فصل: تفسير الآية رقم (96)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏96‏)‏‏}‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمُ‏}‏ أيها المحرمون ‏{‏صَيْدُ البحر‏}‏ أي ما يصاد في الماء بحراً كان أو نهراً أو غديراً وهو ما يكون توالده ومثواه في الماء مأكولاً كان أو غيره كما في «البدائع»‏.‏ وفي «مناسك الكرماني» الذي رخص من صيد البحر للمحرم هو السمك خاصة وأما نحو طيره فلا رخصة فيه له والأول هو الأصح ‏{‏وَطَعَامُهُ‏}‏ أي ما يطعم من صيده وهو عطف على ‏{‏صَيْدُ‏}‏ من عطف الخاص على العام‏.‏ والمعنى أحل لكم التعرض لجميع ما يصاد في المياه والانتفاع به وأكل ما يؤكل منه وهو السمك عندنا وعند ابن أبي ليلى الصيد والطعام على معناهما المصدري وقدر مضافاً في ‏(‏صيد البحر‏)‏ وجعل ضمير ‏{‏طَعَامِهِ‏}‏ راجعاً إليه لا إلى البحر أي أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه وتأكلوه فيحل عنده أكل جميع حيوانات البحر من حيث إنها حيواناته، وقيل‏:‏ المراد بصيد البحر ما صيد ثم مات وبطعامه ما قذفه البحر ميتاً، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن عمر وقتادة قيل‏:‏ المراد بالأول‏:‏ الطري وبالثاني‏:‏ المملوح‏.‏ وسمي طعاماً لأنه يدخر ليطعم فصار كالمقتات به من الأغذية وروي ذلك عن ابن المسيب وابن جرير ومجاهد وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفيه بعد‏.‏ وأبعد منه كون المراد بطعامه ما ينبت بمائه من الزروع والثمار‏.‏ وقرىء ‏{‏وطعمه‏}‏‏.‏

‏{‏أرساها متاعا لَّكُمْ‏}‏ نصب على أنه مفعول له لأحل أي تمتيعاً‏.‏ وجعله في «الكشاف» مختصاً بالطعام كما أن ‏{‏نَافِلَةً‏}‏ في باب الحال من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إسحاق وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 72‏]‏ مختص بيعقوب عليه السلام‏.‏ والذي حمله على ذلك كما قال الشهاب مذهبه وهو مذهب إمامنا الأعظم رضي الله تعالى عنه من أن صيد البحر ينقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل وأن طعامه هو المأكول منه إلا أنه أورد عليه أنه يؤدي إلى أن الفعل الواحد المسند إلى فاعلين متعاطفين يكون المفعول له المذكور بعدهما لأحدهما دون الآخر كقام زيد وعمرو إجلالاً لك على أن الإجلال مختص بقيام أحدهما وفيه إلباس‏.‏ وأما الحال في الآية المذكورة فليست نظيرة لهذا لأن فيه قرينة عقلية ظاهرة لأن النافلة ولد الولد فلا تعلق لها بإسحق لأنه ولد صلب لإبراهيم عليهما السلام‏.‏ وعلى غير مذهب الإمام لا اختصاص للمفعول له بأحدهما وهو ظاهر جلي‏.‏ وقيل‏:‏ نصب على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر أي متعكم به متاعاً، وقيل‏:‏ مؤكد لمعنى ‏{‏أَحَلَّ‏}‏ فإنه في قوة متعكم به تمتيعاً كقوله‏:‏ ‏{‏كتاب الله عَلَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 24‏]‏ وقيل وليس بشيء‏:‏ إنه حال مقدرة من طعام أي مستمتعاً به للمقيمين منكم يأكلونه طرياً ‏{‏وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏ منكم يتزودونه قديداً وهو مؤنث سيار باعتبار الجماعة كما قال الراغب‏.‏

‏{‏وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر‏}‏ وهو ما توالده ومثواه في البر مما هو ممتنع لتوحشه الكائن في أصل الخلقة فيدخل الظبي المستأنس ويخرج البعير والشاة المتوحشان لعروض الوصف لهما، وكون زكاة الظبي المستأنس بالذبح والأهلي المتوحش بالعقر لا ينافيه لأن الذكاة بالذبح والعقر دائران مع الإمكان وعدمه لا مع الصيدية وعدمها‏.‏ واستثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً ففي «الصحيحين» عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح العقرب والفأرة والكلب العقور والغراب والحدأة ‏"‏ وقد تقدم ما في رواية لمسلم وجاء تسميتهن فواسق، وفي «فتح القدير» ويستثنى من صيد البر بعضه كالذئب والغراب والحدأة وأما باقي الفواسق فليست بصيود‏.‏ وأما باقي السباع فالمنصوص عليه في ظاهر الرواية عدم الاستثناء وأنه يجب بقتلها الجزاء ولا يجاوز شاة إن ابتدأها المحرم وإن ابتدأته فلا شيء عليه وذلك كالأسد والفهد والنمر والصقر والبازي، وأما «صاحب البدائع» فيقسم البري إلى مأكول وغيره، والثاني‏:‏ إلى ما يبتدىء بالأذى غالباً كالأسد والذئب والنمر وإلى ما ليس كذلك كالضبع والفهد والثعلب فلا يحل قتل الأول والأخير إلا أن يصول ويحل قتل الثاني ولا شيء فيه وإن لم يصل، وجعل ورود النص في الفواسق وروداً فيها دلالة ولم يحك خلافاً، لكن في «الخانية»‏:‏ وعن أبي يوسف الأسد بمنزلة الذئب‏.‏ وفي ظاهر الرواية السباع كلها صيد إلا الكلب والذئب؛ ولعل استثناء الذئب لذكره في المستثنيات على ما أخرجه أبو شيبة والدارقطني والطحاوي وقيل‏:‏ لأنه المراد بالكلب العقور في الخبر السابق، وقيل‏:‏ لأنه بمعناه فيلحق به دلالة‏.‏ وأما الكلب فقد جاء استثناؤه في الحديث إلا أنه وصف فيه بالعقورية، ولعل الإمام إنما يعتبر الجنس‏.‏ ونظر فيه بأنه يفضي إلى إبطال الوصف المنصوص عليه‏.‏ وأجيب بأنه ليس للقيد بل لإظهار نوع إذائه فإن ذلك طبع فيه، وقال سعدي جلبي‏:‏ لو صح هذا النظر يلزم اعتبار مفهوم الصفة بل سائر المفاهيم وهو خلاف ما في أصولنا، وأما كون السباع كلها صيداً إلا ما استثني ففيه خلاف للشافعي رضي الله تعالى عنه أيضاً فعنده هي داخلة في الفواسق المستثنيات قياساً أو ملحقة بها دلالة لأن الكلب العقور يتناولها لغة‏.‏ وأجاب بعض الأصحاب بأن القياس على الفواسق ممتنع لما فيه من إبطال العدد وكذلك الإلحاق بها دلالة لأن الفواسق مما تعدو علينا للقرب منا والسبع ليس كذلك لبعده عنا فلا يكون في معنى الفواسق ليلحق بها، واسم الكلب وإن تناوله لغة لم يتناوله عرفاً والعرف أقوى وأرجح في هذا الموضع كما في الأيمان لبنائه على الاحتياط، وفيه بحث طويل الذيل فتأمل‏.‏

وأخرج مسلم عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال‏:‏ «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجاً وخرجنا معه فصرف نفراً من أصحابه فيهم أبو قتادة فقال‏:‏ خذوا ساحل البحر حتى تلقوني قال‏:‏ فأخذوا ساحل البحر فلما انصرفوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرموا كلهم إلا أبا قتادة فإنه لم يحرم فبينما هم يسيرون إذ رأوا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً فنزلوا فأكلوا من لحمها قال فقالوا‏:‏ أكلنا لحماً ونحن محرمون قال‏:‏ فحملوا ما بقي من لحم الأتان فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ يا رسول الله إنا كنا أحرمنا وكان أبو قتادة لم يحرم فرأينا حمر وحش فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً فنزلنا فأكلنا من لحمها فقلنا‏:‏ نأكل لحم صيد ونحن محرمون فحملنا ما بقي من لحمها فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ هل معكم أحد أمره أو أشار إليه بشيء‏؟‏ قالوا‏:‏ لا قال‏:‏ فكلوا ما بقي من لحمها»‏.‏ وفي رواية لمسلم أنه‏:‏ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «هل عندكم منه شيء‏؟‏ قالوا‏:‏ معنا رجله فأخذها عليه الصلاة والسلام فأكلها»‏.‏ وحديث جابر مؤول بوجهين الأول‏:‏ كون اللام للملك، والمعنى أن يصاد ويجعل له فيكون مفاده تمليك عين الصيد من المحرم وهو ممتنع أن يتملكه فيأكل من لحمه، والثاني‏:‏ الحمل على أن المراد أن يصاد بأمره وهذا لأن الغالب في عمل الإنسان لغيره أن يكون بطلب منه، والتزام التأويل دفعاً للتعارض كما قال غير واحد‏.‏ وقال ابن الهمام وقد يقال‏:‏ القواعد تقتضي أن لا يحكم بالتعارض بين حديث جابر وبين الخبرين الأولين من هذه الأخبار الثلاثة لأن قول طلحة‏:‏ فأمرنا بأكله مقيد عندنا بما إذا لم يدله المحرم على الصحيح خلافاً لأبي عبد الله الجرجاني ولا أمره بقتله على ما يدل عليه حديث أبي قتادة فيجب تخصيصه بما إذا لم يصد للمحرم بالحديث الآخر‏.‏

وحديث الزبير حاصله نقل وقائع أخبار وهي لا عموم لها فيجوز كون ما كانوا يحملونه من لحوم الصيد للتزويد ما لم يصد لأجل المحرمين بل هو الظاهر لأنهم يتزودونه من الحضر ظاهراً والإحرام بعد الخروج إلى الميقات، فالأولى الاستدلال على أصل المطلوب بحديث أبي قتادة المذكور على وجه المعارضة فإنه أفاد أنه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحله لهم حتى سألهم عن موانع الحل أكانت موجودة أم لا‏؟‏ فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه صلى الله عليه وسلم في سلك ما يسأل عنه منها في التفحص عن الموانع ليجيب بالحل عند خلوه عنها‏.‏

وهذا المعنى كالصريح في نفي كون الاصطياد مانعاً فيعارض حديث جابر ويقدم عليه لقوة ثبوته إذ هو في «الصحيحين» وغيرهما من «الكتب الستة» بخلاف ذلك بل قيل في حديث جابر انقطاع لأن المطلب في سنده لم يسمع من جابر عند غير واحد، وكذا في رجاله من فيه لين، وبعد ثبوت ما ذهبنا إليه بما ذكرنا يقوم دليل على ما ذكر من التأويل انتهى‏.‏ وأنت تعلم أن في حديث جابر أيضاً شيئاً من جهة العربية ولعل الأمر فيه سهل‏.‏ بقي أن حديث الصعب بظاهره يعارض ما استدل به أهل المذهبين الأخيرين، واختار بعض الحنفية في الجواب بأن فيه اضطراباً ليس مثله في حديث قتادة حتى روى عمرو بن أمية الضمري عن أبيه أن الصعب أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم عجز حمار وحش بالجحفة فأكل منه عليه الصلاة والسلام وأكل القوم فكان حديث قتادة أولى وقد وقع ما وقع فيه في الحج كما تحكيه الرواية التي ذكرناها، ومعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة إلا حجة الوداع، وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجواب‏:‏ يحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم علم أنه صيد له فرده عليه فلا يعارض حديث جابر، وتعليله عليه الصلاة والسلام الرد بأنه محرم لا يمنع من كونه صيد له لأنه إنما يحرم الصيد على الإنسان إذا صيد له بشرط أن يكون محرماً، فبين صلى الله عليه وسلم الشرط الذي يحرم به، وقيل‏:‏ إن جابراً إنما أهدى حماراً فرده صلى الله عليه وسلم لامتناع تملك المحرم الصيد، ولا يخفى أن الروايات الدالة على البعضية أكثر ولا تعارض بينها فتحمل رواية أنه أهدى حماراً على أنه من إطلاق اسم الكل على البعض ويمتنع هنا العكس إذ إطلاق الرجل مثلاً على كل الحيوان غير معهود، وقد صرحوا أنه لا يجوز أن يطلق على زيد أصبع ونحوه لأن شرط إطلاق اسم البعض على الكل التلازم كالرقبة والرأس على الإنسان فإنه لا إنسان دونهما بخلاف نحو الرجل والظفر، وأما إطلاق العين على الرؤية فليس من حيث هو إنسان بل من حيث هو رقيب وهو من هذه الحيثية لا يتحقق بلا عين أو هو أحد معاني المشترك اللفظي كما عده كثير منها فليتيقظ‏.‏

‏{‏واتقوا الله‏}‏ فيما نهاكم عنه من الصيد أو في جميع المعاصي التي من جملتها ذلك ‏{‏الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إلى ذلك الغير‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ إيماناً علمياً ‏{‏لاَ تُحَرّمُواْ‏}‏ بتقصيركم في السلوك ‏{‏طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ‏}‏ من مكاشفات الأحوال وتجليات الصفات

