فصل: تفسير الآية رقم (74)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏74‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ‏(‏74‏)‏‏}‏

‏{‏واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ‏}‏ أي خلفاء في الأرض أو خلفاء لهم قيل‏:‏ ولم يقل‏:‏ خلفاء عاد مع أنه أخصر إشارة إلى أن بينهما زماناً طويلاً ‏{‏وَبَوَّأَكُمْ‏}‏ أي أنزلكم وجعل لكم مباءة ‏{‏فِى الارض‏}‏ أي أرض الحجر بين الحجاز والشام ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا‏}‏ أي تبنون في سهولها مساكن رفيعة‏.‏ فمن بمعنى في كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ ويجوز أن تكون ابتدائية أو تبعيضية أي تعملون القصور من مادة مأخوذة من السهل كاللبن والآجر المتخذين من الطين‏.‏ والجار والمجرور على ما قال أبو البقاء يجوز أن يتعلق بمحذوف وقع حالاً مما بعده‏.‏ وأن يكون مفعولاً ثانياً لتتخذون‏.‏ وأن يكون متعلقاً به وهو متعد لواحد‏.‏ والسهل خلاف الحزن وهو موضع الحجارة والجبال‏.‏ والجملة استئناف مبين لكيفية التبوئة فإن هذا الاتخاذ بأقداره سبحانه‏.‏

‏{‏وَتَنْحِتُونَ الجبال‏}‏ أي تنجرونها، والنحت معروف في كل صلب ومضارعه مكسور الحاء‏.‏ وقرأ الحسن بالفتح لحرف الحلق، وفي «القاموس» عنه أنه «قرأ ‏{‏تنحاتون‏}‏» بالإشباع كينباع، وانتصاب ‏{‏مِنْهُ الجبال‏}‏ على المفعولية، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بُيُوتًا‏}‏ نصب على أنه حال مقدرة منها لأنها لم تكن حال النحت بيوتاً كخطت الثوب جبة، والحالية كما قال الشهاب باعتبار أنها بمعنى مسكونة إن قيل بالاشتقاق فيها، وقيل‏:‏ انتصاب ‏{‏الجبال‏}‏ بنزع الخافض أي من الجبال، ويرجحه أنه وقع في آية أخرى كذلك، ونصب ‏{‏بُيُوتًا‏}‏ على المفعولية، وجوز أن يضمن النحت معنى الاتخاذ فانتصابهما على المفعولية‏.‏ روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم اتخذوا القصور في السهول ليصيفوا فيها ونحتوا من الجبال بيوتاً ليشتوا فيها، وقيل‏:‏ إنهم نحتوا الجبال بيوتاً لطول أعمارهم وكانت الأبنية تبلى قبل أن تبلى أعمارهم‏.‏

‏{‏فاذكروا ءالآء الله‏}‏ أي نعمه التي أنعم بها عليكم مما ذكر أو جميع نعمه ويدخل فيها ما ذكر دخولاً أولياً، وليس المراد مجرد الذكر باللسان كما علمت‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَعْثَوْاْ فِى الارض مُفْسِدِينَ‏}‏ فإن حق آلائه تعالى أن تشكر ولا يغفل عنها فكيف بالكفر، والعثي الإفساد فمفسدين حال مؤكدة كما في ‏{‏وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 25‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ الملا الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ‏}‏ أي الأشراف الذين عتوا وتكبروا، والجملة استئناف كما مر غير مرة‏.‏ وقرأ ابن عامر ‏{‏وَقَالَ‏}‏ بالواو عطفاً على ما قبله من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ يَاءادَمُ قَوْمٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏ الخ، واللام في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ استضعفوا‏}‏ أي عدوا ضعفاء أذلاء للتبليغ كما في ‏{‏أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ‏}‏ ‏[‏القلم‏:‏ 28‏]‏، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَنْ ءامَنَ مِنْهُمْ‏}‏ بدل من الموصول بإعادة العامل بدل الكل من الكل كقولك مررت بزيد بأخيك، والضمير المجرور راجع إلى قومه‏.‏ وجوز أن يكون بدل بعض من كل على أن الضمير للذين استضعفوا فيكون المستضعفون قسمين مؤمنين وكافرين، ولا يخفى بعده، والاستفهام في قوله جل شأنه ‏{‏أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ للاستهزاء لأنهم يعلمون أنهم عالمون بذلك ولذلك لم يجيبوهم على مقتضى الظاهر كما حكى سبحانه عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ‏}‏ فإن الجواب الموافق لسؤالهم نعم أو نعلم أنه مرسل منه تعالى‏.‏ ومن هنا قال غير واحد‏:‏ إنه من الأسلوب الحكيم فكأنهم قالوا‏:‏ العلم بإرساله وبما أرسل به ما لا كلام فيه ولا شبهة تدخله لوضوحه وإنارته وإنما الكلام في وجوب الإيمان به فنخبركم أنا به مؤمنون‏.‏ واختار في «الانتصاف» أن ذلك «ليس إخباراً عن وجوب الإيمان به بل عن امتثال الواجب فإنه أبلغ من ذلك فكأنهم قالوا‏:‏ العلم بإرساله وبوجوب الإيمان به لا نسأل عنه وإنما الشأن في امتثال الواجب والعمل به ونحن قد امتثلنا2‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏76‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ الذين استكبروا‏}‏ استئناف كما تقدم، وأعيد الموصول مع صلته مع كفاية الضمير إيذاناً بأنهم قالوا ما قالوه بطريق العتو والاستكبار ‏{‏إِنَّا بالذى ءامَنتُمْ بِهِ كافرون‏}‏ عدول عن مقتضى الظاهر أيضاً وهو أنا بما أرسل به كافرون، وفائدته كما قالوا الرد لما جعله المؤمنون معلوماً وأخذوه مسلماً كأنهم قالوا‏:‏ ليس ما جعلتموه معلوماً مسلماً من ذلك القبيل، وقال في «الانتصاف» عدلوا عن ذلك «حذراً مما في ظاهره من إثباتهم لرسالته وهم يجحدونها، وليس هذا موضع التهكم ليكون كقول فرعون ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏ فإن الغرض إخبار كل واحد من المؤمنين والمكذبين عن حاله فلذا خلص الكافرون قولهم عن إشعار الإيمان بالرسالة احتياطاً للكفر وغلواً في الإصرار2‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏77‏)‏‏}‏

