فصل: تفسير الآية رقم (76)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل‏}‏ يحتمل أن يكون عطفاً على ‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏ وما بينهما اعتراض مقرر لما سبق ولحق، فإن تعريفه عليه السلام ربوبيته ومالكيته تعالى للسموات والأرض وما فيهن وكون الكل مقهوراً تحت ملكوته مفتقراً إليه عز شأنه في جميع أحواله وكونه من الراسخين في المعرفة الواصلين إلى ذروة عين اليقين مما يقتضي بأن يحكم باستحالة ألوهية ما سواه سبحانه من الأصنام والكواكب التي كان يعبدها قومه، واختاره بعض المحققين، ويحتمل أن يكون تفصيلاً لما ذكر من إراءة الملكوت وبيانا لكيفية استدلاله عليه السلام ووصوله إلى رتبة الإيقان، والترتيب ذكري لتأخر التفصيل عن الإجمال في الذكر، ومعنى ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل‏}‏ ستره بظلامه، وهذه المادة بمتصرفاتها تدل على الستر، وعن الراغب أصل الجن الستر عن الحاسة يقال‏:‏ جنه الليل وأجنه وجن عليه فجنه وجن عليه ستره وأجنه جعل له ما يستره‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏رَأَى كَوْكَباً‏}‏ جواب لما فإن رؤيته إنما تتحقق عادة بزوال نور الشمس عن الحس وهذا كما قال شيخ الإسلام صريح في أنه لم يكن في ابتداء الطلوع بل كان بعد غيبته عن الحس بطريق الاضمحلال بنور الشمس، والتحقيق عنده أنه كان قريباً من الغروب وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى سبب ذلك، والمراد بالكوكب فيما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المشتري‏.‏ وأخرج ابن المنذر وغيره عن قتادة أنه قال‏:‏ ذكر لنا أنه الزهرة‏.‏

‏{‏قَالَ هذا رَبّى‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من الكلام السابق، وهذا منه عليه السلام على سبيل الفرض وإرخاء العنان مجاراة مع أبيه وقومه الذين كانوا يعبدون الأصنام والكواكب فإن المستدل على فساد قول يحكيه ثم يكر عليه بالإبطال وهذا هو الحق الحقيق بالقبول‏.‏ وقيل‏:‏ إن في الكلام استفهاماً إنكارياً محذوفاً، وحذف أداة الاستفهام كثير في كلامهم، ومنه قوله‏:‏ ثم قالوا تحبها قلت بهرا *** وقوله‏:‏ فقلت وأنكرت الوجوه هم هم‏.‏ *** وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ اقتحم العقبة‏}‏ ‏[‏البلد‏:‏ 11‏]‏ إن المعنى أفلا اقتحم وجعل من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 22‏]‏ وقيل‏:‏ إنه مقول على سبيل الاستهزاء كما يقال لذليل ساد قوماً‏:‏ هذا سيدكم على سبيل الاستهزاء، وقيل‏:‏ إنه عليه السلام أراد أن يبطل قولهم بربوبية الكواكب إلا أنه عليه السلام كان قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة إلى الله تعالى لم يقبلوا ولم يلتفتوا فمال إلى طريق يستدرجهم إلى استماع الحجة وذلك بأن ذكر كلاماً يوهم كونه مساعداً لهم على مذهبهم مع أن قلبه كان مطمئناً بالإيمان، ومقصوده من ذلك أن يتمكن من ذكر الدليل على إبطاله وإن لم يقبلوا‏.‏

وقرر الإمام هذا «بأنه عليه السلام لما لم يجد إلى الدعوة طريقاً سوى هذا الطريق وكان مأموراً بالدعوة إلى الله تعالى كان بمنزلة المكره على كلمة الكفر ومعلوم أنه عند الإكراه يجوز إجراء كلمة الكفر على اللسان، وإذا جاز ذلك لبقاء شخص واحد فبأن يجوز لتخليص عالم من العقلاء عن الكفر والعقاب المؤبد كان ذلك أولى، فكلام إبراهيم عليه السلام كان من باب الموافقة ظاهراً للقوم حتى إذا أورد عليهم الدليل المبطل لقولهم كان قبولهم له أتم وانتفاعهم باستماعه أكمل، ثم قال‏:‏ ومما يقوي هذا القول أنه تعالى حكى عنه مثل هذا الطريق في موضع آخر وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَظَرَ نَظْرَةً فِى النجوم فَقَالَ إِنّى سَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 88، 89‏]‏ وذلك لأن القوم كانوا يستدلون بعلم النجوم على حصول الحوادث المستقبلة فوافقهم في الظاهر مع أنه كان بريئاً عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام، فمتى جازت الموافقة لهذا الغرض فلم لا تجوز في مسألتنا لمثل ذلك، وقيل‏:‏ إن القوم بينما كانوا يدعونه عليه السلام إلى عبادة النجوم وكانت المناظرة بينهم قائمة على ساق إذ طلع النجم فقال‏:‏ ‏{‏هذا رَبّى‏}‏ على معنى هذا هو الرب الذي تدعونني إليه2‏.‏

وقيل وقيل والكل ليس بشيء عند المحققين لا سيما ما قرره الإمام، وتلك الأقوال كلها مبنية على أن هذا القول كان بعد البلوغ ودعوة القوم إلى التوحيد وسياق الآية وسباقها شاهدا عدل على ذلك‏.‏ وزعم بعضهم أنه كان قبل البلوغ ولا يلزمه اختلاج شك مؤد إلى كفر لأنه لما آمن بالغيب أراد أن يؤيد ما جزم به بأنه لو لم يكن الله تعالى إلهاً وكان ما يعبده قومه لكان إما كذا وإما كذا والكل لا يصلح لذلك فيتعين كون الله تعالى إلهاً وهو خلاف الظاهر ويأباه السياق والسباق كما لا يخفى‏.‏ وزعم أنه عليه السلام قال ما قال إذ لم يكن عارفاً بربه سبحانه والجهل حال الطفولية قبل قيام الحجة لا يضر ولا يعد ذلك كفراً مما لا يلتفت إليه أصلاً، فقد قال المحققون المحقون‏:‏ إنه لا يجوز أن يكون لله تعالى رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو لله تعالى موحد وبه عارف ومن كل معبود سواه بريء، وقد قص الله تعالى من حال إبراهيم عليه السلام خصوصاً في صغره ما لا يتوهم معه شائبة مما يناقض ذلك فالوجه الأول لا غير‏.‏ ولعل سلوك تلك الطريقة في بيان استحالة ربوبية الكوكب دون بيان استحالة إلهية الأصنام كما قيل لما أن هذا أخفى بطلانا واستحالة من الأول فلو صدع بالحق من أول الأمر كما فعله في حق عبادة الأصنام لتمادوا في المكابرة والعناد ولجوا في طغيانهم يعمهون، وكان تقديم بطلان إلهية الأصنام على ما ذكر من باب الترقي من الخفي إلى الأخفى‏.‏

وقيل‏:‏ إن القوم كانوا يعبدون الكواكب فاتخذوا لكل كوكب صنماً من المعادن المنسوبة إليه كالذهب للشمس والفضة للقمر ليتقربوا إليها فكان الصنم كالقبلة لهم فأنكر أولا عبادتهم للأصنام بحسب الظاهر ثم أبطل منشآتها وما نسبت إليه من الكواكب بعدم استحقاقها لذلك أيضاً، ولعلهم كانوا يعتقدون تأثيرها استقلالا دون تأثير الأصنام ولهذا تعرض لبطلان الالهية في الأصنام والربوبية فيها‏.‏ وقرأ أبو عمرو وورش من طريق البخاري «رأى» بفتح الراء وكسر الهمزة حيث كان‏.‏ وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف ويحيى عن أبي بكر «رأئي» بكسر الراء والهمزة‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَفَلَ‏}‏ أي غرب ‏{‏قَالَ لا أُحِبُّ الافلين‏}‏ أي الأرباب المنتقلين من مكان إلى مكان المتغيرين من حال إلى حال، ونفي المحبة قيل‏:‏ إشارة إلى نفي اعتقاد الربوبية‏.‏ وقيل كنى بعدم المحبة عن عدم العبادة لأنه يلزم من نفيها نفيها بالطريق الأولى، وقدر بعضهم في الكلام مضافاً أي لا أحب عبادة الآفلين، وأياً ما كان فمبتدأ الاشتقاق علة للحكم لأن الأفول انتقال واحتجاب وكل منهما ينافي استحقاق الربوبية والألوهية التي هي من مقتضيات الربوبية لاقتضاء ذلك الحدوث والإمكان المستحيلين على الرب المعبود القديم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى القمر بَازِغاً‏}‏ أي مبتدأ في الطلوع منتشر الضوء، ولعله كما قال الأزهري مأخوذ من البزغ وهو الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا ويقال‏.‏ بزغ الناب إذا ظهر وبزغ البيطار الدابة إذا أسال دمها‏.‏ ويقال‏:‏ بزغ الدم أي سال، وعلى هذا فيمكن أن يكون بزوغ القمر مشبهاً بما ذكر وكلام الراغب صريح فيه، وظاهر الآية أن هذه الرؤية بعد غروب الكوكب‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ هذا رَبّى‏}‏ جواب لما وهو على طرز الكلام السابق ‏{‏فَلَمَّا أَفَلَ‏}‏ كما أفل الكوكب ‏{‏قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى‏}‏ إلى جنابه الحق الذي لا محيد عنه ‏{‏لاَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين‏}‏ فإن شيئاً مما رأيته لا يصلح للربوبية، وهذا مبالغة منه عليه السلام في النصفة، «وفيه كما قال الزمخشري تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلهاً وهو نظير الكواكب في الأفول فهو ضال»، «والتعريض بضلالهم هنا كما قال ابن المنير أصرح وأقوى من قوله أولا ‏{‏لا أُحِبُّ الافلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏ وإنما ترقى عليه السلام إلى ذلك لأن الخصوم قد أقامت عليهم بالاستدلال الأول حجة فأنسوا بالقدح في معتقدهم ولو قيل هذا في الأول فلعلهم كانوا ينفرون ولا يصغون إلى الاستدلال، فما عرض لهم عليه السلام بأنهم على ضلالة إلا بعد أن وثق بإصغائهم إلى تمام المقصود واستماعهم له إلى آخره‏.‏ والدليل على ذلك أنه صلى الله عليه وسلم ترقى في النوبة الثالثة إلى التصريح بالبراءة منهم ‏(‏والتصريح‏)‏ بأنهم على شرك حين تم قيام الحجة عليهم وتبلج الحق وبلغ من الظهور غايته2‏.‏

وفي هذه الجملة دليل من غير وجه على أن استدلاله عليه السلام ليس لنفسه بل كان محاجة لقومه‏.‏ وكذا ما سيأتي‏.‏ وحمل هذا على أنه عليه الصلاة والسلام استعجز نفسه فاستعان بربه عز وجل في درك الحق وما سيأتي على أنه إشارة إلى حصول اليقين من الدليل خلاف الظاهر جداً، على أنه قيل‏:‏ إن حصول اليقين من الدليل لا ينافي المحاجة مع القوم، ثم الظاهر على ما قال شيخ الإسلام أنه عليه السلام كان إذ ذاك في موضع كان في جانبه الغربي جبل شامخ يستتر به الكوكب والقمر وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل وكان الكوكب قريباً منه وأفقه الشرقي مكشوف أولاً وإلا فطلوع القمر بعد أفول الكوكب ثم أفوله قبل طلوع الشمس كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً‏}‏ أي مبتدأة في الطلوع مما لا يكاد يتصور، وقال آخر‏:‏ إن القمر لم يكن حين رآه في ابتداء الطلوع بل كان وراء جبل ثم طلع منه أو في جانب آخر لا يراه وإلا فلا احتمال لأن يطلع القمر من مطلعه بعد أفول الكوكب ثم يغرب قبل طلوع الشمس انتهى‏.‏

