كرم الله تعالى وجهه، وأن الصلاح في الآية إشارة إلى الولاية فسأله بعض الحاضرين عن عثمان رضي الله تعالى عنه في أي مرتبة هو من مراتب الثلاثة بعد النبوة فقال‏:‏ إنه رضي الله تعالى عنه قد نال حظاً من رتبة الشهادة وحظاً من رتبة الولاية، وأن معنى كونه ذا النورين هو ذلك عند العارفين انتهى‏.‏

وأنا مستعيناً بالله تعالى ومستمداً من القوم قدس الله تعالى أسرارهم أقول‏:‏ إن الولاية هي المحيطة العامة والفلك الدائر والدائرة الكبرى، وأن الولي من كان على بينة من ربه في حاله فعرف ما له بإخبار الحق إياه على الوجه الذي يقع به التصديق عنده ويصدق على أصناف كثيرة إلا أن المذكور منها في هذه الآية أربعة‏:‏ الصنف الأول‏:‏ الأنبياء، والمراد بهم هنا الرسل أهل الشرع سواء بعثوا أو لم يبعثوا أعني بطريق الوجوب عليهم ولا بحث لأهل الله تعالى عن مقاماتهم وأحوالهم إذ لا ذوق لهم فيها وكلهم معترفون بذلك غير أنهم يقولون‏:‏ إن النبوة عامة وخاصة والتي لا ذوق لهم فيها هي الخاصة أعني نبوة التشريع وهي مقام خاص في الولاية‏.‏ وأما النبوة العامة فهي مستمرة سارية في أكابر الرجال غير منقطعة دنيا وأخرى لكن باب الإطلاق قد انسد، وعلى هذا يخرج ما رواه البدر التماسكي البغدادي عن الشيخ بشير عن القطب عبد القادر الجيلي قدس سره أنه قال‏:‏ معاشر الأنبياء أوتيتم اللقب وأوتينا ما لم تؤتوا فإن معنى قوله‏:‏ أوتيتم اللقب أنه حجر علينا إطلاق لفظ النبي، وإن كانت النبوة العامة أبدية، وقوله‏:‏ وأوتينا ما لم تؤتوا على حدّ قول الخضر لموسى عليه السلام وهو أفضل منه يا موسى أنا على علم علمنيه الله تعالى لا تعلمه أنت، وهذا وجه آخر غير ما أسلفنا من قبل في توجيه هذا الكلام‏.‏

والصنف الثاني‏:‏ الصديقون وهم المؤمنون بالله تعالى ورسله عن قول المخبر لا عن دليل سوى النور الإيماني الذي أعد في قلوبهم قبل وجود المصدق به المانع لها من تردد أو شك يدخلها في قول المخبر الرسول ومتعلقه في الحقيقة الإيمان بالرسول ويكون الإيمان بالله تعالى على جهة القربة لا على إثباته إذ كان بعض الصديقين قد ثبت عندهم وجود الحق جل وعلا ضرورة أو نظراً لكن ما ثبت كونه قربة وليس بين النبوة والصديقية كما قال حجة الإسلام وغيره مقام، ومن تخطى رقاب الصديقين وقع في النبوة وهي باب مغلق، وأثبت الشيخ الأكبر قدس سره مقاماً بينهما سماه مقام القربة، وهو السر الذي وقر في قلب أبي بكر رضي الله تعالى عنه المشار إليه في الحديث «فليس بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله تعالى عنه رجل أصلاً» لا أنه ليس بين الصديقية والنبوة مقام ولها أجزاء على عدد شعب الإيمان، وفسرها بعضهم بأنها نور أخضر بين نورين يحصل به شهود عين ما جاء به المخبر من خلف حجاب الغيب بنور الكرم وبين ذلك بما يطول‏.‏

والصنف الثالث‏:‏ الشهداء تولاهم الله تعالى بالشهادة وجعلهم من المقربين، وهم أهل الحضور مع الله تعالى على بساط العلم به فقد قال سبحانه‏:‏ ‏{‏شَهِدَ الله أَنَّهُ لا إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 18‏]‏ فجمعهم مع الملائكة في بساط الشهادة فهم موحدون عن حضور إلهيّ وعناية أزلية فإن بعث الله تعالى رسولاً وآمنوا به فهم المؤمنون العلماء ولهم الأجر التام يوم القيامة وإلا فليس هم الشهداء المنعم عليهم وإيمانهم بعد العلم بما قاله الله سبحانه‏:‏ إن ذلك قربة إليه من حيث قاله الله سبحانه، أو قاله الرسول الذي جاء من عنده فقدم الصديق على الشهيد وجعل بإزاء النبي فإنه لا واسطة بينهما لاتصال نور الإيمان بنور الرسالة، والشهداء لهم نور العلم مساوق لنور الرسول من حيث هو شاهد لله تعالى بتوحيده لا من حيث هو رسول فلا يصح أن يكون بعده مع المساوقة لئلا تبطل ولا أن يكون معه لكونه رسولاً، والشاهد ليس به فلا بد أن يتأخر فلم يبق إلا أن يكون في الرتبة التي تلي الصديقية فإن الصديق أتم نوراً منه في الصديقية لأنه صديق من وجهين‏:‏ وجه التوحيد ووجه القربة، والشهيد من وجه القربة خاصة لأن توحيده عن علم لا عن إيمان فنزل عن الصديق في مرتبة الإيمان وهو فوقه في مرتبة العلم فهو المتقدم في مرتبة العلم المتأخر برتبة الإيمان والتصديق فإنه لا يصح من العالم أن يكون صديقاً، وقد تقدم العلم مرتبة الخبر فهو يعلم أنه صادق في توحيد الله تعالى إذا بلغ رسالة الله تعالى والصديق لم يعلم ذلك إلا بنور الإيمان المعد في قلبه فعندما جاء الرسول اتبعه من غير دليل ظاهر‏.‏

