فصل: تفسير الآية رقم (84)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق‏}‏ جعله جماعة ومنهم شيخ الإسلام كلاماً مستأنفاً تحقيقاً لإيمانهم وتقريراً له بإنكار سبب انتفائه ونفيه بالكلية على أن ‏{‏لاَ نُؤْمِنُ‏}‏ حال من الضمير في ‏{‏لَنَا‏}‏ والعامل على ما فيه من معنى الاستقرار أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين والإنكار متوجه إلى السبب والمسبب جميعاً كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مالِىَ لاَ أَعْبُدُ الذى فَطَرَنِى‏}‏ ‏[‏ياس‏:‏ 22‏]‏ ونظائره لا إلى السبب فقط مع تحقق المسبب كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 02‏]‏ وأمثاله، وقيل‏:‏ هو معطوف على الجملة الأولى مندرج معها في حيز القول أي يقولون ربنا آمنا الخ ويقولون ما لنا لا نؤمن الخ، وقيل‏:‏ هو عطف على جملة محذوفة والتقدير ما لكم لا تؤمنون بالله وما لنا لا نؤمن نحن بالله الخ‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إنه جواب سائل قال‏:‏ لم آمنتم‏؟‏ واختاره الزجاج‏.‏

واعترض بأن علماء العربية صرحوا بأن الجملة المستأنفة الواقعة جواب سؤال مقدر لا تقترن بالواو وذكر علماء المعاني أنه لا بد فيها من الفصل إذ الجواب لا يعطف على السؤال، وأجيب بأن الواو زائدة وقد نقل الأخفش أنها تزاد في الجمل المستأنفة، ولا يخفى أنه لا بد لذلك من ثبت، والحال المذكورة على ما نص عليه الشهاب لازمة لا يتم المعنى بدونها قال‏:‏ ولذا لا يصح اقترانها بالواو في مالنا وما بالنا لا نفعل كذا لأنها خبر في المعنى وهي المستفهم عنها‏.‏ وأنت تعلم أن الاستفهام في نحو هذا التركيب في الغالب غير حقيقي وإنما هو للإنكار ويختلف المراد منه على ما أشرنا إليه، ومعنى الإيمان بالله تعالى الإيمان بوحدانيته سبحانه على الوجه الذي جاءت به الشريعة المحمدية فإن القوم لم يكونوا موحدين كذلك، وقيل‏:‏ بكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم فإن الإيمان بهما إيمان به سبحانه والظاهر هو الأول، والإيمان بالكتاب والرسول صلى الله عليه وسلم يفهمه العطف فإن الموصول المعطوف على الاسم الجليل يشمل ذلك قطعاً‏.‏ و‏{‏مِنَ الحق‏}‏ على ما ذكره أبو البقاء حال من ضمير الفاعل، وجوز أن تكون ‏(‏من ‏(‏لابتغاء الغاية أي وبما جاءنا من عند الله وأن يكون الموصول مبتدأ و‏{‏مِنَ الحق‏}‏ خبره والجملة في موضع الحال أيضاً، ولا يخفى ما في الوجهين من البعد‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين‏}‏ حال أخرى عند الجماعة من الضمير المتقدم بتقدير مبتدأ لأن المضارع المثبت لا يقترن بالواو والعامل فيها هو العامل في الأولى مقيد بها فيتعدد معنى كما قيل نحو ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ‏}‏

‏[‏البقرة‏:‏ 25‏]‏ أي أي شيء حصل لنا غير مؤمنين ونحن نطمع في صحبة الصالحين وهي حال مترادفة ولزوم الأولى لا يخرجها عن الترادف أو حال من الضمير في ‏{‏لاَ نُؤْمِنُ‏}‏ على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين، وجوز فيه أن يكون معطوفاً على ‏{‏نُؤْمِنُ‏}‏ أو على ‏{‏لاَ نُؤْمِنُ‏}‏ على معنى وما لنا نجمع بين ترك الإيمان والطمع في صحبة الصالحين أو على معنى ما لنا لا نجمع بين الإيمان والطمع المذكور بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في تلك الصحبة، وموضع المنسبك من أن ما بعدها إما نصب أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه، والمراد في ‏{‏أَن يُدْخِلَنَا‏}‏، واختار غير واحد من المعربين أن ن مفعول أول ليدخل والمفعول الثاني محذوف أي الجنة، قيل‏:‏ ولولا إرادة ذلك لقال سبحانه في القوم بدل مع القوم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ‏}‏ أي بسبب قولهم أو بالذي قالوه عن اعتقاد فإن القول إذا لم يقيد بالخلو عن الاعتقاد يكون المراد به المقارن له كما إذا قيل هذا قول فلان لأن القول إنما يصدر عن صاحبه لإفادة الاعتقاد‏.‏ وقيل‏:‏ إن القول هنا مجاز عن الرأي والاعتقاد والمذهب كما يقال‏:‏ هذا قول الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مثلاً أي هذا مذهبه واعتقاده‏.‏ وذهب كثير من المفسرين إلى أن المراد بهذا القول قولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 84‏]‏ الخ‏.‏ واستظهر أبو حيان أنه عنى به قولهم‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءامَنَّا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 83‏]‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وعطاء أن المراد به ‏{‏فاكتبنا مَعَ الشاهدين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 83‏]‏ وقولهم ‏{‏وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 84‏]‏ الخ، قال الطبرسي‏:‏ «فالقول على هذا بمعنى المسألة» وفيه نظر، والإثابة المجازاة، وفي «البحر» «أنها أبلغ من الإعطاء لأنها ما تكون عن عمل بخلاف الإعطاء فإنه لا يلزم فيه ذلك»‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏فاتاهم الله‏}‏‏.‏

‏{‏جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار خاالدين فِيهَا‏}‏ أبد الآبدين وهو حال مقدرة ‏{‏وَذَلِكَ‏}‏ المذكور من الأمر الجليل الشأن ‏{‏جَزَاء المحسنين‏}‏ أي جزاؤهم، وأقيم الظاهر مقام ضميرهم مدحاً لهم وتشريفاً بهذا الوصف الكريم، ويحتمل أن يراد الجنس ويتدرجون فيه اندراجاً أولياً أي جزاء الذين اعتادوا الإحسان في الأمور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏86‏)‏‏}‏

عطف التكذيب بآيات الله تعالى على الكفر مع أنه ضرب منه لما أن القصد إلى بيان حال المكذبين وذكرهم بمقابلة المصدقين بها ليقترن الوعيد بالوعد وبضدها تتبين الأشياء‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في بعض ما تقدم من الآيات‏:‏ ‏{‏يَعْمَلُونَ ياأيها الرسول بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏ ذهب كثير من ساداتنا الصوفية إلى أن هذا أمر منه عز شأنه أن يبلغ رسوله صلى الله عليه وسلم ما أنزل إليه ما يتعلق بأحكام العبودية ولم يأمره جل جلاله بأن يعرف الناس أسرار ما بينه وبينه فإن ذرة من أسراره سبحانه لا تتحملها السموات والأرض، وهذه الأسرار هي المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فأوحى إلى عَبْدِهِ مَا أوحى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 10‏]‏‏.‏ ولهذا قال سبحانه ‏{‏أَنزَلْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ولم يقل ما خصصناك به أو ما تعرفنا به إليك‏.‏ وقال بعضهم وهو المنصور‏:‏ إن الموصول عام ويندرج فيه الوحي والالهامات والمنامات والمشاهدات وسائر المواهب، والرسول صلى الله عليه وسلم مأمور بتبليغ كل ذلك إلا أن مراتب التبليغ مختلفة حسب اختلاف الاستعدادات فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالهمة وتبليغ بالجذبة إلى غير ذلك فسبحان من أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها ‏{‏والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏ بما أودع فيك من أسرار الألوهية فلا يقدرون أن يوصلوا إليك ما يقطعك عن الله تعالى، وقريب من ذلك ماقيل‏:‏ يعصمك منهم أن يكون لك بهم اشتغال، وقيل‏:‏ يعصمك من أن ترى لنفسك فيهم شيئاً بل ترى الكل منه سبحانه وبه ‏{‏قُلْ ياأهل أَهْلِ الكتاب لَسْتُمْ على شَىْء‏}‏ يعتدُّ به ‏{‏حتى تُقِيمُواْ التوراة‏}‏ فتعطوا الظاهر حقه وتعملوا بالشريعة على الوجه الأكمل مع توحيد الأفعال ‏{‏والإنجيل‏}‏ فتعطوا الباطن حقه وتعملوا بالطريقة على الوجه الأتم مع توحيد الصفات ‏{‏وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ‏}‏ فتعطوا الحقيقة حقها وتشاهدوا الكثرة في عين الوحدة والوحدة في عين الكثرة ولا تحجبكم الكثرة عن الوحدة ولا الوحدة عن الكثرة ‏{‏وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طغيانا وَكُفْراً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 68‏]‏ لجهلهم به وقلة استعدادهم لمعرفة أسراره‏.‏ وعن بعد السادة قدس الله تعالى أسرارهم أن القرآن المنزل على النبي المرسل صلى الله عليه وسلم ذو صفتين‏:‏ صفة قهر وصفة لطف فمن تجلى له القرآن بصفة اللطف يزيد نور بصيرته بلطائف حكمته وحقائق أسراره ودقائق بيانه ويزيد بذلك نور إيمانه وتوحيده ويعرف بذلك ظاهر الخطاب وباطنه، ومن يتجلى له بصفة القهر تزيد ظلمة طغيانه وينسد عليه باب عرفانه بحيث لا يدرك سر الخطاب فتكثر عليه الشكوك والأوهام، وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُدًى لّلْمُتَّقِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 2‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏

‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 26‏]‏ وشبه بعضهم ذلك بنور الشمس فإنه ينتفع به من ينتفع ويتضرر به الخفاش ونحوه‏.‏

ومن ذلك كتب كثير من الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم فإنه قد هدى بها أرباب القلوب الصافية وضل بها الكثير حتى تركوا الصلاة واتبعوا الشهوات وعطلوا الشرائع واستحلوا المحرمات وزعموا والعياذ بالله تعالى أن ذلك هو الذي يقتضيه القول بوحدة الوجود التي هي معتقد القوم نفعنا الله تعالى بفتوحاتهم، وقد نقل لي عن بعض من أضله الله تعالى بالاشتغال بكتب القوم ممن لم يقف على حقيقة الحال أنه لا فرق بين أن يدخل الرجل أصبعه في فمه وبين أن يدخل ذكره في فرج محرم لأن الكل واحد، وكذا لا فرق بين أن يتزوج أجنبية وبين أن يتزوج أمه أو بنته أو أخته وهذا كفر صريح عافانا الله تعالى والمسلمين منه، ومنشأ ذلك النظر في كتب القوم من دون فهم لمرادهم وما درى هذا المسكين أن مراعاة المراتب أمر واجب عندهم وأن ترك ذلك زندقة وأنهم قد صرحوا بأن الشريعة مظهر أعظم لأنها مظهر اسم الله تعالى الظاهر وأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى الله تعالى بإهمالها، فقد جاء عن غير واحد من العارفين الطرق إلى الله تعالى مسدودة إلا على ما اقتفى أثر الرسول صلى الله عليه وسلم وإذا رأيتم الرجل يطير في الهواء وقد أخل بحكم واحد من الشريعة فقولوا‏:‏ إنه زنديق ولله در من قال خطاباً للحضرة المحمدية‏:‏ وأنت باب الله أي أمرء *** أتاه من غيرك لا يدخل

‏{‏وَلَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ‏}‏ الايمان الحقيقي اليهود وذلك لقوة المباينة لأنهم محجوبون عن توحيد الصفات وتوحيد الذات ولم يكن لهم إلا توحيد الأفعال ‏{‏والذين أَشْرَكُواْ‏}‏ كذلك بل هم أشد مباينة منهم للمؤمنين وأقوى لأنهم محجوبون مطلقاً، وإنما قدم اليهود عليهم لأن البحث فيهم، وهذا خلاف ما عليه أهل العبارة ‏{‏وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لّلَّذِينَ ءامَنُواْ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى‏}‏ لأنهم برزوا من حجاب الصفات ولم يبق لهم إلا حجاب الذات، وإلى هذا الإشارة بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 82‏]‏ حيث مدحوا بالعلم والعمل وعدم الاستكبار، وذلك يقتضي أنهم وصلوا إلى توحيد الأفعال والصفات وأنهم ما رأوا نفوسهم موصوفة بصفة العلم والعمل ولا نسبوا عملهم وعلمهم إليها بل إلى الله تعالى وإلا لاستكبروا وأظهروا العجب ‏{‏وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرسول‏}‏ من أنواع التوحيد التي من جملتها توحيد الذات ‏{‏تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ‏}‏ بالدليل وبواسطة الرياضة ‏{‏مِنَ الحق‏}‏ الذي أنزل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا ءامَنَّا بذلك فاكتبنا مَعَ الشاهدين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 83‏]‏ المعاينين لذلك ‏{‏وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله‏}‏ جمعاً ‏{‏وَمَا جَاءنَا مِنَ الحق‏}‏ تفصيلاً ‏{‏وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 84‏]‏ الذين استقاموا بالبقاء بعد الفناء ‏{‏فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الانهار‏}‏ من التجليات الثلاث مع علومها ‏{‏وذلك جَزَاء المحسنين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 85‏]‏ المشاهدين للوحدة في عين الكثرة بالاستقامة في الله عز وجل‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ‏}‏ أي حجبوا عن الذات ‏{‏وَكَذَّبُواْ بئاياتنا‏}‏ الدالة على التوحيد ‏{‏أولئك أصحاب الجحيم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 68‏]‏ لحرمانهم الكلي واحتجابهم بنفوسهم وصفاتها والله تعالى الموفق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏الجحيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ‏}‏ أي لذائذ ذلك وما تميل إليه القلوب منه كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الرهبانية ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقب سبحانه ذلك بالنهي عن الإفراط في هذا الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، وقيل‏:‏ لا تلتزموا تحريمها بنحو يمين، وقيل‏:‏ لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهداً منكم، وكون المعنى لا تحرموها على غيركم بالفتوى والحكم مما لا يلتفت إليه‏.‏ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يوماً فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم علي كرم الله تعالى وجهه، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن مسعود، وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، وصاحب البيت واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض وهم بعضهم أن يجب مذاكيره فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم‏:‏ أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه‏؟‏ فكرهت أن تنكر إذ سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت‏:‏ يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل عثمان فأخبرته بذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه فقال عليه الصلاة والسلام لهم‏:‏ انبئت أنكم اتفقتم على كذا وكذا قال‏:‏ نعم يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني لم أومر بذلك ثم قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إن لأنفسكم عليكم حقاً فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثم جمع الناس وخطبهم فقال‏:‏ «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهباناً فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد أعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئاً وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع»

فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وروي عن أبي عبد الله رضي الله عنه أن الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وبلال وعثمان بن مظعون فأما علي كرم الله تعالى وجهه فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبداً إلا ما شاء الله تعالى، وأما بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبداً وأما عثمان فإنه حلف أن لا ينكح أبداً‏.‏ وروي أيضاً غير ذلك ولم نقف على رواية فيها ما يدل على أن هذا التحريم كان على الغير بالفتوى والحكم كما ذهب إليه هذا القائل‏.‏ ومع هذا يبعده ما يأتي بعد من الأمر بالأكل‏.‏ ولا ينافي هذا النهي أن الله تعالى مدح النصارى بالرهبانية فرب ممدوح بالنسبة إلى قوم مذموم بالنسبة إلى آخرين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ تأكيد للنهي السابق أي لا تتعدوا حدود ما أحل سبحانه لكم إلى ما حرم جل شأنه عليكم أو نهى عن تحليل الحرام بعد النهي عن تحريم الحلال فيكون تأسيساً‏.‏ ويحتمل أن يكون نهياً عن الإسراف في الحلال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ومجاهد وقتادة أن المراد لا تجبوا أنفسكم ولا يخفى أن الجب فرد من أفراد الاعتداء وتجاوز الحدود والحمل على الأعم أعم فائدة‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين‏}‏ في موضع التعليل لما قبله‏.‏ وقد تقدمت الإشارة إلى أن نفي محبة الله سبحانه لشيء مستلزم لبغضه له لعدم الواسطة في حقه تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيّباً‏}‏ أي كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله تعالى فحلالاً مفعول به لكلوا و‏{‏مِمَّا رَزَقَكُمُ‏}‏ إما حال منه وقد كان في الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالاً أو متعلق بكلوا و‏(‏ من‏)‏ ابتدائية‏.‏ ويحتمل أن يكون في موضع المفعول لكلوا على معنى أنه صفة مفعول له قائمة مقامه أي شيئاً مما رزقكم أو بجعله نفسه مفعولاً بتأويل بعض إلا أن في هذا تكلفاً‏.‏ و‏{‏حلالا‏}‏ حال من الموضول أو من عائده المحذوف أو صفة لمصدر محذوف أي أكلاً حلالاً‏.‏ وعلى الوجوه كلها الآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التأكيد وهو خلاف الظاهر في مثل ذلك‏.‏

‏{‏واتقوا الله الذى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن‏.‏ والآية ظاهرة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى، وقد أكل صلى الله عليه وسلم ثريد اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى‏.‏ وقد فصلت الأخبار ما كان يأكله عليه الصلاة والسلام وأواني الكتب ملأى من ذلك‏.‏ وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السنجي فقال‏:‏ يا فرقد ما تقول في هذا‏؟‏ فقال‏:‏ لا آكله ولا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال‏:‏ لعاب النحل بلعاب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم، وذكر الطبرسي أن فيها دلالة على النهي عن الترهب وترك النكاح وقد جاء في غير ما خبر أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إن الله تعالى لم يبعثني بالرهبانية» وقال عليه الصلاة والسلام في خبر طويل‏:‏ «شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم» وعن أنس قال‏:‏ «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة وينهانا عن التبتل نهياً شديداً»‏.‏ وعن أبي نجيح قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان موسراً لأن ينكح فلم ينكح فليس مني» إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم‏}‏ اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم وهو عندنا أن يحلف على أمر مضى يظنه كذلك فإن علمه على خلافه فاليمين غموس، وروي ذلك عن مجاهد‏.‏ وعند الشافعي رحمه الله تعالى ما يسبق إليه اللسان من غير نية اليمين وهو المروى عن أبي جعفر وأبي عبد الله وعائشة رضي الله تعالى عنهم، والأدلة على المذهبين مبسوطة في الفروع والأصول وقد تقدم شطر من الكلام على ذلك، و‏{‏فِى أيمانكم‏}‏ إما متعلق باللغو فإنه يقال لغا في يمينه لغواً وإما بمحذوف وقع حالاً منه أي كائناً أو واقعاً في أيمانكم؛ وجوز أن يكون متعلقاً بيؤاخذكم، وقيل عليه‏:‏ إنه لا يظهر ربطه بالمؤاخذة إلا أن يجعل في للعلة كما في «إن امرأة دخلت النار في هرة» ‏{‏ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا تَنقُضُواْ الايمان‏}‏ أي بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية فما مصدرية، وقيل‏:‏ إنها موصولة والعائد محذوف أي بما عقدتم الأيمان عليه‏.‏ ورجح الأول بأن الكلام في مقابلة اللغو وبأنه خال عن مؤنة التقدير، وقال بعضهم‏:‏ إن ذلك التقدير في غير محله لأن شرط حذف العائد المجرور أن يكون مجروراً بمثل ما جر به الموصول لفظاً ومعنى ومتعلقاً وما هنا ليس كذلك فليتدبر؛ والمعنى‏:‏ ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم أو لكن يؤاخذكم بما عقدتموها إذا حنثتم وحذف ذلك للعلم به، والمراد بالمؤاخذة المؤاخذة في الدنيا وهي الإثم والكفارة فلا إشكال في تقدير الظرف، وتعقيد الأيمان شامل للغموس عند الشافعية وفيه كفارة عندهم وأما عندنا فلا كفارة ولا حنث‏.‏

وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم ‏{‏عَقَّدتُّمُ‏}‏ بالتخفيف، وابن عامر برواية ابن ذكوان ‏{‏عاقدتم‏}‏ والمفاعلة فيها لأصل الفعل وكذا قراءة التشديد لأن القراءات يفسر بعضها بعضاً، وقيل‏:‏ إن ذلك فيها للمبالغة باعتبار أن العقد باللسان والقلب لا أن ذلك للتكرار اللساني كما توهم‏.‏ والآية كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت حين نهى القوم عما صنعوا فقالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها‏؟‏، وروي عن ابن زيد أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كان عنده ضيف فأخرت زوجته عشاءه فحلف لا يأكل من الطعام وحلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل وحلف الضيف لا يأكل إن لم يأكلا فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال عليه الصلاة والسلام له‏:‏ أحسنت ونزلت‏.‏

‏{‏الايمان فَكَفَّارَتُهُ‏}‏ الضمير عائد إما على الحنث المفهوم من السياق أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف أي فكفارة نكثه أو على ما الموصولة بذلك التقدير، وأما عوده على الأيمان لأنه مفرد كالأنعام عند سيبويه أو مؤول بمفرد فكما ترى، والمراد بالكفارة المعنى المصدري وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة وتسترها، والمراد بالستر المحو لأن الممحو لا يرى كالمستور وبهذا وجه تأنيثها، وذكر عصام الدين أن فعالاً يستوي فيه المذكر والمؤنث إلا أن ما يستوي فيه ذلك كفعيل إذا حذف موصوفه يؤنث للمؤنث كمررت بقتيلة بني فلان ولا يقال بقتيل للالتباس، وذكر أن التاء يحتمل أن تكون للنقل وأن تكون للمبالغة انتهى‏.‏

ويدل على أنها بالمعنى المصدري الإخبار عنها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين‏}‏ واستدل الشافعية بظاهر الآية على جواز التكفير بالمال قبل الحنث سواء كان الحنث معصية أم لا، وتقييد ذلك كما فعل الرافعي بما إذا لم يكن معصية غير معول عليه عندهم، ووجه الاستدلال بذلك على ما ذكر أنه سبحانه جعل الكفارة عقب اليمين من غير ذكر الحنث وقال عز شأنه‏:‏ ‏{‏ذلك كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ‏}‏ وقيدوا ذلك بالمال ليخرج التكفير بالصوم فإنه لا يكون إلا بعد الحنث عندهم لأنه عند العجز عن غيره والعجز لا يتحقق بدون حنث، وقد قاسوا ذلك أيضاً على تقديم الزكاة على الحول، واستدلوا أيضاً بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين ورأى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» ونحن نقول‏:‏ إن الآية تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وهي غير واجبة قبله فثبت أن المراد بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها، وقد اتفقوا على أن معنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 184‏]‏ افطر فعدة من أيام أخر فكذا هذا‏.‏ والحديث الذي استدلوا به لا يصلح للاستدلال لأنه بعد تسليم دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ يقال‏:‏ إن الواقع في حيزها مجموع التكفير والإيتاء ولا دلالة على الترتيب بينهما ألا ترى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ لا يقتضي تقديم السعي على ترك البيع بالاتفاق، وأيضاً جاء في رواية «فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه»‏.‏ ونقل بعضهم عن الشافعية أنهم يجمعون بين الروايتين بأن إحداهما لبيان الجواز والأخرى لبيان الوجوب، وقال عصام الدين‏:‏ إن تقديم الكفارة تارة وتأخيرها أخرى يدل على أن التقديم والتأخير سيان اه‏.‏

وأنت تعلم أن الشافعية كالحنفية في أنهم يقدرون في الآية ما أشرنا إليه قبل في تفسيرها إلا أن ذلك عندهم قيد للوجوب وإلا فالاستدلال بالآية في غاية الخفاء كما لا يخفى فتدبر‏.‏

و ‏{‏إِطْعَامُ‏}‏ مصدر مضاف لمفعوله وهو مقدر بحرف وفعل مبني للفاعل وفاعل المصدر يحذف كثيراً، ولا ضرورة تدعو إلى تقدير الفعل مبنياً للمفعول لأنه مع كونه خلاف الأصل في تقديره خلاف ذكره السمين فالتقدير هنا فكفارته أن يطعم الحانث أو الحالف عشرة مساكين ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ‏}‏ أي من أقصده في النوع أو المقدار، وهو عند الشافعية مد لكل مسكين وعندنا نصف صاع من بر أو صاع من شعير‏.‏

وأخرج ابن حميد وغيره عن ابن عمر أن الأوسط الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن، والأفضل نحو الخبز واللحم‏.‏ وعن ابن سيرين قال‏:‏ كانوا يقولون الأفضل الخبز واللحم والأوسط الخبز والسمن والأخس الخبز والتمر‏.‏ ومحل الجار والمجرور النصب لأنه صفة مفعول ثان للإطعام لأنه ينصب مفعولين وأولهما هنا ما أضيف إليه، والتقدير طعاماً أو قوتاً كائناً من أوسط، وقيل‏:‏ إنه صفة مصدر محذوف أي إطعاماً كائناً من ذلك؛ وجوز أن يكون محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي طعامهم من أوسط أو على أنه صفة لإطعام أو على أنه بدل من إطعام‏.‏

واعترض هذا بأن أقسام البدل لا تتصور هنا‏.‏ وأجيب بأنه بدل اشتمال بتقدير موصوف وذلك على مذهب ابن الحاجب وصاحب «اللباب»‏.‏ ومتابعيهما ظاهر لأنهم يكتفون بملابسة بين البدل والمبدل منه بغير الجزئية والكلية، وأما على مذهب الجمهور فلأنهم يشترطون اشتمال التابع على المتبوع لا كاشتمال الظرف على المظروف بل من حيث كونه دالاً عليه إجمالاً ومتقاضياً له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى ذكر الثاني فيجاء بالثاني ملخصاً لما أجمله الأول ومبيناً له، ويعدون من هذا القبيل قولهم‏:‏ نظرت إلى القمر فلكه كما صرح به ركن الدين في «شرح اللباب»‏.‏ ولا يخفى أن إطعام عشرة مساكين دال على الطعام إجمالاً ومتقاض له بوجه‏.‏ واختار بعض المحققين أنه بدل كل من كل بتقدير إطعام من أوسط نحو أعجبني قرى الأضياف قراهم من أحسن ما وجد، وما إما مصدرية وإما موصولة اسمية والعائد محذوف أي من أوسط الذي تطعمونه‏.‏

