فصل: تفسير الآية رقم (68)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏

وإيراد الآية في تضاعيف الآية الواردة في أهل الكتاب لما أن الكل قوارع يسوء الكفار سماعها ويشق على رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهتهم بها، وخصوصاً ما يتلوها من النص الناعي عليهم كمال ضلالهم، ولذلك أعيد الأمر فقال سبحانه‏:‏

‏{‏قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب‏}‏، والمراد بهم‏:‏ اليهود والنصارى كما قال بعض المفسرين وقال آخرون‏:‏ المراد بهم اليهود، فقد أخرج ابن إسحق وابن جرير وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «جاء رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ومالك بن الصيف ورافع بن حريملة فقالوا‏:‏ يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه وتؤمن بما عندنا من التوراة وتشهد أنها من الله تعالى حق‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ بلى ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق وكتمتم منها ما أمرتم أن تبينوه للناس فبرئت من إحداثكم‏.‏ قالوا‏:‏ فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الهدى والحق ولا نؤمن بك ولا نتبعك» فأنزل الله تعالى فيهم ‏{‏قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب‏}‏‏.‏

‏{‏لَسْتُمْ على شَىْء‏}‏ أي دين يعتد به ويليق بأن يسمى شيئاً لظهور بطلانه ووضوح فساده، وفي هذا التعبير ما لا يخفى من التحقير، ومن أمثالهم أقل من لا شيء ‏{‏حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل‏}‏ أي تراعوهما وتحافظوا على ما فيهما، من الأمور التي من جملتها دلائل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته، فإن إقامتهما وتوفية حقوقهما إنما تكون بذلك لا بالعمل بجميع ما فيهما منسوخاً كان أو غيره، فإن مراعاة المنسوخ تعطيل لهما ورَدّ لشهادتهما ‏{‏وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي القرآن المجيد، وإقامته بالإيمان به، وقدمت إقامة الكتابين على إقامته مع أنها المقصودة بالذات رعاية لحق الشهادة واستنزالاً لهم عن رتبة الشقاق‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بالموصول كتب أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ الكتب الإلهية، فإنها كلها ناطقة بوجوب الإيمان بمن ادعى النبوة وأظهر المعجزة ووجوب طاعة من بعث إليهم له، وقد مر تمام الكلام على مثل هذا النظم الكريم وكذا على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً‏}‏ والجملة مستأنفة كما قال شيخ الإسلام مبينة لشدة شكيمتهم وغلوهم في المكابرة والعناد وعدم إفادة التبليغ نفعاً، وتصديرها بالقسم لتأكيد مضمونها وتحقيقه، ونسبة الإنزال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسبته فيما مر إليهم للإنباء عن انسلاخهم عن تلك النسبة، وإذا أريد بالموصول النعم التي أعطيها صلى الله عليه وسلم فأمر النسبة ظاهر جداً‏.‏

‏{‏فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين‏}‏ أي لا تأسف ولا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم وكفرهم، فإن غائلة ذلك موصولة بهم وتبعته عائدة إليهم، وفي المؤمنين غنى لك عنهم، ووضع المظهر موضع المضمر للتسجيل عليهم بالرسوخ في الكفر، وقيل‏:‏ المراد لا تحزن على هلاكهم وعذابهم، ووضع الظاهر موضع الضمير للتنبيه على العلة الموجبة لعدم الأسى، ولا يخلو عن بعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين ءامَنُواْ‏}‏ كلام مستأنف مسوق للترغيب في الإيمان والعمل الصالح‏.‏ وقد تقدم في آية البقرة ‏(‏62‏)‏ الاختلاف في المراد من الذين آمنوا والمروي عن الثوري أنهم الذين آمنوا بألسنتهم وهم المنافقون وهو الذي اختاره الزجاج، واختار القاضي أن المراد بهم المتدينون بدين محمد صلى الله عليه وسلم مخلصين كانوا أو منافقين، وقيل‏:‏ غير ذلك ‏{‏والذين هَادُواْ‏}‏ أي دخلوا في اليهودية ‏{‏والصائبون‏}‏، «وهم كما قال حسن جلبي وغيره‏:‏ قوم خرجوا عن دين اليهود والنصارى وعبدوا الملائكة، وقد تقدم الكلام على ذلك، «وفي حسن المحاضرة في أخبار مصر القاهرة» للجلال السيوطي ما لفظه‏:‏ ذكر أئمة التاريخ أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى لابنه شيث وكان فيه وفي بنيه النبوة والدين وأنزل عليه تسع وعشرون صحيفة وأنه جاء إلى أرض مصر، وكانت تدعى باب لون فنزلها هو وأولاد أخيه، فسكن شيث فوق الجبل، وسكن أولاد قابيل أسفل الوادي، واستخلف شيث ابنه أنوش واستخلف أنوش ابنه قَيْنَان‏.‏ واستخلف قَيْنَان ابنه مهليائيل، واستخلف مهليائيل ابنه يرد، ودفع الوصية إليه وعلمه جميع العلوم وأخبره بما يحدث في العالم، ونظر في النجوم وفي الكتاب الذي أنزل على آدم عليه الصلاة والسلام، وولد ليرد أخنوخ وهو إدريس عليه الصلاة والسلام ويقال له‏:‏ هرمس، وكان الملك في ذلك الوقت محويل بن أخنوخ بن قابيل، وتنبأ إدريس عليه الصلاة والسلام وهو ابن أربعين سنة، وأراد به الملك سوءاً فعصمه الله تعالى وأنزل عليه ثلاثين صحيفة، ودفع إليه أبوه وصية جده والعلوم التي عنده وكان قد ولد بمصر وخرج منها، وطاف الأرض كلها ‏(‏ورجع فدعا الخلق إلى الله تعالى فأجابوه حتى عمت ملته الأرض‏)‏، وكانت ملته الصابئة، وهي توحيد الله تعالى والطهارة ‏(‏والصلاة‏)‏ والصوم وغير ذلك من رسوم التعبدات، وكان في رحلته إلى المشرق قد أطاعه جميع ملوكها، وابتنى مائة وأربعين مدينة أصغرها الرها، ثم عاد إلى مصر وأطاعه ملكها وآمن به» إلى آخر ما قاله ونقله عن التيفاشي، ويفهم منه قول في الصابئة غير الأقوال المتقدمة‏.‏ وفي «شذرات الذهب» لعبد الحي بن أحمد بن العماد الحنبلي في ترجمة أبي إسحق الصابىء ما نصه‏:‏ «والصابىء بهمز آخره، قيل‏:‏ نسبة إلى صابىء بن متوشلخ بن إدريس عليه الصلاة والسلام، وكان على الحنيفية الأولى، وقيل‏:‏ الصابىء بن ماوى، وكان في عصره الخليل عليه الصلاة والسلام، وقيل‏:‏ الصابىء عند العرب من خرج عن دين قومه» انتهى‏.‏

‏{‏اليهود والنصارى‏}‏ جمع نصران، وقد مر تفصيله، ورفع ‏{‏الصابئون‏}‏ على الابتداء وخبره محذوف لدلالة خبر إن عليه، والنية فيه التأخير عما في خبر ‏{‏حَمِيمٍ ءانٍ‏}‏، والتقدير‏:‏ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كيت وكيت والصابئون كذلك بناءاً على أن المحذوف في إن زيداً، وعمرو قائم خبر الثاني لا الأول كما هو مذهب بعض النحاة واستدل عليه بقول صابىء بن الحرث البرجمي‏:‏

فمن يك أمسى بالمدينة رحله *** فإني، وقيار بها ‏(‏لغريب‏)‏

فإن قوله‏:‏ «لغريب» خبر إن، ولذا دخلت عليه اللام لأنها تدخل على خبر ‏(‏إن‏)‏ لا على خبر المبتدأ إلا شذوذاً، وقيل‏:‏ إن «غريب» فيه خبر عن الإسمين جميعاً لأن فعيلاً يستوي فيه الواحد وغيره نحو ‏{‏وَالْمَلَئِكَةُ بَعْدَ ذلك ظَهِيرٌ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏، ورده الخلخالي بأنه لم يرد للإثنين، وإن ورد للجمع، وأجاب عنه ابن هشام بأنهم قالوا في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 17‏]‏‏:‏ إن المراد قعيدان، وهذا يدل على إطلاقه على الإثنين أيضاً، فالصواب منع هذا الوجه بأنه يلزم عليه توارد عاملين على معمول واحد، ومثله لا يصح على الأصح خلافاً للكوفيين، وبقول بشر بن أبي حازم‏:‏

إذا جزت نواصي آل بدر *** فأدوها وأسرى في الوثاق وإلا فاعلموا أنا وأنتم

بغاة ما بقينا في شقاق *** فإن قوله‏:‏ «بغاة ما بقينا» خبر إن ولو كان خبر أنتم لقال‏:‏ ما بقيتم، وبغاة جمع باغ بمعنى طالب، وقيل‏:‏ إنه جمع باغي من البغي والتعدي وأنتم بغاة جملة معترضة لأنه لا يقول في قومه إنهم بغاة وما بقينا في شقاق خبر إن، وحينئذ لا يصلح البيت شاهداً لما ذكر لأن ضمير المتكلم مع الغير في محله، وإنما وسطت الجملة هنا بين إن وخبرها مع اعتبار نية التأخير ليسلم الكلام عن الفصل بين الاسم والخبر، وليعلم أن الخبر ماذا دلالة كما قيل على أن الصابئين مع ظهور ضلالهم وزيغهم عن الأديان كلها حيث قبلت توبتهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فغيرهم أولى بذلك، ومن هنا قيل‏:‏ إن الجملة كاعتراض دل به على ما ذكر، وإنما لم تجعل اعتراضاً حقيقة لأنها معطوفة على جملة ‏{‏إِنَّ الذين‏}‏ وخبرها، وأورد عليه ما قاله ابن هشام من أن فيه تقديم الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها، وإنما يتقدم المعطوف على المعطوف عليه في الشعر، فكذا ينبغي أن يكون تقديمه على بعض المعطوف عليه بل هو أولى منه بالمنع، وأما ما أجاب به عنه بأن الواو واو الاستئناف التي تدخل على الجمل المعترضة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 24‏]‏ الخ، وهذه الجملة معترضة لا معطوفة، فلا يتمشى فيما نحن فيه لأنه يفوّت نكتة التقديم من تأخير التي أشير إليها لأنها إذا كانت معترضة لا تكون مقدمة من تأخير، وبعض المحققين صرف الخبر المذكور إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والصابئون‏}‏ وجعل خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ محذوفاً، وهو القول الآخر للنحاة في مثل هذا التركيب، وهو موافق للاستعمال أيضاً كما في قوله‏:‏