والصنف الرابع‏:‏ الصالحون تولاهم الله تعالى بالصلاح وهم الذين لا يدخل في علمهم بالله تعالى ولا إيمانهم به وبما جاء من عنده سبحانه خلل فإذا دخله بطل كونه صالحاً وكل من لم يدخله خلل في صديقيته فهو صالح، ولا في شهادته فهو صالح، ولا في توبته فهو صالح، ولكل أحد أن يدعو بتحصيل الصلاح له في المقام الذي يكون فيه لجواز دخول الخلل عليه في مقامه لأن الأمر اختصاص إلهي وليس بذاتي فيجوز دخول الخلل فيه، ويجوز رفعه، فصح أن يدعو الصالح بأن يجعل من الصالحين أي الذين لا يدخل صلاحهم خلل في زمان مّا، وقد ذكر أنه ما من نبي إلا وذكر أنه صالح أو أنه دعا أن يكون من الصالحين مع كونه نبياً، ومن هنا قيل‏:‏ إن مرتبة الصلاح خصوص في النبوة وقد تحصل لمن ليس بنبي ولا صديق ولا شهيد‏.‏

هذا ما وقفت عليه من كلام القوم قدس الله تعالى أسرارهم، ولم أظفر بالتفصيل الذي ذكره مولانا الشيخ قدس سره فتدبر، وقد ذكر أصحابنا الرسميون أن الصديق صيغة مبالغة كالسكير بمعنى المتقدم في التصديق المبالغ في الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال، ويطلق على كل من أفاضل أصحاب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأماثل خواصهم كأبي بكر رضي الله تعالى عنه، وأن الشهداء جمع شهيد، والمراد بهم الذين بذلوا أرواحهم في طاعة الله تعالى وإعلاء كلمته وهم المقتولون بسيف الكفار من المسلمين، وقيل‏:‏ المراد بهم ههنا ما هو أعم من ذلك، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما تعدون الشهيد فيكم‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله من قتل في سبيل الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن شهداء أمتي إذاً لقليل من قتل في سبيل الله تعالى فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات مبطوناً فهو شهيد» وعد بعضهم الشهداء أكثر من ذلك بكثير، وقيل‏:‏ الشهيد هو الذي يشهد لدين الله تعالى تارة بالحجة والبيان، وأخرى بالسيف والسنان، وزعم النيسابوري أنه لا يبعد أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى‏:‏

‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 143‏]‏ وليس بشيء كما لا يخفى، وأن المراد بالصالحين الصارفين أعمارهم في طاعة الله تعالى وأموالهم في مرضاته سبحانه، ويقال‏:‏ الصالح هو الذي صلحت حاله واستقامت طريقته‏.‏ «والمصلح هو الفاعل لما فيه ‏(‏الصلاح‏)‏ قال الطبرسي‏:‏ ولذا يجوز أن يقال‏:‏ مصلح في حق الله تعالى دون صالح»، وليس المراد بالمعية اتحاد الدرجة ولا مطلق الاشتراك في دخول الجنة بل كونهم فيها بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وزيارته متى أراد وإن بعدت المسافة بينهما، وذكر غير واحد أنه لا مانع من أن يرفع الأدنى إلى منزلة الأعلى متى شاء تكرمة له ثم يعود ولا يرى أنه أرغد منه عيشاً ولا أكمل لذة لئلا يكون ذلك حسرة في قلبه، وكذا لا مانع من أن ينحدر الأعلى إلى منزلة الأدنى ثم يعود من غير أن يرى ذلك نقصاً في ملكه أو حطاً من قدره‏.‏ وقد ثبت في غير ما حديث أن أهل الجنة يتزاورون، وادعى بعضهم أن لا تزاور مع رؤية كل واحد الآخر، وذلك لأن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع فينعكس بعضها على بعض كالمرايا المجلوة المتقابلة، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِخْوَانًا على سُرُرٍ متقابلين‏}‏ ‏[‏الحجز‏:‏ 47‏]‏ وزعم أنه التحقيق وهو بعيد عنه، وأبعد من ذلك بمراحل ما قيل‏:‏ يحتمل أن يكون المراد أن معنى كون المطيع مع هؤلاء أنه معهم في سلوك طريق الآخرة فيكون مأموناً من قطاع الطريق محفوظ الطاعة عن النهب‏.‏

‏{‏وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً‏}‏ أي صاحباً، وهو مشتق من الرفق، وهو لين الجانب واللطافة في المعاشرة قولاً وفعلاً، والإشارة يحتمل أن تكون إلى النبيين ومن بعدهم وما فيها من معنى البعد لما مرّ مراراً و‏{‏رَفِيقاً‏}‏ حينئذٍ إما تمييز أو حال على معنى أنهم وصفوا بالحسن من جهة كونهم رفقاء للمطيعين، أو حال كونهم رفقاء لهم ولم يجمع لأن فعيلاً يستوي فيه الواحد وغيره أو اكتفاءاً بالواحد عن الجمع في باب التمييز لفهم المعنى، وحسنه وقوعه في الفاصلة؛ أو لأنه بتأويل حسن كل واحد منهم أو لأنه قصد بيان الجنس مع قطع النظر عن الأنواع، ويحتمل أن تكون إلى من يطع والجمع على المعنى فـ ‏{‏رَفِيقاً‏}‏ حينئذٍ تمييز على معنى أنهم وصفوا بحسن الرفيق من الفرق الأربع لا بنفس الحسن، فلا يجوز دخول من عليه كما يجوز في الوجه الأول‏.‏ والجملة على الاحتمالين تذييل مقرر لما قبله مؤكد للترغيب والتشويق، وفي «الكشاف» «فيه معنى التعجب كأنه قيل‏:‏ وما أحسن أولئك رفيقاً ولاستقلاله بمعنى التعجيب قرىء ‏{‏وَحَسُنَ‏}‏ بسكون السين يقول المتعجب‏:‏ حسن الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين» انتهى‏.‏

وفي «الصحاح» يقال‏:‏ حسن الشيء وإن شئت خففت الضمة فقلت‏:‏ حسن الشيء، ولا يجوز أن تنقل الضمة إلى الحاء لأنه خبر، وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو الذم لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس، وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس فسكن ثانيهما، ونقلت حركته إلى ما قبله وكذلك كل ما كان في معناهما قال الشاعر‏:‏