وجوز أبو البقاء تقديره مجروراً بمن أي تطعمون منه، ونظر فيه السمين بأن من شرط العائد المحذوف المجرور بالحرف أن يكون مجروراً بمثل ما جربه الموصول لفظاً ومعنى ومتعلقاً والحرفان هنا وإن اتفقا من وجه إلا أن المتعلق مختلف لأن من الثانية متعلقة بتطعمون والأولى ليست متعلقة بذلك‏.‏ ثم قال‏:‏ فإن قلت الموصول غير مجرور بمن وإنما هو مجرور بالإضافة‏.‏ فالجواب أن المضاف إلى الموصول كالموصول في ذلك اه‏.‏ وقد قدمنا آنفاً نحو هذا النظر، وأجاب بعضهم عن ذلك بأن الحذف تدريجي ولا يخفى أن فيه تطويلاً للمسافة‏.‏

والأهلون جمع أهل على خلاف القياس كأرض وأرضون إذ شرط هذا الجمع أن يكون علماً أو صفة وأهل اسم جامد، قيل‏:‏ والذي سوغه أنه استعمل كثيراً بمعنى مستحق فأشبه الصفة‏.‏ وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قرأ ‏{‏أهاليكم‏}‏ بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهو أيضاً جمع أهل على خلاف القياس كليال في جمع ليلة‏.‏ وقال ابن جني‏:‏ واحدهما ليلاة وأهلاة وهو محتمل كما قيل لأن يكون مراده أن لهما مفرداً مقدراً هو ما ذكر ولأن يكون مراده أن لهما مفرداً محققاً مسموعاً من العرب هو ذاك، وقيل‏:‏ إن أهال جمع أهلون وليس بشيء‏.‏

‏{‏أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ‏}‏ عطف كما قال أبو البقاء على إطعام واستظهره غير واحد، واختار الزمخشري أنه عطف على محل ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ‏}‏ ووجهه فيما نسب إليه بأن ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ‏}‏ بدل من الإطعام والبدل هو المقصود ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحى فكأنه قيل‏:‏ فكفارته من أوسط ما تطعمون‏.‏ ووجه صاحب «التقريب» عدوله عن الظاهر بأن الكسوة اسم لنحو الثوب لا مصدراً، فقد قال الراغب‏:‏ الكساء والكسوة اللباس فلا يليق عطفه على المصدر السابق مع أن كليهما فيما يتعلق بالمساكين، وبأنه يؤدي إلى ترك ذكر كيفية الكسوة وهو كونها أوسط، ثم قال‏:‏ ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الكسوة إما مصدر كما يشعر به كلام الزجاج أو يضمر مصدر كالإلباس، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط ما تكسون وحذف ذلك لقرينة ذكره في المعطوف عليه أو بأن تترك على إطلاقها إما بإرادة إطلاقها أو بإحالة بيانها على الغير، وأيضاً العطف على محل ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ‏}‏ لا يفيد هذا المقصود وهو تقدير الأوسط في الكسوة فالإلزام مشترك ويؤدي إلى صحة إقامته مقام المعطوف عليه وهو غير سديد اه‏.‏

واعترض بعض المحققين على ما نسب إلى الزمخشري أيضاً بأن العطف على البدل يستدعي كون المعطوف بدلاً أيضاً وإبدال الكسوة من ‏{‏إِطْعَامُ‏}‏ لا يكون إلا غلطاً لعدم المناسبة بينهما أصلاً وبدل الغلط لا يقع في الفصيح فضلاً عن أفصح الأفصح‏.‏ ومنع عدم الوقوع مما لا يلتفت إليه، وجعل غير واحد هذا العطف من باب‏:‏ علفتها تبناً وماءاً بارداً *** كأنه قيل إطعام هو أوسط ما تطعمون أو إلباس هو كسوتهم على معنى إطعام هو إطعام الأوسط وإلباس هو إلباس الكسوة وفيه إيهام وتفسير في الموضعين‏.‏ واعترض بأن العطف على هذا يكون على المبدل منه لا البدل، وأجيب بأن المراد أنه بالنظر إلى ظاهر اللفظ عطف على البدل وهو كما ترى، واعترض الشهاب على دعوى أن الداعي للزمخشري عن العدول إلى الظاهر إلى اختيار العطف على محل ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ‏}‏ تحصيل التناسب بين نوعي الكفارة المتعلقة بالمساكين بأنه كيف يتأتى ذلك وقد جعل العطف على ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ‏}‏ على تقدير بدليته وهو على ذلك التقدير صفة إطعام مقدر انتهى‏.‏

وقد علمت أن هذا رأي لبعضهم‏.‏ وبالجملة فيما ذهب إليه الزمخشري دغدغة حتى قال العلم العراقي‏:‏ إنه غلط والصواب العطف على ‏{‏إِطْعَامُ‏}‏، وقال الحلبي‏:‏ ما ذكره الزمخشري إنما يتمشى على وجه وهو أن يكون ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ‏}‏ خبراً لمبتدأ محذوف يدل عليه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط فالكلام تام على هذا عند قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عَشَرَةِ مساكين‏}‏ ثم ابتدأ أخباراً آخر بأن الطعام يكون أوسط كذا‏.‏ وأما إذ قلنا إن ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ‏}‏ هو المفعول الثاني فيستحيل عطف ‏{‏كِسْوَتُهُمْ‏}‏ عليه لتخالفهما إعراباً انتهى‏.‏

ثم المراد بالكسوة ما يستر عامة البدن على ما روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف فلا يجزي عندهما السراويل لأن لابسه يسمى عرياناً في العرف لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الإطعام باعتبار القيمة، وفي اشتراط النية حينئذٍ روايتان‏.‏ وظاهر الرواية الإجزاء نوى أو لم ينو‏.‏ وروي أيضاً أنه إن أعطى السراويل المرأة لا يجوز وإن أعطى الرجل يجوز لأن المعتبر رد العري بقدر ما تجوز به الصلاة وذلك ما به يحصل ستر العورة والزائد تفضل للتجمل أو نحوه فلا يجب في الكسوة كالإدام في الطعام والمروي عن محمد أن ما تجوز فيه الصلاة يجزىء مطلقاً‏.‏ والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول، ويشترط أن يكون ذلك مما يصلح للأوساط وينتفع به فوق ثلاثة أشهر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت العباءة تجزىء يومئذٍ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يجزىء قميص أو رداء أو كساء، وعن الحسن أنها ثوبان أبيضان‏.‏ وروى الإمامية عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنها ثوبان لكل مسكين ويجزىء ثوب واحد عند الضرورة واشترط أصحابنا في المسكين أن يكون مراهقاً فما فوقه فلا يجزىء غير المراهق على ما ذكره الحصكفي نقلاً عن «البدائع» في كفارة الظهار، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آية كفارة الظهار أن المراد من الإطعام التمكين من الطعم وتحقيق الكلام في ذلك على أتم وجه‏.‏ وقرىء ‏{‏أَوْ كِسْوَتُهُمْ‏}‏ بضم الكاف وهو لغة قدوة في قدروة وأسوة في أسوة‏.‏ وقرأ سعيد بن المسيب واليماني ‏{‏أَوْ‏}‏ بكاف الجر الداخلة على أسوة وهي كما قال الراغب الحال التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسناً وإن قبيحاً‏.‏ والهمزة كما قال غير واحد‏:‏ بدل من واو لأنه من المواساة‏.‏ والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف والتقدير أو طعامهم كأسوة أهليكم، وقال السعد‏:‏ الكاف زائدة أي أو طعامهم أسوة أهليكم، وقيل‏:‏ الأولى أن يكون التقدير طعام كأسوتهم على الوصف فهو عطف أيضاً على ‏{‏مساكين مِنْ أَوْسَطِ‏}‏ وعلى هذه القراءة يكون التخيير بين الإطعام والتحرير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ فقط وتكون الكسوة ثابتة بالسنة‏.‏

وزعم أبو حيان أن الآية تنفي الكسوة وليس بشيء، وقال أبو البقاء‏:‏ المعنى مثل أسوة أهليكم في الكسوة فلا تكون الآية عارية عن الكسوة وفيه نظر إذ ليس في الكلام ما يدل على ذلك التقدير‏.‏

والمراد بتحرير رقبة إعتاق إنسان كيف ما كان‏.‏ وشرط الشافعي عليه الرحمة فيه الإيمان حملاً للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل‏.‏ وعندنا لا يحمل لاختلاف السبب‏.‏ واستدل بعض الشافعية على ذلك بأن «الكفارة حق الله تعالى وحق الله سبحانه لا يجوز صرفه إلى عدو الله عز اسمه كالزكاة‏.‏ ونحن نقول‏:‏ المنصوص عليه تحرير رقبة وقد تحقق‏.‏ والقصد بالإعتاق أن يتمكن المعتق من الطاعة بخلوصه عن خدمة المولى ثم مقارفته المعصية وبقاؤه على الكفر يحال به إلى سوء اختياره»‏.‏ واعترض بأن لقائل أن يقول‏:‏ نعم مقارفته المعصية يحال به إلى ما ذكر لكن لم لا يكون تصور ذلك منه مانعاً عن الصرف إليه كما في الزكاة‏؟‏ وأجيب بأن القياس جواز صرف الزكاة إليه أيضاً لأن فيه مواساة عبيد الله تعالى أيضاً لكن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ خذها من أغنيائهم وردها إلى فقرائهم ‏"‏ أخرجهم عن المصرف‏.‏

وقد ذكر بعض أصحابنا ضابطاً لما يجوز إعتاقه في الكفارة وما لا يجوز فقال‏:‏ متى أعتق رقبة كاملة الرق في ملكه مقروناً بنية الكفارة وجنس ما يبتغي من المنافع فيها قائم بلا بدلا جاز وإن لم يكن كذلك فإنه لا يجوز وهل يجوز عتق الأصم أم لا‏؟‏ قولان، وفي «الهداية»، «ويجوز الأصم والقياس أن لا يجوز وهو رواية «النوادر» لأن الفائت جنس المنفعة إلا ‏(‏أنا‏)‏ استحسنا الجواز لأن أصل المنفعة باق فإنه إذا صيح عليه يسمع حتى لو كان بحال لا يسمع أصلاً بأن ولد أصم وهو الأخرس لا يجزئه» انتهى‏.‏

ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقاً وتخيير المكلف في التعيين ونسب إلى بعض المعتزلة أن الواجب الجمع ويسقط واحد‏.‏ وقيل‏:‏ الواجب متعين عند الله تعالى وهو ما يفعله المكلف فيختلف بالنسبة إلى المكلفين‏.‏ وقيل‏:‏ إن الواجب واحد معين لا يختلف لكن يسقط به وبالآخر‏.‏ وتفاوتها قدراً وثواباً لا ينافي التخيير المفوض تفاوته إلى الهمم وقصد زيادة الثواب فإن الكسوة أعظم من الإطعام والتحرير أعظم منهما‏.‏ وبدأ سبحانه بالإطعام تسهيلاً على العباد‏.‏ وذكر غير واحد من أصحابنا أن المكلف لو أدى الكل جملة أو مرتباً ولم ينو إلا بعد تمامها وقع عنها واحد هو أعلاها قيمة ولو ترك الكل عوقب بواحد هو أدناها قيمة لسقوط الفرض بالأدنى‏.‏

وتحقيق ذلك في الأصول‏.‏

‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ أي شيئاً من الأمور المذكورة ‏{‏فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ أي فكفارته ذلك‏.‏ ويشترط الولاء عندنا ويبطل بالحيض بخلاف كفارة الفطر‏.‏ وإلى اشتراط الولاء ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة والنخعي‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة‏:‏ يا رسول الله نحن بالخيار فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت وإن شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات ‏"‏‏.‏ وأخرج ابن أبي شيبة وابن حميد وابن جرير وابن أبي داود في «المصاحف»‏.‏ وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ ‏(‏فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏)‏‏.‏ وأخرج غالب هؤلاء عن ابن مسعود أنه كان يقرأ أيضاً كذلك، وقال سفيان‏:‏ نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه ‏(‏فمن لم يجد من ذلك شيئاً فصيام ثلاثة أيام متتابعات‏)‏ وبمجموع ذلك يثبت اشتراط التتابع على أتم وجه، وجوز الشافعي رحمه الله تعالى التفريق ولا يرى الشواذ حجة، ولعل غير ذلك لم يثبت عنده واعتبر عدم الوجدان والعجز عما ذكر عندنا وقت الأداء حتى لو وهب ماله وسلمه ثم صام ثم رجع بهبته أجزأه الصوم كما في «المجتبى»، ونسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه اعتبار العجز عند الحنث‏.‏ ويشترط استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم فلو صام المعسر يومين ثم قبل فراغه ولو بساعة أيسر ولو بموت ورثه موسراً لا يجوز له الصوم ويستأنف بالمال‏.‏ ولو صام ناسياً له لم يجز على الصحيح، واختلف في الواجد فأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال‏:‏ إذا كان عنده خمسون درهماً فهو ممن يجد ويجب عليه الإطعام وإن كان عنده أقل فهو ممن لا يجد ويصوم‏.‏ وأخرج عن النخعي قال‏:‏ إذا كان عنده عشرون درهماً فعليه أن يطعم في الكفارة، ونقل أبو حيان عن الشافعي وأحمد ومالك أن من كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واحد، وعن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الذي مضى ذكره ‏{‏كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ‏}‏ أي وحنثتم وقد مر تفصيل ذلك‏.‏ و‏{‏إِذَا‏}‏ على ما قال السمين لمجرد الظرفية وليس فيها معنى الشرط، وجوز أن تكون شرطية ويكون جوابها محذوفاً عند البصريين، والتقدير إذا حلفتم وحنثتم فذلك كفارة أيمانكم‏.‏ ويدل على ذلك ما تقدم أو هو ما تقدم عند الكوفيين والخلاف بين الفريقين مشهور ‏{‏واحفظوا أيمانكم‏}‏ أي راعوها لكي تؤدوا الكفارة عنها إذا حنثتم أو احفظوا أنفسكم من الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية أو لا تبذلوها وأقلوا منها كما يشعر به قوله تعالى‏:‏

‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 224‏]‏ وعليه قول الشاعر‏:‏ قليل الألايا حافظ ليمينه *** إذا بدرت منه الألية برت

أو احفظوها ولا تنسوا كيف حلفتم تهاوناً بها وصحح الشهاب الأول‏.‏ واعترض الثاني بأنه لا معنى له لأنه غير منهي عن الحنث إذا لم يكن الفعل معصية، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فليأت الذي هو خير وليكفر» وقال سبحانه‏:‏ ‏{‏فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 2‏]‏ فثبت أن الحنث غير منهي عنه إذا لم يكن معصية فلا يجوز أن يكون ‏{‏فِى أيمانكم‏}‏ نهياً عن الحنث، والثالث بأنه ساقط واه لأنه كيف يكون الأمر بحفظ اليمين نهياً عن اليمين وهل هو إلا كقولك‏:‏ احفظ المال بمعنى لا تكسبه، وأما البيت فلا شاهد فيه لأن معنى حافظ ليمينه أنه مراع لها بأداء الكفارة ولو كان معناه ما ذكر لكان مكرراً مع ما قبله أعني قليل الألايا‏.‏ واعترض الرابع بأنه بعيد فتدبر ‏{‏كذلك‏}‏ أي ذلك البيان البديع ‏{‏يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته‏}‏ أعلام شريعته وأحكامه لا بياناً أدنى منه، وتقديم ‏{‏لَكُمْ‏}‏ على المفعول الصريح لما مر مراراً‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ نعمة التعليم أو نعمه الواجب شكرها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏تَشْكُرُونَ يَأَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر‏}‏ وهو المسكر المتخذ من عصير العنب أو كل ما يخامر العقل ويغطيه من الأشربة‏.‏ وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ‏{‏والميسر‏}‏ وهو القمار وعدوا منه اللعب بالجوز والكعاب ‏{‏والانصاب‏}‏ وهي الأصنام المنصوبة للعبادة، وفرق بعضهم بين الأنصاب والأصنام بأن الأنصاب حجارة لم تصور كانوا ينصبونها للعبادة ويذبحون عندها، والأصنام ما صور وعبد من دون الله عز وجل ‏{‏والازلام‏}‏ وهي القداح وقد تقدم الكلام في ذلك على أتم وجه ‏{‏رِجْسٌ‏}‏ أي قذر تعاف عنه العقول، وعن الزجاج الرجس كل ما استقذر من عمل قبيح‏.‏ وأصل معناه الصوت الشديد ولذا يقال للغمام رجاس لرعده والرجز بمعناه عند بعضهم‏.‏ وفرق ابن دريد بين الرجس والرجز والركس فجعل الرجس الشر والرجز العذاب والركس العذرة والنتن، وإفراد الرجس مع أنه خبر عن متعدد لأنه مصدر يستوي فيه القليل والكثير، ومثل ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 28‏]‏ وقيل‏:‏ لأنه خبر عن الخمر وخبر المعطوفات محذوف ثقة بالمذكور‏.‏ وقيل‏:‏ لأن في الكلام مضافاً إلى تلك الأشياء وهو خبر عنه أي إنما شأن هذه الأشياء أو تعاطيها رجس‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْ عَمَلِ الشيطان‏}‏ في موضع الرفع على أنه صفة ‏{‏رِجْسٌ‏}‏ أي كائن من عمله لأنه مسبب من تزيينه وتسويله، وقيل‏:‏ إن من للابتداء أي ناشىء من عمله‏.‏ وعلى التقديرين لا ضير في جعل ذلك من العمل وإن كان ما ذكر من الأعيان‏.‏ ودعوى أنه إذا قدر المضاف لم يحتج إلى ملاحظة علاقة السببية ولا إلى القول بأن من ابتدائية لا يخلو عن نظر ‏{‏فاجتنبوه‏}‏ أي الرجس أو جميع ما مر بتأويل ما مر أو التعاطي المقدر أو الشيطان ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي راجين فلاحكم أو لكي تفلحوا بالاجتناب عنه وقد مر الكلام في ذلك، ولقد أكد سبحانه تحريم الخمر والميسر في هذه الآية بفنون التأكيد حيث صدرت الجملة بأنما وقرنا بالأصنام والأزلام وسميا رجساً من عمل الشيطان تنبيهاً على غاية قبحهما وأمر بالاجتناب عن عينهما بناء على بعض الوجوه وجعله سبباً يرجى منه الفلاح فيكون ارتكابهما خيبة‏.‏ ثم قرر ذلك ببيان ما فيهما من المفاسد الدنيوية والدينية فقال سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ‏(‏91‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر‏}‏ أي بسبب تعاطيهما لأن السكران يقدم على كثير من القبائح التي توجب ذلك ولا يبالي وإذا صحا ندم على ما فعل، والرجل قد يقامر حتى لا يبقى له شيء وتنتهي به المقامرة إلى أن يقامر بولده وأهله فيؤدي به ذلك إلى أن يصير أعدى الأعداء لمن قمره وغلبه وهذه إشارة إلى مفاسدهما الدنيوية‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة‏}‏ إشارة إلى مفاسدهما الدينية‏.‏ ووجه صد الشيطان لهم بذلك عما ذكر أن الخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة وإن الميسر إن كان اللاعب به غالباً انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عما ذكر وإن كان مغلوباً حصل له من الانقباض والقهر ما يحثه على الاحتيال لأن يصير غالباً فلا يكاد يخطر بقلبه غير ذلك‏.‏ وقد شاهدنا كثيراً ممن يلعب بالشطرنج يجري بينهم من اللجاج والحلف الكاذب والغفلة عن الله تعالى ما ينفر منه الفيل وتكبو له الفرس ويصوح من سمومه الرخ بل يتساقط ريشه ويحار لشناعته بيذق الفهم ويضطرب فرزين العقل ويموت شاه القلب وتسود رقعة الأعمال، وتخصيص الخمر والميسر بإعادة الذكر وشرح ما فيهما من الوبال للتنبيه على أن المقصود بيان حالهما وذكر الأنصاب والأزلام للدلالة على أنهما مثلهما في الحرمة والشرارة كما يشعر بذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح من الأخبار «الصادحة» بمزيد ذمهما والحط على مرتكبهما‏.‏

وخص الصلاة من الذكر بالإفراد بالذكر مع أن الذي يصد عنه يصد عنها لأنه من أركانها تعظيماً لها كما في ذكر الخاص بعد العام وإشعاراً بأن الصاد عنها كالصاد عن الإيمان لما أنها عماده والفارق بينه وبين الكفر إذ التصديق القلبي لا يطلع عليه وهي أعظم شعائره المشاهدة في كل وقت ولذا طلبت فيها الجماعة ليشاهدوا الإيمان ويشهدوا به، ففي الكلام إشارة إلى أن مراد اللعين ومنتهى آماله من تزيين تعاطي شرب الخمر واللعب بالميسر الايقاع في الكفر الموجب للخلود معه في النار وبئس القرار‏.‏

ثم إنه سبحانه أعاد الحث على الانتهاء بصيغة الاستفهام الانكاري مع الجملة الاسمية مرتباً على ما تقدم من أصناف الصوارف فقال جل شأنه‏:‏ ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ إيذاناً بأن الأمر في الردع والمنع قد بلغ الغاية وأن الأعذار قد انقطعت بالكلية حتى إن العاقل إذا خلي ونفسه بعد ذلك لا ينبغي أن يتوقف في الانتهاء‏.‏ ووجه تلك التأكيدات أن القوم رضي الله تعالى عنهم كما قيل كانوا مترددين في التحريم بعد نزول آية البقرة ‏(‏912‏)‏ ولذا قال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ «اللهم بين لنا في ذلك بياناً شافياً» فنزلت هذه الآية، ولما سمع عمر رضي الله تعالى عنه ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ‏}‏ قال‏:‏ «انتهينا يا رب»، وأخرج عبد بن حميد عن عطاء قال‏:‏ أول ما نزل في تحريم الخمر

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 219‏]‏ الآية، فقال بعض الناس‏:‏ نشربها لمنافعها التي فيها، وقال آخرون‏:‏ لا خير في شيء فيه إثم ثم نزل ‏{‏يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏ الآية فقال بعض الناس‏:‏ نشربها ونجلس في بيوتنا، وقال آخرون لا خير في شيء يحول بيننا وبين الصلاة مع المسلمين فنزلت‏:‏ ‏{‏تَشْكُرُونَ يَأَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر‏}‏ الآية فانتهوا‏.‏ وأخرج عن قتادة قال‏:‏ ذكر لنا أن هذه الآية لنا نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن الله سبحانه قد حرم الخمر فمن كان عنده شيء فلا يطعمه ولا تبيعوها» فلبث المسلمون زمانا يجدون ريحها من طرق المدينة مما أهراقوا منها‏.‏ وأخرج عن الربيع أنه قال لما نزلت آية البقرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن ربكم يقدم في تحريم الخمر» ثم نزلت آية بالمائدة فحرمت الخمر عند ذلك‏.‏ وقد تقدم في آية البقرة شيء من الكلام في هذا المقام فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏92‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ عطف على «اجتنبوه» أي أطيعوهما في جميع ما أمرا به ونهيا عنه ويدخل فيه أمرهما ونهيهما في الخمر والميسر دخولاً أولياً ‏{‏واحذروا‏}‏ أي مخالفتهما في ذلك وهذا مؤكد للأمر الأول، وجوز أن يكون المراد أطيعوا فيما أمرا واحذروا عما نهيا فلا تأكيد‏.‏ وجوز أيضاً أن لا يقدر متعلق للحذر أي وكونوا حاذرين خاشين وأمروا بذلك لأنهم إذا حذروا دعاهم الحذر إلى اتقاء كل سيئة وعمل كل حسنة ‏{‏فَإِن تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أي أعرضتهم ولم تعملوا بما أمرتم به ‏{‏فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين‏}‏ أي ولم يأل جهداً في ذلك فقامت عليكم الحجة وانتهت الأعذار وانقطعت العلل ولم يبق بعد ذلك إلا العقاب‏.‏ وفي هذا كما قال الطبرسي وغيره من التهديد وشدة الوعيد ما لا يخفى، وقيل‏:‏ إن المعنى فاعلموا أنكم لن تضروا بتوليتكم الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه ما كلف إلا البلاغ المبين بالآيات وقد فعل وإنما ضررتم أنفسكم حين أعرضتم عما كلفتموه وليس بشيء إذ لا يتوهم منهم ادعاء الضرر بتوليتهم حتى يرد عليهم‏.‏ ومثل ذلك ما قيل‏:‏ إن المعنى فإن توليتم فلا تطمعوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يهملكم لأن ما على الرسول إلا البلاغ المبين فلا يجوز له ترك البلاغ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآَمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏93‏)‏‏}‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ‏}‏ أي إئم وحرج ‏{‏فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتقوا وَءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ثُمَّ اتَّقَواْ وَءامَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ قيل‏:‏ لما نزل تحريم الخمر والميسر قالت الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏:‏ كيف بمن شربها من إخواننا الذين ماتوا وهم قد شربوا الخمر وأكلوا الميسر‏؟‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقيل‏:‏ إنها نزلت في القوم الذين حرموا على نفوسهم اللحوم وسلكوا طريق الترهب كعثمان بن مظعون وغيره والأول هو المختار، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأنس بن مالك والبراء بن عازب ومجاهد وقتادة والضحاك وخلق آخرين‏.‏ وللمفسرين في معنى الآية كلام طويل الذيل فنقل الطبرسي والعهدة عليه عن تفسير أهل البيت أن ‏(‏ما‏)‏ عبارة عن المباحات، واختاره غير واحد من المتأخرين‏.‏ وتعقب بأنه يلزم عليه تقييد إباحتها باتقاء ما عداها من المحرمات لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذَا مَا اتقوا‏}‏ واللازم منتف بالضرورة فهي سواء كانت موصولة أو موصوفة على عمومها وإنما تخصصت بذلك القيد الطارىء عليها، والطعم كالطعام يستعمل في الأكل والشرب كما تقدمت إليه الإشارة‏.‏

والمعنى ليس عليهم جناح فيما تناولوه من المأكول والمشروب كائناً ما كان إذا اتقوا أن يكون في ذلك شيء من المحرم واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة وإلا لم يكن نفي الجناح في كل ما طعموه بل في بعضه، ولا محذور في هذا إذ اللازم منه تقييد إباحة الكل بأن لا يكون فيه محرم لا تقييد إباحة بعضه باتقاء بعض لآخر منه كما هو اللازم مما عليه الجماعة‏.‏ و‏{‏اتقوا‏}‏ الثاني عطف على نظيره المتقدم داخل معه في حيز الشرط‏.‏ والمراد اتقوا ما حرم عليهم بعد ذلك مع كونه مباحاً فيما سبق، والمراد بالإيمان المعطوف عليه إما الإيمان بتحريمه وتقديم الاتقاء عليه إما للاعتناء به أو لأنه الذي يدل على التحريم الحادث الذي هو المؤمن به، وإما الاستمرار على الإيمان بما يجب الإيمان به ومتعلق الاتقاء ثالثاً ما حرم عليهم أيضاً بعد ذلك مما كان مباحاً من قبل على أن المشروط بالاتقاء في كل مرة إباحة ما طعموه في ذلك الوقت لا إباحة ما طعموه قبله لانتساخ إباحة بعضه حينئذ وأريد بالإحسان فعل الأعمال الحسنة الجميلة المنتظمة بجميع ما ذكر من الأعمال القلبية والقالبية‏.‏