‏{‏وَلاَ تَعْتَدُواْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 87‏]‏ بظهور النفس بصفاتها ‏{‏وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله‏}‏ أي اجعلوا ما من الله تعالى به عليكم من علوم التجليات ومواهب الأحوال والمقامات غذاء قلوبكم ‏{‏حلالا طَيّباً واتقوا الله‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 88‏]‏ في حصول ذلك لكم بأن تردوها منه وله، وجعل غير واحد هذا خطاباً للواصلين من أرباب السلوك حيث أرادوا الرجوع إلى حال أهل البدايات من المجاهدات فنهوا عن ذلك وأمروا بأكل الحلال الطيب، وفسروا الحلال بما وصل إلى المعارف من خزائن الغيب بلا كلفة، والطيب ما يقوي القلب في شوق الله تعالى وذكر جلاله، وقيل‏:‏ الحلال الطيب ما يأكل على شهود وإلا فعلى ذكر، فإن الأكل على الغفلة حرام في شرع السلوك، وقال آخرون‏:‏ الحلال الطيب هو الذي يراه العارف في خزانة القدر فيأخذه منها بوصف الرضا والتسليم، والحرام ما قدر لغيره وهو يجتهد في طلبه لنفسه ‏{‏لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم‏}‏ وهو الحلف لملالة النفس وكلالة القوى وغلبة سلطان الهوى، وعدوا من اللغو في اليمين الإقسام على الله تعالى بحماله وجلاله سبحانه عند غلبة الشوق ووجدان الذوق أن يرزقه شيئاً من إقباله عز وجل ووصاله فإن ذلك لغو في شريعة الرضا ومذهب التسليم‏.‏ والذي يقتضيه ذلك ما أشير إليه بقوله‏:‏ أريد وصاله ويريد هجري *** فاترك ما أريد لما يريد

لكن لا يؤاخذ الله تعالى عليه الحالف لعلمه بضعف حاله‏.‏ وعدوا من ذلك أيضاً ما يجري على لسان السالكين في غلبة الوجد من تجديد العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم‏:‏ وحقك لا نظرت إلى سواكا *** بعين مودة حتى أراكا

فإن ذلك ينافي التوحيد وهل في الدار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار ‏{‏ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الايمان‏}‏ وذلك إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان عن صميم الفؤاد ‏{‏فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين‏}‏ وهي على ما قال البعض الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة ‏{‏مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ‏}‏ وهم القلب والسر والروح والخفي، وطعامهم الشوق والمحبة والصدق والإخلاص والتفويض والتسليم والرضا والأنس والهيبة والشهود والكشوف والأوسط الذكر والفكر والشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء، وإطعام الحواس ذلك أن يشغلها به ‏{‏أَوْ كِسْوَتُهُمْ‏}‏ لباس التقوى ‏{‏أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ‏}‏ وهي رقبة النفس فيحررها من عبودية الحرص والهوى ‏{‏فَمَن لَّمْ يَجِدْ‏}‏ ولم يستطع ‏{‏فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 89‏]‏ فيمسك في اليوم الأول عما عزم عليه وفي اليوم الثاني عما لا يعنيه وفي اليوم الثالث عن العود إليه، وقيل كنى سبحانه بصيام ثلاثة أيام عن التوبة والاستقامة عليها ما دامت الدنيا، فقد قيل‏:‏ الدنيا ثلاثة أيام‏:‏ يوم مضى ويوم أنت فيه ويوم لا تدري ما الله سبحانه قاض فيه ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله‏}‏ بالفناء فيه ‏{‏وَأَطِيعُواْ الرسول‏}‏ بالبقاء بعد الفناء ‏{‏واحذروا‏}‏ ظهور ذلك بالنظر إلى نفوسكم

‏{‏فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 92‏]‏ ولم يقصر فيه فالقصور منكم ‏{‏لَيْسَ عَلَى الذين ءامَنُواْ‏}‏ بالتقليد ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ الأعمال البدنية الشرعية ‏{‏جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ‏}‏ من المباحات ‏{‏إِذَا مَا اتقوا‏}‏ الشبهة والإسراف ‏{‏وَءامَنُواْ‏}‏ بالتحقيق ‏{‏وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ الأعمال القلبية الحقيقية من تخلية القلب عما سواه سبحانه ومن تحليته بالأحوال المضادة لهواه من الصدق والإخلاص والتوكل والتسليم ونحو ذلك ‏{‏ثُمَّ اتَّقَواْ‏}‏ شرك الأنانية ‏{‏وَءامَنُواْ‏}‏ بالهوية ‏{‏ثُمَّ اتَّقَواْ‏}‏ هذا الشرك وهو الفناء ‏{‏وَأَحْسِنُواْ‏}‏ بالبقاء به جل شأنه قاله النيسابوري‏.‏ وقال غيره‏:‏ ليس على الذين آمنوا الإيمان العيني بتوحيد الأفعال وعملوا بمقتضى إيمانهم أعمالاً تخرجهم عن حجب الأفعال وتصلحهم لرؤية أفعال الحق جناح وضيق فيما تمتعوا به من أنواع الحظوظ إذا ما اجتنبوا بقايا أفعالهم واتخذوا الله تعالى وقاية في صدور الأفعال منهم وآمنوا بتوحيد الصفات وعملوا ما يخرجهم عن حجبها ويصلحهم لمشاهدة الصفات الإلهية بالمحو فيها ثم اتقوا بقايا صفاتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في ظهور صفاته عليهم وآمنوا بتوحيد الذات ثم اتقوا بقية ذواتهم واتخذوا الله تعالى وقاية في وجودهم بالفناء المحض والاستهلاك في عين الذات وأحسنوا بشهود التفصيل في عين الجمع والاستقامة في البقاء بعد الفناء ‏{‏والله يُحِبُّ المحسنين‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 93‏]‏ الباقين بعد فنائهم أو المشاهدين للوحدة في عين الكثرة المراعين لحقوق التفاصيل في عين الجمع بالوجود الحقاني ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بالغيب ‏{‏لَيَبْلُوَنَّكُمُ‏}‏ في أثناء السير والإحرام لزيارة كعبة الوصول ‏{‏بِشَىْء مّنَ الصيد‏}‏ أي الحظوظ والمقاصد النفسانية ‏{‏تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورماحكم‏}‏ أي يتيسر لكم ويتهيأ ما يتوصل به إليه‏.‏ وقيل‏:‏ ما تناله الأيدي اللذات البدنية وما تناله الرماح اللذات الخيالية ‏{‏لِيَعْلَمَ الله‏}‏ العلم الذي ترتب عليه الجزاء ‏{‏مَن يَخَافُهُ بالغيب‏}‏ أي في حال الغيبة ولا يكون ذلك إلا للمؤمنين بالغيب لتعلقه بالعقاب الذي هو من باب الأفعال، وأما في الحضور فالخشية والهيبة دون الخوف، والأولى بتجلي صفات الربوبية والعظمة، والثانية بتجلي الذات، فالخوف كما قيل من صفات النفس والخشية من صفات القلب، والهيبة من صفات الروح ‏{‏فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك‏}‏ بتناول شيء من الحظوظ ‏{‏فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 94‏]‏ وهو عذاب الاحتجاب ‏{‏أَلِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ أي في حال الإحرام الحقيقي ‏{‏وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمّداً‏}‏ بأن ارتكب شيئاً من الحظوظ النفسانية قصداً ‏{‏فَجَزَاء مّثْلُ مَا قَتَلَ‏}‏ بأن يقهر تلك القوة التي ارتكب بها من قوى النفس البهيمية بأمر يماثل ذلك الحظ ‏{‏يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ‏}‏ وهما القوتان النظرية والعملية ‏{‏هَدْياً بالغ الكعبة‏}‏ الحقيقية وذلك بإفنائها في الله عز وجل

‏{‏أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مساكين أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 95‏]‏ أي أو يستر تلك القوة بصدقة أو صيام ‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر‏}‏ وهو ما في العالم الروحاني من المعارف ‏{‏وَطَعَامُهُ‏}‏ وهو العلم النافع من علم المعاملات والأخلاق ‏{‏متاعا‏}‏ أي تمتيعاً لكم أيها السالكون بطريق الحق ‏{‏وَلِلسَّيَّارَةِ‏}‏ المسافرين سفر الآخرة، ‏{‏وَحُرّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر‏}‏ وهو في العالم الجسماني من المحسوسات والحظوظ النفسانية ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في سيركم ‏{‏الذى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 69‏]‏ بالفناء فاجتهدوا في السلوك ولا تقفوا مع الموانع وهو الله تعالى الميسر للرشاد وإليه المرجع والمعاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏97‏)‏‏}‏

‏{‏جَعَلَ الله الكعبة‏}‏ أي صيرها، وسميت كعبة على ما روي عن عكرمة ومجاهد لأنها مربعة والتكعيب التربيع، وتطلق لغة على كل بيت مربع، وقد يقال‏:‏ التكعب للارتفاع، قيل‏:‏ ومنه سميت الكعبة كعبة لكونها مرتفعة، ومن ذلك كعب الإنسان لارتفاعه ونتوه، وكعبت المرأة إذا نتأ ثديها، وقيل‏:‏ سميت كعبة لانفرادها من البناء ورده الكرماني إلى ما قبله لأن المنفرد من البناء نات من الأرض‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏البيت الحرام‏}‏ عطف بيان على جهة المدح لأنه عرف بالتعظيم عندهم فصار في معنى المعظم أو لأنه وصف بالحرام المشعر بحرمته وعظمته، وذكر البيت كالتوطئة له فالاعتراض بالجمود من الجمود دون التوضيح، وقيل‏:‏ جىء به للتبيين لأنه كان لخثعم بيت يسمونه بالكعبة اليمانية‏.‏ وجوز أن يكون بدلاً وأن يكون مفعولاً ثانياً لجعل‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قِيَاماً لّلنَّاسِ‏}‏ نصب على الحال ويرده عطف ما بعده على المفعول الأول كما ستعلم قريباً إن شاء الله تعالى بل هذا هو المفعول الثاني‏.‏ وقيل‏:‏ ‏{‏جَعَلَ‏}‏ بمعنى خلق فتعدى لواحد وهذا حال، ومعنى كونه قياماً لهم أنه سبب إصلاح أمورهم وجبرها ديناً ودنيا حيث كان مأمناً لهم وملجأ ومجمعاً لتجارتهم يأتون إليه من كل فج عميق ولهذا قال سعيد بن جبير‏:‏ من أتى هذا البيت يريد شيئاً للدنيا والآخرة أصابه، ومن ذلك أخذ بعضهم أن التجارة في الحج ليست مكروهة‏.‏ وروي هذا عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن زيد قال‏:‏ كان الناس كلهم فيهم ملوك يدفع بعضهم عن بعض ولم يكن في العرب ملوك كذلك فجعل الله تعالى لهم البيت الحرام قياماً يدفع به بعضهم عن بعض فلو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه عنده ما قتله، فالمراد من الناس على هذا العرب خاصة، وقيل‏:‏ معنى كونه قياماً للناس كونه أمناً لهم من الهلاك فما دام البيت يحج إليه الناس لم يهلكوا فإن هدم وترك الحج هلكوا وروي ذلك عن عطاء‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏قَيِّماً‏}‏ على أنه مصدر كشيع وكان القياس أن لا تقلب واوه ياء لكنها لما قلبت في فعله الفاً تبعه المصدر في إعلال عينه‏.‏

‏{‏والشهر الحرام‏}‏ أي الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة فالتعريف للعهد بقرينة قرنائه؛ واختار غير واحد إرادة الجنس على ما هو الأصل والقرينة المعهودة لا تعين العهد، والمراد الأشهر الحرم وهي أربعة واحد فرد وثلاثة سرد فالفرد رجب والسرد ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وهو وما بعده عطف على ‏{‏الكعبة‏}‏ فالمفعول الثاني محذوف ثقة بما مر أي وجعل الشهر الحرام ‏{‏والهدى والقلائد‏}‏ أيضاً قياماً لهم، والمراد بالقلائد ذوات القلائد وهي البدن خصت بالذكر لأن الثواب فيها أكثر و‏(‏ بهاء‏)‏ الحج بها أظهر؛ وقيل‏:‏ الكلام على ظاهره، فقد أخرج أبو الشيخ عن أبي مجلز أن أهل الجاهلية كان الرجل منهم إذا أحرم تقلد قلادة من شعر فلا يتعرض له أحد فإذا حج وقضى حجه تقلد قلادة من إذخر، وقيل‏:‏ كان الرجل يقلد بعيره أو نفسه قلادة من لحاء شجر الحرم فلا يخاف من أحد ولا يتعرض له أحد بسوء، وكانوا لا يغيرون في الأشهر الحرم وينصلون فيها الأسنة ويهرع الناس فيها إلى معايشهم ولا يخشون أحداً، وقد توارثوا على ما قيل ذلك من دين إسماعيل عليه السلام‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الجعل المذكور خاصة أو مع ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره‏.‏ ومحل اسم الإشارة النصب بفعل مقدر يدل عليه السياق وبه تتعلق اللام فيما بعد‏.‏ وقيل‏:‏ محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الحكم الذي قررناه ذلك أو مبتدأ خبره محذوف أي ذلك الحكم هو الحق والحكم الأول هو الأقرب، والتقدير شرع ذلك ‏{‏لِتَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى السموات وَمَا فِي الارض‏}‏ فإن تشريع هذه الشرائع المستتبعة لدفع المضار الدينية والدنيوية قبل الوقوع وجلب المنافع الأولية والأخروية من أوضح الدلائل على حكمة الشارع وإحاطة علمه سبحانه ‏{‏وَأَنَّ الله بِكُلّ شَىْء‏}‏ واجباً كان أو ممتنعاً أو ممكناً ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ كامل العلم، وهذا تعميم إثر تخصيص، وقدم الخاص لأنه كالدليل على ما بعد‏.‏ وجوز أن يراد بما في السموات والأرض الأعيان الموجودة فيهما وبكل شيء الأمور المتعلقة بتلك الموجودات من العوارض والأحوال التي هي من قبيل المعاني والإظهار في مقام الإضمار لما مر غير مرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏98‏]‏