لم يمنع الناس مني ما أردت وما *** أعطيهم ما أرادوا ‏(‏حسن ذا أدبا‏)‏

أراد حسن هذا أدباً فخفف ونقل، وأراد أنه لما نقل إلى الإنشاء حسن أن يغير تنبيهاً على مكان النقل، وفي «الإرتشاف»‏:‏ إن فعل المحول ذهب الفارسي‏.‏ وأكثر النحويين إلى إلحاقه بباب نعم وبئس فقط، وإجراء أحكامه عليه، وذهب الأخفش والمبرد إلى إلحاقه بباب التعجب، وحكى الأخفش الاستعمالين عن العرب، ويجوز فيه ضم العين وتسكينها ونقل حركتها إلى الفاء، وظاهره تغاير المذهبين، وفي «التسهيل» إنه من باب نعم وبئس وفيه معنى التعجب، وهو يقتضي أن لا تغاير بينهما وإليه يميل كلام الشيخين فافهم، والحسن عبارة عن كل مبهج مرغوب إما عقلاً أو هوى أو حساً، وأكثر ما يقال في متعارف العامة في المستحسن بالبصر، وقد جاء في القرآن له وللمستحسن من جهة البصيرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى ما ثبت للمطيعين من جميع ما تقدم، أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم ومزيتهم وهو مبتدأ، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الفضل‏}‏ صفة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ الله‏}‏ خبره أي ذلك الفضل العظيم كائن من الله تعالى لا من غيره، وجوز أبو البقاء أن يكون ‏{‏الفضل‏}‏ هو الخبر، و‏{‏مِنَ الله‏}‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً منه؛ والعامل فيه معنى الإشارة، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً أي ذلك الذي ذكر الفضل كائناً، أو كائن من الله تعالى لا أن أعمال العباد توجبه ‏{‏وكفى بالله عَلِيماً‏}‏ بثواب من أطاعه وبمقادير الفضل واستحقاق أهله بمقتضى الوعد فثقوا بما أخبركم به ‏{‏وَلاَ يُنَبّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 14‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ وكفى به سبحانه عليماً بالعصاة والمطيعين والمنافقين والمخلصين ومن يصلح لمرافقة هؤلاء ومن لا يصلح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏ أي عدتكم من السلاح قاله مقاتل وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه، وقيل‏:‏ الحذر مصدر كالحذر، وهو الاحتراز عما يخاف فهناك الكناية والتخييل بتشبيه الحذر بالسلاح وآلة الوقاية، وليس الأخذ مجازاً ليلزم الجمع بين الحقيقة والمجاز في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 102‏]‏ إذ التجوز في الإيقاع، وقد صرح المحققون بجواز الجمع فيه، والمعنى استعدوا لأعدائكم أو تيقظوا واحترزوا منهم ولا تمكنوهم من أنفسكم ‏{‏فانفروا‏}‏ بكسر الفاء، وقرىء بضمها أي‏:‏ أخرجوا إلى قتال عدوكم والجهاد معه عند خروجكم، وأصل معنى النفر الفزع كالنفرة، ثم استعمل فيما ذكر ‏{‏ثُبَاتٍ‏}‏ جمع ثبة وهي الجماعة من الرجال فوق العشرة، وقيل‏:‏ فوق الاثنين، وقد تطلق على غير الرجال ومنه قول عمرو بن كلثوم‏:‏

فأما يوم خشيتنا عليهم *** فتصبح خيلنا عصباً ‏(‏ثباتاً‏)‏

ووزنها في الأصل فعلة كحطمة حذفت لامها وعوض عنها هاء التأنيث وهل هي واو من ثبا يثبو، كعدى يعدو أي اجتمع، أو ياء من ثبيت على فلان بمعنى أثنيت عليه بذكر محاسنه وجمعها‏؟‏ قولان، وثبة الحوض وسطه واوية، وهي من ثاب يثوب إذا رجع، وقد جمع جمع المؤنث، وأعرب إعرابه على اللغة الفصيحة، وفي لغة ينصب بالفتح، وقد جمع أيضاً جمع المذكر السالم فيقال‏:‏ ثبون، وقد اطرد ذلك فيما حذف آخره وإن لم يستوف الشروط جبراً له، وفي ثائه حينئذٍ لغتان‏:‏ الضم والكسر، والجمع هنا في موضع الحال أي انفروا جماعات متفرقة جماعة بعد جماعة ‏{‏أَوِ انفروا جَمِيعاً‏}‏ أي مجتمعين جماعة واحدة، ويسمى الجيش إذا اجتمع ولم ينتشر كتيبة، وللقطعة المنتخبة المقتطعة منه سرية، وعن بعضهم أنها التي تخرج ليلاً وتعود إليه وهي من مائة إلى خمسمائة، أو من خمسة أنفس إلى ثلثمائة وأربعمائة، وما زاد على السرية منسر كمجلس ومنبر إلى الثمانمائة فإن زاد يقال له‏:‏ جيش إلى أربعة آلاف، فإن زاد يسمى جحفلاً ويسمى الجيش العظيم خميساً وما افترق من السرية بعثاً وقد تطلق السرية على مطلق الجماعة، والآية وإن نزلت في الحرب لكن فيها إشارة إلى الحث على المبادرة إلى الخيرات كلها كيفما أمكن قبل الفوات‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ‏}‏ أي ليتثاقلنّ وليتأخرنّ عن الجهاد من بطأ بمعنى أبطأ كعتم بمعنى أعتم إذا أبطأ، والخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنيهم ومنافقيهم والمبطئون هم المنافقون منهم، وجوز أن يكون منقولاً لفظاً ومعنى من بطؤ نحو ثقل من ثقل، فيراد ليبطئن غيره وليثبطنه عن الجهاد كما ثبط ابن أبي ناساً يوم أحد، ‏(‏والأنسب بما بعده‏)‏، واللام الأولى‏:‏ لام التأكيد التي تدخل على خبر إن أو اسمها إذا تأخر، والثانية‏:‏ جواب قسم، وقيل‏:‏ «زائدة، وجملة القسم وجوابه صلة الموصول وهما كشيء واحد فلا يرد أنه لا رابطة في جملة القسم كما لا يرد أنها إنشائية فلا تقع صلة لأن المقصود الجواب، وهو خبري فيه عائد، ولا يحتاج إلى تقدير أقسم على صيغة الماضي ليعود ضميره إلى المبطىء بل هو خلاف الظاهر‏.‏ وجوز في مَنْ أن تكون موصوفة، والكلام في الصفة كالكلام في الصلة، وهذه الجملة قيل‏:‏ عطف على ‏{‏خُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 71‏]‏ عطف القصة على القصة؛ وقيل‏:‏ إنها معترضة إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلْيُقَاتِلْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 74‏]‏ وهو عطف على ‏{‏خُذُواْ‏}‏، وقرىء ‏{‏لَّيُبَطّئَنَّ‏}‏ بالتخفيف‏.‏