وليس تخصيص هذه المراتب بالذكر لتخصيص الحكم بها بل لبيان التعدد والتكرار بالغاً ما بلغ، والمعنى أنهم إذا اتقوا المحرمات واستمروا على ما هم عليه من الإيمان والأعمال الصالحة وكانوا في طاعة الله تعالى ومراعاة أوامره ونواهيه بحيث كلما حرم عليهم شيء من المباحات اتقوه ثم وثم فلا جناح عليهم فيما طعموه في كل مرة من المآكل والمشارب إذ ليس فيها شيء محرم عند طعمه قاله مولانا شيخ الإسلام، ثم قال‏:‏ وأنت خبير بأن ما عدا اتقاء المحرمات من الصفات الجميلة المذكورة لا دخل لها في انتفاء الجناح وإنما ذكرت في حيز إذا شهادة باتصاف الذين سئل عن حالهم بها ومدحاً لهم بذلك وحمداً لأحوالهم، وقد أشير إلى ذلك حيث جعلت تلك الصفات تبعاً للاتقاء في كل مرة تميزاً بينها وبين ما له دخل في الحكم فإن مساق النظم الكريم بطريق العبارة وإن كان لبيان حال المتصفين بما ذكر من النعوت فيما سيأتي من الزمان بقضية ‏{‏إِذَا مَا‏}‏ لكنه قد أخرج مخرج الجواب عن حال الماضين لإثبات الحكم في حقهم ضمن التشريع الكلي على الوجه البرهاني بطريق دلالة النص بناء على كمال اشتهارهم بالاتصاف بها فكأنه قيل‏:‏ ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا كانوا في طاعته تعالى مع ما لهم من الصفات الحميدة بحيث كلما أمروا بشيء تلقوه بالامتثال، وإنما كانوا يتعاطون الخمر والميسر في حياتهم لعدم تحريمهما إذ ذاك ولو حرما في عصرهم لاتقوهما بالمرة انتهى‏.‏

ومما يدل على أن الآية للتشريع الكلي ما أخرجه مسلم والترمذي والنسائي وغيرهم عن ابن مسعود قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ‏}‏ الآية قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «قيل لي أنت منهم» وقيل‏:‏ إن ما في حيز الشرط من الاتقاء وغيره إنما ذكر على سبيل المدح والثناء للدلالة على أن القوم بتلك الصفة لأن المراد بما المباحات، ونفي الجناح في تناول المباح الذي لم يحرم لا يتقيد بشرط، وقال علي بن الحسين النقيب المرتضى‏:‏ إن المفسرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الذي تضمنته هذه الآية وظنوا أنه المشكل فيها وتركوا ما هو أشد إشكالاً من ذلك وهو أنه تعالى نفى الجناح عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتقاء والإيمان والعمل الصالح مع أن المباح لو وقع من الكافر لا إثم عليه ولا وزر‏.‏ ولنا في حل هذه الشبهة طريقان، أحدهما أن يضم إلى المشروط المصرح بذكره غيره حتى يظهر تأثير ما شرط فيكون تقدير الآية ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا وغيره إذا ما اتقوا الخ لأن الشرط في نفي الجناح لا بد من أن يكون له تأثير حتى يكون متى انتفى ثبت الجناح، وقد علمنا أن باتقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم فهو الشرط الذي لا زيادة عليه، ولما ولى ذكر الاتقاء الإيمان والعمل الصالح ولا تأثير لهما في نفي الجناح علمنا أنه أضمر ما تقدم ذكره ليصح الشرط ويطابق المشروط لأن من اتقى الحرام فيما يطعم لا جناح عليه فيما يطعم ولكنه قد يصح أن يثبت عليه الجناح فيما أخل به من واجب وضيعه من فرض فإذا شرطنا الإيمان والعمل الصالح ارتفع عنه الجناح من كل وجه، وليس بمنكر حذف ما ذكرناه لدلالة الكلام عليه فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى ويكون قوة الدلالة عليه مغنية عن النطق به، ومنه قول الشاعر

‏:‏ تراه كأن الله يجدع أنفه *** وعينيه إن مولاه بات له وفر

فإنه لما كان الجدع لا يليق بالعين وكانت معطوفة على الأنف الذي يليق الجدع به أضمر ما يليق بالعين من البخص وما يجري مجراه‏.‏ الطريق الثاني أن يجعل الإيمان والعمل الصالح ليس شرطاً حقيقياً وإن كان معطوفاً على الشرط فكأنه تعالى لما أراد أن يبين وجوب الإيمان وما عطف عليه عطفه على ما هو واجب من اتقاء المحارم لاشتراكهما في الوجوب وإن لم يشتركا في كونهما شرطاً في نفي الجناح فيما يطعم وهذا توسع في البلاغة يحار فيه العقل استحساناً واستغراباً انتهى‏.‏ ولا يخفى ما في الطريق الثاني من البعد وإن الطريق الأول حزن فإن مثل هذا الحذف مع ما زعمه من القرينة لا يكاد يوجد في الفصيح في أمثال هذه المقامات، وليس ذلك كالبيت الذي ذكره فإنه من باب

علفتها تبنا وماء باردا *** وهو مما لا كلام لنا فيه وأين البيض من الباذنجان‏.‏ وقيل في الجواب أيضاً عن ذلك‏:‏ إن المؤمن يصح أن يطلق عليه بأنه لا جناح عليه والكافر مستحق للعقاب مغمور به يوم الحساب فلا يطلق عليه ذلك، وأيضاً إن الكافر قد سد على نفسه طريق معرفة التحليل والتحريم فلذل يخص المؤمن بالذكر ولا يخفى ما فيه‏.‏

وقال عصام الملة‏:‏ الأظهر أن المراد أنه لا جناح فيما طعموا مما سوى هذه المحرمات إذا ما اتقوا ولم يأكلوا فوق الشبع ولم يأكلوا من مال الغير، وذكر الإيمان والعمل الصالح للإيذان بأن الاتقاء لا بد له منهما فإن من لا إيمان له لا يتقي وكذا من لا عمل صالح له فضمهما إلى الإيمان لأنهما ملاك الاتقاء، وتكرير التقوى والثبات على الإيمان للإشارة إلى أن ثبات نفي الجناح فيما يطعم على ثبات التقوى، وترك ذكر العمل الصالح ثانياً للإشارة إلى أن الإيمان بعد التمرن على العمل لا يدع أن يترك العمل‏.‏ وذكر الإحسان بعد للإشارة إلى أن كثرة مزاولة التقوى والعمل الصالح ينتهي إلى الإحسان وهو أن تعبد الله تعالى كأنك تراه إلى آخر ما في الخبر انتهى‏.‏ وفيه الغث والسمين‏.‏

وكلامهم الذي أشار إليه المرتضى في إيضاح وجه التكرير كثير فقال أبو علي الجبائي‏:‏ إن الشرط الأول‏:‏ يتعلق بالزمان الماضي‏.‏

الثاني‏:‏ يتعلق بالدوام على ذلك والاستمرار على فعله‏.‏ والثالث‏:‏ يختص بمظالم العباد وبما يتعدى إلى الغير من الظلم والفساد‏.‏ واستدل على اختصاص الثالث بذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏ فإن الإحسان إذا كان متعدياً وجب أن تكون المعاصي التي أمروا باتقائها قبله أيضاً متعدية وهو في غاية الضعف إذ لا تصريح في الآية بأن المراد بالإحسان الإحسان المتعدي ولا يمتنع أن يراد به فعل الحسن والمبالغة فيه وإن خص الفاعل ولم يتعد إلى غيره كما يقولون لمن بالغ في فعل الحسن أحسنت وأجملت، قم لو سلم أن المراد به الإحسان المتعدي فلم لا يجوز أن يعطف فعل متعد على فعل لا يتعدى‏.‏ ولو صرح سبحانه فقال‏:‏ اتقوا القبائح كلها وأحسنوا إلى الناس لم يمتنع وذلك ظاهر، وقيل‏:‏ إن الاتقاء الأول هو اتقاء المعاصي العقلية التي تخص المكلف ولا تتعداه‏.‏ والإيمان الأول الإيمان بالله تعالى وبما أوجب الإيمان به والإيمان بقبح هذه المعاصي ووجوب تجنبها والاتقاء الثاني هو اتقاء المعاصي السمعية والإيمان الثاني هو الإيمان بقبحها ووجوب تجنبها‏.‏ والاتقاء الثالث يختص بمظالم العباد وهو كما ترى، وقيل‏:‏ المراد بالأول اتقاء ما حرم عليهم أولاً مع الثبات على الإيمان والأعمال الصالحة إذ لا ينفع الاتقاء بدون ذلك‏.‏ وبالثاني اتقاء ما حرم عليهم بعد ذلك من الخمر ونحوه والإيمان التصديق بتحريم ذلك‏.‏ وبالثالث الثبات على اتقاء جميع ذلك من السابق والحادث مع تحري الأعمال الجميلة‏.‏ وهذا مراد من قال‏:‏ إن التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة، وقيل‏:‏ إنه باعتبار المراتب الثلاث للتقوى المبدأ والوسط والمنتهى وقد مر تفصيلها، وقيل‏:‏ باعتبار الحالات الثلاث بأن يتقي الله تعالى ويؤمن به في السر ويجتنب ما يضر نفسه من عمل واعتقاد ويتقي الله تعالى ويؤمن به علانية ويجتنب ما يضر الناس ويتقي الله تعالى ويؤمن به بينه وبين الله تعالى بحيث يرفع الوسائط وينتهي إلى أقصى المراتب‏.‏ ولما في هذه الحالة من الزلفى منه تعالى ذكر الإحسان فيها بناء على أنه كما فسره صلى الله عليه وسلم في الخبر الصحيح «أن تعبد الله تعالى كأنك تراه» وقيل‏:‏ باعتبار ما يتقي فإنه ينبغي أن يترك المحرمات توقياً من العقاب والشبهات توقياً من الوقوع في الحرام‏.‏ وبعض المباحات حفظاً للنفس عن الخسة وتهذيباً لها عن دنس الطبيعة، وقيل‏:‏ المراد بالأول اتقاء الكفر وبالثاني اتقاء الكبائر وبالثالث اتقاء الصغائر، وقيل‏:‏ إن التكرير لمجرد التأكيد ويجوز فيه العطف بثم كما صرح به ابن مالك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التكاثر‏:‏ 3، 4‏]‏ ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال غير مناسبة للمقام، وذكر العلامة الطيبي أن معنى الآية أنه ليس المطلوب من المؤمنين الزهادة عن المستلذات وتحريم الطيبات وإنما المطلوب منهم الترقي في مدارج التقوى والإيمان إلى مراتب الإخلاص واليقين ومعارج القدس والكمال وذلك بأن يثبتوا على الاتقاء عن الشرك وعلى الإيمان بما يجب الإيمان به وعلى الأعمال الصالحة لتحصل الاستقامة التامة التي يتمكن بها إلى الترقي إلى مرتبة المشاهدة ومعارج أن تعبد الله تعالى كأنك تراه وهو المعني بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏ الخ وبها يمنح الزلفى عند الله تعالى ومحبته سبحانه المشار إليها بقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏‏.‏

وفي هذا النظم نتيجة مما رواه الترمذي وابن ماجه من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد أن تكون بما بيد الله تعالى أوثق منك بما في يدك انتهى»‏.‏ وهو ظاهر جدا على تقدير أن تكون الآية في القوم الذين سلكوا طريق الترهب وهو قول مرجوح فتدبر‏.‏ وجملة ‏{‏والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ على سائر التقادير تذييل مقرر لمضمون ما قبله أبلغ تقرير، وذكر بعضهم أنه كان الظاهر والله يحب هؤلاء فوضع المحسنين موضعه إشارة إلى أنهم متصفون بذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏94‏)‏‏}‏

‏{‏المحسنين ياأيها الذين ءامَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله‏}‏ جواب قسم محذوف أي والله ليعاملنكم معاملة من يختبركم ليتعرف حالكم ‏{‏بِشَىْء مّنَ الصيد‏}‏ أي مصيد البر كما قال الكلبي مأكولاً كان أو غير ماكول ما عدا المستثنيات كما سيأتي إن شاء الله تعالى فاللام للعهد‏.‏ والآية كما أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل نزلت في عمرة الحديبية حيث ابتلاهم الله تعالى بالصيد وهم محرمون فكانت الوحوش تغشاهم في رحالهم وكانوا متمكنين من صيدها أخذاً بأيديهم وطعناً برماحهم وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم‏}‏ فهموا بأخذها فنزلت‏.‏ وعن ابن عباس ومجاهد وهو المروي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه أن الذي تناله الأيدي فراخ الطير وصغار الوحش والبيض والذي تناله الرماح الكبار من الصيد‏.‏ واختار الجبائي أن المراد بما تناله الأيدي والرماح صيد الحرم مطلقاً لأنه كيفما كان يأنس بالناس ولا ينفر منهم كما ينفر في الحل، وقيل‏:‏ ما تناله الأيدي ما يتأتى ذبحه وما تناله الرماح ما لا يتأتى ذبحه، وقيل‏:‏ المراد بذلك ما قرب وما بعد، وذكر ابن عطية أن الظاهر أنه سبحانه خص الأيدي بالذكر لأنها أعظم تصرفاً في الاصطياد وفيها يدخل الجوارح والحبالات وما عمل بالأيدي من فخاخ وأشباك‏.‏ وخص الرماح بالذكر لأنها أعظم ما يجرح به الصيد ويدخل فيها السهم ونحوه‏.‏ وتنكير «شيء» كما قال غير واحد للتحقير المؤذن بأن ذلك ‏(‏ليس‏)‏ من الفتن الهائلة التي تزل فيها أقدام الراسخين كالابتلاء بقتل الأنفس وإتلاف الأموال وإنما هو من قبيل ما ابتلي به أهل أيلة من صيد البحر‏.‏ وفائدته التنبيه على أن من لم يثبت في مثل هذا كيف يثبت عند شدائد المحن‏.‏ فمن بيانية أي بشيء حقير هو الصيد‏.‏