‏{‏اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏98‏)‏‏}‏

‏{‏اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ وعيد لمن انتهك محارمه أو أصر على ذلك‏.‏ والعقاب كما قيل هو الضرر الذي يقارنه استخفاف وإهانة، وسمي عقاباً لأنه يستحق عقيب الذنب ‏{‏وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ‏}‏ وعد لمن حافظ على مراعاة حرماته تعالى وأقلع عن الانتهاك‏.‏ ووجه تقديم الوعيد ظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ‏}‏ ولم يأل جهداً في تبليغكم ما أمرتم به فأي عذر لكم بعد‏.‏ وهذا تشديد في إيجاب القيام بما أمر به سبحانه‏.‏ والبلاغ اسم أقيم مقام المصدر كما أشير إليه ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ‏}‏ فيعاملكم بما تستحقونه في ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏100‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب‏}‏ أي الردىء والجيد من كل شيء، فهو حكم عام في نفي المساواة عند الله تعالى بين النوعين والتحذير عن رديها وإن كان سبب النزول أن المسلمين أرادوا أن يوقعوا بحجاج اليمامة وكان معهم تجارة عظيمة فنهوا عن ذلك على ما مر ذكره، وقيل‏:‏ نزلت في رجل سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي وإني جمعت من بيعها مالاً فهل ينفعني من ذلك ‏(‏المال‏)‏ إن عملت فيه بطاعة الله تعالى‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أنفقته في حج أو جهاد ‏(‏أو صدقة‏)‏ ‏(‏1‏)‏ لم يعدل جناح بعوضة إن الله تعالى لا يقبل إلا الطيب‏.‏ وعن الحسن واختاره الجبائي الخبيث الحرام والطيب الحلال، وأخرج ابن جرير وغيره عن السدي قال‏:‏ الخبيث هم المشركون والطيب هم المؤمنون وتقديم الخبيث في الذكر للإشعار من أول الأمر بأن القصور الذي ينبىء عنه عدم الاستواء فيه لا في مقابله، وقد تقدمت الإشارة إلى تحقيقه‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَعْجَبَكَ‏}‏ أي وإن سرك أيها الناظر بعين الاعتبار ‏{‏كَثْرَةُ الخبيث‏}‏‏.‏ وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته والواو لعطف الشرطية على مثلها المقدر‏.‏ وقيل للحال أي لو لم يعجبك ولو أعجبك وكلتاهما في موضع الحال من فاعل ‏{‏لاَ يَسْتَوِى‏}‏ أي لا يستويان كائنين على كل حال مفروض‏.‏ وقد حذفت الأولى في مثل هذا التركيب لدلالة الثانية عليها دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق مع المعارض فلأن يتحقق بدونه أولى‏.‏ وجواب لو محذوف في الجملتين لدلالة ما قبلها عليه ‏{‏فاتقوا الله ياأولى أُوْلِى الالباب‏}‏ في تحري الخبيث وإن كثر وآثروا عليه الطيب وإن قل فإن مدار الاعتبار هو الخيرية والرداءة لا الكثرة والقلة وفي الأكثر أحسن كل شيء أقله‏.‏ ولله در من قال‏:‏ والناس ألف منهم كواحد *** وواحد كالألف إن أمر عنا

وفي الآية كما قيل إشارة إلى غلبة أهل الإسلام وإن قلوا ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ راجين أن تنالوا الفلاح والفوز بالثواب العظيم والنعيم المقيم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآَنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ ‏(‏101‏)‏‏}‏

‏{‏تُفْلِحُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء‏}‏ ظاهر اللفظ كما قال ابن يعيش يقضي بكونها جمع شيء لأن فعلاً إذا كان متعل العين يجمع في القلة على أفعال نحو بيت وأبيات وشيخ وأشياخ إلا أنهم رأوها غير مصروفة في حال التنكير كما هنا فتشعبت آراء الجماعة فيها فذهب سيبويه والخليل إلى أن الهمزة للتأنيث وأن الكلمة اسم مفرد يراد به الجمع نحو الحلفاء والظرفاء فأشياء في الأصل شيئاء بهمزتين بينهما ألف فقدمت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة على الفاء لاستثقال همزتين بينهما ألف قبلهما حرف علة وهو الياء والهمزة الثانية زائدة للتأنيث ولذلك لا تنصرف ووزنها لفعاء، وقصارى ما في هذا المذهب القلب وهو كثير في كلامهم ارتكبوه مع عدم الثقل كما في أينق وقسي ونحوهما فارتكابه مع الثقل أولى فلا يضر الاعتراض بأنه خلاف الأصل‏.‏ وذهب الفراء إلى أنها جمع شيء بياء مشددة وهمزة بوزن هين ولين إلا أنهم خففوه فقالوا شيء كميت في ميت وبعد التخفيف جمعوه على أشياء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء بزنة افعلاء فاجتمعت همزتان إحداهما لام الكلمة والأخرى للتأنيث فخففوا ذلك بقلب الهمزة الأولى ياء ثم حذفوا الياء الأولى التي هي عين الكلمة فصار وزنه افعلاء، وقيل‏:‏ في تصريف هذا المذهب أنهم حذفوا الهمزة التي هي لام الكلمة لأن الثقل حصل بها فوزنها افعاء ومنع الصرف لهمزة التأنيث‏.‏ واستحسن هذا المذهب لو كان على أن أصل شيء بالتخفيف شيء بالتشديد دليل، وذهب الأخفش إلى أنها جمع شيء بوزن فلس وأصلها أشيئاء بهمزتين بينهما ألف بعد ياء ثم عمل فيه ما مر‏.‏ ورده الزجاج بأن فعلاً لا يجمع على افعلاء، وناظر أبو عثمان المازني الأخفش في هذه المسألة كما قال أبو علي في «التكملة» فقال‏:‏ كيف تصغر أشياء قال أقول أشيآء فقال المازني‏:‏ هلا رددتها إلى الواحد فقلت شييئات لأن أفعلاء لا تصغر فلم يأت بمقنع انتهى‏.‏ وأراد أن أفعلاء من أمثلة الكثرة وجموع الكثرة لا تصغر على ألفاظها وتصغر بآحادها ثم يجمع الواحد بالألف والتاء كقولك في تصغير درهم‏:‏ دريهمات، والجواب كما قال أبو علي عن ذلك بأن أفعلاء هنا جاز تصغيرها على لفظها لأنها قد صارت بدلاً من أفعال بدلالة استجازتهم إضافة العدد إليها كما أضيف إلى أفعال، ويدل على كونها بدلاً أيضاً تذكيرهم العدد المضاف إليها في قولهم‏:‏ ثلاثة أشياء فكما صارت بمنزلة أفعال في هذا الموضع بالدلالة المذكورة كذلك يجوز تصغيرها من حيث جاز تصغير أفعال ولم يمتنع تصغيرها على اللفظ من حيث امتنع تصغير هذا الوزن في غير هذا الموضع لارتفاع المعنى المانع من ذلك عن أشياء وهو أنها صارت بمنزلة أفعال وإن كان كذلك لم يجتمع في الكلمة ما يتدافع من إرادة التقليل والتكثير في شيء واحد انتهى، ومراده كما قال ابن الشجري بأن فعلاء في هذا الموضع صارت بدلاً من أفعال أنه كان القياس في جمع شيء أشياء مصروفاً كقولك في جمع فيء أفياء على أن تكون همزة الجمع هي همزة الواحد ولكنهم أقاموا أشياء التي همزتها للتأنيث مقام أشياء التي وزنها أفعال، واستدلاله في تجويز تصغير أشياء على لفظها بأنها صارت بدلاً من أفعال بدلالة أنهم أضافوا العدد إليها وألحقوه الهاء فقالوا ثلاثة أشياء مما لا يقوم به دلالة لأن أمثلة القلة وأمثلة الكثرة يشتركن في ذلك، ألا ترى أنهم يضيفون العدد إلى أبنية الكثرة إذا عدم بناء القلة فيقولون‏:‏ ثلاثة شسوع وخمسة دراهم، وأما إلحاق الهاء في قولنا‏:‏ ثلاثة أشياء وإن كان أشياء مؤنثاً لأن الواحد مذكر ألا ترى أنك تقول ثلاثة‏:‏ أنبياء وخمسة أصدقاء وسبعة شعراء فتلحق الهاء وإن كان لفظ الجمع مؤنثاً وذلك لأن الواحد نبي وصديق وشاعر كما أن واحد أشياء شيء فأي دلالة في قوله‏:‏ ويدل على كونها بدلاً تذكيرهم العدد المضاف إليها الخ ثم قال‏:‏ والذي يجوز أن يستدل به لمذهب الأخفش أن يقال‏:‏ إنما جاز تصغير افعلاء على لفظه وإن كان من أبنية الكثرة لأن وزنه نقص بحذف لامه فصار افعاء فشبهوه بأفعال فصغروه، وذهب الكسائي إلى أنها جمع شيء كضيف وأضياف‏.‏

وأورد عليه منع الصرف من غير علة ويلزمه صرف أبناء وأسماء، وقد استشعر الكسائي هذا الإيراد وأشار إلى دفعه بأنه على أفعال ولكن كثرت في الكلام فأشبهت فعلاء فلم يصرف كما لم يصرف حمراء، وقد جمعوها على أشاوى كعذراء وعذارى وأشياوات كحمراء وحمراوات فعاملوا أشياء وإن كانت على أفعال معاملة حمراء وعذراء في جمعي التكسير والتصحيح‏.‏ ورد بأن الكثرة تقتضي تخفيفه وصرفه‏.‏ وأيده بعضهم بأن العرب قد اعتبروا في باب ما لا ينصرف الشبه اللفظي كما قيل في سراويل إنه منع من الصرف لشبهه بمصابيح وأجروا ألف الإلحاق مجرى ألف التأنيث المقصورة ولكن مع العلمية فاعتبروا مجرد الصورة فليكن هذا من ذلك القبيل، وقيل‏:‏ إنها جمع شيء ووزنها أفعلاء جمع فعيل كنصيب وأنصباء وصديق وأصدقاء وحذفت الهمزة الأولى التي هي لام الكلمة وفتحت الياء لتسلم الألف فصارت أشياء بزنة أفعاء، وجعل مكي تصريفه كمذهب الأخفش إذ أبدل الهمزة ياء ثم حذفت إحدى الياءين وحسن حذفها من الجمع حذفها من المفرد لكثرة الاستعمال وعدم الصرف لهمزة التأنيث الممدودة، وهو حسن إلا أنه يرد عليه كما ورد على الأخفش مع إيرادات أخر، وقيل غير ذلك، وللشهاب عليه الرحمة‏:‏

أشياء لفعاء في وزن وقد قلبوا *** لاماً لها وهي قبل القلب شيئاء

وقيل أفعال لم تصرف بلا سبب *** منهم وهذا لوجه الرد إيماء أو أشياء

وحذف اللام من ثقل *** وشيء أصل شيء وهي آراء

وأصل أسماء اسماً وكمثل كسا *** فاصرفه حتماً ولا تغررك أسماء

واحفظ وقل للذي ينسى العلا سفها *** حفظت شيئاً وغابت عنك أشياء

وظاهر صنيعه كغيره يشير إلى اختيار مدهب الخليل وسيبويه، وقال غير واحد‏:‏ إنه الأظهر لقولهم في جمعها أشاوى فجمعوها كما جمعوا صحراء على صحارى، وأصله كما قال ابن الشجري أشايا بالياء لظهورها في أشياء لكنهم أبدلوها واواً على غير قياس كإبدالها واواً في قولهم جبيت الخراج جباوة، وأيضاً يدل على أنها مفرد قولهم في تحقيرها أشيئاء كصحيراء ولو كانت جمعاً لقالوا شيآت على ما تقدمت الإشارة، وتمام البحث في «أمالي ابن الشجري‏.‏