‏{‏فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ‏}‏ من العدو كقتل وهزيمة ‏{‏قَالَ‏}‏ أي المبطىء فرحاً بما فعل وحامداً لرأيه ‏{‏قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ‏}‏ بالقعود ‏{‏إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً‏}‏ حاضراً معهم في المعركة فيصيبني مثل الذي أصابهم من البلاء والشدة، وقيل‏:‏ يحتمل أن يكون المعنى إذ لم أكن مع شهدائهم شهيداً، أو لم أكن معهم في معرض الشهادة، فالإنعام هو النجاة عن القتل وخوفه عبر عنه بالشهادة تهكماً ولا يخفى بعده، والفاء في الشرطية لترتيب مضمونها على ما قبلها فإن ذكر التبطئة مستتبع لذكر ما يترتب عليها كما أن نفس التبطئة مستدعية لشيء ينتظر المبطىء وقوعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ‏}‏ كفتح وغنيمة ‏{‏مِنَ الله‏}‏ متعلق بأصابكم أو بمحذوف وقع صفة لفضل، وفي نسبة إصابة الفضل إلى ‏(‏جانب‏)‏ الله تعالى دون إصابة المصيبة تعليم لحسن الأدب مع الله تعالى وإن كانت المصيبة فضلاً في الحقيقة، وتقديم الشرطية الأولى لما أن مضمونها لمقصدهم أوفق، وأثر نفاقهم فيها أظهر ‏{‏لَّيَقُولَنَّ‏}‏ ندامة على تثبطه وتهالكاً على حطام الدنيا وحسرة على فواته، وفي تأكيد القول دلالة على فرط التحسر المفهوم من الكلام ولم يؤكد القول الأول، وأتى به ماضياً إما لأنه لتحققه غير محتاج إلى التأكيد أو لأن العدول عن المضارع للماضي تأكيد، وقرأ الحسن ‏(‏ليقولن‏)‏ بضم اللام مراعاة لمعنى ‏(‏من‏)‏ وذلك شائع سائغ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ‏}‏ من كلامه تعالى اعتراض بين القول ومقوله الذي هو‏.‏ ‏{‏ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ لئلا يتوهم من مطلع كلامه أن تمنيه المعية للنصرة والمظاهرة حسبما يقتضيه ما في البين من المودة بل هو للحرص على حطام الدنيا كما ينطق به آخره فإن الفوز العظيم الذي عناه هو ذلك، وليس إثبات المودة في البين بطريق التحقيق بل بطريق التهكم، وقيل‏:‏ الجملة التشبيهية حال من ضمير يقولن، أي ليقولن مشبهاً بمن لا مودة بينكم وبينه حيث لم يتمن نصرتكم ومظاهرتكم، وقيل‏:‏ هي من كلام المبطىء داخلة كجملة التمني في المقول أي ليقولن المبطىء لمن يثبطه من المنافقين وضعفة المؤمنين كأن لم تكن بينكم وبين محمد صلى الله عليه وسلم مودة حيث لم يستصحبكم معه في الغزو حتى تفوزوا بما فاز به المستصحبون يا ليتني كنت معهم الخ، وغرضه إلقاء العداوة بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأكيدها، وإلى ذلك ذهب الجبائي، وذهب أبو علي الفارسي والزجاج وتبعه الماتريدي إلى أنها متصلة بالجملة الأولى أعني قال‏:‏ قد أنعم الخ أي قال‏:‏ ذلك كأن لم يكن الخ ورده الراغب والأصفهاني بأنها إذا كانت متصلة بالجملة الأولى فكيف يفصل بها بين أبعاض الجملة الثانية ومثله مستقبح، واعتذر بأن مرادهم أنها معترضة بين أجزاء هذه الجملة ومعناها صريحاً متعلق بالأولى وضمناً بهذه، و‏{‏كَانَ‏}‏ مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وهو محذوف، وقيل‏:‏ إنها لا تعمل إذا خففت‏.‏

وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم ورويس عن يعقوب ‏{‏تَكُنْ‏}‏ بالتاء لتأنيث لفظ المودة، والباقون يكن بالياء للفصل ولأنها بمعنى الودّ، والمنادى في ‏{‏ياويلتا لَيْتَنِى‏}‏ عند الجمهور محذوف أي يا قومي، وأبو علي يقول في نحو هذا‏:‏ ليس في الكلام منادي محدوف بل تدخل يا خاصة على الفعل والحرف لمجرد التنبيه، ونصب أفوز على جواب التمني، وعن يزيد النحوي والحسن ‏{‏فَأَفُوزَ‏}‏ بالرفع على تقدير فأنا أفوز في ذلك الوقت، أو العطف على ‏(‏خبر ليت فيكون داخلاً في‏)‏ التمني‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآَخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِى سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالاخرة‏}‏ الموصول فاعل الفعل وقدم المفعول الغير الصريح عليه للاهتمام به، و‏{‏يَشْرُونَ‏}‏ مضارع شرى، ويكون بمعنى باع واشترى من الأضداد، فإن كان بمعنى يشترون فالمراد من الموصول المنافقون أمروا بترك النفاق والمجاهدة مع المؤمنين، والفاء للتعقيب أي ينبغي بعد ما صدر منهم من التثبيط والنفاق تركه وتدارك ما فات من الجهاد بعد، وإن كان بمعنى يبيعون فالمراد منه المؤمنون الذين تركوا الدنيا واختاروا الآخرة أمروا بالثبات على القتال وعدم الالتفات إلى تثبيط المبطئين، والفاء جواب شرط مقدر أي إن صدهم المنافقون فليقاتلوا ولا يبالوا‏.‏ ‏{‏وَمَن يقاتل فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ‏}‏ ولا بدّ، وفي الالتفات مزيد التفات ‏{‏أَجْراً عَظِيماً‏}‏ لا يكاد يعلم كمية وكيفية؛ وفي تعقيب القتال بما ذكر تنبيه على أن المجاهد ينبغي أن يكون همه أحد الأمرين إما إكرام نفسه بالقتل والشهادة، أو إعزاز الدين وإعلاء كلمة الله تعالى بالنصر ولا يحدث نفسه بالهرب بوجه، ولذا لم يقل‏:‏ فيغلب، ‏{‏أَو يَغْلِبْ‏}‏ وتقديم القتل للإيذان بتقدمه في استتباع الأجر، وفي الآية تكذيب للمبطىء بقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَنْعَمَ الله‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 72‏]‏ الخ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ‏}‏ خطاب للمأمورين بالقتال على طريقة الالتفات مبالغة في التحريض والحث عليه وهو المقصود من الاستفهام، و‏{‏مَا‏}‏ مبتدأ و‏{‏لَكُمْ‏}‏ خبره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله‏}‏ في موضع الحال والعامل فيها الاستقرار، أو الظرف لتضمنه معنى الفعل ‏(‏والاستفهام للإنكار والنفي‏)‏ أي أيّ شيء لكم غير مقاتلين والمراد لا عذر لكم في ترك المقاتلة ‏{‏والمستضعفين‏}‏ إما عطف على الاسم الجليل أي في سبيل المستضعفين وهو تخليصهم عن الأسر وصونهم عن العدو وهو المروي عن ابن شهاب واستبعد بأن تخليصهم سبيل الله تعالى لا سبيلهم، وفيه أنه وإن كان سبيل الله عز اسمه له نوع اختصاص بهم فلا مانع من إضافته إليهم؛ واحتمال أن يراد بالمقاتلة في سبيلهم المقاتلة في فتح طريق مكة إلى المدينة ودفع سد المشركين إياه ليتهيأ خروج المستضعفين مستضعف جداً، وإما عطف على ‏(‏سبيل‏)‏ بحذف مضاف، وإليه ذهب المبرد أي وفي خلاص المستضعفين، ويجوز نصبه بتقدير أعني أو أخص فإن سبيل الله تعالى يعم أبواب الخير وتخليص المستضعفين من أيدي المشركين من أعظمها وأخصها، ومعنى المستضعفين الذين طلب المشركون ضعفهم وذلهم أو الضعفاء منهم والسين للمبالغة