وأنت تعلم أن القول بوجود جبل في المغرب أو المشرق خلاف الظاهر لا سيما على قول شيخ الإسلام لأن هذا الاحتجاج كان في نواحي بابل على ما يشير إليه كلام المؤرخين وأهل الأثر وليس هناك اليوم جبل مرتفع بحيث يستتر به الكوكب وقت الظهر من النهار أو بعده بقليل، واحتمال كونه كان إذ ذاك ولم يبق بتتالي الأعوام بعيد، وكذا يقال على القول المشهور عند الناس اليوم‏:‏ إن واقعة إبراهيم عليه السلام كانت قريباً من حلب لأنه أيضاً ليس هناك جبل شامخ كما يقوله الشيخ على أن المتبادر من البزوغ والأفول البزوغ من الأفق الحقيقي لذلك الموضع والأفول عنه لا مطلق البزوغ والأفول‏.‏

وقال الشهاب‏:‏ إن الذي ألجاهم إلى ما ذكر التعقيب بالفاء ويمكن أن يكون تعقيباً عرفياً مثل تزوج فولد له إشارة إلى أنه لم تمض أيام وليال بين ذلك سواء كان استدلالاً أو وضعاً واستدراجاً لا أنه مخصوص بالثاني كما توهم على أنا لا نسلم ما ذكر إذا كان كوكباً مخصوصاً وإنما يرد لو أريد جملة الكواكب أو واحد لا على التعيين فتأمل انتهى‏.‏ ولا يخفى أن القول بالتعقيب العرفي والتزام أن هذا الاستدلال لم يكن في ليلة واحدة وصبيحتها هو الذي يميل إليه القلب، ودعوى إمكان طلوع القمر بعد أفول الكوكب حقيقة وقبل طلوع الشمس وأفوله قبل طلوعها لا يدعيها عارف بالهيئة في هذه الآفاق التي نحن فيها لأن امتناع ذلك عادة ولو أريد كوكب مخصوص أمر ظاهر لا سيما على ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن رؤية القمر كانت في ءاخر الشهر‏.‏ نعم قد يمكن ذلك في بعض البروج في عروض مخصوصة لكن بيننا وبينها مهامه فيح، ولعله لذلك أمر بالتأمل فتأمل‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي على المنوال السابق ‏{‏هذا رَبّى‏}‏ إشارة إلى الجرم المشاهد من حيث هو لا من حيث هو مسمى باسم من الأسامي فضلاً عن حيثية تسميته بالشمس ولذا ذكر اسم الإشارة‏.‏ وقال أبو حيان «يمكن أن يقال‏:‏ إن أكثر لغة العجم لا تفرق في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث بل المؤنث والمذكر عندهم سواء فأشير في الآية إلى المؤنث بما يشار به إلى المذكر حين حكى كلام إبراهيم عليه السلام وحين أخبر سبحانه عن المؤنث ببازغة وأفلت أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية2‏.‏

وتعقب بأن هذا إنما يظهر لو حكى كلامهم بعينه في لغتهم أما إذا عبر عنه بلغة العرب فالمعتبر حكم لغة العرب، وقد صرح غير واحد بأن العبرة في التذكير والتأنيث بالحكاية لا المحكي ألا ترى أنه لو قال أحد‏:‏ الكوكب النهاري طلع فحكيته بمعناه وقلت‏:‏ الشمس طلعت لم يكن لك ترك التأنيث بغير تأويل لما وقع في عبارته، وإذا تتبعت ما وقع في النظم الكريم رأيته إنما يراعي فيه الحكاية على أن القول بأن محاورة إبراهيم عليه السلام كانت بالعجمية دون العربية مبني على أن إسماعيل عليه السلام أول من تكلم بالعربية والصحيح خلافه‏.‏

وقيل‏:‏ التذكير لتذكير الخبر وقد صرحوا في الضمير واسم الإشارة مثله أن رعاية الخبر فيه أولى من رعاية المرجع لأنه مناط الفائدة في الكلام وما مضى فات، وفي «الكشاف» «بعد جعل التذكير لتذكير الخبر وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرب عن شبهة التأنيث ألا تراهم قالوا في صفة الله تعالى‏:‏ علام ولم يقولوا علامة وإن كان العلامة أبلغ احترازاً من علامة التأنيث» واعترض عليه بأن هذا في الرب الحقيقي مسلم وما هنا ليس كذلك‏.‏ وأجيب بأن ذلك على تقدير أن يكون مسترشداً ظاهر، والمراد على المسلك الآخر إظهار صون الرب ليستدرجهم إذ لو حقر بوجه ما كان سبباً لعدم إصغائهم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذا أَكْبَرُ‏}‏ تأكيد لما رامه عليه الصلاة والسلام من إظهار النصفة مع إشارة خفية كما قيل إلى فساد دينهم من جهة أخرى ببيان أن الأكبر أحق بالربوبية من الأصغر، وكون الشمس أكبر مما قبلها مما لا خفاء فيه، والآثار في مقدار جرمها مختلفة‏.‏ والذي عليه محققو أهل الهيئة أنها مائة وستة وستون مثلاً وربع وثمن مثل الأرض وست آلاف وستمائة وأربعة وأربعون مثلاً وثلثا مثل للقمر، وذكروا أن الأرض تسعة وثلاثون مثلاً وخمس وعشر مثل للقمر، وتحقيق ذلك في «شرح مختصر الهيئة» للبرجندي‏.‏

‏{‏فَلَمَّا أَفَلَتْ‏}‏ كما أفل ما قبلها ‏{‏قَالَ‏}‏ لقومه صادعاً بالحق بين ظهرانيهم‏.‏ ‏{‏قَالَ ياقوم إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ أي من إشراككم أو من الذي تشركونه من الأجرام المحدثة المتغيرة من حال إلى أخرى المسخرة لمحدثها، وإنما احتج عليه السلام بالأفول دون البزوغ مع أنه أيضاً انتقال قيل لتعدد دلالته لأنه انتقال مع احتجاب والأول‏:‏ حركة وهي حادثة فيلزم حدوث محلها، والثاني‏:‏ اختفاء يستتبع إمكان موصوفه ولا كذلك البزوغ لأنه وإن كان انتقالاً مع البروز لكن ليس للثاني مدخل في الاستدلال‏.‏ واعترض بأن البزوغ أيضاً انتقال مع احتجاب لأن الاحتجاب في الأول لاحق وفي الثاني‏:‏ سابق، وكونه عليه السلام رأى الكوكب الذي يعبدونه في وسط السماء كما قيل ولم يشاهد بزوغه فإنما يصير نكتة في الكوكب دون القمر والشمس إلا أن يقال بترجح الأفول بعمومه بخلاف البزوغ‏.‏

والأولى‏:‏ ما قيل‏:‏ «إن ترتيب هذا الحكم ونظيريه على الأفول دون البزوغ والظهور من ضروريات سوق الاحتجاج على هذا المساق الحكيم فإن كلاً منهما وإن كان في نفسه انتقالاً منافياً لاستحقاق معروضه للربوبية قطعاً لكن لما كان الأول حالة موجبة لظهور الآثار والأحكام ملائمة لتوهم الاستحقاق في الجملة رتب عليه الحكم الأول أعني ‏{‏هذا رَبّى‏}‏ على الطريق المذكورة، وحيث كان الثاني حالة مقتضية لانطماس الآثار وبطلان الأحكام المنافيين للاستحقاق المذكور منافاة بينة يكاد يعترف بها كل مكابر عنيد رتب عليها ما رتب انتهى2‏.‏

وبمعنى هذا ما قاله الإمام في وجه الاستدلال بالأفول من «أن دلالته على المقصود ظاهرة يعرفها كل أحد، فإن الآفل يزول سلطانه وقت الأفول، ونقل عن بعض المحققين أن الهوى في ‏(‏حضيض‏)‏ الإمكان أفول؛ وأحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص وحصة الأوساط وحصة العوام فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان وكل ممكن محتاج والمحتاج لا يكون ‏(‏مقطعاً للحاجة‏)‏ فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون منزهاً عن الإمكان حتى تنقطع الحاجات بسبب وجوده كما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ إلى رَبّكَ المنتهى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 42‏]‏ وأما الأوساط فهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة وكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم القادر فلا يكون الآفل إلهاً بل الإله هو الذي احتاج إليه ذلك الآفل، وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب وهم يشاهدون أن كل كوكب يقرب من الأفول والغروب فإنه يزول نوره وينتقص ضوؤه ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك لم يصلح للإلهية ثم قال‏:‏ فكلمة ‏{‏لا أُحِبُّ الافلين‏}‏ مشتملة على نصيب المقربين وأصحاب اليمين وأصحاب الشمال فكانت أكمل الدلائل وأفضل البراهين‏.‏ وهناك أيضاً دقيقة أخرى وهو أنه عليه السلام إنما كان يناظرهم وهم كانوا منجمين ومذهب أهل النجوم أن الكوكب إذا كان في الربع الشرقي وكان صاعداً إلى وسط السماء كان قوياً عظيم التأثير أما إذا كان غريباً وقريباً من الأفول فإنه يكون ضعيف الأثر قليل القوة فنبه بهذه الدقيقة على أن الإله هو الذي لا تتغير قدرته إلى العجز وكماله إلى النقصان، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الربع الغربي يكون ضعيف القوة ناقص التأثير عاجزاً عن التدبير وذلك يدل على القدح في إلهيته‏.‏ ويظهر من هذا أن للأفول على قول المنجمين مزيد خاصية في كونه موجباً للقدح في إلهيته2‏.‏

ولا يخفى أن فهم الهوى في حضيض الإمكان من ‏{‏فَلَمَّا أَفَلَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 77‏]‏ في هذه الآية مما لا يكاد يسلم، وكون المراد فلما تحقق إمكانه لظهور أمارات ذلك من الجسمية والتحيز مثلاً قال الخ لا يخفى ما فيه، نعم فهم هذا المعنى من

‏{‏لا أُحِبُّ الافلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏ ربما يحتمل على بعد، ونقل عن حجة الإسلام الغزالي أنه «حمل الكوكب على النفس الحيوانية التي لكل كوكب والقمر على النفس الناطقة التي لكل فلك، والشمس على العقل المجرد الذي لكل فلك، وعن بعضهم أنه حمل الكوكب على الحس، والقمر على الخيال والوهم والشمس على العقل، والمراد أن هذه القوى المدركة قاصرة متناهية القوة ومدبر العالم مستولي عليها قاهر لها» وهو خلاف الظاهر أيضاً، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة نظير ذلك، وإنما لم يقتصر عليه السلام في الاحتجاج على قومه بأفول الشمس مع أنه يلزم من امتناع صفة الربوبية فيها لذلك امتناعها في غيرها من باب أولى‏.‏

