فصل: تفسير الآية رقم (20)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ جواب عما سبق في الرواية الأولى من قولهم‏:‏ سألنا ‏(‏عنك‏)‏ اليهود والنصارى الخ أخر عن تعيين الشهيد مسارعة ‏(‏إلزامهم بِ‏)‏ ‏(‏1‏)‏ إلى الجواب عن تحكمهم بقولهم‏:‏ أرنا من يشهد لك فالمراد من الموصول ما يعم الصنفين اليهود والنصارى ومن الكتاب جنسه الصادق على التوراة والإنجيل، وإيرادهم بعنوان إيتاء الكتاب للإيذان بمدار ما أسند إليهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَهُ‏}‏ أي يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏من جهة الكتابين‏)‏ ‏(‏1‏)‏ بحليته ونعوته المذكورة فيهما، وفيه التفات‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير للكتاب، واختاره أبو البقاء‏.‏ والأول هو الذي تؤيده الأخبار كما ستعرفه‏.‏

‏{‏كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ‏}‏ بحلاهم بحيث لا يشكون في ذلك أصلاً‏.‏ روى أبو حمزة وغيره أنه لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال عمر رضي الله تعالى عنه لعبد الله بن سلام‏:‏ إن الله تعالى أنزل على نبيه عليه الصلاة والسلام أن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فكيف هذه المعرفة‏؟‏ فقال ابن سلام‏:‏ نعرف نبي الله صلى الله عليه وسلم بالنعت الذي نعته الله تعالى به إذا رأيناه فيكم عرفناه كما يعرف أحدنا ابنه إذا رآه بين الغلمان وأيم الله الذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد أشد معرفة مني بابني لأني لا أدري ما أحدثت أمه فقال عمر رضي الله تعالى عنه قد وفقت وصدقت‏.‏ وزعم بعضهم أن المراد بالمعرفة هنا ما هو بالنظر والاستدلال لأن ما يتعلق بتفاصيل حليته صلى الله عليه وسلم إما أن يكون باقياً وقت نزول الآية أو لا بل محرفاً مغيراً والأول باطل ولا يتأتى لهم إخفاء ذلك لأن إخفاء ما شاع في الآفاق محال؛ وكذا الثاني لأنهم لم يكونوا حينئذ عارفين حليته الشريفة عليه الصلاة والسلام كما يعرفون حلية أبنائهم‏.‏ وفيه أن الإخفاء مصرح به في القرآن كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَجْعَلُونَهُ قراطيس تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 91‏]‏ وإخفاؤها ليس بإخفاء النصوص بل بتأويلها، وبقولهم‏:‏ إنه رجل آخر سيخرج وهو معنى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 14‏]‏ ‏{‏الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ من أهل الكتابين والمشركين ‏{‏فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏ بما يجب الإيمان به، وقد تقدم الكلام في هذا التركيب آنفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً‏}‏ بادعائه أن له جل شأنه شريكاً وبقوله الملائكة بنات الله، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله‏.‏ وعد من ذلك وصف النبي عليه الصلاة والسلام الموعود في الكتابين بخلاف أوصافه‏.‏ والاستفهام للاستعظام الادعائي‏.‏ والمشهور أن المراد إنكار أن يكون أحد أظلم ممن فعل ذلك أو مساوياً له، والتركيب وإن لم يدل على إنكار المساواة وضعاً كما قال العلامة الثاني في «شرح المقاصد وحواشي الكشاف» يدل عليه استعمالاً فإذا قلت‏:‏ لا أفضل في البلد من زيد فمعناه أنه أفضل من الكل بحسب العرف، والسر في ذلك أن النسبة بين الشيئين إنما تتصور غالباً لا سيما في باب المغالبة بالتفاوت زيادة ونقصاناً فإذا لم يكن أحدهما أزيد يتحقق النقصان لا محالة‏.‏

وادعى بعض المتأخرين أنه سنح له في توجيه ذلك نكتة حسنة ودقيقة مستحسنة وهي أن المتساويين بل المتقاربين في نفس الأمر لا يسلم كل واحد منهما أن يفضل عليه صاحبه فإن كل أحد لا يقدر على أن يقدر كل شيء حق قدره وكل إنسان لا يقوى على أن يعرف كل أمر على ما هو عليه فإن الأفهام في مقابلة الأوهام متفاوتة والعقول في مدافعة الشكوك متباينة، فإذا حكم بعض الناس مثلاً بالمساواة بين المتساويين في نفس الأمر فقد يحكم البعض الآخر برجحان ذلك على حسب منتهى أفهامهم ومبلغ عقولهم ومدرك إدراكهم فكل ما يوجد من يساويه في نفس الأمر يوجد من يفضل عليه بحسب اعتقاد الناس بل كلما يوجد من يقاربه فيه يوجد من يفوقه في ظنون العامة وينعكس بعكس النقيض إلى قولنا كلما لا يوجد من يفضل عليه لا يوجد من يساويه بل من يقاربه أيضاً وهو المطلوب، وبالجملة إن إثبات المساوي يستلزم إثبات الراجح الفاضل فنفي الفاضل يستلزم نفي المساوي لأن نفي اللازم يستلزم نفي الملزوم كما أن إثبات الملزوم يستلزم إثبات اللازم وفيه تأمل‏.‏

وادعى بعض المحققين أن دلالة التركيب على نفي المساواة وضعية لأن غير الأفضل إما مساو أو أنقص فاستعمل في أحد فرديه‏.‏ قال ابن الصائغ في مسألة الكحل‏:‏ إن ما رأيت رجلاً أحسن في عينه الكحل منه في عين زيد وإن كان نصاً في نفي الزيادة وهي تصدق بالزيادة والنقصان إلا أن المراد الأخير وهو من قصر الشيء على بعض أفراده كالدابة انتهى‏.‏ وأنت تعلم أن هذا مشعر باعتبار العرف أيضاً‏.‏

‏{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ‏}‏ كأن كذب بالقرآن الذي من جملته الآية الناطقة بأن أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو بسائر المعجزات التي أيد بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن سماها سحراً، وعد من ذلك تحريف الكتاب وتغيير نعوته صلى الله عليه وسلم الذي ذكرها الله تعالى فيه، وإنما ذكر ‏{‏أَوْ‏}‏ وهم جمعوا بين الأمرين إيذاناً بأن كلا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس، وقيل‏:‏ نبه بكلمة ‏{‏أَوْ‏}‏ على أنهم جمعوا بين أمرين متناقضين يعني أنهم أثبتوا المنفي ونفوا الثابت، والمراد بالمتناقضين أمران من شأنهما أن لا يجمع بينهما عرفا أو يقال‏:‏ إن من نفي الثابت بالبرهان يكون بنفي ما لم يثبت به أولى، كذلك في الطرف الآخر فالجمع بينهما جميع بين المتناقضين من هذا الوجه‏.‏

وادعى بعضهم أن وجه التناقض المشعر به هذا العطف أن الافتراء على الله تعالى دعوى وجوب القبول بلا حجة ما ينسب إليه تعالى وتكذيب الآيات دعوى أنه يجب أن لا يقبل ما ينسب إليه تعالى ولو أقيم عليه بينة ويجب أن ينكر التنبيه ويرتكب المكابرة بناء على أن الرسول يجب أن يكون ملكاً‏.‏ ولا يخفى أن في دعوى التناقض خفاء، وهذه التوجيهات لا ترفعه‏.‏

‏{‏أَنَّهُ‏}‏ أي الشأن، والمراد أن الشأن الخطير هذا وهو ‏{‏لاَ يُفْلِحُ‏}‏ أي لا يفوز بمطلوب ولا ينجو من مكروه ‏{‏الظالمون‏}‏ من حيث إنهم ظالمون فكيف يفلح الأظلم من حيث إنه أظلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً‏}‏ منصوب على الظرفية بمضمر يقدر مؤخراً وضمير ‏{‏نَحْشُرُهُمْ‏}‏ للكل أو للعابدين للآلهة الباطلة مع معبوداتهم و‏{‏جَمِيعاً‏}‏ حال منه أي ويوم نحشر كل الخلق أو الكفار وآلهتهم جميعاً ثم نقول لهم ما نقول كان كيت وكيت‏.‏ وترك هذا الفعل من الكلام ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف والتهويل‏.‏ وقدر ماضياً ليدل على التحقيق ويحسن عطف ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ الخ عليه، وجوز نصبه على المفعولية بمضمر مقدر أي واذكر لهم للتخويف والتحذير يوم نحشرهم واختاره أبو البقاء، وقيل‏:‏ التقدير ليتقوا أو ليحذروا يوم نحشرهم الخ‏.‏

‏{‏ثُمَّ نَقُولُ‏}‏ للتوبيخ والتقريع على رؤوس الأشهاد ‏{‏لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ‏}‏ بالله تعالى ما لم ينزل به سلطاناً‏:‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ‏}‏ أي آلهتكم التي جعلتموها شركاء لله عز اسمه فالإضافة لأدنى ملابسة و‏{‏أَيْنَ‏}‏ للسؤال عن غير الحاضر، وظاهر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏احشروا الذين ظَلَمُواْ وأزواجهم وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 22‏]‏ وغيره من الآيات يقتضي حضورهم معهم في المحشر فأما أن يقال‏:‏ إن هذا السؤال حين يحال بينهم بعد ما شاهدوهم ليشاهدوا خيبتهم كما قيل‏:‏ كما أبرقت قوما عطاشا غمامة *** فلما رأوها أقشعت وتجلت

وإما أن يقال‏:‏ إنه حال مشاهدتهم لهم لكنهم لما لم ينفعوهم نزلوا منزلة الغيب كما تقول لمن جعل أحداً ظهيراً يعينه في الشدائد إذا لم يعنه وقد وقع في ورطة بحضرته أين زيد‏؟‏ فتجعله لعدم نفعه وإن كان حاضراً كالغائب أو الكلام على تقدير مضاف أي أين نفعهم وجدواهم‏؟‏، والتزم بعضهم القول بأنهم غيب لظاهر السؤال، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الذين‏}‏ إلى قوله سبحانه ‏{‏وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 94‏]‏‏.‏ وأجيب أن يكون ذلك في موطن آخر جمعا بين الآيات أو المعنى وما نرى شفاعة شفعائكم‏.‏