‏{‏مِنَ الرجال والنساء والولدان‏}‏ بيان للمستضعفين وهم المسلمون الذين بقوا بمكة لمنع المشركين لهم من الخروج، أو ضعفهم عن الهجرة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كنت أنا وأمي من المستضعفين، وقد ذكر أن منهم سلمة بن هشام، والوليد بن الوليد وأبا جندل بن سهيل، وإنما ذكر الولدان تكميلاً للاستعطاف والتنبيه على تناهي ظلم المشركين، والإيذان بإجابة الدعاء الآتي واقتراب زمان الخلاص وفي ذلك مبالغة في الحث على القتال‏.‏ ومن هنا يعلم أن الآية لا تصلح دليلاً على صحة إسلام الصبي بناءاً على أنه لولا ذلك لما وجب تخليصهم على أن في انحصار وجوب التخليص في المسلم نظراً لأن صبي المسلم يتوقع إسلامه فلا يبعد وجوب تخليصه لينال مرتبة السعداء، وقيل‏:‏ المراد بالولدان العبيد والإماء وهو على الأول‏:‏ جمع وليد ووليدة بمعنى صبي وصبية وقيل‏:‏ إنه جمع ولد كورل وورلال، وعلى الثاني‏:‏ كذلك أيضاً إلا أن الوليد والوليدة بمعنى العبد والجارية‏.‏ وفي «الصحاح»‏:‏ الوليد الصبي والعبد والجمع ولدان، والوليدة الصبية والأمة والجمع ولائد، فالتعبير بالولدان على طريق التغليب ليشمل الذكور والإناث‏.‏

‏{‏الذين‏}‏ في محل جر على أنه صفة للمستضعفين، أو لما في حيز البيان، وجوز أن يكون نصباً بإضمار فعل أي أعني أو أخص الذين‏.‏ ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية الظالم أَهْلُهَا‏}‏ بالشرك الذي هو ظلم عظيم، وبأذية المؤمنين ومنعهم عن الهجرة والوصف صفة قرية وتذكيره لتذكير ما أسند إليه فإن اسم الفاعل والمفعول إذا أجري على غير من هو له فتذكيره وتأنيثه على حسب الاسم الظاهر الذي عمل فيه، ولم ينسب الظلم إليها مجازاً كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 58‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ ءامِنَةً‏}‏ إلى قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 112‏]‏ لأن المراد بها مكة كما قال ابن عباس والحسن والسدي وغيرهم، فوُقرت عن نسبة الظلم إليها تشريفاً لها شرفها الله تعالى‏.‏

‏{‏واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً‏}‏ يلي أمرنا حتى يخلصنا من أيدي الظلمة، وكلا الجارين متعلق باجعل لاختلاف معنييهما‏.‏ وتقديمهما على المفعول الصريح لإظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله، وتقديم اللام على ‏{‏مِنْ‏}‏ للمسارعة إلى إبراز كون المسؤول نافعاً لهم مرغوباً فيه لديهم، وجوز أن يكون ‏{‏مِن لَّدُنْكَ‏}‏ متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏وَلِيّاً‏}‏ وكذا الكلام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً‏}‏ أي حجة ثابتة قاله عكرمة ومجاهد، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ المراد وَلّ علينا والياً من المؤمنين يوالينا ويقوم بمصالحنا ويحفظ علينا ديننا وشرعنا وينصرنا على أعدائنا، ولقد استجاب الله تعالى شأنه دعاءهم حيث يسر لبعضهم الخروج إلى المدينة وجعل لمن بقي منهم خير وليّ وأعز ناصر، ففتح مكة على يدي نبيه صلى الله عليه وسلم فتولاهم أي تولّ، ونصرهم أيّ نصرة، ثم استعمل عليهم عتاب ابن أسيد وكان ابن ثماني عشرة سنة فحماهم ونصرهم حتى صاروا أعز أهلها، وقيل‏:‏ المراد اجعل لنا من لدنك ولاية ونصرة أي كن أنت ولينا وناصرنا‏.‏ وتكرير الفعل ومتعلقيه للمبالغة في التضرع والابتهال‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الاحمانات إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ أمر للعارفين أن يظهروا ما كوشفوا به من الأسرار الإلهية لأمثالهم ويكتموا ذلك عن الجاهلين، أو أن يؤدوا حق كل ذي حق إليه فيعطوا الاستعداد حقه وألقوا حقها وآخر الآمانات أداء أمانة الوجود فليؤده العبد إلى سيده سبحانه وليفن فيه عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس‏}‏ بالإرشاد ولا يكون إلا بعد الفناء والرجوع إلى البقاء ‏{‏أَن تَحْكُمُواْ بالعدل‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏ وهو الإفاضة حسب الاستعداد ‏{‏بَصِيراً ياأيها الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله‏}‏ بتطهير كعبة تجليه وهو القلب عن أصنام السوى ‏{‏وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ بالمجاهدة وإتعاب البدن بأداء رسوم العبادة التي شرعها لكم ‏{‏وَأُوْلِى الامر مِنْكُمْ‏}‏ وهم المشايخ المرشدون بامتثال أمرهم فيما يرونه صلاحاً لكم وتهذيباً لأخلاقكم‏.‏ وربما يقال‏:‏ إنه سبحانه جعل الطاعة على ثلاث مراتب، وهي في الأصل ترجع إلى واحدة‏:‏ فمن كان أهلاً لبساط القربة وفهم خطاب الحق بلا واسطة كالقائل أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، ونحن أخدناه من الحي الذي لا يموت، فليطلع الله تعالى بمراده وليتمثل ما فهمه منه، ومن لم يبلغ هذه الدرجة فليرجع إلى بيان الواسطة العظمى وهو الرسول صلى الله عليه وسلم إن فهم بيانه، أو استطاع الأخذ منه كبعض أهل الله تعالى، وليطعه فيما أمر ونهى، ومن لم يبلغ إلى هذه الدرجة فليرجع إلى بيان أكابر علماء الأمة وليتقيد بمذهب من المذاهب وليقف عنده في الأوامر والنواهي ‏{‏فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْء‏}‏ أنتم والمشايخ، وذلك في مبادي السلوك حيث النفس قوية ‏{‏فَرُدُّوهُ إِلَى الله‏}‏ تعالى