وفيه أيضاً رعاية الإيجاز والاختصار ترقياً من الأدون إلى الأعلى مبالغة في التقرير والبيان على ما هو اللائق بذلك المقام ولم يحتج عليهم بالجسمية والتحيز ونحوهما مما يدركه الرائي عند الرؤية في أمارات الحدوث والإمكان اختياراً لما هو أوضح من ذلك في الدلالة وأتم، ثم إنه عليه السلام لما تبرأ مما تبرأ منه توجه إلى مبدع هذه المصنوعات وموجودها

‏[‏بم فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ لِلَّذِى فَطَرَ‏}‏ أي أوجد وأنشأ ‏{‏السموات‏}‏ التي هذه الأجرام من أجزائها ‏{‏والارض‏}‏ التي تلك الأصنام من أجزائها ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ أي مائلاً عن الأديان الباطلة والعقائد الزائغة كلها ‏{‏وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين‏}‏ أصلاً في شيء من الأقوال والأفعال، والمراد من توجيه الوجه للذي فطر الخ قصده سبحانه بالعبادة‏.‏ وقال الإمام‏:‏ «المراد وجهت عبادتي وطاعتي، وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مطيعاً لغيره منقاداً لأمره فإنه يتوجه بوجهه إليه فجعل توجه الوجه إليه كناية عن الطاعة» والظاهر أن اللام صلة وجه‏.‏ وفي «الصحاح» «وجهت وجهي لله وتوجهت نحوك وإليك»، ظاهره التفرقة بين وجه وتوجه باستعمال الأول باللام والثاني بإلى، وعليه وجه اللام هنا دون إلى ظاهر، وليس في «القاموس» تعرض لهذا الفرق‏.‏ وادعى «الإمام أنه حيث كان المعنى توجيه وجه القلب إلى خدمته تعالى وطاعته لأجل عبوديته لا توجه القلب إليه جل شأنه لأنه متعالٍ عن الحيز والجهة تركت إلى واكتفى باللام فتركها‏.‏ والاكتفاء باللام ههنا دليل ظاهر على كون المعبود متعالياً عن الحيز والجهة» وفي القلب من ذلك شيء‏.‏

فإن قيل‏:‏ إن قصارى ما يدل عليه الدليل أن الكوكب والشمس والقمر لا يصلح شيء منها للربوبية والألوهية ولا يلزم من هذا القدر نفي الشرك مطلقاً وإثبات التوحيد فلم جزم عليه السلام بإثبات التوحيد ونفي الشرك بعد إقامة ذلك الدليل‏؟‏ فالجواب بأن القوم كانوا مساعدين على نفي سائر الشركاء وإنما نازعوا في هذه الصورة المعينة فلما ثبت بالدليل على أن هذه الأشياء ليست أرباباً ولا آلهة وثبت بالاتفاق نفي غيرها لا جرم حصل الجزم بنفي الشركاء على الإطلاق‏.‏ ثم إن المشهور أن هذا الاستدلال من أول ضروب الشكل الثاني‏.‏ والشخصية عندهم في حكم الكلية كأنه قيل‏:‏ هذا أو القمر أو هذه أفل أو أفلت ولا شيء من الإله بآفل أو ربي ليس بآفل ينتج هذا أو القمر أو هذه ليس بإله أو ليس بربى‏.‏ أما الصغرى فهي كالمصرح بها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَفَلَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76، 77‏]‏ في الموضعين، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا أَفَلَتْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78‏]‏ في الأخير، وأما الكبرى فمأخوذة من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أُحِبُّ الافلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏ لأنه يشير إلى قياس وهو كل آفل لا يستحق العبودية‏.‏ وكل من لا يستحق العبودية فليس بإله ينتج من الأول كل آفل ليس بإله، ويستلزم لا شيء من الآفل بإله لاستلزام الموجبة المعدولة السالبة المحصلة‏.‏ ويصح جعل الكبرى ابتداء سالبة فينتج ما ذكر وينعكس إلى لا شيء من الإله بآفل، وهي إحدى الكبريين‏.‏ ويعلم من هذا بأدنى التفات كيفية أخذ الكبرى الثانية‏.‏

وقال الملوي‏:‏ الأحسن أن يقال إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا أُحِبُّ الافلين‏}‏ يتضمن قضية وهي لا شيء من الآفل يستحق العبودية فتجعل كبرى لصغرى ضرورية وهي الإله المستحق للعبودية ينتج لا شيء من الإله بآفل وإذا ضمت هذه النتيجة إلى القضية السابقة وهي هذا آفل ونحوه أنتج من الثاني هذا ليس بإله أو لا شيء من القمر بإله، وإن ضممت عكسها المستوي إليها أنتج من الأول المطلوب بعينه فلا يتعين الثاني في الآية بل الأول مأخوذ منها أيضاً اه‏.‏ فتأمل فيه ولا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ‏}‏ أي خاصموه كما قال الربيع أو شرعوا في مغالبته في أمر التوحيد تارة بإيراد أدلة فاسدة واقعة في حضيض التقليد وأخرى بالتخويف والتهديد ‏{‏قَالَ‏}‏ منكراً عليهم محاجتهم له عليه السلام مع قصورهم عن تلك المرتبة وعزة المطلب وقوة الخصم ووضوح الحق ‏{‏أَتُحَاجُّونّى فِى الله‏}‏ أي في شأنه تعالى ووحدانيته سبحانه‏.‏ وقرأ نافع وابن عامر في رواية ابن ذكوان بتخفيف النون ففيه حذف إحدى النونين‏.‏ واختلف في أيهما المحذوفة فقيل‏:‏ نون الرفع وهو مذهب سيبويه ورجح بأن الحاجة دعت إلى نون مكسورة من أجل الياء ونون الرفع لا تكسر‏.‏ وبأنه جاء حذفها كما في قوله‏:‏ كل له نية في بغض صاحبه *** بنعمة الله نقليكم وتقولنا

أراذ تقلوننا والنون الثانية هنا ليست وقاية بل هي من الضمير وحذف بعض الضمير لا يجوز وبأنها نائبة عن الضمة وهي قد تحذف تخفيفاً كما في قراءة أبي عمرو ‏(‏ينصركم‏)‏ و‏(‏ يشعركم‏)‏ ‏(‏ويأمركم‏)‏‏.‏ وقيل نون الوقاية وهو مذهب الأخفش، ورجح بأنها الزائدة التي حصل بها الثقل‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَدْ هَدَانَا‏}‏ في موضع الحال من ضمير المتكلم مؤكدة للإنكار فإن كونه عليه الصلاة والسلام مهدياً من جهة الله تعالى ومؤيداً من عنده سبحانه مما يوجب الكف عن محاجته صلى الله عليه وسلم وعدم المبالاة بها والالتفات إليها إذا وقعت‏.‏ قيل‏:‏ والمراد وقد هدان إلى إقامة الدليل عليكم بوحدانيته عز شأنه، وقيل‏:‏ هدان إلى الحق بعد ما سلكت طريقتكم بالفرض والتقدير وتبين بطلانها تبييناً تاماً كما شاهدتموه، وعلى القولين لا يقتضي سبق ضلال له عليه الصلاة والسلام وجهل بمعرفة ربه جل وعلا و‏{‏هدان‏}‏ يرسم كما قال الأجهوري بلا ياء‏.‏

‏{‏هَدَانِى وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ‏}‏ جواب كما روى عن ابن جريج عما خوفوه عليه السلام من إصابة مكروه من جهة معبودهم الباطل كما قال لهود عليه السلام قومه ‏{‏إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ ءالِهَتِنَا بِسُوء‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 54‏]‏ وهذا التخويف قيل‏:‏ كان على ترك عبادة ما يعبدونه، وقيل‏:‏ بل على الاستخفاف به واحتقاره بنحو الكسر والتنقيص‏.‏ قيل‏:‏ ولعل ذلك حين فعل بآلهتهم ما فعل مما قص الله تعالى علينا، وفي بعض الآثار أنه عليه السلام لما شب وكبر جعل آزر يصنع الأصنام فيعطيها له ليبيعها فيذهب وينادي من يشتري ما يضره ولا ينفعه فلا يشتريها أحد فإذا بارت ذهب بها إلى نهر وضرب فيه رؤوسها وقال لها اشربي استهزاء بقومه حتى فشا فيهم استهزاؤه فجادلوه حينئذ وخوفوه‏.‏ و‏(‏ ما‏)‏ موصولة إسمية حذف عائدها، والضمير المجرور لله تعالى أي لا أخاف الذي تشركونه به سبحانه، وجوز أن يكون عائداً إلى الموصول والباء سببية أي‏:‏ الذي تشركون بسببه، وأن تكون نكرة موصوفة وأن تكون مصدرية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً‏}‏ بتقدير الوقت عند غير واحد مستثنى من أعم الأوقات استثناء مفرغاً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن المصدر منصوب على الظرفية من غير تقدير وقت، ومنع ذلك ابن الأنباري مفرقاً بين المصدر الصريح فيجوز نصبه على الظرفية وغير الصريح فلا يجوز فيه ذلك‏.‏ وابن جني لا يفرق بين الصريح وغيره ويجوز ذلك فيهما على السواء، والاستثناء متصل في رأي‏.‏ و‏{‏شَيْئاً‏}‏ مفعول به أو مفعول مطلق أي لا أخاف ما تشركون به في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئته تعالى شيئاً من إصابة مكروه لي من جهتها أو شيئاً من مشيئته تعالى إصابة مكروه لي من جهتها وذلك إنما هو من جهته تعالى من غير دخل لآلهتكم في إيجاده وإحداثه‏.‏ وجوز بعضهم أن يكون الاستثناء منقطعاً على معنى ولكن أخاف أن يشاء ربي خوفي ما أشركتم به، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام إشارة إلى أن مشيئته تلك إن وقعت غير خالية عن مصلحة تعود إليه بالتربية أو إظهار منه عليه الصلاة والسلام لانقياده لحكمه سبحانه وتعالى واستسلام لأمره واعتراف بكونه تحت ملكوته وربوبيته تعالى‏.‏

‏{‏وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً‏}‏ كأنه تعليل للاستثناء أي أحاط بكل شيء علماً فلا يبعد أن يكون في علمه سبحانه إنزال المكروه بي من جهتها بسبب من الأسباب، ونصب ‏{‏عِلْمًا‏}‏ على التمييز المحول عن الفاعل، وجوز أن يكون نصباً على المصدرية لوسع من غير لفظه، وفي الإظهار في موضع الإضمار تأكيد للمعنى المذكور واستلذاذ بذكره تعالى‏.‏