نحن بما عندنا وأنت بما *** عندك ‏(‏راض‏)‏ والرأي مختلف

فإن قوله‏:‏ راض خبر أنت وخبر نحن محذوف، ورجح بأن الإلحاق بالأقرب أقرب، وبأنه خال عما يلزم على التوجيه الأول، نعم غاية ما يرد عليه أن الأكثر الحذف من الثاني لدلالة الأول، وعكسه قليل لكنه جائز، وعورض بأن الكلام فيما نحن فيه مسوق لبيان حال أهل الكتاب، فصرف الخبر إليهم أولى، وفي توسيط بيان حال الصابئين ما علمت من التأكيد، وأيضاً في صرف الخبر إلى الثاني فصل للنصارى عن اليهود وتفرقة بين أهل الكتاب لأنه حينئذ عطف على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والصابئون‏}‏ قطعاً، نعم لو صح أن المنافقين واليهود أوغل المعدودين في الضلال، والصابئين والنصارى أسهل حسن تعاطفهما وجعل المذكور خبراً عنهما، وترك كلمة التحقيق المذكورة في الأولين دليلاً على هذا المعنى، وقيل‏:‏ إن ‏{‏الصابئون‏}‏ عطف على محل ‏{‏حَمِيمٍ ءانٍ‏}‏ واسمها، وقد أجازه بعضهم مطلقاً، وبعضهم منعه مطلقاً، وفصل آخرون فقالوا‏:‏ يمتنع قبل مضي الخبر ويجوز بعده‏.‏ وذهب الفراء إلى أنه إن خفى إعراب الاسم جاز لزوال الكراهة اللفظية نحو‏:‏ إنك وزيد ذاهبان وإلا امتنع، والمانع عند الجمهور لزوم توارد عاملين، وهما ‏(‏إن‏)‏ والإبتداء أو المبتدأ على معمول واحد وهو الخبر، ولهذا ضعفوا هذا القول في الآية، وبنوا على مذهب الكوفيين، وكون خبر المعطوف فيها محذوفاً وحينئذ لا يلزم التوارد ليس بشيء لأن الجملة حينئذ تكون معطوفة على الجملة، ولم يكن ذلك من العطف على المحل في شيء، ومن قال‏:‏ إن خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ مرفوع بما كان مرفوعاً به قبل دخولها لم يلزم عليه حديث التوارد‏.‏ ونقل عن الكسائي إن العطف على الضمير في ‏{‏هَادُواْ‏}‏ وخطأه الزجاج بأنه لا يعطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل، وبأنه لو عطف على الفاعل لكان التقدير وهاد الصابئون فيقتضي أنهم هود وليس كذلك ولعل الكسائي يرى صحة العطف من غير فاصل فلا يرد عليه الاعتراض الأول، وقيل‏:‏ ‏{‏ءانٍ‏}‏ بمعنى نعم الجوابية ولا عمل لها حينئذ، فما بعدها مرفوع المحل على الابتداء والمرفوع معطوف عليه، وضعفه أبو حيان بأن ثبوت ‏{‏ءانٍ‏}‏ بمعنى نعم فيه خلاف بين النحويين‏.‏ وعلى تقدير ثبوته فيحتاج إلى شيء يتقدمها تكون تصديقاً له ولا يجيىء أول الكلام، والجواب بأن ثمة سؤالاً مقدراً بعيد ركيك، وقيل‏:‏ إن الصابئين عطف على الصلة بحذف الصدر أي الذين هم الصابئون، ولا يخفى بعده، وإن عُدّ أحسن الوجوه، وقيل‏:‏ إنه منصوب بفتحة مقدرة على الواو والعطف حينئذ مما لا خفاء فيه، واعترض بأن لغة بلحارث وغيرهم الذين جعلوا المثنى دائماً بالألف نحو رأيت الزيدان ومررت بالزيدان وأعربوه بحركات مقدرة، إنما هي في المثنى خاصة، ولم ينقل نحو ذلك عنهم في الجمع خلافاً لما تقتضيه عبارة أبي البقاء، والمسألة مما لا يجري فيها القياس فلا ينبغي تخريج القرآن العظيم على ذلك، وقرأ أبي وكذا ابن كثير والصابئين وهو الظاهر والصابيون بقلب الهمزة ياءاً على خلاف القياس والصابون بحذفها من صبا بإبدال الهمزة ألفاً فهو كرامون من رمى‏.‏

وقرأ عبد الله يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر وَعَمِلَ صالحا‏}‏ إما في محل رفع على أنه مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وجمع الضمائر الأخيرة باعتبار معنى الموصول كما أن إفراد ما في صلته باعتبار لفظه، والجملة خبر ‏{‏ءانٍ‏}‏ أو خبر المبتدأ، وعلى كل لا بدّ من تقدير العائد أي من آمن منهم، وإما في محل النصب على أنه بدل من اسم ‏{‏ءانٍ‏}‏ وما عطف عليه، أو ما عطف عليه فقط، وهو بدل بعض، ولا بدّ فيه من الضمير كما تقرر في العربية فيقدر أيضاً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ خَوْفٌ‏}‏ الخ خبر، والفاء كما في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ الآية، والمعنى كما قال غير واحد على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المؤمنين بألسنتهم وهم المنافقون من أحدث من هؤلاء الطوائف إيماناً خالصاً بالمبدأ والمعاد على الوجه اللائق لا كما يزعمه أهل الكتاب فإنه بمعزل عن ذلك، وعمل عملاً صالحاً حسبما يقتضيه الإيمان فلا خوف عليهم حين يخاف الكفار العقاب ولا هم يحزنون حين يحزن المقصرون على تضييع العمر وتفويت الثواب، والمراد بيان ‏(‏دوام‏)‏ انتفاء الأمرين لا ‏(‏بيان‏)‏ ‏(‏1‏)‏ انتفاء دوامهما على ما مرت الإشارة إليه غير مرة، وأما على تقدير كون المراد بالذين آمنوا المتدينين بدين النبي صلى الله عليه وسلم مخلصين كانوا أو منافقين، فالمراد بمن آمن من اتصف منهم بالإيمان الخالص بما ذكر على الإطلاق سواء كان ذلك بطريق الثبات والدوام كما في المخلصين أو بطريق الإحداث والإنشاء كما هو حال من عداهم من المنافقين، وسائر الطوائف وليس هناك الجمع بين الحقيقة والمجاز كما لا يخفى لأن الثبات على الإيمان والإحداث فردان من مطلق الإيمان إلا أن في هذا الوجه ضم المخلصين إلى الكفرة، وفيه إخلال بتكريمهم، وربما يقال‏:‏ إن فائدة ذلك المبالغة في ترغيب الباقين في الإيمان ببيان أن تأخرهم في الاتصاف به غير مخل بكونهم أسوة لأولئك الأقدمين الأعلام؛ وتمام الكلام قد مر في آية البقرة ‏(‏62‏)‏ فليراجع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا ميثاق بَنِى إسراءيل‏}‏ كلام مبتدأ مسوق لبيان بعض آخر من جناياتهم المنادية باستبعاد الإيمان منهم، وجعله بعضهم متعلقاً بما افتتح الله تعالى به السورة، وهو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْفُواْ بالعقود‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ ولا يخفى بعده‏.‏ والمراد بالميثاق المأخوذ العهد المؤكد الذي أخذه أنبياؤهم عليهم في الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه فيما يأتي ويذر، أو في التوحيد وسائر الشرائع والأحكام المكتوبة عليهم في التوراة‏.‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً‏}‏ ذوي عدد كثير وأولي شأن خطير، يعرفونهم ذلك‏.‏ ويتعهدونهم بالعظة والتذكير ويطلعونهم على ما يأتون ويذرون في دينهم‏.‏