‏{‏فَعَقَرُواْ الناقة‏}‏ أي نحروها‏.‏ قال الأزهري‏:‏ «أصل العقر عند العرب قطع عرقوب البعير ثم استعمل في النحر لأن ناحر البعير يعقره ثم ينحره»؛ وإسناده إلى الكل مع أن المباشر البعض مجاز لملابسة الكل لذلك الفعل لكونه بين أظهرهم وهم متفقون على الضلال والكفر أو لرضا الكل به أو لأمرهم كلهم به كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَنَادَوْاْ صاحبهم فتعاطى فَعَقَرَ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 29‏]‏، وقيل‏:‏ إن العقر مجاز لغوي عن الرضا بالنسبة إلى غير فاعله وليس بشيء‏.‏ ‏{‏وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ‏}‏ أي استكبروا عن امتثاله وهو ما بلغهم صالح عليه السلام من الأمر السابق فالأمر واحد الأوامر، وجوز أن يكون واحد الأمور أي استكبروا عن شأن الله تعالى ودينه وهو بعيد‏.‏ وأوجب بعضهم على الأول أن يضمن ‏{‏عَتَوْاْ‏}‏ معنى التولي أي تولوا عن امتثال أمره عاتين أو معنى الإصدار أي صدر عتوهم عن أمر ربهم وبسببه لأنه تعالى لما أمرهم بقوله‏:‏ ‏{‏فَذَرُوهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏ الخ ابتلاهم فما امتثلوا فصاروا عاتين بسببه ولولا الأمر ما ترتب العقر والداعي للتأويل بتولوا أو صدر أن عتا لا يتعدى بعن فتعديته به لذلك كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 82‏]‏ وبعضهم لا يقول بالتضمين بناءً على أن عتا بمعنى استكبر كما في «القاموس» وهو يتعدى بعن فافهم‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ مخاطبين له عليه السلام بطريق التعجيز والإفحام على زعمهم الفاسد ‏{‏وَقَالُواْ ياصاح ائتنا بِمَا تَعِدُنَا‏}‏ من العذاب وأطلق للعلم به ‏{‏إِن كُنتَ مِنَ المرسلين‏}‏ فإن كونك منهم يقتضي صدق ما تقول من الوعد والوعيد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏78‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ‏(‏78‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ قال الفراء والزجاج‏:‏ أي الزلزلة الشديدة‏.‏ وقال مجاهد والسدي‏:‏ هي الصيحة، وجمع بين القولين بأنه يحتمل أنه أخذتهم الزلزلة من تحتهم والصيحة من فوقهم، وقال بعضهم‏:‏ الرجفة خفقان القلب واضطرابه حتى ينقطع، وجاء في موضع آخر ‏{‏الصيحة‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 76‏]‏ وفي آخر ‏{‏بالطاغية‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 5‏]‏ ولا منافاة بين ذلك كما زعم بعض الملاحدة فإن الصيحة العظيمة الخارقة للعادة حصل منها الرجفة لقلوبهم ولعظمها وخروجها عن الحد المعتاد تسمى الطاغية لأن الطغيان مجاوزة الحد، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء حملناكم‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 11‏]‏ أو يقال‏:‏ إن الإهلاك بذلك بسبب طغيانهم وهو معنى ‏{‏بالطاغية‏}‏ وهذا الأخذ ليس أثر ما قالوا ما قالوا بل بعد ما جرى عليهم ما جرى من مبادىء العذاب في الأيام الثلاث كما ستعلمه إن شاء الله تعالى والفاء لا تأبى ذلك‏.‏

‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين‏}‏ هامدين موتى لا حراك بهم، وأصل الجثوم البروك على الركب‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال سكونه بالليل، وأصبح يحتمل أن تكون تامة فجاثمين حال وأن تكون ناقصة فجاثمين خبر، والظرف على التقديرين متعلق به‏.‏ وقيل‏:‏ هو خبر و‏{‏جاثمين‏}‏ حال وليس بشيء لإفضائه إلى كونه الإخبار بكونهم في دارهم مقصوداً بالذات، والمراد من الدار البلد كما في قولك دار الحرب ودار الإسلام وقد جمع ‏(‏في آية‏)‏ أخرى ‏[‏فقال‏:‏ في ديارهم ‏[‏هود‏:‏ 76‏]‏‏]‏ بإرادة منزل كل واحد الخاص به، وذكر النيسابوري أنه حيث ذكرت الرجفة وحدت الدار وحيث ذكرت الصيحة جمعت لأن الصيحة كانت من السماء كما في غالب الروايات لا من الأرض كما قيل فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة فقرن كل منهما بما هو أليق به فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏79‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ‏(‏79‏)‏‏}‏

‏{‏فتولى عَنْهُمْ‏}‏ بعد أن جرى عليهم ما جرى على ما هو الظاهر مغتماً متحسراً على ما فاتهم من الإيمان متحزناً عليهم ‏{‏وَقَالَ يأَبَتِ قَوْمٌ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبّى وَنَصَحْتُ لَكُمْ‏}‏ بالترغيب والترهيب ولم آل جهداً فلم يجد نفعاً ولم تقبلوا مني‏.‏ وصيغة المضارع في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين‏}‏ حكاية حال ماضية أي شأنكم الاستمرار على بغض الناصحين وعداوتهم، وخطابه عليه السلام لهم كخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى المشركين حين ألقوا في قليب بدر حين نادى يا فلان يا فلان بأسمائهم إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً وذلك مبني على أن الله تعالى يرد أرواحهم إليهم فيسمعون وذلك مما خص به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ويحتمل أنه عليه السلام ذكر ذلك على سبيل التحزن والتحسر كما تخاطب الديار والأطلال، وجوز عطف ‏{‏فتولى‏}‏ على ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 78‏]‏ فيكون الخطاب لهم حين أشرفوا على الهلاك لكنه خلاف الظاهر، وأبعد من ذلك ما قيل إن الآية على التقديم والتأخير فتقديرها فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين‏.‏