وقال شيخ الإسلام‏:‏ «إن هذا السؤال المنبىء عن غيبة الشركاء مع عموم الحشر لها للآيات الدالة على ذلك إنما يقع بعد ما جرى بينها وبينهم من التبري من الجانبين وتقطع ما بينهم من الأسباب حسبما يحكيه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 28‏]‏ الخ ونحوه اما لعدم حضورها حينئذ في الحقيقة بابعادها من ذلك الموقف، وإما بتنزيل عدم حضورها بعنوان الشركة والشفاعة منزلة عدم حضورها في الحقيقة إذ ليس السؤال عنها من حيث ‏(‏ذواتها بل وإنما هو من حيث‏)‏ هي شركاء كما يعرب عنه الوصف بالموصول، ولا ريب في أن عدم الوصف يوجب عدم الموصوف من حيث هو موصوف فهي من حيث هي شركاء غائبة لا محالة وإن كانت حاضرة من حيث ذواتها أصناماً كانت أو لا‏.‏ وأما ما يقال من أنه يحال بينها وبينهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بها الرجاء ‏(‏فيها‏)‏ ‏(‏1‏)‏ فيروا مكان خريهم وحسرتهم فربما يشعر بعدم شعورهم بحقيقة الحال وعدم انقطاع حبال رجائهم عنها بعد‏.‏

وقد عرفت أنهم شاهدوها قبل ذلك وانصرمت عروة أطماعهم عنها بالكلية على أنها معلومة لهم من حين الموت والابتلاء بالعذاب في البرزخ‏.‏ وإنما الذي يحصل في الحشر الانكشاف الجلي واليقين القوي المترتب على المحاضرة والمحاورة» اه‏.‏

وتعقبه مولانا الشهاب بأنه تخيل لا أصل له لأن التوبيخ مراد في الوجوه كلها، ولا يتصور حينئذ التوبيخ إلا بعد تحقق خلافه، مع أن كون هذا واقعاً بعد التبري في موقف آخر ليس في النظم ما يدل عليه ومثله لا يجزم به من غير نقل لاحتمال أن يكون هذا في موقف التبري والإشعار المذكور لا يتأتى مع أنه توبيخ‏.‏ وأما العلاوة التي زيل بها كلامه فواردة عليه أيضاً مع أنها غير مسلمة لأن عذاب البرزخ لا يقتضي أن يشفع لهم بعد ذلك فكم من معذب في قبره يشفع له اه‏.‏ وأنت تعلم أن عذابهم البرزخي إن كان بسبب اعتقادهم النفع فيهم ورجاء شفاعتهم وعلم أولئك المعذبون أن عذابهم لذلك فقوله‏:‏ لأن عذاب البرزخ لا يقتضي الخ ليس في مخله، وكذا قوله‏:‏ فكم من معذب في قبره يشفع له إن أراد به فكم من معذب لمعصية من المعاصي في قبره يشفع له من يشفع فمسلم لكن لا يفيد‏.‏ وإن أراد فكم من معذب في قبره بسبب عبادة شيء يشفع له ذلك الشيء فمنعه ظاهر كما لا يخفى فتدبر‏.‏ وقرأ يعقوب ‏{‏يَحْشُرُهُمْ ثُمَّ يَقُولُ‏}‏ بالياء فيهما والضمير فيهما لله تعالى‏.‏

وقوله سبحانه للمشركين‏:‏ ‏{‏أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ إما بالواسطة أو بغير واسطة‏.‏ والتكليم المنفي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ يُكَلّمُهُمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 174، آل عمران‏:‏ 77‏]‏ الخ تكليم تشريف ونفع لا مطلقا فقد كلم إبليس عليه اللعنة بما كلم‏.‏ والزعم يستعمل في الحق كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ زعم جبريل عليه السلام ‏"‏ وفي حديث ضمام بن ثعلبة رضي الله تعالى عنه «زعم رسولك» وقول سيبويه في أشياء يرتضيها‏:‏ زعم الخليل، ويستعمل في الباطل والكذب كما في هذه الآية‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل زعم في القرآن فهو بمعنى الكذب‏.‏ وكثيراً ما يستعمل في الشيء الغريب الذي تبقى عهدته على قائله وهو هنا متعد لمفعولين وحذفا لانفهامهما من المقام أي تزعمونهم شركاء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ أصل معنى الفتنة على ما حققه الراغب من الفتن وهو إدخال الذهب النار لتعلم جودته من رداءته ثم استعمل في معان كالعذاب والاختبار والبلية والمصيبة والكفر والإثم والضلال والمعذرة، واختلف في المراد هنا فقيل‏:‏ الشرك، واختار هذا القول الزجاح ورواه عطاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وكأن التعبير عن الشرك بالفتنة أنها ما تفتتن به ويعجبك وهم كانوا معجبين بكفرهم مفتخرين به‏.‏ والكلام حينئذ إما على حذف مضاف كما يقتضيه ظاهر كلام البعض، وإما على جعل عاقبة الشيء عينه ادعاء وهو أحلى مذاقاً وأبعد مغزى والحصر إضافي بالنسبة إلى جنس الأقوال أو ادعائي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ كناية عن التبري عن الشرك وانتفاء التدين به أي ثم لم يكن عاقبة شركهم شيئاً إلا تبرئهم منه، ونص الزجاج أن مثل ما في الآية أن ترى إنساناً يحب غاوياً فإذا وقع في مهلكة تبرأ منه فيقال له‏:‏ ما كان محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وليس ذلك من قبيل عتابك السيف ولا من تقدير المضاف وإن صح ذلك فيه وهو معنى حسن لطيف لا يعرفه إلا من عرف كلام العرب، وقيل‏:‏ المراد بها العذر واستعملت فيه لأنها على ما تقدم التخليص من الغش والعذر يخلص من الذنب فاستعيرت له‏.‏ وروي ذلك عن ابن عباس أيضاً وأبي عبد الله وقتادة ومحمد بن كعب رضي الله تعالى عنهم، وقيل‏:‏ الجواب بما هو كذب‏.‏ ووجه الإطلاق أنه سبب الفتنة فتجوز بها عنه إطلاقاً للمسبب على السبب، ويحتمل أن يكون هناك إستعارة لأن الجواب مخلص لهم أيضاً كالمعذرة‏.‏ قيل‏:‏ والحصر على هذين القولين حقيقي والجملة القسمية على ظاهرها‏.‏ و‏{‏تَكُنْ‏}‏ بالتاء الفوقانية، و‏{‏فِتْنَتُهُمْ‏}‏ بالرفع قراءة ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏يَكُنِ‏}‏ بالياء التحتانية و‏{‏فِتْنَتُهُمْ‏}‏ بالنصب، وكذا قرأ ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ بالنصب على النداء أو المدح‏.‏ وقرىء في الشواذ ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وهو توطئة لنفي إشراكهم وفائدته رفع توهم أن يكون نفي الإشراك بنفي الإلهية عنه تقدس وتعالى‏.‏ وقرأ الباقون بالتاء من فوق ونصب ‏{‏فِتْنَتُهُمْ‏}‏ أيضاً، وخرجوا قراءة الأولين على أن ‏{‏فِتْنَتُهُمْ‏}‏ اسم ‏{‏تَكُنْ‏}‏ وتأنيث الفعل لإسناده إلى مؤنث و‏{‏أَن قَالُواْ‏}‏ خبره‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي على أن ‏{‏أَن قَالُواْ‏}‏ هو الاسم ولم يؤنث الفعل لإسناده إلى مذكر و‏{‏فِتْنَتُهُمْ‏}‏ هو الخبر‏.‏ وقراءة الباقين على نحو هذا خلا أن التأنيث فيها بناء على مذهب الكوفيين فإنهم يجيزون في سعة الكلام تأنيث اسم كان إذا كان مصدراً مذكراً وكان الخبر مؤنثاً مقدماً كقوله

‏:‏ وقد خاب من كانت سريرته العذر *** ويستشهدون على ذلك بهذه القراءة، وذهب البصريون إلى أن ذلك ضرورة، وقيل‏:‏ إن التأنيث على معنى المقالة وهو من قبيل جاءته كتابي أي رسالتي ولا يخفى أن هذا قليل في كلامهم، وقال الزمخشري ونقل بعينه عن أبي علي‏:‏ «إن ذلك من قبيل من كانت أمك»‏؟‏ ونوقش بما لا طائل فيه، وزعم بعضهم أن القراءتين الأخيرتين أفصح من القراءة الأولى لأن فيها جعل الأعرف خبرا وغير الأعرف اسماً لأن ‏{‏أَن قَالُواْ‏}‏ يشبه المضمر والمضمر أعرف المعارف وهو خلاف الشائع المعروف دونهما وفيه نظر إذ لا يلزم من مشابهة شيء لشيء في حكم مشابهته له في حميع الأحكام، والجملة على سائر القراءات عطف على الفعل المقدر العامل في ‏{‏يَوْمٍ نَحْشُرُهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 22‏]‏ الخ على ما مرت الإشارة إليه‏.‏ وجعلها غير واحد عطفاً على الجملة قبلها‏.‏ و‏{‏ثُمَّ‏}‏ اما على ظاهرها بناء على القول الأول وإما للتراخي في الرتبة بناء على القولين الأخيرين لأن معذرتهم أو جوابهم هذا أعظم من التوبيخ السابق‏.‏

وأنت تعلم أنه لا ضرورة للعدول عن الظاهر لجواز أن يكون هناك تراخ في الزمان بناء على أن الموقف عظيم فيمكن أن يقال‏:‏ إنهم لما عاينوا هول ذلك اليوم وتجلى الملك الجبار جل جلاله عليهم بصفة الجلال كما ينبىء عنه الجملة السابقة حاروا ودهشوا فلم يستطيعوا الجواب إلا بعد زمان‏.‏ ومما ينبىء على دهشتهم وحيرتهم أنهم كذبوا وحلفوا في كلامهم هذا ولو لم يكونوا حيارى مدهوشين لما قالوا الذي قالوا لأن الحقائق تنكشف يوم القيامة فإذا اطلع أهلها عليها وعلى أنها لا تخفى عليه سبحانه وأنه لا منفعة لهم في مثل ذلك استحال صدوره عنهم‏.‏

وللغفلة عن بناء الأمر عن الدهشة والحيرة منع الجبائي والقاضي ومن وافقهما جواز الكذب على أهل القيامة مستدلين بما ذكرنا‏.‏ وأجابوا عن الآية بأن المعنى ما كنا مشركين في اعتقادنا وظنوننا وذلك لأنهم كانوا يعتقدون في أنفسهم أنهم موحدون متباعدون عن الشرك‏.‏ واعترضوا على أنفسهم بأنهم على هذا التقدير يكونون صادقين فيما أخبروا

