فصل: تفسير الآية رقم (7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم‏}‏ قيل أي على الرسل حين يكلون الأمر إلى علمه تعالى ويقولون‏:‏ ‏{‏لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ علام الغيوب‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 109‏]‏ أو عليهم وعلى المرسل إليهم جميعاً جميع أحوالهم‏.‏ وعن ابن عباس أنه ينطق عليهم كتاب أعمالهم ‏{‏بِعِلْمِ‏}‏ أي عالمين بظواهرهم وبواطنهم أو بمعلومنا منهم، والباء على الأول للملابسة؛ والجار والمجرور حال من فاعل ‏(‏نقص‏)‏، وعلى الثاني الباء متعلق بنقص ‏{‏وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ‏}‏ عنهم في حال من الأحوال، والمراد الإحاطة التامة بأحوالهم وأفعالهم بحيث لا يشذ منها شيء عن علمه سبحانه، والجملة إما حال أو استئناف لتأكيد ما قبله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

والوزن‏}‏ أي وزن الأعمال والتمييز بين الراجح منها والخفيف والجيد والرديء، وهو مبتدأ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏‏}‏ أي وزن الأعمال والتمييز بين الراجح منها والخفيف والجيد والرديء، وهو مبتدأ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ متعلق بمحذوف خبره، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحق‏}‏ صفته أي والوزن الحق ثابت يوم إذ يكون السؤال والقص‏.‏ واختار هذا بعض من المعربين، وقيل‏:‏ الظاهر أن ‏{‏الحق‏}‏ خبر و‏{‏يَوْمَئِذٍ‏}‏ ظرف للوزن لئلا يقع الفصل بين الصفة والموصوف‏.‏ ولعل وجه عدم اختيار هذا أن فيه أعمال المصدر المعرف وهو قليل‏.‏ وفي «الكشف» ليس المعنى على أن الوزن هو الحق بل أن الوزن الحق يكون يومئذ ألا يرى إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 47‏]‏ وذكر الأصفهاني في شرح اللمع لابن جني أن ‏(‏الحق‏)‏ بدل من الضمير المستتر في الظرف، وهو وجه حسن إلا أن الأول رجح جانب المعنى ولم يبال بالفصل بالخبر لاتحاده من وجه بالمبتدأ لا سيما والظرف يتوسع فيه‏.‏ وجوز أبو البقاء أن يكون ‏(‏الحق‏)‏ خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل‏:‏ ما ذلك الوزن‏؟‏ فقيل‏:‏ هو الحق أي العدل السوي‏.‏ وأن يكون ‏(‏الوزن‏)‏ خبر مبتدأ محذوف أيضاً أي هذا الوزن وهو كما ترى‏.‏ وقرىء ‏{‏القسط‏}‏ «والوزن كما قال الراغب معرفة قدر الشيء يقال‏:‏ وزنته وزنا وزنة، والمتعارف فيه عند العامة ما يقدر ‏(‏بالقسطاس‏)‏ والقبان»‏.‏ واختلف في كيفيته يوم القيامة‏.‏

والجمهور كما قال القاضي على أن صحائف الأعمال هي التي توزن بميزان له لسان وكفتان لينظر إليه الخلائق إظهاراً للمعادلة وقطعاً للمعذرة كما يسألون عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وجوارحهم‏.‏ ولا تعرض لهم لماهية هاتيك الصحائف والله تعالى أعلم بحقيقتها‏.‏ ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً كل سجل منها مد البصر فيقول سبحانه‏:‏ أتنكر من هذا شيئا‏؟‏ أظلمك كتبتي الحافظون فيقول‏:‏ لا يا رب فيقول سبحانه أفلك عذر أو حسنة‏؟‏ فيهاب الرجل فيقول لا يا رب فيقول جل شأنه‏:‏ بلى إن لك عندنا حسنة وإنه لا ظلم عليك اليوم فتخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فيقول‏:‏ يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات‏؟‏ فيقال‏:‏ إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات ثقلت البطاقة ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء ‏"‏

وهذه الشهادة على ما قاله القرطبي نقلاً عن الحيكم الترمذي ليست شهادة التوحيد لأن من شأن الميزان أن يوضع في إحدى كفتيه شيء وفي الأخرى ضده فتوضع الحسنات في كفة والسيئات في كفة ومن المستحيل أن يؤتى لعبد واحد بكفر وإيمان معاً فيستحيل أن توضع شهادة التوحيد في الميزان أما بعد الإيمان فإن النطق بهذه الكلمة الطيبة حسنة فتوضع في الميزان كسائر الحسنات‏.‏ وأيد ذلك بقوله جل وعلا في الحديث‏:‏ ‏"‏ إن لك عندنا حسنة ‏"‏ دون أن يقول سبحانه‏:‏ إيماناً‏.‏ وجوز أن يكون المراد هذه الكلمة إذا كانت آخر كلامه في الدنيا‏.‏ وجوز غيره أن تكون كلمة التوحيد، ومنع لزوم وضع الضد في الكفة الأخرى ليلزم المحال فتدبر‏.‏

وجاء في خبر آخر أخرجه ابن أبي الدنيا والنميري في كتاب «الإعلام» عن عبد الله أيضاً قال‏:‏ إن لآدم عليه السلام من الله عز وجل موقفا في فسح من العرش عليه ثوبان أخضران كأنه نخلة سحوق ينظر إلى من ينطلق به من ولده إلى الجنة ومن ينطلق به إلى النار فبينا آدم على ذلك إذ نظر إلى رجل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينطلق به إلى النار فينادي آدم عليه السلام يا أحمد يا أحمد فيقول عليه الصلاة والسلام‏:‏ لبيك يا أبا البشر فيقول‏:‏ هذا رجل من أمتك ينطلق به إلى النار قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ فأشد المئزر وأسرع في أثر الملائكة فأقول‏:‏ يا رسل ربي قفوا فيقولون‏.‏ نحن الغلاظ الشداد الذين لا نعصي الله تعالى ما أمرنا ونفعل ما نؤمر فإذا أيس النبي صلى الله عليه وسلم قبض على لحيته بيده اليسرى واستقبل العرش بوجهه فيقول‏:‏ يا رب قد وعدتني أن لا تخزيني في أمتي فيأتي النداء من قبل العرش أطيعوا محمداً وردوا هذا العبد إلى المقام فيخرج صلى الله عليه وسلم بطاقة بيضاء كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى وهو يقول بسم الله فترجح الحسنات على السيئات فينادي المنادي سعد وسعد جده وثقلت موازينه انطلقوا به إلى الجنة فيقول يا رسل ربي‏:‏ قفوا حتى أسأل هذا العبد الكريم على ربه فيقول‏:‏ يا بني أنت وأمي ما أحسن وجهك وأحسن خلقك من أنت‏؟‏ فقد أقلتني عثرتي ورحمت عبرتي فيقول عليه الصلاة والسلام‏.‏ أنا نبيك محمد وهذه صلاتك التي كنت تصلي علي وفيتكها أحوج ما تكون إليها انتهى‏.‏

ولعل فعل مثل هذا إذا صح الخبر مبالغة في إظهار كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على ربه عز وجل بين الأولين والآخرين‏.‏ وقيل‏:‏ توزن الأشخاص، واحتجوا له بما أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه‏:‏ «إنه ليؤتى العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله تعالى جناح بعوضة ولا أدري على هذا ما يوضع في الكفة الأخرى من الميزان إذا وضع المذنب في إحداهما، ووضع شخص في مقابلة شخص لا أراه إلا كما ترى، والخبر ليس نصاً في الدعوى كما لا يخفى، وقيل‏:‏ إن هذه الأعمال الظاهرة في هذه النشأة بصور عرضية تظهر في النشأة الآخرة بصور جوهرية مناسبة لها في الحسن والقبح، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وصححه غير واحد وقال‏:‏ إن عليه الاعتقاد، وفي الآثار ما يؤيده‏.‏

فقد أخرج ابن عبد البر عن إبراهيم النخعي قال‏:‏ يجاء بعمل الرجل فيوضع بكفة ميزانه يوم القيامة فيخف فيجاء بشيء أمثال الغمام فيوضع في كفة ميزانه فيرجحه فيقال له‏:‏ أتدري ما هذا‏؟‏ فيقول‏:‏ لا فيقال له‏:‏ هذا فضل العلم الذي كنت تعلمه الناس، وأخرج ابن المبارك عن حماد بن أبي سليمان بمعناه‏.‏

وقيل‏:‏ الوزن عبارة عن القضاء السوي والحكم العادل، واستعمال لفظ الوزن في هذا المعنى شائع في اللغة والعرف بطريق الكتاية وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك، وإليه ذهب المعتزلة إلا أن منهم من جوز الوزن بالمعنى المتعارف عقلاً وإن لم يقض بثبوته كالعلاف وبشر بن المعتمر، ومنهم من أحاله لأن الأعمال أعراض وهي مما لا تبقى ومما لا يمكن إعادتها، سلمنا بقاءها أو إمكان إعادتها لكنها أعراض والأعراض يمتنع وزنها إذ لا توصف بثقل ولا خفة، سلمنا إمكان وزنها لكن لا فائدة في ذلك إذ المقصود إنما هو العلم بتفاوت الأعمال والله تعالى عالم بذلك وما لا فائدة فيه ففعله قبيح والرب تعالى منزه عن فعل القبيح، وجوابه يعلم مما قدمنا‏.‏

وفسر هؤلاء الميزان بالعدل والإنصاف‏.‏ واعترض الآمدي على ذلك بأن الميزان موصوف بالثقل والخفة، والعدل والإنصاف لا يوصفان بذلك، وفي الأخبار ما هو صريح في أن الميزان جسماني، فقد أخرج الحاكم وصححه عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يوضع الميزان يوم القيامة فلو وزن فيه السموات والأرض لوسع فتقول الملائكة‏:‏ يا رب من يزن هذا‏؟‏ فيقول الله تعالى‏:‏ من شئت من خلقي فتقول الملائكة سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ‏"‏ وفي رواية ابن المبارك واللالكائي عنه قال‏:‏ يوضع الميزان وله كفتان لو وضع في إحداهما السموات والأرض ومن فيهن لوسعه فتقول الملائكة من يزد هذا‏؟‏ الحديث‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن عائشة ‏"‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «خلق الله تعالى كفتيْ الميزان مثل السموات والأرض فقال الملائكة‏:‏ يا ربنا من تزن بهذا‏؟‏ فقال‏:‏ أزن به من شئت ‏"‏ وفي بعض الآثار ‏"‏ أن الله تعالى كشف عن بصر داود عليه السلام فرأى من الميزان ما هاله حتى أغمي عليه فلما أفاق قال‏:‏ يا رب من يملأ كفة هذا حسنات فقال جل شأنه‏:‏ يا داود إذا رضيت عن عبد ملأتها بشق تمرة تصدق بها ‏"‏

إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة‏.‏ فالأولى كما قال الزجاج اتباع ما جاء في الأحاديث ولا مقتضي للعدول عن ذلك، فإن قيل‏:‏ إن المكلف يوم القيامة إما مؤمن بأنه تعالى حكيم منزه عن الجور فيكفيه حكمه تعالى بكيفيات الأعمال وكمياتها وإما منكر له فلا يسلم حينئذ أن رجحان بعض الأعمال على بعض لخصوصيات راجعة إلى ذوات تلك الأعمال بل يسنده إلى إظهار الله تعالى إياه على ذلك الوجه فما الفائدة في الوزن‏؟‏ أجيب بأنه ينكشف الحال يومئذ وتظهر جميع الأشياء بحقائقها على ما هي عليه وبأوصافها وأحوالها في أنفسها من الحسن والقبح وغير ذلك وتنخلع عن الصور المستعارة التي بها ظهرت في الدنيا فلا يبقى لأحد ممن يشاهدها شبهة في أنها هي التي كانت في الدنيا بعينها وإن كل واحد منها قد ظهر في هذه النشأة بصورته الحقيقية المستتبعة لصفاته ولا يخطر بباله خلاف ذلك قاله بعض المحققين والله تعالى أعلم بحقيقة الحال‏.‏

‏{‏فَمَن ثَقُلَتْ موازينه‏}‏ تفصيل للأحكام المترتبة على الوزن، والموازين إما جمع ميزان وجمعه مع أن المشهور الصحيح أن الميزان مطلقاً واحد باعتبار تعدد الأوزان أو الموزونات، وكذا إذا قلنا بأن ميزان كل شخص واحد وفي الكلام مضاف مقدر أي كفة موازينه، وإما جمع موزون وإضافته للعهد، لترتب الفلاح على ذلك فالمراد الحسنات، والجمع على هذا ظاهر، وكذا لو قلنا إن لكل عمل ميزاناً ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، والجمعية باعتبار معناه كما أن إفراد ضمير ‏{‏موازينه‏}‏ العائد إليه باعتبار لفظه، وما فيه من معنى البعد لما مر غير مرة، وهو مبتدأ و‏{‏هُمْ‏}‏ إما ضمير فصل يفصل به بين الخبر والصفة ويؤكد النسبة ويفيد اختصاص المسند بالمسند إليه و‏{‏المفلحون‏}‏ أي الفائزون بالنجاة والثواب خبر‏.‏ وإما مبتدأ ثان و‏{‏المفلحون‏}‏ خبره والجملة خبر المبتدأ الأول، وتعريف المفلحين للدلالة على أنهم الناس الذين بلغك أنهم مفلحون في الآخرة أو إشارة إلى ما يعرفه كل أحد من حقيقة المفلحين وخصائصهم‏.‏ ‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ موازينه فأولئك الذين خَسِرُواْ أَنفُسَهُم‏}‏ بتضييع فطرة الإسلام التي ما من مولود إلا يولد عليها أو فطرة الخير الذي هو أصل الجبلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏9‏]‏

‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا كَانُواْ بآياتنا يَظْلِمُونَ‏}‏ متعلق بخسروا، وما مصدرية و‏{‏بئاياتنا‏}‏ متعلق بيظلمون؛ وقدم عليه للفاصلة، وعدى الظلم بالباء لتضمنه معنى التكذيب أو الجحود، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار الظلم في الدنيا‏.‏ وظاهر النظم الكريم أن الوزن ليس مختصاً بالمسلمين بل الكفار أيضاً توزن أعمالهم التي لا توقف لها على الإسلام وإلى ذلك ذهب البعض‏.‏ وادعى القرطبي أن الصحيح أنه يخفف بها عذابهم وإن لم تكن راجحة كما ورد في حق أبي طالب‏.‏ وذهب الكثير إلى أن الوزن مختص بالمسلمين‏.‏ وأما الكفار فتحبط أعمالهم كيفما كانت، وهو أحد الوجهين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 105‏]‏ ولا يخفف بها عنهم من العذاب شيء، وما ورد من التخفيف عن أبي طالب فقد قال السخاوي‏:‏ إن المعتمد أنه مخصوص به، وعلى هذا فلا بد من ارتكاب خلاف الظاهر في الآية، وهي على كلا التقديرين ساكتة عن بيان حال من تساوت حسناته وسيئاته وهم أهل الأعراف على قول‏.‏ ومن هنا استدل بها بعضهم على عدم وجود هذا القسم، ورد بأنه قد يدرج في القسم الأول لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خَلَطُواْ عَمَلاً صالحا وَءاخَرَ شَيْئاً *عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 102‏]‏ وعسى من الله تعالى تحقيق كما صرحوا به وفيه نظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ مكناكم فِى الارض‏}‏ ترغيب في قبول دعوة النبي عليه الصلاة والسلام بتذكير النعم إثر ترهيب‏.‏ وذكر الطيبي أن هذا نوع آخر من الإنذار فإنه جملة قسمية معطوفة على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مّن رَّبّكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3‏]‏ على تقدير قل اتبعوا وقل والله لقد مكناكم، والمعنى جعلنا لكم في الأرض مكاناً وقراراً‏.‏ وقيل‏:‏ أقدرناكم على التصرف فيها فهو حينئذ كناية ورجحت هنا الحقيقة‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش‏}‏ أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب ونحوها أو ما تتوصلون به إلى ذلك، وهو في الأصل مصدر عاش يعيش عيشاً وعيشة ومعاشا ومعيشة بوزن مفعلة، والجمهور على التصريح بالياء فيها، وروي عن نافع ‏(‏معائش‏)‏ بالهمز وغلطه النحويون ومنهم سيبويه في ذلك لأنه لا يهمز عندهم بعد ألف الجمع إلا الياء الزائدة كصحيفة وصحائف وأما معايش فياؤه أصلية هي عين الكلمة لأنها من العيش وبالغ أبو عثمان فقال‏:‏ إن نافعا لم يكن يدري بالعربية، وتعقب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة مأخوذة من الفصحاء الثقات والعرب قد تشبه الأصلي بالزائد لكونه على صورته، وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضاً‏.‏ وقول سيبويه‏:‏ إنها غلط يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس، وكثيراً ما يستعمل الغلط في كتابه بهذا المعنى‏.‏

والجعل بمعنى الإنشاء والإبداع وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إذ لو تأخر لكان صفة له؛ وتقديمهما على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه كما قال بعض المحققين للاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما عند كون المقدم منبئاً عن منفعة السامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن، وأما تقديم اللام على في فلما أنه المنبىء عما ذكر من المنفعة والاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم، وقيل‏:‏ إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول، والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالاً من المفعول الأول كما مر، واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في الأخبار بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة في الأرض‏.‏

‏{‏قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ‏}‏ تلك النعمة الجسيمة، وهو تذييل مسوق لبيان سوء ‏(‏حال‏)‏ المخاطبين وتحذيرهم قال الطيبي‏:‏ والتذييل بذلك لأن الشكر مناسب لتمكينهم في البلاد والتصرف فيها كما أن التذكر في الجملة السابقة موافق للتمييز بين اتباع دين الحق ودين الباطل، وبقية الكلام في هذه الجملة على طرز ما مر في نظيرها فتذكر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم‏}‏ تذكير لنعمة أخرى، وتأخيره عن تذكير ما وقع ‏(‏بعده‏)‏ من نعمة التمكن في الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة، وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمة مستقلة، والمراد خلق آدم عليه السلام وتصويره كما يقتضيه ظاهر العطف الآتي لكن لما كان مبتدأ للمخاطبين جعل خلقه خلقاً بهم ونزل منزلته فالتجوز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم عليه السلام كجميع الخلق لتفرعهم عنه أو في الإسناد إذ أسند ما لآدم الذي هو الأصل والسبب إلى ما تفرع عنه وتسبب‏.‏ وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف، وذهب الإمام إلى أنه كناية عن خلق آدم عليه السلام، والمعنى خلقنا أباكم آدم عليه السلام طيناً غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار ذلك إليكم‏.‏ وجوز أن يكون التجوز في الفعل، والمراد ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه، ويعود هذا إلى ابتداء خلق الجنس وابتداء خلق كل جنس بإجاد أول أفراده‏.‏ فهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 7‏]‏‏.‏

وعلى هذين الوجهين يظهر وجه العطف بثم في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ‏}‏ وزعم الأخفش أن ‏{‏ثُمَّ‏}‏ هنا بمعنى الواو، وتعقبه الزجاج بأنه خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه ولا من يوثق بعلمه لأن ثم للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غيره، وإنما المعنى إنا ابتدأنا خلق آدم عليه السلام من تراب ثم صورناه أي هذا أصل خلقكم ثم بعد الفراغ من أصلكم قلنا الخ، وقيل‏:‏ إن ‏{‏ثُمَّ‏}‏ لترتيب الأخبار لا للترتيب الزماني حتى يحتاج إلى توجيه، والمعنى خلقناكم يا بني آدم مضغاً غير مصورة ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الأعضاء كما روي عن يمان أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء كما روي عن عكرمة ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة الخ وإلى هذا ذهب جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي وغيرهما، وقال الطيبي‏:‏ يمكن أن تحمل ‏{‏ثُمَّ‏}‏ على التراخي في الرتبة لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال‏:‏ إن كون أبيهم مسجوداً للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم‏.‏

وفيه تلويح إلى شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة، ومن ثم عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي بالعلم‏.‏ وعن ابن عباس ومجاهد والربيع وقتادة والسديأن المعنى خلقنا آدم عليه السلام ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا الخ‏.‏ وقد تقدم الكلام في المراد بالملائكة المأمورين بالسجود، وكذا الكلام في المراد بالسجود‏.‏

وذكر بعض المحققين أن الظاهر أن يقال‏:‏ ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم إلا أنه عدل عن ذلك لأن الأمر بالسجود كان قبل خلق آدم عليه السلام على ما نطق به قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى فَقَعُواْ لَهُ ساجدين‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 29 وص‏:‏ 72‏]‏ والواقع بعد تصويره إنما هو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏اسجدوا لاِدَمَ‏}‏ وذلك لتعيين وقت السجدة المأمور بها قبل، والحاصل أنه سبحانه أمرهم أولاً أمراً معلقاً ثم أمرهم ثانياً أمراً منجزاً مطابقاً للأمر للأمر السابق فلذا جعله حكاية له، وفي ذلك ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام‏.‏