‏{‏والرسول‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ فارجعوا إلى الكتاب والسنة فإن فيهما ما يزيل النزاع عبارة أو إشارة، أو إذا وقع عليكم حكم من أحكام الغيب المتشابهة، وظهر في أسراركم معارضات الامتحان فارجعوا إلى خطاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن فيه بحار علوم الحقائق، فكل خاطر لا يوافق خطاب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو مردود ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءامَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ من علم التوحيد ‏{‏وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ‏}‏ من علم المبدأ والمعاد ‏{‏يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطاغوت‏}‏ وهو النفس الأمارة الحاكمة بما تؤدي إليه أفكارها الغير المستندة إلى الكتاب والسنة ‏{‏وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ‏}‏ ويخالفوه إن النفس لأمارة بالسوء إلا من رحم ربي ‏{‏وَيُرِيدُ الشيطان‏}‏ وهو الطاغوت ‏{‏أَن يُضِلَّهُمْ ضلالا بَعِيداً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 60‏]‏ وهو الانحراف عن الحق ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ‏}‏ وهي مصيبة التحير وفقد الطريق الموصل ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من تقديم أفكارهم الفاسدة وعدم رجوعهم إليك ‏{‏ثُمَّ جَاءوكَ يَحْلِفُونَ بالله إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً‏}‏ بأنفسنا لتمرنها على التفكر حتى يكون لها ملكة استنباط الأسرار والدقائق من عباراتك وإشاراتك ‏{‏وَتَوْفِيقاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 62‏]‏ أي جمعاً بين العقل والنقل أو بين الخصمين بما يقرب من عقولهم ولم نرد مخالفتك ‏{‏أُولَئِكَ الذين يَعْلَمُ الله مَا فِى قُلُوبِهِمْ‏}‏ من رين الشكوك فيجازيهم على ذلك يوم القيامة ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ ولا تقبل عذرهم ‏{‏وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِى أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 63‏]‏ مؤثراً ليرتدعوا أو كلمهم على مقادير عقولهم ومتحمل طاقتهم ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ‏}‏ باشتغالهم بحظوظها ‏{‏جَاءوكَ فاستغفروا الله‏}‏ طلبوا منه ستر صفات نفوسهم التي هي مصادر تلك الأفعال ‏{‏واستغفر لَهُمُ الرسول‏}‏ بإمداده إياهم بأنوار صفاته ‏{‏لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 64‏]‏ مطهراً لنفوسهم مفيضاً عليها الكمال اللائق بها‏.‏ وقال ابن عطاء في هذه الآية‏:‏ أي لو جعلوك الوسيلة لدي لوصلوا إليَّ ‏{‏فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِى أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏

‏[‏النساء‏:‏ 65‏]‏ قال بعضهم‏:‏ أظهر الله تعالى في هذه الآية على حبيبه خلعة من خلع الربوبية فجعل الرضا بحكمه ساء أم ستر سبباً لإيمان المؤمنين كما جعل الرضا بقضائه سبباً لإيقان الموقنين فأسقط عنهم اسم الواسطة لأنه صلى الله عليه وسلم متصف بأوصاف الحق متخلق بأخلاقه، ألا ترى كيف قال حسان‏:‏