وقصة ثمود على ما ذكر ابن إسحاق وغيره أن عاداً لما هلكوا عمرت ثمود بعدها واستخلفوا في الأرض وعمروا حتى جعل أحدهم يبني المسكن من المدر فينهدم والرجل حي فلما رأوا ذلك اتخذوا من الجبال بيوتاً وكانوا في سعة من معاشهم فعتوا في الأرض وعبدوا غير الله تعالى فبعث الله تعالى إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً وكان صالح عليه السلام من أوسطهم نسباً وبعث إليهم وهو شاب فدعاهم إلى الله تعالى حتى شمط وكبر ولم يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألح عليهم بالدعاء والتخويف سألوه أن يريهم آية تصدق ما يقول فقال لهم‏:‏ أية آية تريدون‏؟‏ فقالوا‏:‏ تخرج غداً معنا إلى عيدنا وكان لهم عيد يخرجون فيه بأصنامهم فتدعو إلهك وندعوا آلهتنا فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا فقال لهم صالح‏:‏ نعم فخرجوا وخرج معهم فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ثم قال جندع بن عمرو بن حراش وهو يومئذٍ سيد ثمود‏:‏ يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقة مخترجة أي تشاكل البخت أو مخرجة على خلقة الجمل جوفاء وبراء فإن فعلت صدقناك وآمنا بك فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت لتصدقني ولتؤمنن بي قالوا‏:‏ نعم فصلى ركعتين ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا لا يعلم ما بين جنبيها إلا الله تعالى عظماً وهم ينظرون ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه وأراد أشرافهم أن يؤمنوا به فمنعهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صعر كاهنهم فلما خرجت الناقة ‏{‏قَالَ‏}‏ لهم ‏{‏هذه نَاقَةُ‏}‏ الله

‏{‏لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 155‏]‏ فمكثت الناقة ومعها سقبها في أرضهم ترعى الشجر وتشرب الماء وكانت ترده غبا فإذا كان يومها وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال له الآن بئر الناقة فما ترفع رأسها حتى تشرب كل ما فيها ثم ترفع رأسها وتتفحج لهم فيحلبون ما شاؤوا من اللبن فيشربون ويدخرون ثم تصدر من غير الفج الذي وردت منه لا تقدر تصدر من حيث ترد لضيقه عنها حتى إذا كان الغد يومهم فيشربون ما شاؤوا ويدخرون ما شاؤوا ليوم الناقة ولم يزالوا في سعة ورغد وكانت الناقة تصيف إذا كان الحر بظهر الوادي فتهرب منها مواشيهم وتهبط إلى بطن الوادي في حره وجدبه وتشتو في بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره في برد وجدب فأضر ذلك بمواشيهم للأمر الذي يريده الله تعالى بهم والبلاء والاختبار فكبر ذلك عليهم فعتوا عن أمر ربهم فأجمعوا على عقرها وكانت امرأتان من ثمود يقال لإحداهما عنيزة بنت غنم بن مجلز وتكنى بأم غنم وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو وكانت عجوزاً مسنة ذات بنات حسان وذات مال من إبل وبقر وغنم ويقال للأخرى‏:‏ صدوق بنت المختار وكانت جميلة غنية ذات مواش كثيرة وكانت من أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام وكانتا يحبان عقر الناقة لما أضرت من مواشيهما فدعت صدوق رجلاً يقال له الحباب لعقر الناقة وعرضت عليه نفسها إن هو فعل فأبى فدعت ابن عم لها يقال له مصدع بن مهرج وجعلت له نفسها إن هو فعل فأجابها إلى ذلك ودعت عنيزة أم غنم قدار بن سالف وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً يزعمون أنه لزنية ولم يكن لسالف لكنه ولد على فراشه فقالت‏:‏ أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكان عزيزاً منيعاً في قومه فرضي وانطلق هو ومصدع فاستغويا غواة ثمود فاتبعهم سبعة فكانوا تسعة رهط فانطلقوا ورصدوا الناقة حتى صدرت عن الماء وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها وكمن لها مصدع في أصل أخرى فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها وخرجت أم غنم فأمرت إحدى بناتها وكانت من أحسن الناس وجهاً فسفرت عن وجهها ليراها قدار ثم حثته على عقرها فشد على الناقة بالسيف فكشف عن عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة فتحدر سقبها من الجبل ثم طعن قدار في لبتها فنحرها فخرج أهل البلدة فاقتسموا لحمها فلما رأى سقبها ذلك انطلق هارباً حتى أتى جبلاً منيعاً يقال له قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح عليه السلام قال لهم‏:‏ أدركوا الفصيل عسى أن يدفع عنكم العذاب فخرجوا في طلبه فرأوه على الجبل وراموه فلم ينالوه وانفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها ‏{‏فَقَالَ‏}‏ لهم صالح‏:‏ لكل رغوة أجل يوم