‏{‏إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ‏}‏ صفة لأشياء داعية إلى الانتهاء عن السؤال عنها، وعطف عليها قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرءان تُبْدَ لَكُمْ‏}‏ أي بالوحي كما ينبىء عنه تقييد السؤال بحين نزول القرآن لأن المساءة في الشرطية الأولى معلقة بإبداء تلك الأشياء لا بالسؤال عنها فعقبها جل شأنه بما هو ناطق باستلزام السؤال عنها لإبدائها الموجب للمحذور، فضمير ‏{‏عَنْهَا‏}‏ راجع إلى تلك الأشياء وليس على حد عندي درهم ونصفه كما وهم، والمراد بها ما لا خير لهم فيه من نحو التكاليف الصعبة التي لا يطيقونها والأسرار الخفية التي قد يفتضحون بها، فكما أن السؤال عن الأمور الواقعة مستتبع لإبدائها كذلك السؤال عن تلك التكاليف مستتبع لإيجابها عليهم بطريق التشديد لإساءتهم الأدب وتركهم ما هو الأولى بهم من الاستسلام لأمر الله تعالى من غير بحث فيه ولا تعرض لكيفيته وكميته ففي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ أيها الناس قد فرض الله تعالى عليكم الحج فحجوا ‏"‏ فقال رجل وهو كما قال ابن الهمام الأقرع بن حابس، وصرح به أحمد والدارقطني والحاكم في حديث صحيح رووه على شرط الشيخين ‏"‏ أكل عام يا رسول الله فسكت عليه الصلاة والسلام حتى قالها ثلاثاً فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ لو قلت‏:‏ نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه ‏"‏ وذكر كما قال ابن حبان أن الآية نزلت لذلك‏.‏

وأخرج مسلم وغيره أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه في المسألة فصعد ذات يوم المنبر وقال‏:‏

‏"‏ لا تسألوني عن شيء إلا بينته لكم فلما سمعوا ذلك أزموا ورهبوا أن يكون بين يدي أمر قد حضر قال أنس رضي الله تعالى عنه‏:‏ فجعلت أنظر يميناً وشمالاً فإذا كل رجل لاف رأسه في ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاحى يدعى إلى غير أبيه فقال‏:‏ يا رسول الله من أبي‏؟‏ قال‏:‏ أبوك حذافة، ثم أنشأ عمر رضي الله تعالى عنه فقال‏:‏ رضينا بالله تعالى رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً نعوذ بالله تعالى من الفتن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما رأيت في الخير والشر كاليوم قط إنه صورت لي الجنة والنار حتى رأيتهما دون الحائط ‏"‏ وذكر ابن شهاب أن أم ابن حذافة واسمه عبد الله قالت له لما رجع إليها‏:‏ ما سمعت قط أعق منك أمنت أن تكون أمك قارفت بعض ما يقارف أهل الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابن حذافة‏:‏ لو ألحقني بعبد أسود للحقته‏.‏ وأخرج غير واحد عن قتادة أن هذه الآية نزلت يومئذٍ‏.‏ ووجه اتصالها بما قبلها على الرواية الأولى ظاهر جداً لما أن الكلام فيما يتعلق بالحج‏.‏

وذكر الطبرسي في ذلك ثلاثة أوجه، «الأول‏:‏ أنها متصلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 100‏]‏ لأن من الفلاح ترك السؤال بما لا خير فيه، والثاني‏:‏ أنها متصلة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 99‏]‏ أي فإنه بلغ ما فيه المصلحة فلا تسألوه عما لا يعنيكم، والثالث‏:‏ أنها متصلة بقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 99‏]‏ أي فلا تسألوا عن تلك الأشياء فتظهر سرائركم2‏.‏

‏{‏عَفَا الله عَنْهَا‏}‏ أي عن المسألة المدلول عليها بلا تسألوا‏.‏ والجملة استئناف مسوق لبيان أن نهيهم عنها لم يكن لمجرد صيانتهم عن المساءة بل لأنها في نفسها معصية مستتبعة للمؤاخذة وقد عفا سبحانه عنها، وفيه من حثهم على الجد في الانتهاء عنها ما لا يخفى أي عفا الله تعالى عن مسألتكم السالفة حيث لم يفرض عليكم الحج في كل عام جزاء لمسألتكم أو المراد تجاوز عن عقوبتكم الأخروية بسبب ذلك فلا تعودوا لمثله، وقد يحمل العفو عنها على معنى شامل للتجاوز عن العقوبة الدنيوية والعقوبة الأخروية واختاره بعض المحققين، وجوز غير واحد كون الجملة صفة أخرى لأشياء والضمير المجرور عائد إليها وهو الرابط على معنى لا تسألوا عن أشياء لم يكلفكم الله تعالى بها‏.‏ واعترض بأن هذا يقتضي أن يكون الحج قد فرض أولاً ثم نسخ بطريق العفو وأن يكون ذلك معلوماً للمخاطبين ضرورة أن حق الوصف أن يكون معلوم الثبوت للموصوف عند المخاطب قبل جعله وصفاً له وكلاهما ضروري الانتفاء قطعاً على أنه يستدعي اختصاص النهي بمسألة الحج ونحوها مع أن النظم الكريم صريح في أنه مسوق للنهي عن السؤال عن الأشياء التي يسوءهم إبداؤها سواء كانت من قبيل الأحكام والتكاليف الموجبة لمساءتهم بإنشائها وإيجابها بسبب السؤال عقوبة وتشديداً كمسألة الحج لولا عفوه تعالى عنها أو من قبيل الأمور الواقعة قبل السؤال الموجبة للمساءة بالإخبار بها كما في سبب النزول على ما أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة قال‏:‏

‏"‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل فقال‏:‏ أين أبي‏؟‏ قال‏:‏ في النار ‏"‏ وفسر بعضهم العفو عنها بالكف عن بيانها والتعرض لشأنها وحينئذٍ يوشك أن لا يتوجه هذا الاعتراض أصلاً، وإلى التفسير الأول يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، فقد أخرج مجاهد عنه أنه كان إذا سئل عن الشيء لم يجىء فيه أثر يقول‏:‏ هو من العفو ثم يقرأ هذه الآية‏.‏

والذي ذهب إليه شيخ الإسلام عليه الرحمة هو الاستئناف لا غير لما علمت، واستبعاد بعض الفضلاء ليس في محله‏.‏ ثم قال‏:‏ «إن قلت تلك الأشياء غير موجبة للمساءة ألبتة بل هي محتملة لإيجاب المسرة أيضاً لأن إيجابها للأولى وإن كان من حيث وجودها فهي من حيث عدمها موجبة للأخرى قطعاً وليست إحدى الحيثيتين محققة عند السائل وإنما غرضه من السؤال ظهورها كيف كانت بل ظهورها بحيثية إيجابها للمسرة فلم ‏(‏عبر‏)‏ عنها بحيثية إيجابها للمساءة قلت‏:‏ لتحقيق المنهي عنه كما ستعرفه مع ما فيه من تأكيد النهي وتشديده لأن تلك الحيثية هي الموجبة للانتهاء لا الحيثية الثانية ولا حيثية التردد بين الإيجابين، فإن قيل‏:‏ الشرطية الثانية ناطقة بأن السؤال عن تلك الأشياء الموجبة للمساءة مستلزم لإبدائها فلم تخلف الإبداء في مسألة الحج ولم يفرض كل عام‏؟‏ قلنا‏:‏ لوقوع السؤال قبل النهي وما في الشرطية إنما هو السؤال الواقع بعده إذ هو الموجب للتغليظ والتشديد ولا تخلف فيه‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما ذكر إنما يتمشى فيما إذا كان السؤال عن الأمور المترددة بين الوقوع وعدمه كما ذكر في التكاليف الشاقة وأما إذا كان عن الأمور الواقعة قبله فلا يكاد يتسنى لأن ما يتعلق به الإبداء هو الذي وقع في نفس الأمر ولا مرد له سواء كان السؤال قبل أو بعد وقد يكون الواقع ما يوجب المسرة كما في مسألة ابن حذافة فيكون هو متعلق الإبداء لا غيره فيتعين التخلف حتماً‏.‏ قلنا‏:‏ لا احتمال له فضلاً عن تعينه فإنه المنهي عنه في الحقيقة إنما هو السؤال عن الأشياء الموجبة للمساءة الواقعة في نفس الأمر قبل السؤال كسؤال من قال‏:‏ أين أبي‏؟‏ لا ما يعمها وغيرها مما ليس بواقع لكنه محتمل الوقوع عند المكلفين حتى يلزم التخلف في صورة عدم الوقوع‏.‏

وجملة الكلام أن مدلول النظم الكريم بطريق العبارة إنما هو النهي عن السؤال عن الأشياء التي يوجب إبداؤها المساءة ألبتة إما بأن تكون تلك الأشياء بعرضية الوقوع فتبدى عند السؤال بطريق الإنشاء عقوبة وتشديداً كما في صورة كونها من قبيل التكاليف الشاقة، وإما بأن تكون واقعة في نفس الأمر قبل السؤال فتبدى عنده بطريق الإخبار بها فالتخلف ممتنع في الصورتين معاً، ومنشأ توهمه عدم الفرق بين المنهي عنه وغيره بناءً على عدم امتياز ما هو موجود أو بعرضية الوجود من تلك الأشياء في نفس الأمر وما ليس كذلك عند المكلفين وملاحظتهم للكل باحتمال الوجود والعدم، وفائدة هذا الإبهام الانتهاء عن تلك الأشياء على الإطلاق حذار إبداء المكروه» انتهى وهو تحرير لم يسبق إليه‏.‏

‏{‏والله غَفُورٌ حَلِيمٌ‏}‏ أي مبالغ في مغفرة الذنوب والإغضاء عن المعاصي ولذلك عفا سبحانه عنكم ولم يعاقبكم بما فرط منكم، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لما سبق من عفوه تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ‏(‏102‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ سَأَلَهَا‏}‏ أي المسألة فالضمير في موقع المصدر لا المفعول به، والمراد سأل مثلها في كونها محظورة ومستتبعة للوبال ‏{‏قَوْمٌ‏}‏ وعدم التصريح بالمثل للمبالغة في التحذير، وجوز أن يكون الضمير للأشياء على تقدير المضاف أيضاً فالضمير في موقع المفعول به وذلك من باب الحذف والإيصال والمراد سأل عنها، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى جعله من ذلك الباب لأن السؤال هنا استعطاء وهو يتعدى بنفسه كقولك‏:‏ سألته درهماً بمعنى طلبته منه لا استخبار كما في صدر الآية، واختلف في تعيين القوم‏.‏ فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هم قوم عيسى عليه الصلاة والسلام سألوه إنزال المائدة ثم كفروا بها، وقيل‏:‏ هم قوم صالح عليه السلام سألوه الناقة ثم عقروها وكفروا بها، وقيل‏:‏ هم قوم موسى عليه السلام سألوه أن يريهم الله تعالى جهرة أو سألوه بيان البقرة‏.‏ وعن مقاتل هم بنو إسرائيل مطلقاً كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم كذبوهم‏.‏ وعن السدي هم قريش سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول الصفا ذهباً، وقال الجبائي‏:‏ كانوا يسألونه صلى الله عليه وسلم عن أنسابهم فإذا أخبرهم عليه الصلاة والسلام لم يصدقوا ويقولوا‏:‏ ليس الأمر كذلك، ولا يخفى عليك الغث والسمين من هذه الأقوال وأن بعضها يؤيد حمل السؤال على الاستعطاء وبعضها يؤيد حمله على الاستخبار، والحمل على الاستخبار أولى، وإلى تعينه ذهب بعض العلماء‏.‏

‏{‏مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ متعلق بسألها، وجوز كونه متعلقاً بمحذوف وقع صفة لقوم، واعترض بأن ظرف الزمان لا يكون صفة الجثة ولا حالاً منها ولا خبراً عنها، وأجيب بأن التحقيق أن هذا مشروط إذا عدمت الفائدة أما إذا حصلت فيجوز كما إذا أشبهت الجثة المعنى في تجددها ووجودها وقتاً دون وقت نحو الليلة الهلال بخلاف زيد يوم السبت وما نحن فيه مما فيه فائدة لأن القوم لا يعلم هل هم ممن مضى أم لا‏؟‏ وقال أبو حيان وهو تحقيق بديع غفلوا عنه‏:‏ «هذا المنع إنما هو في الزمان ‏(‏ظرف‏)‏ المجرد عن الوصف أما إذا تضمن وصفاً فيجوز كقبل وبعد فإنهما وصفان في الأصل فإذا قلت جاء زيد قبل عمرو فالمعنى جاء في زمان قبل زمان مجيئه أي متقدم عليه ولذا وقع صلة للموصول، ولو لم يلحظ فيه الوصف وكان ظرف زمان مجرد لم يجز أن يقع صلة ولا صفة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏والذين مِن قَبْلِكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ ولا يجوز والذين اليوم» وما نحن فيه من المتضمن لا المجرد وهو ظاهر، وما قيل من أنه ليس من المتنازع فيه في شيء لأن الواقع صفة هو الجار والمجرور لا الظرف نفسه ليس بشيء لأن دخول الجار عليه إذا كان من أول في لا يخرجه عن كونه في الحقيقة هو الصفة أو نحوها فليفهم‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا‏}‏ أي بسببها، وهو متعلق بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏كافرين‏}‏ قدم عليه رعاية للفواصل‏.‏ وقرأ أبي ‏(‏قد سألها قوم بينت لهم فأصبحوا بها كافرين‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏103‏)‏‏}‏