‏{‏كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنفُسُهُمْ‏}‏ أي بما لا تميل إليه من الشرائع ومشاق التكاليف، والتعبير بذلك دون بما تكرهه أنفسهم للمبالغة في ذمهم، وكلمة ‏{‏كُلَّمَا‏}‏ كما قال أبو حيان‏:‏ منصوبة على الظرفية لإضافتها إلى ‏(‏ما‏)‏ المصدرية الظرفية وليست كلمة شرط، وقد أطلق ذلك عليها الفقهاء وأهل المعقول، ووجه ذلك السفاقسي بأن تسميتها شرطاً لاقتضائها جواباً كالشرط الغير الجازم فهي مثل إذا ولا بعد فيه، وجوابها كما قيل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ الجواب محذوف دل عليه المذكور، وقدره ابن المنير استكبروا لظهور ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَكُلَّمَا جَاءكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنفُسُكُم استكبرتم فَفَرِيقًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 87‏]‏ الخ، والبعض ناصبوه لأنه أدخل في التوبيخ على ما قابلوا به مجيء الرسول الهادي لهم، وأنسب بما وقع في التفصيل مستقبحاً غاية الاستقباح، وهو القتل على ما سنشير إليه إن شاء الله تعالى، فإن الاستكبار إنما يفضى إليه بواسطة المناصبة، وأما في الآية الأخرى فقد قصد إلى استقباح الاستكبار نظراً إليه في نفسه لاقتضاء المقام، وادعى بعضهم أن في الإتيان بالفاء في آية الاستكبار إشارة إلى اعتبار الواسطة كأنه قيل‏:‏ استكبرتم فناصبتم ‏(‏ففريقاً‏)‏ الخ، وفيه نظر، والجملة حينئذ استئناف لبيان الجواب، وجعل الزمخشري هذا القول متعيناً لأن الكلام تفصيل لحكم أفراد جمع الرسل الواقع قبل، أي كلما جاءهم رسول من الرسل والمذكور بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَرِيقاً كَذَّبُواْ‏}‏ الخ يقتضي أن الجائي في كل مرة فريقان فبينهما تدافع، وعلى تقدير قطع النظر عن هذا لا يحسن في مثل هذا المقام تقديم المفعول مثل إن أكرمت أخي، أخاك أكرمت لأنه يشعر بالاختصاص المستلزم للجزم بوقوع أصل الفعل مع النزاع في المفعول، وتعليقه بالشرط يشعر بالشك في أصل الفعل، ولأن تقديم المفعول على ما قيل‏:‏ يوجب الفاء إما لجعله الفعل بعيداً عن المؤثر فيحوجه إلى رابط، وإما لأنه بتقديم المفعول أشبه الجملة الاسمية المفتقرة إلى الفاء، وقيل‏:‏ فيه مانع آخر لأن المعنى على أنهم كلما جاءهم رسول وقع أحد الأمرين لا كلاهما، فلو كان جواباً لكان الظاهر أو بدل الواو، ومن جعل الجملة جواباً لم ينظر إلى هذه الموانع، قال بعض المحققين‏:‏ أما الأول‏:‏ فلأنه لقصد التغليظ جعل قتل واحد كقتل فريق، وقيل‏:‏ المراد بالرسول جنسه الصادق بالكثير؛ ويؤيده ‏{‏كُلَّمَا‏}‏ الدالة على الكثرة، وأما الثاني‏:‏ فلأنه لا يقتضي قواعد العربية مثله، وما ذكر من الوجوه أوهام لا يلتفت إليها، ولا يوجد مثله في كتب النحو، ومنه يعلم دفع الأخير، وتعقب ذلك مولانا شهاب الدين بأنه عجيب من المتبحر الغفلة عن مثل هذا، وقد قال في «شرح التسهيل» ويجوز أن ينطلق خيراً يصب خلافاً للفراء فقال شراحه‏:‏ أجاز سيبويه والكسائي تقديم المنصوب بالجواب مع بقاء جزمه، وأنشد الكسائي‏:‏

وللخير أيام فمن يصطبر لها *** ويعرف لها أيامها ‏(‏الخير يعقب‏)‏

تقديره يعقب الخير، ومنع ذلك الفراء مع بقاء الجزم، وقال‏:‏ بل يجب الرفع على التقديم والتأخير أو على إضمار الفاء، وتأول البيت بأن الخير صفة للأيام، كأنه قال‏:‏ أيامها الصالحة‏.‏ واختار ابن مالك هذا المذهب في بعض كتبه، ولما رأى الزمخشري اشتراك المانع بين الشرط الجازم وما في معناه مال إليه خصوصاً، وقول المعنى تقتضيه فهو الحق انتهى‏.‏

والجملة الشرطية صفة ‏{‏رُسُلاً‏}‏ والرابط محذوف أي رسول منهم، وإلى هذا ذهب جمهور المعربين‏.‏ واختار مولانا شيخ الإسلام أن الجملة الشرطية مستأنفة وقعت جواباً عن سؤال نشأ من الإخبار بأخذ الميثاق إرسال الرسل كأنه قيل‏:‏ فماذا فعلوا بالرسل‏؟‏ فقيل‏:‏ كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم المنهمكة في الغي والفساد من الأحكام الحقة والشرائع عصوه وعادوه، واعترض رحمه الله تعالى على ما ذهب إليه الجمهور من القول بالوصفية بأنه لا يساعده المقام لأن الجملة الخبرية إذا جعلت صفة أو صلة ينسخ ما فيها من الحكم، ويجعل عنواناً للموصوف وتتمة له، ولذا وجب أن تكون معلومة الانتساب له، ومن هنا قالوا‏:‏ إن الصفات قبل العلم بها إخبار والإخبار بعد العلم بها أوصاف، ولا ريب في أن ما سيق له النظم إنما هو بيان أنهم جعلوا كل من جاءهم من الرسول عرضة للقتل والتكذيب حسبما يفيده جعلها استئنافاً على أبلغ وجه وآكده لا بيان أنه أرسل إليهم رسلاً موصوفين بكون كل منهم كذلك كما هو مقتضى جعلها صفة انتهى‏.‏

وتعقبه الشهاب بأنه تخيل لا طائل تحته، فإن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِى إسراءيل‏}‏ الخ مسوق لبيان جناياتهم والنعي عليهم بذلك كما اعترف به المعترض وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة التي هي مرمى النظر كما في سائر القيود، وأما كونها معلومة فلا ضير فيه فإنك إذا وبخت شخصاً، وقلت له‏:‏ فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل لا يضر ذلك في تقريعه وتعييره بل هو أقوى كما لا يخفى على الخبير بأساليب الكلام، فلا تلتفت إلى مثل هذه الأوهام انتهى، ولا يخفى ما في قوله، وهو لا يفيده إلا بالنظر إلى الصفة الخ من المنع الظاهر، وكذا جعل ما نحن فيه نظير قولك لشخص تريد توبيخه فعلت كيت وكيت وهو أعلم بما فعل فيه خفاء، والذي يحكم به الانصاف بعد التأمل جواز الأمرين، وأن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أولى فتأمل وانصف‏.‏

والتعبير بيقتلون مع أن الظاهر قتلوا ككذبوا لاستحضار الحال الماضية من أسلافهم للتعجيب منها ولم يقصد ذلك في التكذيب لمزيد الاهتمام بالقتل، وفي ذلك أيضاً رعاية الفواصل، وعلل بعضهم التعبير بصيغة المضارع فيه، بالتنبيه على أن ذلك ديدنهم المستمر فهم بعد يحومون حول قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتصر البعض على قصد حكاية الحال لقرينة ضمائر الغيبة، وتقدم ‏{‏فَرِيقاً‏}‏ في الموضعين للاهتمام وتشويق السامع إلى ما فعلوا به لا للقصر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ أي ظن بنو إسرائيل أن لا يصيبهم من الله تعالى بما فعلوا بلاء وعذاب لزعمهم كما قال الزجاج أنهم أبناء الله تعالى وأحباؤه أو لإمهال الله تعالى لهم أو لنحو ذلك، وعن مقاتل تفسير الفتنة بالشدة والقحط، والأولى حملها على العموم، وعلى التقديرين ليس المراد منها معناها المعروف‏.‏ وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب ‏{‏أَن لا تَكُونُ‏}‏ بالرفع على ‏{‏ءانٍ‏}‏ هي المخففة من الثقيلة، وأصله أنه لا تكون فخفف ‏{‏ءانٍ‏}‏ وحذف ضمير الشأن وهو اسمها وتعليق فعل الحسبان بها، وهي للتحقيق لتنزيله منزلة العلم لكمال قوته‏.‏ و‏{‏ءانٍ‏}‏ بما في حيزها سادّ مسد مفعوليه، وقيل‏:‏ إن حسب هنا بمعنى علم، و‏{‏ءانٍ‏}‏ لا تخفف إلا بعدما يفيد اليقين، وقيل‏:‏ إن المفعول الثاني محذوف أي وحسبوا عدم الفتنة كائناً، ونقل ذلك عن الأخفش، و‏{‏تَكُونُ‏}‏ على كل تقدير تامة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَمُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏حسبوا‏}‏ والفاء للدلالة على ترتيب ما بعدها على ما قبلها أي أمنوا بأس الله تعالى فتمادوا في فنون الغي والفساد وعموا عن الدين بعدما هداهم الرسل إلى معالمه وبينوا لهم مناهجه ‏{‏فَعَمُواْ وَصَمُّواْ‏}‏ عن استماع الحق الذي ألقوه إليهم، وهذا إشارة إلى المرة الأولى من مرتي إفساد بني إسرائيل حين خالفوا أحكام التوراة وركبوا المحارم وقتلوا شعيا، وقيل‏:‏ حبسوا أرميا عليهما السلام‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ حين تابوا ورجعوا عما كانوا عليه من الفساد بعدما كانوا ببابل دهراً طويلاً تحت قهر بختنصر أسارى في غاية الذل والمهانة، فوجه الله عز وجل ملكاً عظيماً من ملوك فارس إلى بيت المقدس فعمره ورد من بقي من بني إسرائيل في أسر بختنصر إلى وطنهم وتراجع من تفرق في الأكناف فاستقروا وكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه، وقيل‏:‏ لما ورث بهمن بن أسفنديار الملك من جده كستاسف ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردهم إلى الشام، وملك عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر فقامت فيه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 6‏]‏ ولم يسند سبحانه التوبة إليهم كسائر أحوالهم من الحسبان والعمى والصمم تجافياً عن التصريح بنسبة الخير إليهم، وإنما أشير إليها في ضمن بيان توبة الله تعالى عليهم تمهيداً لبيان نقضهم إياها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ‏}‏ وهو إشارة إلى المرة الآخرة من مرتي إفسادهم وهو اجتراؤهم على قتل زكريا ويحيى وقصدهم قتل عيسى عليهم السلام، وجعل الزمخشري العمى والصمم أولاً‏:‏ إشارة إلى ما صدر منهم من عبادة العجل، وثانياً‏:‏ إشارة إلى ما وقع منهم من طلبهم الرؤية، وفيه أن عبادة العجل وإن كانت معصية عظيمة ناشئة عن كمال العمى والصمم لكنها في عصر موسى عليه السلام، ولا تعلق لها بما حكي عنهم بما فعلوا بالرسل الذين جاءوهم بعده عليه السلام بأعصار، وكذا القول على زعمه في طلب الرؤية على أن طلب الرؤية كان من القوم الذين مع موسى عليه السلام حين توجه للمناجاة، وعبادة العجل كانت من القوم المتخلفين فلا يتحقق تأخره عنها، وحمل ‏{‏ثُمَّ‏}‏ للتراخي الرتبي دون الزماني مما لا ضرورة إليه، وقيل‏:‏ إن العمى والصمم أولاً‏:‏ إشارة إلى ما كان في زمن زكريا ويحيى عليهما السلام، وثانياً‏:‏ إشارة إلى ما كان في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم من الكفر والعصيان، وبدأ بالعمى لأنه أول ما يعرض للمعرض عن الشرائع فلا يبصر من أتى بها من عند الله تعالى ولا يلتفت إلى معجزاته، ثم لو أبصره لم يسمع كلامه فيكون عروض الصمم بعد عروض العمى، وقرىء ‏{‏وَصَمُّواْ ثُمَّ‏}‏ بالضم على تقدير عماهم الله تعالى وصمهم أي رماهم وضربهم بالعمى والصمم، كما يقال‏:‏ نزكته إذا ضربته بالنيزك، وركبته إذا ضربته بركبتك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَثِيرٌ مّنْهُمْ‏}‏ بدل من الضمير في الفعلين، وقيل‏:‏ هو فاعل والواو علامة الجمع لا ضمير، وهذه لغة لبعض العرب يعبر عنها النحاة بأكلوني البراغيث أو هو خبر مبتدأ محذوف أي العمى والصمم كثير منهم‏.‏ وقيل‏:‏ أي العمى والصمم كثير منهم أي صادر ذلك منهم كثيراً وهو خلاف الظاهر، وجوز أن يكون مبتدأ والجملة قبله خبره، وضعف بأن الخبر للفعلي لا يتقدم على المبتدأ لالتباسه بالفاعل، ورد بأن منع التقديم مشروط بكون الفاعل ضميراً مستتراً إذ لا التباس فيما إذا كان بارزاً، والتباسه بالفاعل في لغة أكلوني البراغيث لم يعتبروه مانعاً لأن تلك اللغة ضعيفة لا يلتفت إليها، ومن هنا صرح النحاة بجواز التقديم في مثل الزيدان قاما لكن صرحوا بعدم جواز تقديم الخبر فيما يصلح المبتدأ أن يكون تأكيداً للفاعل، نحو أنا قمت فإن أنا لو أخر لالتبس بتأكيد الفاعل، وما نحن فيه مثله إلا أن الالتباس فيه بتابع آخر أعني البدل فتدبر، وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏كَثِيرٌ مّنْهُمْ‏}‏ لأن بعضاً منهم لم يكونوا كذلك‏.‏