‏{‏أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ أي أتعرضون بعدما أوضحته لكم عن التأمل في أن آلهتكم بمعزل عن القدرة على شيء ما من النفع أو الضر فلا تتذكرون أنها غير قادرة على إضراري‏.‏ وفي إيراد التذكر دون التفكر ونحوه إشارة إلى أن أمر آلهتكم مركوز في العقول لا يتوقف إلا على التذكير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ‏}‏ استئناف كما قال شيخ الإسلام مسوق لنفي الخوف عنه عليه السلام بحسب زعم الكفرة بالطريق الإلزامي بعد نفيه عنه بحسب الواقع ونفس الأمر؛ والاستفهام لإنكار الوقوع ونفيه بالكلية؛ وفي توجه الانكار إلى كيفية الخوف من المبالغة ما ليس في توجيهه إلى نفسه بأن يقال‏:‏ أأخاف لما أن كل موجود لا يخلو عن كيفية فإذا انتفى جميع كيفياته فقد انتفى وجوده من جميع الجهات بالطريق البرهاني، و‏{‏كَيْفَ‏}‏ حال والعوامل فيها ‏{‏أَخَافُ‏}‏ و‏(‏ ما‏)‏ موصولة أو نكرة موصوفة والعائد محذوف، وجوز أن تكون مصدرية‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله‏}‏ في موضع الحال من ضمير ‏{‏أَخَافُ‏}‏ بتقدير مبتدأ لمكان الواو‏.‏ وقيل‏:‏ لا حاجة إلى التقدير لأن المضارع المنفي قد يقرن بالفاء، ولا حاجة هنا إلى ضمير عائد إلى ذي الحال لأن الواو كافية في الربط وهو مقرر لإنكار الخوف ونفيه عنه عليه السلام ومفيد لاعترافهم بذلك فإنهم حيث لم يخافوا في محل الخوف فلأن لا يخاف عليه السلام في محل الأمن أولى وأحرى أي كيف أخاف أنا ما ليس في حيز الخوف أصلاً وأنتم لا تخافون غائلة ما هو أعظم المخوفات وأهولها وهو إشراككم بالله تعالى الذي ‏(‏فطر السموات والأرض‏)‏ ما هو من جملة مخلوقاته، وعبر عنه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا لَمْ يُنَزّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سلطانا‏}‏ أي حجة على طريق التهكم قيل مع الإيذان بأن الأمور الدينية لا يعول فيها إلا على الحجة المنزلة من عند الله تعالى‏.‏ وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ عائد على الموصول والكلام على حذف مضاف أي بإشراكه‏.‏ وجوز أن يكون راجعاً إلى الإشراك المقيد بتعلقه بالموصول ولا حاجة إلى العائد، وهو على ما قيل مبني على مذهب الأخفش في الاكتفاء في الربط برجوع العائد إلى ما يتلبس بصاحبه‏.‏ وذكر متعلق الإشراك وهو الاسم الجليل في الجملة الحالية دون الجملة الأولى قيل لأن المراد في الجملة الحالية تهويل الأمر وذكر المشرك به أدخل في ذلك‏.‏

وقال بعض المحققين‏:‏ الظاهر أن يقال في وجه الذكر في الثانية والترك في الأولى أنه لما قيل قبيل هذا ‏{‏وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80‏]‏ كان ‏(‏ما‏)‏ هنا كالتكرار له فناسب الاختصار وأنه عليه السلام حذفه إشارة إلى بعد وحدانيته تعالى عن الشرك فلا ينبغي عنده نسبته إلى الله تعالى ولا ذكر معه‏.‏ ولما ذكر حال المشركين الذين لا ينزهونه سبحانه عن ذلك صرح به، وقيل‏:‏ إن ذكر الاسم الجليل في الجملة الثانية ليعود إليه الضمير في ‏{‏مَا لَمْ يُنَزّلْ‏}‏ وليس بشيء لأنه يكفي سبق ذكره في الجملة، وقيل‏:‏ لأن المقصود إنكاره عليه السلام عدم خوفهم من إشراكهم بالله تعالى لأنه المنكر المستبعد عند العقل السليم لا مطلق الإنكار ولا كذلك في الجملة الأولى فإن المقصود فيها إنكار أن يخاف عليه السلام غير الله تعالى سواء كان مما يشركه الكفار أو لا؛ وليس بشيء أيضاً لأن الجملة الثانية ليست داخلة مع الأولى في حكم الإنكار إلا عند مدعي العطف وهو مما لا سبيل إليه أصلاً لإفضائه إلى فساد المعنى قطعاً لما تقدم أن الإنكار بمعنى النفي بالكلية فيؤول المعنى إلى نفي الخوف عنه عليه السلام ونفي نفيه عنهم وإنه بين الفساد، وأيضاً إن ‏{‏مَا أَشْرَكْتُمْ‏}‏ كيف يدل على ما سوى الله تعالى غير الشريك‏؟‏ إن هذا إلا شيء عجاب ثم إن الآية نص في أن الشرك مما لم ينزل به سلطان‏.‏

وهل يمتنع عقلاً حصول السلطان في ذلك أم لا‏؟‏ ظاهر كلام بعضهم‏.‏ وفي أصول الفقه ما يؤيده في الجملة الثاني والذي اختاره الأول، وقول الإمام‏:‏ «إنه لا يمتنع عقلاً أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للدعاء» ليس من محل الخلاف كما لا يخفى على الناظر فانظر‏.‏

‏{‏فَأَىُّ الفريقين أَحَقُّ بالامن‏}‏ كلام مرتب على إنكار خوفه عليه السلام في محل الأمن مع تحقق عدم خوفهم في محل الخوف مسوق لإلجائهم إلى الاعتراف باستحقاقه عليه السلام لما هو عليه من الأمن وبعدم استحقاقهم لما هم عليه، وبهذا يعلم ما في دعوى أن الانكار في الجملة الأولى لنفي الوقوع وفي الثانية لاستبعاد الواقع، وإنما جيء بصيغة التفضيل المشعرة باستحقاقهم له في الجملة لاستنزالهم عن رتبة المكابرة والاعتساف بسوق الكلام على سنن الانصاف، والمراد بالفريقين الفريق الآمن في محل الأمن والآمن في محل الخوف، فإيثار ما في النظم الكريم كما قيل على أن يقال‏:‏ فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم‏؟‏ لتأكيد الإلجاء إلى الجواب ‏(‏الحق‏)‏ بالتنبيه على علة الحكم والتفادي عن التصريح بتخطئتهم التي ربا تدعو إلى اللجاج والعناد مع الإشارة بمافي النظم إلى أن أحقية الأمن لا تخصه عليه السلام بل تشمل كل موحد ترغيباً لهم في التوحيد‏.‏

‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي من هو أحق بذلك أو شيء من الأشياء أو إن كنتم من أولي العلم فأخبروني بذلك‏.‏ وقرىء ‏{‏سلطانا‏}‏ بضم اللام، وهي لغة اتبع فيها الضم الضم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏الذين ءامَنُواْ‏}‏ استئناف يحتمل أن يكون من جهته تعالى مبين للجواب الحق الذي لا محيد عنه‏.‏ وروي ذلك عن محمد بن إسحاق وابن زيد والجبائي، ويحتمل أن يكون من جهة إبراهيم عليه السلام وروي ذلك عن علي كرم الله تعالى وجهه، واستشكل كونه استئنافاً بأنه لا يمكن جعله بيانياً لأنه ما كان جواب سؤال مقدر، وهذا جواب سؤال محقق ولا نحوياً لما قال ابن هشام‏:‏ إن الاستئناف النحوي ما كان في ابتداء الكلام ومنقطعاً عما قبله وهذا مرتبط بما قبله لارتباط الجواب والسؤال ضرورة وليس عندنا غيرهما‏.‏ وأجيب باختيار كونه نحوياً، ومعنى كونه منقطعاً عما قبله أن لا يعطف عليه ولا يتعلق به من جهة الإعراب وإن ارتبط بوجه آخر، وقيل‏:‏ المراد بابتداء الكلام ابتداؤه تحقيقاً أو تقديراً أي الفريق الذين آمنوا بما يجب الإيمان به‏.‏

‏{‏وَلَمْ يَلْبِسُواْ‏}‏ أي لم يخلطوا ‏{‏أيمانهم‏}‏ ذلك ‏{‏بِظُلْمٍ‏}‏ أي شرك كما يفعله الفريق المشركون حيث يزعمون أنهم مؤمنون بالله تعالى وأن عبادتهم لغيره سبحانه معه من تتمات إيمانهم وأحكامه لكونها لأجل التقريب والشفاعة كما ينبىء عنه قوله‏:‏ ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏ وإلى تفسير الظلم بالشرك هنا ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وابن المسيب وقتادة ومجاهد وأكثر المفسرين، ويؤيد ذلك أن الآية واردة مورد الجواب عن حال الفريقين‏.‏

ويدل عليه ما أخرجه الشيخان وأحمد والترمذي عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن الآية لما نزلت شق ذلك على الصحابة رضي الله تعالى عنهم وقالوا‏:‏ أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليس ما تظنون إنما هو ما قال لقمان عليه السلام لابنه ‏{‏يَعِظُهُ يابنى لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 13‏]‏ ولا يقال‏:‏ إنه لا يلزم من قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشرك‏}‏ الخ أن غير الشرك لا يكون ظلماً لأنهم قالوا‏:‏ إن التنوين في ‏{‏بِظُلْمٍ‏}‏ للتعظيم فكأنه قيل‏:‏ لم يلبسوا إيمانهم بظلم عظيم، ولما تبين أن الشرك ظلم عظيم علم أن المراد لم يلبسوا إيمانهم بشرك أو أن المتبادر من المطلق أكمل أفراده‏.‏

وقيل‏:‏ المراد به المعصية وحكي ذلك عن الجبائي والبلخي وارتضاه الزمخشري تبعاً لجمهور المعتزلة‏.‏ واستدلوا بالآية على أن صاحب الكبيرة لا أمن له ولا نجاة من العذاب حيث دلت بتقديم لهم الآتي على اختصاص الأمن بمن لم يخلط إيمانه بظلم أي بفسق وادعوا أن تفسيره بالشرك يأباه ذكر اللبس أي الخلط إذ هو لا يجامع الإيمان للضدية وإنما يجامع المعاصي، والحديث خبر واحد فلا يعمل به في مقابلة الدليل القطعي، والقول بأن الفسق أيضاً لا يجامع الإيمان عندهم أيضاً فلا يتم لهم الاستدلال لكونه اسماً لفعل الطاعات واجتناب السيئآت حتى أن الفاسق ليس بمؤمن كما أنه ليس بكافر مدفوع كما قيل بأنه كثيراً ما يطلق الإيمان على نفس التصديق بل لا يكاد يفهم منه بلفظ الفعل غير هذا حتى أنه يعطف عليه عمل الصالحات كما جاء في غير ما آية‏.‏

وأجيب بأنه أريد بالإيمان تصديق القلب وهو قد يجامع الشرك كأن يصدق بوجود الصانع دون وحدانيته كما أشرنا إليه آنفاً، ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 106‏]‏‏.‏ وكذا إذا أريد به مطلق التصديق سواء كان باللسان أو غيره بل المجامعة على هذا أظهر كما في المنافق ولو أريد به التصديق بجميع ما يجب التصديق به بحيث يخرج عن الكفر يقال‏:‏ إنه لا يلزم من لبس الإيمان بالشرك الجمع بينهما بحيث يصدق عليه أنه مؤمن ومشرك بل تغطيته بالكفر وجعله مغلوباً مضمحلاً أو اتصافه بالإيمان ثم الكفر ثم الإيمان ثم الكفر مراراً، وبعد تسليم جميع ما ذكر نقول‏:‏

