فصل: تفسير الآية رقم (57)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏وَهُوَ الذى يُرْسِلُ الرياح‏}‏ عطف على الجملة السابقة أو على حديث خلق السموات والأرض‏.‏ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي ‏{‏الريح‏}‏ على الوحدة وهو متحمل لمعنى الجنسية فيطلق على الكثير‏.‏ وخبر «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» مخرج على قراءة الأكثرين ‏{‏بَشَرًا‏}‏ بضم الموحدة وسكون الشين مخفف بشراً بضمتين جمع بشير كنذر ونذير أي مبشرات وهي قراءة عاصم‏.‏ وروي عنه أيضاً ‏{‏بَشَرًا‏}‏ على الأصل‏.‏ وقرىء بفتح الباء على أنه مصدر بشره بالتخفيف بمعنى بشره المشدد‏.‏ والمراد باشرات أو للبشارة‏.‏ وقرىء ‏{‏بُشْرىً‏}‏ كحبلى وهو مصدر أيضاً من البشارة‏.‏ وقرأ أهل المدينة والبصرة ‏{‏نَشْراً‏}‏ بضم النون والشين جمع نشور بفتح النون بمعنى ناشر، وفعول بمعنى فاعل يطرد جمعه كذلك كصبور وصبر، ولم يجعل جمع ناشر كبازل وبزل لأن جمع فاعل على فعل شاذ‏.‏ واختلف في معنى ناشر ففي «الحواشي الشهابية» قيل‏:‏ هو على النسب إما إلى النشر ضد الطي وإما إلى النشور بمعنى الإحياء لأن الريح توصف بالموت والحياة كقوله‏:‏

إني لأرجو أن تموت الريح

فاقعد اليوم واستريح *** كما يصفها المتأخرون بالعلة والمرض‏.‏ ومما يحكى النسيم من ذلك قول بعضهم في شدة الحر‏:‏ أظن نسيم الروض مات لأنه *** له زمن في الروض وهو عليل

وقيل‏:‏ هو فاعل من نشر مطاوع أنشر الله تعالى الميت فنشر وهو ناشر كقوله‏:‏ حتى يقول الناس مما رأوا *** يا عجباً للميت الناشر

قيل‏:‏ ناشر بمعنى منشر أي محيي، وقيل‏:‏ فعول هنا بمعنى مفعول كرسول ورسل وقد جوز ذلك أبو البقاء إلا أنه نادر مفرده وجمعه‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏نَشْراً‏}‏ بضم النون وسكون الشين حيث وقع، والتخفيف في فعل مطرد، وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏نَشْراً‏}‏ بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان‏.‏

‏{‏بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ‏}‏ أي قدام رحمته وهو من المجاز كما نقل عن أبي بكر الأنباري، والمراد بالرحمة كما ذهب إليه غالب المفسرين المطر، وسمي رحمة لما يترتب عليه بحسب جري العادة من المنافع‏.‏ ولا يخفى أن الرحمة في المشهور عامة فإطلاقها على ذلك إن كان من حيث خصوصه مجاز لكونه استعمال اللفظ في غير ما وضع له إذ اللفظ لم يوضع لذلك الخاص بخصوصه وإن كان إطلاقها عليه لا بخصوصه بل باعتبار عمومه‏.‏ وكونه فرداً من أفراد ذلك العام فهو حقيقة لأنه استعمال اللفظ فيما وضع له على ما بين في «شرح التلخيص» وغيره‏.‏ وادعى الشهاب إثبات بعض أهل اللغة كون المطر من معاني الرحمة، وقول ابن هشام في «رسالته» التي ألفها في بيان وجه تذكير ‏{‏قَرِيبٌ‏}‏ المار عن قريب‏:‏ إنا لا نجد أهل اللغة حيث يتكلمون على الرحمة يقولون‏:‏ ومن معانيها المطر فلو كانت موضوعة له لذكروه، قصارى ما فيه عدم الوجدان وهو لا يستدعي عدم الوجود، ومما اشتهر أن المثبت مقدم على النافي ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والمقام ظاهر في إرادة هذا المعنى، وبيان كون الرياح مرسلة أمام ذلك ما قيل‏:‏ إن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب تدره والدبور تفرقه وهذه أحد أنواع الريح المشهورة عند العرب، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن الرياح ثمانية أربع منها عذاب وهي القاصف والعاصف والصرصر والعقيم وأربع منها رحمة وهي الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات‏.‏

والريح من أعظم منن الله تعالى على عباده، وعن كعب الأحبار لو حبس الله تعالى الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر أهل الأرض، وفي بعض الآثار أن الله تعالى خلق العالم وملأه هواء ولو أمسك الهواء ساعة لأنتن ما بين السماء والأرض، وذكر غير واحد من العلماء أنه يكره سب الريح، فقد روى الشافعي عن أبي هريرة قال‏:‏ أخذت الناس ريح بطريق مكة وعمر رضي الله تعالى عنه حاج فاشتدت فقال عمر لمن حوله‏:‏ ما بلغكم في الريح‏؟‏ فلم يرجعوا إليه شيئاً وبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح فاستحثثت راحلتي حتى أدركت عمر وكنت مؤخر الناس فقلت‏:‏ يا أمير المؤمنين أخبرت أنك سألت عن الريح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «الريح من روح الله تعالى تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله تعالى من خيرها واستعيذوا بالله سبحانه من شرها» ولا منافاة بين الآية وهذا الخبر إذ ليس فيها أنه سبحانه لا يرسلها إلا بين يدي الرحمة ولئن سلم فهو خارج مجرى الغالب فإن العذاب بالريح نادر، وقيل‏:‏ ما في الخبر إنما هو الإيتاء بالرحمة والإيتاء بالعذاب لا الإرسال بين يدي كل‏.‏

‏{‏حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ‏}‏ غاية لقوله سبحانه ‏{‏يُرْسِلُ‏}‏ والإقلال كما في مجمع البيان حمل الشيء بأسره واشتقاقه من القلة وحقيقة أقله كما قال بعض المحققين جعله قليلاً أو وجده قليلاً، والمراد ظنه كذلك كأكذبه إذا جعله كاذباً في زعمه ثم استعمل بمعنى حمله لأن الحامل يستقل ما يحمله أي يعده قليلاً، ومن ذلك قولهم‏:‏ جهد المقل أي الحامل ‏{‏سَحَابًا‏}‏ أي غيماً سمي بذلك لانسحابه في الهواء وهو اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء كتمر وتمرة وهو يذكر ويؤنث ويفرد وصفه ويجمع‏.‏ وأهل اللغة كالجوهري وغيره تسميه جمعاً فلذا روعي فيه الوجهان في وصفه وضميره، وجاء في الجمع سحب وسحائب ‏{‏ثِقَالاً‏}‏ من الثقل كعنب ضد الخفة يقال‏:‏ ثقل ككرم ثقلاً وثقالة فهو ثقيل، وثقل السحاب بما فيه من الماء ‏{‏سقناه لِبَلَدٍ مَّيّتٍ‏}‏ أي لأجله ومنفعته أو لإحيائه أو لسقيه كما قيل‏.‏

وفي «البحر» أن اللام للتبليغ كما في قلت لك، وفرق بين سقت لك مالاً وسقت لأجلك مالاً بأن الأول‏:‏ معناه أوصلت لك ذلك وأبلغتكه‏.‏ والثاني‏:‏ لا يلزم منه وصوله إليه، والبلد كما قال الليث كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون والطائفة منه بلدة والجمع بلاد، وتطلق البلدة على المفازة ومنه قول الأعشى‏:‏ وبلدة مثل ظهر الترس موحشة *** للجن بالليل في حافاتها زجل

‏{‏فَأَنزَلْنَا بِهِ الماء‏}‏ أي بالبلد أو السحاب كما قال الزجاج وابن الأنباري أو بالسوق أو الرياح كما قيل، والتذكير بتأويل المذكور وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ ويحتمل أن يعود الضمير إلى الماء وهو الظاهر لقربه لفظاً ومعنى، ومطابقة النظائر وانفكاك الضمائر لا بأس به إذا قام الدليل عليه وحسن الملاءمة‏.‏ وإذا كان للبلد فالباء للظرفية في الثاني وللإلصاق في الأول لأن الإنزال ليس في البلد بل المنزل، وجوز الظرفية أيضاً كما في رميت الصيد في الحرم على ما علمت فيما مر، وإذا كان لغيره فهي للسببية وتشمل القريبة والبعيدة‏.‏ ‏{‏مِن كُلّ الثمرات‏}‏ أي من كل أنواعها لأن الاستغراق غير مراد ولا واقع، وهذا أبلغ في إظهار القدرة المراد، وقيل‏:‏ إن الاستغراق عرفي والظاهر أن المراد التكثير، وجوز بعضهم أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ للتبعيض وأن تكون لتبيين الجنس‏.‏

‏{‏كذلك نُخْرِجُ الموتى‏}‏ إشارة إلى إخراج الثمرات أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوى النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات نخرج الموتى من الأرض ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس كذا قالوا، وهو إشارة كما قيل إلى طريقي القائلين بالمعاد الجسماني وهما إيجاد البدن بعد عدمه ثم إحياؤه وضم بعض أجزائه إلى بعض على النمط السابق بعد تفرقها ثم إحياؤه‏.‏ واستظهر الأول بأن المتبادر من الآية كون التشبيه بين الإخراجين من كتم العدم، والثاني يحتاج إلى تمحل تقدير الإحياء واعتبار جمع الأجزاء مع أنه غير معتبر في جانب المشبه به، وجوز أن يرجع ما في الشق الثاني من الإحياء برد النفوس الخ إلى الأول، وأنت تعلم أنه لا مانع من الإخراج من كتم العدم، وأدلة استحالة ذلك مما لا تقوم على ساق وقدم إلا أن الأدلة النقلية على كل من الطريقين متجاذبة، وإذا صح القول بالمعاد الجسماني فلا بأس بالقول بأي كان منهما، وكون إخراج الثمرات من كتم العدم قد لا يسلم فإن لها أصلاً في الجملة على أن إخراج الموتى عند القائلين بالطريق الأول إعادة وليس إخراج الثمرات كذلك إذ لم يكن لها وجود قبل، نعم كون الأظهر أن التشبيه بين الإخراجين مما لا مرية فيه، وفي «الخازن» اختلفوا في وجه التشبيه فقيل‏:‏ إن الله تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال المطر كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال المطر أيضاً، فقد روي عن أبي هريرة وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أن الناس إذا ماتوا في النفخة الأولى أمطر عليهم ماء من تحت العرش يدعى ماء الحياة أربعين سنة فينبتون كما ينبت الزرع من الماء‏.‏