‏{‏والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي بما عملوا وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضاراً لصورتها الفظيعة مع ما في ذلك من رعاية الفواصل، والجملة تذييل أشير به إلى بطلان حسبانهم المذكور؛ ووقوع العذاب من حيث لم يحتسبوا إشارة إجمالية اكتفى بها تعويلاً على ما فصل نوع تفصيل في سورة بني إسرائيل، ولا يخفى موقع ‏{‏بَصِيرٌ‏}‏ هنا مع قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عَمُواْ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ ُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ‏}‏ شروع في تفصيل قبائح النصارى، وإبطال أقوالهم الفاسدة بعد تفصيل قبائح اليهود، وقائل ذلك‏:‏ طائفة منهم كما روي عن مجاهد، وقد أشبعنا الكلام على تفصيل أقوالهم وطوائفهم فيما تقدم فتذكر ‏{‏وَقَالَ المسيح‏}‏ حال من فاعل ‏{‏قَالُواْ‏}‏ بتقدير قد مفيدة لمزيد تقبيح حالهم ببيان تكذيبهم للمسيح وعدم انزجارهم عما أصروا عليهم بما أوعدهم به، أي قالوا ذلك، ‏(‏وقد قال المسيح‏)‏ عليه السلام مخاطباً لهم ‏{‏يابنى إسراءيل اعبدوا الله رَبّى وَرَبَّكُمْ‏}‏ فإني ‏(‏عبد‏)‏ مربوب مثلكم فاعبدوا خالقي وخالقكم‏.‏

‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي الشأن ‏{‏مَن يُشْرِكْ بالله‏}‏ أي شيئاً في عبادته سبحانه أو فيما يختص به من الصفات والأفعال كنسبة علم الغيب‏.‏ وإحياء الموتى بالذات إلى عيسى عليه السلام ‏{‏فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة‏}‏ لأنها دار الموحدين، والمراد يمنع من دخولها كما يمنع المحرم عليه من المحرم، فالتحريم مجاز مرسل أو استعارة تبعية للمنع إذ لا تكليف ثمة، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتهويل الآمر وتربية المهابة ‏{‏وَمَأْوَاهُ النار‏}‏ فإنها المعدة للمشركين وهذا بيان لابتلائهم بالعقاب إثر بيان حرمانهم الثواب، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الإشارة إلى قوة المقتضى لإدخاله النار ‏{‏وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ‏}‏ أي ما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار وإدخالهم الجنة، إما بطريق المغالبة أو بطريق الشفاعة، والجمع لمراعاة المقابلة بالظالمين‏.‏ وقيل‏:‏ ليعلم نفي الناصر من باب أولى لأنه إذا لم ينصرهم الجم الغفير، فكيف ينصرهم الواحد منهم‏؟‏ا وقيل‏:‏ إن ذلك جار على زعمهم أن لهم أنصاراً كثيرة، فنفى ذلك تهكماً بهم، واللام إما للعهد والجمع باعتبار معنى ‏(‏من‏)‏ كما أن إفراد الضمائر الثلاثة باعتبار لفظها، وإما للجنس وهم يدخلون فيه دخولاً أولياً، ووضعه على الأول‏:‏ موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم ظلموا بالإشراك وعدلوا عن طريق الحق، والجملة تذييل مقرر لما قبله، وهو إما من تمام كلام عيسى عليه السلام، وإما وارد من جهته تعالى تأكيداً لمقالته عليه السلام وتقريراً لمضمونها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة‏}‏ شروع في بيان كفر طائفة أخرى منهم، وقد تقدم لك من هم، و‏{‏ثالث ثلاثة‏}‏ لا يكون إلا مضافاً كما قال الفراء، وكذا رابع أربعة ونحوه، ومعنى ذلك أحد تلك الأعداد لا الثالث والرابع خاصة، ولو قلت‏:‏ ثالث اثنين ورابع ثلاثة مثلاً جاز الأمران‏:‏ الإضافة والنصب‏.‏ وقد نص على ذلك الزجاج أيضاً، وعنوا بالثلاثة على ما روى عن السدي الباري عز اسمه وعيسى وأمه عليهما السلام فكل من الثلاثة إله بزعمهم، والإلهية مشتركة بينهم، ويؤكده قوله تعالى للمسيح عليه السلام‏:‏ ‏{‏قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى وَأُمّىَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏، وهو المتبادر من ظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد‏}‏ أي والحال أنه ليس في الموجودات ذات واجب مستحق للعبادة لأنه مبدأ جميع الموجودات إلا إله موصوف بالوحدة متعال عن قبول الشركة بوجه، إذ التعدد يستلزم انتفاء الألوهية كما يدل عليه برهان التمانع فإذا نافت الألوهية مطلق التعدد، فما ظنك بالتثليث‏؟‏ا و‏{‏مِنْ‏}‏ مزيدة للاستغراق كما نص على ذلك النحاة، وقالوا في وجهه‏:‏ لأنها في الأصل ‏(‏من‏)‏ الإبتدائية حذف مقابلها إشارة إلى عدم التناهي، فأصل لا رجل‏:‏ لا من رجل إلى ما لا نهاية له‏.‏ وهذا حاصل ما ذكره صاحب الإقليد في ذلك، وقيل إنهم يقولون الله سبحانه جوهر واحد، ثلاثة أقانيم، أقنوم الأب وأقنوم الإبن وأقنوم روح القدس، ويعنون بالأول‏:‏ الذات، وقيل‏:‏ الوجود‏.‏ وبالثاني‏:‏ العلم‏.‏ وبالثالث‏:‏ الحياة، وإن منهم من قال بتجسمها، فمعنى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله واحد‏}‏ لا إله بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه التي يزعمونها، وقد مرّ تحقيق هذا المقام بما لا مزيد عليه، فارجع إن أردت ذلك إليه‏.‏

‏{‏وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ‏}‏ أي إن لم يرجعوا عما هم عليه إلى خلافه وهو التوحيد والإيمان ‏{‏لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ جواب قسم محذوف سادّ مسد جواب الشرط على ما قاله أبو البقاء والمراد من الذين كفروا إما الثابتون على الكفر كما اختاره الجبائي والزجاج وإما النصارى كما قيل، ووضع الموصول موضع ضميرهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر، و‏{‏مِنْ‏}‏ على هذا بيانية، وعلى الأول‏:‏ تبعيضية، وإنما جيء بالفعل المنبىء عن الحدوث تنبيهاً على أن الاستمرار عليه بعد ورود ما ورد مما يقتضي القلع عنه كفر جديد وغلو زائد على ما كانوا عليه من أصل الكفر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏

والاستفهام في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ‏}‏ للإنكار، وفيه تعجيب من إصرارهم أو عدم مبادرتهم إلى التوبة، والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقوال الباطلة فلا يتوبون إلى الله تعالى الحق ويستغفرونه بتنزيهه تعالى عما نسبوه إليه عز وجل، أو يسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقيب ذلك ‏{‏والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا، والجملة في موضع الحال، وهي مؤكدة للإنكار والتعجيب، والإظهار في موضع الإضمار لما مر غير مرة‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآَيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ‏}‏ استئناف مسوق لتحقيق الحق الذي لا محيد عنه، وبيان حقيقة حاله عليه السلام وحال أمه بالإشارة أولاً‏:‏ إلى ما امتازا به من نعوت الكمال حتى صارا من أكمل أفراد الجنس، وآخراً إلى الوصف المشترك بينهما وبين أفراد البشر، بل أفراد الحيوانات، وفي ذلك استنزال لهم بطريق التدريج عن رتبة الإصرار، وإرشاد إلى التوبة والاستغفار أي هو عليه السلام مقصور على الرسالة لا يكاد يتخطاها إلى ما يزعم النصارى فيه عليه الصلاة والسلام، وهو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل‏}‏ صفة رسول منبئة عن اتصافه بما ينافي الألوهية، فإن خلو الرسل قبله منذر بخلوه، وذلك مقتض لاستحالة الألوهية أي ما هو إلا رسول كالرسل الخالية قبله خصه الله تعالى ببعض الآيات كما خص كلاً منهم ببعض آخر منها، ولعل ما خص به غيره أعجب وأغرب مما خصه به، فإنه عليه الصلاة والسلام إن أحيا من مات من الأجسام التي من شأنها الحياة، فقد أحيا موسى عليه الصلاة والسلام الجماد، وإن كان قد خلق من غير أب، فآدم عليه الصلاة والسلام قد خلق من غير أب وأم، فمن أين لكم وصفه بالألوهية‏؟‏ا

‏{‏وَأُمُّهُ صِدّيقَةٌ‏}‏ أي وما أمه أيضاً إلا كسائر النساء اللواتي يلازمن الصدق أو التصديق ويبالغن في الاتصاف به، فمن أين لكم وصفها بما عري عنه أمثالها‏؟‏ا والمراد بالصدق هنا صدق حالها مع الله تعالى، وقيل‏:‏ صدقها في براءتها مما رمتها به اليهود، والمراد بالتصديق تصديقها بما حكى الله تعالى عنها بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَصَدَّقَتْ بكلمات رَبَّهَا وَكُتُبِهِ‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وروي هذا عن الحسن واختاره الجبائي، وقيل‏:‏ تصديقها بالأنبياء، والصيغة كيفما كانت للمبالغة كشريب ورجح كونها من الصدق بأن القياس في صيغة المبالغة الأخذ من الثلاثي لكن ما حكي ربما يؤيد أنها من المضاعف، والحصر الذي أشير إليه مستفاد من المقام والعطف كما قال العلامة الثاني وتوقف في ذلك بعضهم، وليس في محله، واستدل بالآية من ذهب إلى عدم نبوة مريم عليها السلام، وذلك أنه تعالى شأنه إنما ذكر في معرض الإشارة إلى بيان أشرف ما لها الصديقية، كما ذكر الرسالة لعيسى عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك المعرض، فلو كان لها عليها السلام مرتبة النبوة لذكرها سبحانه دون الصديقية لأنها أعلى منها بلا شك، نعم الأكثرون على أنه ليس بين النبوة والصديقية مقام، وهذا أمر آخر لا ضرر له فيما نحن بصدده‏.‏

‏{‏كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام‏}‏ استئناف لا موضع له من الإعراب مبين لما أشير إليه من كونهما كسائر أفراد البشر، بل أفراد الحيوان في الاحتياج إلى ما يقوم به البدن من الغذاء، فالمراد من أكل الطعام حقيقته، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏

وقيل‏:‏ هو كناية عن قضاء الحاجة لأن من أكل الطعام احتاج إلى النفض، وهذا أمرّ ذَوْقاً في أفواه مدعي ألوهيتهما لما في ذلك مع الدلالة على الاحتياج المنافي للألوهية بشاعة عرفية، وليس المقصود سوى الرد على النصارى في زعمهم المنتن واعتقادهم الكريه، قيل‏:‏ والآية في تقديم ما لهما من صفات الكمال، وتأخير ما لأفراد جنسهما من نقائص البشرية على منوال قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 43‏]‏ حيث قدم سبحانه العفو على المعاتبة له صلى الله عليه وسلم لئلا توحشه مفاجأته بذلك‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏انظر كَيْفَ نُبَيّنُ لَهُمُ الايات‏}‏ تعجيب من حال الذين يدعون لهما الربوبية ولا يرعوون عن ذلك بعدما بين لهم حقيقة الحال بياناً لا يحوم حوله شائبة ريب، والخطاب إما لسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام، أو لكل من له أهلية ذلك، و‏{‏كَيْفَ‏}‏ معمول لنبين والجملة في موضع النصب معلقة للفعل قبلها، والمراد من الآيات الدلائل أي انظر كيف نبين لهم الدلائل القطعية الصادعة ببطلان ما يقولون‏.‏

‏{‏ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ‏}‏ أي كيف يصرفون عن الإصاخة إليها والتأمل فيها لسوء استعدادهم وخباثة نفوسهم، والكلام فيه كما مر فيما قبله، وتكرير الأمر بالنظر للمبالغة في التعجيب، و‏{‏ثُمَّ‏}‏ لاظهار ما بين العجبين من التفاوت، أي إن بياننا للآيات أمر بديع في بابه بالغ لأقصى الغايات من التحقيق والإيضاح، وإعراضهم عنها مع انتفاء ما يصححه بالمرة وتعاضد ما يوجب قبولها أعجب وأبدع، ويجوز أن تكون على حقيقتها، والمراد منها بيان استمرار زمان بيان الآيات وامتداده، أي أنهم مع طول زمان ذلك لا يتأثرون، ويؤفكون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً‏}‏ أمر بتبكيتهم إثر التعجيب من أحوالهم، والمراد بما لا يملك عيسى، أو هو وأمه عليهما الصلاة والسلام، والمعنى أتعبدون شيئاً لا يستطيع مثل ما يستطيعه الله تعالى من البلايا والمصائب، والصحة والسعة، أو أتعبدون شيئاً لا استطاعة له أصلاً، فإن كل ما يستطيعه البشر بإيجاد الله تعالى وإقداره عليه لا بالذات، وإنما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا‏}‏ نظراً إلى ما عليه المحدث عنه في ذاته، وأول أمره وأطواره توطئة لنفي القدرة عنه رأساً، وتنبيهاً على أنه من هذا الجنس، ومن كان بينه وبين غيره مشاركة وجنسية كيف يكون إلهاً، وقيل‏:‏ إن المراد بما كل ما عبد من دون الله تعالى كالأصنام وغيرها فغلب ما لا يعقل على من يعقل تحقيراً، وقيل‏:‏ أريد بها النوع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 3‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ يمكن أن يكون المراد الترقي من توبيخ النصارى على عبادة عيسى عليه الصلاة والسلام إلى توبيخهم على عبادة الصليب فما على بابها، ولا يخفى بعده وتقديم الضر على النفع لأن التحرز عنه أهم من تحري النفع ولأن أدنى درجات التأثير دفع الشر ثم جلب الخير، وتقديم المفعول الغير الصريح على المفعول الصريح لما مرّ مراراً من الاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والله هُوَ السميع العليم‏}‏ في موضع الحال من فاعل ‏{‏أَتَعْبُدُونَ‏}‏ مقرر للتوبيخ متضمن للوعيد، والواو هو الواو، أي أتعبدون غير الله تعالى وتشركون به سبحانه ما لا يقدر على شيء ولا تخشونه، والحال أنه سبحانه وتعالى المختص بالإحاطة التامة بجميع المسموعات والمعلومات التي من جملتها ما أنتم عليه من الأقوال الباطلة والعقائد الزائغة، وقد يقال‏:‏ المعنى أتعبدون العاجز والله هو الذي يصح أن يسمع كل مسموع ويعلم كل معلوم، ولن يكون كذلك إلا وهو حي قادر على كل شيء، ومنه الضر والنفع والمجازاة على الأقوال والعقائد إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وفرق بين الوجهين بأن ‏{‏مَا‏}‏ على هذا الوجه للتحقير، والوصفية على هذا الوجه على معنى أن العدول إلى المبهم استحقار إلا أن ‏{‏مَا‏}‏ للوصف والحال مقررة لذلك، وعلى الأول للتحقير المجرد، والحال كما علمت فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب‏}‏ تلوين للخطاب وتوجيه له لفريقي أهل الكتاب بارادة الجنس من المحلى بأل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ واختار الطبرسي كونه خطاباً للنصارى خاصة لأن الكلام معهم ‏{‏لاَ تَغْلُواْ فِى دِينِكُمْ‏}‏ أي لا تجاوزوا الحدّ، وهو نهي للنصارى عن رفع عيسى عليه الصلاة والسلام عن رتبة الرسالة إلى ما تقوّلوا في حقه من العظيمة، وكذا عن رفع أمه عن رتبة الصديقية إلى ما انتحلوه لها عليها السلام، ونهي لليهود على تقدير دخولهم في الخطاب عن وضعهم له عليه السلام، وكذا لأمه عن الرتبة العلية إلى ما افتروه من الباطل والكلام الشنيع، وذكرهم بعنوان أهل الكتاب للإيماء إلى أن في كتابهم ما ينهاهم عن الغلو في دينهم ‏{‏غَيْرَ الحق‏}‏ نصب على أنه صفة مصدر محذوف أي غلو غير الحق أي باطلاً وتوصيفه به للتوكيد فإن الغلو لا يكون إلا غير الحق على ما قاله الراغب، وقال بعض المحققين‏:‏ إنه للتقييد، وما ذكره الراغب غير مسلم، فإن الغلو قد يكون غير حق، وقد يكون حقا كالتعمق في المباحث الكلامية‏.‏ وفي «الكشاف» «الغلو في الدين غلوّان‏:‏ ‏(‏غلو‏)‏ حق وهو أن يفحص عن حقائقه ويفتش عن أباعد معانيه ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعله المتكلمون من أهل العدل والتوحيد وغلو باطل وهو أن يجاوز الحق ويتخطاه بالإعراض عن الأدلة واتباع الشبه كما يفعله أهل الاهواء والبدع» انتهى، وقد يناقش فيه على ما فيه من الغلو في التمثيل بأن الغلو المجاوزة عن الحد، ولا مجاوزة عنه ما لم يخرج عن الدين، وما ذكر ليس خروجاً عنه حتى يكون غلواً، وجوز أن يكون ‏{‏غَيْرِ‏}‏ حالاً من ضمير الفاعل أي‏:‏ لا تغلوا مجاوزين الحق، أو من دينكم أي‏:‏ لا تغلوا في دينكم حال كونه باطلاً منسوخاً ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هو نصب على الاستثناء المتصل أو المنقطع‏.‏