إن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمُ الامن‏}‏ إنما يدل على اختصاص الأمن بغير العصاة وهو لا يوجب كون العصاة معذبين ألبتة بل خائفين ذلك موقعين للاحتمال ورجحان جانب الوقوع‏.‏ وقيل المراد من الأمن الأمن من خلود العذاب لا الأمن من العذاب مطلقاً، والموصول مبتدأ واسم الإشارة مبتدأ ثان والإشارة إلى الموصول من حيث اتصافه بما في حيز الصلة وفي الإشارة إليه بما فيه معنى البعد بعد وصفه بما ذكر ما يلا خفى، وجملة ‏{‏لَهُمُ الامن‏}‏ من الخبر المقدم والمبتدأ المؤخر خبر المبتدأ الثاني والجملة خبر الأول، وجوز أن يكون ‏{‏أولئك‏}‏ بدلاً من الموصول أو عطف بيان له و‏{‏لَهُمْ‏}‏ هو الخبر و‏{‏الامن‏}‏ فاعلاً للظرف لاعتماده على المبتدأ، وأن يكون ‏{‏لَهُمْ‏}‏ خبراً مقدماً و‏{‏الامن‏}‏ مبتدأ مؤخراً والجملة خبر الموصول، وجوز أبو البقاء كون الموصول خبر مبتدأ محذوف وقال‏:‏ التقدير هم الذين ولا يخلو عن بعد والأكثرون على الأول ‏{‏وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏ إلى الحق ومن عداهم في ضلال مبين، وقدر بعضهم إلى طريق توجب الأمن من خلود العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏وَتِلْكَ‏}‏ إشارة إلى ما احتج به إبراهيم عليه السلام من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏ الخ، وقيل‏:‏ من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَتُحَاجُّونّى‏}‏ إلى ‏{‏وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80 82‏]‏ وتركيب حجة اصطلاحية منه يحتاج إلى تأمل وما في اسم الإشارة من معنى البعد لتفخيم شأن المشار إليه، وهو مبتدأ وقوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏حُجَّتُنَا‏}‏ خبره، وفي إضافته إلى نون العظمة من التفخيم ما لا يخفى، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ءاتيناها إبراهيم‏}‏ أي أرشدناه إليها أو علمناه إياها في موضع الحال من حجة والعامل فيه معنى الإشارة أو في محل الرفع على أنه خبر ثان أو هو الخبر و‏{‏حُجَّتُنَا‏}‏ بدل أو بيان للمبتدأ، وجوز أن تكون جملة ‏{‏ءاتَيْنَا‏}‏ الخ معترضة أو تفسيرية ولا يخفى بعده، و‏{‏إِبْرَاهِيمَ‏}‏ مفعول أول لآتينا قدم على الثاني لكونه ضميراً‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏على قَوْمِهِ‏}‏ متعلق بحجتنا أن جعل خبراً لتلك أو بمحذوف إن جعل بدلاً لئلا يلزم الفصل بين أجزاء البدل بأجنبي أي آتيناها إبراهيم حجة على قومه، ولم يجوز أبو البقاء تعلقه بحجتنا أصلاً للمصدرية والفصل، ولعل المجوز لا يرى المصدرية مانعة عن تعلق الظرف ويجعل الفصل مغتفراً، وقيل‏:‏ يصح تعلقه بآياتنا لتضمنه معنى الغلبة‏.‏

وقوله عز شأنه‏:‏ ‏{‏نَرْفَعُ درجات‏}‏ أي رتباً عظيمة عالية من العلم والحكمة مستأنف لا محل له من الإعراب مقرر لما قبله، وجوز أبو البقاء أن يكون في محل نصب على أنه حال من فاعل ‏{‏ءاتَيْنَا‏}‏ أي حال كوننا رافعين، ونصب ‏{‏درجات‏}‏ إما على المصدرية بتأويل رفعات أو على الظرفية أو على نزع الخافض أي إلى درجات أو على التمييز ومفعول ‏{‏نَرْفَعُ‏}‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَّن نَّشَاء‏}‏ وتأخيره على الأوجه الثلاثة الأخيرة لما مر غير مرة من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر، ومفعول المشيئة محذوف أي من نشاء رفعه حسبما تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة، وإيثار صيغة المضارع للدلالة على أن ذلك سنة مستمرة فيما بين المصطفين الأخيار غير مختصة بإبراهيم عليه السلام‏.‏ وقرىء ‏{‏يَرْفَعُ‏}‏ بالياء على طريقة الالتفات وكذا ‏{‏نَشَاء‏}‏ وقرأ غير واحد من السبعة ‏{‏درجات مَّن‏}‏ بالإضافة على أنه مفعول ‏{‏نَرْفَعُ‏}‏ ورفع درجات الإنسان رفع له، وجوز بعضهم جعله مفعولاً أيضاً على قراءة التنوين وجعل من بتقدير لمن وهو بعيد‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ‏}‏ أي في كل ما يفعل من رفع وخفض ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ أي بحال من يرفعه واستعداده له على مراتب متفاوتة، وإن شئت عممت ويدخل حينئذ ما ذكر دخولاً أولياً تعليل لما قبله، وفي وضع الرب مضافاً إلى ضميره عليه الصلاة والسلام موضع نون العظمة بطريق الالتفات في تضاعيف بيان حال إبراهيم عليه السلام ما لا يخفى من إظهار مزيد اللطف والعناية به صلى الله عليه وسلم‏.‏

هذا وقد ذكر الإمام في هذه الآيات الإبراهيمية عدة أحكام، الأول‏:‏ «أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لا أُحِبُّ الافلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏ يدل على أنه عز وجل ليس بجسم إذ لو كان جسماً لكان غائباً عنا ‏(‏أبداً‏)‏ فيكون آفلاً ‏(‏أبداً‏)‏» ‏(‏3‏)‏ والأفول ينافي الربوبية، ولا يخفى أن عد تلك الغيبة المفروصة أفولاً لا يخلو عن شيء لأن الأفول احتجاب مع انتقال وتلك الغيبة المفروضة لم تكن كذلك بل هي مجرد احتجاب فيما يظهر نعم إنه ينافي الربوبية أيضاً لكن الكلام في كونه أفولاً ليتم الاحتجاج بالآية، لا يقال قد جاء في حديث الإسراء ذكر الحجاب فكيف يصح القول بأن الاحتجاب مناف للربوبية لأنا نقول‏:‏ الحجاب الوارد كما قال القاضي عياض إنما هو في حق العباد لا في حقه تعالى فهم المحجوبون والباري جل اسمه منزه عما يحجبه إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس، ونص غير واحد أن ذكر الحجاب له تعالى تمثيل لمنعه الخلق عن رؤيته‏.‏ وقال السيد النقيب في «الدرر والغرر» العرب تستعمل الحجاب بمعنى الخفاء وعدم الظهور فيقول أحدهم لغيره إذا استبعد فهمه بيني وبينك حجاب ويقولون لما يستصعب طريقه‏:‏ بيني وبينه كذا حجب وموانع وسواتر وما جرى مجرى ذلك‏.‏ والظاهر على هذا أن فيما ذكر مجاز في المفرد فتدبر‏.‏ الثاني‏:‏ «أن هذه الآية تدل على أنه يمتنع أن يكون تعالى بحيث ينزل من العرش إلى السماء تارة ويصعد من السماء إلى العرش أخرى وإلا لحصل معنى الأفول‏.‏ وأنت تعلم أن الواصفين ربهم عز شأنه بصفة النزول حيث سمعوا حديثه الصحيح عن رسولهم صلى الله عليه وسلم لا يقولون‏:‏ إنه حركة وانتقال كما هو كذلك في الأجسام بل يفوضون تعيين المراد منه إلى الله تعالى بعد تنزيهه سبحانه عن مشابهة المخلوقين وحينئذ لا يرد عليه أنه في معنى الأفول الممتنع على الرب جل جلاله‏.‏ الثالث‏:‏ «أنها تدل على أنه جل شأنه ليس محلاً للصفات المحدثة كما تقول الكرامية وإلا لكان متغيراً وحينئذ يحصل معنى الأفول» ‏(‏وهو ظاهر‏)‏‏.‏ الرابع‏:‏ «إن ما ذكر يدل على أن الدين يجب أن يكون مبنياً على الدليل لا على التقليد وإلا لم يكن للاستدلال فائدة ألبتة»‏.‏ الخامس‏:‏ «أنه يدل على أن معارف الأنبياء بربهم استدلالية لا ضرورية وإلا لما احتاج إبراهيم عليه السلام إلى الاستدلال»‏.‏ السادس‏:‏ «أنه يدل على أنه لا طريق إلى تحصيل معرفة الله تعالى إلا بالنظر والاستدلال في أحوال مخلوقاته إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخر لما عدل عليه السلام إلى هذه الطريقة»، ولا يخفى عليك ما في هذين الأخيرين‏.‏

السابع‏:‏ أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا‏}‏ الخ يدل على أن تلك الحجة إنما حصلت في عقل إبراهيم عليه السلام بإيتاء الله تعالى وإظهارها في عقله وذلك يدل على أن الإيمان والكفر لا يحصلان إلا بخلق الله تعالى؛ ويتأكد ذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نَرْفَعُ درجات‏}‏ الخ‏.‏ الثامن‏:‏ «أن قوله سبحانه ‏{‏نَرْفَعُ‏}‏ الخ‏.‏ يدل على فساد طعن الحشوية في النظر وتقرير الحجة وذكر الدليل»، وفيها أحكام أخر لا تخفى على من يتدبر‏.‏

ومن باب الإشارة فيها‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ إبراهيم لاِبِيهِ ءازَرَ‏}‏ حين رآه محتجباً بظواهر عالم الملك عن حقائق الملكوت وربوبيته تعالى للأشياء معتقداً تأثير الأكوان والأجرام ذاهلاً عن الملكوت جل شأنه ‏{‏أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً‏}‏ أي أشباحاً خالية بذواتها عن الحياة ‏{‏ءالِهَةً‏}‏ فتعتقد تأثيرها ‏{‏إِنّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 74‏]‏ ظاهر عند من كشف عن عينه الغين ‏{‏وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والارض‏}‏ أي نوقفه على القوى الروحانية التي ندبر بها أمر العالم العلوي والسفلي أو نوقفه على حقيقتها ‏{‏وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 75‏]‏ أي أهل الإيقان العالمين أن لا تأثير إلا لله تعالى يدبر الأمر بأسمائه سبحانه ‏{‏فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اليل‏}‏ أي أظلم عليه ليل عالم الطبيعة الجسمانية، وذلك عند الصوفية في صباه وأول شبابه ‏{‏رَأَى كَوْكَباً‏}‏ وهو كوكب النفس المسماة روحاً حيوانية الظاهر في ملكوت الهيكل الإنساني فقال حين رأى فيضه وحياته وتربيته من ذلك بلسان الحال ‏{‏هذا رَبّى‏}‏ وكان الله تعالى يريه في ذلك الحين باسمه المحيي ‏{‏فَلَمَّا أَفَلَ‏}‏ بطلوع نور القلب ‏{‏قَالَ لا أُحِبُّ الافلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏ ‏{‏فَلَمَّا رَأَى القمر‏}‏ أي قمر القلب ‏{‏بَازِغاً‏}‏ من أفق النفس ووجد فيضه بمكاشفات الحقائق والمعارف وتربيته منه ‏{‏قَالَ هذا رَبّى‏}‏ وكان الله تعالى يريه إذ ذاك باسمه العالم والحكيم ‏{‏فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِى رَبّى‏}‏ إلى نور وجهه ‏{‏لاَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 77‏]‏ المحتجبين بالبواطن عنه سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلَماَّ رَأَى الشمس‏}‏ أي شمس الروح ‏{‏بَازِغَةً‏}‏ متجلية عليه ‏{‏قَالَ‏}‏ إذ وجد فيضه وشهوده وتربيته منها ‏{‏هذا رَبّى‏}‏ وكان سبحانه يريه حينئذ باسمه الشهيد والعلي العظيم ‏{‏هذا أَكْبَرُ‏}‏ من الأولين ‏{‏فَلَمَّا أَفَلَتْ‏}‏ بتجلي أنوار الحق وتشعشع سبحات الوجه ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ إِنّى بَرِىء مّمَّا تُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 78‏]‏ إذ لا وجود لغيره سبحانه ‏{‏إِنّى وَجَّهْتُ وَجْهِىَ‏}‏ أي أسلمت ذاتي ووجودي ‏{‏لِلَّذِى فَطَرَ‏}‏ أوجد ‏{‏السموات والارض‏}‏ أي سموات الأرواح وأرض النفس ‏{‏حَنِيفاً‏}‏ مائلاً عن كل ما سواه حتى عن وجودي وميلي بالفناء فيه جل جلاله ‏{‏وَمَا أَنَاْ مِنَ المشركين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 79‏]‏ في شيء ‏{‏وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ‏}‏ في ترك السوى ‏{‏قَالَ أَتُحَاجُّونّى فِى الله وَقَدْ هَدَانِى‏}‏