‏{‏فَسَجَدُواْ‏}‏ أي الملائكة عليهم السلام بعد القول من غير تلعثم كلهم أجمعون ‏{‏إِلاَّ إِبْلِيسَ‏}‏ استثناء متصل سواء قلنا‏:‏ إن إبليس من الملائكة حقيقة أم لا، أما على الأول‏:‏ فظاهر، وأما على الثاني‏:‏ فلأنه لما كان جنياً مفرداً مغموراً بألوف من الملائكة متصفاً بغالب صفاتهم غلبوا عليه في ‏{‏سَجَدُواْ‏}‏ ثم استثنى استثناء واحد منهم‏.‏ وقيل‏:‏ منقطع بناء على أنه من الجن وأنهم ليسوا من جنس الملائكة ولا تغليب، والأول هو المختار‏.‏

وذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين‏}‏ أي ممن سجد لآدم عليه السلام مع أنه علم من الاستثناء عدم السجود لأن المعلوم من الاستثناء عدم العموم لا عموم العدم، والمراد الثاني أي أنه لم يصدر منه السجود مطلقاً لا معهم ولا منفرداً‏.‏ وهذا إنما يفيده التنصيص كذا قيل، ونظر فيه بأن التنصيص المذكور لا يفيد عموم الأحوال والأوقات فلا يتم ما ذكر، وتحقيق هذا المقام على ما ذكره المولى سري الدين أن يقال‏:‏ إن القوم اختلفوا في أن الاستثناء من النفي إثبات أم لا، فقال الشافعي‏:‏ نعم فيكون نقيض الحكم ثابتاً للمستثنى بطريق العبارة، ويوافقه ظاهر عبارة «الهداية»‏.‏ وذهب طائفة من الحنفية إلى أنه بطريق الإشارة‏.‏ وذهب آخرون إلى أن المستثنى في حكم المسكوت عنه، وإنما يستفاد الحكم بطريق مفهوم المخالفة‏.‏ واختار صاحب «البحر» أنه منطوق إشارة تارة وعبارة أخرى‏.‏

وإذا تقرر هذا فيمكن أن يقال في الجواب‏:‏ إن المقام لما كان مقام التسجيل على إبليس بعدم السجود والتشهير والتوبيخ بتلك القبيحة الهائلة كان خليقاً بالتصريح جديراً بالاحتياط لضعف التعويل على القرينة لائقاً بكمال الإيضاح والتقرير فعدل عن طريق الحذف، وإن كان الكلام دالاً على المحذوف إلى منهج الذكر والتصريح به، وهذا على رأي الشافعي ومن وافقه ظاهر وإليه أشار السراج الهندي في مباحث الاستثناء من «شرح المغني»، وأما على باقي المذاهب فالأمر أظهر لأن الحكم على المستثنى بنقيض حكم المستثنى منه إما بطريق الإشارة أو مفهوم المخالفة، وعلى كل فالمقام يأبى الاكتفاء بمثل ذلك ويقتضي التصريح بذكر الحكم‏.‏

وادعى مولانا ابن الكمال أن هذه الجملة إنما جيء بها لانقطاع الاستثناء وأنه لو كان الاستثناء متصلاً يكون الاتيان بها ضائعاً لأن عدم كون إبليس من الساجدين يفهم من الاستثناء على تقدير اتصاله‏.‏ ولا يخفى ما فيه على من أحاط علماً بما ذكرنا‏.‏ واعترضه البعض أيضاً بأنه على تقدير الانقطاع يكون ذلك ضائعاً أيضاً بناء على ما ظنه فإن ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى غير مختص بالمتصل، ولذا لا نراهم يذكرون مع المستثنى المنقطع أيضاً نقيض حكم المستثنى منه إلا قليلاً، ولو تم ما ذكره لوجب ذكر الخبر مع كل منقطع فليفهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مسوق للجواب عن سؤال نشأ من حكاية عدم سجوده كأنه قيل‏:‏ فماذا قال الله تعالى حينئذ‏؟‏ وبه كما قيل يظهر وجه الالتفات إلى الغيبة إذ لا وجه لتقدير السؤال على وجه المخاطبة‏.‏ وفيه فائدة أخرى هي الإشعار بعدم تعلق المحكي بالمخاطبين كما في حكاية الخلق والتصوير أي قال الله تعالى لإبليس حين لم يكن من الساجدين‏.‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ‏}‏ المشهور أن ‏(‏لا‏)‏ مزيدة بدليل قوله سبحانه في آية أخرى ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 75‏]‏ وقد جاءت كذلك في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 29‏]‏ أي ليعلم، وهي في ذلك كما قال غير واحد لتأكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه‏.‏ واستشكل بأنها كيف تؤكد ثبوت الفعل مع إيهام نفيه‏.‏ قال الشهاب‏:‏ والذي يظهر لي أنها لا تؤكده مطلقاً بل إذا صحب نفياً مقدماً أو مؤخراً صريحاً أو غير صريح كما في ‏{‏غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِمْ وَلاَ الضالين‏}‏ ‏(‏الفاتحة؛ 7‏)‏ وكما هنا فإنها تؤكد تعلق المنع به، ومن هنا قالوا إنها منبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود‏.‏ وقيل‏:‏ إنها غير زائدة بأن يكون المنع مجازاً عن الإلجاء والإضطرار فالمعنى؛ ما اضطرك إلى أن لا تسجد‏.‏ وجعله السكاكي مجازاً عن الحمل ولا قرينة للمجاز أي ما حملك ودعاك إلى أن لا تسجد‏؟‏ وليس بين الجعلين كثير فرق‏.‏ وجوز أن يكون ذلك من باب التضمين، وقال الراغب‏:‏ «المنع يقال في ضد العطية كرجل مانع ومناع أي بخيل، ويقال في الحماية ومنه مكان منيع وقد منع وفلان ذو منعة أي عزيز ممتنع على من يرومه، والمنع في الآية من الثاني أي ما حملك عن عدم السجود2‏.‏

‏{‏إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏ بالسجود، و‏{‏إِذْ‏}‏ ظرف لتسجد، وهذه الآية أحد أدلة القائلين بأن الأمر ‏(‏المطلق للوجوب و‏)‏ للفور لأنه ذم على ترك المبادرة ولولا أن الأمر للفور لم يتوجه الذم عليه وكان له أن يجيب بأنك ما أمرتني بالبدار وسوف أسجد‏.‏ وأجيب بأن الفور إنما هو من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَعُواْ لَهُ ساجدين‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 72‏]‏ وليس من صيغة الأمر إلا أن بعضهم منع دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ، وقال آخرون‏:‏ إن الاستدلال إنما هو بترتب اللوم على مخالفة الأمر المطلق حيث قال سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏ ولم يقل جل شأنه إذ قلت فقعوا له ساجدين فتدبر، وفي حكاية التوبيخ ههنا بهذه العبارة وفي سورة الحجر ‏(‏32‏)‏ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ يإِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين‏}‏ وفي سورة ص ‏(‏75‏)‏ بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ‏}‏ إشارة إلى أن اللعين أدمج في معصية واحدة غير واحدة وقد وبخ على كل من ذلك لكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اكتفاء بما ذكر في موطن آخر وإشعاراً بأن كل واحدة من هاتيك المعاصي كافية في التوبيخ و‏(‏ إظهار‏)‏ بطلان ما ارتكبه، وقد تركت حكاية التوبيخ رأساً في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه والله تعالى أعلم بحكمة كل‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كما تقدم مبني على سؤال نشأ من حكاية التوبيخ كأنه قيل‏:‏ فماذا قال اللعين عند ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ‏}‏ هو من الأسلوب الأحمق فإن الجواب المطابق للسؤال منعني كذا وهذا جواب عن أيكما خير‏؟‏ وفيه دعوى شيء بين الاستلزام للمقصود بزعمه ومشعر بأن من هذا شأنه لا يحسن أن يسجد لمن دونه فكيف يحسن أن يؤمر به‏؟‏ فاللعين أول من أسس بنيان التكبر واخترع القول بالحسن والقبح العقليين‏.‏

وقوله تعالى حكاية عنه‏:‏ ‏{‏خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ تعليل لما ادعاه عليه اللعنة من فضله عليه عليه السلام، وحاصله أني مخلوق من عنصر أشرف من عنصره لأن عنصري علوي نير قوي التأثير مناسب لمادة الحياة وعنصره بضد ذلك والمخلوق من الأشرف أشرف لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع فأنا كذلك والأشرف لا يليق به الانقياد لمن هو دونه، وقد أخطأ اللعين فإن كون النار أشرف من التراب ممنوع فإن كل عنصر من العناصر الأربع يختص بفوائد ليست لغيره وكل منها ضروري في هذه النشأة ولكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على بعض تطويل بلا طائل، على أن من نظر إلى أن الأرض أكثر منافع للخلق لأنها مستقرهم وفيها معايشهم وأنها متصفة بالرزانة التي هي من مقتضيات الحلم والوقار وإلى أن النار دونها في المنافع وأنها متصفة بالخفة التي هي من مقتضيات الطيش والاستكبار والترفع علم ما في كلام اللعين، وأيضاً شرف الأصل لا يوجب شرف الفرع‏.‏ إنما الورد من الشوك ولا *** ينبت النرجس إلا من بصل

ويكفي في ذلك أنه قد يخرج الكافر من المؤمن، وأيضاً قد خص الشرف بما هو من جهة المادة والعنصر مع أن الشيء كما يشرف بمادته وعنصره يشرف بفاعله وغايته وصورته، وهذا الشرف في آدم عليه السلام دونه فإن الله تعالى خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وجعله خليفة في الأرض كما قص سبحانه لما أودعه فيه، وأيضاً أي قبح في خدمة الفاضل للمفضول تواضعاً وإسقاطاً لحظ النفس على أن الخدمة في الحقيقة إنما كانت لله تعالى، وإلى هذا أشار ظافر الإسكندري بقوله‏:‏ أنت المراد بنظم كل قصيدة *** بنيت على الأفهام في تبجيله كسجود أملاك السماء لآدم

وسجودهم لله في تأويله‏.‏‏.‏‏.‏

ثم الظاهر أن هذا الجواب من اللعين كان مع تسليم أنه مأمور بالسجود وحينئذ فخطؤه أظهر من نار على علم إذ يعود ذلك إلى الاعتراض على المالك الحكيم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنه لم يسلم أنه كان مأموراً بل أخرج نفسه من العموم بالقياس‏.‏ واستدل أهل هذا القول بهذا التوبيخ على أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس‏.‏ وأجيب بأن هذا ليس من التخصيص بل هو إبطال للنص ورفع له بالكلية وفيه تأمل‏.‏ وأخرج أبو نعيم في «الحلية» والديلمي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده رضي الله تعالى عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله تعالى له‏:‏ اسجد لآدم فقال‏:‏ أنا خير منه ‏"‏ الخ‏.‏ قال جعفر‏:‏ فمن قاس أمر الدين برأيه قرنه الله تعالى يوم القيامة بإبليس لأنه أتبعه بالقياس‏.‏ واستدل بهذا ونحوه من منع القياس مطلقاً‏.‏ وأجيب عن ذلك بأن المذموم هو القياس والرأي في مقابلة النص أو الذي يعدم فيه شرط من الشروط المعتبرة وتحقيق ذلك في محله‏.‏