‏{‏وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ‏}‏ وهم أسلافهم وأئمتهم الذين قد ضلوا من الفريقين أو من النصارى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم في شريعتهم، والأهواء جمع هوى وهو الباطل الموافق للنفس، والمراد لا توافقوهم في مذاهبهم الباطلة التي لم يدع إليها سوى الشهوة ولم تقم عليها حجة ‏{‏وَأَضَلُّواْ كَثِيراً‏}‏ أي أناساً كثيراً ممن تابعهم ووافقهم فيما دعوا إليه من البدعة والضلالة، أو إضلالاً كثيراً، والمفعول به حينئذٍ محذوف ‏{‏وَضَلُّواْ‏}‏ عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ووضوح محجة الحق وتبين مناهج الإسلام ‏{‏عَن سَوَاء السبيل‏}‏ أي قصد السبيل الذي هو الإسلام، وذلك حين حسدوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكذبوه وبغوا عليه، فلا تكرار بين ‏{‏ضَلُّواْ‏}‏ هنا و‏{‏ضَلُّواْ مِن قَبْلُ‏}‏، والظاهر أن ‏{‏عَنْ‏}‏ متعلقة بالأخير، وجوز أن تكون متعلقة بالأفعال الثلاثة، ويراد بسواء السبيل الطريق الحق، وهو بالنظر إلى الأخير دين الإسلام، وقيل‏:‏ في الإخراج عن التكرار أن الأول‏:‏ إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، والثاني‏:‏ إلى ضلالهم عما جاء به الشرع، وقيل‏:‏ إن ضمير ‏{‏ضَلُّواْ‏}‏ الأخير عائد على الكثير لا على ‏{‏قَوْمٌ‏}‏ والفعل مطاوع للإضلال، أي إن أولئك القوم أضلوا كثيراً من الناس، وأن أولئك الكثير قد ضلوا بإضلال أولئك هم فلا تكرار، وقيل‏:‏ أيضاً قد يراد بالضلال الأول الضلال بالغلو في الرفع والوضع مثلاً وكذا بالإضلال، ويراد بالضلال عن سواء السبيل الضلال عن واضحات دينهم وخروجهم عنه بالكلية، وقال الزجاج‏:‏ المراد بالضلال الأخير ضلالهم في الإضلال أي إن هؤلاء ضلوا في أنفسهم وضلوا بإضلالهم لغيرهم كقوله تعالى‏:‏

‏{‏لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 25‏]‏، ونقل هذا كالقيل الأول عن الراغب، وجوز أيضاً أن يكون قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏عَن سَوَاء‏}‏ متعلقاً بـ ‏{‏قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ‏}‏ إلا أنه لما فصل بينه وبين ما يتعلق به أعيد ذكره، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مّنَ العذاب‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 188‏]‏ ولعل ذم القوم على ما ذهب إليه الجمهور أشنع من ذمهم على ما ذهب إليه غيرهم، والله تعالى أعلم بمراده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بَنِى إسراءيل‏}‏ أي لعنهم الله تعالى، وبناء الفعل لما لم يسم فاعله للجري على سنن الكبرياء، والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً من الموصول أو من فاعل ‏{‏كَفَرُواْ‏}‏ وقوله سبحانه وتعالى، ‏{‏على لِسَانِ دَاوُودُ *وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ‏}‏ متعلق بلعن أي لعنهم جل وعلا في الإنجيل والزبور على لسان هذين النبيين عليهما السلام بأن أنزل سبحانه وتعالى فيهما ملعون من يكفر من بني إسرائيل بالله تعالى أو أحد من رسله عليهم السلام، وعن الزجاج إن المراد‏:‏ أن داود وعيسى عليهما الصلاة والسلام أعلما بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبشرا به وأمرا باتباعه، ولعنا من كفر به من بني إسرائيل، والأول أولى، وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل‏:‏ إن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت قال داود عليه الصلاة والسلام‏:‏ اللهم ألبسهم اللعن مثل الرداء ومثل المنطقة على الحقوين، فمسخهم الله تعالى قردة، وأصحاب المائدة لما كفروا قال عيسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ اللهم عذب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين والعنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي وروي هذا القول عن الحسن ومجاهد وقتادة، وروي مثله عن الباقر رضي الله تعالى عنه، واختاره غير واحد، والمراد باللسان الجارحة، وإفراده أحد الاستعمالات الثلاث المشهورة في مثل ذلك، وقيل‏:‏ المراد به اللغة‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي اللعن المذكور، وإيثار الإشارة على الضمير للإشارة إلى كمال ظهوره وامتيازه عن نظائره وانتظامه بسببه في سلك الأمور المشاهدة، وما في ذلك من البعد للإيذان بكمال فظاعته وبعد درجته في الشناعة والهول ‏{‏بِمَا عَصَواْ‏}‏ أي بسبب عصيانهم، والجار متعلق بمحذوف وقع خبراً عن المبتدأ قبله، والجملة استئناف واقع موقع الجواب عما نشأ من الكلام، كأنه قيل‏:‏ بأي سبب وقع ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ ذلك اللعن الهائل الفظيع بسبب عصيانهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ‏}‏ يحتمل أن يكون معطوفاً على ‏{‏عَصَواْ‏}‏ فيكون داخلاً في حيز السبب، أي وبسبب اعتدائهم المستمر، وينبىء عن إرادة الاستمرار الجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل‏.‏

وادعى الزمخشري إفادة الكلام حصر السبب فيما ذكر، أي بسبب ذلك لا غير، ولعله كما قيل استفيد من العدول عن الظاهر، وهو تعلق ‏{‏بِمَا عَصَواْ‏}‏ بلعن دون ذكر اسم الإشارة، فما جيء به استحقاراً لذلك اللعن وجواباً عن سؤال الموجب دل على أن مجموعه بهذا السبب لا بسبب آخر، وقيل‏:‏ استفيد من السببية لأن المتبادر منها ما في ضمن السبب التام وهو يفيد ذلك، ولا يرد على الحصر أن كفرهم سبب أيضاً كما يشعر به أخذه في حيز الصلة لأن ما ذكر في حيز السببية هنا مشتمل على كفرهم أيضاً، ويحتمل أن يكون استئناف إخبار من الله تعالى بأنه كان شأنهم وأمرهم الاعتداء، وتجاوز الحد في العصيان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

وقوله تعالى ‏{‏كَانُواْ لاَ يتناهون عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ‏}‏ مؤذن باستمرار الاعتداء فإنه استئناف مفيد لاستمرار عدم التناهي عن المنكر، ولا يمكن استمراره إلا باستمرار تعاطي المنكرات، وليس المراد بالتناهي أن ينهى كل منهم الآخر عما يفعله من المنكر كما هو المعنى المشهور لصيغة التفاعل بل مجرد صدور النهي عن أشخاص متعددة من غير أن يكون كل واحد منهم ناهياً ومنهياً معاً، كما في تراؤا الهلال، وقيل‏:‏ التناهي بمعنى الانتهاء من قولهم‏:‏ تناهى عن الأمر وانتهى عنه إذا امتنع، فالجملة حينئذٍ مفسرة لما قبلها من المعصية والاعتداء، ومفيدة لاستمرارهما صريحاً، وعلى الأول‏:‏ إنما تفيد استمرار انتفاء النهي عن المنكر ومن ضرورته استمرار فعله، وعلى التقديرين لا تقوى هذه الجملة احتمال الاستئناف فيما سبق خلافاً لأبي حيان‏.‏