وفي رواية أربعين يوماً فينبتون في قبورهم نبات الزرع حتى إذا استكملت أجسادهم تنفخ فيهم الروح ثم يلقى عليهم النوم فينامون في قبورهم فإذا نفخ في الصور النفخة الثانية عاشوا ثم يحشرون من قبورهم ويجدون طعم النوم في رؤوسهم وأعينهم كما يجد النائم حين يستيقظ من نومه فعند ذلك يقولون‏:‏ ‏{‏قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏‏؟‏ فيناديهم المنادي ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏‏.‏ وأخرج غير واحد عن مجاهد أنه إذا أراد الله تعالى أن يخرج الموتى أمطر السماء حتى تشقق عنهم الأرض ثم يرسل سبحانه الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها، فكذلك يحيي الله تعالى الموتى بالمطر كإحيائه الأرض‏.‏ وقيل‏:‏ إنما وقع التشبيه بأصل الإحياء من غير اعتبار كيفية فيجب الإيمان به ولا يلزمنا البحث عن الكيفية ويفعل الله سبحانه ما يشاء ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ فتعلمون أن من قدر على ذلك فهو قادر على هذا من غير شبهة‏.‏ والأصل تتذكرون فطرحت إحدى التاءين، والخطاب قيل‏:‏ للنظار مطلقاً، وقيل‏:‏ لمنكري البعث‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏والبلد الطيب‏}‏ أي الأرض الكريمة التربة التي لا سبخة ولا حرة، واستعمال البلد بمعنى القرية عرف طار، ومن قبيل ذلك إطلاقه على مكة المكرمة ‏{‏يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبّهِ‏}‏ بمشيئته وتيسيره، وهو في موضع الحال، والمراد بذلك أن يكون حسناً وافياً غزير النفع لكونه واقعاً في مقابلة قوله‏:‏ ‏{‏والذى خَبُثَ‏}‏ من البلاد كالسبخة والحرة ‏{‏لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِدًا‏}‏ أي قليلاً لا خير فيه، ومن ذلك قوله‏:‏ لا تنجز الوعد إن وعدت وإن *** أعطيت أعطيت تافهاً نكداً

ونصبه على الحال أو على أنه صفة مصدر محذوف، وأصل الكلام لا يخرج نباته فحذف المضاف إليه وأقيم المضاف مقامه فصار مرفوعاً مستتراً، وجوز أن يكون الأصل ونبات الذي خبث، والتعبير أولاً بالطيب وثانياً بالذي خبث دون الخبيث للإيذان بأن أصل الأرض أن تكون طيبة منبتة وخلافه طار عارض‏.‏ وقرىء ‏{‏يَخْرُجُ نَبَاتُهُ‏}‏ ببناء ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ لما لم يسم فاعله ورفع ‏{‏نَبَاتُ‏}‏ على النيابة عن الفاعل، و‏{‏يَخْرُجُ نَبَاتُهُ‏}‏ ببناء ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ للفاعل من باب الإخراج، ونصب ‏{‏نَبَاتُهُ‏}‏ على المفعولية، والفاعل ضمير البلد، وقيل ضمير الله تعالى أو الماء، وكذا قرىء في ‏{‏يَخْرُجُ‏}‏ المنفي، ونصب ‏{‏نَكِدًا‏}‏ حينئذٍ على المفعولية‏.‏ وقرأ أبو جعفر ‏{‏نَكِدًا‏}‏ بفتحتين على زنة المصدر، وهو نصب على الحال أو على المصدرية أي ذا نكد أو خروجاً نكدا‏.‏ وقرأ ‏{‏نَكِدًا‏}‏ بالإسكان للتخفيف كنزه في قوله‏:‏ فقال لي قول ذي رأي ومقدرة *** مجرب عاقل نزه عن الريب

‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك التصريف البديع ‏{‏نُصَرّفُ الايات‏}‏ أي نردد الآيات الدالة على القدرة الباهرة ونكررها‏.‏ وأصل التصريف تبديل حال بحال ومنه تصريف الرياح‏.‏

‏{‏لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ‏}‏ نعم الله تعالى ومنها تصريف الآيات وشكر ذلك بالتفكر فيها والاعتبار بها، وخص الشاكرين لأنهم المنتفعون بذلك‏.‏ وقال الطيبي‏:‏ ذكر ‏{‏لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ‏}‏ بعد ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ من باب الترقي لأن من تذكر آلاء الله تعالى عرف حق النعمة فشكر، وهذا كما قال غير واحد مثل لمن ينجع فيه الوعظ والتنبيه من المكلفين ولمن لا يؤثر فيه شيء من ذلك‏.‏ أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أن قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والبلد الطيب‏}‏ الخ مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين يقول‏:‏ هو طيب وعمله طيب والذي خبث الخ مثل للكافر يقول‏:‏ هو خبيث وعمله خبيث‏.‏ وأخرج ابن جرير عن مجاهد أن هذا مثل ضربه الله تعالى لآدم عليه السلام وذريته كلهم إنما خلقوا من نفس واحدة فمنهم من آمن بالله تعالى وكتابه فطاب ومنهم من كفر بالله تعالى وكتابه فخبث‏.‏

أخرج أحمد والشيخان والنسائي عن أبي موسى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مثل ما بعثني الله تعالى به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله تعالى بها الناس فشربوا منها وسقوا وزرعوا وأصاب منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله تعالى ونفعه ما بعثني الله تعالى به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله تعالى الذي أرسلت به ‏"‏ وإيثار خصوص التمثيل بالأرض الطيبة والخبيثة استطراد عقيب ذكر المطر وإنزاله بالبلد وموازنة بين الرحمتين كما في «الكشف»، ولقربه من الاعتراض جىء بالواو في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والبلد الطيب‏}‏ وفيه إشارة إلى معنى ما ورد في «صحيح مسلم» عن عياض المجاشعي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته عن الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ‏"‏‏.‏ وفي «صحيح البخاري» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ‏"‏ ووجه الإشارة قد مرت الإشارة إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ‏(‏59‏)‏‏}‏

ثم إنه سبحانه وتعالى عقب ذلك بما يحققه ويقرره من قصص الأمم الخالية والقرون الماضية وفي ذلك أيضاً تسلية لرسوله عليه الصلاة والسلام فقال جل شأنه‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ‏}‏ وهو جواب قسم محذوف أي والله لقد أرسلنا الخ، واطرد استعمال هذه اللام مع قد في الماضي على ما قال الزمخشري وقل الاكتفاء بها وحدها نحو قوله‏:‏ حلفت لها بالله حلفة فاجر *** لناموا فما ان من حديث ولا صالي

والسر في ذلك أن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيداً للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة ‏(‏لتوقع المخاطب حصول المقسم عليه‏)‏ لأن القسم دل على الاهتمام فناسب ذلك إدخال قد، ونقل عن النحاة أنهم قالوا‏:‏ إذا كان جواب القسم ماضياً مثبتاً متصرفاً فإما أن يكون قريباً من الحال فيؤتى بقد وإلا أثبت باللام وحدها فجوزوا الوجهين باعتبارين، ولم يؤت هنا بعاطف وأتى به في هود ‏(‏52‏)‏‏.‏ والمؤمنين ‏(‏32‏)‏‏.‏ على ما قال الكرماني‏:‏ لتقدم ذكر نوح صريحاً في هود وضمناً في المؤمنين حيث ذكر فيها قبل ‏{‏وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 22‏]‏ وهو عليه السلام أول من صنعها بخلاف ما هنا‏.‏

ونوح بن لمك بفتحتين وقيل‏:‏ بفتح فسكون، وقيل‏:‏ ملكان بميم مفتوحة ولام ساكنة ونون آخره‏.‏ وقيل‏:‏ لامك كهاجر بن متوشلخ بضم الميم وفتح التاء الفوقية والواو وسكون الشين المعجمة على وزن المفعول كما ضبطه غير واحد‏.‏ وقيل‏:‏ بفتح الميم وضم المثناة الفوقية المشددة وسكون الواو ولام مفتوحة وخاء معجمة ابن أخنوخ بهمزة مفتوحة أوله وخاء معجمة ساكنة ونون مضمومة وواو ساكنة وخاء أيضاً، ومعناه في تلك اللغة على ما قيل القراء‏.‏ وقيل‏:‏ خنوخ بإسقاط الهمزة وهو إدريس عليه السلام‏.‏ أخرج ابن إسحاق‏.‏ وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ بعث نوح عليه السلام في الألف الثاني وإن آدم عليه السلام لم يمت حتى ولد له نوح في آخر الألف الأول‏.‏ وأخرجا عن مقاتل‏.‏ وجويبر أن آدم عليه السلام حين كبر ودق عظمه قال‏:‏ يا رب إلى متى أكد وأسعى‏؟‏ قال يا آدم حتى يولد لك ولد مختون فولد له نوح بعد عشرة أبطن وهو يومئذٍ ابن ألف سنة إلا ستين عاماً‏.‏ وبعث على ما روي عن ابن عباس على رأس ‏(‏أربعمائة‏)‏ سنة، وقال مقاتل‏:‏ وهو ابن مائة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ وهو ابن خمسين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ وهو ابن مائتين وخمسين سنة ومكث يدعو قومه تسعمائة وخمسين سنة‏.‏ وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين فكان عمره ألفاً وأربعمائة وخمسين سنة‏.‏ وبعث كما روى ابن أبي حاتم وابن عساكر عن قتادة من الجزيرة‏.‏

وهو أول نبي عذب الله تعالى قومه وقد لقي منهم ما لم يلقه نبي من الأنبياء عليهم السلام‏.‏