واعترضه ابن المنير «بأنه قد وردت هذه الصيغة بعينها في الفتن العظيمة كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مّنَ الاموال والانفس والثمرات وَبَشّرِ الصابرين‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 551‏]‏ فالظاهر والله تعالى أعلم أن من للتبعيض، والمراد بما يشعر به اللفظ من التقليل والتبعيض التنبيه على أن جميع ما يقع الابتلاء به من هذه البلايا بعض من كل بالنسبة إلى مقدور الله تعالى وأنه تعالى قادر على أن يجعل ما يبتليهم به من ذلك أعظم مما يقع وأهول وأنه مهما اندفع عنهم ما هو أعظم في المقدور فإنما يدفعه عنهم إلى ما هو أخف وأسهل لطفاً بهم ورحمة ليكون هذا التنبيه باعثاً لهم على الصبر وحاملاً على الاحتمال‏.‏ والذي يرشد إلى هذا سبق الإخبار بذلك قبل حلوله لتوطين النفوس عليه فإن المفاجأة بالشدائد شديدة الألم والإنذار بها قبل وقوعها مما يسهل موقعها‏.‏

وإذا فكر العاقل فيما يبتلى به من أنواع البلايا وجد المندفع منها عنه أكثر مما وقع فيه بإضعاف لا تقف عنده غاية فسبحانه اللطيف بعباده» انتهى‏.‏

وتعقبه مولانا شهاب الدين بأن ما ذكر بعينه أشار إليه الشيخ في «دلائل الاعجاز» لأن شيئاً إنما يذكر لقصد التعميم نحو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 44‏]‏ أو الإبهام وعدم التعيين أو التحقير لادعا أنه لحقارته لا يعرف‏.‏ وهنا لو قيل‏:‏ ليبلونكم بصيد تم المعنى فإقحامها لا بد له من نكتة وهي ما ذكر، وأما ما أورده من الآية الأخرى فشاهد له لا عليه لأن المقصود فيه أيضاً التحقير بالنسبة إلى ما دفعه الله تعالى عنهم كما صرح به المعترض نفسه مع أنه لا يتم الاعتراض به إلا إذا كان ‏{‏وَنَقْصٍ‏}‏ معطوفاً على مجرور من لو عطف على شيء لكان مثل هذه الآية بلا فرق انتهى‏.‏ وقال عصام الملة‏:‏ يمكن أن يقال‏:‏ التعبير بالشيء للإبهام المكنى به عن العظمة والتنوين للتعظيم أي بشيء عظيم في مقام المؤاخذة بهتكه إذا آخذ الله تعالى المبتلى به في الأمم السابقة بالمسخ والجعل قردة وخنازير ثم استظهر أن التعبير بذلك لافادة البعضية، ومما قدمنا يعلم ما فيه‏.‏ وقرأ إبراهيم «يناله أيديكم» بالياء‏.‏

‏{‏لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب‏}‏ أي ليتعلق علمه سبحانه بمن يخافه بالفعل فلا يتعرض للصيد فإن علمه تعالى بأنه سيخافه وإن كان متعلقاً به لكن تعلقه بأنه خائف بالفعل وهو الذي يدور عليه أمر الجزاء إنما يكون عند تحقق الخوف بالفعل، وإلى هذا يشير كلام البلخي‏.‏ والغيب مصدر في موضع اسم الفاعل أي يخافه في الموضع الغائب عن الخلق فالجار متعلق بما قبله‏.‏ وجوز أبو البقاء أن يكون في موضع الحال من من أو من ضمير الفاعل في ‏{‏يَخَافُهُ‏}‏ أي يخافه غائباً عن الخلق‏.‏ وقال غير واحد‏:‏ العلم مجاز عن وقوع المعلوم وظهوره‏.‏ ومحصل المعنى ليتميز الخائف من عقابه الأخروي وهو غائب مترقب لقوة إيمانه فلا يتعرض للصيد من لا يخافه كذلك لضعف إيمانه فيقدم عليه، وقيل‏:‏ إن هناك مضافاً محذوفاً، والتقدير ليعلم أولياء الله تعالى و‏(‏ من‏)‏ على كل تقدير موصولة، واحتمال كونها إستفهامية أي ليعلم جواب من يخافه أي هذا الاستفهام بعيد‏.‏ وقرىء ‏(‏ليعلم‏)‏ من الإعلام على حذف المفعول الأول أي ليعلم الله عباده الخ، وإظهار الاسم الجليل في موقع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة‏.‏

‏{‏فَمَنِ اعتدى‏}‏ أي تجاوز حد الله تعالى وتعرض للصيد ‏{‏بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ الإعلام وبيان أن ما وقع ابتلاء من جهته سبحانه لما ذكر من الحكمة‏.‏ وقيل‏:‏ بعد التحريم والنهي، ورد بان النهي والتحريم ليس أمراً حادثاً ترتب عليه الشرطية بالفاء، وقيل‏:‏ بعد الابتلاء ورد بان الابتلاء نفسه لا يصلح مدار التشديد والعذاب بل ربما يتوهم كونه عذراً مسوغاً لتحقيقه‏.‏

وفسر بعضهم الابتلاء بقدرة المحرم على المصيد فيما يستقبل، وقال‏:‏ ليس المراد به غشيان الصيود إياهم فإنه قد مضى، وأنت تعلم أن إرادة ذلك المعنى ليست في حيز القبول والمعول عليه ما أشرنا إليه أي فمن تعرض للصيد بعد ما بينا أن ما وقع من كثرة الصيد وعدم توحشه منهم ابتلاء مؤد إلى تعلق العلم بالخائف بالفعل أو تميز المطيع من العاصي‏.‏

‏{‏فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ لأن التعرض والاعتداء حينئذ مكابرة محضة وعدم مبالاة بتدبير الله تعالى وخروج عن طاعته وانخلاع عن خوفه وخشيته بالكلية، ومن لا يملك زمام نفسه ولا يراعي حكم الله تعالى في أمثال هذه البلايا الهينة لا يكاد يراعيه في عظائم المداحض‏.‏ والمتبادر على ما قيل‏:‏ أن هذا العذاب الأليم في الآخرة، وقيل‏:‏ هو في الدنيا‏.‏ فقد أخرج ابن أبي حاتم من طريق قيس بن سعد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ هو أن يوسع ظهره وبطنه جلداً ويسلب ثيابه وكان الأمر كذلك في الجاهلية أيضاً، وقيل‏:‏ المراد بذلك عذاب الدارين وإليه ذهب شيخ الإسلام‏.‏ ومناسبة الآية لما قبلها على ما ذكره الأجهوري أنه سبحانه لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وجعلهما حرامين، وإنما أخرج بعد من الطيبات ما يحرم في حال دون حال وهو الصيد، ثم إنه عز اسمه شرع في بيان ما يتدارك به الاعتداء من الأحكام إثر بيان ما يلحقه من العذاب

‏[‏بم فقال عز من قائل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ ‏(‏95‏)‏‏}‏

‏{‏أَلِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ والتصريح بالنهي مع كونه معلوماً لا سيما من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيْرَ مُحِلّى الصيد وَأَنتُمْ حُرُمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه، واللام في ‏{‏الصيد‏}‏ للعهد حسبما سلف، وإطلاقه على غير المأكول شائع، وإلى التعميم ذهبت الإمامية، وأنشدوا لعلي كرم الله تعالى وجهه‏:‏ صيد الملوك ثعالب وأرانب *** وإذا ركبت فصيدي الأبطال

وخصه الشافعية بالمأكول قالوا‏:‏ لأنه الغالب فيه عرفا، وأيد ذلك بما رواه الشيخان «خمس يقتلن في الحل والحرم‏:‏ الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور»‏.‏ وفي رواية لمسلم «والحية» بدل العقرب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة البحث‏.‏ والحرم جمع حرام كردح جمع رداح والحرام والمحرم بمعنى والمراد به من أحرم بحج أو عمرة وإن كان في الحل وفي حكمه من كان في الحرم وإن كان حلالاً، وقيل‏:‏ المراد به من كان في الحرم وإن لم يكن محرماً بنسك وفي حكمه المحرم وإن كان في الحل، وقال أبو علي الجبائي‏:‏ الآية تدل على تحريم قتل الصيد على المحرم بنسك أينما كان وعلى من في الحرم كيفما كان معا، وقال علي بن عيسى‏:‏ لا تدل إلا على تحريم ذلك على الأول خاصة، ولعل الحق مع علي لا مع أبيه، وذكر القتل دون الذبح ونحوه للإيذان بأن الصيد وإن ذبح في حكم الميتة، وإلى ذلك ذهب الإمام الأعظم وأحمد ومالك رضي الله تعالى عنهم، وهو القول الجديد للشافعي رضي الله تعالى عنه، وفي القديم لا يكون في حكم الميتة ويحل أكله للغير ويحرم على المحرم‏.‏

‏{‏وَمَن قَتَلَهُ‏}‏ كائناً ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ حال كونه ‏{‏مُّتَعَمّداً‏}‏ أي ذاكر لإحرامه عالماً بحرمة قتل ما يقتله ومثله من قتله خطأ للسنة‏.‏ فقد أخرج ابن جرير عن الزهري قال‏:‏ نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في الخطأ‏.‏ وأخرج الشافعي وابن المنذر عن عمرو بن دينار قال‏:‏ رأيت الناس أجمعين يغرمون في الخطأ، وقال بعضهم‏:‏ التقييد به بالعمد لأنه الأصل والخطأ ملحق به قياساً‏.‏ واعترض بأن القياس في الكفارات مختلف فيه، والحنفية لا تراه، وقيل‏:‏ التقييد به لأنه المورد، فقد روي أنه عن لهم حمار وحشي فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له‏:‏ قتلته وأنت محرم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك فأنزل الله تعالى الآية‏.‏ واعترض بأن الخبر على تقدير ثبوته إنما يدل على أن القتل من أبي اليسر كان عن قصد وهو غير العمد بالمعنى السابق إذ قد أخذ فيه العلم بالتحريم، وفعل أبي اليسر خال عن ذلك بشهادة الخبر إذ يدل أيضاً على أن حرمة قتل المحرم الصيد علمت بعد نزول الآية‏.‏

وأجيب بأنا لا نسلم أن أبا اليسر لم يكن عالماً بالحرمة إذ ذاك‏.‏ فقد روي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الصيد كان حراماً في الجاهلية حيث كانوا يضربون من قتل صيداً ضرباً شديداً، والمعلوم من الآية كون ذلك من شرعنا، وقيل‏:‏ إن العلم بالحرمة جاء من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏غَيْرَ مُحِلّى الصيد‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 1‏]‏ ولعله أولى‏.‏ وعن داود أنه لا شيء في الخطأ أخذاً بظاهر الآية‏.‏ وروى ابن المنذر ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن جبير وطاوس‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن سيرين قال‏:‏ من قتله ناسياً لإحرامه فعليه الجزاء ومن قتله متعمداً لقتله غير ناس لإحرامه فذاك إلى الله تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له‏.‏ وأخرج ابن جرير عن الحسن ومجاهد نحو ذلك، و‏{‏مِنْ‏}‏ يجوز أن تكون شرطية وهو الظاهر؛ ويجوز أن تكون موصولة‏.‏

والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَزَاء مّثْلُ نَفْسُهُ قَتْلَ‏}‏ جزائية على الأول وزائدة لشبه المبتدأ بالشرط الثاني‏.‏ و‏(‏ جزاء‏)‏ بالرفع والتنوين مبتدأ و‏{‏مَثَلُ‏}‏ مرفوع على أنه صفته والخبر محذوف أي فعليه، وجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي فواجبه أو فالواجب عليه جزاء مماثل لما قتله‏.‏ وجوز أبو البقاء أن يكون ‏{‏مَثَلُ‏}‏ بدلا؛ والزجاج أن يكون ‏(‏جزاء‏)‏ مبتدأ و‏{‏مَثَلُ‏}‏ خبره إذ التقدير جزاء ذلك الفعل أو المقتول مماثل لما قتله، وبهذا قرأ الكوفيون ويعقوب؛ وقرأ باقي السبعة برفع ‏(‏جزاء‏)‏ مضافاً إلى ‏{‏مَثَلُ‏}‏‏.‏ واستشكل ذلك الواحدي بل قال‏:‏ ينبغي أن لا يجوز لأن الجزاء الواجب للمقتول لا لمثله‏.‏ ولا يخفى أن هذا طعن في المنقول المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم وذلك غاية في الشناعة، وما ذكر مجاب عنه، أما أولا فبأن ‏(‏جزاء‏)‏ كما قيل مصدر مضاف لمفعوله الثاني أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ومفعوله الأول محذوف والتقدير فعليه أن يجزي المقتول من الصيد مثله ثم حذف المفعول الأول لدلالة الكلام عليه وأضيف المصدر إلى الثاني، وقد يقال لا حاجة إلى ارتكاب هذه المؤنة بأن يجعل مصدراً مضافاً إلى مفعوله من غير تقدير مفعول آخر على أن معنى أن يجزي مثل أن يعطي المثل جزاء، وأما ثانياً فبأن تجعل الإضافة بيانية أي جزاء هو مثل ما قتل، وأما ثالثاً فبأن يكون ‏{‏مَثَلُ‏}‏ مقحما كما في قولهم‏:‏ مثلك لا يفعل كذا‏.‏ واعترض هذا بأنه يفوت عليه اشتراط الممائلة بين الجزاء والمقتول وكون جزائه المحكوم به ما يقاومه ويعادله وهو يقتضي الممائلة مما لا يكاد يسلم انفهامه من هذه الجملة كما لا يخفى‏.‏