وفي الآية دليل على الكون والفساد لدلالتها على خلق آدم عليه السلام وإبليس عليه اللعنة وإيجادهما، وعلى استحالة الطين والنار عما كانا عليه من الطينية والنارية لما ترتب منهما ما تركب، وعلى أن إبليس ونحوه أجسام حادثة لا أرواح قديمة، قيل‏:‏ ولعل إضافة خلق آدم عليه السلام إلى الطين وخلقه إلى النار باعتبار الجزء الغالب، وإلا فقد تقرر أن الأجسام من العناصر الأربعة وبعض الناس من وراء المنع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كما سلف، والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاهبط مِنْهَا‏}‏ لترتيب الأمر على ما ظهر منه من الباطل، وضمير ‏{‏مِنْهَا‏}‏ قيل للجنة، وكونه من سكانها مشهور، والمراد بها عند بعض الجنة التي يسكنها المؤمنون يوم القيامة‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها روضة بعدن وفيها خلق آدم عليه السلام وكانت على نشز من الأرض في قول‏.‏ «وأصل الهبوط الانحدار على سبيل القهر كما في هبوط الحجر‏.‏ وإذا استعمل في الإنسان ونحوه فعلى سبيل الاستخفاف» كما قال الراغب‏.‏ ولم يشترط بعضهم فيه سوى الانتقال من شريف إلى ما دونه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏اهبطوا مِصْرًا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏ والأمر عليه واضح وإن لم نقل‏:‏ إن تلك الجنة كانت على نشز، وقيل‏:‏ الضمير لزمرة الملائكة أي اخرج من زمرة الملائكة المعززين، فإن الخروج من زمرتهم هبوط وأي هبوط‏.‏ وفي سورة الحجر ‏(‏43‏)‏ ‏{‏فاخرج مِنْهَا‏}‏ وقيل‏:‏ الضمير للسماء، وإليه ذهب جماعة‏.‏ ورد بأن وسوسته لآدم عليه السلام كانت بعد هذا الطرد فلا بد أن يحمل على أحد الوجهين السابقين قطعاً، ويكون وسوسته على الوجه الأول بطريق النداء من باب الجنة كما روي عن الحسن البصري‏.‏ وأجيب بأنه يحتمل أن يكون المراد من ذلك الجنة أو زمرة الملائكة أيضاً بناء على أن الأولى ومعظم الثانية في السماء أو يقال‏:‏ إن القصة وقعت في الأرض وكانت الجنة فيها وبعد العصيان حجب اللعين من السماء التي هي مقره ومعبده، ومعني أمره بالخروج منها أمره بقطع علائقه عنها واتخاذها مأوى له بعد‏.‏ وهذا كما تقول لمن غصب دارك مثلاً عند نحو القاضي‏:‏ أخرج من داري مع أنه إذ ذاك ليس فيها تريد لا تدخلها واقطع علائقك عنها‏.‏

وقيل‏:‏ الضمير للأرض‏.‏ فقد روي أنه أخرج منها إلى الجزائر وأمر أن لا يدخلها إلا خفية، ويبعده أنه لا يظهر للتخصيص في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا يَكُونُ لَكَ‏}‏ أي فما يصح ولا يستقيم ولا يليق بشأنك ‏{‏أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا‏}‏ على هذا وجه إلا على بعد‏.‏ وأما على الأوجه السابقة فالوجه ظاهر وهو مزيد شرافة المخرج منه وعلو شأنه وتقدس ساحته‏.‏ ومن هنا يعلم أنه لا دلالة في الآية على جواز التكبر في غير ذلك عند القائلين بالمفهوم، والجملة تعليل للأمر بالهبوط ولايخفى لطافة التعبير به دون الخروج في مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ المشير إلى ارتفاع عنصره وعلو محله، والتكبر على ما قيل كالكبر وهو الحالة التي يختص بها الشخص من إعجابه بنفسه‏.‏ وذلك أن يرى نفسه أكبر من غيره وأعظم، والمراد بالتكبر ههنا إما التكبر على الله تعالى وهو أعظم التكبر ويكون بالامتناع من قبول الحق والإذعان له بالعبادة‏.‏

وفسره بعضهم بالمعصية‏.‏ وإما التكبر على آدم عليه السلام بزعمه أنه خير منه وأكبر قدراً‏.‏ وقيل‏:‏ المراد ما هو أعم منه ومن التكبر على الملائكة حيث زعم أن له خصوصية ميزته عليهم وأخرجته من عمومهم وفيه تأمل‏.‏ وزعم البعض أن في الآية تنبيهاً على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة فكما يمنع من القرار فيها يمنع من دخولها بعد ذلك وأنه تعالى إنما طرده لتكبره لا لمجرد عصيانه، وهو ظاهر على أحد الاحتمالات كما لا يخفى‏.‏ والظرف إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاخرج‏}‏ تأكيد للأمر بالهبوط متفرع عليه‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مِنَ الصاغرين‏}‏ تعليل للأمر بالخروج مشعر بأنه لتكبره أي إنك من أهل الصغار والهوان على الله تعالى وعلى أوليائه لتكبرك‏.‏ أخرج البيهقي في «شعب الايمان» عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من تواضع لله رفعه الله تعالى، ومن تكبر وضعه الله عز وجل ‏"‏ ومن حديثه رضي الله تعالى عنه ‏"‏ من تواضع لله تعالى رفع الله تعالى حكمته وقال‏:‏ انتعش نعشك الله ومن تكبر وعدا طوره وهصه الله تعالى إلى الأرض ‏"‏ وقيل‏:‏ المراد من الأذلاء في الدنيا بالذم واللعن وفي الآخرة بالعذاب بسبب ما ارتكبه من المعصية والتكبر، وإذلال الله تعالى المتكبرين يوم القيامة مما نطقت به الأخبار‏.‏ أخرج الترمذي عن عمرو بن شعيب عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال يغشاهم الذل من كل مكان يساقون إلى سجن في جهنم يقال له‏:‏ بولس يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار ‏"‏ وفسر بعضهم الصاغر بالراضي بالذل كما هو المشهور فيه‏.‏ والمراد وصفه بأنه خسيس الطبع دنيء وأنه رأى نفسه أكبر من غيره وليس بالكبير‏.‏ ولقد أبدع أبو نواس بقوله خطاباً له‏:‏

سوأة بالعين أنت اختلست الن *** اس غيظاً عليهم أجمعينا

تهت لما أمرت في سالف الده *** ر وفارقت زمرة الساجدينا

عند ما قلت لا أطيق سجودا *** لمثال خلقته رب طينا

حسداً إذ خلقت من مارج الن *** ار لما كان مبتدأ العالمينا

ثم صيرت في القيادة تسعى *** يا مجير الزناة واللائطينا

وله أيضاً من أبيات فيه‏:‏

تاه على آدم في سجدة *** وصار قواداً لذريته

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ مما قبله كأنه قيل‏:‏ فماذا قال اللعين بعدما سمع ما سمع‏؟‏ فقيل‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏أَنظِرْنِى‏}‏ أي أمهلني ولا تمتني ‏{‏إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ أي آدم عليه السلام وذريته وهو وقت النفخة الثانية، وأراد بذلك أن يجد فسحة في الإغواء وأخذ الثأر ونجاة من الموت إذ لا موت بعد البعث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كما مر ‏{‏إِنَّكَ مِنَ المنظرين‏}‏ ظاهره ‏{‏إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 14‏]‏ حيث وقع في مقابلة كلامه لكن في سورة الحجر وص التقييد بيوم الوقت المعلوم، واختلف في المراد منه فالمشهور أنه يوم النفخة الأولى دون يوم البعث لأنه ليس بيوم موت، وجوز بعضهم أن يكون المراد منه يوم البعث ولا يلزم أن لا يموت فلعله يموت أول اليوم ويبعث مع الخلق في تضاعيفه‏.‏ وفي كتاب «العرائس» عن كعب الأحبار أن إبليس إنما يذوق طعم الموت يوم الحشر وذكر في كيفية موته وقبض عزرائيل روحه ما يقضي منه العجب، ولم ترضِ ذلك الفاضل السفاريني وقال في كتابه «البحور الزاخرة»‏:‏ أخرج نعيم بن حماد في «الفتن» والحاكم في «المستدرك» عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ لا يلبثون يعني الناس بعد يأجوج ومأجوج حتى تطلع الشمس من مغربها فتجف الأقلام وتطوى الصحف فلا يقبل من أحد توبة ويخر إبليس ساجداً ينادي إلهي مرني أن أسجد لمن شئت وتجتمع إليه الشياطين فتقول يا سيدنا إلى من نفزع‏؟‏ فيقول‏:‏ إنما سألت ربي أن ينظرني إلى يوم البعث فأنظرني إلى يوم الوقت المعلوم وقد طلعت الشمس من مغربها وهذا يوم الوقت المعلوم وتصير الشياطين ظاهرة في الأرض حتى يقول الرجل‏:‏ هذا قريني الذي كان فالحمد لله الذي أخزاه ولا يزال إبليس ساجداً باكياً حتى تخرج الدابة فتقتله وهو ساجد انتهى‏.‏

ومنه يعلم أن المراد باليوم المعلوم ما صرح به اللعين وهو قبل يوم النفخة الأولى بكثير، وهذا قول لم نر أحداً من المفسرين ذكره وهو الذي ارتضاه هذا الفاضل وقال‏:‏ إن الخبر في حكم المرفوع لأنه لا يقال من قبل الرأي وليس ابن مسعود ككعب الأحبار ممن يتلقى من كتب أهل الكتاب‏.‏ وأنت تعلم أنه إن صحت نسبة هذا الخبر إلى ابن مسعود ينبغي أن لا يعدل إلى القول بما يخالفه ولكن في صحة نسبته إليه رضي الله تعالى عنه عندي تردد‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به وقت يعلم الله تعالى انتهاء أجله فيه وقد أخفي عنا وكذا عن اللعين، وأوجب على هذا أن يكون قبل النفخة الثانية‏.‏ واستدل له بعضهم بأن اللعين كان مكلفاً والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فتقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحاً‏.‏ وأجيب بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء عليهم السلام أو على الكفر والمعاصي كإبليس وأشياعه فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام‏.‏