‏{‏تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 65‏]‏‏.‏

وعن ابن إسحق أنه تبع السقب من التسعة أربعة وفيهم مصدع فرماه بسهم فاصاب قلبه ثم جر برجله فأنزله القوا لحمه مع لحم أمه وقال لهم صالح‏:‏ انتهكتم حرمة الله تعالى فابشروا بعذابه ونقمته فكانوا يهزأون به ويقولون متى هو وما آيته‏؟‏ فقال‏:‏ تصبحون غدا وكان يوم الخميس ووجوهكم مصفرة وبعد غد ووجوهكم محمرة واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ثم يصبحكم العذاب فهم أولئك الرهط بقتله فأتوه ليلاً فدمغتهم الملائكة بالحجارة فلما أبطاؤا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم قد رضخوا بالحجارة فقالوا لصالح‏:‏ أنت قتلتهم ثم هموا به فمنع عنه عشيرته ثم لما رأوا العلامات طلبوه ليقتلوه فهرب ولحق بحي من ثمود يقال لهم‏:‏ بنو غنم فنزل على سيدهم واسمه نفيل ويكنى بأبي هدب فطلبوه منه فقال‏:‏ ليس لكم إليه سبيل فتركوه وشغلهم ما نزل بهم ثم خرج عليه السلام ومن معه إلى الشام فنزل رملة فلسطين ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم وهلكوا جميعاً إلا جارية مقعدة يقال لها ذريعة بنت سلف وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح عليه السلام فأطلق الله تعالى رجليها بعد أن عاينت العذاب فخرجت مسرعة حتى أتت وادي القرى فأخبرتهم الخبر ثم استقست ماء فسقيت فلما شربت ماتت وكان رجل منهم يقال له‏:‏ أبو رغال وهو أبو ثقيف في حرم الله تعالى فمنعه الحرم من عذاب الله تعالى فلما خرج أصابه ما أصابهم فدفن ومعه غصن من ذهب‏.‏ وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبره فأخبر بخبره فابتدره الصحابة رضي الله تعالى عنهم بأسيافهم فحفروا عنه واستخرجوا ذلك الغصن‏.‏ وروي أنه عليه السلام خرج في مائة وعشرين من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار‏.‏ وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن وهب قال‏:‏ إن صالحاً لما نجا هو والذين معه قال‏:‏ يا قوم إن هذه دار قد سخط الله تعالى عليها وعلى أهلها فاظعنوا والحقوا بحرم الله تعالى وأمنه فأهلوا من ساعتهم بالحج وانطلقوا حتى وردوا مكة فلم يزالوا بها حتى ماتوا فتلك قبورهم في غربي الكعبة‏.‏

وروى ابن الزبير عن جابر أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه‏:‏ «لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم» وذكر محيي السنة البغوي أن المؤمنين الذين مع صالح كانوا أربعة آلاف وأنه خرج بهم إلى حضرموت فلما دخلها مات عليه السلام فسميت لذلك حضرموت ثم بنى الأربعة آلاف مدينة يقال لها حاضوراء، ثم نقل عن قوم من أهل العلم أنه توفي بمكة وهو ابن ثمان وخمسين سنة ولعله المعول عليه، وجاء أن أشقى الأولين عاقر الناقة وأشقى الآخرين قاتل علي كرم الله تعالى وجهه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بذلك علياً رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه‏.‏ وعندي أن أشقى الآخرين أشقى من أشقى الأولين‏.‏ والفرق بينهما كالفرق بين علي كرم الله تعالى وجهه والناقة‏.‏ وقد أشارت الأخبار بل نطقت بأن قاتل الأمير كان مستحلاً قتله بل معتقداً الثواب عليه وقد مدحه أصحابه على ذلك فقال عمران بن حطان غضب الله تعالى عليه‏:‏

يا ضربة من تقي ما أراد بها *** ألا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكره يوماً فأحسبه *** أوفى البرية عند الله ميزاناً

ولله در من قال‏:‏

يا ضربة من شقي أوردته لظى *** فسوف يلقى بها الرحمن غضبانا

كأنه لم يرد شيئاً بضربته *** إلا ليصلى غدا في الحشر

نيراناً إني لأذكره يوماً فألعنه *** كذاك ألعن عمران بن حطانا

وكون فعله كان عن شبهة تنجيه مما لا شبهة في كونه ضرباً من الهذيان ولو كان مثل تلك الشبهة منجياً من عذاب مثل هذا الذنب فليفعل الشخص ما شاء سبحانك هذا بهتان عظيم‏.‏ وقد ضربت بقدار عاقر الناقة الأمثال، وما ألطف قول عمارة اليمني‏:‏

لا تعجبا لقدار ناقة صالح *** فلكل عصر ناقة وقدار

وفي هذه القصة روايات أخر تركناها اقتصاراً على ما تقدم لأنه أشهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏وَلُوطاً‏}‏ نصب بفعل مضمر أي أرسلنا معطوف على ما سبق أو به من غير خاجة إلى تقدير، وإنما لم يذكر المرسل إليهم على طرز ما سبق وما لحق لأن قومه على ما قيل لم يعهدوا باسم معروف يقتضي الحال ذكره عليه السلام مضافاً إليهم كما في القصص من قبل ومن بعد وهو ابن هاران بن تارخ‏.‏ وابن اسحق ذكر بدل تارخ آزر‏.‏ وأكثر النسابين على أنه عليه السلام ابن أخي إبراهيم صلى الله عليه وسلم ورواه في «المستدرك» عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏ وأخرج ابن عساكر عن سليمان بن صرد أن أبا لوط عليه السلام عم إبراهيم عليه السلام، وقيل‏:‏ إن لوطاً كان ابن خالة إبراهيم وكانت سارة زوجته أخت لوط وكان في أرض بابل من العراق مع إبراهيم فهاجر إلى الشام ونزل فلسطين وأنزل لوطاً الأردن وهو كرة بالشام فأرسله الله تعالى إلى أهل سدوم وهي بلدة بحمص‏.‏ وأخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال‏:‏ أرسل لوط إلى المؤتفكات وكانت قرى لوط أربع مدائن سدوم وأمورا وعامورا وصبوير وكان في كل قرية مائة ألف مقاتل وكانت أعظم مدائنهم سدوم وكان لوط يسكنها وهي من بلاد الشام ومن فلسطين مسيرة يوم وليلة، وهذا اللفظ على ما قال الزجاج اسم أعجمي غير مشتق ضرورة أن العجمي لا يشتق من العربي وإنما صرف لخفته بسكون وسطه، وقيل‏:‏ إنه مشتق من لطت الحوض إذا ألزقت عليه الطين، ويقال‏:‏ هذا ألوط بقلبي من ذلك أي ألصق به ولاط الشيء أخفاه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ‏}‏ ظرف لأرسلنا كما قال غير واحد‏.‏ واعترض بأن الإرسال قبل وقت القول لا فيه كما تقتضيه هذه الظرفية، ودفع بأنه يعتبر الظرف ممتداً كما يقال زيد في أرض الروم فهو ظرف غير حقيقي يعتبر وقوع المظروف في بعض أجزائه كما قرره القطب، وجوز أن يكون ‏{‏لُوطاً‏}‏ منصوباً بأذكر محذوقاً فيكون من عطف القصة على القصة، و‏{‏إِذْ‏}‏ بدل من لوط بدل اشتمال بناء على أنها لا تلزم الظرفية، وقال أبو البقاء‏:‏ إنه ظرف الرسالة محذوفاً أي واذكر رسالة لوط إذ قال‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ استفهام على سبيل التوبيخ والتقريع أي أتفعلون تلك الفعلة التي بلغت أقصى القبح وغايته‏.‏