وقرأ محمد بن مقاتل بتنوين ‏(‏جزاء‏)‏ ونصبه ونصب ‏{‏مَثَلُ‏}‏ أي فليجز جزاء أو فعليه أن يجزي جزاء مثل ما قتل، وقرأ السلمي برفع ‏(‏جزاء‏)‏ منوناً ونصب ‏{‏مَثَلُ‏}‏ أما رفع ‏(‏جزاء‏)‏ فظاهر وأما نصب ‏(‏مثل‏)‏ فبجزاء أو بفعل محذوف دل جزاء عليه أي يخرج أو يؤدي مثل‏.‏ وقرأ عبد الله ‏{‏فَجَزَاؤُهُ‏}‏ برفع جزاء مضافاً إلى الضمير ورفع ‏(‏مثل‏)‏ على الابتداء والخبرية‏.‏ والمراد عند الإمام الأعظم وأبي يوسف المثل باعتبار القيمة يقوم الصيد من حيث إنه صيد لا من حيث ما زاد عليه بالصنع في المكان الذي أصابه المحرم فيه أو في أقرب الأماكن إليه مما يباع فيه ويشرى وكذا يعتبر الزمان الذي أصابه فيه لاختلاف القيم باختلاف الأمكنة والأزمنة فإن بلغت قيمته قيمة هدي يخير الجاني بين أن يشتري بها ما قيمته قيمة الصيد فيهديه إلى الحرم وبين أن يشتري بها طعاماً فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، ولا يجوز أن يطعم مسكيناً أقل من نصف صاع ولا يمنع أن يعطيه أكثر ولو كان كل الطعام غير أنه إن فعل أجزأ عن إطعام مسكين نصف صاع وعليه أن يكمل بحسابه ويقع الباقي تطوعاً وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوماً فإن فضل ما لا يبلغ طعام مسكين تصدق به أو صام عنه يوماً كاملاً لأن الصوم أقل من يوم لم يعهد في الشرع وإن لم تبلغ قيمته قيمة هدي فإن بلغت ما يشتري به طعام مسكين يخير بين الإطعام والصوم وإن لم تبلغ إلا ما يشتري به مدا من الحنطة مثلاً يخير بين أن يطعم ذلك المقدار وبين أن يصوم يوماً كاملاً لما قلنا فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ النعم‏}‏ تفسيراً للهدي المشتري بالقيمة على أحد وجوه التخيير فإن من فعل ذلك يصدق عليه أنه جزى بمثل ما قتل من النعم‏.‏ ونظر فيه صاحب «التقريب» لأن قراءة رفع ‏(‏جزاء‏)‏ و‏(‏ مثل‏)‏ تقتضي أن يكون الجزاء مماثلاً من النعم للصيد فإن كان الجزاء القيمة فليس مماثلاً له منها بل الجزاء قيمة يشتري بها مماثل‏.‏ وأجاب في «الكشف» بأن ما يشتري بالجزاء جزاء أيضاً فإن طعام المساكين جزاء بالإجماع وهو مشترى بالقيمة‏.‏ والحاصل أنه يصدق عليه أنه جزاء وأنه اشترى بالجزاء ولا تنافي بينهما، وادعى صاحب «الهداية» «أن ‏{‏مِنَ النعم‏}‏ بيان لما قتل وأن معنى الآية فجزاء هو قيمة ما قتل من النعم بجعل المثل بمعنى القيمة وحمل النعم على النعم الوحشي لأن الجزاء إنما يجب بقتله لا بقتل الحيوان الأهلي، وقد ثبت كما قال أبو عبيدة والأصمعي أن النعم كما تطلق على الأهلي في اللغة تطلق على الوحشي»، وكان كلام أبي البقاء حيث قال‏:‏ يجوز أن يكون ‏{‏مِنَ النعم‏}‏ حالا من الضمير في ‏{‏قَتْلَ‏}‏ لأن المقتول يكون من النعم مبنياً على هذا، وهو مع بعد إرادته من النظم الكريم خلاف المتبادر في نفسه، فإن المشهور أن النعم في اللغة الإبل والبقر والغنم دون ما ذكر، وقد نص على ذلك الزجاج وذكر أنه إذا أفردت الإبل قيل لها نعم أيضاً وإن أفردت البقرة والغنم لا تسمى نعماً‏.‏

«وقال محمد ونسب إلى الشافعي ومالك والإمامية أيضاً‏:‏ المراد بالمثل والنظير في المنظر فيما له نظير في ذلك لا في القيمة ففي الظبي شاة وفي الضبع شاة وفي الأرنب عناق وفي اليربوع جفرة وفي النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة لأن الله تعالى أوجب مثل المقتول مقيداً بالنعم فمن اعتبر القيمة فقد خالف النص لأنها ليست بنعم ولأن الصحابة كعلي كرم الله تعالى وجهه وعمر وعبد الله بن مسعود وغيرهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين أوجبوا في النعامة بدنة، وفي حمار الوحش بقرة إلى غير ذلك، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه أبو داود ‏"‏ الضبع صيد وفيه شاة ‏"‏ وما ليس له نظير من حيث الخلقة مثل العصفور والحمام تجب فيه القيمة عند محمد كما هو عند الإمام الأعظم وصاحبه، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يعتبر المماثلة من حيث الصفات فأوجب في الحمام شاة لمشابهة بينهما من حيث إن كل واحد منهما يعب ويهدر وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر ومقاتل رضي الله تعالى عنهم، وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال‏:‏ أول من فدى طير الحرم بشاة عثمان رضي الله تعالى عنه، ولأبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله تعالى عنهما أن الله تعالى أطلق المثل والمثل المطلق هو المثل صورة ومعنى وهو المشارك في النوع وهو غير مراد هنا بالإجماع فبقي أن يراد المثل معنى» وهو القيمة وهذا لأن المعهود في الشرع في إطلاق لفظ المثل أن يراد المشارك في النوع أو القيمة فقد قال تعالى في ضمان العدوان‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 194‏]‏ والمراد الأعم منها أعني المماثل في النوع إذا كان المتلف مثلياً والقيمة إذا كان قيمياً بناء على أنه مشترك معنوي، والحيوانات من القيميات شرعاً إهداراً للماثلة الكائنة في تمام الصورة فيها تغليباً للاختلاف الباطني في أبناء نوع واحد فما ظنك إذا انتفى المشاركة في النوع أيضاً فلم يبق إلا مشاكلة في بعض الصورة كطول العنق والرجلين في النعامة مع البدنة ونحو ذلك في غيره فإذا حكم الشرع بانتفاء اعتبار المماثلة مع المشاكلة في تمام الصورة ولم يضمن المتلف بما شاركه في تمام نوعه بل بالمثل المعنوي فعند عدمها وكون المشاكلة في بعض الهيئة انتفاء الاعتبار أظهر إلا أن لا يمكن وذلك بأن يكون للفظ محمل يمكن سواه فالواجب إذا عهد المراد بلفظ في الشرع وتردد فيه في موضع يصح حمله على ذلك المعهود وغيره أن يحمل على المعهود وما نحن فيه كذلك فوجب المصير إليه وأن يحمل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم من الحكم بالنظير على أنه كان باعتبار التقدير بالقيمة إلا أن الناس إذ ذاك لما كانوا أرباب مواش كان الأداء عليهم منها أيسر لا على معنى أنه لا يجزىء غير ذلك، وحديث التقييد بالنعم قد علمت الجواب عنه، وذكر مولانا شيخ الإسلام أن الموجب الأصلي للجناية والجزاء المماثل للمقتول إنما هو قيمته لكن لا باعتبار أن الجاني يعمد إليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء بل باعتبار أن يجعلها معياراً فيقدر بها إحدى الخصال الثلاث فيقيمها مقامها فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّثْلُ مَا قَتَلَ‏}‏ وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال‏.‏

وأما قوله سبحانه ‏{‏مِنَ النعم‏}‏ فوصف له معتبر في ثاني الحال بناء على وصفه الأول الذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلاً عن العطف على الموصوف كما سيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏

ومما يرشد إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهِ‏}‏ أي بمثل ما قتل ‏{‏ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ‏}‏ أي حكمان عدلان من المسلمين لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوي في معرفتها كل أحد من الناس‏.‏ وهذا ظاهر الورود على ظاهر قول محمد‏.‏ وقد يقال‏:‏ إن هذه الجملة مرشدة إلى ما قلنا أيضاً على رأي من يجعل مدار المماثلة بين الصيد والنعم المشاكلة والمضاهاة في بعض الأوصاف والهيآت مع تحقق التباين بينهما في بقية الأحوال فإن ذلك مما لا يهتدي إليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية‏.‏ ألا يرى أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن أسلفنا ذكره أوجبوا في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة في العب والهدير مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون بل السمك والسماك فكيف يفوض معرفة هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلاً‏.‏

وقرأ محمد بن جعفر ‏{‏ذُو عَدْلٍ‏}‏ وخرجها ابن جني على إرادة الإمام، وقيل‏:‏ إن ‏(‏ذو‏)‏ تستعمل استعمال من للتقليل والتكثير، وليس المراد بها هنا الوحدة بل التعدد ويراد منه إثنان لأنه أقل مراتبه، وفي «الهداية» «قالوا‏:‏ والعدل الواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد من الغلط»، وعلى هذا لا حاجة إلى حمل ‏(‏ذو‏)‏ على المتعدد ولا على الإمام بل المراد منها الواحد إماماً كان أو غيره، ومن اشترط الإثنين حمل العدد في الآية على القراءة المتواترة على الأولوية، والجملة صفة لجزاء أو حال من الضمير المستتر في خبره المقدر، وقيل‏:‏ حال منه لتخصيصه بالصفة، وجوز ابن الهمام على قراءة رفع ‏(‏جزاء‏)‏ وإضافته أن تكون صفة لمثل كما أن تكون صفة لجزاء لأن مثلاً لا تتعرف بالإضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَدْياً‏}‏ حال مقدرة من الضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ كما قال الفارسي أو من ‏(‏ جزاء‏)‏ بناء على أنه خبر أو منه على تقدير كونه مبتدأ في رأي أو بدل من ‏{‏مَثَلُ‏}‏ فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أي يهديه هدياً والجملة صفة أخرى لجزاء ‏{‏بالغ الكعبة‏}‏ صفة لهدياً لأن إضافته لفظية ‏{‏أَوْ كَفَّارَةٌ‏}‏ عطف على محل ‏{‏مِنَ النعم‏}‏ على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لجزاء على ما اختاره شيخ الإسلام‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏طَعَامُ مساكين‏}‏ عطف بيان لكفارة عند من يراه كالفارسي في النكرات أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين‏.‏ وقوله سحبانه‏:‏ ‏{‏أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً‏}‏ عطف على ‏{‏طَعَامٌ‏}‏ وذلك إشارة إليه و‏{‏صِيَاماً‏}‏ تمييز‏.‏ وخلاصة الآية كأنه قيل‏:‏ فعليه جزاء أو فالواجب جزاء مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين أو صيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفاً لازماً للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام‏.‏ أما الأولان فبلا واسطة، وأما الثالث‏:‏ فبواسطة الثاني فيختار الجاني كلاً منها بدلاً عن الآخرين، «وكون الاختيار للجاني هو ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف رضي الله تعالى عنهما فعندهما إذا ظهر قيمة الصيد بحكم الحكمين وهي تبلغ هدياً فله الخيار في أن يجعله هدياً أو طعاماً أو صوماً لأن التخيير شرع رفقاً بمن عليه فيكون الخيار إليه ليرتفق بما يختار كما في كفارة اليمين‏.‏ وقال محمد وحكاه أصحابنا عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أيضاً إن الخيار إلى الحكمين في تعيين أحد الأشياء فإن حكما بالهدي يجب النظير على ما مر وإن حكما بالطعام أو الصيام فعلى ما قاله الإمام وصاحبه من اعتبار القيمة من حيث المعنى‏.‏ واستدل كما قيل على ذلك بالآية، ووجهه أنه ذكر الهدي منصوباً على أنه تفسير للضمير المبهم العائد على ‏{‏مَثَلُ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ‏}‏ سواء كان حالاً منه كما قدمنا أو تمييزاً على ما قيل فيثبت أن المثل إنما يصير هدياً باختيارهما وحكمهما أو هو مفعول لحكم الحاكم على أن يكون بدلاً عن الضمير محمولاً على محله كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏قُلْ إِنَّنِى هَدَانِى رَبّى إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 161‏]‏ وفي ذلك تنصيص على أن التعيين إلى الحكمين ثم لما ثبت ذلك في الهدي ثبت في الطعام والصيام لعدم القائل بالفصل لأنه سبحانه عطفهما عليه بكلمة ‏(‏أو‏)‏ وهي عند غير الشعبي والسدي وابن عباس رضي الله تعالى عنهم في رواية للتخيير فيكون الخيار إليهما‏.‏ وأجاب عن ذلك غير واحد من أصحابنا بأن الاستدلال إنما يصح لو كان كفارة معطوفة على ‏{‏هَدْياً‏}‏ وليس كذلك لاختلاف إعرابهما وإنما هي معطوفة على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَزَاء‏}‏ بدليل أنه مرفوع وكذا قوله‏:‏ ‏{‏أَو عَدْلُ‏}‏ الخ فلم يكن في الآية دلالة على اختيار للحكمين في الطعام والصيام وإذا لم يثبت الخيار فيهما للحكمين لم يثبت في الهدي لعدم القائل بالفصل وإنما يرجع إليهما في ‏(‏تقديم‏)‏ المتلف لا غير، ثم الاختيار بعد ذلك إلى من عليه» رفقاً به على أن في توجيه الاستدلال على ما قاله أكمل الدين في «العناية» إشكالاً لأن ذكر الطعام والصيام بكلمة ‏(‏أو‏)‏ لا يفيد المطلوب إلا إذا كان ‏(‏كفارة‏)‏ منصوباً على ما هو قراءة عيسى بن عمر النحوي وهي شاذة، والشافعي لا يرى الاستدلال بالقراءة الشاذة لا من حيث إنها كتاب ولا من حيث إنها خبر كما عرف في الأصول‏.‏