‏[‏بم فلم قال سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏انظر كَيْفَ كَذَبُواْ‏}‏ أي في قولهم ‏{‏مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏ وأجابوا بأنه ليس المراد أنهم كذبوا في الآخرة بل المراد‏:‏ أنظر كيف كذبوا ‏{‏عَلَى أَنفُسِهِمْ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ورد بان الآية لا تدل على هذا المعنى بوجه ولا تنطبق عليه لأنها في شأن خسرهم وأمرهم في الآخرة لا في الدنيا بل تنبو عنه أشد نبو لأن أول النظم الكريم وآخره في ذلك فتخلل بيان حالهم في الدنيا تفكيك له وتعسف جداً‏.‏ ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور أيضاً قوله تعالص‏:‏ ‏{‏يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَىْء أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون‏}‏ ‏[‏المجادة‏:‏ 18‏]‏ بعد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 14‏]‏ حيث شبه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا، ويشير إلى هذا التشبيه أيضاً الأمر بالنظر كما لا يخفى على من نظر‏.‏

وذكر ابن المنير «أن في الآية دليلاً بينا على أن الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به كذب وإن لم يعلم المخبر مخالفة خبره لمخبره ألا تراه سبحانه جعل إخبارهم وتبرأهم كذباً مع أنه جل شأنه أخبر عنهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ‏}‏ أي سلبوا علمه حينئذ دهشا وحيرة فلم يرفع ذلك إطلاق الكذب عليهم»، وأنت تعلم أن تفسير هذه الجملة بما ذكر غير ظاهر‏.‏ والمروي عن الحسن أن ‏{‏مَا‏}‏ موصولة والمراد بها الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقولون فيها‏:‏ ‏{‏هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏ أو نحو ذلك‏.‏ وإيقاع الافتراء عليها مع أنه في الحقيقة واقع على أحوالها للمبالغة في أمرها كأنها نفس المفتري أي زالت وذهبت عنهم أوثانهم التي يفترون فيها ما يفترون فلم تغن عنهم من الله شيئاً، وقيل‏:‏ إن ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية أي ضل افترائهم كقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ضَلَّ سَعْيُهُمْ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 104‏]‏ أي لم ينفعهم ذلك‏.‏ والجملة قيل‏:‏ مستأنفة، وقيل‏:‏ واختاره شيخ الإسلام إنها عطف على ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ داخل معه في حكم التعجب إذ الاستفهام السابق المعلق لأنظر لذلك‏.‏ وجعل المعنى على احتمال الموصول والمصدرية أنظر كيف كذبوا باليمين الفاجرة المغلظة على أنفسهم بإنكار صدور ما صدر عنهم وكيف ضل عنهم أي زال وذهب افتراؤهم أو ما كانوا يفترونه من الإشراك حتى نفوا صدوره عنهم بالكلية وتبرؤوا ‏(‏منه‏)‏ بالمرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ كلام ‏(‏مبتدأ‏)‏ ‏(‏1‏)‏ مسوق لحكاية ما صدر في الدنيا عن بعض المشركين من أحكام الكفر ثم بيان ما سيصدر عنهم يوم الحشر تقريراً لما قبله وتحقيقاً لمضمونه‏.‏ وضمير ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ للذين أشركوا‏.‏ والاستماع بمعنى الإصغاء وهو لازم يعدى باللام وإلى كما صرح به أهل اللغة، وقيل‏:‏ إنه مضمن معنى الإصغاء ومفعوله مقدر وهو القرآن‏.‏ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح‏:‏ إن أبا سفيان بن حرب والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبيا بن خلف استمعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن فقالوا للنضر‏:‏ يا أبا قتيلة ما يقول محمد‏؟‏ فقال‏:‏ والذي جعلها بيته ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحرك شفتيه يتكلم بشيء فما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية‏.‏ وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى وكان يحدث قريشاً فيستملحون حديثه فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏ وأفرد ضمير ‏{‏مِنْ‏}‏ في ‏{‏يَسْتَمِعِ‏}‏ وجمعه في قوله سبحانه ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ نظراً إلى لفظه ومعناه وعن الكرخي إنما قيل‏:‏ هنا ‏{‏يَسْتَمِعِ‏}‏ وفي يونس ‏(‏42‏)‏ ‏{‏يَسْتَمِعُونَ‏}‏ لأن ما هنا في قوم قليلين فنزلوا منزلة الواحد وما هناك في جميع الكفار فناسب الجمع، وإنما لم يجمع ثم في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 43‏]‏ لأن المراد النظر المستتبع لمعاينة أدلة الصدق وأعلام النبوة والناظرون كذلك أقل من المستمعين للقرآن‏.‏

والجعل بمعنى الإنشاء‏.‏ والأكنة جمع كنان كغطاء وأغطية لفظاً ومعنى لأن فعالاً بفتح الفاء وكسرها يجمع في القلة على أفعلة كأحمرة وأقذلة، وفي الكثرة على فعل كحمر إلا أن يكون مضاعفاً أو معتل اللام فيلزم جمعه على أفعلة كأكنة وأخبية إلا نادراً‏.‏ وفعل الكن ثلاثي ومزيد يقال‏:‏ كنه وأكنه كما قاله الطبرسي وغيره وفرق بينهما الراغب فقال‏:‏ أكننت يستعمل لما يستر في النفس والثلاثي لغيره والتنوين للتفخيم‏.‏ والواو للعطف والجملة معطوفة على الجملة قبلها عطف الفعلية على الاسمية، وقيل‏:‏ الواو للحال أي وقد جعلنا‏.‏ و‏{‏على قُلُوبِهِمْ‏}‏ متعلق بالفعل قبله‏.‏ وزعم أبو حيان أنه «إن كان بمعنى ألقى فالظرف متعلق به وإن كان بمعنى صير فمتعلق بمحذوف إذ هو في موضع المفعول الثاني»‏.‏ والمعنى على ما ذكرنا وأنشأنا على قلوبهم أغطية كثيرة لا يقادر قدرها‏.‏

‏{‏أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ أي كراهة أن يفقهوا ما يستمعونه من القرآن المدلول عليه بذكر الاستماع فالكلام على تقدير مضاف ومنهم من قدر لا دونه أي أن لا يفقهوه وكذلك يفعلون في أمثاله، وجوز أن يكون مفعولاً به لما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ أي منعناهم أن يفقهوه أو لما دل عليه ‏{‏أَكِنَّةً‏}‏ وحده من ذلك ‏{‏وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا‏}‏ أي صمماً وثقلاً في السمع يمنع من استماعه على ما هو حقه‏.‏

والكلام عند غير واحد تمثيل معرب عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم وفرط نبوة قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم أصمها الله تعالى، وجوز أن يكون هناك استعارة تصريحية أو مكنية أو مشاكلة‏.‏ وقد مر لك في البقرة ما ينفعك هنا فتذكره‏.‏

وقرأ طلحة ‏{‏وِقْراً‏}‏ بالكسر وهو على ما نص عليه الزجاج حمل البغل ونحوه، ونصبه على القراءتين بالعطف على ‏{‏أَكِنَّةً‏}‏ كما قال أبو البقاء‏.‏

‏{‏وَإِن يَرَوْاْ‏}‏ أي يشاهدوا ويبصروا ‏{‏كُلُّ ءايَةٍ‏}‏ أي معجزة دالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم على ما نقل عن الزجاج وهو الذي يقتضيه كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتكثير القليل من الطعام وما أشبه ذلك ‏{‏لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا‏}‏ لفرط عنادهم واستحكام التقليد فيهم‏.‏ والكلام من باب عموم النفي ككل ذلك لم يكن لا من باب نفي العموم‏.‏ والمراد ذمهم بعدم الانتفاع بحاسة البصر بعد أن ذكر سبحانه عدم انتفاعهم بعقولهم وأسماعهم، ونقل عن بعضهم أنه لا بد من تخصيص الآية في الآية بغير الملجئة دفعاً للمخالفة بين هذا وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن نَّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السماء ءايَةً فَظَلَّتْ أعناقهم لَهَا خاضعين‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 4‏]‏‏.‏ واكتفى بعضهم بحمل الإيمان على الإيمان بالاختيار وفرق بينه وبين خضوع الأعناق فليفهم‏.‏ وخص شيخ الإسلام الآية «بما كان من الآيات القرآنية أي وإن يروا شيئاً من ذلك بأن يشاهدوه بسماعه لا يؤمنوا به»، ولعل ما قدمناه أحلى لدى الذوق السليم‏.‏

‏{‏حتى إِذَا جَاءوكَ يجادلونك‏}‏ أي يخاصمونك وينازعونك‏.‏ و‏{‏حتى‏}‏ هي التي تقع بعدها الجمل ويقال لها‏:‏ حتى الابتدائية ولا محل للجملة الواقعة بعدها خلافاً للزجاج وابن درستويه زعماً أنها في محل جر بحتى‏.‏ ويرده أن حروف الجر لا تعلق عن العمل وإنما تدخل على المفرد أو ما في تأويله‏.‏ والجملة هنا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا جَاءوكَ‏}‏ مع جواب الشرط أعني قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يَقُولُ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وما بينهما حال من فاعل جاؤوا‏.‏ وإنما وضع الموصول موضع الضمير ذماً لهم بما في حيز الصلة وإشعاراً بعلة الحكم‏.‏ و‏{‏إِذَا‏}‏ منصوبة المحل على الظرفية بالشرط أو الجواب على الخلاف الشهير في ذلك، واعترض بأن جعل ‏{‏يجادلونك‏}‏ في موضع الحال و‏{‏يَقُولُ الذين‏}‏ جواباً مفض إلى جعل الكلام لغواً لأن المجادلة نفس هذا القول إلا أن تؤول المجادلة بقصدها‏.‏

ولا يخفى ما فيه، فإن المجادلة مطلق المنازعة‏.‏ وسميت بذلك لما فيها من الشدة أو لأن كل واحد من المتجادلين يريد أن يلقى صاحبه على الجدالة أي الأرض‏.‏ والقول المذكور فرد منها فالكلام مفيد أبلغ فائدة كقولك إذا أهانك زيد شتمك، وذكر بعض النحويين أن حتى إذا وقع بعدها إذا يحتمل أن تكون بمعنى الفاء وأن تكون بمعنى إلى والغاية معتبرة في الوجهين أي بلغوا من التكذيب والمكابرة إلى أنهم إذا جاؤوك مجادلين لك لا يكتفون بمجرد عدم الإيمان ‏(‏بما سمعوا من الآيات الكريمة‏)‏ بل يقولون‏:‏

‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي ما هذا ‏{‏إِلاَّ أساطير الاولين‏}‏ أي أحاديثهم المسطورة التي لا يعول عليها، وقال قتادة‏:‏ كذبهم وباطلهم‏.‏ وحاصل ما ذكر أن تكذيبهم بلغ النهاية بما ذكر لأنه الفرد الكامل منه‏.‏ ونظير ذلك مات الناس حتى الأنبياء وجوز أن تكون ‏{‏حتى‏}‏ هي الجارة و‏{‏إِذَا جَاءوكَ‏}‏ في موضع الجر وهو قول الأخفش وتبعه ابن مالك في «التسهيل»‏.‏ ورده أبو حيان في شرحه‏.‏ وعليه فإذا خارجة عن الظرفية كما صرحوا به وعن الشرطية أيضاً فلا جواب لها فيقول حينئذ‏:‏ تفسير ليجادلونك وهو في موضع الحال أيضاً، والأساطير عند الأخفش جمع لا مفرد له كأبابيل ومذاكير، وقال بعضهم‏:‏ له مفرد‏.‏ وفي «القاموس» «إنه جمع إسطار وإسطير بكسرهما وأُسطور وبالهاء في الكل»، وقيل‏:‏ جمع أسطار بفتح الهمزة جمع سطر بفتحتين كسبب وأسباب فهو جمع جمع‏.‏ وأصل السطر بمعنى الخط‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ‏}‏ الضمير المرفوع ‏(‏للمشركين‏)‏ والمجرور للقرآن أي لا يقنعون بما ذكر من تكذيبه وعده حديث خرافة بل ينهون الناس عن استماعه لئلا يقفوا على حقيته فيؤمنوا به ‏{‏وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ‏}‏ أي يتباعدون عنه بأنفسهم إظهاراً لغاية نفورهم عنه وتأكيداً لنهيهم ‏(‏عنه‏)‏ فإن اجتناب الناهي عن المنهي عنه من متممات النهي، ولعل ذلك كما قال شيخ الإسلام هو السر في تأخير النأي عن النهي‏.‏ وهذا هو التفسير الذي أخرجه ابن أبي شيبة وابن حميد وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن مجاهد رحمة الله تعالى عليه، وقيل‏:‏ الضمير المجرور للرسول صلى الله عليه وسلم على معنى ينهون الناس عن الإيمان به عليه الصلاة والسلام ويتباعدون عنه‏.‏ وهو التفسير الذي أخرجه أبنا جرير والمنذر وأبي حاتم ومردويه من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخرجه أيضاً ابن جرير من طريق العوفي‏.‏ وروي ذلك عن محمد بن الحنفية والسدي والضحاك، وقيل‏:‏ الضمير المرفوع لأبي طالب وأتباعه أو أضرابه والمجرور للنبي صلى الله عليه وسلم على معنى ينهون عن أذيته عليه الصلاة والسلام ولا يؤمنون به‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن هلال أنه قال‏:‏ إن الآية نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة وكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه عليه الصلاة والسلام في السر، وقيل‏:‏ ضمير الجمع لأبي طالب وحده وجمع استعظاماً لفعله حتى كأنه مما لا يستقل به واحد، وقيل‏:‏ إنه نزل منزلة أفعال متعددة فيكون كقوله‏:‏ قفا عند المازني، ولا يخفى بعده‏.‏ وروى هذا القول جماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضاً‏.‏ وروي عن مقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أبي طالب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش إليه يريدون سوءاً بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال منشداً‏:‏

والله لن يصلوا إليك بجمعهم *** حتى أوسد في التراب دفينا

فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة *** وأبشر وقر بذاك منك عيونا

ودعوتني وزعمت أنك ناصح *** ولقد صدقت وكنت ثم أمينا

وعرضت دينا لا محالة أنه *** من خير أديان البرية دينا

لولا الملامة أو حذاري سبة *** لوجدتني سمحا بذاك مبينا

فنزلت هذه الآية‏.‏ وفيها على هذا القول والذي قبله التفات، ورد الإمام القول الأخير «بأن جميع الآيات المتقدمة في ذم فعل المشركين فلا يناسبه ذكر النهي عن أذيته عليه الصلاة والسلام وهو غير مذموم»‏.‏ ونظر فيه بأن الذم بالمجموع من حيث هو مجموع‏.‏ وبهذه الآية على هذه الرواية استدل بعض من ادعى أن أبا طالب لم يؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذا المطلب في موضعه‏.‏

والنأي لازم يتعدى بعن كما في الآية‏.‏ ونقل عن الواحدي أنه سمع تعديته بنفسه عن المبرد وأنشد‏:‏

أعاذل إن يصبح صدى بقفرة *** بعيدة نآني زائري وقريبي

وخرجه البعض على الحذف والإيصال ولا يخفى ما في ‏{‏يَنْهَوْنَ‏}‏ و‏{‏ينأون‏}‏ من التجنيس البديع‏.‏ وقرىء «وينون عنه2‏.‏

‏{‏عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ‏}‏ أي وما يهلكون بذلك ‏{‏إِلاَّ أَنفُسُهُمْ‏}‏ بتعريضها لأشد العذاب وأفظعه وهو عذاب الضلال والإضلال‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يُهْلِكُونَ‏}‏ أي يقصرون الإهلاك على أنفسهم والحال أنهم غير شاعرين ‏(‏ أي‏)‏ لا بإهلاكهم أنفسهم ولا باقتصار ذلك عليها من غير أن يضروا بذلك شيئاً من القرآن أو النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما عبر عنه بالإهلاك مع أن المنفي عن غيرهم مطلق الضرر للإيذان بأن ما يحيق بهم هو الهلاك لا الضرر المطلق‏.‏ على أن مقصدهم لم يكن مطلق الممانعة فيما ‏(‏ذكروا‏)‏ بل كانوا يبغون الغوائل لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو نظام عقد لآلىء الآيات القرآنية‏.‏ وجوز أن يكون الإهلاك معتبراً بالنسبة إلى الذين يضلونهم بالنهي فقصْره على أنفسهم حينئذ مع شموله للفريقين مبني على تنزيل عذاب الضلال عند عذاب الإضلال منزلة العدم‏.‏ «ونفي الشعور على ما في «البحر» أبلغ من نفي العلم» كأنه قيل‏:‏ وما يدركون ذلك أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآَيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار‏}‏ شروع في حكاية ما سيصدر عنهم يوم القيامة من القول المناقض لما صدر عنهم في الدنيا من القبائح المحكية مع كونه كاذباً في نفسه‏.‏ والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل من له أهلية ذلك قصداً إلى بيان سوء حالهم وبلوغها من الشناعة إلى حيث لا يختص استغرابها دون راء‏.‏ و‏{‏لَوْ‏}‏ شرطية على أصلها وجوابها محذوف لتذهب نفس السامع كل مذهب فيكون أدخل في التهويل، ونظير ذلك قوله امرىء القيس‏:‏ وجدك لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد لك مدفعاً

وقولهم لو ذات سوار لطمتني‏.‏ و‏{‏تَرَى‏}‏ بصرية وحذف مفعولها لدلالة ما في حيز الظرف عليه‏.‏ والإيقاف إما من الوقوف المعروف أو من الوقوف بمعنى المعرفة كما يقال‏:‏ أوقفته على كذا إذا فهمته وعرفته واختاره الزجاج أي‏:‏ ولو ترى حالهم حين يوقفون على النار حتى يعاينوها أو يرفعوا على جسرها وهي تحتهم فينظرونها أو يدخلونها فيعرفون مقدار عذابها لرأيت ما لا يحيط به نطاق التعبير‏.‏ وصيغة الماضي للدلالة على التحقيق‏.‏ وقيل‏:‏ إن لو بمعنى إن‏.‏ وجوزوا أن تكون ترى علمية وهو كما ترى‏.‏ وقرىء ‏{‏وُقِفُواْ‏}‏ بالبناء للفاعل من وقف عليه اللازم ومصدره غالباً الوقوف، ويستعمل وقف متعدياً أيضاً ومصدره الوقف وسمع فيه أوقف لغة قليلة‏.‏ وقيل‏:‏ إنه بطريق القياس‏.‏

‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ لعظم أمر ما تحققوه ‏{‏لَنَا أَوْ نُرَدُّ‏}‏ أي إلى الدنيا‏.‏ و‏{‏يا‏}‏ للتنبيه أو للنداء والمنادى محذوف أي يا قومنا مثلاً ‏{‏نُرَدُّ وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا‏}‏ أي القرآن كما كنا نكذب من قبل ونقول‏:‏ أساطير الأولين‏.‏ وفسر بعضهم الآيات بما يشمل ذلك والمعجزات، وقال شيخ الإسلام‏:‏ يحتمل أن يراد بها الآيات الناطقة بأحوال النار وأهوالها الآمرة باتقائها بناء على أنها التي تخطر حينئذ ببالهم ويتحسرون على ما فرطوا في حقها‏.‏ ويحتمل أن يراد بها جميع الآيات المنتظمة لتلك الآيات انتظاماً أولياً‏.‏

‏{‏وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين‏}‏ بها حتى لا نرى هذا الموقف الهائل كما لم ير ذلك المؤمنون‏.‏ ونصب الفعلين على ما قال الزمخشري وسبقه إليه كما قال الحلبي الزجاج بإضمار أن على جواب التمني، والمعنى أن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين‏.‏ ورده أبو حيان «بأن نصب الفعل بعد الواو ليس على الجوابية لأنها لا تقع في جواب الشرط فلا ينعقد مما قبلها وما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو الجمع تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي عاطفة يتعين من النصب أحد محاملها الثلاث وهي المعية ويميزها عن الفاء ‏(‏صحة حلول مع محلها‏)‏ أو الحال وشبهة من قال‏:‏ إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب»‏.‏

ويوضح لك أنها ليست به انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما تضمنه من معنى الشرط، وأجيب بأن الواو أجريت هنا مجرى الفاء‏.‏ وجعلها ابن الأنباري مبدلة منها‏.‏ ويؤيد ذلك قراءة ابن مسعود وابن اسحق ‏{‏فَلا نُكَذّبَ‏}‏، واعترض أيضاً ما ذكره الزمخشري من معنى الجزائية بأن ردهم لا يكون سبباً لعدم تكذيبهم‏.‏ وأجيب بأن السببية يكفي فيها كونها في زعمهم‏.‏ ورد بأن مجرد الرد لا يصلح لذلك فلا بد من العناية بأن يراد الرد الكائن بعد ما ألجأهم إلى ذلك إذ قد انكشفت لهم حقائق الأشياء‏.‏ ولهذه الدغدغة اختار من اختار العطف على مصدر متوهم قبل كأنه قيل‏:‏ ليت لنا رداً وانتفاء تكذيب وكونا من المؤمنين، وقرأ نافع وابن كثير والكسائي برفع الفعلين، وخرج على أن ذلك ابتداء كلام منهم غير معطوف على ما قبله والواو كالزائدة كقول المذنب لمن يؤذيه على ما صدر منه‏:‏ دعني ولا أعود يريد لا أعود تركتني أو لم تتركني‏.‏ ومن ذلك على ما قاله الإمام عبد القاهر قوله‏:‏ اليوم يومان مذ غيبت عن نظري *** نفسي فداؤك ما ذنبي فاعتذر