‏[‏الأنعام‏:‏ 80‏]‏ إلى وجوده الحق وتوحيده ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ الايمان الحقيقي ‏{‏وَلَمْ يَلْبِسُواْ إيمانهم بِظُلْمٍ‏}‏ من ظهور نفس أو قلب أو وجود بقية ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمُ الامن‏}‏ الحقيقي ‏{‏وَهُمْ مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 82‏]‏ حقيقة إلى الحق‏.‏ وقال النيسابوري‏:‏ قد يدور في الخلد أن إبراهيم عليه السلام جن عليه ليل الشبهة وظلمتها فنظر أولاً‏:‏ في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغيير فلم يرها تصلح للإلهية فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجرد فصادفها ءافلة في أفق الإمكان فلم يبق إلا الواجب، وقيل‏:‏ غير ذلك، وما ذكره مبني على أن الاحتجاج كان مع نفسه عليه السلام وهو الذي ذهب إليه البعض من المفسرين ورووا في ذلك خبراً طويلاً وهو مذكور في كثير من الكتب مشهور بين العامة، والمختار عندي ما علمت والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَوَهَبْنَا لَهُ‏}‏ أي لإبراهيم عليه السلام ‏{‏إسحاق‏}‏ وهو ولده من سارة عاش مائة وثمانين سنة‏.‏ وفي «نديم الفريد» أن معنى إسحق بالعربية الضحاك ‏{‏وَيَعْقُوبَ‏}‏ وهو ابن إسحق عاش مائة وسبعاً وأربعين سنة، والجملة عطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ حُجَّتُنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83‏]‏ الخ، وعطف الفعلية على الاسمية مما لا نزاع في جوازه، ويجوز على بعد أن تكون عطفاً على جملة ‏{‏ءاتيناها‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 83‏]‏ بناء على أنها لا محل لها من الإعراب كما هو أحد الاحتمالات‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلاَّ‏}‏ مفعول لما بعده وتقديمه عليه للقصر لا بالنسبة إلى غيرهما بل بالنسبة إلى أحدهما أي كل واحد منهما ‏{‏هَدَيْنَا‏}‏ لا أحدهما دون الآخر، وقيل‏:‏ المراد كلا من الثلاثة، وعليه الطبرسي‏.‏ واختار كثير من المحققين الأول لأن هداية إبراهيم عليه السلام معلومة من الكلام قطعا وترك ذكر المهدي إليه لظهور أنه الذي أوتى إبراهيم عليه السلام فإنهما ‏(‏متعبدان به‏.‏

وقال الجبائي‏:‏ المراد هديناهم بنيل الثواب والكرمات‏.‏

‏{‏وَنُوحاً‏}‏ قال شيخ الإسلام‏:‏ منصوب بمضمر يفسره ‏{‏هَدَيْنَا مِن قَبْلُ‏}‏ ولعله إنما لم يجعله مفعولاً مقدماً للمذكور لئلا يفصل بين العاطف والمعطوف بشيء أو يخلو التقديم عن الفائدة السابقة أعني القصر ولا يحلو ذلك عن تأمل أي من قبل إبراهيم عليه السلام ونوح كما قال الجواليقي أعجمي معرب زاد الكرماني‏:‏ ومعناه بالسريانية الساكن، وقال الحاكم في «المستدرك»‏:‏ إنما سمي نوحاً لكثرة بكائه على نفسه واسمه عبد الغفار، والأول‏:‏ أثبت عندي، وأكثر الصحابة رضي الله تعالى عنه كما قال الحاكم أنه عليه السلام كان قبل إدريس عليه السلام‏.‏ وذكر النسابون أنه ابن لمك بفتح اللام وسكون الميم بعدها كاف ابن متوشلخ بفتح الميم وتشديد المثناة المضمومة بعدها واواً ساكنة وفتح الشين المعجمة واللام والخاء المعجمة ابن أخنوخ بفتح المعجمة وضم النون الخفيفة وبعدها واو ساكنة ثم معجمة وهو إدريس فيما يقال‏.‏ وروى الطبراني عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ قلت يا رسول الله من أول الأنبياء‏؟‏ قال‏:‏ آدم عليه السلام قلت‏:‏ ثم من‏؟‏ قال نوح عليه السلام‏:‏ وبينهما عشرة قرون ‏"‏ وهذا ظاهر في أن إدريس عليه السلام كان بعد وفاة آدم عليه السلام لم يكن قبله وذكر ابن جرير أن مولده عليه السلام بمائة وستة وعشرين عاماً‏.‏ وذكره سبحانه هنا قيل لأنه لما ذكر سبحانه إنعامه على خليله من جهة الفرع ثنى بذكر إنعامه عليه من جهة الأصل فإن شرف الوالد سار إلى الولد، وقيل‏:‏ إنما ذكره سبحانه لأن قومه عبدوا الأصنام فذكره ليكون له به أسوة، وأما أنه ذكر لما مر فلا إذ لا دلالة على علاقة الأبوة ليقبل ودلالة ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ على ذلك غير ظاهرة‏.‏

وقنع بعضهم بالشهرة عن ذلك‏.‏

‏{‏وَمِن ذُرّيَّتِهِ‏}‏ الضمير عند جمع لإبراهيم عليه السلام لأن مساق النظم الجليل لبيان شؤونه وما منَّ الله تعالى به عليه من إيتاء الحجة ورفع الدرجات وهبة الأولاد الأنبياء وإبقاء هذه الكرامة في نسله كل ذلك لإلزام من ينتمي إلى ملته من المشركين واليهود، واختار آخرون كونه لنوح عليه السلام لأنه أقرب ولأنه ذكر في الجملة لوطاً عليه السلام وليس من ذرية إبراهيم بل كان ابن أخيه كما سيأتي إن شاء الله تعالى آمن به وشخص معه مهاجراً إلى الشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم، وكذلك يونس عليه السلام لم يكن من ذريته فيما ذكر محيي السنة فلو كان الضمير له لاختص بالمعدودين في هذه الآية والتي بعدها، وأما المذكورون في الآية الثالثة فعطف على ‏{‏نُوحاً‏}‏ ولا يجب أن يعتبر في المعطوف ما هو قيد في المعطوف عليه، ولا يضر ذكر إسماعيل هناك وإن كان من ذرية إبراهيم عليهما السلام لأن السكوت عن إدراجه في الذرية لا يقتضي أنه ليس منهم وإنما لم يعد كما قال بعض المحققين‏:‏ في موهبته كإسحاق كانت في كبره وكبر زوجته فكانت في غاية الغرابة، وذكر يعقوب لأن إبقاء النبوة بطناً بعد بطن غاية النعمة، ولم يعطف ‏{‏كُلاًّ هَدَيْنَا‏}‏ لأنه مؤكد لكونه نعمة‏.‏

ومن الناس من ادعى أن يونس عليه السلام من ذرية إبراهيم عليه السلام وصرح في «جامع الأصول» إنه كان من الأسباط في زمن شعيا، وحينئذ يبقى لوط فقط خارجاً ولا يترك له إرجاع الضمير على إبراهيم وجعله مختصاً بالمعدودين في الآيات الثلاث لأنه لما كان ابن أخيه آمن به وهاجر معه أمكن أن يجعل من ذريته على سبيل التغليب كما قال الطيبي‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هؤلاء الأنبياء عليهم السلام كلهم مضافون إلى ذرية إبراهيم وإن كان منهم من لم يلحقه بولادة من قبل أم ولا أب لأن لوطاً ابن أخي إبراهيم والعرب تجعل العم أباً كما أخبر الله تعالى عن أبناء يعقوب أنهم قالوا ‏{‏نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏ مع أن إسماعيل عم يعقوب‏.‏ والجار والمجرور متعلق بفعل مضمر مفهوم مما سبق، وقيل‏:‏ بمحذوف وقع حالاً من المذكورين في الآية واختير الأول أي وهدينا من ذريته‏.‏

‏{‏دَاوُودُ‏}‏ هو كما قال الجلال السيوطي ابن إيشا بكسر الهمزة وسكون الياء المثناة التحتية وبالشين المعجمة ابن عوبر بمهملة وموحدة بوزن جعفر ابن عابر بموحدة ومهملة مفتوحة ابن سلمون بن يخيثون بن عمي بن يارب بتحتية وآخره باء موحدة ابن رام بن حضرموت بمهملة ثم معجمة بن فارص بفاء وآخره مهملة بن يهوذا بن يعقوب‏.‏

قال كعب‏:‏ كان أحمر الوجه سبط الرأس أبيض الجسم طويل اللحية فيها جعودة حسن الصوت والخلق وجمع له بين النبوة والملوك‏:‏ ونقل النووي عن المؤرخين أنه عاش مائة سنة ومدة ملكه منها أربعون وله اثنا عشر ابناً‏.‏

‏{‏وسليمان‏}‏ ولده، قال كعب‏:‏ كان أبيض جسيماً وسيماً وضيئاً جميلاً خاشعاً متواضعاً كان أبوه يشاوره في كثير من أموره في صغر سنه لوفور عقله وعلمه، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ملك الأرض، وعن المؤرخين أنه ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة وابتدأ بناء بيت المقدس بعد ملكه بأربع سنين وتوفي وله ثلاث وخمسون سنة، وتقديم المفعول الصريح للاهتمام بشأنه مع ما في المفاعيل من نوع طول ربما يخل تأخيره بتجاوب النظم الكريم ‏{‏وَأَبُّوبَ‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ هو ابن موص بن روم بن عيص بن إسحاق‏.‏ وقيل‏:‏ ابن موص بن تارخ بن روم الخ، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام وأن أباه ممن آمن بإبراهيم فهو قبل موسى عليه السلام؛ وقال ابن جرير‏:‏ إنه كان بعد شعيب، وقال ابن أبي خيثمة كان بعد سليمان، وروى الطبراني أن مدة عمره كانت ثلاثاً وتسعين سنة ‏{‏وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ‏}‏ وهو على الصحيح المشهور ابن يعقوب بن إبراهيم؛ ويشهد له ما أخرجه ابن حبان في «صحيحه» من حديث أبي هريرة مرفوعاً «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم»‏.‏ عاش مائة وعشرين سنة وفيه ست لغات تثليث السين مع الياء والهمز والصواب أنه أعجمي لا اشتقاق له‏.‏