واعترض مولانا شيخ الإسلام على عطف ‏{‏كَفَّارَةُ‏}‏ على ‏(‏جزاء‏)‏ وقد ذهب إليه أجلة المفسرين والفقهاء بأنه لا يبقى حينئذ في النظم الكريم ما يقدر به الطعام والصيام، والالتجاء إلى القياس على الهدي تعسف لا يخفى وقد علمت ما اختاره‏.‏ والآية عليه أيضاً لا تصلح دليلاً على مدعى الخصم كما هو ظاهر على أن الظاهر منها كما قاله ابن الهمام أن الاختيار لمن عليه فإن مرجع ضمير المحذوف من الخبر أو متعلق المبتدأ إليه بناء على أن التقدير فعليه أو فالواجب عليه، «ثم إذا وقع الاختيار على الهدي يهدي ما يجزيه في الأضحية وهو الجذع الكبير من الضأن أو الثني من غيره عند أبي حنيفة لأن مطلق اسم الهدي ينصرف إليه» ‏(‏3‏)‏ كما في هدي المتعة والقران‏.‏ واعترض عليه بأن اسم الهدي قد ينصرف إلى غيره كما إذا قال‏:‏ إذا فعلت كذا فثوبي هذا هدي فليكن في محل النزاع كذلك‏.‏ وأجيب بأن الكلام في مطلق الهدي وما ذكر ليس كذلك لأن الإشارة إلى الثوب قيدته، «وعند محمد يجزىء صغار النعم لأن الصحابة كما تقدم أوجبوا عناقاً وجفرة» ‏(‏3‏)‏ فدل على جواز ذلك في باب الهدي، وعن أبي يوسف روايتان رواية كقول الإمام، وأخرى كقول محمد وهي التي في «المبسوط» و«الأسرار» وغيرهما، «وعند أبي حنيفة يجوز الصغار على وجه الاطعام» ‏(‏3‏)‏ فيجوز أن يكون حكم الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان على هذا الاعتبار فمجرد فعلهم حينئذ لا ينافي ما ذهب إليه الإمام فلا ينتهض حجة عليهم‏.‏

وإذا اختار الهدي وبلغ ما يضحي به فلا يذبح إلا بالحرم وهو المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَدْياً بالغ الكعبة‏}‏ إلا أن ذكر الكعبة للتعظيم‏.‏ ولو ذبحه في الحل لا يجزيه عن الهدي بل عن الإطعام فيشترط أن يعطي كل مسكين قيمة نصف صاع حنطة أو صاع من غيرها، ويجوز أن يتصدق بالشاة الواقعة هدياً على مسكين واحد كما في هدي المتعة ولا يتصدق بشيء من الجزاء على من لا تقبل شهادته له، ويجوز على أهل الذمة والمسلم أحب‏.‏ ولو أكل من الجزاء غرم قيمة ما أكل، ولا يشترط في الإطعام أن يكون في الحرم‏.‏

«ونقلوا عن الشافعي أنه يشترط ذلك اعتباراً له بالهدي والجامع التوسعة على سكان الحرم، ونحن نقول‏:‏ الهدي قربة غير معقولة فيختص بمكان أو زمان أما الصدقة فقربة معقولة في كل زمان ومكان كالصوم فإنه يجوز في غير الحرم بالإجماع فإن ذبح في الكوفة مثلاً أجزأه عن الطعام إذا تصدق باللحم، وفيه وفاء بقيمة الطعام لأن الإراقة لا تنوب عنه»، ولو سرق هذا المذبوح أو ضاع قبل التصدق به بقي الواجب عليه كما كان وهذا بخلاف ما لو كان الذبح في الحرم حيث يخرج عن العهدة‏.‏ وإن سرق المذبوح أو ضاع قبل التصدق به وإذا وقع الاختيار على الطعام يقوم المتلف بالقيمة ثم يشتري بالقيمة طعام ويتصدق به على ما أشرنا إليه أولاً‏.‏ وفي «الهداية» «يقوم المتلف بالطعام عندنا لأنه المضمون فتعتبر قيمته2‏.‏

ونقل حميد الدين الضرير عن محمد أنه يقوم النظير لأنه الواجب عيناً إذا كان للمقتول نظير، وأنت تعلم أنه لو سلم أن النظير هو الواجب عيناً عند اختيار الهدي لم يلزم منه وجوب تقديمه عند اختيار خصلة أخرى فكيف وهو ممنوع، وإن اختار الصيام فعلى ما في «الهداية» يقوم المقتول طعاماً ثم يصوم عن طعام كل مسكين يوماً على ما مر لأن تقدير الصيام بالمقتول غير ممكن إذ لا قيمة للصيام فقدرناه بالطعام، والتقدير على هذا الوجه معهود في الشرع كما في الفدية وتمام البحث في الفروع‏.‏ والكفارة والطعام في الآية على ما يشعر به كلام بعض المفسرين بالمعنى المصدري ولو أبقيا على الظاهر لصح هذا، وما ذكرنا من عطف ‏{‏كَفَّارَةُ‏}‏ إنما هو على قراءة ‏(‏جزاء‏)‏ بالرفع وعلى سائر القراءات يكون خبر مبتدأ محذوف والجملة معطوفة على جملة ‏{‏مِنَ النعم‏}‏‏.‏

وذكر الشهاب أنه يجوز في ‏{‏كَفَّارَةُ‏}‏ على قراءة ‏(‏جزاء‏)‏ بالنصب أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي الواجب عليه كفارة وأن يقدر هناك فعل أي أن يجزىء جزاء فيكون ‏{‏أَوْ كَفَّارَةٌ‏}‏ عطفاً على أن يجزىء وهو مبتدأ مقدم عليه خبره‏.‏ وقرىء ‏{‏أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين‏}‏ على الإضافة لتبيين نوع الكفارة بناء على أنها بمعنى المكفر به وهي عامة تشمل الطعام وغيره، وكذا الطعام يكون كفارة وغيرها فبين المتضايفين عموم وخصوص من وجه كخاتم حديد‏.‏ وقال أبو حيان‏:‏ إن الطعام ليس جنساً للكفارة إلا بتجوز بعيد جداً فالإضافة إنما هي إضافة الملابسة وليس بشيء‏.‏ وقرأ الأعرج ‏{‏أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين‏}‏ على أن التبيين يحصل بالواحد الدال على الجنس‏.‏ وقرىء ‏{‏أَو عَدْلُ‏}‏ بكسر العين، والفرق بينهما أن عدل الشيء كما قال الفراء ما عادله من غير جنسه كالصوم والإطعام وعدله ما عدل به في المقدار كأن المفتوح تسمية بالمصدر والمكسور بمعنى المفعول، وقال البصريون‏:‏ العدل والعدل كلاهما بمعنى المثل سواء كان من الجنس أو من غيره‏.‏ وقال الراغب‏:‏ العدل والعدل متقاربان لكنه بالفتح فيما يدرك بالبصيرة كالأحكام وبالكسر فيما يدرك بالحواس كالعديل فالعدل بالفتح هو التقسيط على سواء‏.‏ وعلى هذا روي بالعدل قامت السموات تنبيهاً على أنه لو كان ركن من الأركان الأربعة في العالم زائداً على الآخر أو ناقصاً عنه على خلاف مقتضى الحكمة لم يكن العالم منتظماً‏.‏

‏{‏لّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ‏}‏ متعلق بالاستقرار الذي تعلق به المقدر، وقيل‏:‏ بجزاء، وقيل‏:‏ بصيام أو بطعام، وقيل‏:‏ بفعل مقدر وهو جوزي أو شرعنا ذلك ونحوه، والوبال في الأصل الثقل ومنه الوابل للمطر الكثير والوبيل للطعام الثقيل الذي لا يسرع هضمه والمرعى الوخيم ولخشبة القصار وضمير ‏{‏أَمَرَهُ‏}‏ إما لله تعالى أو لمن قتل الصيد أي ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتك حرمة ما هو فيه أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى القوي، وعلى هذا لا بد من تقدير مضاف كما أشرنا إليه لأن أمر الله تعالى لا وبال فيه وإنما الوبال في مخالفته‏.‏ ‏{‏عَفَا الله عَمَّا سَلَف‏}‏ لكم من الصيد وأنتم محرمون فلم يجعل فيه إثماً ولم يوجب فيه جزاء أو لم يؤاخذكم على ما كان منكم في الجاهلية من ذلك مع أنه ذنب عظيم أيضاً حيث كنتم على شريعة إسماعيل عليه السلام والصيد محرم فيها، وقد مر رواية التحريم جاهلية والمؤاخذة على قتل الصيد بالضرب الوجيع‏.‏

‏{‏وَمَنْ عَادَ‏}‏ إلى مثل ذلك فقتل الصيد متعمداً وهو محرم ‏{‏فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ‏}‏ أي فهو ينتقم الله تعالى منه لأن الجزاء إذا وقع مضارعاً مثبتاً لم تدخله الفاء ما لم يقدر المبتدأ على المشهور، وكذا المنفي بلا، وجوز السمين أن تكون ‏(‏من‏)‏ موصولة ودخلت الفاء لشبه المبتدأ بالشرط وهي زائدة والجملة بعدها خبر ولا حاجة حينئذ إلى إضمار المبتدأ‏.‏

والمراد بالانتقام التعذيب في الآخرة؛ وأما الكفارة فعن عطاء وإبراهيم وابن جبير والحسن والجمهور أنها واجبة على العائد فيتكرر الجزاء عندهم بتكرر القتل‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وشريح أنه إن عاد لم يحكم عليه بكفارة حتى أنهم كانوا يسألون المستفتي هل أصبت شيئاً قبله‏؟‏ فإن قال‏:‏ نعم لم يحكم عليه وإن قال لا حكم عليه تعلقاً بظاهر الآية‏.‏ وأنت تعلم أن وعيد العائد لا ينافي وجوب الجزاء عليه وإنما لم يصرح به لعلمه فيما مضى، وقيل‏:‏ معنى الآية ومن عاد بعد التحريم إلى ما كان قبله وليس بالبعيد، وأما حمل الانتقام على الانتقام في الدنيا بالكفارة وإن كان محتملاً لكنه خلاف الظاهر‏.‏ وكذا كون المراد ينتقم منه إذا لم يكفر‏.‏ «وقد اختلفوا فيما إذا اضطر محرم إلى أكل الميتة أو الصيد فقال زفر يأكل الميتة لا الصيد لتعدد جهات حرمته عليه، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف‏:‏ يتناول الصيد ويؤدي الجزاء لأن حرمة الميتة أغلط ألا ترى أن حرمة الصيد ترتفع بالخروج من الإحرام فهي مؤقتة بخلاف حرمة الميتة فعليه أن يقصد أخف الحرمتين دون أغلظهما والصيد وإن كان محظور الإحرام لكن عند الضرورة يرتفع الحظر فيقتله ويأكل منه ويؤدي الجزاء كما في «المبسوط»‏.‏ وفي «الخانية» المحرم إذا اضطر إلى ميتة وصيد فالميتة أولى في قول أبي حنيفة‏.‏ ومحمد‏.‏ وقال أبو يوسف والحسن‏:‏ يذبح الصيد ولو كان الصيد مذبوحاً فالصيد أولى عند الكل‏.‏ ولو وجد لحم صيد ولحم آدمي كان لحم الصيد أولى ولو وجد صيداً وكلباً فالكلب أولى لأن في الصيد ارتكاب محظورين‏.‏ وعن محمد الصيد أولى من لحم الخنزير انتهى‏.‏ وفي هذا خلاف ما ذكر في «المبسوط» ‏{‏والله عَزِيزٌ‏}‏ غالب لا يغالب ‏{‏ذُو انتقام‏}‏ شديد فينتقم ممن يتعدى حدوده ويخالف أوامره ويصر على معاصيه‏.‏