‏{‏مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مّن العالمين‏}‏ أي ما عملها أحد قبلكم في زمن من الأزمان فالباء للتعدية كما في «الكشاف» من قولك‏:‏ سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله، ومنه ما صح من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ سبقك بها عكاشة ‏"‏

وتعقبه أبو حيان بأن معنى التعدية هنا قلق جداً لأن الباء المعدية في الفعل المعدى إلى واحد تجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة فإذا قلت‏:‏ صككت الحجر بالحجر كان معناه أصككت الحجر الحجر أي جعلت الحجر يصك الحجر وكذلك دفعت زيداً بعمرو عن خالد معناه أدفعت زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد فللمفعول الأول تأثير في الثاني ولا يصح هذا المعنى فيما ذكر إلا بتكلف فالظاهر أن الباء للمصاحبة أي ما سبقكم أحد مصاحباً وملتبساً بها، ودفع بأن المعنى على التعدية، ومعنى سبقته بالكرة أسبقت كرتي كرته لأن السبق بينهما لا بين الشخصين أو الضربين وكذا في الآية ومثله يفهم من غير تكلف، وقال القطب الرازي‏:‏ إن المعنى سبقت ضربه الكرة بضربي الكرة أي جعلت ضربي الكرة سابقاً على ضربة الكرة‏.‏ ثم استظهر جعل الباء للظرفية لعدم احتياجه إلى ما يحتاجه جعلها للتعدية أي ما سبقكم في فعل الفاحشة أحد ولعل الأمر كما قال‏.‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى صلة لتأكيد النفي وإفادة معنى الاستغراق والثانية للتبعيض، والجملة مستأنفة استئنافاً نحوياً مسوقة لتأكيد النكير وتشديد التقريع والتوبيخ، وجوز أن يكون بيانياً كأنه قيل‏:‏ لم لا نأتيها‏؟‏ فقال‏:‏ ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا إليه من المنكرات لأنه أشد، ولا يتوهم أن سبب إنكار الفاحشة كونها مخترعة ولولاه لما أنكرت إذ لا مجال له بعد كونها فاحشة‏.‏ ووجه كون هذه الجملة مؤكدة للنكير أنها مؤذنة باختراع السوء ولا شك أن اختراعه أسوأ إذ لا مجال للاعتذار عنه كما اعتذروا عن عبادتهم الأصنام مثلاً بقولهم‏:‏ انا ‏{‏وَجَدْنَا ءابَاءنَا‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 22، 23‏]‏‏.‏ وجوز أبو البقاء كون الجملة في موضع الحال من المفعول أو الفاعل، والنيسابوري جوز كونها صفة للفاحشة على حد‏:‏ ولقد أمر على اللئيم يسبني *** ورد بأن الفاحشة هنا متعينة دون اللئيم، وكيفما كان فالمراد من نفي سبق أحد بها إياهم كونهم سابقين بها كل أحد ممن عداهم من العالمين لا مساواتهم الغير بها، فقد أخرج البيهقي وغيره عن عمرو بن دينار ‏(‏قال ما نزا ذكر حتى كان قوم لوط‏)‏، والذي حملهم على ذلك كما أخرج ابن عساكر وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانت لهم ثمار في منازلهم وحوائطهم وثمار خارجة على ظهر الطريق وانهم أصابهم قحط وقلة من الثمار فقال بعضهم لبعض‏:‏ إنكم إن منعتم ثماركم هذه الظاهرة من أبناء السبيل كان لكم فيها عيش قالوا‏:‏ بأي شيء نمنعها‏؟‏ قالوا‏:‏ اجعلوا سنتكم أن تنكحوا من وجدتم في بلادكم غريباً وتغرموه أربعة دراهم فإن الناس لا يظهرون ببلادكم إذا فعلتم ذلك ففعلوه واستحكم فيهم‏.‏ وفي بعض الطرق أن إبليس عليه اللعنة جاءهم عند ذكرهم ما ذكروا في هيئة صبي أجمل صبي رآه الناس فدعاهم إلى نفسه فنكحوه ثم جرؤوا على ذلك‏.‏ وجاء من رواية ابن أبي الدنيا عن طاوس أن قوم لوط إنما أتوا أولاً النساء في أدبارهن ثم أتوا الرجال‏.‏ وفي قول‏:‏ ‏{‏مّن العالمين‏}‏ دون من الناس مبالغة لا تخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏81‏]‏