‏{‏وموسى‏}‏ وهو ابن عمران ابن يصهر بن ماهيث بن لاوي بن يعقوب ولاخلاف في نسبه وهو اسم سرياني‏.‏ وأخرج أبو الشيخ من طريق عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ إنما سمي موسى لأنه ألقي بين شجر وماء فالماء بالقبطية مو والشجر شا، وفي الصحيح وصفه بأنه آدم طوال جعد كأنه من رجال شنوءة وعاش كما قال الثعلبي مائة وعشرين سنة ‏{‏وهارون‏}‏ أخوه شقيقه، وقيل‏:‏ لأمه، وقيل‏:‏ لأبيه فقط حكاهما الكرماني في «عجائبه» مات قبل موسى عليهما السلام وكان ولد قبله بسنة وفي بعض أحاديث الإسراء ‏"‏ صعدت إلى السماء الخامسة فإذا أنا بهارون ونصف لحيته أبيض ونصفها أسود تكاد تضرب سرته من طولها فقلت‏:‏ يا جبريل من هذا‏؟‏ قال‏:‏ المحبب في قومه هارون بن عمران ‏"‏ وذكر بعضهم أن معنى هارون بالعبرانية المحبب‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِى المحسنين‏}‏ قيل‏:‏ أي نجزيهم مثل ما جزينا إبراهيم عليه السلام برفع درجاته وكثرة أولاده والنبوة فيهم، والمراد مطلق المشابهة في مقابلة الإحسان بالإحسان والمكافآت بين الأعمال والأجزية من غير بخس لا المماثلة من كل وجه لأن اختصاص إبراهيم صلى الله عليه وسلم بكثرة النبوة في عقبه أمر مشهور‏.‏

واختار بعض المحققين كون التشبيه على حد ما تقدم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 341‏]‏ ونظائره، وأل في ‏{‏المحسنين‏}‏ للعهد، والإظهار في موضع الإضمار للثناء عليهم بالإحسان الذي هو عبارة عن الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المقارن لحسنها الذاتي، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بقوله‏:‏ «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» والجملة اعتراض مقرر لما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَزَكَرِيَّا‏}‏ هو ابن ازن بن بركيا كان من ذرية سليمان عليهما السلام وقتل بعد قتل ولده وكان له يوم بشر به اثنتان وتسعون، وقيل‏:‏ تسع وتسعون، وقيل‏:‏ مائة وعشرون سنة وهو اسم أعجمي وفيه خمس لغات أشهرها المد والثانية القصر وقرىء بهما في السبع وَزكَرِيُّ بتشديد الياء وتخفيفها وزكر كقلم‏.‏ ‏{‏ويحيى‏}‏ ابنه وهو اسم أعجمي، وقيل‏:‏ عربي، وعلى القولين كما قال الواحدي لا ينصرف، وسمي بذلك على القول الثاني لأنه حيي به رحم أمه، وقيل‏:‏ غير ذلك ‏{‏وَعِيسَى‏}‏ ابن مريم وهو اسم عبراني أو سرياني وفي «الصحيح» «أنه ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس» وفي ذكره عليه السلام دليل على أن الذرية يتناول أولاد البنات لأن انتسابه ليس إلا من جهة أمه وأورد عليه أنه ليس له أب يصرف إضافته إلى الأم إلى نفسه فلا يظهر قياس غيره عليه في كونه ذرية لجده من الأم‏.‏ وتعقب بأن مقتضى كونه بلا أب أن يذكر في حيز الذرية وفيه منع ظاهر والمسألة خلافية، والذاهبون إلى دخول ابن البنت في الذرية يستدلون بهذه الآية وبها احتج موسى الكاظم رضي الله تعالى عنه على ما رواه البعض عن الرشيد‏.‏ وفي «التفسير الكبير» «أن أبا جعفر رضي الله تعالى عنه استدل بها عند الحجاج بن يوسف» وبآية المباهلة حيث دعا صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما بعد ما نزل ‏{‏تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 61‏]‏‏.‏ وادعى بعضهم أن هذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم وقد اختلف إفتاء أصحابنا في هذه المسألة، والذي أميل إليه القول بالدخول‏.‏

‏{‏وَإِلْيَاسَ‏}‏ قال ابن إسحق في «المبتدأ»‏:‏ هو ابن يس بن فنحاص بن العيزار بن هارون أخي موسى بن عمران عليهم السلام‏.‏ وحكى القتبي أنه من سبط يوشع، وقيل‏:‏ من ولد إسمعيل عليه السلام‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه إدريس وهو على ما قال ابن إسحق يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم وهو جد نوح كما أشرنا إليه وروي ذلك عن وهب بن منبه، وفي «المستدرك» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان بين نوح وإدريس ألف سنة وعلى القول بأنه قبل نوح يكون البيان مختصاً بمن في الآية الأولى، ونص الشهاب أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَزَكَرِيَّا‏}‏ وما بعده حينئذ معطوفاً على مجموع الكلام السابق‏.‏

‏{‏كُلٌّ‏}‏ أي كل واحد من أولئك المذكورين ‏{‏مّنَ الصالحين‏}‏ أي الكاملين في الصلاح الذي هو عبارة عن الإتيان بما ينبغي والتحرز عما لا ينبغي وهو مقول بالتشكيك فيوصف بما هو من أعلى مراتب الأنبياء عليهم السلام والجملة اعتراض جيء بها للثناء عليهم بمضمونها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وإسماعيل‏}‏ هو كما قال النووي أكبر ولد إبراهيم عليه السلام ويقال كما نقل عن الجواليقي بالنون آخره قيل ومعناه‏:‏ مطيع الله ‏{‏واليسع‏}‏ قال ابن جرير‏:‏ هو ابن أخطوب بن العجوز‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏الليسع‏}‏ بوزن ضيغم وهو أعجمي دخلت عليه اللام على خلاف القياس وقارنت النقل فجعلت علامة التعريب كما قاله التبريزي ونص على أن استعماله بدونها خطأ يغفل عنه الناس فليس كاليزيد في قوله‏:‏ رأيت الوليد بن اليزيد مباركا *** شديداً بأعباء الخلافة كاهله

من جميع الوجوه، وهو على القراءة الأولى أعجمي أيضاً، وقيل‏:‏ إنه معرب يوشع وقيل‏:‏ عربي منقول من يسع مضارع وسع ‏{‏واليسع وَيُونُسَ‏}‏ وهو ابن متى بفتح الميم وتشديد التاء الفوقية مقصور كحتى ويقال متتى بالفك وهو اسم أبيه كما قاله ابن حجر وغيره من الحفاظ، ووقع في «تفسير عبد الرزاق» أنه اسم أمه وهو مردود ولم نقف كغيرنا على اتصال نسبه عليه السلام، وقد مر ما في «جامع الأصول»‏.‏ وقيل‏:‏ إنه كان في زمن ملوك الطوائف من الفرس وهو مثلث النون ويهمز‏.‏ وقرأ أبو طلحة ‏{‏يُونُسَ‏}‏ بكسر النون قيل‏:‏ أراد أن يجعله عربياً من أنس وهو شاذ ‏{‏وَلُوطاً‏}‏ قال ابن إسحق‏:‏ هو ابن هاران بن آزر، وفي «المستدرك» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ابن أخي إبراهيم ولم يصرح باسم أبيه ‏{‏وَكُلاًّ‏}‏ أي كل واحد من هؤلاء المذكورين لا بعضهم دون بعض ‏{‏فَضَّلْنَا‏}‏ بالنبوة ‏{‏عَلَى العالمين‏}‏ أي عالمي عصرهم، والجملة اعتراض كأختيها، وفيها دليل على أن الأنبياء أفضل من الملائكة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَمِنْ آَبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْ ءابَائِهِمْ وذرياتهم وإخوانهم‏}‏ يحتمل كما قيل أن يتعلق بما تعلق به ‏{‏مِنْ ذُرّيَّتَهُ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏ و‏(‏ من‏)‏ ابتدائية والمفعول محذوف أي وهدينا من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم جماعات كثيرة أو معطوف على ‏{‏كَلاَّ فَضَّلْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 86‏]‏ و‏(‏ من‏)‏ تبعيضية أي فضلنا بعض ءابائهم الخ وجعله بعضهم عطفاً على ‏{‏نُوحاً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏، و‏(‏ من‏)‏ واقعة موقع المفعول به مؤولاً ببعض‏.‏ واعتبار البعضية لما أن منهم من لم يكن نبياً ولا مهدياً قيل‏.‏ وهذا في غير الآباء لأن آباء الأنبياء كلهم مهديون موحدون، وأنت تعلم أن هذا مختلف فيه نظراً إلى ءاباء نبينا صلى الله عليه وسلم وكثير من الناس من وراء المنع فما ظنك بآباء غيره من الأنبياء عليهم السلام‏.‏ ولا يخفى أن إضافة الآباء والأبناء والأخوان إلى ضميرهم لا يقتضي أن يكون لكل منهم أب أو ابن أو أخ فلا تغفل‏.‏

‏{‏واجتبيناهم‏}‏ عطف على ‏{‏فَضَّلْنَا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 86‏]‏ أي اصطفيناهم ‏{‏وهديناهم إلى صراط مُّسْتَقِيمٍ‏}‏ تكرير للتأكيد وتمهيد لبيان ما هدوا إليه ولم يظهر لي السر في ذكر هؤلاء الأنبياء العظام عليهم من الله تعالى أفضل الصلاة وأكمل السلام على هذا الأسلوب المشتمل على تقديم فاضل على أفضل ومتأخر بالزمان على متقدم به وكذا السر في التقرير أولاً بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وكذلك نَجْزِى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 84‏]‏ الخ وثانياً بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كُلٌّ مّنَ الصالحين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 85‏]‏ والله تعالى أعلم بأسرار كلامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏ذلك‏}‏ أي الهدى إلى الطريق المستقيم أو ما يفهم من النظم الكريم من مصادر الأفعال المذكورة أو ما دانوا به، وما في ذلك من معنى البعد لما مر مراراً ‏{‏هُدَى الله‏}‏ الإضافة للتشريف ‏{‏يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء‏}‏ هدايته ‏{‏مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ وهم المستعدون لذلك، وفي تعليق الهداية بالموصول إشارة إلى علية مضمون الصلة ويفيد ذلك أنه تعالى متفضل بالهداية ‏{‏وَلَوْ أَشْرَكُواْ‏}‏ أي أولئك المذكورون ‏{‏لَحَبِطَ‏}‏ أي لبطل وسقط ‏{‏عَنْهُمْ‏}‏ مع فضلهم وعلو شأنهم ‏{‏مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي ثواب أعمالهم الصالحة فكيف بمن عداهم وهم هم وأعمالهم أعمالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى المذكورين من الأنبياء الثمانية عشر والمعطوفين عليهم عليهم السلام باعتبار اتصافهم بما ذكر من الهداية وغيرها من النعوت الجليلة كما قيل‏.‏ واقتصر الإمام على المذكورين من الأنبياء، وعن ابن بشير قال‏:‏ سمعت رجلاً سأل الحسن عن أولئك فقال له‏:‏ من في صدر الآية وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين ءاتيناهم الكتاب‏}‏ أي جنسه‏.‏ والمراد بإيتائه التفهيم التام لما فيه من الحقائق والتمكين من الإحاطة بالجلائل والدقائق أعم من أن يكون ذلك بالإنزال ابتداء وبالإيراث بقاء فإن ممن ذكر من لم ينزل عليه كتاب معين‏.‏ ‏{‏والحكم‏}‏ أي فصل الأمر بين الناس بالحق أو الحكمة وهي معرفة حقائق الأشياء ‏{‏والنبوة‏}‏ فسرها بعضهم بالرسالة وعلل بأن المذكورين هنا رسل لكن في «المحاكمات» لمولانا أحمد بن حيدر الصفوي أن داود عليه السلام ليس برسول وإن كان له كتاب ولم أجد في ذلك نصاً‏.‏ وذهب بعضهم إلى أن يوسف بن يعقوب عليه السلام ليس برسول أيضاً‏.‏ ويوسف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 34‏]‏ ليس هو يوسف بن يعقوب عليهما السلام وإنما هو يوسف بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب وهو غريب‏.‏ وأغرب منه القول بأنه كان من الجن رسولاً إليهم‏.‏ وقال الشهاب‏:‏ قد يقال إنما ذكر الأعم في النظم الكريم لأن بعض من دخل في عموم آبائهم وذرياتهم ليسوا برسل‏.‏