وكأن المقتضي لنظمه في هذا السلك إفادة المبالغة المناسبة لمقام المغازلة، واختار بعضهم كونه ابتداء كلام بمعنى كونه مقطوعاً عما في حيز التمني معطوفاً عليه عطف إخبار على إنشاء، ومن النحاة من جوزه مطلقاً، ونقله أبو حيان عن سيبويه، وجوز أن يكون داخلاً في حكم التمني على أنه عطف على ‏{‏نُرَدُّ‏}‏ أو حال من الضمير فيه، فالمعنى كما قال الشهاب على تمني مجموع الأمرين الرد وعدم التكذيب أي التصديق الحاصل بعد الرد إلى الدنيا لأن الرد ليس مقصوداً بالذات هنا، وكونه متمنى ظاهر لعدم حصوله حال التمني وإن كان التمني منصباً على الإيمان والتصديق فتمنيه لأن الحاصل الآن لا ينفعهم لأنهم ليسوا في دار تكليف فتمنوا إيماناً ينفعهم وهو إنما يكون بعد الرد المحال والمتوقف على المحال محال‏.‏ وقرأ ابن عامر برفع الأول ونصب الثاني على ما علمت آنفاً، والجوابية إما بالنظر إلى المجموع أو بالنظر إلى الثاني وعدم التكذيب بالآيات مغاير للإيمان والتصديق فلا اتحاد‏.‏ وقرىء شاذاً بعكس هذه القراءة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ‏}‏ إضراب عما يؤذن به تمنيهم من الوعد بتصديق الآيات والإيمان بها أي ليس ذلك عن عزم صحيح ناشىء عن رغبة في الإيمان وشوق إلى تحصيله والاتصاف به بل لأنه بدا وظهر لهم في وقوفهم ذلك ما كانوا يخفونه في الدنيا من ثالثة الأثافي والداهية الدهياء فلشدة هول ذلك ومزيد ضجرهم منه قالوا ما قالوا، فالمراد من الموصول النار على ما يقتضيه السوق ومن إخفائها ستر أمرها وذلك بإنكار تحققها وعدم الإيمان بثبوتها أصلاً فكأنه قيل‏:‏ بل بدا لهم ما كانوا يكذبون به في الدنيا وينكرون تحققه‏.‏

وإنما لم يصرح سبحانه بالتكذيب كما في قوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏هذه جَهَنَّمُ التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 43‏]‏ وقوله عز من قائل‏:‏ ‏{‏هذه النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 41‏]‏ مع أن ذلك أنسب بما قبل من قولهم‏:‏ ‏{‏وَلاَ نُكَذّبَ بئايات رَبّنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 27‏]‏ مراعاة لما في مقابله من البدو في الجملة مع ما في ذلك من الرمز الخفي إلى أن تكذيبهم هذا لم يكن في محله رأساً لقوة الدليل، وقيل‏:‏ المراد بما كانوا يخفونه قبائحهم من غير الشرك التي كانوا يكتمونها عن الناس فتظهر في صحفهم وبشهادة جوارحهم عليهم، وقيل‏:‏ المراد به الشرك الذي أنكروه في بعض مواقف القيامة بقولهم‏:‏ ‏{‏والله رَبّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏، وقيل‏:‏ المراد به أمر البعث والنشور، والضمير المرفوع لرؤساء الكفار والمجرور لأتباعهم أي ظهر للتابعين ما كان الرؤساء المتبوعون يخفونه في الدنيا عنهم من أمر البعث والنشور، ونسب إلى الحسن واختاره الزجاج‏.‏

وقيل‏:‏ الآية في المنافقين، والضمير المرفوع لهم، والمجرور للمؤمنين، والمراد بالموصول الكفر أي بل ظهر للمؤمنين ما كان المنافقون يخفونه من الكفر ويكتمونه عنهم في الدنيا، وقيل‏:‏ هي في أهل الكتاب مطلقاً أو علمائهم، والذي أخفوه نبوة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، والضميران المرفوع والمجرور لهم وللمؤمنين أو للخواص والعوام‏.‏ وتعقب كل ذلك بأنه بعد الإغضاء عما فيه من الاعتساف لا سبيل إليه هنا لأن سوق النظم الجليل لتهويل أمر النار وتفظيع حال أهلها، وقد ذكر وقوفهم عليها وأشير إلى أنه اعتراهم عند ذلك من الخوف والخشية والحيرة والدهشة ما لا يحيط به الوصف، ورتب عليهم تمنيهم المذكور بالفاء القاضية بسببية ما قبلها لما بعدها فإسقاط النار بعد ذلك من السببية وهي في نفسها أدهى الدواهي وأزجر الزواجر إلى ما دونها في ذلك مع عدم جريان ذكره ثمة أمر ينبغي تنزيه ساحة التنزيل عن أمثاله، ونقل عن المبرد أن الكلام على حذف مضاف أي بدا لهم وبال ما كانوا يخفون ولا يخفى ما فيه أيضاً فتدبر‏.‏

‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ‏}‏ من موقفهم ذلك إلى الدنيا ‏{‏لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏ من الكفر والتكذيب أو من الأعم من ذلك ويدخل فيه ما ذكر دخولاً أولياً ولا يخفى حسنه، ووجه اللزوم في هذه الشرطية سبق قضاء الله تعالى عليهم بذلك التابع لخبث طينتهم ونجاسة جبلتهم وسوء استعدادهم ولهذا لا ينفعهم مشاهدة ما شاهدوه، وقيل‏:‏ إن المراد أنهم لو ردوا إلى حالهم الأولى من عدم العلم والمشاهدة لعادوا، ولا يخفى أنه لا يناسب مقام ذمهم بغلوهم في الكفر والإصرار وكون هذا جواباً لما مر من تمنيهم‏.‏ وذكر بعض الناس في توجيه عدم نفع المشاهدة في الآخرة لأهوالها المترتبة على المعاصي بعد الرد إلى الدنيا أنها حينئذٍ كخبر النبي صلى الله عليه وسلم المؤيد بالمعجزات الباهرة فحيث لم ينتفعوا به وصدهم ما صدهم لا ينتفعون بما هو مثله ويصدهم أيضاً ما يصدهم‏.‏ وأنت تعلم أن هذا بعد تسليم كون المشاهدة بعد الرد كخبر الصادق يرجع في الآخرة إلى ما أشرنا إليه من سبق القضاء وسوء الاستعداد، ومن خلق للشقاء والعياذ بالله سبحانه وتعالى للشقاء يكون‏.‏

‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ أي لقوم كاذبون فيما تضمنه تمنيهم من الخبر بأن ذلك مراد لهم، ويحتمل أن يكون هذا ابتداء إخبار منه تعالى بأن ديدن هؤلاء وهجيراهم الكذب‏.‏ وليس الكذب على الاحتمالين متوجهاً إلى التمني نفسه لأنه إنشاء والإنشاء لا يحتمل الصدق والكذب‏.‏ وقال الربعي‏:‏ لا بأس بتوجه الكذب إلى التمني لأنه يحتمل الصدق والكذب بنفسه واحتج على ذلك بقوله‏:‏ منى أن تكن حقاً تكن أحسن المنى *** وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً

لأن الحق بمعنى الصدق وهو ضد الباطل والكذب، ولا يخفى ما فيه مع أنه لو سلم فهو مجاز أيضاً‏.‏ وقيل‏:‏ الخبر الضمني هنا هو الوعد بالإيمان وعدم التكذيب‏.‏ واعترض بأن الوعد كالوعيد من قبيل الإنشاء كما حقق في موضعه فلا يتوجه إليه الكذب والصدق كما لا يتوجهان إلى الإنشاء‏.‏ وأجيب بأن ذلك أحد قولين في المسألة، ثانيهما أن الوعد والوعيد من قبيل الخبر لا الإنشاء، وهذا القيل مبني عليه على أنه يحتمل أن المراد بالكذب المتوجه إلى الوعد عدم الوفاء به لا عدم مطابقته للواقع كما ذكره الراغب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ عطف على ‏(‏عادوا‏)‏ كما عليه الجمهور‏.‏ واعترضه ابن الكمال بأن حق ‏{‏وَإِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏ حينئذٍ أن يؤخر عن المعطوف أو يقدم على المعطوف عليه‏.‏ وأجيب بأن توسيطه لأنه اعتراض مسوق لتقرير ما أفادته الشرطية من كذبهم المخصوص ولو أخر لأوهم أن المراد تكذيبهم في إنكارهم البعث‏.‏ وجوز أن يكون عطفاً على ‏{‏إِنَّهُمْ لكاذبون‏}‏ أو على خبر إن أو على ‏{‏نُهُواْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 28‏]‏ والعائد محذوف أي قالوه، وأن يكون استئنافاً بذكر ما قالوا في الدنيا‏.‏

‏{‏إِنْ هِىَ‏}‏ أي ما هي ‏{‏إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ والضمير للحياة المذكورة بعده كما في قول المتنبي‏:‏ هو الجد حتى تفضل العين أختها *** وحتى يكون اليوم لليوم سيداً