والمراد بالمنكر قيل‏:‏ صيد السمك يوم السبت، وقيل‏:‏ أخذ الرشوة في الحكم، وقيل‏:‏ أكل الربا وأثمان الشحوم، والأولى أن يراد به نوع المنكر مطلقاً، وما يفيده التنوين وحدة نوعية لا شخصية، وحينئذٍ لا يقدح وصفه بالفعل الماضي في تعلق النهي به لما أن متعلق الفعل إنما هو فرد من أفراد ما يتعلق به النهي، أو الانتهاء عن مطلق المنكر باعتبار تحققه في ضمن أي فرد كان من أفراده على أنه لو جعل المضي في ‏{‏فَعَلُوهُ‏}‏ بالنسبة إلى زمن الخطاب لا زمان النهي لم يبق في الآية إشكال، ولما غفل بعضهم عن ذلك قال‏:‏ إن الآية مشكلة لما فيها من ذم القوم بعدم النهي عما وقع مع أن النهي لا يتصور فيه أصلاً، وإنما يكون عن الشيء قبل وقوعه، فلا بد من تأويلها بأن المراد النهي عن العود إليه، وهذا إما بتقدير مضاف قبل ‏{‏مُّنكَرٍ‏}‏ أي معاودة منكر، أو بفهم من السياق، أو بأن المراد فعلوا مثله، وبحمل ‏{‏فَعَلُوهُ‏}‏ على أرادوا فعله، كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 98‏]‏‏.‏ واعترض الأول بأن المعاودة كالنهي لا تتعلق بالمنكر المفعول، فلا بد من المصير إلى أحد الأمرين الأخيرين، وفيهما من التعسف ما لا يخفى، وقيل‏:‏ إن الإشكال إنما يتوجه لو لم يكن الكلام على حد قولنا‏:‏ كانوا لا ينهون يوم الخميس عن منكر فعلوه يوم الجمعة مثلاً، فإنه لا خفاء في صحته، وليس في الكلام ما يأباه، فليحمل على نحو ذلك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ‏}‏ تقبيح لسوء فعلهم وتعجيب منه، والقسم لتأكيد التعجيب، أو للفعل المتعجب منه، وفي هذه الآية زجر شديد لمن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أخرج أحمد والترمذي وحسنه عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله تعالى أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم»، وأخرج أحمد عن عدي بن عميرة قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن الله تعالى لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله تعالى الخاصة والعامة»، وأخرج الخطيب من طريق أبي سلمة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «والذي نفس محمد صلى الله عليه وسلم بيده ليخرجن من أمتي أناس من قبورهم في صورة القردة والخنازير بما داهنوا أهل المعاصي وكفوا عن نهيهم وهم يستطيعون» والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وفيها ترهيب عظيم، فيا حسرة على المسلمين في إعراضهم عن باب التناهي عن المناكير وقلة عبئهم به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏ترى كَثِيراً مّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من تصح منه الرؤية، وهي هنا بصرية، والجملة الفعلية بعدها في موضع الحال من مفعولها لكونه موصوفاً، وضمير ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ لأهل الكتاب أو لبني إسرائيل، واستظهره في «البحر» والمراد من الكثير كعب بن الأشرف وأصحابه ومن ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ مشركو مكة؛ وقد روي أن جماعة من اليهود خرجوا إلى مكة ليتفقوا مع مشركيها على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم ؤمنين فلم يتم لهم ذلك‏.‏ وروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه أن المراد من ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ الملوك الجبارون؛ أي ترى كثيراً منهم وهم علماؤهم يوالون الجبارين ويزينون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم، وهذا في غاية البعد، ولعل نسبته إلى الباقر رضي الله تعالى عنه غير صحيحة؛ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه والحسن ومجاهد أن المراد من الكثير منافقو اليهود، ومن ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ مجاهروهم، وقيل‏:‏ المشركون‏.‏

‏{‏لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ‏}‏ أي لبئس شيئاً فعلوه في الدنيا ليردوا على جزائه في العقبى ‏{‏أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ‏}‏ هو المخصوص بالذم على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه تنبيهاً على كمال التعلق والارتباط بينهما كأنهما شيء واحد، ومبالغة في الذم أي بئس ما قدموا لمعادهم موجب سخط الله تعالى عليهم، وإنما اعتبروا المضاف لأن نفس سخط الله تعالى شأنه باعتبار إضافته إليه سبحانه ليس مذموماً بل المذموم ما أوجبه من الأسباب على أن نفس السخط مما لم يعمل في الدنيا ليرى جزاؤه في العقبى كما لا يخفى، وفي إعراب المخصوص بالذم أو المدح أقوال شهيرة للمعربين، واختار أبو البقاء كون المخصوص هنا خبر مبتدأ محذوف تنبىء عنه الجملة المتقدمة، كأنه قيل‏:‏ ما هو‏؟‏ أو أي شيء هو‏؟‏ فقيل‏:‏ هو أن سخط الله عليهم ونقل عن سيبويه أنّ ‏{‏أَن سَخِطَ الله‏}‏ مرفوع على البدل من المخصوص بالذم وهو محذوف، وجملة ‏{‏قَدَّمْتُ‏}‏ صفته، و‏{‏مَا‏}‏ اسم تام معرفة في محل رفع بالفاعلية لفعل الذم، والتقدير لبئس الشيء شيء قدمته لهم أنفسهم سخط الله تعالى، وقيل‏:‏ إنه في محل رفع بدل من ‏{‏مَا‏}‏ إن قلنا‏:‏ إنها معرفة فاعل لفعل الذم، أو في محل نصب منها إن كانت تمييزاً، واعترض بأن فيه إبدال المعرفة من النكرة، وقيل‏:‏ إنه على تقدير الجار، والمخصوص محذوف أي لبئس شيئاً ذلك لأن سخط الله تعالى عليهم‏.‏

‏{‏وَفِى العذاب‏}‏ أي عذاب جهنم ‏{‏هُمْ خالدون‏}‏ أبد الآبدين، والجملة في موضع الحال وهي متسببة عما قبلها، وليست داخلة في حيز الحرف المصدري إعراباً كما توهمه عبارة البعض، وتعسف لها عصام الملة بجعل أن مخففة عاملة في ضمير الشأن بتقدير أنه سخط الله تعالى عليهم ‏{‏وَفِى العذاب هُمْ خالدون‏}‏، وجوز أيضاً أن تكون هذه الجملة معطوفة على ثاني مفعولي ‏{‏تَرَى‏}‏ بجعلها علمية أي تعلم كثيراً منهم ‏{‏يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ويخلدون في النار، وكل ذلك مما لا حاجة إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ كَانُواْ‏}‏ أي الذين يتولون المشركين ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِالْلهِ والنَّبِىّ‏}‏ أي نبيهم موسى عليه السلام ‏{‏وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ‏}‏ من التوراة، وقيل‏:‏ المراد بالنبي نبينا محمد وبما أنزل القرآن، أي لو كان المنافقون يؤمنون بالله تعالى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم إيماناً صحيحاً ‏{‏مَا اتَّخَذُوهُمْ‏}‏ أي المشركين أو اليهود المجاهرين ‏{‏أَوْلِيَاء‏}‏، فإن الإيمان المذكور وازع عن توليهم قطعاً ‏{‏ولكن كَثِيراً مّنْهُمْ فاسقون‏}‏ أي خارجون عن الدين، أو متمردون في النفاق مفرطون فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ‏}‏ جملة مستأنفة مسوقة لتقرير ما قبلها من قبائح اليهود، وأكدت بالقسم اعتناء ببيان تحقق مضمونها، والخطاب إما لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم وإما لكل أحد يصلح له إيذاناً بأن حالهم مما لا تخفى على أحد من الناس‏.‏ والوجدان متعد لاثنين أولهما‏:‏ ‏{‏أَشَدَّ‏}‏ وثانيهما‏:‏ ‏{‏اليهود‏}‏ وما عطف عليه كما قال أبو البقاء، واختار السمين العكس لأنهما في الأصل مبتدأ وخبر ومحط الفائدة هو الخبر ولا ضير في التقديم والتأخير إذا دل على الترتيب دليل وهو هنا واضح إذ المقصود بيان كون الطائفتين أشد الناس عداوة للمؤمنين لا كون أشدهم عداوة لهم الطائفتين المذكورتين فليفهم‏.‏ و‏{‏عَدَاوَةٌ‏}‏ تمييز، واللام الداخلة على الموصول متعلقة بها مقوية لعملها ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء لأنها مبنية عليه كرهبة عقابك، وجوز أبو البقاء والسمين تعلقها بمحذوف وقع صفة لها أي عداوة كائنة للذين آمنوا، والظاهر أن المراد من اليهود العموم لمن كان بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة وغيرهم، ويؤيده ما أخرجه أبو الشيخ وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله» وفي لفظ «إلا حدث نفسه بقتله» وقيل‏:‏ المراد بهم يهود المدينة وفيه بعد‏.‏ وكما اختلف في عموم اليهود اختلف في عموم ‏{‏الذين أَشْرَكُواْ‏}‏، والمراد من الناس كما قال أبو حيان الكفار أي لتجدن أشد الكفار عداوة هؤلاء؛ ووصفهم سبحانه بذلك لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء عليهم السلام والاجتراء على تكذيبهم ومناصبتهم‏.‏ وقد قيل‏:‏ إن من مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، وفي تقديم اليهود على المشركين إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة كما أن في تقديمهم عليهم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 69‏]‏ إيذاناً بتقدمهم عليهم في الحرص‏.‏ وقيل‏:‏ التقديم لكون الكلام في تعديد قبائحهم، ولعل التعبير بالذين أشركوا دون المشركين مع أنه أخصر للمبالغة في الذم وقيل‏:‏ ليكون على نمط ‏(‏الذين آمنوا‏)‏ والتعبير به دون المؤمنين لأنه أظهر في علية ما في حيز الصلة‏.‏

وأعيد الموصول مع صلته في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ روماً لزيادة التوضيح والبيان، والتعبير بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى‏}‏ دون النصارى إشعاراً بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله تعالى وأوداء أهل الحق وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام‏.‏