‏{‏إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال‏}‏ يحتمل الاستئناف البياني والنحوي وهو مبين لتلك الفاحشة، والاتيان هنا بمعنى الجماع، وقرأ ابن عامر وجماعة ‏{‏أَئِنَّكُمْ‏}‏ بهمزتين صريحتين، ومنهم من قرأ بتليين الثانية بغير مد، ومنهم من مد وهو حينئذ تأكيد للإنكار السابق وتشديد للتوبيخ، وفي الاتيان بإن واللام مزيد ‏(‏تقبيح‏)‏ وتقريع كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد فيؤكد تأكيداً قوياً، وفي إيراد لفظ ‏{‏الرجال‏}‏ دون الغلمان والمردان ونحوهما كما قال شيخ الإسلام مبالغة في التوبيخ كأنه قال‏:‏ لتأتون أمثالكم ‏{‏شَهْوَةً‏}‏ نصب على أنه مفعول له أي لأجل الاشتهاء لا غير أو على الحالية بتأويل مشتهين، وجوز أن يكون منصوباً على المصدرية وناصبه ‏(‏تأتون‏)‏ لأنه بمعنى تشتهون، وفي تقييد الجماع الذي لا ينفك عن الشهوة بها إيذان بوصفهم بالبهيمية الصرفة وأن ليس غرضهم إلا قضاء الشهوة، وفيه تنبيه على أنه ينبغي للعاقل أن يكون الداعي ‏(‏له‏)‏ إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع لا قضاء الشهوة، وجوز أن يكون المراد الإنكار عليهم وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة القذرة الخبيثة كما ينبىء عنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّن دُونِ النساء‏}‏ أي متجاوزين النساء اللاتي هن محل الاشتهاء عند ذوي الطباع السليمة كما يؤذن به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ‏}‏ فالجار والمجرور في موضع الحال من ضمير ‏(‏تأتون‏)‏، وجوز أن يكون حالا من الرجال على ما قاله أبو البقاء أي تأتونهم منفردين عن النساء، وأن يكون في موضع الصفة لشهوة على ما قيل واستبعد تعلقه به، و‏{‏بَلِ‏}‏ للإضراب وهو إضراب انتقالي عن الإنكار المذكور إلى الإخبار بما أدى إلى ذلك وهو اعتياد الإسراف في كل شيء أو إلى بيان استجماعهم للعيوب كلها‏.‏ ويحتمل أن يكون إضراباً عن غير مذكور وهو ما توهموه من العذر في ذلك أي لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإسراف والخروج عن الحدود، وهذا في معنى ذمهم بالجهل كما في سورة النمل ‏(‏55‏)‏ ‏(‏1‏)‏ إلا أنه عبر بالاسم هنا وبالفعل هناك لموافقة رؤوس الآي المتقدمة في كل والله تعالى أعلم بأسرار كلامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ‏}‏ أي المستكبرين منهم المتصدين للعقد والحل ‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي ما كان جوابهم شيء من الأشياء إلا قولهم أي لبعضهم الآخرين المباشرين للأمور أو ما كان جواب قومه الذين خاطبهم بما خاطبهم شيء من الأشياء إلا قول بعضهم لبعض معرضين عن مخاطبته عليه السلام ‏{‏أَخْرِجُوهُم‏}‏ أي لوطاً ومن معه ‏{‏مّن قَرْيَتِكُمْ‏}‏ أي بلدتكم التي أجمعتم فيها وسكنتم بها‏.‏ والنظم الكريم من قبيل‏:‏ تحية بينهم ضرب وجيع *** والقصد منه نفي الجواب على أبلغ وجه لأن ما ذكر في حيز الاستثناء لا تعلق له بكلامه عليه السلام من إنكار الفاحشة وتعظيم أمرها ووسمهم بما هو أصل الشر كله، ولو قيل‏:‏ وقالوا أخرجوهم لم يكن بهذه المثابة من الإفادة‏.‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ‏}‏ تعليل للأمر بالإخراج‏.‏ ومقصود الأشقياء بهذا الوصف السخرية بلوط ومن معه وبتطهرهم من الفواحش وتباعدهم عنها وتنزههم عما في المحاش والافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم‏:‏ أخرجوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد‏.‏ وقرىء برفع ‏{‏جَوَابَ‏}‏ على أنه اسم كان، و‏{‏إِلاَّ أَن قَالُواْ‏}‏ الخ خبر قيل‏:‏ وهو أظهر وإن كان الأول أقوى في الصناعة لأن الأعرف أحق بالاسمية‏.‏ وقد تقدم ما ينفعك هنا فتذكر‏.‏ وأياً ما كان فليس المراد أنهم لم يصدر عنهم في مقابلة كلام لوط عليه السلام ومواعظه إلا هذه المقالة الباطلة كما ينساق إلى الذهن بل إنه لم يصدر عنهم في المرة الأخيرة من مرات المحاورات الجارية بينه عليه السلام وبينهم إلا هذه الكلمة الشنيعة، وإلا فقد صدر عنهم قبل ذلك كثير من الترهات كما حكى عنهم في غير موضع من الكتاب الكريم؛ وكذا يقال في نظائره، قيل‏:‏ وإنما جيء بالواو في ‏{‏وَمَا كَانَ‏}‏ الخ دون الفاء كما في النمل ‏(‏65‏)‏ والعنكبوت ‏(‏42‏)‏ لوقوع الاسم قبل هنا والفعل هناك والتعقيب بالفعل بعد الفعل حسن دون التعقيب به بعد الاسم وفيه تأمل‏.‏ ولعل ذكر ‏{‏أَخْرِجُوهُم‏}‏ هنا و‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ‏}‏ في النمل ‏(‏65‏)‏ إشارة إلى أنهم قالوا مرة هذا وأخرى ذاك أو أن بعضاً قال كذا وآخر قال كذا‏.‏ وقال النيسابوري‏:‏ إنما جاء في النمل ‏{‏فَمَا كَانَ جَوَابَ‏}‏ ليكون تفسيراً لهذه الكناية، وقيل‏:‏ إن تلك السورة نزلت قبل الأعراف وقد صرح في الأولى، وكنى في الثانية اه‏.‏ ولعل ما ذكرناه أولى فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏83‏]‏

‏{‏فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ‏(‏83‏)‏‏}‏

‏{‏فأنجيناه وَأَهْلَهُ‏}‏ أي من اختص به واتبعه من المؤمنين سواء كانوا من ذوي قرابته عليه السلام أم لا‏.‏ وقيل‏:‏ ابنتاه ريثا ويغوثا‏.‏ وللأهل معان ولكل مقام مقال، وهو عند الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه في باب الوصية الزوجة للعرف ولقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قَالَ لاِهْلِهِ امكثوا‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 29‏]‏ ‏{‏وَسَارَ بِأَهْلِهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 29‏]‏ فتدفع الوصية لها إن كانت كتابية أو مسلمة وأجازت الورثة‏.‏ وعند الإمامين أهل الرجل كل من في عياله ونفقته غير مماليكه وورثته، وقولهما كما في «شرح التكملة» استحسان‏.‏ وأيده ابن الكمال بهذه الآية لأنه لا يصح فيها أن يكون بمعنى الزوجة أصلاً لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ امرأته‏}‏ فإنه استثناء من أهله وحينئذ لا يصح الاستثناء، وأنت تعلم أن الكلام في المطلق على القرينة لا في الأهل مطلقاً واسم امرأته عليه السلام واهلة وقيل‏:‏ والهة‏.‏