وقد نصوا على صحة عود الضمير على متأخر لفظاً ورتبة في مواضع، منها ما إذا كان خبر الضمير مفسراً له كما هنا‏.‏ وجعله بعضهم ضمير الشأن‏.‏ ولا يتأتى على مذهب الجمهور لأنهم اشترطوا في خبره أن يكون جملة‏.‏ وخالفهم في ذلك الكوفيون فقد حكي عنهم جواز كون خبره مفرداً إما مطلقاً أو بشرط كون المفرد عاملاً عمل الفعل كاسم الفاعل نحو إنه قائم زيد بناءً على أنه حينئذٍ يسد مسد الجملة‏.‏ وقيل وفيه بعد‏:‏ يحتمل أن يكون الضمير المذكور عبارة عما في الذهن وهو الحياة والمعنى إن الحياة إلا حياتنا التي نحن فيها‏.‏ وهو المراد بقولهم‏:‏ الدنيا لا القريبة الزوال أو الدنيئة أو المتقدمة على الآخرة كما يقول المؤمنون إذ كل ذلك خلاف الظاهر لا سيما الأخير‏.‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ أي إذا فارقتنا هذه الحياة أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبّهِمْ‏}‏ تمثيل لحبسهم للسؤال والتوبيخ أو كناية عنه عند من لم يشترط فيها إمكان الحقيقة وجوز اعتبار التجوز في المفرد إلا أن الأرجح عندهم اعتباره في الجملة، وقيل‏:‏ الوقوف بمعنى الاطلاع المتعدي بعلى أيضاً وفي الكلام مضاف مقدر أي وقفوا على قضاء ربهم أو جزائه، ولا حاجة إلى التضمين وجعله من القلب كما توهم، وقيل‏:‏ هو بمعنى الاطلاع من غير حاجة إلى تقدير مضاف على معنى عرفوه سبحانه وتعالى حق التعريف ولا يلزم من حق التعريف حق المعرفة ليقال كيف هذا وقد قيل‏:‏ ما عرفناك حق معرفتك، واستدل بعض الظاهرية بالآية على أن أهل القيامة يقفون بالقرب من الله تعالى في موقف الحساب ولا يخفى ما فيه‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف نشأ من الكلام السابق كأنه قيل‏:‏ فماذا قال لهم ربهم سبحانه وتعالى إذ ذاك‏؟‏ فقيل‏:‏ قال‏:‏ الخ‏.‏ وجوز أن يكون في موضع الحال أي قائلاً ‏{‏أَلَيْسَ هذا‏}‏ أي البعث وما يتبعه ‏{‏بالحق‏}‏ أي حقاً لا باطلاً كما زعمتم، وقيل‏:‏ الإشارة إلى العقاب وحده وليس بشيء، ولا دلالة في ‏{‏فَذُوقُواْ‏}‏ عند أرباب الذوق على ذلك، والهمزة للتقريع على التكذيب ‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف كما سبق ‏{‏بلى‏}‏ هو حق ‏{‏وَرَبُّنَا‏}‏ أكدوا اعترافهم باليمين إظهاراً لكمال تيقنهم بحقيته وإيذاناً بصدور ذلك عنهم برغبة ونشاط طمعاً بأن ينفعهم وهيهات ‏{‏قَالَ فَذُوقُواْ العذاب‏}‏ الذي كفرتم به من قبل وأنكرتموه ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ أي بسبب كفركم المستمر أو ببدله أو بمقابلته أو بالذي كنتم تكفرون به، فما إما مصدرية أو موصولة والأول أولى، ولعل هذا التوبيخ والتقريع كما قيل «إنما يقع بعدما وقفوا على النار فقالوا ما قالوا إذ الظاهر أنه لا يبقى بعد هذا الأمر إلا العذاب»، ويحتمل العكس وأمر الأمر سهل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله‏}‏ هم الكفار الذين حكيت أحوالهم لكن وضع الموصول موضع الضمير للإيذان بتسبب خسرانهم عما في حيز الصلة من التكذيب بلقاء الله تعالى والاستمرار عليه، والمراد به لقاء ما وعد سبحانه وتعالى على ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله تعالى عنهم، وصرح بعضهم بتقدير المضاف أي لقاء جزاء بالله تعالى، وصرح آخرون بأن لقاء الله تعالى استعارة تمثيلية عن البعث وما يتبعه‏.‏

‏{‏حتى إِذَا جَاءتْهُمُ الساعة‏}‏ أي الوقت المخصوص وهو يوم القيامة، وأصل الساعة القطعة من الزمان وغلبت على الوقت المعلوم كالنجم للثريا، وسمي ساعة لقلته بالنسبة لما بعده من الخلود أو بسرعة الحساب فيه على الباري عز اسمه‏.‏ وفسرها بعضهم هنا بوقت الموت، والغاية المذكورة للتكذيب‏.‏ وجوز أن تكون غاية للخسران لكن بالمعنى المتعارف والكلام حينئذٍ على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِى إلى يَوْمِ الدين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 78‏]‏ أي إنك مذموم مدعو عليك باللعنة إلى ذلك اليوم فإذا جاء اليوم لقيت ما تنسى اللعن معه فكأنه قيل‏:‏ خسر المكذبون إلى قيام الساعة بأنواع المحن والبلاء فإذا قامت الساعة يقعون فيما ينسون معه هذا الخسران وذلك هو الخسران المبين ‏{‏بَغْتَةً‏}‏ أي فجأة وبغتة بالتحريك مثلها، وبغته كمنعه فجأه أي هجم عليه من غير شعور، وانتصابها على أنها مصدر واقع موقع الحال من فاعل ‏{‏جَاءتْهُمْ‏}‏ أي مباغتة أو من مفعوله أي مبغوتين، وجوز أن تكون منصوبة على أنها مفعول مطلق لجاءتهم على حد رجع القهقرى أو لفعل مقدر من اللفظ أو من غيره‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏قَالُواْ‏}‏ جواب ‏{‏إِذَا‏}‏ ‏{‏يَا حَسْرَتَنَا‏}‏ نداء للحسرة وهي شدة الندم كأنه قيل‏:‏ يا حسرتنا تعالى فهذا أوانك، قيل‏:‏ وهذا التحسر وإن كان يعتريهم عند الموت لكن لما كان الموت من مقدمات الآخرة جعل من جنس الساعة وسمي باسمها، ولذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من مات فقد قامت قيامته» أو جعل مجىء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة، وقال أبو البقاء‏:‏ التقدير يا حسرة احضري هذا أوانك، وهو نداء مجازي ومعناه تنبيه أنفسهم لتذكير أسباب الحسرة لأن الحسرة نفسها لا تطلب ولا يتأتى إقبالها وإنما المعنى على المبالغة في ذلك حتى كأنهم ذهلوا فنادوها، ومثل ذلك نداء الويل ونحوه ولا يخفى حسنه‏.‏

‏{‏قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا‏}‏ أي على تفريطنا، فما مصدرية فالتفريط التقصير فيما قدر على فعله، وقال أبو عبيدة‏:‏ معناه التضييع، وقال ابن بحر‏:‏ معناه السبق ومنه الفارط للسابق‏.‏ ومعنى فرط خلا السبق لغيره فالتضعيف فيه للسلب كجلدات البعير أزلت جلده وسلبته ‏{‏فِيهَا‏}‏ أي الحياة الدنيا كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو في الساعة كما روي عن الحسن، والمراد من التفريط في الساعة التقصير في مراعاة حقها والاستعداد لها بالإيمان والأعمال الصالحة‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير للجنة أي على ما فرطنا في طلبها ونسب إلى السدي ولا يخفى بعده، وقول الطبرسي‏:‏ «ويدل عليه ما رواه الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في هذه الآية‏:‏ ‏"‏ يرى أهل النار منازلهم من الجنة فيقولون‏:‏ يا حسرتنا ‏"‏ الخ لا يخلو عن نظر لقيام الاحتمال بعد وهو يبطل الاستدلال، وعن محمد بن جرير أن الهاء يعود إلى الصفقة لدلالة الخسران عليها وهو بعيد أيضاً، ومثل ذلك ما قيل‏:‏ إن ما موصولة بمعنى التي، والمراد بها الأعمال والضمير عائد إليها كأنه قيل يا حسرتنا على الأعمال الصالحة التي قصرنا فيها، نعم مرجع الضمير على هذا مذكور في كلامهم دونه على الأقوال السابقة فإنه غير مذكور فيه بل ولا في كلامه تعالى في قص حال هؤلاء القائلين على القول الأول عند بعض فتدبر‏.‏

‏{‏وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ‏}‏ في موضع الحال من فاعل ‏{‏قَالُواْ‏}‏ وهي حال مقارنة أو مقدرة‏.‏ والوزر في الأصل الثقل ويقال للذنب وهو المراد هنا أي يحملون ذنوبهم وخطاياهم كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وذكر الظهور لأن المعتاد الأغلب الحمل عليها كما في ‏{‏كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 30‏]‏ فإن الكسب في الأكثر بالأيدي‏.‏ وفي ذلك أيضاً إشارة إلى مزيد ثقل المحمول، وجعل الذنوب والآثام محمولة على الظهر من باب الاستعارة التمثيلية، والمراد بيان سوء حالهم وشدة ما يجدونه من المشقة والآلام والعقوبات العظيمة بسبب الذنوب، وقيل‏:‏ حملها على الظهر حقيقة وإنها تجسم، فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي أنه قال‏:‏ «ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره إلا جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح عليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره فإذا رآه قال ما أقبح وجهك‏؟‏ قال كذلك كان عملك قبيحاً قال‏:‏ ما أنتن ريحك‏؟‏ قال‏:‏ كذلك كان عملك منتناً قال‏:‏ ما أدنس ثيابك فيقول‏:‏ إن عملك كان دنساً قال من أنت‏؟‏ قال‏:‏ أنا عملك فيكون معه في قبره فإذا بعث يوم القيامة قال له إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات فأنت اليوم تحملني فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار» وأخرجا عن عمرو بن قيس قال‏:‏ إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله عمله في أحسن شيء صورة وأطيبه ريحاً فيقول له‏:‏ هل تعرفني‏؟‏ فيقول‏:‏ لا إلا أن الله تعالى قد طيب ريحك وحسن صورتك فيقول‏:‏ كذلك كنت في الدنيا أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم وتلا

‏{‏يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏ وإن كان الكافر يستقبله أقبح شيء صورة وأنتنه ريحاً فيقول‏:‏ هل تعرفني‏؟‏ فيقول‏:‏ لا إلا أن الله تعالى قد قبح صورتك ونتن ريحك فيقول‏:‏ كذلك كنت في الدنيا أنا عملك السيء طالما ركبتني في الدنيا فأنا اليوم أركبك وتلا ‏{‏وَهُمْ يَحْمِلُونَ‏}‏ الآية‏.‏ وبعضهم يجعل كل ما ورد في هذا الباب مما ذكر تمثيلاً أيضاً، ولا مانع من الحمل على الحقيقة وإجراء الكلام على ظاهره، وقد قال كثير من أهل السنة بتجسيم الأعمال في تلك الدار وهو الذي يقتضيه ظاهر الوزن‏.‏