‏{‏مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ‏}‏ هي فعيلة بمعنى مفعولة من البحر وهو الشق والتاء للنقل إلى الإسمية أو لحذف الموصوف، قال الزجاج‏:‏ كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها وشقوها وامتنعوا من نحرها وركوبها ولا تطرد من ماء ولا تمنع عن مرعى وهي البحيرة، وعن قتادة أنها إذا نتجت خمسة أبطن نظر في الخامس فإن كان ذكراً ذبحوه وأكلوه وإن كان أنثى شقوا أذنها وتركوها ترعى ولا يستعملها أحد في حلب وركوب ونحو ذلك، وقيل‏:‏ البحيرة هي الأنثى التي تكون خامس بطن وكانوا لا يحلون لحمها ولبنها للنساء فإن ماتت اشترك الرجال والنساء في أكلها، وعن محمد بن إسحق ومجاهد أنها بنت السائبة، وستأتي إن شاء الله تعالى قريباً وكانت تهمل أيضاً‏.‏ وقيل‏:‏ هي التي ولدت خمساً أو سبعاً، وقيل‏:‏ عشرة أبطن وتترك هملاً وإذا ماتت حل لحمها للرجال خاصة‏.‏ وعن ابن المسيب أنها التي منع لبنها للطواغيت فلا تحلب، وقيل‏:‏ هي التي ولدت خمس إناث فشقوا أذنهاوتركوها هملاً، وجعلها في «القاموس» على هذا القول من الشاء خاصة، وكما تسمى بالبحيرة تسمى بالغزيرة أيضاً‏.‏ «وقيل‏:‏ هي السقب الذي إذا ولد شقوا أذنه وقالوا‏:‏ اللهم إن عاش فَفَتِيّ وإن مات فذكي فإذا مات أكلوه» ‏(‏1‏)‏، وقيل‏:‏ هي التي تترك في المرعى بلا راع‏.‏

‏{‏وَلاَ سَآئِبَةٍ‏}‏ هي فاعلة من سيبته أي تركته وأهملته فهو سائب وهي سائبة أو بمعنى مفعول ك ‏{‏عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 21، القارعة‏:‏ 7‏]‏‏.‏ واختلف فيها فقيل هي الناقة تبطن عشرة أبطن إناث فتهمل ولا تركب ولا يجز وبرها ولا يشرب لبنها إلا ضيف ونسب إلى محمد بن إسحاق، وقيل‏:‏ هي التي تسيب للأصنام فتعطى للسدنة ولا يطعم من لبنها إلا أبناء السبيل ونحوهم وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقيل‏:‏ هي البعير يدرك نتاج نتاجه فيترك ولا يركب، وقيل‏:‏ «كان الرجل إذا قدم من سفر بعيد أو نجت دابته من مشقة أو حرب قال‏:‏ هي سائبة أو كان ينزع من ظهرها فقارة أو عظماً وكانت لا تمنع عن ماء ولا كلأ ولا تركب»، وقيل‏:‏ هي ما ترك ليحج عليه، وقيل‏:‏ هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا عقل ولا ميراث‏.‏

‏{‏وَلاَ وَصِيلَةٍ‏}‏ هي فعيلة بمعنى فاعلة؛ وقيل‏:‏ مفعولة والأول أظهر كما ينبىء عن ذلك بيان المراد بها‏.‏ واختلف فيه فقال الفراء‏:‏ هي الشاة تنتج سبعة أبطن عناقين عناقين وإذا ولدت في آخرها عناقاً وجدياً قيل‏:‏ وصلت أخاها فلا يشرب لبن الأم إلا الرجال دون النساء وتجرى مجرى السائبة، وقال الزجاج‏:‏ هي الشاة إذا ولدت ذكراً كان لآلهتهم وإذا ولدت أنثى كانت لهم وإن ولدت ذكراً وأنثى قالوا‏:‏ وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم‏.‏

وقيل‏:‏ هي الشاة تلد ذكراً ثم أنثى فتصل أخاها فلا يذبحون أخاها من أجلها وإذا ولدت ذكراً قالوا‏:‏ هذا قربان لآلهتنا‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما هي الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فتأكلها الرجال والنساء وكذا إن كان ذكراً وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك معه ولا ينتفع بها إلا الرجال دون النساء فإن ماتت اشتركوا فيها‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ إن كان السابع ذكراً ذبح وأكلوا منه دون النساء وقالوا‏:‏ خالصة لذكورنا محرمة على أزواجنا وإن كانت أنثى تركت في الغنم وإن كان ذكراً وأنثى فكقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه، وقال محمد بن إسحاق‏:‏ وهي الشاة تنتج عشر إناث متواليات في خمسة أبطن فما ولدت بعده للذكور دون الإناث فإذا ولدت ذكراً وأنثى معاً قالوا‏:‏ وصلت أخاها فلم يذبحوه لمكانها، وقيل‏:‏ هي الشاة تنتج خمسة أبطن أو ثلاثة فإن كان جدياً ذبحوه وإن كان أنثى أبقوها وإن كان ذكراً وأنثى قالوا‏:‏ وصلت أخاها، وقال بعضهم‏:‏ الوصيلة من الإبل وهي الناقة تبكر فتلد أنثى ثم تثني بولادة أنثى أخرى ليس بينهما ذكر فيتركونها لآلهتهم ويقولون‏:‏ قد وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر‏.‏ وقيل‏:‏ هي الناقة التي وصلت بين عشرة أبطن لا ذكر بينها‏.‏

‏{‏وَلاَ حَامٍ‏}‏ هو فاعل من الحمى بمعنى المنع‏.‏ واختلف فيه أيضاً فقال الفراء‏:‏ هو الفحل إذ لقح ولد ولده فيقولون‏:‏ قد حمى ظهره فيهمل ولا يطرد عن ماء ولا مرعى، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه وابن مسعود وهو قول أبي عبيدة والزجاج أنه الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون‏:‏ حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى‏.‏ وعن الشافعي أنه الفحل يضرب في مال صاحبه عشر سنين، وقيل‏:‏ هو الفحل ينتج له سبع أإاث متواليات فيحمى ظهره، وجمع بين الأقوال المتقدمة في كل من تلك الأنواع بأن العرب كانت تختلف أفعالهم فيها‏.‏ والمراد من هذه الجملة رد وإبطال لما ابتدعه أهل الجاهلية‏.‏ ومعنى ‏{‏مَّا جَعَلَ‏}‏ ما شرع ولذلك عدي إلى مفعول واحد وهو ‏{‏بَحِيرَةٍ‏}‏ وما عطف عليها‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ سيف خطيب أتى بها لتأكيد النفي‏.‏ وأنكر بعضهم مجىء جعل بمعنى شرع عن أحد من أهل اللغة وجعلها هنا للتصيير والمفعول الثاني محذوف أي ما جعل البحيرة ولا ولا مشروعة وليس كما قال فإن الراغب نقل ذلك عن أهل اللغة وهو ثقة لا يفتري عليهم‏.‏

‏{‏ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب‏}‏ حيث يفعلون ما يفعلون ويقولون‏:‏ الله سبحانه وتعالى أمرنا بهذا وإمامهم عمرو بن لحي فإنه في المشهور أول من فعل تلك الأفاعيل الشنيعة‏.‏

أخرج ابن جرير وغيره عن أبي هريرة قال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأكثم بن الجون‏:‏ يا أكثم عرضت عليَّ النار فرأيت فيها عمرو بن لحي بن قمعة بن خِنْدِف يجر قصبه في النار فما رأيت رجلاً أشبه برجل منك به ولا به منك فقال‏:‏ أكثم أخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا إنك مؤمن وهو كافر أنه أول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي، وجاء في خبر آخر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ووصل الوصيلة‏.‏ وأخرج عبد الرزاق وغيره عن زيد بن أسلم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إني لأعرف أول من سيب السوائب ونصب النصب وأول من غير دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام قالوا‏:‏ من هو يا رسول الله‏؟‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ عمرو بن لحي أخو بني كعب لقد رأيته يجر قصبه في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه وإني لأعرف أول من بحر البحائر قالوا‏:‏ من هو يا رسول الله‏؟‏ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ رجل من بني مدلج كانت له ناقتان فجدع آذانهما وحرم ألبانهما وظهورهما وقال‏:‏ هاتان لله ثم احتاج إليهما فشرب ألبانهما وركب ظهورهما فلقد رأيته في النار وهما تقضمانه بأفواههما وتطآنه بأخفافهما‏.‏

واستدل بالآية على تحريم هذه الأمور وهو ظاهر واستنبط منه تحريم جميع تعطيل المنافع‏.‏ واستدل ابن الماجشون بها على منع أن يقول الرجل لعبده‏:‏ أنت سائبة وقال‏:‏ لا يعتق بذلك‏.‏ وجعل بعض العلماء من صور السائبة إرسال الطير ونحوه، وصرح بعض علمائنا بأنه لا ثواب في ذلك ولعل الجاعل لا يكتفي بهذا القدر ويدعي الإثم فيه والناس عن ذلك غافلون‏.‏

‏{‏وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ أن ذلك افتراء باطل فما تقدم فعل الرؤساء وهذا شأن الأتباع وهم المراد بالأكثر كما روي عن قتادة والشعبي، وظاهر سياق النظم الكريم أنهم المقلدون لأسلافهم المفترين من معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا بيان لقصور عقولهم وعجزهم عن الاهتداء بأنفسهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ‏(‏104‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ‏}‏ أي للذين عبر عنهم بأكثرهم على سبيل الهداية والإرشاد إلى الحق ‏{‏تَعَالَوْاْ إلى مَا أَنزَلَ الله‏}‏ من الكتاب المبين للحلال والحرام والإيمان به ‏{‏وَإِلَى الرسول‏}‏ الذي أنزل عليه ذلك لتقفوا على حقيقة الحال وتميزوا الحرام من الحلال ‏{‏قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا‏}‏ في هذا الشأن فلا نلتفت لغيره بيان لعنادهم واستعصائهم على الهادي إلى الحق وانقيادهم للداعي إلى الضلال، و‏(‏ ما‏)‏ موصولة إسمية، وجوز أن تكون نكرة موصوفة والوجدان المصادفة و‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ متعلق به أو حال من مفعوله، وجوز أن يكون بمعنى العلم و‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ عليه في موضع المفعول الثاني‏.‏

‏{‏أَوَلَوْ كَانَ ءابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ‏}‏ ذهب الراغب إلى أن الواو للعطف، وصرح غير واحد أنه على شرطية أخرى مقدرة قبلها والهمزة للتعجيب وهي داخلة على مقدر في الحقيقة أي أيكفيهم ذلك لو لم يكن آباؤهم جهلة ضالين ولو كانوا كذلك وكلتا الجملتين في موقع الحال أي أيكفيهم ما وجدوا عليه آباءهم كائنين على كل حال مفروض، وعلى هذا لا يلزم كون الجملة الاستفهامية الإنشائية حالاً ليحتاج توجيه ذلك إلى نظر دقيق، وحذفت الجملة الأولى للدلالة عليها دلالة واضحة وهو حذف مطرد في هذا الباب لذلك كما في قولك‏:‏ أحسن إلى زيد ولو أساء إليك فإن الشيء إذا تحقق عند المانع فلأن يتحقق عند عدمه أولى‏.‏ وجواب لو كما قال أبو البقاء محذوف لظهور انفهامه مما سبق وقدره يتبعونهم‏.‏ ويجوز أن يقدر حسبهم ذلك أو يقولون، وما في لو من معنى الامتناع والاستبعاد إنما هو بالنظر إلى زعمهم لا في نفس الأمر، وفائدة ذلك المبالغة في الإنكار والتعجيب، وقيل‏:‏ الواو للحال والهمزة لإنكار الفعل على هذه الحال؛ والمراد نفي صحة الاقتداء بالجاهل الضال، والحال ما يفهم من الجملة أي كائنين على هذا الحال المفروض فما قيل‏:‏ إنهم جعلوا الواو للحال وليس ما دخلته الواو حالاً من جهة المعنى بل ما دخلته لو أي ولو كان الحال أن آباءهم لا يعلمون فيفعلون ما يقتضيه علمهم ولا يهتدون بمن له علم ناشىء من قلة التأمل وذلك غريب من حال ذلك القائل، وأغرب من ذلك ما قيل‏:‏ إن المعنى أنهم هل يكفيهم ما عليه آباؤهم ولو كان آباؤهم جهلة ضالين أي هل يكفيهم الجهل والضلال اللذان كان عليهما آباؤهم‏.‏ ويوشك أن يكون هذا من الجهل والضلال فيما يليق بالتنزيل‏.‏ واستدل بالآية على أن الاقتداء إنما يصح بمن علم أنه عالم مهتد وذلك لا يعرف إلا بالحجة فلا يكفي التقليد من غير أن يعلم أن لمن قلده حجة صحيحة على ما قلده فيه حتى قالوا‏:‏ إن للمقلد دليلاً إجمالياً وهو دليل من قلده فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏‏}‏