‏{‏فَإِن يَكْفُرْ بِهَا‏}‏ أي بهذه الثلاثة أو بالنبوة الجامعة للباقين ‏{‏هَؤُلاء‏}‏ أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقتادة مع دلالة الإشارة والمقام على ما قيل‏.‏ وقيل‏:‏ المراد بهم الكفار الذين جحدوا بنبوته صلى الله عليه وسلم مطلقاً، وأياً ما كان فكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن يستلزم كفرهم بما يصدقه جميعاً‏.‏ وتقديم الجار والمجرور على الفاعل لما مر غير مرة‏.‏

‏{‏فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا‏}‏ أي أمرنا برعايتها ووفقنا للإيمان بها والقيام بحقوقها ‏{‏قَوْماً‏}‏ فخاماً ‏{‏لَّيْسُواْ بِهَا بكافرين‏}‏ في وقت من الأوقات بل مستمرون على الإيمان بها، والمراد بهم على ما أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وعبد بن حميد عن سعيد بن المسيب أهل المدينة من الأنصار‏.‏ وقيل‏:‏ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مطلقاً، وقيل‏:‏ كل مؤمن من بني آدم عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ الفرس فإن كلاً من هؤلاء الطوائف موفقون للإيمان بالأنبياء وبالكتب المنزلة إليهم عاملون بما فيها من أصول الشرائع وفروعها الباقية في شريعتنا‏.‏ وعن قتادة أنهم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المذكورون وعليه يكون المراد بالتوكيل الأمر بما هو أعم من إجراء أحكامها كما هو شأنهم في حق كتابهم ومن اعتقاد حقيتها كما هو شأنهم في حق سائر الكتب التي ‏(‏نور فرقها‏)‏ القرآن، ورجح واختار هذا الزجاج ورجحه الزمخشري بوجهين، الأول‏:‏ أن الآية التي بعد إشارة إلى الأنبياء المذكورين عليهم السلام فإن لم يكن الموكلون هم لزم الفصل بالأجنبي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه مرتب بالفاء على ما قبله فيقتضي ذلك، واستبعده بعضهم فإن الظاهر كون مصدق النبوة ومنكرها مغايراً لمن أوتيها‏.‏

وأخرج ابن حميد وغيره عن أبي رجاء العطاري أنهم الملائكة فالتوكيل حينئذ هو الأمر بإنزالها وحفظها واعتقاد حقيتها، واستبعده الإمام لأن القوم قلما يقع على غير بني آدم، وأياً ما كان فتنوين ‏{‏قَوْماً‏}‏ للتفخيم كما أشرنا إليه‏.‏ وهو مفعول ‏{‏وَكَّلْنَا‏}‏ و‏{‏بِهَا‏}‏ قبله متعلق بما عنده، وتقديمه على المفعول الصريح لما مر ولأن فيه طولاً ربما يؤدي تقديمه إلى الإخلال بتجاوب النظم الكريم أو إلى الفصل بين الصفة والموصوف، والباء التي بعد صلة لكافرين قدمت محافظة على الفواصل والتي بعدها لتأكيد النفي‏.‏ وجواب الشرط محذوف يدل عليه جملة ‏{‏فَقَدْ وَكَّلْنَا‏}‏ الخ أي فإن يكفر بها هؤلاء فلا اعتداد به أصلاً فقد وفقنا للإيمان قوماً مستمرين على الإيمان بها والعمل بما فيها ففي إيمانهم مندوحة عن إيمان هؤلاء، ومن هذا يعلم أن الأرجح كما قال شيخ الإسلام تفسير القوم بإحدى الطوائف ممن عدا الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام إذ بإيمانهم بالقرآن والعمل بأحكامه يتحقق الغنية عن إيمان الكفرة به والعمل بأحكامه ولا كذلك إيمان الأنبياء والملائكة عليهم السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏90‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏90‏)‏‏}‏

‏{‏أولئك‏}‏ أي الأنبياء المذكورون كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما والسدي وابن زيد، وقيل‏:‏ الإشارة إلى المؤمنين الموكلين وروى ذلك عن الحسن وقتادة ولا يخفى ما فيه، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الذين هَدَى الله‏}‏ أي هديناهم إلى الحق والصراط المستقيم، والالتفات إلى الاسم الجليل للإشعار بعلة الهداية وحفظ المهدي إليه اعتماداً على غاية ظهوره ‏{‏فَبِهُدَاهُمُ اقتده‏}‏ أي اجعل هداهم منفرداً بالاقتداء واجعل الاقتداء مقصوراً عليه، والمراد بهداهم عند جمع طريقهم في الإيمان بالله تعالى وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع القابلة للنسخ فإنها بعد النسخ لا تبقى هدى وهم أيضاً مختلفون فيها فلا يمكن التأسي بهم جميعاً، ومعنى أمره صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بذلك الأخذ به لا من حيث إنه طريق أولئك الفخام بل من حيث إنه طريق العقل والشرع ففي ذلك تعظيم لهم وتنبيه على أن طريقهم هو الحق الموافق لدليل العقل والسمع، وبهذا أجاب العلامة الثاني عما أورده سؤالاً من أن الواجب في الاعتقادات وأصول الدين هو اتباع الدليل من العقل والسمع فلا يجوز سيما للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقلد غيره فما معنى أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء‏.‏ وأورد عليه أن اعتقاده عليه الصلاة والسلام حينئذ ليس لأجل اعتقادهم بل لأجل الدليل فلا معنى لأمره بالاقتداء بذلك‏.‏ واعترض أيضاً بأن الأخذ بأصول الدين حاصل له قبل نزول الآية فلا معنى للأمر بأخذ ما قد أخذ قبل اللهم إلا أن يحمل على الأمر بالثبات عليه‏.‏ وحقق القطب الرازي في «حواشيه على الكشاف» أنه يتعين أن الاقتداء المأمور به ليس إلا في الأخلاق الفاضلة والصفات الكاملة كالحلم والصبر والزهد وكثرة الشكر والتضرع ونحوها ويكون في الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل منهم قطعاً لتضمنها أن الله تعالى هدى أولئك الأنبياء عليهم السلام إلى فضائل الأخلاق وصفات الكمال وحيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهداهم جميعاً امتنع للعصمة أن يقال‏:‏ إنه لم يمتثل فلا بد أن يقال‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام قد امتثل وأتى بجميع ذلك وحصل تلك الأخلاق الفاضلة التي في جميعهم فاجتمع فيه من خصال الكمال ما كان متفرقاً فيهم وحينئذ يكون أفضل من جميعهم قطعاً كما أنه أفضل من كل واحد منهم وهو استنباط حسن‏.‏

واستدل بعضهم بها على أنه صلى الله عليه وسلم متعبد بشرع من قبله وليس بشيء، وفي أمره عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بهداهم دون الاقتداء بهم ما لا يخفى من الإشارة إلى علو مقامه صلى الله عليه وسلم عند أرباب الذوق‏.‏

والهاء في ‏{‏اقتده‏}‏ هاء السكت التي تزاد في الوقف ساكنة، وقد تثبت في الدرج ساكنة أيضاً إجراء للوصل مجرى الوقف، وبذلك قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم ويحذف الهاء في الوصل خاصة حمزة والكسائي وقرأ ابن عامر ‏{‏اقتده‏}‏ بكسر الهاء من غير إشباع وهو الذي تسميه القراء اختلاساً وهي رواية هشام عنه وروى غيره إشباعها وهو كسرها ووصلها بياء، وزعم أبو بكر بن مجاهد أن قراءة ابن عامر غلط معللاً ذلك بأن الهاء هاء الوقف فلا تحرك في حال من الأحوال وإنما تذكر ليظهر بها حركة ما قبلها‏.‏ وتعقبه أبو علي الفارسي بأن الهاء ضمير المصدر وليست هاء السكت أي اقتد الاقتداء ومثله كما قال أبو البقاء قوله‏:‏ هذا سراقة للقرآن يدرسه *** والمرء عند الوشا إن يلقها ذيب

فإن الهاء فيه ضمير الدرس لا مفعول لأن يدرس قد تعدى إلى القرآن‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن هاء السكت قد تحرك تشبيهاً لها بهاء الضمير، والعرب كثيراً ما تعطي الشيء حكم ما يشبهه وتحمله عليه، وقد روى قول أبي الطيب‏:‏ واحر قلباه مما قلبه شبم *** بضم الهاء وكسرها على أنها هاء السكت شبهت بهاء الضمير فحركت‏.‏ واستحسن صاحب «الدر المصون» جعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبه الضمير لأن هاءه لا تكسر بعد الألف فكيف ما يشبهها‏.‏ وزعم الإمام أن إثبات الهاء في الوصل للاقتداء بالإمام ولا يقتدى به في ذلك لأنه يقتضي أن القراءة بغير نقل تقليداً للخط وهو وهم‏.‏

‏{‏قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ‏}‏ أي لا أطلب منكم ‏{‏عَلَيْهِ‏}‏ أي على القرآن أو على التبليغ فإن مساق الكلام يدل عليهما وإن لم يجر ذكرهما ‏{‏أَجْراً‏}‏ أي جعلاً قلَّ أو كثر كما لم يسأله من قبلي من الأنبياء عليهم السلام أممهم قيل‏:‏ وهذا من جملة ما أمرنا بالاقتداء به من هداهم عليهم السلام، وهو ظاهر على ما قاله القطب لأن الكف عن أخذ أجر في مقابلة الإحسان من مكارم الأخلاق ومحاسن الأفعال، وأما على قول من خص الهدى السابق بالأصول فقد قيل‏:‏ إن بين القول به والقول بذلك الاختصاص تنافياً‏.‏ وأجيب بأن استفادة الاقتداء بالأصول من الأمر الأول لا ينافي أن يؤمر عليه الصلاة والسلام بالاقتداء بأمر آخر كالتبليغ‏.‏ وتقديم المتعلق هناك إنما هو لنفي اتباع طريقة غيرهم في شيء آخر‏.‏ واستدل بالآية على أنه يحل أخذ الأجر للتعليم وتبليغ الأحكام‏.‏ وفيه كلام للفقهاء على طوله مشهور غني عن البيان‏.‏ ‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ أي ما القرآن ‏{‏إِلاَّ ذكرى‏}‏ أي تذكير فهو مصدر، وحمله على ضمير القرآن للمبالغة ولا حاجة لتأويله بمذكر ‏{‏للعالمين‏}‏ كافة فلا يختص به قوم دون ءاخرين‏.‏ واستدل بالآية على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم‏.‏