‏{‏أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ‏}‏ تذييل مقرر لما قبله وتكملة له، و‏{‏سَاء‏}‏ تحتمل كما قيل هنا ثلاثة أوجه، أحدها‏:‏ أن تكون المتعدية المتصرفة وزنها فعل بفتح العين، والمعنى ألا ساءهم ما يزرون؛ و‏(‏ ما‏)‏ موصولة أو مصدرية أو نكرة موصوفة فاعل لها والكلام خبر، وثانيها‏:‏ أنها حولت إلى فعل اللازم بضم العين واشربت معنى التعجب، والمعنى ما أسوأ الذي يزرونه أو ما أسوأ وزرهم‏.‏ وثالثها‏:‏ أنها حولت أيضاً للمبالغة في الذم فتساوي بئس في المعنى والأحكام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ لما حقق سبحانه وتعالى فيما سبق أن وراء الحياة الدنيا حياة أخرى يلقون فيها من الخطوب ما يلقون، بيَّن جل شأنه حال تينك الحياتين في أنفسهما، وجعله بعضهم جواباً لقولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 29‏]‏ وفيه بعد، وكيفما كان فالمراد وما أعمال الحياة الدنيا المختصة بها إلا كاللعب واللهو في عدم النفع والثبات، وبهذا التقدير خرج كما قال غير واحد ما فيها من الأعمال الصالحة كالعبادة وما كان لضرورة المعاش، والكلام من التشبيه البليغ ولو لم يقدر مضاف، وجعلت الدنيا نفسها لعباً ولهواً مبالغة كما في قوله‏:‏ وإنما هي إقبال وإدبار *** صح، واللهو واللعب على ما في «درة التنزيل«يشتركان في أنهما الاشتغال بما لا يعني العاقل ويهمه من هوى وطرب سواء كان حراماً أو لا؛ وفرق بينهما بأن اللعب ما قصد به تعجيل المسرة والاسترواح به واللهو كل ما شغل من هوى وطرب وإن لم يقصد به ذلك، وإذا أطلق اللهو فهو على ما قيل اجتلاب المسرة بالنساء كما في قوله‏:‏ ألا زعمت بسياسة اليوم أنني *** كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي

وقال قتادة‏:‏ اللهو في لغة اليمن المرأة، وقيل‏:‏ اللعب طلب المسرة والفرح بما لا يحسن أن يطلب به واللهو صرف الهم بما لا يصلح أن يصرف به، وقيل‏:‏ إن كل شغل أقبل عليه لزم الإعراض عن كل ما سواه لأن من لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى فإذا أقبل على الباطل لزم الإعراض عن الحق فالإقبال على الباطل لعب والإعراض عن الحق لهو، وقيل‏:‏ العاقل المشتغل بشىء لا بد له من ترجيحه وتقديمه على غيره فإن قدمه من غير ترك للآخر فلعب وإن تركه ونسيه به فهو لهو، وقد بين صاحب «الدرة» بعد أن سرد هذه الأقوال سر تقديم اللعب على اللهو حيث جمعا كما هنا وتأخيره عنه كما في العنكبوت بأنه لما كان هذا الكلام مسوقاً للرد على الكفرة فيما يزعمونه من إنكار الآخرة والحصر السابق وليس في اعتقادهم لجهلهم إلا ما عجل من المسرة بزخرف الدنيا الفانية قدم اللعب الدال على ذلك وتمم باللهو أو لما طلبوا الفرح بها وكان مطمح نظرهم وصرف الهم لازم وتابع له قدم ما قدم أو لما أقبلوا على الباطل في أكثر أقوالهم وأفعالهم قدم ما يدل على ذلك أو لما كان التقديم مقدماً على الترك والنسيان قدم اللعب على اللهو رعاية للترتيب الخارجي، وأما في العنكبوت فالمقام لذكر قصر مدة الحياة الدنيا بالقياس إلى الآخرة وتحقيرها بالنسبة إليها ولذا ذكر اسم الإشارة المشعر بالتحقير وعقب ذلك بقوله سبحانه وتعالى‏:‏

‏{‏ءانٍ الدار الاخرة لَهِىَ الحيوان‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏ والاشتغال باللهو مما يقصر به الزمان وهو أدخل من اللعب فيه، وأيام السرور فصار كما قال‏:‏ وليلة إحدى الليالي الزهر *** لم تك غير شفق وفجر

وينزل على هذا الوجوه في الفرق، وتفصيله في «الدرة» قاله مولانا شهاب الدين فليفهم‏.‏

‏{‏وَلَلدَّارُ الاخرة‏}‏ التي هي محل الحياة الأخرى ‏{‏خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ الكفر والمعاصي لخلوص منافعها عن المضار والآلام وسلامة لذاتها عن الانصرام ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ ذلك حتى تتقوا ما أنتم عليه من الكفر والعصيان، والفاء للعطف على محذوف أي أتغفلون ‏(‏أو ألا تتفكرون فلا تعقلون‏)‏، وكان الظاهر أن يقال كما قال الطيبي وما الدار الآخرة إلا جد وحق لمكان ‏{‏وَمَا الحياة الدنيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ إلا أنه وضع ‏{‏خَيْرٌ لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ‏}‏ موضع ذلك إقامة للمسبب مقام السبب، وقال في «الكشف»‏:‏ إن في ذلك دليلاً على أن ما عدا أعمال المتقين لعب ولهو لأنه لما جعل الدار الآخرة في مقابلة الحياة الدنيا وحكم على الأعمال المقابل بأنها لعب ولهو علم تقابل العملين حسب تقابل ما أضيفا إليه أعني الدنيا والآخرة فإذا خص الخيرية بالمتقين لزم منه أن ما عدا أعمالهم ليس من أعمال الآخرة في شيء فهو لعب ولهو لا يعقب منفعة‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏وَلَدَارُ الاخرة‏}‏ بالإضافة وهي من إضافة الصفة إلى الموصوف وقد جوزها الكوفيون، ومن لم يجوز ذلك تأوله بتقدير ولدار النشأة الآخرة أو إجراء الصفة مجرى الاسم، وقرأ ابن كثير وغيره ‏{‏يَعْقِلُونَ‏}‏ بالياء والضمير للكفار القائلين ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 29‏]‏، وقيل‏:‏ للمتقين والاستفهام للتنبيه والحث على التأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذى يَقُولُونَ‏}‏ استئناف مسوق لتسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحزن الذي يعتريه عليه الصلاة والسلام مما حكى عن الكفرة من الإصرار على التكذيب والمبالغة، وكلمة قد للتكثير وهو كما قال الحلبي راداً به اعتراض أبي حيان راجع إلى متعلقات العلم لا العلم نفسه إذ صفة القديم لا تقبل الزيادة والتكثير وإلا لزم حدوثها المستلزم لحدوث من قامت به سبحانه وتعالى، وقال السفاقسي‏:‏ قد تصح الكثرة باعتبار المعلومات وما في حيز العلم هنا كثير بناءً على أن الفعل المذكور دال على الاستمرار التجددي، وأنشدوا على إفادتها ذلك بقول الهذلي‏:‏ قد أترك القِرْن مصفراً أنامله *** كأن أثوابه مُجَّت بفِرْصَاد

وادعى أبو حيان أن إفادتها للتكثير قول غير مشهور للنحاة وإن قال به بعضهم، وكلام سيبويه حيث قال‏:‏ وتكون قد بمنزلة ربما ليس نصاً في ذلك؛ وما استشهدوا به على دعواهم إنما فهم التكثير فيه من سياق الكلام ومنه البيت فإن التكثير إنما فهم فيه لأن الفخر إنما يحصل بكثرة وقوع المفتخر به‏.‏ وذكر بعض المحققين أن الحق ما قاله ابن مالك أن إطلاق سيبويه أنها بمنزلة ربما يوجب التسوية بينهما في التقليل والصرف إلى المضي والبيت دليل عليه فإن الفخر يقع بترك الشجاع قرنه وقد صبغت أثوابه بدمائه في بعض الأحيان‏.‏

وقول أبي حيان أن الفخر إنما يحصل بكثرة الخ غير مسلم على إطلاقه بل هو فيما يكثر وقوعه وأما ما يندر فيفتخر بوقوعه نادراً لأن قرن الشجاع لو غلبه كثيراً لم يكن قرناً له لأن القرن بكسر القاف وسكون الراء المقاوم المساوي‏.‏ وفي «القاموس» القِرن ‏(‏بالكسر‏)‏ كفؤك في الشجاعة أو أعم، فلفظه يقتضي بحسب دقيق النظر أنه لا يغلبه إلا قليلاً وإلا لم يكن قرناً ويتناقض أول الكلام وآخره، وادعى الطيبي أن لفظ قد للتقليل، وقد يراد به في بعض المواضع ضده، وهو من باب استعارة أحد الضدين للآخر، والنكتة ههنا تصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى قومه وتكذيبهم، يعني من حقك وأنت سيد أولي العزم أن لا تكثر الشكوى من أذى قومك وأن لا يعلم الله تعالى من إظهارك الشكوى إلا قليلاً وأن يكون تهكماً بالمكذبين وتوبيخاً لهم‏.‏ ونص بعضهم على أن قد هنا للتقليل على معنى أن ما هم فيه أقل معلوماته تعالى، وضمير ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ للشأن وهو اسم إن وخبرها الجملة المفسرة له، والموصول فاعل يحزنك وعائده محذوف أي الذي يقوله، وهو ما حكي عنهم من قولهم‏:‏ ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 25‏]‏ أو هو وما يعمه وغيره من هذيانهم وجملة ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ الخ سادة مسد مفعولي ‏{‏نَعْلَمَ‏}‏‏.‏

وقرأ نافع ‏{‏لَيَحْزُنُكَ‏}‏ من أحزن المنقول من حزن اللازم‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذّبُونَكَ‏}‏ تعليل لما يشعر به الكلام السابق من النهي عن الاعتداد بما قالوا بطريق التسلي بما يفيده من بلوغه صلى الله عليه وسلم في جلالة القدر ورفعة الشأن غاية ليس وراءها غاية حيث نفى تكذيبهم قاتلهم الله تعالى عنه صلى الله عليه وسلم وأثبته لآياته تعالى على طريقة قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 10‏]‏ إيذاناً بكمال القرب واضمحلال شؤونه صلى الله عليه وسلم في شأن الله عز وجل‏.‏ وفيه أيضاً استعظام لجنايتهم منبىء عن عظم عقوبتهم كأنه قيل‏:‏ لا تعتد به وكله إلى الله تعالى فإنهم في تكذيبهم ذلك لا يكذبونك في الحقيقة‏.‏

‏{‏ولكن الظالمين بئايات الله يَجْحَدُونَ‏}‏ أي ولكنهم بآياته تعالى يكذبون، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً عليهم بالرسوخ في الظلم الذي جحودهم هذا فن من فنونه، وقيل‏:‏ إن كان المراد من الظلم مطلقه فالوضع للإشارة إلى أن ذلك دأبهم وديدنهم وإنه علة الجحود لأن التعليق بالمشتق يفيد علية المأخذ، وإن أريد به الظلم المخصوص فهو عين الجحد وواقع به نحو ‏{‏ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ باتخاذكم العجل‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 54‏]‏ فيكون المبتدأ مشيراً إلى وجه بناء الخبر كقوله‏:‏ إن الذي سمك السماء بنى لنا *** بيتاً دعائمه أعز وأطول