واختلف في عموم بعثته عليه السلام ابتداء مع الاتفاق على عمومها انتهاء حيث لم يبق بعد الطوفان سوى من كان معه في السفينة، ولا يقدح القول بالعموم في كون ذلك من خواص نبينا صلى الله عليه وسلم لأن ما هو من خواصه عليه الصلاة والسلام عموم البعثة لكافة الثقلين الجن والإنس وذلك مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة فيكفر منكره بل وكذا الملائكة كما رجحه جمع محققون كالسبكي ومن تبعه وردوا على من خالف ذلك وصريح آية ‏{‏لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1‏]‏ إذ العالم ما سوى الله تعالى، وخبر مسلم ‏"‏ وأرسلت إلى الخلق كافة ‏"‏ يؤيد ذلك بل قال البارزي‏:‏ إنه صلى الله عليه وسلم أرسل حتى للجمادات بعد جعلها مدركة‏.‏ وفائدة الإرسال للمعصوم وغير المكلف طلب إذعانهما لشرفه ودخولهما تحت دعوته واتباعه تشريفاً على سائر المرسلين ولا كذلك بعثة نوح عليه السلام‏.‏ والفرق مثل الصبح ظاهر‏.‏ وهو كما في «القاموس» «اسم أعجمي صرف لخفته»، وجاء عن ابن عباس وعكرمة وجويبر ومقاتل أنه عليه السلام إنما سمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه‏.‏ واختلف في سبب ذلك فقيل‏:‏ هو دعوته على قومه بالهلاك‏.‏ وقيل‏:‏ مراجعته ربه في شأن ابنه كنعان‏.‏ وقيل‏:‏ إنه مر بكلب مجذوم فقال له‏:‏ اخسأ يا قبيح فأوحى الله إليه أعبتني أم عبت الكلب‏.‏ وقيل‏:‏ هو إصرار قومه على الكفر فكان كلما دعاهم وأعرضوا بكى وناح عليهم‏.‏ قيل‏:‏ وكان اسمه قبل السكن لسكون الناس إليه بعد آدم عليه السلام‏.‏ وقيل‏:‏ عبد الجبار‏.‏ وأنا لا أعول على شيء من هذه الأخبار والمعول عليه عندي ما هو الظاهر من أنه اسم وضع له حين ولد، وليس مشتقاً من النايحة‏.‏ وأنه كما قال صاحب «القاموس2‏.‏

‏{‏فَقَالَ ياقوم قَوْمٌ اعبدوا الله‏}‏ أي وحده، وترك التقييد به للإيذان بأنها العبادة حقيقة وأما العبادة مع الإشراك فكلا عبادة ولدلالة قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَكُم مّنْ إله‏}‏ أي مستحق للعبادة ‏{‏غَيْرُهُ‏}‏ عليه، وهو استئناف مسوق لتعليل العبادة المذكورة أو الأمر بها و‏{‏مِنْ‏}‏ صلة و‏{‏غَيْرُهُ‏}‏ بالرفع وهي قراءة الجمهور صفة ‏{‏إِلَهٍ‏}‏ أو بدل منه باعتبار محله الذي هو الرفع على الابتداء أو الفاعلية‏.‏ وقرأ الكسائي بالجر باعتبار لفظه، وقرىء شاذاً بالنصب على الاستثناء، وحكم غير كما في «المفصل» حكم الاسم الواقع بعد إلا وهو المشهور أي مالكم إله إلا إياه كقولك‏:‏ ما في الدار ‏(‏من‏)‏ أحد إلا زيداً أو غير زيد، و‏{‏إِلَهٍ‏}‏ إن جعل مبتدأ فلكم خبره أو خبره محذوف و‏{‏لَكُمْ‏}‏ للتخصيص والتبيين أي مالكم في الوجود أو في العالم إله غير الله تعالى‏.‏

‏{‏إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ‏}‏ إن لم تعبدوا حسبما أمرت به‏.‏ وتقدير إن لم تؤمنوا لما أن عبادته سبحانه وتعالى تستلزم الإيمان به وهو أهم أنواعها وإنما قال عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَخَافُ‏}‏ ولم يقطع حنوا عليهم واستجلاباً لهم بلطف‏.‏ ‏{‏عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ هو يوم القيامة أو يوم الطوفان لأنه أعلم بوقوعه إن لم يمتثلوا، والجملة كما قال شيخ الإسلام تعليل للعبادة ببيان الصارف عن تركها إثر تعليلها ببيان الداعي إليها، ووصف اليوم بالعظم لبيان عظم ما يقع فيه وتكميل الإنذار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ الملا مِن قَوْمِهِ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية قوله عليه السلام ونصحه لقومه كأنه قيل‏:‏ فماذا قالوا بعد ما قيل لهم ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ قال الخ‏.‏ والملأ على ما قال الفراء الجماعة من الرجال خاصة‏.‏ وفسره غير واحد بالأشراف الذين يملأون القلوب بجلالهم والأبصار بجمالهم والمجالس بأتباعهم، وقيل‏:‏ سموا ملأ لأنهم مليون قادرون على ما يراد منهم من كفاية الأمور ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال‏}‏ أي ذهاب عن طريق الحق، والرؤية قلبية ومفعولاها الضمير والظرف؛ وقيل‏:‏ بصرية فيكون الظرف في موضع الحال ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ أي بين كونه ضلالاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف على طرز سابقه ‏{‏عَلَيْهِ قَوْمٌ‏}‏ ناداهم بإضافتهم إليه استمالة لهم نحو الحق ‏{‏لَيْسَ بِى ضلالة‏}‏ نفي للضلال عن نفسه الكريمة على أبلغ وجه فإن التاء للمرة لأن مقام المبالغة في الجواب لقولهم الأحمق يقتضي ذلك والوحدة المستفادة منه باعتبار أقل ما ينطلق فيرجع حاصل المعنى ليس بي أقل قليل من الضلال فضلاً عن الضلال المبين، وما يتخايل من أن نفي الماهية أبلغ فإن نفي الشيء مع قيد الوحدة قد يكون بانتفاء الوحدة إلى الكثرة مضمحل بما حقق أن الوحدة ليست صفة مقيدة بل اللفظ موضوع للجزء الأقل وهو الواحد المتحقق مع الكثرة ودونها على أن ملاحظة قيد الوحدة في العام في سياق النفي مدفوع، وكفاك لا رجل شاهداً فإنه موضوع للواحد من الجنس وبذلك فرق بينه وبين أسامة فإذا وقع عاماً لا يلحظ ذلك‏.‏ ولو سلم جواز أن يقال ليس به ضلالة أي ضلالة واحدة بل ضلالات متنوعة ابتداء لكن لا يجوز في مقام المقابلة كما نحن فيه قاله في «الكشف» وبه يندفع ما أورد على «الكشاف» في هذا المقام‏.‏

وفي «المثل السائر» الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي تكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ كما في هذه الآية، ولا يظن أنه لما كان الضلال والضلالة مصدرين من قولك‏:‏ ضل يضل ضلالاً وضلالة كان القولان سواء لأن الضلالة هنا ليست عبارة عن المصدر بل عن المرة والنفي كما علمت، وإنما بالغ عليه السلام في النفي لمبالغتهم في الإثبات حيث جعلوه وحاشاه مستقراً في الضلال الواضح كونه ضلالاً‏.‏

وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين‏}‏ استدراك على ما قبله رافع لما يتوهم منه، وذلك على ما قيل أن القوم لما أثبتوا له الضلال أرادوا به ترك دين الآباء ودعوى الرسالة فحين نفى الضلالة توهم منه أنه على دين آبائه وترك دعوى الرسالة فوقع الإخبار بأنه رسول وثابت على الصراط المستقيم استدراكاً لذلك، وقيل‏:‏ هو استدراك مما قبله باعتبار ما يستلزمه من كونه في أقصى مراتب الهداية فإن رسالته من رب العالمين مستلزمة له لا محالة كأنه قيل وليس بي شيء من الضلالة لكني في الغاية القاصية من الهداية، وحاصل ذلك على ما قرره الطيبي أن لكن حقها أن تتوسط بين كلامين متغايرين نفياً وإثباتاً والتغاير هنا حاصل من حيث المعنى كما في قولك‏:‏ جاءني زيد لكن عمراً غاب، وفائدة العدول عن الظاهر إرادة المبالغة في إثبات الهداية على أقصى ما يمكن كما نفى الضلالة كذلك، وسلك طريق الإطناب لأن هذا الاستدراك زيادة على الجواب إذ قوله‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِى ضلالة‏}‏ كان كافياً فيه فيكون من الأسلوب الحكيم الوارد على التخلص إلى الدعوة على وجه الترجيع المعنوي لأنه بدأ بالدعوة إلى إثبات التوحيد وإخلاص العبادة لله تعالى فلما أراد إثبات الرسالة لم يتمكن لما اعترضوا عليه من قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ‏}‏ فانتهز الفرصة وأدمج مقصوده في الجواب على أحسن وجه حيث أخرجه مخرج الملاطفة والكلام المنصف يعني دعوا نسبة الضلال إلي وانظروا ما هو أهم لكم من متابعة ناصحكم وأمينكم ورسول رب العالمين ألا ترى أن صالحاً عليه السلام لما لم يعترضوا عليه عقب بإثبات الرسالة إثبات التوحيد؛ ففي هذه الآية خمسة من أنواع البديع فإذا اقتضى المقام هذا الإطناب كان الاقتصار على العبارة الموجزة تقصيراً انتهى‏.‏

ولا يخفى أن هذا الاستدراك غير الاستدراك بالمعنى المشهور‏.‏ وقد ذكر غير واحد من علماء العربية أن الاستدراك في لكن أن تنسب لما بعدها حكماً مخالفاً لما قبلها سواء تغايرا إثباتاً ونفياً أو لا، وفسره صاحب «البسيط» وجماعة برفع ما توهم ثبوته، وتمام الكلام فيه في «المغني»، واعتبار اللازم لتحصيل الاستدراك بالمعنى الثاني مما لا يكاد يقبل لأنه لا يذهب وهم واهم من نفي الضلالة إلى نفي الهداية حتى يحتاج إلى تداركه، ووجهه بعضهم من دون اعتبار اللازم بأنه عليه السلام لما نفى الضلالة عن نفسه فربما يتوهم المخاطب انتفاء الرسالة أيضاً كما انتفى الضلالة فاستدركه بلكن كما في قولك زيد ليس بفقيه لكنه طبيب، وأنت تعلم أن هذا إن لم يرجع إلى ما قرر أولاً فليس بشيء، وقيل‏:‏ إنه إذا انتفى أحد المتقابلين يسبق الوهم إلى انتفاء المقابل الآخر لا إلى انتفاء الأمور التي لا تعلق لها به، ولهذا يؤول ما وقع في معرض الاستدراك بما يقابل الضلال مثلاً يقال‏:‏ زيد ليس بقائم لكنه قاعد ولا يقال‏:‏ لكنه شارب إلا بعد التأويل بأن الشارب يكون قاعداً، وقال بعض فضلاء الروم‏:‏ النظر الصائب في هذا الاستدراك أن يكون مثل قوله‏:‏ ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

وقوله‏:‏ هو البدر إلا أنه البحر زاخرا *** سوى أنه الضرغام لكنه الوبل

كأنه قيل‏:‏ ليس بي ضلالة وعيب سوى أني رسول من رب العالمين، وأنت تعلم أن هذا النوع يقال له عندهم تأكيد المدح بما يشبه الذم وهو قسمان ما يستثنى فيه من صفة ذم منفية عن الشيء صفة مدح لذلك الشيء بتقدير دخولها في صفة الذم المنفية‏.‏ وما يثبت فيه لشيء صفة مدح ويتعقب ذلك بأداة استثناء يليها صفة مدح أخرى لذلك، والظاهر أن ما في الآية من القسم الأول إلا أنه غير غني عن التأويل فتأمل‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ فيها لابتداء الغاية مجازاً متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة ما يفيده التنوين من الفخامة الذاتية كأنه قيل‏:‏ إني رسول وأي رسول كائن من رب العالمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏62‏]‏

‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ‏(‏62‏)‏‏}‏

‏{‏أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى‏}‏ استئناف مسوق لتقرير رسالته وتفصيل أحكامها وأحوالها‏.‏ وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون صفة أخرى لرسول على المعنى لأنه عبارة عن الضمير في ‏(‏إني‏)‏ وهذا كقول علي كرم الله تعالى وجهه حين بارز مرحباً اليهودي يوم خيبر‏:‏

أنا الذي سمتني أمي حيدره *** كليث غابات كريه المنظره

أو فيهم بالصاع كيل السندره *** حيث لم يقل سمته حملاً له على المعنى لأمن اللبس، وأوجب بعضهم الحمل على الاستئناف زعماً منه أن ما ذكر قبيح حتى قال المازني‏:‏ لولا شهرته لرددته، وتعقب ذلك الشهاب بأن ما ذكره المازني في صلة الموصول لا في وصف النكرة فإنه وارد في القرآن مثل ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 55‏]‏ وقد صرح بحسنه في «كتب النحو والمعاني»، على أن ما ذكره في الصلة أيضاً مردود عند المحققين وإن تبعه فيه ابن جني حتى استرذل قول المتنبي‏:‏

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي *** وفي «الانتصاف» أنه حسن في الاستعمال وكلام أبي الحسن أصدق شاهد على ما قال وعلى حسن كلام ابن الحسين، وهذا كما قال الشهاب إذا لم يكن الضمير مؤخراً نحو الذي قرى الضيوف أنا أو كان للتشبيه نحو أنا في الشجاعة الذي قتل مرحباً‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏{‏أُبَلّغُكُمْ‏}‏ بتسكين الباء وتخفيف اللام من الإبلاغ، وجمع الرسالات مع أن رسالة كل نبي واحدة وهو مصدر والأصل فيه أن لا يجمع رعاية لاختلاف أوقاتها أو تنوع معاني ما أرسل عليه السلام به أو أنه أراد رسالته ورسالة غيره ممن قبله من الأنبياء كإدريس عليه السلام وقد أنزل عليه ثلاثون صحيفة، وشيث عليه السلام وقد أنزل عليه خمسون صحيفة، ووضع الظاهر موضع الضمير وتخصيص ربوبيته تعالى له عليه السلام بعد بيان عمومها للعالمين للإشعار بعلة الحكم الذي هو تبليغ رسالته تعالى إليهم فإن ربوبيته تعالى له من موجبات امتثاله بأمره تعالى بتبليغ رسالته‏.‏

‏{‏وَأَنصَحُ لَكُمْ‏}‏ أي أتحرى ما فيه صلاحكم بناءً على أن النصح تحري ذلك قولاً أو فعلاً، وقيل‏:‏ هو تعريف وجه المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى هنا أبلغكم أوامر الله تعالى ونواهيه وأرغبكم في قبولها وأحذركم عقابه إن عصيتموه، وأصل النصح في اللغة الخلوص يقال‏:‏ نصحت العسل إذا خلصته من الشمع، ويقال‏:‏ هو مأخوذ من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه شبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بفعل الخياط فيما يسد من خلل الثوب، وقد يستعمل لخلوص المحبة للمنصوح له والتحري فيما يستدعيه حقه، وعلى ذلك حمل ما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن تميم الداري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«إن الدين النصيحة قلنا‏:‏ لمن يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ويقال‏:‏ نصحته ونصحت له كما يقال‏:‏ شكرته وشكرت له، قيل‏:‏ وجىء باللام هنا ليدل الكلام على أن الغرض ليس غير النصح وليس النصح لغيرهم بمعنى أن نفعه يعود عليهم لا عليه عليه السلام كقوله‏:‏ ‏{‏مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 57‏]‏ وهذا مبني على أن اللام للاختصاص لا زائدة، وظاهر كلام البعض يشعر بأنها مع ذلك زائدة وفيه خفاء‏.‏ وصيغة المضارع للدلالة على تجدد نصحه عليه السلام لهم كما يفصح عنه قوله‏:‏ ‏{‏رَبّ إِنّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلاً وَنَهَاراً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 5‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ‏}‏ عطف على ما قبله وتقرير لرسالته عليه السلام أي أعلم من قبله تعالى بالوحي أشياء لا علم لكم بها من الأمور الآتية‏.‏ فمن لابتداء الغاية مجازاً أو أعلم من شؤونه عز وجل وقدرته القاهرة وبطشه الشديد على من لم يؤمن به ويصدق برسله ما لا تعلمونه‏.‏ فمن إما للتبعيض أو بيانية لما، ولا بد في الوجهين من تقدير المضاف، قيل‏:‏ كانوا لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم فكانوا آمنين غافلين لا يعلمون ما علمه نوح عليه السلام فهم أول قوم عذبوا على كفرهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏63‏]‏

‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏

‏{‏عَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ رد لما هو منشأ لقولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضلال مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 60‏]‏ والاستفهام للإنكار أي لم كان ذلك ولا داعي له‏.‏ والواو للعطف على مقدر ينسحب عليه الكلام، ويقدر عند الزمخشري وأتباعه بين الهمزة وواو العطف كأنه قيل‏:‏ استبعدتم وعجبتم‏.‏ ومذهب سيبويه والجمهور أن الهمزة من جملة أجزاء المعطوف إلا أنها قدمت على العاطف تنبيهاً على أصالتها في التصدير‏.‏ وضعف قول الأولين بما فيه من التكلف لدعوى حذف الجملة فإن قوبل بتقديم بعض المعطوف فقد يقال‏:‏ إنه أسهل منه لأن المتجوز فيه أقل لفظاً‏.‏ وفيه تنبيه على أصالة شيء في شيء وبأنه غير مطرد في نحو ‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وتحقيقه في محله و‏{‏أَن جَاءكُمْ‏}‏ بتقدير بأن لأن الفعل السابق يتعدى بها؛ والمراد بالذكر ما أرسل به كما قيل للقرآن ذكر ويفسر بالموعظة‏.‏ ومن للابتداء والجار والمجرور متعلق بجاء أو بمحذوف وقع صفة لذكر أي ذكر كائن من مالك أموركم ومربيكم‏.‏

‏{‏على رَجُلٍ مّنكُمْ‏}‏ أي من جملتكم تعرفون مولده ومنشأه أو من جنسكم فمن تبعيضية أو بيانية كما قيل و‏{‏على‏}‏ متعلقة بجاء بتقدير مضاف أي على يد أو لسان رجل منكم أي بواسطته، وقيل‏:‏ على بمعنى مع فلا حاجة إلى التقدير، وقيل‏:‏ تعلقه به لأن معناه أنزل كما يشير إليه كلام أبي البقاء أو لأنه ضمن معناه، وجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏ذُكِرَ‏}‏ أي نازلاً على رجل منكم‏.‏

‏{‏لِيُنذِرَكُمْ‏}‏ علة للمجىء أي ليحذركم العذاب والعقاب على الكفر والمعاصي ‏{‏وَلِتَتَّقُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏لِيُنذِرَكُمْ‏}‏ وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ على ما هو الظاهر فالمجىء معلل بثلاثة أشياء وليس من توارد العلل على معلول واحد الممنوع وبينها ترتب في نفس الأمر فإن الإنذار سبب للتقوى والتقوى سبب لتعلق الرحمة بهم، وليس في الكلام دلالة على سببية كل من الثلاثة لما بعده ولو أريدت السببية لجيء بالفاء‏.‏ وبعضهم اعتبر عطف ‏{‏لتتقوا‏}‏ على ‏{‏مّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ‏}‏ و‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ على ‏{‏لتتقوا‏}‏ مع ملاحظة الترتب أي لتتقوا بسبب الإنذار ولعلكم ترحمون بسبب التقوى فليتأمل‏.‏ وجىء بحرف الترجي على عادة العظماء في وعدهم أو للتنبيه على عزة المطلب وأن الرحمة منوطة بفضل الله تعالى فلا اعتماد إلا عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏

‏{‏مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ‏}‏ أي استمروا على تكذيبه وأصروا بعد أن قال لهم ما قال ودعاهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً ‏{‏فأنجيناه‏}‏ من الغرق، والإنجاء في الشعراء من قصد أعداء الله تعالى وشؤم ما أضمروه له عليه السلام ‏{‏والذين مَعَهُ‏}‏ من المؤمنين‏.‏ وكانوا على ما قيل‏:‏ أربعين رجلاً وأربعين امرأة‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا ‏(‏عشرة‏)‏ أبناؤه الثلاثة وستة ممن آمن به عليه السلام، والفاء للسببية باعتبار الإغراق لا فصيحة‏.‏ وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏فِى الفلك‏}‏ أي السفينة متعلق بما تعلق به الظرف الواقع صلة أي استقروا معه في الفلك‏.‏ وجوز أن يكون هو الصلة و‏{‏مَعَهُ‏}‏ متعلق بما تعلق به وأن يكون متعلقاً بأنجينا و‏{‏فِى‏}‏ ظرفية أو سببية وأن يكون متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏الذين‏}‏ نفسه أو من ضميره‏.‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُ فأنجيناه والذين مَعَهُ‏}‏ أي استمروا على تكذيبها، والمراد به ما يعم أولئك الملأ وغيرهم من المكذبين المصرين‏.‏ وتقديم الإنجاء على الإغراق للمسارعة إلى الإخبار به والإيذان بسبق الرحمة على الغضب ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ‏}‏ أي عمى القلوب عن معرفة التوحيد والنبوة والمعاد كما روي عن ابن عباس أو عن نزول العذاب بهم كما نقل عن مقاتل‏.‏ وقرىء ‏{‏عَامَيْنِ‏}‏ والأول أبلغ لأنه صفة مشبهة فتدل على الثبوت وأصله عميين فخفف، وفرق بعضهم بين عم وعام بأن الأول لعمى البصيرة والثاني لعمى البصر‏.‏ وأنشدوا قول زهير‏:‏ وأعلم علم اليوم والأمس قبله *** ولكنني عن علم ما في غد عمي