‏{‏كَانَتْ مِنَ الغابرين‏}‏ أي بعضاً منهم فالتذكير للتغليب ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة وكانت تسر الكفر وتوالي أهله فهلكت كما هلكوا‏.‏ وجوز أن يكون المعنى كانت مع القوم الغابرين فلا تغليب‏.‏ والغابر بمعنى الباقي ومنه قول الهذلي‏:‏ فغبرت بعدهم بعيش ناصب *** ويجيء بمعنى الماضي والذاهب‏.‏ ومنه قوله الأعشى‏:‏ في الزمن الغابر *** فهو من الأضداد كما في «الصحاح» وغيره‏.‏ ويكون بمعنى الهالك أيضاً‏.‏ وفي بقاء امرأته مع أولئك القوم روايتان ثانيتهما أنه عليه السلام أخرجها مع أهله ونهاهم عن الالتفات فالتفتت هي فأصابها حجر فهلكت‏.‏ والآية هنا محتملة للأمرين‏.‏ والحسن وقتادة يفسران الغبور هنا بالبقاء في عذاب الله تعالى‏.‏ وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة لهذا الكلام‏.‏ والجملة استئناف وقع جواباً نشأ عن الاستثناء كأنه قيل‏:‏ فما كان حالها‏؟‏ فقيل‏:‏ كانت من الغابرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏84‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَرًا‏}‏ أي نوعاً من المطر عجيباً وقد بينه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 74‏]‏‏.‏ وفي «الخازن» أن تلك الحجارة كانت معجونة بالكبريت والنار‏.‏ وظاهر الآية أنه أمطر عليهم كلهم‏.‏ وجاء في بعض الآثار أنه خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم حتى أن تأجرا منهم كان في الحرم فوقفت له حجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع غليه‏.‏ وفرق بين مطر وأمطر فعن أبي عبيدة أن الثلاثي في الرحمة والرباعي في العذاب ومثله عن الراغب، وفي «الصحاح» عن أناس أن مطرت السماء وأمطرت بمعنى، وفي «القاموس» ‏(‏لا يقال أمطرهم الله تعالى إلا في العذاب‏)‏‏.‏ وظاهر كلام «الكشاف» في الأنفال ‏(‏23‏)‏ الترادف كما في «الصحاح» لكنه قال‏:‏ ‏(‏وقد كثر الإمطار في معنى العذاب‏)‏ وذكر هنا أنه يقال‏:‏ ‏(‏مطرتهم السماء وواد ممطور ويقال‏:‏ أمطرت عليهم كذا أي أرسلته ‏(‏عليهم‏)‏ إرسال المطر‏)‏‏.‏ وحاصل الفرق كما في «الكشف» ملاحظة معنى الإصابة في الأول والإرسال في الثاني ولهذا عدي بعلى، وذكر ابن المنير ‏(‏أن مقصود الزمخشري الرد على من يقول‏:‏ إن مطرت في الخير وأمطرت في الشر ويتوهم أنها تفرقة وضعية فبين أن أمطرت معناه أرسلت شيئاً على نحو المطر وإن لم يكن ماءً حتى لو أرسل الله تعالى من السماء أنواعاً من الخير‏.‏‏.‏‏.‏ لجاز أن يقال فيه‏:‏ أمطرت السماء خيراً أي أرسلته إرسال المطر فليس للشر خصوصية في هذه الصيغة الرباعية ولكن اتفق أن السماء لم ترسل شيئاً سوى المطر إلا وكان عذاباً فظن أن الواقع اتفاقاً مقصود في الوضع‏)‏ ‏(‏وليس به انتهى‏)‏‏.‏ ويعلم منه كما قال الشهاب أن كلام أبي عبيدة وأضرابه مؤول وإن رد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 24‏]‏ فإنه عنى به الرحمة‏.‏ ولا يخفى أنه لو قيل‏:‏ إن التفرقة الاستعمالية إنما هي بين الفعلين دون متصرفاتهما لم يتأت هذا الرد إلا أن كلامهم غير صريح في طلك، ولعل البعض صرح بما يخالفه ثم ان ‏{‏مَّطَرًا‏}‏ إما مفعول به أو مفعول مطلق‏.‏

‏{‏فانظر كَيْفَ كَانَ عاقبة المجرمين‏}‏ أي مآل أولئك الكافرين المقترفين لتلك الفعلة الشنعاء‏.‏ وهذا خطاب لكل من يتأتى منه التأمل والنظر تعجيباً من حالهم وتحذيراً من أفعالهم‏.‏ وقد مكث لوط عليه السلام فيهم على ما في بعض الآثار ثلاثين سنة يدعوهم إلى ما فيه صلاحهم فلم يجيبوه وكان إبراهيم عليه السلام يركب على حماره فيأتيهم وينصحهم فيأبون أن يقبلوا فكان يأتي بعد أن أيس منهم فينظر إلى سدوم ويقول سدوم أي يوم لك من الله تعالى سدوم حتى بلغ الكتاب أجله فكان ما قص الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وسيأتي إن شاء الله تعالى تفصيل ذلك‏.‏ ثم إن لوطاً عليه السلام كما أخرج إسحق بن بشر وابن عساكر عن الزهري لما عذب قومه لحق بإبراهيم عليه السلام فلم يزل معه حتى قبضه الله تعالى إليه‏.‏