‏{‏يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ أي إلزموا أنفسكم واحفظوها من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب، فعليكم اسم فعل أمر نقل إلى ذلك مجموع الجار والمجرور لا الجار وحده كما قيل‏.‏ وهو متعد إلى المفعول به بعده وقد يكون لازماً، والمراد به الأمر بالتمسك كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ عليك بذات الدين ‏"‏ وذكر أبو البقاء أن الكاف والميم في موضع جر لأن اسم الفعل هو المجموع وعلى وحدها لم تستعمل اسماً للفعل بخلاف رويدكم فإن الكاف والميم هناك للخطاب فقط ولا موضع لها لأن رويداً قد استعمل اسماً لأمر المواجه من غير كاف الخطاب وإلى ذلك ذهب سيبويه وهو الصحيح، ونقل الطبرسي أن استعمال على مع الضمير اسم فعل خاص فيما إذا كان الضمير للخطاب فلو قلت عليه زيداً لم يجز وفيه خلاف‏.‏ وقرأ نافع في الشواذ ‏{‏أَنفُسَكُمْ‏}‏ بالرفع، والكلام حينئذٍ مبتدأ وخبر أي لازمة عليكم أنفسكم أو حفظ أنفسكم لازم عليكم بتقدير مضاف في المبتدأ‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم‏}‏ يحتمل الرفع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله وينصره قراءة أبي حيوة ‏{‏لا‏}‏، ويحتمل أن يكون مجزوماً جواباً للأمر، والمعنى إن لزمتم أنفسكم لا يضركم‏.‏ وإنما ضمت الراء اتباعاً لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة والأصل لا يضرركم، ويجوز أن يكون نهياً مؤكداً للأمر السابق والكلام على حد لا أرينك ههنا‏.‏ وينصر احتمال الجزم قراءة من قرأ ‏{‏وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ بالفتح ‏{‏وَلاَ يَضُرُّكُمْ‏}‏ بكسر الضاد وضمها من ضاره يضيره ويضوره بمعنى ضره كذمه وذامه، وتوهم من ظاهر الآية الرخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‏.‏ وأجيب عن ذلك بوجوه‏.‏ الأول أن الاهتداء لا يتم إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن ترك ذلك مع القدرة عليه ضلال‏.‏ فقد أخرج ابن جرير عن قيس بن أبي حازم قال‏:‏ «صعد أبو بكر رضي الله تعالى عنه منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال‏:‏ أيها الناس إنكم لتتلون آية من كتاب الله سبحانه وتعدونها رخصة والله ما أنزل الله تعالى في كتابه أشد منها ‏{‏يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ الآية والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمنكم الله تعالى منه بعقاب وفي رواية يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وإنكم تضعونها على غير موضعها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب»‏.‏

وفي رواية ابن مردويه عن أبي بكر بن محمد قال‏:‏ خطب أبو بكر الصديق الناس فكان في خطبته «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا أيها الناس لا تتكلوا على هذه الآية ‏{‏يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ الخ إن الداعر ليكون في الحي فلا يمنعونه فيعمهم الله تعالى بعقاب ‏"‏‏.‏ ومن الناس من فسر الاهتداء هنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وروي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب، والثاني‏:‏ أن الآية تسلية لمن يأمر وينهى ولا يقبل منه عند غلبة الفسق وبعد عهد الوحي، فقد أخرج عبد الرزاق وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم عن الحسن أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه سأله رجل عن هذه الآية فقال‏:‏ أيها الناس إنه ليس بزمانها ولكنه قد أوشك أن يأتي زمان تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا أو قال‏:‏ فلا يقبل منكم فحينئذٍ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قيل له‏:‏ لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه فإن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ‏}‏ فقال‏:‏ إنها ليست لي ولا لأصحابي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ ألا فليبلغ الشاهد الغائب ‏"‏ فكنا نحن الشهود وأنتم الغيب ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل أنه قال‏:‏ يا رسول الله أخبرني عن قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَهْتَدُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم‏}‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا معاذ ‏"‏ مروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر فإذا رأيتم شحاً مطاعاً وهوى متبعاً وإعجاب كل امرىء برأيه فعليكم أنفسكم لا يضركم ضلالة غيركم فإن من ورائكم أيام صبر المتمسك فيها بدينه مثل القابض على الجمر فللعامل منهم يومئذٍ مثل عمل أحدكم اليوم كأجر خمسين منكم قلت‏:‏ يا رسول الله خمسين منهم قال‏:‏ بل خمسين منكم أنتم ‏"‏‏.‏ والثالث‏:‏ أنها للمنع عن هلاك النفس حسرة وأسفاً على ما فيه الكفرة والفسقة من الضلال فقد كان المؤمنون يتحسرون على الكفرة ويتمنون إيمانهم فنزلت‏.‏ والرابع‏:‏ أنها للرخصة في ترك الأمر والنهي إذا كان فيهما مفسدة‏.‏ والخامس‏:‏ أنها للأمر بالثبات على الإيمان من غير مبالاة بنسبة الآباء إلى السفه، فقد قيل‏:‏ كان الرجل إذا أسلم قالوا له سفهت أباك فنزلت، وقيل‏:‏ معنى الآية يا أيها الذين آمنوا الزموا أهل دينكم واحفظوهم وانصروهم لا يضركم من ضل من الكفار إذا فعلتم ذلك، والتعبير عن أهل الدين بالأنفس على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 29‏]‏ ونحوه، والتعبير عن ذلك الفعل بالاهتداء للترغيب فيه ولا يخفى ما فيه‏.‏

‏{‏إِلَى الله‏}‏ لا إلى أحد سواه ‏{‏مَرْجِعُكُمْ‏}‏ رجوعكم يوم القيامة ‏{‏جَمِيعاً‏}‏ بحيث لا يتخلف عنه أحد من المهتدين وغيرهم ‏{‏فَيُنَبّئُكُمْ‏}‏ بالثواب والعقاب ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا من أعمال الهداية والضلال، فالكلام وعد ووعيد للفريقين، وفيه كما قيل دليل على أن أحداً لا يؤاخذ بعمل غيره وكذا يدل على أنه لا يثاب بذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏106‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آَخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآَثِمِينَ ‏(‏106‏)‏‏}‏

‏{‏خَبِيراً يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ استئناف مسوق لبيان الأحكام المتعلقة بأمور دنياهم إثر بيان الأحوال المتعلقة بأمور دينهم، وفيه من إظهار كمال العناية بمضمونه ما لا يخفى ‏{‏شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان‏}‏ للشهادة معان‏:‏ الإحضار والقضاء والحكم والحلف والعلم والإيصاء، والمراد بهاهنا الأخير كما نص عليه جماعة من المفسرين، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك، وقرأها الجمهور بالرفع على أنها مبتدأ و‏(‏ اثنان‏)‏ خبرها، والكلام على حذف مضاف من الأول أي ذو شهادة بينكم إثنان أو من الثاني أي شهادة بينكم شهادة إثنين، والتزم ذلك ليتصادق المبتدأ والخبر، وقيل‏:‏ الشهادة بمعنى الشهود كرجل عدل فلا حاجة إلى التزام الحذف، وقيل‏:‏ الخبر محذوف و‏(‏ اثنان‏)‏ مرفوع بالمصدر الذي هو ‏{‏شَهَادَةً‏}‏ والتقدير فيما فرض عليكم أن يشهد إثنان وإلى هذا ذهب الزجاج والشهادة فيه على معناها المتبادر منها لا بمعنى الإشهاد، وكلام البعض يوهم ذلك وهو في الحقيقة بيان لحاصل معنى الكلام‏.‏ وزعم بعضهم أنها بمعنى الإشهاد الذي هو مصدر المجهول و‏(‏ اثنان‏)‏ قائم مقام فاعله، وفيه أن الإتيان لمصدر الفعل المجهول بنائب فاعل وهو اسم ظاهر وإن جوزه البصريون كما في «شرح التسهيل» للمرادي فقد منعه الكوفيون وقالوا‏:‏ إنه هو الصحيح لأن حذف فاعل المصدر سائغ شائع فلا يحتاج إلى ما يسد مسد فاعله كفاعل الفعل الصريح‏.‏ و‏{‏إِذَا‏}‏ ظرف لشهادة أي ليشهد وقت حضور الميت والمراد مشارفته وظهور أماراته، و‏{‏حِينَ الوصية‏}‏ أما بدل من ‏{‏إِذَا‏}‏ وفيه تنبيه على أن الوصية من المهمات المقررة التي لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم ويذهل عنها‏.‏ وجوز أن يتعلق بنفس الموت أي وقوع الموت أي أسبابه حين الوصية أو يحضر، وأن يكون ‏{‏شَهَادَةً‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏إِذَا حَضَرَ‏}‏ أي وقوع الشهادة في وقت حضور الموت و‏{‏حِينَ الوصية‏}‏ على الأوجه السابقة، ولا يجوز فيه أن يكون ظرفاً للشهادة لئلا يخبر عن الموصول قبل تمام صلته أو خبره ‏{‏حِينَ الوصية‏}‏ و‏{‏إِذَا‏}‏ منصوب بالشهادة ولا يجوز نصبه بالوصية وإن كان المعنى عليه لأن معمول المصدر لا يتقدمه على الصحيح مع ما يلزم من تقديم معمول المضاف إليه على المضاف وهو لا يجوز في غير غير لأنها بمنزلة لا و‏{‏اثنان‏}‏ على هذين الوجهين إما فاعل يشهد مقدراً أو خبراً لشاهدان كذلك‏.‏ وعن الفراء أن ‏{‏شَهَادَةً‏}‏ مبتدأ و‏{‏اثنان‏}‏ فاعله سدَّ مسد الخبر وجعل المصدر بمعنى الأمر أي ليشهد، وفيه نيابة المصدر عن فعل الطلب وهو ضعيف عند غيره لأن الاكتفاء بالفاعل مخصوص بالوصف المعتمد‏.‏

و ‏{‏إِذَا‏}‏ و‏{‏حِينٍ‏}‏ عليه منصوبان على الظرفية كما مر، وإضافة ‏{‏شَهَادَةً‏}‏ إلى الظرف على التوسع لأنه متصرف ولذا قرىء ‏{‏تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏ بالرفع، وقيل‏:‏ إن الأصل ما بينكم وهو كناية عن التخاصم والتنازع، وحذف ما جائز نحو ‏{‏وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 20‏]‏ أي ما ثم، وأورد عليه أن ما الموصولة لا يجوز حذفها ومنهم من جوزه‏.‏

وقرأ الشعبي ‏{‏شهادة بَيْنِكُمْ‏}‏ بالرفع والتنوين فبينكم حينئذٍ منصوب على الظرفية‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏شَهَادَةً‏}‏ بالنصب والتنوين، وخرج ذلك ابن جني على أنها منصوبة بفعل مضمر ‏{‏اثنان‏}‏ فاعله أي ليقم شهادة بينكم اثنان‏.‏ وأورد عليه أن حذف الفعل وإبقاء فاعله لم يجزه النحاة إلا إذا تقدم ما يشعر به كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والاصال‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 36‏]‏ في قراءة من قرأ ‏{‏يُسَبّحُ‏}‏ بالبناء للمفعول، وقول الشاعر‏:‏

ليبك يزيد ضارع لخصومة *** أو أجيب به نفي أو استفهام وذلك ظاهر، والآية ليست واحداً من هذه الثلاثة‏.‏ وأجيب بأن ما ذكر من الاشتراط غير مسلم بل هو شرط الأكثرية، واختار في «البحر» وجهين للتخريج، الأول‏:‏ أن تكون ‏{‏شَهَادَةً‏}‏ منصوبة على المصدر النائب مناب فعل الأمر و‏{‏اثنان‏}‏ مرتفع به، والتقدير ليشهد بينكم اثنان فيكون من باب ضربا زيداً إلا أن الفاعل في ضربا يستند إلى ضمير المخاطب لأن معناه اضرب، وهذا يستند إلى الظاهر لأن معناه ما علمت، والثاني‏:‏ أن تكون مصدراً لا بمعنى الأمر بل خبراً ناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلاً كقوله‏:‏

وقوفاً بها صحبي على مطيهم *** فارتفاع صحبي وانتصاب مطيهم بقوله وقوفاً فإنه بدل من اللفظ بالفعل في الخبر، والتقدير وقف صحبي على مطيهم، والتقدير في الآية يشهد إذا حضر أحدكم الموت اثنان‏.‏