وقيل‏:‏ هما سواء فيهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏65‏]‏

‏{‏وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى عَادٍ‏}‏ متعلق بمضمر معطوف على ‏{‏أَرْسَلْنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ يما سبق وهو الناصب لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أخاهم‏}‏ أي وأرسلنا إلى عاد أخاهم، وقيل‏:‏ لا إضمار والمجموع معطوف على المجموع السابق والعامل الفعل المتقدم‏.‏ وغير الأسلوب لأجل ضمير ‏{‏أخاهم‏}‏ إذ لو أتى به على سنن الأول عاد الضمير على متأخر لفظاً ورتبة‏.‏ وعاد في الأصل اسم لأبي القبيلة ثم سميت به القبيلة أو الحي فيجوز فيه الصرف وعدمه كما ذكره سيبويه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُودًا‏}‏ بدل من ‏{‏أخاهم‏}‏ أو عطف بيان له واشتهر أنه اسم عربي، وظاهر كلام سيبويه أنه أعجمي وأيد بما قيل‏:‏ إن أول العرب يعرب وهو هود بن الخ بن ارفخشد بن سام بن نوح وعليه محمد بن إسحاق‏.‏ وبعض القائلين بهذا قالوا‏:‏ إن نوحاً ابن عم أبي عاد، وقيل‏:‏ ابن عوص بن أرم بن سام بن نوح، وقيل‏:‏ ابن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن أرم بن سام بن نوح عليه السلام‏.‏ ومعنى كونه عليه السلام أخاهم أنه منهم نسباً وهو قول الكثير من النسابين‏.‏ ومن لا يقول به يقول‏:‏ إن المراد صاحبهم وواحد في جملتهم وهو كما يقال يا أخا العرب‏.‏ وحكمة كون النبي يبعث إلى القوم منهم أنهم أفهم لقوله من قول غيره وأعرف بحاله في صدقه وأمانته وشرف أصله‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف بياني كأنه قيل‏:‏ فماذا قال لهم حين أرسل إليهم‏؟‏ فقيل‏:‏ قال الخ‏.‏ ولم يؤت بالفاء كما أتى بها في قصة نوح لأن نوحاً كان مواظباً على دعوة قومه غير مؤخر لجواب شبهتهم لحظة واحدة وهود عليه السلام لم يكن مبالغاً إلى هذا الحد فلذا جاء التعقيب في كلام نوح ولم يجىء هنا‏.‏ وذكر صاحب «الفرائد» في التفرقة بين القصتين أن قصة نوح عليه السلام ابتداء كلام فالسؤال غير مقتضي الحال وأما قصة هود فكانت معطوفة على قصة نوح فيمكن أن يقع في خاطر السامع أقال هود ما قال نوح أم قال غيره‏؟‏ فكان مظنة أن يسئل ماذا قال لقومه‏؟‏ فقيل‏:‏ قال الخ‏.‏ وقيل‏:‏ اختير الفصل هنا لإرادة استقلال كل من الجمل في معناه حيث أن كفر هؤلاء أعظم من كفر قوم نوح من حيث إنهم علموا ما فعل الله تعالى بالكافرين وأصروا وقوم نوح لم يعلموا‏.‏ ويدل على علمهم بذلك ما سيأتي في ضمن الآيات وفيه نظر‏.‏ ‏{‏يَابَنِى إسراءيل اعبدوا الله‏}‏ وحده كما يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَالَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ فإنه استئناف جار مجرى البيان للعبادة المأمور بها والتعليل لها أو للأمر كأنه قيل‏:‏ خصوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئاً إذ ليس لكم إله سواه‏.‏

وقرىء ‏{‏غَيْرِ‏}‏ بالحركات الثلاث كالذي قبل‏.‏

‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ إنكار واستبعاد لعدم اتقائهم عذاب الله تعالى بعد ما علموا ما حل بقوم نوح عليه السلام، وقيل‏:‏ الاستفهام للتقرير والفاء للعطف، وقد تقدم الكلام فيه آنفاً وفي سورة هود ‏(‏15‏)‏ ‏{‏أَفَلاَ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏(‏ولعله عليه السلام كما قال شيخ الإسلام خاطبهم بكل منهما و‏(‏ قد‏)‏ اكتفى بحكاية كل منهما في موطن عن حكايته في موطن آخر كما لم يذكر ههنا ما ذكر هناك من قوله‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 50‏]‏ وقس على ذلك حال بقية ما ذكر وما لم يذكر من أجزاء القصة بل حال نظائره في سائر القصص لا سيما في المحاورات الجارية في الأوقات المتعددة‏)‏‏.‏ وقال غير واحد‏:‏ إنما قيل ههنا‏:‏ ‏{‏أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ وفيما تقدم من مخاطبة نوح عليه السلام قومه ‏{‏إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ لأن هؤلاء قد علموا بما حل بغيرهم من نظرائهم ولم يكن قبل واقعة قوم نوح عليه السلام واقعة، وقيل‏:‏ لأن هؤلاء كانوا أقرب إلى الحق وإجابة الدعوة من قوم نوح عليه السلام وهذا دون ‏{‏إِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ‏}‏ الخ في التخويف، ويرشد إلى ذلك ما تقدم

‏[‏بم مع قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ ‏(‏66‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ الملا الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ‏}‏ حيث قيد هنا الملأ المعاند بمن كفر وأطلق هناك، وقد صرحوا بأن هذا الوصف لأنه لم يكن كلهم على الكفر بل من أشرافهم من آمن به عليه السلام كمرثد بن سعد الذي كان يكتم إيمانه ولا كذلك قوم نوح ومن آمن به عليه السلام منهم لم يكن من الأشراف كما هو الغالب في أتباع الرسل عليهم السلام، وقيل إنه وقت مخاطبة نوح عليه السلام لقومه لم يكونوا آمنوا بخلاف قوم هود ومثله كما قال الشهاب يحتاج إلى نقل‏.‏ واعترض المولى بهاء الدين على تلك التفرقة بين القومين بأنه قد جاء في سورة المؤمنين ‏(‏32‏)‏ وصف قوم نوح بما وصف به قوم هود هنا فكيف تتأتى هذه التفرقة‏؟‏ وأجيب بأن الوصف هناك محمول على أنه للذم لا للتمييز وإنما لم يذم ههنا للإشارة إلى التفرقة‏.‏ وقال الطيبي‏:‏ يمكن أن يقال‏:‏ إن الوصف هنا للذم أيضاً ومقتضى المقام يقتضي ذمهم لشدة عنادهم كما يدل عليه جوابهم بما حكاه الله تعالى من قولهم‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ‏}‏ أي متمكناً في خفة عقل راسخاً فيها حيث فارقت دين آبائك‏.‏

‏{‏وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين‏}‏ حيث ادعيت الرسالة وهو أبلغ من كاذباً كما مرت الإشارة إليه‏.‏ والظن إما على ظاهره كما قال الحسن والزجاج وإما بمعنى العلم كما قيل، وذلك لأنهم قالوا ما قالوا مع كونه عليه السلام معروفاً بينهم بضد ذلك ولا يقتضي ذم قوم نوح عليه السلام وحيث اقتضى في سورة المؤمنين ذمهم ذمهم لأنهم قالوا كما قصه سبحانه وتعالى هناك‏:‏ ‏{‏مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء الله لاَنزَلَ ملائكة مَّا سَمِعْنَا بهذا فِى ءابَائِنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24، 25‏]‏ وقال بعضهم‏:‏ إن الظاهر أن ما نقل هنا عن قوم نوح عليه السلام مقالتهم في مجلس أو مقالة بعضهم وما نقل في سورة المؤمنين مقالتهم في مجلس آخر أو مقالة آخرين فروعي في المقامين مقتضى كل من المقالتين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏67‏]‏

‏{‏قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ عليه السلام مستعطفاً لهم أو مستميلاً لقلوبهم‏:‏ ‏{‏قَالَ ياقوم لَيْسَ بِى سَفَاهَةٌ‏}‏ أي شيء منها فضلاً عن تمكني فيها كما زعمتم ‏{‏وَلَكِنّي رَسُولٌ مِن رَّبّ العالمين‏}‏ والرسالة من قبله تعالى تقتضي الاتصاف بغاية الرشد والصدق، ولم يصرح عليه السلام بنفي الكذب اكتفاءً بما في حيز الاستدراك‏.‏ وقيل‏:‏ الكذب نوع من السفاهة فيلزم من نفيها نفيه، و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية مجازاً وهي متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسول مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏68‏]‏

‏{‏أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ‏(‏68‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أُبَلّغُكُمْ رسالات رَبّى‏}‏ على طرز ما في قصة نوح عليه السلام‏.‏ وقرأ أبو عمرو ‏{‏أُبَلّغُكُمْ‏}‏ بالتخفيف من الإفعال ‏{‏وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ‏}‏ معروف بالنصح والأمانة مشهور بين الناس بذلك فما حقي أن أتهم بشيء مما ذكرتموه؛ وعلى هذا لا يقدر للوصفين متعلق، ويحتمل تقديرهما أي ناصح لكم فيما أدعوكم إليه أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه، وعلى الأول كما قال الطيبي فالجملة مستأنفة وقعت معترضة، وعلى الثاني حالية، وفي العدول عن الفعلية إلى الاسمية ما لا يخفى‏.‏ ولعل التعبير بها هنا وبالفعلية فيما تقدم لتجدد النصح من نوح دون هود عليهما السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏69‏]‏

‏{‏أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏69‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَ عَجبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذكْرٌ مِّنْ رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُل مِّنْكُم ليُنْذرَكُمْ‏}‏ الكلام فيه كالكلام في سابقه‏.‏ وفي إجابة الأنبياء عليهم السلام من يشافههم من الكفرة بالكلمات الحمقاء بما حكى عنهم والإعراض عن مقابلتهم بمثل كلامهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة، وفي حكاية ذلك تعليم للعباد كيف يخاطبون السفهاء وكيف يغضون عنهم ويسبلون أذيالهم على ما يكون منهم، وفي الآية دلالة على جواز مدح الإنسان نفسه للحاجة إليه‏.‏