وقال ابن المنير‏:‏ «لم يقل سبحانه النصارى كما قال جل شأنه اليهود تعريضاً بصلابة الأولين في الكفر والامتناع عن الانقياد لأن اليهود لما قيل لهم‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الاْرْضَ المُقَدَّسَةَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏قَالُواْ فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 24‏]‏ والنصارى لما قيل‏:‏ لهم من ‏{‏أَنصَارِى إِلَى الله‏}‏‏؟‏ قالوا‏:‏ ‏{‏نَحْنُ أَنْصَارُ الله‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 52‏]‏ وكذلك أيضاً ورد في أول السورة في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا ميثاقهم فَنَسُواْ حَظّاً مّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 14‏]‏ لكن ذكر ههنا تنبيهاً على انقيادهم وأنهم لم يكافحوا الأمر بالرد مكافحة اليهود‏.‏ وذكر هناك تنبيهاً على أنهم لم يثبتوا على الميثاق والله تعالى أعلم بأسرار كلامه» والعدول كما قال شيخ الإسلام عن جعل ما فيه التفاوت بين الفريقين شيئاً واحداً قد تفاوقا فيه بالشدة والضعف أو بالقرب والبعد بأن يقال آخراً‏:‏ ولتجدن أضعفهم ‏(‏مودة‏)‏ الخ، أو بأن يقال أولاً‏:‏ لتجدن أبعد الناس مودة للإيذان بكمال تباين ما بين الفريقين من التفاوت ببيان أن أحدهما‏:‏ في أقصى مراتب أحد النقيضين والآخر‏:‏ في أقرب مراتب النقيض الآخر‏.‏ والكلام في مفعولي ‏{‏لَتَجِدَنَّ‏}‏ وتعلق اللام كالذي سبق، والمراد من النصارى على ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير وعطاء والسدي‏:‏ النجاشي وأصحابه وعن مجاهد أنهم الذين جاءوا مع جعفر رضي الله تعالى عنه مسلمين وهم سبعون رجلاً اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرى الراهب وأبرهة وإدريس وأشرف وتمام وقثم ودريد وأيمن، والظاهر العموم على طرز ما تقدم‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي كونهم أقرب مودة للذين آمنوا ‏{‏بِأَنَّ مِنْهُمْ‏}‏ أي بسبب أن منهم ‏{‏قِسّيسِينَ‏}‏ وهم علماء النصارى وعبادهم ورؤساؤهم‏.‏ والقسيس صيغة مبالغة من تقسس الشيء إذا تتبعه ‏(‏وطلبه‏)‏ بالليل سموا به لمبالغتهم في تتبع العلم قاله الراغب، وقيل‏:‏ القس مثلث الفاء تتبع الشيء وطلبه ومنه سمي عالم النصارى قساً بالفتح وقسيساً لتتبعه العلم‏.‏ وقيل‏:‏ قص الأثر وقسه بمعنى‏.‏ وقال قطرب‏:‏ القس والقسيس العالم بلغة الروم وقد تكلمت به العرب وأجروه مجرى سائر كلماتهم وقالوا في المصدر قسوسة وقسيسة وفي الجمع قسوس وقسيسون وقساوسة كمهالبة، وكان الأصل قساسة إلا أنه كثرت السينات فأبدلوا إحداهن واواً‏.‏ وفي «مجمع البيان» نقلاً عن بعضهم «أن النصارى ضيعت الإنجيل وأدخلوا فيه ما ليس منه وبقي من علمائهم واحد على الحق والإستقامة يقال له قسيسا فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس» ‏{‏وَرُهْبَاناً‏}‏ جمع راهب كراكب وركبان وفارس وفرسان ومصدره الرهبة والرهبانية، وقيل‏:‏ إنه يطلق على الواحد والجمع، وأنشد فيه قول من قال‏:‏ لو عاينت رهبان دير في قلل *** لأقبل الرهبان يعدو ونزل

وجمع الرهبان واحداً كما في «القاموس» رهابين ورهابنة ورهبانون، والترهب التعبد في صومعة، وأصله من الرهبة المخافة، وأطلق الفيروزابادي والجوهري التعبد ولم يقيداه بالصومعة، وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ لا رهبانية في الإسلام ‏"‏ والمراد بها كما قال الراغب الغلو في تحمل التعبد في فرط الخوف‏.‏ وفي «النهاية» «هي من رهبنة النصارى وأصلها من الرهبة الخوف كانوا يترهبون بالتخلي من أشغال الدنيا وترك ملاذها والزهد فيها والعزلة عن أهلها وتعمد مشاقها حتى أن منهم من كان يخصي نفسه ويضع السلسلة في عنقه وغير ذلك من أنواع التعذيب فنفاها النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ونهى المسلمين عنها، وهي منسوبة إلى الرهبنة بزيادة الألف والرهبنة فعلنة أو فعللة على تقدير أصالة النون وزيادتها»، والتنكير في ‏{‏رهباناً‏}‏ لإفادة الكثرة ولا بد من اعتبارها في القسيسين أيضاً إذ هي التي تدل على مودة جنس النصارى للمؤمنين فإن اتصاف أفراد كثيرة لجنس بخصلة مظنة لاتصاف الجنس بها وإلا فمن اليهود أيضاً قوم مهتدون لكنهم لما لم يكونوا في الكثرة كالذين من النصارى لم يتعد حكمهم إلى جنس اليهود‏.‏

‏{‏وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عطف على ‏(‏أن منهم‏)‏ أي وبأنهم لا يستكبرون عن اتباع الحق والانقياد له إذا فهموه أو أنهم يتواضعون ولا يتكبرون كاليهود، وهذه الخصلة على ما قيل شاملة لجميع أفراد الجنس فسببيتها لأقربيتهم مودة للمؤمنين واضحة‏.‏ وفي الآية دليل على أن التواضع والإقبال على العلم والعمل والإعراض عن الشهوات محمودة أينما كانت‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع‏}‏ عطف على ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏ و‏{‏إِذَا‏}‏ في موضع نصب بترى، وجملة ‏{‏تَفِيضُ‏}‏ في موضع الحال والرؤية بصرية أي ذلك بسبب أنهم لا يستكبرون وأنهم إذا سمعوا القرآن رأيت أعينهم فائضة من الدمع، وجوز السمين وغيره الاستئناف، وأياً ما كان فهو بيان لرقة قلوبهم وشدة خشيتهم ومسارعتهم إلى قبول الحق وعدم إبائهم إياه‏.‏ والظاهر عود ضمير ‏{‏سَمِعُواْ‏}‏ لـ ‏{‏الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏‏.‏

وقد تقدم أن الظاهر فيه العموم، وقيل‏:‏ يتعين هنا إرادة البعض، وهو من جاء من الحبشة إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأن كل النصارى ليسوا كذلك، «والفيض انصباب عن امتلاء، ووضع هنا موضع الامتلاء بإقامة المسبب مقام السبب أي تمتلىء من الدمع» أو قصد المبالغة فجعلت أعينهم بأنفسها تفيض من أجل الدمع قاله في «الكشاف»‏.‏ وأراد على مافي «الكشف» أن الدمع على الأول‏:‏ هو الماء المخصوص وعلى الثاني‏:‏ الحدث، وهو على الأول‏:‏ مبدأ مادي وعلى الثاني‏:‏ سببي‏.‏ وفي «الانتصاف» «أن هذه العبارة أبلغ العبارات وهي ثلاث مراتب فالأولى‏:‏ فاض دمع عينه وهذا هو الأصل والثانية‏:‏ محولة من هذه وهي فاضت عينه دمعاً فإنه قد حول فيها الفعل إلى العين مجازاً ومبالغة ثم نبه على الأصل والحقيقة بنصب ما كان فاعلاً على التمييز، والثالثة‏:‏ ما في النظم الكريم وفيها التحويل المذكور إلا أنها أبلغ من الثانية باراح التنبيه على الأصل وعدم نصب التمييز وإبرازه في صورة التعليل»، وجوز الزمخشري أن تكون من هذه هي الداخلة على التمييز وهو مردود وإن كان الكوفيون ذهبوا إلى جواز تعريف التمييز وأنه لا يشترط تنكيره كما هو مذهب الجمهور لأن التمييز المنقول عن الفاعل يمتنع دخول من عليه وإن كانت مقدرة معه فلا يجوز تفقأ زيد من شحم فليفهم‏.‏

‏{‏مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق‏}‏ ‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى‏:‏ لابتداء الغاية متعلقة بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏الدمع‏}‏ أي حال كونه ناشئاً من معرفة الحق‏.‏ وجوز أن تكون تعليلية متعلقة بتفيض أي أن فيض دمعهم بسبب عرفانهم‏.‏ وجوز على تقدير كونها للابتداء أن تتعلق بذلك أيضاً لكن لا يجوز على تقدير اتحاد متعلق ‏{‏مِنْ‏}‏ هذه ومن في ‏{‏مِنَ الدمع‏}‏ القول باتحاد معناهما فإنه لا يتعلق حرفا جر بمعنى بعامل واحد، و‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية‏:‏ للتبعيض متعلقة بعرفوا على معنى أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوه كله وقرأوا القرآن وأحاطوا بالسنة، أو لبيان ‏(‏ما‏)‏ بناء على أنها موصولة، ونص أبو البقاء على أنها متعلقة بمحذوف وقع حالاً من العائد المحذوف ولم يذكر الاحتمال الأول‏.‏

وقرىء ‏{‏تَرَى أَعْيُنَهُمْ‏}‏ على صيغة المبني للمبعول‏.‏

‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية حالهم عند سماع القرآن كأنه قيل‏:‏ ماذا يقولون‏؟‏ فأجيب يقولون‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءامَنَّا‏}‏ بما أنزل أو بمن أنزل عليه أو بهما‏.‏

وقال أبو البقاء‏:‏ إنه حال من الضمير في ‏{‏عَرَفُواْ‏}‏، وقال السمين‏:‏ يجوز الأمران وكونه حالاً من الضمير المجرور في ‏{‏أَعْيُنَهُمْ‏}‏ لما أن المضاف جزؤه كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ إِخْوَانًا‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 47‏]‏‏.‏ ‏{‏فاكتبنا مَعَ الشاهدين‏}‏ أي اجعلنا عندك مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته الذين يشهدون يوم القيامة على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أو مع الذين يشهدون بحقية نبيك صلى الله عليه وسلم وكتابك كما نقل الجبائي وروي ما بمعناه عن الحسن‏.‏