وقيل‏:‏ إن أل في ‏{‏الظالمين‏}‏ إن كانت موصولة واسم الفاعل بمعنى الحدوث أفاد الكلام سببية الجحد للظلم، وإن كانت حرف تعريف واسم الفاعل بمعنى الثبوت أفاد سببية الظلم للجحد ولا يخفى ما فيه، والالتفات إلى الاسم الجليل لتربية المهابة واستعظاماً لما قدموا عليه، وإيراد الجحود في مورد التكذيب للإيذان بأن آياته سبحانه من الوضوح بحيث يشاهد صدقها كل أحد وأن من ينكرها فإنما ينكرها بطريق الجحود وهو كالجحد نفي ما في القلب ثباته أو إثبات ما في القلب نفيه‏.‏ والباء متعلق بيجحدون والجحد يتعدى بنفسه وبالباء فيقال جحده حقه وبحقه وهو الذي يقتضيه ظاهر كلام الجوهري والراغب، وقيل‏:‏ إنه إنما يتعدى بنفسه والباء ههنا لتضمينه معنى التكذيب، وأياً ما كان فتقديم الجار والمجرور مراعاة لرؤوس الآي أو للقصر‏.‏ ونقل الطبرسي عن أبي علي أن الجار متعلق بالظالمين وفيه خفاء‏.‏ وما ذكر من أن الفاء لتعليل ما يشعر به الكلام هو الذي قرره بعض المحققين، وقيل‏:‏ إنها تعليل لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَدْ نَعْلَمُ‏}‏ الخ بناءً على أن معناه لا تحزن كما يقال في مقام المنع والزجر‏:‏ نعلم ما تفعل فكأنه قيل‏:‏ لا تحزن مما يقولون فإن التكذيب في الحقيقة لي وأنا الحليم الصبور فتخلق بأخلاقي، ويحتمل أن يكون المعنى إنه يحزنك قولهم لأنه تكذيب لي فأنت لم تحزن لنفسك بل لما هو أهم وأعظم، ولا يخفى أن هذا خلاف المتبادر، وقيل معنى الآية فإنهم لا يكذبونك بقلوبهم ولكنهم يجحدون بألسنتهم وروي ذلك عن قتادة وغيره ويؤيده ما رواه السدي أنه التقى الأخنس بن شريق وأبو جهل فقال الأخنس لأبي جهل‏:‏ يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صلى الله عليه وسلم أصادق هو أم كاذب فإنه ليس ههنا أحد يسمع كلامك غيري‏؟‏ فقال أبو جهل‏:‏ والله إن محمداً صلى الله عليه وسلم لصادق وما كذب محمد عليه الصلاة والسلام قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وكذا ما أخرجه الواحدي عند مقاتل قال‏:‏ كان الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية فإذا خلا مع أهل بيته قال‏:‏ ما محمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقاً فأنزل الله تعالى الآية، وقيل‏:‏ المعنى أنهم ليس قصدهم تكذيبك لأنك عندهم موسوم بالصدق وإنما يقصدون تكذيبي والجحود بآياتي، ونسب هذا إلى الكسائي، وأيد بما أخرجه الترمذي والحاكم وصححاه عن علي كرم الله تعالى وجهه أن أبا جهل كان يقول للنبي صلى الله عليه وسلم ما نكذبك وإنك عندنا لصادق ولكنا نكذب ما جئتنا به فنزلت‏.‏ وكذا أخرج الواحدي عن أبي ميسرة‏.‏ واعترض الرضي هذا القول بأنه لا يجوز أن يصدقوه صلى الله عليه وسلم في نفسه ويكذبوا ما أتى به لأن من المعلوم أنه عليه الصلاة والسلام كان يشهد بصحة ما أتى به وصدقه وأنه الدين القيم والحق الذي لا يجوز العدول عنه فكيف يجوز أن يكون صادقاً في خبره ويكون الذي أتى به فاسداً بل إن كان صادقاً فالذي أتى به صحيح وإن كان الذي أتى به فاسداً فلا بد أن يكون كاذباً فيه، وقال مولانا سنان‏:‏ إن حاصل المعنى أنهم لا يكذبونك في نفس الأمر لأنهم يقولون إنك صادق ولكن يتوهمون أنه اعترى عقلك وحاشاك نوع خلل فخيل إليك أنك نبي وليس الأمر بذاك وما جئت به ليس بحق؛ وقال الطيبي‏:‏ مرادهم إنك لا تكذب لأنك الصادق الأمين ولكن ما جئت به سحر، ويعلم من هذا الجواب عن اعتراض الرضي فتدبر، وقيل‏:‏ معنى الآية أنهم لا يكذبونك فيما وافق كتبهم وإن كذبوك في غيره، وقيل‏:‏ المعنى لا يكذبك جميعهم وإن كذبك بعضهم وهم الظالمون المذكورون في هذه الآية، وعلى هذا لا يكون ذكر الظالمين من وضع المظهر موضع المضمر، وقيل‏:‏ غير ذلك ولا يخفى ما هو الأليق بجزالة التنزيل‏.‏

وقرأ نافع والكسائي والأعمش عن أبي بكر ‏{‏لاَ يُكَذّبُونَكَ‏}‏ من الإكذاب وهي قراءة علي كرم الله تعالى وجهه، ورويت أيضاً عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه، فقال الجمهور‏:‏ كلاهما بمعنى كأكثر وكثر وأنزل ونزل؛ وقيل‏:‏ معنى أكذبته وجدته كاذباً كأحمدته بمعنى وجدته محموداً، ونقل أحمد بن يحيى عن الكسائي أن العرب تقول‏.‏ كذبت بالتشديد إذا نسبت الكذب إليه وأكذبته إذا نسبت الكذب إلى ما جاء به دونه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ‏}‏ تسلية إثر تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن عموم البلوى ربما يهونها بعض تهوين وفيه إرشاد له عليه الصلاة والسلام إلى الاقتداء بمن قبله من الرسل الكرام في الصبر على الأذى وعدة ضمنية بمثل ما منحوه من النصر، وتصدير الكلام بالقسم لتأكيد التسلية، وتنوين ‏{‏رُسُلُ‏}‏ للتفخيم والتكثير، و‏(‏ من‏)‏ متعلقة بكذبت، وجوز أن تتعلق بمحذوف وقع صفة لرسل، ورده أبو البقاء بأن الجثة لا توصف بالزمان، وفيه منع ظاهر، والمعنى تالله لقد كذبت من قبل تكذيبك رسل أولو شأن خطير وعدد كثير أو كذبت رسل كانوا من زمان قبل زمانك‏.‏

‏{‏فَصَبَرُواْ على مَا كُذّبُواْ‏}‏ ‏(‏ما‏)‏ مصدرية وقوله‏:‏ ‏{‏وَأُوذُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ داخل في حكمه، ومصدر كذب التكذيب، «وآذى أذى وأذاة وأذية» كما في «القاموس» وإيذاء كما أثبته الراغب وغيره، وقول صاحب «القاموس»‏:‏ «ولا تقل إيذاء» خطأ، والذي غرَّه ترك الجوهري وغيره له، وهو وسائر أهل اللغة لا يذكرون المصادر القياسية لعدم الاحتياج إلى ذكرها، والمصدران هنا من المبني للمفعول وهو ظاهر أي فصبروا على تكذيب قومهم لهم وإيذائهم إياهم فتأس بهم واصبر على ما نالك من قومك، والمراد بإيذائهم إما عين تكذيبهم أو ما يقارنه من فنون الإيذاء، واختاره الطبرسي ولم يصرح به ثقة باستلزام التكذيب إياه غالباً، وفيه تأكيد للتسلية، وجوز العطف على ‏{‏كَذَّبَتْ‏}‏ أو على ‏{‏صَبَرُواْ‏}‏ وجوز أبو البقاء أن يكون هذا استئنافاً ثم رجح الأول‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى أتاهم نَصْرُنَا‏}‏ غاية للصبر، وفيه إيماء إلى وعد النصر للصابرين، وجوز أن يكون غاية للإيذاء وهو مبني على احتمال الاستئناف، والالتفات إلى نون العظمة للإشارة إلى الاعتناء بشأن النصر‏.‏

وَلا مُبَدِّلَ لكلَمَات الله‏}‏ تقرير لمضمون ما قبله من إتيان نصره سبحانه إياهم، والمراد بكلماته تعالى كما قال الكلبي وقتادة الآيات التي وعد فيها نصر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كقوله تعالى ‏{‏‏}‏ تقرير لمضمون ما قبله من إتيان نصره سبحانه إياهم، والمراد بكلماته تعالى كما قال الكلبي وقتادة الآيات التي وعد فيها نصر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام الدالة على نصر النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً كقوله تعالى ‏{‏كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏ وقوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 172، 173‏]‏ وجوز أن يراد بها جميع كلماته سبحانه التي من جملتها الآيات المتضمنة للمواعيد الكريمة ويدخل فيها المواعيد الواردة في حقه صلى الله عليه وسلم دخولاً أولياً، والالتفات إلى الاسم الجليل كما قيل للإشعار بعلة الحكم فإن الألوهية من موجبات أن لا يغالبه سبحانه أحد في فعل من الأفعال ولا يقع منه جل شأنه خلف في قول من الأقوال، وظاهر الآية أن أحداً غيره تعالى لا يستطيع أن يبدل كلمات الله عز وجل بمعنى أن يفعل خلاف ما دلت عليه ويحول بين الله عز اسمه وبين تحقيق ذلك وأما أنه تعالى لا يبدل فلا تدل عليه الآية، والذي دلت عليه النصوص أنه سبحانه ربما يبدل الوعيد ولا يبدل الوعد‏.‏

‏{‏وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ المرسلين‏}‏ تقرير أي تقرير لما منحوا من النصر وتأكيد لما أشعر به الكلام من الوعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو تقرير لجميع ما ذكر من تكذيب الرسل عليهم الصلاة والسلام وإيذائهم ونصرهم، والنبأ كالقصص لفظاً ومعنى‏.‏ وفي «القاموس» «النبأ محركة الخبر جمعه أنباء» وقيده بعضهم، وقد مرت الإشارة إليه بما له شأن، وهو عند الأخفش المجوز زيادة من في الإثبات وقبل المعرفة مخالفاً في ذلك لسيبويه فاعل ‏(‏جاء‏)‏، وصحح أن الفاعل ضمير مستتر تقديره هو أي النبأ أو البيان، والجار متعلق بمحذوف وقع حالاً منه، وقيل وإليه يشير كلام الرماني إنه محذوف والجار والمجرور صفته أي ولقد جاءك نبأ كائن من نبأ المرسلين، وفيه أن الفاعل لا يجوز حذفه هنا، وقال أبو حيان‏:‏ الذي يظهر لي أن الفاعل ضمير عائد على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من التكذيب وما يتبعه‏.‏ وقيل وربما يشعر به كلام «الكشاف»‏:‏ إن من هي الفاعل، والمراد بعض أنبائهم‏.‏