وشق له من اسمه ليجله *** فذو العرش محمود وهذا محمد

وقال آخرون‏:‏ سد سبحانه الطريق إلى نفسه على الكافة إلا بعد الإيمان بحبيبه صلى الله عليه وسلم فمن لم يمش تحت قبابه فليس من الله تعالى في شيء، ثم جعل جل شأنه من شرط الإيمان زوال المعارضة بالكلية فلا بد للمؤمن من تلقي المهالك بقلب راض ووجه ضاحك ‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنفُسَكُمْ‏}‏ بسيف المجاهدة لتحيى حياة طيبة ‏{‏أَوِ اخرجوا مِن دياركم‏}‏ وهي الملاذ التي ركنتم إليها وخيمتم فيها وعكفتم عليها، أو لو فرضنا عليهم أن اقمعوا الهوى أو اخرجوا من مقاماتكم التي حجبتم بها عن التوحيد الصرف كالصبر والتوكل مثلاً ‏{‏مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مّنْهُمْ‏}‏ وهم أهل التوفيق والهمم العالية، وأيد الاحتمال الثاني بما حكي عن بعض العارفين أنه سئل إبراهيم بن أدهم عن حاله فقال إبراهيم‏:‏ أدور في الصحاري وأطوف في البراري حيث لا ماء ولا شجر ولا روض ولا مطر فهل يصح حالي في التوكل فقال له‏:‏ إذا أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد» ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ‏}‏ لما فيه من الحياة الطيبة ‏{‏وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 66‏]‏ بالاستقامة بالدين ‏{‏وَإِذاً لاتيناهم مّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 67‏]‏ وهو كشف الجمال ‏{‏ولهديناهم صراطا مُّسْتَقِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 68‏]‏ وهو التوحيد ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله والرسول فَأُوْلَئِكَ مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم‏}‏ بما لا يدخل في حيطة الفكر ‏{‏مّنَ النبيين‏}‏ أرباب التشريع الذين ارتفعوا قدراً فلا يدرك شأواهم ‏{‏والصديقين‏}‏ الذين قادهم نورهم إلى الانخلاع عن أنواع الربوب والشكوك فصدقوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من غير دليل ولا توقف ‏{‏والشهداء‏}‏ أهل الحضور ‏{‏والصالحين‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 69‏]‏ أهل الاستقامة في الدين ‏{‏عَلِيماً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ‏}‏ من أنفسكم فإنها أعدى أعدائكم ‏{‏فانفروا ثُبَاتٍ‏}‏ أسلكوا في سبيل الله تعالى جماعات كل فرقة على طريقة شيخ كامل ‏{‏أَوِ انفروا جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 71‏]‏ في طريق التوحيد والإسلام واتبعوا أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلقوا بأخلاقه ‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطّئَنَّ‏}‏ أي ليثبطن المجاهدين المرتاضين ‏{‏فَإِنْ أصابتكم مُّصِيبَةٌ‏}‏ شدة في السير ‏{‏قَالَ قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَىَّ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 72‏]‏ حيث لم أفعل كما فعلوا ‏{‏وَلَئِنْ أصابكم فَضْلٌ مِنَ الله‏}‏ مواهب غيبية وعلوم لدنية ومراتب سنية وقبول عند الخواص والعوام ‏{‏لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ‏}‏ أي حسداً لكم ‏{‏مَوَدَّةٌ ياليتنى كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ‏}‏ دونهم

‏{‏فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 73‏]‏ وأنال ذلك وحدي ‏{‏وَمَن يقاتل‏}‏ نفسه ‏{‏فِى سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ‏}‏ بسيف الصدق ‏{‏أَو يَغْلِبْ‏}‏ عليها بالظفر لتسلم على يده ‏{‏فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 74‏]‏ وهو الوصول إلينا ‏{‏وَمَا لَكُمْ لاَ تقاتلون فِى سَبِيلِ الله والمستضعفين‏}‏ خلاص ‏{‏المستضعفين مِنَ الرجال‏}‏ العقول ‏{‏والنساء‏}‏ الأرواح ‏{‏والولدان‏}‏ القوى الروحانية ‏{‏الذين يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية‏}‏ وهي قرية البدن ‏{‏الظالم أَهْلُهَا‏}‏ وهي النفس الأمارة ‏{‏واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً‏}‏ يلي أمورنا ويرشدنا ‏{‏واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 75‏]‏ ينصرنا على من ظلمنا وهو الفيض الأقدس، نسأل الله تعالى ذلك بمنه وكرمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءامَنُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الله‏}‏ كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم في الجهاد أي المؤمنون إنما يقاتلون في دين الله تعالى الموصل لهم إليه عز وجل وفي إعلاء كلمته فهو وليهم وناصرهم لا محالة‏.‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ يقاتلون فِى سَبِيلِ الطاغوت‏}‏ فيما يبلغ بهم إلى الشيطان وهو الكفر فلا ناصر لهم سواه ‏{‏فقاتلوا‏}‏ يا أولياء الله تعالى إذا كان الأمر كذلك‏.‏ ‏{‏أَوْلِيَاء الشيطان‏}‏ جميع الكفار فإنكم تغلبونهم‏.‏ ‏{‏إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً‏}‏ في حد ذاته فكيف بالقياس إلى قدرة الله تعالى الذي يقاتلون في سبيله وهو سبحانه وليكم، ولم يتعرض لبيان قوة جنابه تعالى إيذاناً بظهورها، وفائدة ‏{‏كَانَ‏}‏ التأكيد ببيان أن كيده مذ كان ضعيف، وقيل‏:‏ هي بمعنى صار أي صار ضعيفاً بالإسلام، وقيل‏:‏ إنها زائدة وليس بشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ‏}‏ نزلت كما قال الكلبي في عبد الرحمن بن عوف الزهري والمقداد بن الأسود الكندي وقدامة بن مظعون الجمحي وسعد بن أبي وقاص كان يلقون من المشركين أذى شديداً وهم بمكة قبل الهجرة فيشكون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون‏:‏ ائذن لنا يا رسول الله في قتال هؤلاء فإنهم قد آذونا والنبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ كفوا أيديكم وامسكوا عن القتال فإني لم أومر بذلك، وفي رواية‏:‏ إني أمرت بالعفو‏.‏ ‏{‏وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءاتُواْ الزكواة‏}‏ واشتغلوا بما أمرتم به، ولعل أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تنبيهاً على أن الجهاد مع النفس مقدم وما لم يتمكن المسلم في الانقياد لأمر الله تعالى بالجود بالمال لا يكاد يتأتى منه الجود بالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، وبناء القول للمفعول مع أن القائل هو النبي صلى الله عليه وسلم لأن المقصود والمعتبر في التعجيب المشار إليه في صدر الكلام إنما هو كمال رغبتهم في القتال وكونهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه، وإنما ذكر في حيز الصلة الأمر بكف الأيدي لتحقيقه وتصويره بطريق الكناية فلا يتعلق ببيان خصوصية الآمر غرض، وقيل‏:‏ للإيذان بكون ذلك بأمر الله تعالى‏:‏

‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال‏}‏ وأمروا به بعد أن هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ‏{‏إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس‏}‏ أي الكفار أن يقتلوهم، وذلك لما ركز في طباع البشر من خوف الهلاك ‏{‏كَخَشْيَةِ الله‏}‏ أي كما يخشون الله تعالى أن ينزل عليهم بأسه، والفاء عاطفة وما بعدها عطف على ‏{‏قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ‏}‏ باعتبار معناه الكنائي إذ حينئذ يتحقق التباين بين مدلولي المعطوفين، وعليه يدور أمر التعجيب كأنه قيل‏:‏ ألم تر إلى الذين كانوا حراصاً على القتال فلما كتب عليهم كرهه بمقتضى البشرية جماعة منهم، وتوجيه التعجيب إلى الكل مع أن تلك الكراهة إنما كانت من البعض للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدر من أحدهم ما ينافي حالته الأولى، و‏{‏إِذَا‏}‏ للمفاجأة وهي ظرف مكان، وقيل‏:‏ زمان وليس بشيء، وفيها تأكيد لأمر التعجيب، و‏{‏فَرِيقٌ‏}‏ مبتدأ، و‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ صفته، و‏{‏يَخْشَوْنَ‏}‏ خبره، وجوز أن يكون صفة أيضاً أو حالاً، والخبر ‏{‏إِذَا‏}‏ و‏{‏كَخَشْيَةِ الله‏}‏ في موضع المصدر أي خشية كخشية الله، وجوز أن يكون حالاً من فاعل ‏{‏يَخْشَوْنَ‏}‏ ويقدر مضاف أي حال كونهم مثل أهل خشية الله تعالى أي مشبهين بأهل خشيته سبحانه، وقيل وفيه بعد إنه حال من ضمير مصدر محذوف أي يخشونها الناس كخشية الله ‏{‏أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً‏}‏ عطف عليه إن جعلته حالاً أي أنهم‏:‏ أشد خشية من أهل خشية الله، بمعنى أن خشيتهم أشد من خشيتهم، ولا يعطف عليه على تقدير المصدرية على ما قيل بناءاً على أن ‏{‏خَشْيَةَ‏}‏ منصوب على التمييز وعلى أن التمييز متعلق الفاعلية، وأن المجرور بمن التفضيلية يكون مقابلاً للموصوف بأفعل التفضيل فيصير المعنى إن خشيتهم أشدّ من خشية غيرهم، ويؤل إلى أن خشية خشيتهم أشدّ، وهو غير مستقيم اللهم إلا على طريقة جدّ جده على ما ذهب إليه أبو علي وابن جني ويكون كقولك‏:‏ زيد جدّ جدّاً بنصب جدّاً على التمييز لكنه بعيد، بل يعطف على الاسم الجليل فهو مجرور بالفتحة لمنع صرفه، والمعنى يخشون الناس خشية كخشية الله، أو خشية كخشية أشدّ خشية منه تعالى ولكن على سبيل الفرض إذ لا أشدّ خشية عند المؤمنين من الله تعالى، ويؤل هذا إلى تفضيل خشيتهم على سائر الخشيات إذا فصلت واحدة، وذكر ابن الحاجب أنه يجوز أن يكون هذا العطف من عطف الجمل أي يخشون الناس كخشية الناس، أو يخشون أشدّ خشية على أن الأول‏:‏ مصدر والثاني‏:‏ حال، وقيل عليه‏:‏ إن حذف المضاف أهون من حذف الجملة وأوفى بمقتضى المقابلة وحسن المطابقة؛ وجوز أن يكون ‏{‏خَشْيَةَ‏}‏ منصوباً على المصدرية و‏{‏أَشَدَّ‏}‏ صفة له قدمت عليه، فانتصب على الحالية، وذكر بعضهم أن التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون نفس ما انتصب عنه نحو‏:‏

‏{‏فالله خَيْرٌ حافظاً‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 64‏]‏ فإن الحافظ هو الله تعالى كما لو قلت‏:‏ الله خير حافظ بالجر، وحينئذ لا مانع من أن تكون الخشية نفس الموصوف ولا يلزم أن يكون للخشية خشية بمنزلة أن يقال‏:‏ أشد خشية بالجر، والقول بأن جواز هذا فيما إذا كان التمييز نفس الموصوف بحسب المفهوم واللفظ محل نظر محل نظر، إذ اتحاد اللفظ مع حذف الأول ليس فيه كبير محذور‏.‏ وهذا إيراد قوي على ما قيل، وقد نقل ابن المنير عن «الكتاب» ما يعضده فتأمل، و‏{‏لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ‏}‏ قيل‏:‏ للتنويع، وقيل‏:‏ للإبهام على السامع، وقيل‏:‏ للتخيير، وقيل‏:‏ بمعنى الواو، وقيل‏:‏ بمعنى بل

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ عطف على جواب لما أي‏:‏ فلما كتب عليهم القتال فاجأ بعضهم بألسنتهم أو بقلوبهم، وحكاه الله تعالى عنهم على سبيل تمني التخفيف لا الاعتراض على حكمه تعالى، والإنكار لإيجابه ولذا لم يوبخوا عليه ‏{‏رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال‏}‏ في هذا الوقت‏.‏ ‏{‏لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ وهو الأجل المقدر؛ ووصف بالقريب للاستعطاف أي أنه قليل لا يمنع من مثله، والجملة كالبيان لما قبلها ولذا لم تعطف عليه، وقيل‏:‏ إنما لم تعطف عليه للإيذان بأنهما مقولان مستقلان لهم، فتارة قالوا الجملة الأولى، وتارة الجملة الثانية، ولو عطفت لتبادر أنهم قالوا مجموع الكلامين بعطف الثانية على الأولى ‏{‏قُلْ‏}‏ أي تزهيداً لهم فيما يؤملونه بالقعود عن القتال والتأخير إلى الأجل المقدر من المتاع الفاني وترغيباً فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي ‏{‏متاع الدنيا‏}‏ أي جميع ما يستمتع به وينتفع في الدنيا ‏{‏قَلِيلٌ‏}‏ في نفسه سريع الزوال وهو أقل قليل بالنسبة إلى ما في الآخرة ‏{‏والاخرة‏}‏ أي ثوابها المنوط بالأعمال التي من جملتها القتال ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ لكم من ذلك المتاع القليل لكثرته وعدم انقطاعه وصفائه عن الكدورات، وفي اختلاف الأسلوب ما لا يخفى، وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏لِمَنِ اتقى‏}‏ حثاً لهم وترغيباً على الاتقاء والإخلال بموجب التكليف‏.‏

وقيل‏:‏ المراد أن نفس الآخرة خير ولكن للمتقين، لأن للكافر والعاصي هنالك نيراناً وأهوالاً، ولذا قيل‏:‏ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ولا يخفى أن الأول أنسب بالسياق ‏{‏وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً‏}‏ عطف على مقدر أي تجزون فيها ولا تبخسون هذا المقدار اليسير فضلاً عما زاد من ثواب أعمالكم فلا ترغبوا عن القتال الذي هو من غرورها، وقرأ ابن كثير وكثير ‏{‏وَلاَ يُظْلَمُونَ‏}‏ بالياء إعادة للضمير إلى ظاهر من‏.‏