وظاهر النظم الكريم عند غير واحد أن هذه إجابة لدعائه كلاً أو بعضاً، وفي ذلك دليل لمن قال‏:‏ إن دعاء الكافر قد يستجاب وهو الذي ذهب إليه الدبوسي وغيره من الفقهاء خلافاً لما نقله في «البزازية» عن البعض من أنه لا يجوز أن يقال‏:‏ إن دعاء الكافر مستجاب لأنه لا يعرف الله تعالى ليدعوه، والفتوى على الأول للظاهر ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ دعوة المظلوم مستجابة وإن كان كافراً ‏"‏‏.‏ وحمل الكفر على كفران النعمة لا كفران الدين خلاف الظاهر، ولا يلزم من الاستجابة المحبة والإكرام فإنها قد تكون للاستدراج‏.‏ وقال بعض المحققين‏:‏ الجملة أخبار عن كونه من المنظرين في قضاء الله عالى من غير ترتب على دعائه، وادعى أن ورودها اسمية مع التعرض لشمول ما سأله اللعين الآخرين على وجه يشعر بأن السائل تبع لهم في ذلك صريح في أن ذلك إخبار بأن الإنظار المذكور لهم أزلاً لا إنشاء لا لإنظار خاص به إجابة لدعائه، ويعلم من ذلك أيضاً أن استنظاره كان طلباً لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ولا يخلو عن حسن‏.‏ والحكمة في إنظاره ذلك الزمن الطويل مع ما هو عليه عليه اللعنة من الإفساد مما ينبغي أن يفوض علمها إلى خالق العباد‏.‏

وقد ذكر الشهرستاني «عن شارح الأناجيل الأربعة صورة مناظرة جرت بين الملائكة وبين إبليس بعد هذه الحادثة وقد ذكرت في التوراة، وهي أن اللعين قال للملائكة‏:‏ إني أسلم أن لي إلهاً هو خالقي وموجدي وهو خالق الخلق لكن لي على حكمه أسئلة، الأول‏:‏ ما الحكمة في الخلق‏؟‏ لا سيما وقد كان عالماً أن الكافر لا يستوجب عند خلقه إلا النار‏.‏ الثاني‏:‏ ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود إليه منه نفع ولا ضرر وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف‏؟‏ الثالث‏:‏ هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته فلماذا كلفني بالسجود لآدم‏؟‏ الرابع‏:‏ لما عصيته في ترك السجود فلم لعنني وأجب عقابي مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه ولي فيه أعظم الضرر‏؟‏ الخامس‏:‏ أنه لما فعل ذلك لم سلطني على أولاده ومكنني من إغوائهم وإضلالهم‏؟‏ السادس‏:‏ لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني، ومعلوم أن العالم لو كان خالياً من الشر لكان ذلك خيراً؛ قال شارح الأناجيل فأوحى الله تعالى إليه من سرادق العظمة والكبرياء يا إبليس أنت ما عرفتني ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شيء من أفعالي فإني أنا الله لا إله إلا أنا لا أسئل عما أفعل» انتهى‏.‏ وفي السؤال السادس‏:‏ ما يؤيد القول الأول في الجملة‏.‏

ولا يخفى أن هذه الشبهات يصعب على القائلين بالحسن والقبح العقليين الجواب عنها بل قال الإمام‏:‏ إنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا من هذه الشبهات مخلصاً وكان الكل لازماً‏.‏ ويعجبني ما يحكى أن سيف الدولة بن حمدان خرج يوماً على جماعته فقال‏:‏ قد عملت بيتاً ما أحسب أن أحداً يعمل له ثانياً إلا إن كان أبا فراس وكان أبو فراس جالساً فقيل له‏:‏ ما هو‏؟‏ فقال قولي‏:‏ لك جسمي تعله *** فدمي لم تطله

فابتدر أبو فراس قائلاً‏:‏ قال إن كنت مالكا *** فلي الأمر كله

وعلل الزمخشري إجابته إلى استنظاره بأن في ذلك ابتلاء العباد وفي مخالفته أعظم الثواب وحكمه حكم ما خلق الله تعالى في الدنيا من صنوف الزخارف وأنواع الملاهي والملاذ وما ركب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده‏.‏ وتعقبه العلامة الثاني كغيره بأنه مبني على تعليل أفعاله تعالى بالأغراض وعدم إسناد خلق القبائح والشرور إليه سبحانه مع أنه ليس بشيء لأن حقيقة الابتلاء في حقه تعالى محال ومجاز لا يدفع السؤال، ولأن ما في متابعته من أليم العقاب أضعاف ما في مخالفته من عظيم الثواب بل لو لم يكن له الإنظار والتمكين لم يكن من العباد إلا الطاعات وترك المعاصي فلم يكن إلا الثواب كالملائكة‏.‏ ولا يخفى ما فيه إلا أن قوله بعد‏:‏ والأولى‏:‏ أن لا يخوض العبد في أمثال هذه الأسرار ويفوض حقيقتها إلى الحكيم المختار مما نقول به لأن معرفة ذلك في غاية الصعوبة على أرباب القال وأهل الجدال‏.‏ هذا وإنما ترك التوقيت في هذه الآية ثقة بما وقع في سورة الحجر وص كما ترك ذكر النداء والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلاً على ما ذكر فيهما‏.‏

«فإن قلت‏:‏ لا ريب في أن الكلام المحكي له عند صدوره عن المتكلم حالة مخصوصة تقتضي وروده على وجه خاص من وجوه النظم بحيث لو أخل بشيء من ذلك سقط الكلام عن رتبة البلاغة ألبتة فالكلام الواحد المحكي على وجوه شتى إن اقتضى الحال وروده على وجه معين من تلك الوجوه الواردة عند تلك الحكاية فذلك الوجه هو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى رتبة البلاغة دون ما عداه من الوجوه ونقول حينئذ‏:‏ لا يخفى أن استنظار اللعين إنما صدر عنه مرة واحدة لا غير فمقامه إن اقتضى إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على ما حلق به من اللعن والطرد على نهج استدعاء الجبر في مقابلة الكسر كما هو المتبادر من قوله‏:‏ ‏{‏رَبّ فَأَنظِرْنِى‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 36، ص‏:‏ 79‏]‏ حسبما حكى عنه في السورتين فما حكى عنه ههنا يكون بمعزل من المطابقة لمقتضى الحال فضلاً عن العروج إلى معارج الإعجاز‏.‏

قلت‏:‏ أجاب مولانا شيخ الإسلام عن هذا السؤال بعد أن ساقه بأن «مقام استنظاره مقتضٍ لما ذكر من إظهار الضراعة وترتيب الاستنظار على الحرمان المدلول عليه بالطرد والرجم وكذا مقام الإنظار مقتضٍ لترتيب الإخبار بالإنظار على الإستنظار، وقد طبق الكلام عليه في تينك السورتين ووفى كل من مقامي الحكاية والمحكي جميعاً حظه، وأما ههنا فحيث اقتضى مقام الحكاية مجرد الإخبار بالإستنظار والإنظار سيقت الحكاية على نهج الإيجاز والإختصار من غير تعرض لكيفية كل منهما عند المخاطبة والحوار، ولا يلزم أن لا يكون ذلك نقلاً للكلام على ما هو عليه ولا مطابقاً لمقتضى المقام‏.‏ فالذي يجب اعتباره في نقل الكلام إنما هو أصل معناه ونفس مدلوله ‏(‏الذي يفيده‏)‏ وأما كيفية الإفادة فقد تراعى وقد لا تراعى حسب الاقتضاء‏.‏ ولا يقدح في أصل الكلام تجريده عنها بل قد تراعى عند نقله كيفيات ‏(‏وخصوصات‏)‏ ‏(‏2‏)‏‏}‏ لم يراعها المتكلم أصلاً بل قد لا يقدر على مراعاتها‏.‏ وجميع المقالات المحكية في الآيات من ذلك القبيل وإلا لما كان الكثير منها معجزاً، وملاك الأمر في المطابقة مقام الحكاية وأما مقام المحكي فإن كان مقتضاه موافقاً لذلك وفي كل منهما حقه كما في السورتين وإلا لا كما فيما هنا» فليفهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كنظائره ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى‏}‏ الفاء لترتيب مضمون الجملة التي بعد على الإنظار، والباء إما للقسم أو للسببية، و‏(‏ ما‏)‏ على التقديرين مصدرية، والجار والمجرور متعلق بأقسم؛ وقيل‏:‏ إنه على تقدير السببية متعلق بما بعد اللام، وفيه أن لها الصدر على الصحيح فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وجوز بعضهم كون ‏(‏ما‏)‏ استفهامية لم يحذف ألفها وأن الجار متعلق بأغويتني ولا يخفى ضعفه‏.‏ والإغواء خلق الغي وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل وغوى إذا بشم وفسدت معدته، وجاء بمعنى الجهل من اعتقاد فاسد كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَا ضَلَّ صاحبكم وَمَا غوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 2‏]‏ وبمعنى الخيبة كما في قوله‏:‏ فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره *** ومن يغو لا يعدم على الغي لائماً

ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعصى ءادَمَ رَبَّهُ فغوى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 121‏]‏ واستعمل بمعنى العذاب مجازاً بعلاقة السببية ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 59‏]‏‏.‏

ولا مانع عند أهل السنة أن يراد بالإغواء هنا خلق الغي بمعنى الضلال أي بما أضللتني وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ونسبة الإغواء بهذا المعنى إلى الله عز وجل مما يقتضيه عموم قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏خالق كُلّ شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 102‏]‏ والمعتزلة يأبون نسبة مثل ذلك إليه سبحانه وقالوا في هذا تارة‏:‏ إنه قول الشيطان فليس بحجة، وأولوه أخرى بأن الإغواء النسبة إلى الغي كأكفره إذا نسبه إلى الكفر أو إنه بمعنى إحداث سبب الغي وإيقاعه وهو الأمر بالسجود‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ إن الغي هنا بمعنى الخيبة أي بما خيبته من رحمتك أو الهلاك أي بما أهلكته بلعنك إياه وطردك له، والذي دعاهم إلى هذا كله عدم قولهم بأن الله تعالى خالق كل شيء وأنه سبحان لا خالق غيره ولم يكفهم ذلك حتى طعنوا بأهل السنة القائلين بذلك‏.‏ وما الظن بطائفة ترضى لنفسها من خفايا الشرك بما لم يسبق به إبليس عليه اللعنة نعوذ بالله سبحانه وتعالى من التعرض لسخطه‏.‏ نعم الإغواء بمعنى الترغيب بما فيه الغواية والأمر به كما هو مراد اللعين من قوله‏:‏ ‏{‏لاَغْوِيَنَّهُمْ‏}‏ ‏[‏ص‏:‏ 82‏]‏ مما لا يجوز من الله تعالى شأنه كما لا يخفى، ثم إن كانت الباء للقسم يكون المقسم به صفة من صفات الأفعال وهو مما يقسم به في العرف وإن لم تجر الفقهاء به أحكام اليمين‏.‏ ولعل القسم وقع من اللعين بهما جميعاً فحكى تارة قسمه بأحدهما وأخرى بالآخر، وإن كانت سببية فالقسم بالعزة أي فبسبب إغوائك إياي لأجلهم أقسم بعزتك‏.‏