‏{‏واذكروا إذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ‏}‏ شروع في بيان ترتيب أحكام النصح والأمانة والإنذار وتفصيلها، و‏{‏إذ‏}‏ على ما يفهم من كلام البعض وصرح به آخرون ظرف منصوب بآلاء المحذوف هنا بقرينة ما بعده لتضمنه معنى الفعل، واختار غير واحد تبعاً للزمخشري أنه مفعول لأذكروا أي اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسام، وتوجيه الأمر بالذكر إلى الوقت دون ما وقع فيه مع أنه المقصود بالذات للمبالغة في إيجاب ذكره ولأنه إذا استحضر الوقت كان هو حاضراً بتفاصيله، وهذا مبني على الاتساع في الظرف أو أنه غير لازم للظرفية على خلاف المشهور عند النحويين، والواو للعطف وما بعده قيل‏:‏ معطوف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أعبدوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 65‏]‏ ولا يخفى بعده‏.‏ وقال شيخ الإسلام‏:‏ لعله معطوف على مقدر كأنه قيل‏:‏ لا تعجبوا من ذلك أو تدبروا في أمركم واذكروا إذ جعلكم خلفاء ‏{‏منْ بَعْد قَوْم نُوح‏}‏ أي في مساكنهم أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض فالإسناد على هذا مجاز، وفي ذكر نوح على ما قيل إشارة إلى رفع التعجب يعني هذا الذي جئت به ليس ببدع فاذكروا نوحاً وإرساله إلى قومه وإلى الوعيد والتهديد أي أذكروا إهلاك قومه لتكذيبهم رسول ربهم‏.‏

‏{‏وَزَادَكُمْ في الخلق‏}‏ أي الإبداع والتصوير أو في المخلوقين أي زادكم في الناس على أمثالكم ‏{‏بَسْطَةً‏}‏ قوة وزيادة جسم، قال الكلبي‏:‏ كانت قامة الطويل منهم مائة ذراع وقامة القصير ستين ذراعاً‏.‏ وأخرج ابن عساكر عن وهب أنه قال‏:‏ كانت هامة الرجل منهم مثل القبة العظيمة وعينه يفرخ فيها السباع، وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال‏:‏ ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر ذراعاً، وعن الباقر رضي الله تعالى عنه كانوا كأنهم النخل الطوال وكان الرجل منهم يأتي الجبل فيهدم منه بيده القطعة العظيمة‏.‏ وأخرج عبد الله بن أحمد وابن أبي حاتم عن أبي هريرة إن كان الرجل منهم ليتخذ المصراع من الحجارة لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة لم يستطيعوا أن يقلوه وإن كان أحدهم ليدخل قدمه في الأرض فتدخل فيها‏.‏ وعن بعضهم أن أحدهم كان أطول من سائر الخلق بمقدار ما يمد الإنسان يده فوق رأسه باسطاً لها فطول كل منهم قامة وبسطة وهذا أقرب عند ذوي العقول القصيرة عن إدراك طول يد القدرة‏.‏

وأخرج إسحاق بن بشر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هوداً عليه السلام كان أصبحهم وجهاً وكان في مثل أجسامهم أبيض جعداً بادي العنفقة طويل اللحية صلى الله عليه وسلم، ونصب ‏{‏بسطة‏}‏ على أنه مفعول به للفعل قبله، وقيل‏:‏ تمييز و‏{‏في الخلق‏}‏ متعلق بالفعل، وجوز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالاً من ‏{‏بسطة‏}‏‏.‏

‏{‏فاذكروا ءَالاَءَ الله‏}‏ أي نعمه سبحانه وتعالى وهي جمع إلْي بكسر فسكون كحمل وأحمال أو أُلْي بضم فسكون كقفل وأقفال أو إلى بكسر ففتح مقصوراً كمعى وأمعاء أو بفتحتين مقصوراً كقفا وأقفاء وبهما ينشد قول الأعشى‏:‏ أبيض لا يرهب الهزال ولا *** يقطع رحماً ولا يخون إلا

وقيل‏:‏ إن ما في البيت إلا المشددة لكنها خففت ومعناها العهد وفيه بعد، وهذا تكرير للتذكير لزيادة التقرير وتعميم إثر تخصيص أي أذكروا الآلاء التي من جملتها ما تقدم ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلحُونَ‏}‏ أي لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها الذي من جملته العمل بالأركان والطاعة المؤدي إلى النجاة من الكروب والفوز بالمطلوب وهذا لأن الفلاح لا يترتب على مجرد الذكر‏.‏ ومن الناس من فسر ذكر الآلاء بشكرها وأمر الترتب عليه ظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏70‏]‏

‏{‏قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ‏(‏70‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ مجيبين عن تلك النصائح العظيمة المتضمنة للإنذار على ما أشير إليه‏.‏ ‏{‏أَجئْتَنَا لنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ‏}‏ أي لنخصه بالعبادة ‏{‏وَنَذَرَ‏}‏ أي نترك ‏{‏مَا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَاؤُنَا‏}‏ من الأوثان، وهذا إنكار واستبعاد لمجيئه عليه السلام بذلك ومنشؤه انهماكهم في التقليد والحب لما ألفوه وألفوا عليه أسلافهم، ومعنى المجىء إما مجيئه عليه السلام من مكان كان يتحنث فيه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل بحراء قبل المبعث أو مجيئه من السماء أي أنزلت علينا من السماء ومرادهم التهكم والاستهزاء، وجاء ذلك من زعمهم أن المرسل من الله تعالى لا يكون إلا ملكاً من السماء أو هو مجاز عن القصد إلى الشيء والروع فيه فإن جاء وقام وقعد وذهب كما قال جماعة تستعملها العرب لذلك تصويراً للحال فتقول قعد يفعل كذا وقام يشتمني وقعد يقرأ وذهب يسبني، ونصب ‏{‏وحده‏}‏ على الحالية، وهو عند جمهور النحويين ومنهم الخليل وسيبويه اسم موضوع موضع المصدر أعني إيجاد الموضوع موضع الحال أعني موحداً‏.‏ واختلف هؤلاء فيما إذا قلت‏:‏ رأيت زيداً وحده مثلاً فالأكثرون يقدرون في حال إيجاد له بالرؤية فيجعلونه حالاً من الفاعل، والمبرد يقدره في حال أنه مفرد بالرؤية فيجعله حالاً من المفعول‏.‏ ومنع أبو بكر بن طلحة جعله حالاً من الفاعل وأوجب كونه حالاً من المفعول لا غير لأنهم إذا أرادوا الحال من الفاعل قالوا رأيته وحدي ومررت به وحدي كما قال الشاعر‏:‏ والذئب أخشاه أن مررت به *** وحدي وأخشى الرياح والمطرا

وهذا الذي قاله في البيت صحيح ولا يمتنع من أجله أن يأتي الوجهان المتقدمان في رأيت زيداً وحده فإن المعنى يصح معهما، ومنهم من يقول‏:‏ إنه مصدر موضوع موضع الحال ولم يوضع له فعل عند بعضهم‏.‏

وحكى الأصمعي وحديحد، وذهب يونس وهشام في أحد قوليه إلى أنه منتصب انتصاب الظروف فجاء زيد وحده في تقدير جاء على وحده ثم حذف الجار وانتصب على الظرف، وقد صرح بعلى في كلام بعض العرب، وإذا قيل زيد وحده فالتقدير زيد موضع التفرد، ولعل القائل بما ذكر يقول‏:‏ إنه مصدر وضع موضع الظرف‏.‏ وعن البعض أنه في هذا منصوب بفعل مضمر كما يقال‏:‏ زيد إقبالاً وإدباراً هذا خلاصة كلامهم في هذا المقام، وإذا أحطت به خبراً فاعلم أن ‏(‏نعبد الله وحده‏)‏ في تقدير موحدين إياه بالعبادة عند سيبويه على أنه حال من الفاعل، والحاء في موحدين مكسورة وعلى رأي ابن طلحة موحداً هو والحاء مفتوحة وهو من أوحد الرباعي والتقدير على رأي هشام نعبد الله تعالى على انفراد وهو من وحد الثلاثي، والمعنى في التقادير الثلاثة لا يختلف إلا يسيراً، والكلام الذي هو فيه متضمن للإيجاب والسلب وله احتمالات نفياً وإثباتاً وتفصيل ذلك في رسالة في مولانا تقي الدين السبكي المسماة «بالرفدة في معنى وحده» وفيها يقول الصفدي‏:‏ خل عنك الرقدة *** وانتبه للرفدة تجن منها علما

فاق طعم الشهدة *** وأراد بما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتنَا بمَا تَعدُنَا‏}‏ العذاب المدلول عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفلا تتقون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 65‏]‏ ‏{‏إنْ كُنْتَ منَ الصادقين‏}‏ بالإخبار بنزوله، وقيل‏:‏ بالإخبار بأنك رسول الله تعالى إلينا، وجواب ‏{‏إن‏}‏ محذوف لدلالة المذكور عليه أي فأت به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏71‏]‏

‏{‏قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي وجب وثبت‏.‏ وأصل استعمال الوقوع في نزول الأجسام، واستعماله هنا فيما ذكر مجاز من إطلاق السبب على المسبب‏.‏ ويجوز أن يكون في الكلام استعارة تبعية والمعنى قد نزل عليكم، واختار بعضهم أن ‏{‏وقع‏}‏ بمعنى قضى وقدر لأن المقدرات تضاف إلى السماء وحرف الاستعلاء على ذلك ظاهر، وفي «الكشف» أن الوقوع بمعنى الثبوت وحرف الاستعلاء إما لأنه ثبوت قوي أكد ما يكون وآجبه أو لأنه ثبوت حسي لأمر نازل من علو وعذاب الله تعالى موصوف بالنزول من السماء فتدبر‏.‏ والتعبير بالماضي لتنزيل المتوقع منزلة الواقع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أتى أمر الله‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1‏]‏‏.‏

مِّنْ رَّبِّكُمْ‏}‏ أي من قبل مالك أمركم سبحانه وتعالى‏.‏ والجار والمجرور قيل‏:‏ متعلق بمحذوف وقع حالاً مما بعد، والظاهر أنه متعلق بالفعل قبله، وتقديم الظرف الأول عليه مع أن المبدأ متقدم على المنتهي كما قال شيخ الإسلام للمسارعة إلى بيان إصابة المكروه لهم، وكذا تقديمهما على الفاعل وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رجْسٌ‏}‏ مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ولأن فيه نوع طول بما عطف عليه من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَغَضَبٌ‏}‏ فربما يخل تقديمهما بتجاوب النظم الكريم‏.‏ والرجس العذاب وهو بهذا المعنى في كل القرآن عند ابن زيد من الارتجاس وهو والارتجاز بمعنى حتى قيل‏:‏ إن أصله ذلك فأبدلت الزاي سيناً كما أبدلت السين تاء في قوله‏:‏ ألا لحى الله بني السعلات *** عمرو بن يربوع شرار الناتليسوا بأعفاف ولا أكيات

فإنه أراد الناس وأكياس‏.‏ وأصل معناه الاضطراب ثم شاع فيما ذكر لاضطراب من حل به، وعليه فالعطف في قوله‏:‏ إذا سنة كانت بنجد محيطة *** وكان عليهم رجسها وعذابها