‏{‏ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ‏}‏ أي من المسلمين كما روي عن ابن عباس وابن مسعود والباقر رضي الله تعالى عنهم وابن المسيب عليه الرحمة، أو من أقاربكم وقبيلتكم كما روي عن الحسن وعكرمة، وهو الذي يقتضيه كلام الزهري وهما صفتان لاثنان ‏{‏أَوْ ءاخَرَانِ‏}‏ عطف على ‏{‏اثنان‏}‏ في سائر احتمالاته‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنْ غَيْرِكُمْ‏}‏ صفة له أي كائنان من غيركم، والمراد بهم غير المسلمين من أهل الكتاب عند الأولين وغير الأقربين من الأجانب عند الآخرين‏.‏ واختار الأول جماعة من المتأخرين حتى قال الجصاص‏:‏ إن التفسير الثاني لا وجه له لأن الخطاب توجه أولاً إلى أهل الإيمان فالمغايرة تعتبر فيه ولم يجر للقرابة ذكر، ويدل لذلك أيضاً سبب النزول وسيأتي قريباً إن شاء الله تعالى‏.‏

‏{‏إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِى الارض‏}‏ أي سافرتم، وارتفاع ‏{‏أَنتُمْ‏}‏ بفعل مضمر يفسره ما بعده، والتقدير إن ضربتم فلما حذف الفعل وجب أن يفصل الضمير ليقوم بنفسه وهذا رأي جمهور البصريين، وذهب الأخفش والكوفيون إلى أنه مبتدأ بناءً على جواز وقوع المبتدأ بعد إن الشرطية كجواز وقوعه بعد ‏(‏إذا‏)‏ فجملة ‏{‏ضَرَبْتُمْ‏}‏ لا موضع لها على الأول للتفسير وموضعها الرفع على الخبرية على الثاني‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت‏}‏ أي قاربتم الأجل عطف على الشرط وجوابه محذوف، فإن كان الشرط قيداً في أصل الشهادة فالتقدير إن ضربتم في الأرض الخ فليشهد اثنان منكم أو من غيركم، وإن كان شرطاً في العدول إلى آخرين بالمعنى الذي نقل عن الأولين فالتقدير فاشهدوا آخرين من غيركم أو فالشاهدان آخران من غيركم، وحينئذٍ تفيد الآية أنه لا يعدل في الشهادة إلى غير المسلمين إلا بشرط الضرب في الأرض، وروي ذلك عن شريح رضي الله تعالى عنه‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏تَحْبِسُونَهُمَا‏}‏ أي تلزمونهما وتصبرونهما للتحليف استئناف كأنه قيل كيف نعمل إذا ارتبنا بالشاهدين فقال سبحانه‏:‏ تحبسونهما ‏{‏مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ‏}‏ أي صلاة العصر كما روي عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه وقتادة وابن جبير وغيرهم، والتقييد بذلك لأنه وقت اجتماع الناس وتكاثرهم ولأن جميع أهل الأديان يعظمونه ويجتنبون الحلف الكاذب فيه ولأنه وقت تصادم ملائكة الليل والنهار وتلاقيهم، وفي ذلك تكثير للشهود منهم على صدق الحالف وكذبه فيكون أخوف، وعد ذلك بعضهم من باب التغليظ على المستحلف بالزمان‏.‏ وعندنا لا يلزم التغليظ به ولا بالمكان بل يجوز للحاكم فعله‏.‏ وعن الحسن أن المراد بها صلاة العصر أو الظهر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما، وجوز أن تكون اللام للجنس أي بعد أي صلاة كانت‏.‏ والتقييد بذلك لأن الصلاة داعية إلى النطق بالصدق ناهية عن التفوه بالكذب والزور وارتكاب الفحشاء والمنكر‏.‏ وجعل الحسن التقييد بذلك دليلاً على ما تقدم من تفسيره‏.‏ وجوز أن تكون الجملة صفة أخرى لآخران؛ وجملة الشرط معترضة فلا يضر الفصل بها‏.‏ وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وتعقب بأنه يقتضي اختصاص الحبس بالآخرين مع شموله للأولين أيضاً قطعاً على أن اعتبار اتصافهما بذلك يأباه مقام الأمر بإشهادهما إذ مآله فآخران شأنهما الحبس والتحليف وإن أمكن إتمام التقريب باعتبار قيد الارتياب بهما كما يفيده الاعتراض الآتي ولا يخفى ما فيه‏.‏

والخطاب للموصى لهم وقيل‏:‏ للورثة وقيل‏:‏ للحكام والقضاة‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَيُقْسِمَانِ بالله‏}‏ عطف على ‏{‏تَحْبِسُونَهُمَا‏}‏ ‏{‏إِنِ ارتبتم‏}‏ أي شككتم في صدقهما وعدم استبدادهما بشيء من التركة‏.‏ والجملة شرطية حذف جوابها لدلالة ما سبق من الحبس والإقسام عليه، والشرط مع جوابه المحذوف معترض بين القسم وجوابه أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ نَشْتَرِى بِهِ ثَمَناً‏}‏ وقد سيق من جهته تعالى للتنبيه على اختصاص الحبس والتحليف بحال الارتياب وليس هذا من قبيل ما اجتمع فيه قسم وشرط فاكتفى بذكر جواب سابقهما عن جواب الآخر كما هو الواقع غالباً لأن ذلك إنما يكون عند سد جواب السابق مسد جواب اللاحق لاتحاد مضمونهما كما في قولك‏:‏ والله إن أتيتني لأكرمنك، ولا ريب في استحالته ههنا لأن القسم وجوابه كلام الشاهدين والشرطية كما علمت من جهته سبحانه وتعالى، ولا يتوهم أن إن هنا وصلية لأنها مع أن الواو لازمة لها ليس المعنى عليها كما لا يخفى‏.‏

وزعم بعضهم جواز كونها شرطية و‏{‏لاَ نَشْتَرِى‏}‏ دليل الجواب، والمعنى إن ارتبتم فلا ينبغي ذلك أو فقد أخطأتم لأنا لسنا ممن يشتري به ثمناً قليلاً وهو بعيد جداً وتخلو الآية عليه ظاهراً من شرط التحليف، وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ عائد إلى الله تعالى، والمعنى لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من الله سبحانه أي من حرمته تعالى عرضاً من الدنيا بأن نزيلها بالحلف الكاذب وحاصله لا نحلف بالله تعالى حلفاً كاذباً لأجل المال، وقيل‏:‏ إنه عائد إلى القسم على تقدير مضاف أي لا نستبدل بصحة القسم بالله تعالى عرضاً من الدنيا بأن نزيل عنه وصف الصدق ونصفه بالكذب، وقيل‏:‏ إلى الشهادة باعتبار أنها قول ولا بد من تقدير مضاف أيضاً، وتقدير مضاف في ‏{‏ثَمَناً‏}‏ أي ذا ثمن مما لا يدع إليه إلا قلة التأميل‏.‏

‏{‏وَلَوْ كَانَ‏}‏ المقسم له المدلول عليه بفحوى الكلام ‏{‏ذَا قربى‏}‏ أي قريباً منا‏.‏ وهذا تأكيد لتبريهما من الحلف الكاذب ومبالغة في التنزه عنه كأنهما قالا‏:‏ لا نأخذ لأنفسنا بدلاً من ذلك مالاً ولو انضم إليه رعاية جانب الأقرباء فكيف إذا لم يكن كذلك، وصيانة أنفسهما وإن كانت أهم من رعاية جانب الأقرباء لكنها كما قال شيخ الإسلام ليست ضميمة المال بل هي راجعة إليه، وقيل‏:‏ الضمير للمشهود له على معنى لا نحابي أحداً بشهادتنا ولو كان قريباً منا، وجواب لو محذوف اعتماداً على ما سبق عليه أي لا نشتري به ثمناً، والجملة معطوفة على جملة أخرى محذوفة أي لو لم يكن ذا قربى ولو كان الخ، وجعل السمين الواو للحال، وقد تقدم لك ما ينفعك هنا‏.‏ وجوز بعضهم إرجاع الضمير للشاهد وقدر جواباً للو غير ما قدرناه أي ولو كان الشاهد قريباً يقسمان، وجعل فائدة ذلك دفع توهم اختصاص الأقسام بالأجنبي، ولا يخفى ما في التركيب حينئذ من الركاكة التي لا ينبغي أن تكون في كلام هذا البعض فضلاً عن كلام رب الكل، ونشهد بالله سبحانه وتعالى أن حمل كلامه عز وجل على مثل ذلك مما لا يليق‏.‏

‏{‏وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله‏}‏ أي الشهادة التي أمرنا سبحانه وتعالى بإقامتها وألزمنا أداءها فالإضافة للاختصاص أو لأدنى ملابسة، والجملة معطوفة على ‏{‏لاَ نَشْتَرِى بِهِ‏}‏ داخل معه في حيز القسم‏.‏

وروي عن الشعبي أنه وقف على ‏{‏شَهَادَةً‏}‏ بالهاء ثم ابتدأ آلله بالمد والجر على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه وليس هذا من حذف حرف الجر وإبقاء عمله وهو شاذ كقوله‏:‏

أشارت كليب بالأكف الأصابع *** لأن ذلك حيث لا تعويض، وفي الجلالة الكريمة تعويض همزة الاستفهام عن المحذوف، وهل البحر به أو بالعوض قولان‏.‏ وروي عنه وكذا عن الحسن رضي الله تعالى عنه ويحيى بن عمر وابن جرير وآخرين ‏{‏الله‏}‏ بدون مد وفي ذلك احتمالان‏.‏ الأول‏:‏ أن الحذف من غير عوض فيكون على خلاف القياس، والثاني‏:‏ أن الهمزة المذكورة همزة الاستفهام وهي همزة قطع عوضت عن الحرف ولكنها لم تمد وهذا أولى من دعوى الشذوذ ولذا اختاره في «الدر المصون»، وقرىء بتنوين الشهادة ووصل الهمزة ونصب اسم الله تعالى من غير مد وخرجه أبو البقاء على أنه منصوب بفعل القسم محذوفاً‏.‏

‏{‏إِنَّا إِذَاً لَّمِنَ الاثمين‏}‏ أي إذا فعلنا ذلك وكتمنا، والعدول عن آثمون إلى ما ذكر للمبالغة‏.‏ وقرىء ‏{‏لملاثمين‏}‏ بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏107‏)‏‏}‏

‏{‏الاثمين فَإِنْ عُثِرَ‏}‏ أي اطلع يقال عثر الرجل على الشيء عثوراً إذا اطلع عليه‏.‏ وقال الغوري‏:‏ تقول عثرت إذا اطلعت على ما كان خفياً وهو مجاز بحسب الأصل من قولهم‏:‏ عثر إذا كبا وذلك أن العاثر ينظر إلى موضع عثاره فيعرفه ويطلع عليه، وقال الليث‏:‏ إن مصدر عثر بمعنى اطلع العثور وبمعنى كبا العثار وحينئذ يخفى القول بالمجاز لأن اختلاف المصدر ينافيه فلا تتأتى تلك الدعوى إلا على ما قاله الراغب من اتحاد المصدرين، وفي «القاموس» «عثر كضرب ونصر وعِلم وكُرم عَثْراً وعَثِيراً وعِثاراً كبا‏.‏ والعثور الإطلاع كالعثر» وظاهر هذا أن لا مجاز‏.‏ ويفهم منه أيضاً الاتحاد في بعض المصادر فافهم، والمراد فإن عثر بعد التحليف‏.‏

‏{‏على أَنَّهُمَا‏}‏ أي الشاهدين الحالفين ‏{‏استحقا إِثْماً‏}‏ أي فعلاً ما يوجبه من تحريف وكتم بأن ظهر بأيديهما شيء من التركة وادعيا استحقاقهما له بوجه من الوجوه، وقال الجبائي‏:‏ الكلام على حذف مضاف أي استحقا عقوبة إثم ‏{‏فَآخَرَانِ‏}‏ أي فرجلان آخران‏.‏ وهو مبتدأ خبره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا‏}‏ والفاء جزائية وهي إحدى مصوغات الإبتداء بالنكرة‏.‏ ولا محذور في الفصل بالخبر بين المبتدأ وصفته وهو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الاوليان‏}‏، وقيل‏:‏ هو خبر مبتدأ محذوف أي فالشاهدان آخران، وجملة ‏{‏يِقُومَانُ‏}‏ صفته والجار والمجرور صفة أخرى؛ وجوز أبو البقاء أن يكون حالاً من ضمير ‏{‏يِقُومَانُ‏}‏، وقيل‏:‏ هو فاعل فعل محذوف أي فليشهد آخران وما بعده صفة له، وقيل‏:‏ مبتدأ خبره الجار والمجرور، والجملة الفعلية صفته وضمير ‏{‏مَقَامَهُمَا‏}‏ في جميع هذه الأوجه مستحق للذين استحقا‏.‏ وليس المراد بمقامهما مقام أداء الشهادة التي تولياها ولم يؤدياها كما هي بل هو مقام الحبس والتحليف، و‏{‏استحق‏}‏ بالبناء للفاعل قراءة عاصم في رواية حفص عنه وبها قرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي رضي الله تعالى عنهم وفاعله ‏{‏الاوليان‏}‏، والمراد من الموصول أهل الميت ومن الأوليين الأقربان إليه الوارثان له الأحقان بالشهادة لقربهما واطلاعهما وهما في الحقيقة الآخران القائمان مقام اللذين استحقا إثماً إلا أنه أقيم المظهر مقام ضميرهما للتنبيه على وصفهما بهذا الوصف‏.‏