‏{‏لاقْعُدَنَّ لَهُمْ‏}‏ أي لآدم عليه السلام وذريته ترصداً بهم كما يقعد القطاع للسابلة ‏{‏صراطك المستقيم‏}‏ الموصل إلى الجنة وهو الحق الذي فيه رضاك‏.‏

أخرج أحمد والنسائي وابن حبان والطبراني والبيهقي في «شعب الإيمان» عن سبرة بن الفاكه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ إن الشيطان قعد لابن آدم في طرقه فقعد له بطريق الإسلام فقال أتسلم وتذر دينك ودين آبائك‏؟‏ فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال‏:‏ أتهاجر وتذر أرضك وسمائك وإنما مثل المهاجر كالفرس في طوله‏؟‏ فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال‏:‏ هو جهد النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال فعصاه فجاهد ثم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فمن فعل ذلك منهم فمات أو وقصته دابته فمات كان حقاً على الله تعالى أن يدخله الجنة ‏"‏ ولعل الاقتصار منه صلى الله عليه وسلم على هذه المذكورات للاعتناء بشأنها والتنبيه على عظم قدرها لما أن المقام قد اقتضى ذلك لا للحصر‏.‏ ونظير ذلك ما روي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهما وغيرهما من تفسير الصراط المستقيم بطريق مكة والكلام من باب الكناية أو التمثيل، ونصب ‏(‏الصراط‏)‏ إما على أنه مفعول به بتضمين ‏{‏أقعدن‏}‏ معنى ألزمن أو على نزع الخافض أي على صراطك كقولك ضرب زيد الظهر والبطن أو على الظرفين وجاء نصب ظرف المكان المختص عليها قليلاً، ومن ذلك في المشهور قوله‏:‏ لدن بهز الكف يعسل متنه *** فيه كما عسل الطريق الثعلب

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ‏}‏ أي من الجهات الأربع التي يعتاد هجوم العدو منها، والمراد لأسولن لهم ولأضلنهم بقدر الإمكان إلا أنه شبه حال تسويله ووسوسته لهم كذلك بحال إتيان العدو لمن يعاديه من أي جهة أمكنته ولذا لم يذكر الفوق والتحت إذ لا إتيان منهما فالكلام من باب الاستعارة التمثيلية و‏{‏لاقْعُدَنَّ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏ على ما قيل ترشيح لها، وبعضهم لم يخرج الكلام على التمثيل واعتذر عن ترك جهة الفوق بأن الرحمة تنزل منها وعن ترك جهة التحت بأن الإتيان منها يوحش، والاعتذار عن الأول بما ذكر أخرجه غير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي أيضاً عن عكرمة والشعبي والاعتذار عن الثاني نسبه الطبرسي إلى الحبر أيضاً، ولا يبعد على ذلك أن يكون الكلام تمثيلاً أيضاً ويكون الفرق بين التوجيهين بأن ترك هاتين الجهتين على الأول لعدمهما في الممثل به وعلى الثاني لعدمهما في الممثل‏.‏ وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ‏{‏مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من قبل الآخرة لأنها مستقبلة آتية وما هو كذلك كأنه بين الأيدي ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ من قبل الدنيا لأنها ماضية بالنسبة إلى الآخرة ولأنها فانية متروكة مخلفة ‏{‏وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ‏}‏ من جهة حسناتهم وسيآتهم، وتفسير الأيمان بالحسنات والشمائل بالسيآت لأنهم يجعلون المحبوب في جهة اليمين وغيره في جهة الشمال كما قال‏:‏ بثين أفي يمنى يديك جعلتني *** فأفرح أم صيرتني في شمالك

وقال الأصمعي‏:‏ يقال هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال على عكس ذلك، والكلام على هذا يجوز أن يكون فيه مجازات أو استعارات أو كنايات‏.‏ ونظير هذا ما قيل‏:‏ ‏{‏مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ من حيث لا يعلمون و‏{‏عَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ‏}‏ من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم ومن حيث لا يتيسر لهم ذلك، وقال بعض حكماء الإسلام‏:‏ إن في البدن قوى أربعا‏:‏ القوة الخالية التي تجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ والقوة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وإليها الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ والقوة الشهوانية ومحلها الكبد وهو عن يمين الإنسان وإليها الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وَعَنْ أيمانهم‏}‏ والقوة الغضبية ومحلها القلب الذي هو في الشق الأيسر وإليها الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏وَعَن شَمَائِلِهِمْ‏}‏ والشيطان ما لم يستعن بشيء من هذه القوى لا يقدر على إلقاء الوسوسة، وهذا عندي نوع من الإشارة كما لا يخفى، وقيل‏:‏ غير ذلك، وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الآخرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم، ونظيره قولهم‏:‏ جلست عن يمينه، وذكر القطب في بيان وجه ذلك ما بناه على ما قاله بعض حكماء الإسلام وهو أن ‏(‏من‏)‏ للاتصال و‏(‏ عن‏)‏ للانفصال، وأثر الشيطان في قوتي الدماغ حصول العقائد الباطلة كالشرك والتشبيه والتعطيل، وهي مرتسمة في النفس الإنسانية متصلة بها، وفي الشهوة والغضب حصول الأعمال السيئة الشهوانية والغضبية وهي تنفصل عن النفس وتنعدم فلهذا أورد في الجهتين الأوليين ‏{‏مِنْ‏}‏ الاتصالية وفي الأخريين ‏{‏عَنْ‏}‏ الانفصالية، وقيل‏:‏ خص اليمين والشمال بعن لأن ثمة ملكين يقتضيان التجاوز عن ذلك وفيه نظر لا يخفى، وادعى بعضهم أن الآية كالدليل على أن اللعين لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه إذ لو أمكنه ذلك لذكره في باب المبالغة؛ وحديث

«إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» من باب التمثيل‏.‏ وقد يجاب بأن التمثيل اقتضى عدم الذكر فتدبر‏.‏

‏{‏وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين‏}‏ أي مطيعين، وإنما قال ذلك ظناً كما روي عن الحسن‏.‏ وأبي مسلم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 2‏]‏ لما رأى أن للنفس تسع عشرة قوة الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع النباتية الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وإنها بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم وأن ليس هناك ما يدعو إلى عالم الأرواح إلا قوة واحدة وهي العقل وما يصنع واحد مع متعدد «‏:‏

أرى ألف بأن لا يقوم بهادم

فكيف ببان خلفه ألف هادم»

وعن الجبائي أنه سمع ذلك من الملائكة فقاله على سبيل القطع، وقيل‏:‏ إنه رآه قبل في اللوح المحفوظ‏.‏ ووجد إما بمعنى صادف فينصب مفعولاً واحداً وهو ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ وشاكرين حال، وإما بمعنى علم فينصب مفعولين ثانيهما ‏{‏شاكرين‏}‏ والجملة إما معطوفة على المقسم عليه وإما مستأنفة، وإنما لم يفرعها على ما تقدم لأن مضمونها بمقتضى الجبلة أيضاً لا بمجرد إغوائه، ووجه التعبير بالأكثر ظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كما مر غير مرة‏.‏ ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا‏}‏ أي من الجنة أو من زمرة الملائكة أو من السماء الخلاف السابق ‏{‏مَذْءومًا‏}‏ أي مذموماً كما روي عن ابن زيد أو مهاناً لعينا كما روي عن ابن عباس وقتادة، وفعله ذأم‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏مذوماً‏}‏ بذال مضمومة وواو ساكنة وفيه احتمالان الأول أن يكون مخففاً من المهموز بنقل حركة الهمزة إلى الساكن ثم حذفها، والثاني أن يكون من ذام بالألف كباع وكان قياسه على هذا مذيم كمبيع إلا أنه أبدلت الواو من الياء على حد قولهم؛ مكول في مكيل مع أنه من الكيل، ونصبه على الحال وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَذْمُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ وهو من الدحر بمعنى الطرد والإبعاد، وجوز في هذا أن يكون صفة‏.‏

واللام في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ‏}‏ على ما في «الدر المصون» موطئة للقسم و‏(‏ من‏)‏ شرطية في محل رفع مبتدأ‏.‏ وقوله عز اسمه لأَمْلأَنَّ مَنْكُمْ أَجْمَعينَ‏}‏ جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط، والخلاف في خبر المبتدأ في مثل ذلك مشهور، وجوز أن تكون اللام لام الابتداء و‏(‏ من‏)‏ موصولة مبتدأ صلتها ‏{‏‏}‏ جواب القسم وهو ساد مسد جواب الشرط، والخلاف في خبر المبتدأ في مثل ذلك مشهور، وجوز أن تكون اللام لام الابتداء و‏(‏ من‏)‏ موصولة مبتدأ صلتها ‏{‏تَبِعَكَ‏}‏ والجملة القسمية خبر‏.‏ وقرأ عصمة عن عاصم ‏{‏لِمَنْ‏}‏ بكسر اللام فقيل‏.‏ إنها متعلقة بلأملان‏.‏ ورد بأن لام القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وقيل‏:‏ إنها متعلقة بالذأم والدحر على التنازع وأعمال الثاني أي أخرج بهاتين الصفتين لأجل اتباعك وقيل‏:‏ إن الجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف يقدر مؤخراً أي لمن اتبعك هذا الوعيد‏.‏ ودل على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَمْلاَنَّ‏}‏ الخ، ولعل ذلك مراد الزمخشري بقوله‏:‏ أن ‏{‏لاَمْلاَنَّ‏}‏ في محل المبتدأ و‏{‏لَّمَن تَبِعَكَ‏}‏ خبره كما يرشد إليه بيان المعنى‏.‏ و‏{‏مّنكُمْ‏}‏ بمعنى منك ومنهم فغلب فيه المخاطب كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 55‏]‏ ثم إن الظاهر أن هذه المخاطبات لأبليس عليه اللعنة كانت منه عز وجل من غير واسطة وليس المقصود منها الإكرام والتشريف بل التعذيب والتعنيف، وذهب الجبائي إلى أنها كانت بواسطة بعض الملائكة لأن الله تعالى لا يكلم الكافر وفيه نظر‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏المص‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 1‏]‏ الألف إشارة إلى الذات الأحدية واللام إلى الذات مع صفة العلم والميم إلى معنى محمد وهي حقيقته والصاد إلى صورته عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقد يقال‏:‏ الألف إشارة إلى التوحيد والميم إلى الملك واللام بينهما واسطة لتكون بينهما رابطة والصاد لكونه حرفاً كري الشكل قابلاً لجميع الأشكال كما قال الشيخ الأكبر قدس سره‏:‏ فيه إشارة إلى أن الأمر وإن ظهر بالأشكال المختلفة والصور المتعددة أوله وآخره سواء، ولا يخفى لطف افتتاح هذه السورة بهذه الأحرف بناء على ما ذكره الشيخ قدس سره في «فتوحاته» من أن لكل منها ما عدا الألف الأعراف وأما الألف فقد ذكر نفعنا الله تعالى ببركات علومه أنه ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق لكن قد سمته العامة حرفاً فإذا قال المحقق ذلك فإنما هو على سبيل التجوز في العبادة والله تعالى أعلم بحقيقة الحال ‏{‏كتاب أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِى صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ‏}‏ أي ضيق من حمله فلا تسعه لعظمه فتتلاشى بالفناء والوحدة والاستغراق في عين الجمع