للتفسير‏.‏ والغضب عند كثير بمعنى إرادة الانتقام‏.‏ وعن ابن عباس أنه فسر الرجس باللعنة والغضب بالعذاب وأنشد له البيت السابق وفيه خفاء‏.‏ والذاهبون إلى ما تقدم إنما لم يفسروه بالعذاب لئلا يتكرر مع ما قبله، ولا يبعد أن يفسر الرجس بالعذاب والغضب باللعن والطرد على عكس ما نسب إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ويكون في الكلام حينئذٍ إشارة إلى حالهم في الأولى والأخرى‏.‏ ويمكن إرجاع ما ذكره الكثير من المفسرين إلى هذا وإلا فالظاهر أنه لا لطافة في قولك‏:‏ وقع عليهم عذاب وإرادة انتقام على ظاهر كلامهم‏.‏ وأياً ما كان فالتنوين للتفخيم والتهويل‏.‏

‏{‏أَتُجَادلُونَني في أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ‏}‏ إنكار واستقباح لإنكارهم مجيئه عليه السلام داعياً لهم إلى عبادة الله تعالى وحده وترك ما كان يعبد آباؤهم من الأصنام والأسماء عبارة عن تلك الأصنام الباطلة، وهذا كما يقال لما لا يليق ما هو إلا مجرد اسم، والمعنى أتخاصمونني في مسميات وضعتم لها أسماء لا تليق بها فسميتموها آلهة من غير أن يكون فيها من مصداق الإلهية شيء ما لأن المستحق للمعبودية ليس إلا من أوجد الكل وهي بمعزل عن إيجاد ذرة وأنها لو استحق لكان ذلك بجعله تعالى إما بإنزال آية أو نصب حجة وكلاهما مستحيل وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَزَّلَ الله بهَا منْ سُلْطَان‏}‏ أي حجة ودليل وحيث لم يكن ذلك في حيز الإمكان تحقق بطلان ما هم عليه‏.‏

والذم الذي يفهمه الكلام متوجه إلى التسمية الخالية عن المعنى المشحونة بمزيد الضلالة والغواية والافتراء العظيم، وقيل‏:‏ إنهم سموها خالقة ورازقة ومنزلة المطر ونحو ذلك‏.‏ والضمير المنصوب في ‏{‏سميتموها‏}‏ راجع لأسماء وهو على ما قيل المفعول الأول والمفعول الثاني محذوف حسبما أشير إليه‏.‏ وقيل‏:‏ المفعول الأول محذوف والضمير هو المفعول الثاني والمراد سميتم أصنامكم بها‏.‏ وقيل‏:‏ المراد من سميتموها وصفتموها فلا حاجة له إلى مفعولين، وحمل الآية على ما ذكر أولاً في تفسيرها هو الذي اختاره جمع وجوز بعضهم أن يكون الكلام على حذف مضاف أي أتجادلونني في ذوي أسماء‏.‏ وادعى آخرون جواز أن يكون فيه صنعة الاستخدام‏.‏ واستدل بالآية من قال‏:‏ إن الاسم عين المسمى ومن قال‏:‏ إن اللغات توقيفية إذ لو لم تكن كذلك لم يتوجه الإنكار والإبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله تعالى بها سلطاناً، ولا يخفى عليك ما في ذلك من الضعف‏.‏

‏{‏فانتظروا‏}‏ نزول العذاب الذي طلبتموه بقولكم‏:‏ ‏{‏فأتنا بما تعدنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 70‏]‏ لما وضح الحق وأنتم مصرون على العناد والجهالة ‏{‏إنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين‏}‏ لنزوله بكم‏.‏ والفاء في ‏{‏فانتظروا‏}‏ للترتيب على ما تقدم

‏[‏بم وفي قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏72‏]‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ ‏(‏72‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ‏}‏ فصيحة أي فوقع ما وقع فأنجيناه ‏{‏والذين مَعَهُ‏}‏ أي متابعيه في الدين ‏{‏برَحْمَة‏}‏ عظيمة لا يقادر قدرها ‏{‏منَّا‏}‏ أي من جهتنا‏.‏ والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع نعتاً لرحمة مؤكداً لفخامتها على ما تقدم غير مرة ‏{‏وَقَطَعْنَا دَابرَ الذين كَذَّبُوا بآيَاتنَا‏}‏ كناية عن الاستئصال‏.‏ والدابر الآخر أي أهلكناهم بالكلية ودمرناهم عن آخرهم‏.‏ واستدل به بعضهم على أنه لا عقب لهم‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانُوا مُؤْمنينَ‏}‏ عطف على ‏{‏كذبوا‏}‏ داخل معه في حكم الصلة أي أصروا على الكفر والتكذيب ولم يرعووا عن ذلك أصلاً‏.‏ وفائدة هذا النفي عند الزمخشري التعريض بمن آمن منهم‏.‏ وبيانه على ما قال الطيبي أنه إذا سمع المؤمن أن الهلاك اختص بالمكذبين وعلم أن سبب النجاة هو الإيمان تزيد رغبته فيه ويعظم قدره عنده، ونظيره في اعتبار شرف الإيمان ‏{‏الذين يحملون العرش‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ الآية، وقال بعضهم‏:‏ فائدة ذلك بيان أنه كان المعلوم من حالهم أنه سبحانه لو لم يهلكهم ما كانوا ليؤمنوا كما قال جل شأنه في آية أخرى‏:‏ ‏{‏ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا وجاءتهم رسلهم بالبينات وما كانوا ليؤمنوا‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 13‏]‏ فهو كالعذر عن عدم إمهالهم والصبر عليهم‏.‏

وسر تقديم حكاية الإنجاء على حكاية الإهلاك يعلم مما تقدم‏.‏ وقصتهم على ما ذكره السدي ومحمد بن إسحاق وغيرهما أن عاداً قوم كانوا بالأحقاف وهي رمال بين عمان وحضرموت وكانوا قد فشوا في الأرض كلها وقهروا أهلها وكانت لهم أصنام يعبدونها وهي صداء وصمود وإلهاء فبعث الله تعالى إليهم هوداً عليه السلام نبياً وهو من أوسطهم نسباً وأفضلهم حسباً فأمرهم بالتوحيد والكف عن الظلم فكذبوه وازدادوا عتواً وتجبراً ‏{‏وقالوا من أشد منا قوة‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 15‏]‏ فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك وكان الناس إذ ذاك إذا نزل بهم بلاء طلبوا رفعه من الله تعالى عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم، وأهل مكة يومئذٍ العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر وكانت أمه كهلدة من عاد فجهزت عاد إلى الحرم من أماثلهم سبعين رجلاً منهم قيل بن عنز ولقيم بن هزال ولقمان بن عاد الأصغر ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه وجلهمة خال معاوية بن بكر فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية وكان خارجاً من الحرم فأنزلهم وأكرمهم إذ كانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم قينتان لمعاوية اسم إحداهما وردة والأخرى جرادة ويقال لهما الجرادتان على التغليب فلما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا له شق ذلك عليه وقال‏:‏ هلك أصهاري وأخوالي وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خشية أن يظنوا به ثقل مقامهم عنده فشكا ذلك لقينتيه فقالتا‏:‏ قل شعراً نغنيهم به ولا يدرون من قاله لعل ذلك أن يحركهم فقال‏:‏

ألا يا قيل ويحك قم فهينم *** لعل الله يسقينا غماما

فتسقى أرض عاد إن عادا *** قد أمسوا ما يبينون الكلاما من

العطش الشديد فليس نرجو *** به الشيخ الكبير ولا الغلاما

وقد كانت نساؤهم بخير *** فقد أمست نساؤهم عياما

وإن الوحش تأتيهم جهارا *** ولا تخشى لعادي سهاما

وأنتم ههنا فيما اشتهيتم *** نهاركم وليلكم التماما

فقبح وفدكم من وفد قوم *** ولا لقوا التحية والسلاما

فلما غنتا بذلك قال بعضهم لبعض‏:‏ يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا هذا الحرم واستسقوا لقومكم فقال‏:‏ مرثد بن سعد والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وأنبتم إلى ربكم سقيتم فأظهر إسلامه عند ذلك وقال‏:‏

عصت عاد رسولهم فأمسوا *** عطاشاً ما تبلهم السماء

لهم صنم يقال له صمود *** يقابله صداء والهباء فبصرنا

الرسول سبيل رشد *** فأبصرنا الهدى وخلا العماء

وإن إله هود هو إلهي *** على الله التوكل والرجاء

فقالوا لمعاوية‏:‏ أحبس عنا مرثداً فلا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ثم دخلوا مكة يستسقون فخرج مرثد من منزل معاوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا بشيء مما خرجوا له فلما انتهى إليهم قام يدعو الله تعالى ويقول‏:‏ اللهم سؤلي وحدي فلا تدخلني في شيء مما يدعوك به وفد عاد وكان قيل رأس الوفد فدعا وقال‏:‏ اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم وقال القوم‏:‏ اللهم أعط قيلاً ما سألك واجعل سؤلنا مع سؤله فأنشأ الله تعالى سحائب ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء ثم نادى مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شئت قيل وكذلك يفعل الله تعالى بمن دعاه إذ ذاك فقال قيل‏:‏ اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فناداه مناد اخترت رماداً رمداً لا تبقى من آل عاد أحداً وساق الله تعالى تلك السحابة بما فيها من النقمة إلى عاد حتى خرجت عليهم من واد يقال له المغيث فلما رأوها استبشروا وقالوا‏:‏ هذا عارض ممطرنا فجاءتهم منها ريح عقيم، وأول من رأى ذلك امرأة منهم يقال لها مهدر ولما رأته صفقت فلما أفاقت قالوا‏:‏ ما رأيت قالت‏:‏ رأيت ريحاً فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها فسخرها الله تعالى عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً فلم تدع منهم أحداً إلا أهلكته واعتزل هود عليه السلام ومن معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلا ما تلين به الجلود وتلتذ الأنفس، ثم إنه عليه السلام أتى هو ومن معه مكة فعبدوا الله تعالى فيها إلى أن ماتوا وقبره عليه السلام قيل هناك في البقعة التي بين الركن والمقام وزمزم، وفيها كما أخرج ابن عساكر عن عبد الرحمن بن سابط قبور تسعة وسبعين نبياً منهم أيضاً نوح وشعيب وصالح وإسماعيل عليهم السلام، وأخرج البخاري في «تاريخه»‏.‏

وابن جرير وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أن قبره عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر عند رأسه سدرة، وأخرج ابن عساكر عن ابن أبي العاتكة قال‏:‏ قبلة مسجد دمشق قبر هود عليه السلام، وعمر كما أخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أربعمائة واثنتين وسبعين سنة والله تعالى أعلم‏.‏

ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ على ما قاله القوم رضي الله تعالى عنهم ‏{‏إن ربكم الله الذي خلق السموات‏}‏ أي سموات الأرواح ‏{‏والأرض‏}‏ أي أرض الأبدان ‏{‏في ستة أيام‏}‏ وهي ستة آلاف سنة وإن يوماً عند ربكم كألف سنة مما تعدون وهي من لدن خلق آدم عليه السلام إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة من ابتداء دور الخفاء إلى ابتداء الظهور الذي هو زمان ختم النبوة وظهور الولاية ‏{‏ثم استوى على العرش‏}‏ وهو القلب المحمدي بالتجلي التام وهو التجلي باسمه تعالى الجامع لجميع الصفات‏.‏ وللصوفية عدة عروش نبهنا عليها في كتابنا «الطراز المذهب في شرح قصيدة الباز الأشهب»‏.‏ وتمام الكلام عليها في «شمس المعارف» للإمام البوني قدس سره ‏{‏يغشي الليل‏}‏ أي ليل البدن ‏{‏النهار‏}‏ أي نهار الروح ‏{‏يطلبه‏}‏ بالتهيء والاستعداد لقبوله باعتدال مزاجه ‏{‏حثيثاً‏}‏ أي سريعاً ‏{‏والشمس‏}‏ أي شمس الروح ‏{‏والقمر‏}‏ أي قمر القلب ‏{‏والنجوم‏}‏ أي نجوم الحواس ‏{‏مسخرات بأمره‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏ الذي هو الشأن المذكور في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كل يوم هو في شأن‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏ادعوا ربكم‏}‏ أي اعبدوه ‏{‏تضرعاً وخفية‏}‏ إشارة إلى طريق الجلوة والخلوة أو ادعوه بالجوارح والقلب أو بأداء حق العبودية ومطالب حق الربوبية ‏{‏إنه لا يحب المعتدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 55‏]‏ المتجاوزين عما أمروا به بترك الامتثال أو الذين يطلبون منه سواه ‏{‏ولا تفسدوا في الأرض‏}‏ أي أرض البدن ‏{‏بعد إصلاحها‏}‏ بالاستعداد ‏{‏وادعوه خوفاً وطمعاً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 56‏]‏ لئلا يلزم إهمال إحدى صفتي الجلال والجمال ‏{‏وهو الذي يرسل الرياح‏}‏ أي رياح العناية ‏{‏بين يدي رحمته‏}‏ أي تجلياته ‏{‏حتى إذا أقلت حملت سحابا ثقالا‏}‏ بأمطار المحبة ‏{‏سقناه لبلد‏}‏ قلب ‏{‏ميت فأنزلنا به الماء‏}‏ ماء المحبة ‏{‏فأخرجنا به من كل الثمرات‏}‏ من المشاهدات والمكاشفات ‏{‏كذلك نخرج الموتى‏}‏ القلوب الميتة من قبور الصدور ‏{‏لعلكم تذكرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 57‏]‏ أيام حياتكم في عالم الأرواح حيث كنتم في رياض القدس وحياض الأنس ‏{‏والبلد الطيب‏}‏ وهو ما طاب استعداده ‏{‏يخرج نباته بإذن ربه‏}‏ حسناً غزيراً نفعه ‏{‏والذي خبث‏}‏ وهو ما ساء استعداده ‏{‏لا يخرج إلا نكداً‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 58‏]‏ لا خير فيه ‏{‏لقد أرسلنا نوحاً‏}‏ أي نوح الروح ‏{‏إلى قومه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ من القلب وأعوانه والنفس وأعوانها ‏{‏فكذبوه فأنجيناه والذين معه‏}‏ كالقلب وأعوانه ‏{‏في الفلك‏}‏ وهو سفينة الأتباع ‏{‏وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا‏}‏ في بحار الدنيا ومياه الشهوات ‏{‏إنهم كانوا قوماً عمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 64‏]‏ عن طريق الوصول ورؤية الله تعالى، وعلى هذا المنوال ينسح الكلام في باقي الآيات‏.‏ ولمولانا الشيخ الأكبر قدس سره في هؤلاء القوم ونحوهم كلام تقف الأفكار دونه حسرى فمن أراده فليرجع إلى «الفصوص» يرى العجب العجاب والله تعالى الهادي إلى سبيل الرشاد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صالحا‏}‏ عطف على ما سبق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 65‏]‏ موافق له في تقديم المجرور على المنصوب، وثمود قبيلة من العرب كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وسميت باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح، وقيل‏:‏ ابن عاد بن عوص بن إرم الخ وهو المنقول عن الثعلبي‏.‏ وقال عمرو بن العلاء‏:‏ إنما سموا بذلك لقلة مائهم فهو من ثمد الماء إذا قل، والثمد الماء القليل وورد فيه الصرف وعدمه، أما الأول‏:‏ فباعتبار الحي أو لأنه لما كان في الأصل اسماً للجد أو للقليل من الماء كان مصروفاً لأنه علم مذكر أو اسم جنس فبعد النقل حكى أصله، وأما الثاني‏:‏ فباعتبار أنه اسم القبيلة ففيه العلمية والتأنيث‏.‏ وصالح عليه السلام من ثمود فالأخوة نسبية، وهو على ما قال محيي السنة البغوي ابن عبيد بن آسف بن ماشح بن عبيد بن حاذر بن ثمود وهو أخو طسم وجديس فيما قيل، وقال وهب‏:‏ هو ابن عبيد بن جابر بن ثمود بن جابر بن سام بن نوح بعث إلى قومه حين راهق الحلم وكان رجلاً أحمر إلى البياض سبط الشعر فلبث فيهم أربعين عاماً‏.‏ وقال الشامي‏:‏ إنه بعث شاباً فدعا قومه حتى شمط وكبر، ونقل النووي أنه أقام فيهم عشرين سنة ومات بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة‏.‏

‏{‏قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ اعبدوا الله مَا لَكُم مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ قد مر الكلام في نظائره ‏{‏قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ‏}‏ أي آية ومعجزة ظاهرة الدلالة شاهدة بنبوتي وهي من الألفاظ الجارية مجرى الأبطح والأبرق في الاستغناء عن ذكر موصوفاتها حالة الإفراد والجمع، والتنوين للتفخيم أي بينة عظيمة ‏{‏مّن رَّبّكُمْ‏}‏ متعلق بمحذوف وقع صفة لبينة على ما مر غير مرة أو بجاءتكم، و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية مجازاً أو للتبعيض إن قدر من بينات ربكم، والمراد بهذه البينة الناقة وليس هذا الكلام منه عليه السلام أول ما خاطبهم به إثر الدعوة إلى التوحيد بل إنما قاله بعدما نصحهم وذكرهم بنعم الله تعالى فلم يقبلوا كلامه وكذبوه كما ينبىء عن ذلك ما في سورة هود ‏(‏16‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ ءايَةً‏}‏ استئناف نحوي مسوق لبيان البينة والمعجزة‏.‏ وجوز أن يكون استئنافاً بيانياً جواباً لسؤال مقدر تقديره أين هي‏؟‏ وعلى التقديرين لا محل للجملة من الإعراب‏.‏ وجوز أن يكون بدلاً من ‏{‏بَيّنَةً‏}‏ بدل جملة من مفرد للتفسير ولا يخفى بعده، وإضافة الناقة إلى الاسم الجليل لتعظيمها كما يقال‏:‏ بيت الله للمسجد بيد أن الإضافة فيه لأدنى ملابسة ولا كذلك ما نحن فيه أو لأنها ليست بواسطة نتاج معتاد وأسباب معهودة كما سيتضح إن شاء الله تعالى لك ولذلك كانت آية وأي آية‏.‏

وقيل‏:‏ لأنها لم يملكها أحد سواه سبحانه‏.‏ وقيل‏:‏ لأنها كانت حجة الله على قوم صالح‏.‏ وانتصاب ‏{‏ءايَةً‏}‏ على الحالية من ‏{‏نَاقَةُ‏}‏ والعامل فيها معنى الإارة وسماه النحاة العامل المعنوي و‏{‏لَكُمْ‏}‏ بيان لمن هي آية له كما في سقيا لك فيتعلق بمقدر‏.‏ وجوز أن يكون ‏{‏نَاقَةُ‏}‏ بدل من ‏{‏هذه‏}‏ أو عطف بيان له أو مبتدأ ثانياً و‏{‏لَكُمْ‏}‏ خبراً فآية حينئذٍ حال من الضمير المستتر فيه والعامل هو أو متعلقه‏.‏

‏{‏فَذَرُوهَا‏}‏ تفريع على كونها آية من آيات الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ على كونها ناقة له سبحانه فإن ذلك مما يوجب عدم التعرض لها أي فاتركوها ‏{‏تَأْكُلْ فِى أَرْضِ الله‏}‏ العشب وحذف للعلم به‏.‏ والفعل مجزوم لأنه جواب الأمر‏.‏ وقرأ أبو جعفر في رواية عنه ‏{‏تَأْكُلُ‏}‏ بالرفع فالجملة حالية أي آكلة‏.‏ والجار والمجرور متعلق بما عنده أو بالأمر السابق فهما متنازعان‏.‏ وأضيفت الأرض إلى الله سبحانه قطعاً لعذرهم في التعرض كأنه قيل‏:‏ الأرض أرض الله تعالى والناقة ناقة الله تعالى فذروا ناقة الله تأكل في أرضه فليست الأرض لكم ولا ما فيها من النبات من إنباتكم فأي عذر لكم في منعها‏.‏ وعدم التعرض للشرب للاكتفاء عنه بذكر الأكل‏.‏ وقيل‏:‏ لتعميمه له أيضاً كما في قوله‏:‏ علفتها تبناً وماءً بارداً *** وقد ذكر ذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 155‏]‏‏.‏

‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء‏}‏ نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالشر الشامل لأنواع الأذى مبالغة في الزجر فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 152، والإسراء‏:‏ 34‏]‏‏.‏ والجار والمجرور متعلق بالفعل‏.‏ والتنكير للتعميم أي لا تتعرضوا لها بشيء مما يسوؤها أصلاً كالطرد والعقر وغير ذلك‏.‏ وقيل‏:‏ الجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالاً من فاعل الفعل‏.‏ والمعنى لا تمسوها مع قصد السوء بها فضلاً عن الإصابة فهو كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏‏.‏ ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ منصوب في جواب النهي‏.‏ والمعنى لا تجمعوا بين المس وأخذ العذاب إياكم‏.‏ والأخير وإن لم يكن من صنيعهم حقيقة لكن لتعاطيهم أسبابه كأنه من صنيعهم‏.‏