ومفعول ‏{‏استحق‏}‏ محذوف واختلفوا في تقديره فقدره الزمخشري أن يجردوهما للقيام بالشهادة ليظهروا بهما كذب الكاذبين، وقدره أبو البقاء وصيتهما، وقدره ابن عطية ما لهم وتركتهم‏.‏ وقال الإمام‏:‏ إن المراد بالأوليان الوصيان اللذان ظهرت خيانتهما‏.‏ وسبب أولويتهما أن الميت عينهما للوصية فمعنى ‏{‏استحق عَلَيْهِمُ الاوليان‏}‏ خان في مالهم وجنى عليهم الوصيان اللذان عثر على خيانتهما‏.‏ وعلى هذا لا ضرورة إلى القول بحذف المفعول، وقرأ الجمهور ‏{‏استحق عَلَيْهِمُ الاوليان‏}‏ ببناء استحق للمفعول‏.‏

واختلفوا في مرجع ضميره والأكثرون أنه الإثم، والمراد من الموصول الورثة لأن استحقاق الإثم عليهم كناية عن الجناية عليهم ولا شك أن الذين جنى عليهم وارتكب الذنب بالقياس إليهم هم الورثة، وقيل‏:‏ إنه الإيصاء، وقيل‏:‏ الوصية لتأويلها بما ذكر، وقيل‏:‏ المال، وقيل‏:‏ إن الفعل مسند إلى الجار والمجرور، وكذا اختلفوا في توجيه رفع ‏{‏الاوليان‏}‏ فقيل‏:‏ إنه مبتدأ خبره آخران أي الأوليان بأمر بالميت آخران، وقيل‏:‏ بالعكس، واعترض بأن فيه الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو مما اتفق على منعه في مثله، وقيل‏:‏ خبر مبتدأ مقدر أي هما الآخران على الاستئناف البياني، وقيل‏:‏ بدل من آخران، وقيل‏:‏ عطف بيان عليه، ويلزمه عدم اتفاق البيان والمبين في التعريف والتنكير مع أنهما شرطوه فيه حتى من جوز تنكيره، نعم نقل عن نزر عدم الاشتراط، وقيل‏:‏ هو بدل من فاعل ‏{‏يِقُومَانُ‏}‏‏.‏ وكون المبدل منه في حكم الطرح ليس من كل الوجوه حتى يلزم خلو تلك الجملة الواقعة خبراً أو صفة عن الضمير، على أنه لو طرح وقام هذا مقامه كان من وضع الظاهر موضع الضمير فيكون رابطاً‏.‏ وقيل‏:‏ هو صفة آخران، وفيه وصف النكرة بالمعرفة‏.‏ والأخفش أجازه هنا لأن النكرة بالوصف قربت من المعرفة‏.‏ قيل‏:‏ وهذا على عكس‏:‏

ولقد أمر على اللئيم يسبني *** فإنه يؤول فيه المعرفة بالنكرة وهذا أول فيه النكرة بالمعرفة أو جعلت في حكمها للوصف، ويمكن كما قال بعض المحققين أن يكون منه بأن يجعل الأوليان لعدم تعينهما كالنكرة‏.‏ وعن أبي علي الفارسي أنه نائب فاعل ‏{‏استحق‏}‏ والمراد على هذا استحق عليهم انتداب الأوليين منهم للشهادة كما قال الزمخشري أو إثم الأوليين كما قيل وهو تثنية الأولى قلبت ألفه ياء عندها، وفي على في ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ أوجه الأول‏:‏ أنها على بابها‏.‏ والثاني‏:‏ أنها بمعنى في‏.‏ والثالث‏:‏ أنها بمعنى من وفسر ‏{‏استحق‏}‏ بطلب الحق وبحق وغلب وقرأ يعقوب وخلف وحمزة وعاصم في رواية أبي بكر عنه ‏{‏استحق عَلَيْهِمُ الاولين‏}‏ ببناء استحق للمفعول، والأولين جمع أول المقابل للآخر وهو مجرور على أنه صفة ‏{‏الذين‏}‏ أو بدل منه أو من ضمير ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ أو منصوب على المدح، ومعنى الأولية التقدم على الأجانب في الشهادة‏.‏ وقيل‏:‏ التقدم في الذكر لدخولهم في ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏الأولان‏}‏ بالرفع وهو كما قدمنا في الأوليان؛ وقرىء «الأولين» بالتثنية والنصب، وقرأ ابن سيرين ‏{‏الأوليين‏}‏ بياءين تثنية أولى منصوباً، وقرىء ‏{‏أساطير الاولين‏}‏ بسكون الواو وفتح اللام جمع أولى كأعلين وإعراب ذلك ظاهر‏.‏

‏{‏فَيُقْسِمَانِ بالله‏}‏ عطف على ‏{‏يِقُومَانُ‏}‏ والسببية ظاهرة‏.‏ وقوله سبحانه ‏{‏لشهادتنا أَحَقُّ مِن شهادتهما‏}‏ جواب القسم‏.‏

والمراد بالشهادة عند الكثير ومنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما اليمين كما في قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شهادات بالله‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 6‏]‏ وسميت اليمين شهادة على ما قاله الطبرسي «لأن اليمين كالشهادة على ما يحلف عليه أنه كذلك» أي ليميننا على أنهما كاذبان فيما ادعيا من الاستحقاق مع كونها حقة صادقة في نفسها أولى بالقبول من يمينهما مع كونها كاذبة في نفسها لما أنه قد ظهر للناس استحقاقهما للإثم ويميننا منزهة عن الريب والريبة وصيغة التفضيل إنما هي لإمكان قبول يمينهما في الجملة باعتبار صدقهما في ادعاء تملكهما لما ظهر في أيديهما، وقيل‏:‏ إن الشهادة على معناها المتبادر عند الإطلاق، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن بعض المحققين غير ذلك‏.‏

وقوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏وَمَا اعتدينا‏}‏ عطف على الجواب أي ما تجاوزنا في شهادتنا الحق وما اعتدينا عليهما بإبطال حقهما‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين‏}‏ استئناف مقرر لما قبله أي إنا إذا اعتدينا فيما ذكر لمن الظالمين أنفسهم بتعريضها لسخط الله تعالى وعذابه أو لمن الواضعين الحق في غير موضعه، ومعنى الآيتين عند غير واحد من المفسرين أن المحتضر إذا أراد الوصية ينبغي أن يشهد عدلين من ذوي دينه أو نسبه فإن لم يجدهما بأن كان في سفر فآخران من غيرهم، ثم إن وقع ارتياب في صدقهما أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت فإن اطلع على كذبهما بأمارة حلف آخران من أهل الميت‏.‏ وادعى أن الحكم منسوخ إذا كان الإثنان شاهدين فإنه لا يحلف الشاهد ولا يعارض يمينه بيمين الوارث، وقيل‏:‏ إن التحليف لم ينسخ لكنه مشروط بالريبة‏.‏

وقد روي عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما، وفي بعض كتب الحنفية أن الشاهد إن لم يجد من يزكيه يجوز تحليفه احتياطاً وهذا خلاف المفتى به كما بسط في محله‏.‏ وكذا ادعى البعض النسخ أيضاً على تقدير أن يكون المراد بالشاهدين في السفر غير مسلمين لأن شهادة الكافر على المسلم لا تقبل مطلقاً، وروى حديث النسخ ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال بعضهم‏:‏ لا نسخ وأجاز شهادة الذمي على المسلم في هذه الصورة‏.‏

وروي عن أبي موسى الأشعري أنه حكم لما كان والياً على الكوفة بمحضر من الصحابة بشهادة ذميين بعد تحليفهما في وصية مسلم في السفر وإلى ذلك ذهب الإمام أحمد بن حنبل، وقال آخرون‏:‏ الإثنان وصيان وحكم تحليفهما إذا ارتاب الورثة غير منسوخ، وما أفادته الآية من رد اليمين على الورثة ليس من حيث إنهم مدعون وقد ظهرت خيانة الوصيين فردت اليمين عليهما خلافاً للشافعي بل من حيث إنهم صاروا مدعى عليهم لانقلاب الدعوى فإن الوصي المدعى عليه أولاً صار مدعياً للملك والورثة ينكرون ذلك، ويدل عليه ما أخرجه البخاري في «التاريخ» والترمذي وحسنه وابن جرير وابن المنذر وخلق آخرون عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء، وقيل‏:‏ نداء بالنون فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم فلما قدما بتركته فقدموا جاما من فضة مخوصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالله تعالى ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجد الجام بمكة فقيل اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله سبحانه لشهادتهما أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم وأخذ الجام وفيهم نزلت ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الخ، هذا وادعى بعض المحققين أن الشهادة ههنا لا يمكن أن تكون بمعناها المتبادر بوجه ولا تتصور لأن شهادتهما إما على الميت ولا وجه لها بعد موته وانتقال الحق إلى الورثة وحضورهم أو على الوارث المخاصم وكيف يشهد الخصم على خصمه فلا بد من التأويل، وذكر أن الظاهر أن تحمل في قوله سبحانه ‏{‏شهادة بَيْنِكُمْ‏}‏ على الحضور أو الإحضار أي إذا حضر الموت المسافر فليحضر من يوصي إليه بإيصال ماله لوارثه مسلماً فإن لم يجد فكافراً، والاحتياط أن يكونا اثنين فإذا جاءا بما عندهما وحصل ريبة في كتم بعضه فليحلفا لأنهما مودعان مصدقان بيمينهما فإن وجد ما خانا فيه وادعيا أنهما تملكاه منه بشراء ونحوه ولا بينة لهما على ذلك يحلف المدعى عليه على عدم العلم بما ادعياه من التملك وأنه ملك لمورثهما لا نعلم انتقاله عن ملكه، والشهادة الثانية‏:‏ بمعنى العلم المشاهد أو ما هو بمنزلته لأن الشهادة المعاينة فالتجوز بها عن العلم صحيح قريب، والشهادة الثالثة‏:‏ إما بهذا المعنى أو بمعنى اليمين، وعلى هذا وهو مما أفاضه الله تعالى عليَّ ببركة كلامه سبحانه فلا نسخ في الآية ولا إشكال، وما ذكروه كله تكلف لم يصف من الكدر لذوق ذائق، وسبب النزول وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم مبين لما ذكر انتهى‏.‏

ولعل تخصيص الإثنين اللذين يحلفان بأحقية شهادتهما على ما قيل لخصوص الواقعة وإلا فإن كان الوارث واحداً حلف وإن تعدد حلف المتعدد كما بين في الكتب الفقهية، وما ذكر من أن سبب النزول الخ مبين لما قرره فيه بعض خفاء إذ ليس في الخبر أن الوارثين حلفا على عدم العلم، وفي غيره ما هو نص في الحلف على الثبات، فقد روي في خبر أطول مما تقدم أن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميين قاما فحلفا بالله سبحانه بعد العصر أنهما أي تميماً وعديا كذبا وخانا، نعم قال الترمذي في «الجامع» بعد روايته لذلك الخبر‏:‏ إنه حديث غريب وليس إسناده بصحيح، وأيضاً في حمل الشهادة على شيء مما ذكره في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله‏}‏ خفاء، وادعى هو نفسه أن حمل الشهادة على اليمين بعيد لأنها إذا أطلقت فهي المتعارفة فتأمل، فقد قال الزجاج‏:‏ إن هذه الآية من أشكل ما في القرآن، وقال الواحدي‏:‏ روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ هذه الآية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، وقال الإمام‏:‏ اتفق المفسرون على أن هذه الآية في غاية الصعوبة إعراباً ونظماً وحكماً، وقال المحقق التفتازاني‏:‏ اتفقوا على أن هذه الآية أصعب ما في القرءان حكماً وإعراباً ونظماً‏.‏

وقال الشهاب‏:‏ اعلم أنهم قالوا‏:‏ ليس في القرآن أعظم إشكالاً وحكماً وإعراباً وتفسيراً من هذه الآية والتي بعدها يعني ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الخ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ عُثِرَ‏}‏ الخ حتى صنفوا فيها تصانيف مفردة قالوا‏:‏ ومع ذلك لم يخرج أحد من عهدتها‏.‏ وذكر الطبرسي أن الآيتين من أعوص القرآن حكماً ومعنى وإعراباً وافتخر بما أتى فيهما ولم يأت بشيء إلى غير ذلك من أقوالهم وسبحان الخبير بحقائق كلامه‏.‏