‏{‏لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 2‏]‏ أي ليمكنك الإنذار والتذكير إذ بالاستغراق لا ترى إلا الحق فلا يتأتى منك ذلك ‏{‏وَكَم مّن قَرْيَةٍ‏}‏ من قرى القلوب ‏{‏أهلكناها‏}‏ أفسدنا استعدادها ‏{‏فَجَاءهَا بَأْسُنَا بياتا‏}‏ أي بائتين على فراش الغفلة في ليل الشباب ‏{‏أَوْ هُمْ قَائِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4‏]‏ تحت ظلال الأمل في نهار المشيب ‏{‏والوزن يَوْمَئِذٍ الحق‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 8‏]‏ هو عند كثير من الصوفية اعتبار الأعمال‏.‏ وذكروا أن لسان ميزان الحق هو صفة العدل وإحدى كفتيه هو عالم الحس والكفة الأخرى هو عالم العقل فمن كانت مكاسبه من المعقولات الباقية والأخلاق الفاضلة والأعمال الخيرية المقرونة بالنية الصادقة ثقلت أي كانت ذا قدر وأفلح هو أي فاز بالنعيم الدائم ومن كانت مقتنياته من المحسوسات الفانية واللذات الزائلة والشهوات الفاسدة والأخلاق الرديئة خفت ولم يعتن بها وخسر هو نفسه لحرمانه النعيم هلاكه ‏{‏وَلَقَدْ مكناكم فِى الارض‏}‏ إذ جعلناكم خلفاء فيها ‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش‏}‏ متعددة دون غبركم فإن له معيشة واحدة، وذلك لأن الإنسان فيه ملكية وحيوانية وشيطانية فمعيشة روحه معيشة الملك ومعيشة بدنه معيشة الحيوان ومعيشة نفسه الأمارة معيشة الشيطان‏.‏ وله معايش غير ذلك وهي معيشة القلب بالشهود ومعيشة السر بالكشوف ومعيشة سر السر بالوصال «قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ» ‏[‏الأعراف‏:‏ 10‏]‏ ولو شكرتم ما رضيتم بالدون‏.‏ ‏{‏وَلَقَدْ خلقناكم ثُمَّ صورناكم‏}‏ أي ابتدأنا ذلك بخلق آدم عليه السلام وتصويره ‏{‏ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ‏}‏ فإنه المظهر الأعظم، وفي الخبر «خلق الله آدم على صورته» وفي رواية «على صورة الرحمن» ‏{‏فَسَجَدُواْ‏}‏ وانقادوا للحق ‏{‏إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مّنَ الساجدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ لنقصان بصيرته ‏{‏قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 12‏]‏ أراد اللعين أنه من الحضرة الروحانية وأن آدم عليه السلام ليس كذلك ‏{‏قَالَ فاهبط مِنْهَا‏}‏ أي من تلك الحضرة ‏{‏فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا‏}‏ لأن الكبر ينافيها ‏{‏فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين‏}‏

‏[‏الأعراف‏:‏ 13‏]‏ الأذلاء بالميل إلى مقتضيات النفس ‏{‏قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى‏}‏ قسم بما هو من صفات الأفعال ولم يكن محجوباً عنها بل كان محجوباً عن الذات الأحدية ‏{‏لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏ وهو طريق التوحيد ‏{‏ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ‏}‏ أي لأجتهدن في إضلالهم، وقد تقدم ما قاله بعض حكماء الإسلام في ذلك، وفي «تأويلات النيسابوري» كلام كثير فيه وما قاله البعض أحسنه في هذا الباب، وذكر بعضهم لعدم التعرض لجهتي الفوق والتحت وجها وهو أن الإتيان من الجهة الأولى غير ممكن له لأن الجهة العلوية هي التي تلي الروح ويرد منها الإلهامات الحقة والالقاءات الملكية ونحو ذلك، والجهة السفلية يحصل منها الأحكام الحسية والتدابير الجزئية في باب المصالح الدنيوية وذلك غير موجب للضلالة بل قد ينتفع به في العلوم الطبيعية والرياضية وفيه نظر‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏ مستعملين ما خلق لهم لما خلق له‏.‏ ‏{‏قَالَ اخرج مِنْهَا‏}‏ حقيراً ‏{‏مَذْمُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ مطروداً ‏{‏لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ‏}‏ بالأنانية ورؤية غير الله تعالى وارتكاب المعاصي ‏{‏لامْلانَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏ فتبقون محبوسين في سجين الطبيعة معذبين بنار الحرمان عن المراد وهو أشد العذاب وكل شيء دون فراق المحبوب سهل وهو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَيَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أَجْمَعِينَ وَيَئَادَمُ اسكن‏}‏ أي وقلنا كما وقع في سورة البقرة ‏(‏53‏)‏ فهذه القصة بتمامها معطوفة على مثلها وهو قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قُلْنَا للملائكة اسجدوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ على ما ذهب إليه غير واحد من المحققين، وإنما لم يعطفوه على ما بعد ‏{‏قَالَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 18‏]‏ أي قال يا إبليس اخرج ويا آدم اسكن لأن ذلك في مقام الاستئناف والجزاء لما حلف عليه اللعين وهذا من تتمة الامتنان على بني آدم والكرامة لأبيهم، ولا على ما بعد ‏{‏قُلْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 11‏]‏ لأنه يؤول إلى قلنا للملائكة يا آدم‏.‏ وادعى بعضهم أن الذي يقتضيه الترتيب العطف على ما بعد ‏{‏قَالَ‏}‏ وبينه بما له وجه إلا أنه خلاف الظاهر، وتصدير الكلام بالنداء للتنبيه على الاهتمام بالمأمور به، وتخصيص الخطاب بآدم عليه السلام للإيذان بأصالته بالتلقي وتعاطي المأمور به‏.‏ و‏{‏اسكن‏}‏ من السكنى وهو اللبث والإقامة والاستقرار دون السكون الذي هو ضد الحركة، وقد تقدم الكلام في ذلك وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَنتَ وَزَوْجُكَ الجنة‏}‏ وتوجيه الخطاب إليهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا‏}‏ لتعميم التشريف والإيذان بتساويهما في مباشرة المأمور به فإن حواء أسوة له عليه السلام في حق الأكل بخلاف السكنى فإنها تابعة له فيها ولتعليق النهي الآتي بهما صريحاً، والمعنى فكلا منها حيث شئتما كما في البقرة، ولم يذكر ‏{‏رَغَدًا‏}‏ هنا ثقة بما ذكر هناك‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة‏}‏ مبالغة في النهي عن الأكل منها وقرىء «هذي» وهو الأصل إلا أنه حذفت الياء وعوض عنها الهاء فهي هاء عوض لا هاء سكت‏.‏ قال ابن جني‏:‏ ويدل على أن الأصل هو الياء قولهم في المذكر‏:‏ ذا والألف بدل من الياء إذ الأصل ذي بالتشديد بدليل تصغيره على ذيا وإنما يصغر الثلاثي دون الثنائي كما ومن فحذفت إحدى اليائين تخفيفاً ثم أبدلت الأخرى ألفاً كراهة أن يشبه آخره أخر كي‏.‏ ‏{‏فَتَكُونَا‏}‏ أي فتصيراً ‏{‏مِنَ الظالمين‏}‏ أي الذين ظلموا أنفسهم، و‏{‏تَكُونَا‏}‏ يحتمل الجزم على العطف على ‏{‏تَقْرَبَا‏}‏ والنصب على أنه جواب النهي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآَتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشيطان‏}‏ أي فعل الوسوسة لأجلهما أو ألقى إليهما الوسوسة وهي في الأصل الصوت الخفي المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي وسوسة، وقد كثرت فعللة في الأصوات كهينمة وهمهمة وخشخشة، وتطلق على حديث النفس أيضاً وفعلها وسوس وهو لازم ويقال‏:‏ رجل موسوس بكسر الواو لا تفتح على ما قاله ابن الأعرابي‏.‏ وقال غيره‏:‏ يقال موسوس بالفتح وموسوس إليه فيكون الأول على الحذف والإيصال‏.‏ والكلام في كيفية وسوسة اللعين قد تقدمت الإشارة إليه في سورة البقرة‏.‏

‏{‏لِيُبْدِيَ لَهُمَا‏}‏ أي ليظهر لهما، واللام إما للعاقبة لأن الشيطان لم يقصد بوسوسته ذلك ولم يخطر له ببال وإنما ءال الأمر إليه، وإما للتعليل على ما هو الأصل فيها، ولا يبعد أنه أراد بوسوسته أن يسوءهما انكشاف عورتيهما ولذلك عبر عنهما بالسوأة، ويكون هذا مبنياً على الحدس أو العلم بالسماع من الملائكة أو الاطلاع على اللوح‏.‏ قيل‏:‏ وفي ذلك دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع‏.‏

‏{‏مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءتِهِمَا‏}‏ أي ما غطي وستر عنهما من عوراتهما وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر وكانت مستورة بالنور على ما أخرجه الحكيم الترمذي وغيره عن وهب بن منبه أو بلباس كالظفر على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي، وجمع السوآت على حد ‏{‏صَغَتْ قُلُوبُكُمَا‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏ واعتبار الأجزاء بعيد، والمتبادر من هذا الكلام حقيقته، وقيل هو كناية عن إزالة الحرمة وإسقاط الجاه، و‏{‏وُورِيَ‏}‏ بواوين ماضي وارى كضارب وضورب أبدلت ألفه واواً فالواو الأولى فاء الكلمة والثانية زائدة‏.‏ وقرأ عبد الله ‏{‏أوري‏}‏ بالهمزة لأن القاعدة إذا اجتمع واوان في أول كلمة فإن تحركت الثانية أو كان لها نظير متحرك وجب إبدال الأولى همزة تخفيفاً مثال الأول أو يصل وأواصل في تصغير واصل وتصغيره ومثال الثاني أولى أصله وولى فأبدلت الأولى لما تحركت الثانية في الجمع وهو أول فإن لم يتحرك بالفعل أو القوة جاز الإبدال وعدمه كما هنا قاله الشهاب نقلاً عن النحاة‏.‏ وقرىء ‏{‏سوأتهما‏}‏ بالإفراد والهمزة على الأصل و‏{‏سوتهما‏}‏ بإبدال الهمزة واواً وإدغام الواو في الواو، وقرىء ‏{‏سواتهما‏}‏ بالجمع وطرح حركة الهمزة على ما قبلها وحذفها و‏{‏سواتهما‏}‏ بالطرح وقلب الهمزة واواً والإدغام‏.‏

‏{‏أَبَوَيْهِ وَقَالَ‏}‏ عطف على ‏(‏وسوس‏)‏ بطريق البيان ‏{‏مَا نهاكما رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة‏}‏ أي الأكل منها ‏{‏إِلا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ‏}‏ استثناء مفرغ من المفعول لأجله بتقدير مضاف أو حذف حرف النفي ليكون علة أي كراهية أن تكونا أو لئلا تكونا ملكين ‏{‏أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين‏}‏ أي الذين لا يموتون أصلاً أو الذين يخلدون في الجنة‏.‏

وقرأ ابن عباس ويحيى بن كثير ‏{‏مَلَكَيْنِ‏}‏ بكسر اللام‏.‏ قال الزجاج‏:‏ ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى حكاية عن اللعين ‏{‏هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 120‏]‏‏.‏

استدل بالآية على أفضلية الملائكة حيث إن اللعين قال ذلك ولم ينكر عليه، وارتكب آدم عليه السلام المنهي عنه طمعاً فيما أشار إليه الشيطان من الصيرورة ملكاً فلولا أنه أفضل لم يرتكبه، وأجيب بأن رغبتهما إنما كانت في أن يحصل لهما أوصاف الملائكة من الكمالات الفطرية والاستغناء عن الأطعمة والأشربة ونحو ذلك ونحن لا نمنع أفضلية الملائكة من هذه الأوجه وإنما نمنع أفضليتهم من كل الوجوه والآية لا تدل عليه، وأيضاً قد يقال‏:‏ إن رغبتهما كانت في الخلود فقط وفي آية طه ‏(‏120‏)‏‏}‏ ما يشير إليه حيث عقب فيها الترغيب في الخلود بالأكل، واعترض بأن رغبتهما في الخلود تستلزم الكفر لما يلزم ذلك من إنكار البعث والقيامة، ومن ثم قال الحسن لعمرو بن عبيد لما قال له‏:‏ إن آدم وحواء هل صدقا قول الشيطان‏:‏ معاذ الله تعالى لو صدقا لكانا من الكافرين، وأجيب بأن المراد من الخلود طول المكث والتصديق به ليس بكفر ولو سلم أن المراد الدوام الأبدي فلا نسلم أن اعتقاد ذلك إذ ذاك كفر لأن العلم بالموت والبعث بعده يتوقف على الدليل السمعي ولعله لم يصل إليهما وقتئذ‏.‏ وادعى بعضهم أن المراد بالخلود العارض بعد الموت بدخول الجنة وحينئذ لا إشكال إلا أنه خلاف الظاهر‏.‏ وعن السيد المرتضى في معنى الآية أنه قال‏:‏ إن اللعين أوهمهما أن المنهي عن تناول الشجرة الملائكة والخالدون خاصة دونهما كما يقول أحدنا لغيره‏:‏ ما نهيت عن كذا إلا أن تكون فلانا يريد أن المنهي هو فلان دونك، وهو كما ترى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

أقسم لهما، وإنما عبر بصيغة المفاعلة للمبالغة لأن من يباري أحداً في فعل يجد فيه فاستعمل في لازمه، وقيل‏:‏ المفاعلة على بابها، والقسم وقع من الجانبين لكنه اختلف متعلقه فهو أقسم لهما على النصح وهما أقسما له على القبول‏.‏ وتعقب بأن هذا إنما يتم لو جرد المقاسمة عن ذكر المقسم عليه وهو النصيحة، أما حيث ذكر فلا يتم إلا أن يقال‏:‏ سمى قبول النصيحة نصيحة للمشاكلة والمقابلة كما قيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وواعدنا موسى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 142‏]‏ أنه سمى التزام موسى عليه السلام الوفاء والحضور للميعاد ميعاداً فأسند التعبير بالمفاعلة، وقيل‏:‏ قالا له أتقسم بالله تعالى إنك لمن الناصحين‏؟‏ وأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة‏.‏ وعلى هذا فيكون كما قال ابن المنير «في الكلام لف لأن آدم وحواء عليهما السلام لا يقسمان ‏(‏له‏)‏ بلفظ التكلم بل بلفظ الخطاب»، وقيل‏:‏ إنه إلى التغليب أقرب، وقيل‏:‏ إنه لا حاجة إليه بأن يكون المعنى حلفا عليه بأن يقول لهما‏:‏ إني لكما لمن الناصحين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏فدلاهما‏}‏ أي حطهما عن درجتهما وأنزلهما عن رتبة الطاعة إلى رتبة المعصية فهو من دلى الدلو في البئر كما قاله أبو عبيدة وغيره‏.‏ وعن الأزهري أن معناه أطمعهما‏.‏ وأصله من تدلية العطشان شيئاً في البئر فلا يجد ما يشفي غليله‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الدالة وهي الجرأة في فجرأهما كما قال‏:‏ أظن الحلم دل على قومي *** وقد يستجهل الرجل الحليم

فأبدل أحد حرفي التضعيف ياء ‏{‏بِغُرُورٍ‏}‏ أي بما غرهما به من القسم أو متلبسين به، فالباء للمصاحبة أو الملابسة‏.‏ والجار والمجرور حال من الفاعل أو المفعول‏.‏ وجعل بعضهم الغرور مجازاً عن القسم لأنه سبب له ولا حاجة إليه، وسبب غرورهما على ما قاله غير واحد أنهما طنا أن أحداً لا يقسم بالله تعالى كاذباً ورووا في ذلك خبراً‏.‏ وظاهر هذا أنهما صدقا ما قاله فأقدما على ما نهيا عنه‏.‏ وذهب كثير من الحققين أن التصديق لم يوجد منهما لا قطعا ولا ظناً، وإنما أقدما على المنهي عنه لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال‏.‏ ولعل كلام اللعين على هذا من قبيل المقدمات الشعرية أثار الشهوة حتى غلبت ونسي معها النهي فوقع الإقدام من غير روية، وقال القطب‏:‏ يمكن أن يقال إن اللعين لما وسوس لهما بقوله‏:‏ ‏{‏مَا نهاكما‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 20‏]‏ الخ فلم يقبلا منه عدل إلى اليمين على ما قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَقَاسَمَهُمَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 21‏]‏ فلم يصدقاه أيضاً فعدل بعد ذلك إلى شيء آخر وكانه أشار إليه سبحانه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فدلاهما بِغُرُورٍ‏}‏ وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات حتى صارا مستغرقين بها فنسي النهي كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 115‏]‏ وجعل العتاب الآتي على ترك التحفظ فتدبر‏.‏

‏{‏فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة‏}‏ أي أكلا منها أكلاً يسيراً ‏{‏بَدَتْ لَهُمَا سَوْءتُهُمَا‏}‏ قال الكلبي‏:‏ تهافت عنهما لباسهما فأبصر كل منهما عورة صاحبه فاستحيا ‏{‏وَطعفقَا‏}‏ أخذا وجعلا فهو من أفعال الشروع وكسر الفاء فيه أفصح من فتحها وبه قرأ أبو السمال ‏{‏وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ‏}‏ أي يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة، وأصل معنى الخصف الخرز في طاقات النعال ونحوها بءلصاق بعضها ببعض‏.‏ وقيل أصله الضم والجمع ‏{‏عَلَيْهِمَا‏}‏ أي على سوآتهما أو على بدنهما ففي الكلام مضاف مقدر‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير عائد على ‏{‏سَوْءتِهِمَا‏}‏‏.‏

‏{‏مِن وَرَقِ الجنة‏}‏ وكان ذلك بعض ورق التين على ما روي عن قتادة‏.‏ وقيل‏:‏ الموز‏.‏ وقرأ الزهري ‏{‏يَخْصِفَانِ‏}‏ من أخصف، وأصله خصف إلا أنه كما قال الجاربردي نقل إلى أخصف للتعدية، وضمن الفعل لذلك معنى التصيير فصار الفاعل في المعنى مفعولاً للتصيير ‏(‏على أصل‏)‏ الفعل فيكون التقدير يخصفان أنفسهما أي يجعلان أنفسهما خاصفين عليهما من ورق الجنة فحذف مفعول التصير‏.‏

وجوز بعضهم كون خصف وأخصف بمعنى‏.‏ وقرأ الحسن ‏{‏يَخْصِفَانِ‏}‏ بفتح الياء وكسر الخاء وتشديد الصاد من ازفتعال، وأصله يختصفان سكنت التاء وأدغمت ثم كسرت الخاء لالتقاء الساكنين‏.‏ وقرأ يعقوب بفتحها‏.‏ وقرىء ‏{‏يَخْصِفَانِ‏}‏ من خصف المشدد بفتح الخاء وقد ضمت اتباعاً للياء وهي قراءة عسرة النطق‏.‏

‏{‏وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا‏}‏ بطريق العتاب والتوبيخ ‏{‏أَلَمْ أَنْهَكُمَا‏}‏ تفسير للنداء فلا محل له من الإعراب أو معمول لقول محذوف أي وقال أو قائلاً‏:‏ ألم أنهكما ‏{‏عَن تِلْكُمَا الشجرة‏}‏ إشارة إلى الشجرة التي نهيا عن قربانها‏.‏ والتثنية لتثنية المخاطب‏.‏ ‏{‏وَأَقُل لَّكُمَا‏}‏ عطف على ‏{‏أَنْهَكُمَا‏}‏ أي ألم أقل لكما ‏{‏إِنَّ الشيطان لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ‏}‏ أي ظاهر العداوة، وهذا على ما قيل‏:‏ عتاب وتوبيخ على الإغترار بقول العدو كما أن الأول عتاب على مخالفة النهي‏.‏ ولم يحك هذا القول ههنا، وقد حكي في سورة طه ‏(‏117‏)‏ بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ‏}‏ الآية و‏{‏لَّكُمَا‏}‏ متعلق بعدو لما فيه من معنى الفعل أو بمحذوف وقع حالا منه‏.‏

واستدل بعضهم بالآية على أن مطلق النهي للتحريم لما فيها من اللوم الشديد مع الندم والاستغفار المفهوم مما يأتي‏.‏ والأكثرون على أن النهي هنا للتنزيه وندمهما واستغفارهما على ترك الأولى وهو في نظرهما عظيم وقد يلام عليه أشد اللوم إذا كان فاعله من المقربين‏.‏