وفي هذه الآيات دليل على أن اللواطة من أعظم الفواحش‏.‏ وجاء في خبر أخرجه البيهقي في «الشعب» عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وصححه الحاكم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لعن الله تعالى سبعة من خلقه فوق سبع سموات فردد لعنة على واحد منها ثلاثاً ولعن بعد كل واحد لعنة فقال‏:‏ ملعون ملعون ملعون من عمل عمل قول لوطِ ‏"‏ الحديث‏.‏ وجاء أيضاً ‏(‏أربعة يصبحون في غضب الله تعالى‏)‏ ويمسون في سخط الله تعالى وعد منهم من يأتي الرجل‏.‏ وأخرج ابن أبي الدنيا وغيره عن مجاهد رضي الله تعالى عنه أن الذي يعمل ذلك العمل لو اغتسل بكل قطرة من السماء وكل قطرة من الأرض لم يزل نجساً أي إن الماء لا يزيل عنه ذلك الإثم العظيم الذي بعده عن ربه‏.‏ والمقصود تهويل أمر تلك الفاحشة‏.‏ وألحق بها بعضهم السحاق وبدا أيضاً في قوم لوط عليه السلام فكانت المرأة تأتي المرأة فعن حذيفة رضي الله تعالى عنه إنما حق القول على قوم لوط عليه السلام حين استغنى النساء بالنساء والرجال بالرجال‏.‏ وعن أبي حمزة رضي الله تعالى عنه قلت لمحمد بن علي عذب الله تعالى نساء قوم لوط بعمل رجالهم فقال‏:‏ الله تعالى أعدل من ذلك استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء‏.‏ وآخرون إتيان المرأة في عجيزتها واستدل بما أخرج غير واحد عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال على المنبر‏:‏ سلوني‏؟‏ فقال ابن الكواء‏:‏ تؤتى النساء في أعجازهن‏؟‏ فقال كرم الله تعالى وجهه‏:‏ سفلت سفل الله تعالى بك ألم تسمع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَأْتُونَ الفاحشة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 80‏]‏ الآية‏.‏ ولا يخفى أن ذلك لا يتم إلا بطريق القياس وإلا فالفاحشة في الآية مبينة بما علمت‏.‏ نعم جاء في آثار كثيرة ما يدل على حرمة إتيان الزوجة في عجيزتها والمسألة كما تقدم خلافية والمعتمد فيها الحرمة‏.‏

ولا فرق في اللواطة بين أن تكون بمملوك أو تكون بغيره‏.‏ واختلفوا في كفر مستحل وطء الحائض ووطء الدبر‏.‏ وفي «التتارخانية» نقلاً عن «السراجية» اللواطة بمملوكه أو مملوكته أو امرأته حرام إلا أنه لو استحله لا يكفر وهذا بخلاف اللواطة بأجنبي فإنه يكفر مستحلها قولاً واحداً‏.‏ وما ذكر مما يعلم ولا يعلم كما في «الشرنبلالية» لئلا يتجرأ الفسقة عليه بظنهم حله‏.‏

واختلف في حد اللواطة فقال الإمام‏:‏ لا حد بوطء الدبر مطلقاً وفيه التعزير ويقتل من تكرر منه على المفتى به كما في «الأشباه»‏.‏

والظاهر على ما قال البيري أنه يقتل في المرة الثانية لصدق التكرار عليه‏.‏ وقال الإمامان‏:‏ إن فعل في الأجانب حد كحد الزنا وإن في عبده أو أمته أو زوجته بنكاح صحيح أو فاسد فلا حد إجماعاً كما في «الكافي» وغيره بل يعزر في ذلك كله ويقتل من اعتاده‏.‏ وفي «الحاوي القدسي» وتكلموا في هذا التعزير من الجلد ورميه من أعلى موضع وحبسه في أنتن بقعة وغير ذلك سوى الإخصاء والجب والجلد أصح‏.‏ وفي «الفتح» يعزر ويسجن حتى يموت أو يتوب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حد اللواطة القتل للفاعل والمفعول ورواه مرفوعاً، وفي رواية أخرى عنه أنه سئل ما حد اللوطي فقال‏:‏ ينظر أعلى بناء في القرية فيلقى منه منكسا ثم يتبع بالحجارة‏.‏ قال في «الفتح» وكأن مأخذ هذا أن قوم لوط أهلكوا بذلك حيث حملت قراهم ونكست بهم ولا شك في اتباع الهدم بهم وهم نازلون‏.‏ وعن علي كرم الله تعالى وجهه أنه رجم لوطياً وهو أشبه شيء بما قص الله تعالى من إهلاك قوم لوط عليه السلام بإمطار الحجارة عليهم‏.‏

وصححوا أنها لا تكون في الجنة لأنه سبحانه استقبحها وسماها فاحشة والجنة منزهة عن ذلك‏.‏ وفي الأشباه أن حرمتها عقلية فلا وجود لها في الجنة، وقيل‏:‏ سمعية فتوجد أي فيمكن أن توجد‏.‏ وكأنه أراد بالحرمة هنا القبح إطلاقاً لاسم السبب على المسبب أي أن قبحها عقلي بمعنى أنه يدرك بالعقل وإن لم يرد به الشرع‏.‏ وليس هذا مذهب المعتزلة كما لا يخفى‏.‏ ونقل الجلال السيوطي عن ابن عقيل الحنبلي قال‏:‏ جرت هذه المسألة بين أبي علي بن الوليد المعتزلي وبين أبي يوسف القزويني فقال ابن الوليد‏:‏ لا يمنع أن يجعل ذلك من جملة اللذات في الجنة لزوال المفسدة لأنه إنما منع في الدنيا لما فيه من لطع النسل وكونه محلاً للأذى وليس في الجنة ذلك ولهذا أبيح شرب الخمر لما ليس فيه من السكر والعربدة وزوال العقل بل اللذة الصرفة فقال أبو يوسف رضي الله تعالى عنه‏:‏ الميل إلى الذكور عاهة وهو قبيح في نفسه لأنه محل لم يخلق للوطء ولهذا لم يبح في شريعة بخلاف الخمر فقال ابن الوليد‏:‏ هو قبيح وعاهة للتلويث بالأذى ولا أذى في الجنة فلم يبق إلا مجرد الالتذاذ انتهى‏.‏ وأنا أرى أن إنكار قبح اللواطة عقلاً مكابرة ولهذا كانت الجاهلية تعير بها ويقولون في الذم فلان مصفر استه ولا أدري هل يرضى ابن الوليد لنفسه أن يؤتى في الجنة أم لا‏؟‏ فإن رضي اليوم أن يؤتي غدا فغالب الظن أن الرجل مأبون أو قد ألف ذلك وإن لم يرض لزمه الإقرار بالقبح العقلي‏.‏

وإن ادعى أن عدم رضائه لأن الناس قد اعتادوا التعيير به وذلك مفقود في الجنة قلنا له‏:‏ يلزمك الرضا به في الدنيا إذا لم تعير ولم يطلع عليك أحد فإن التزمه فهو كما ترى؛ ولا ينفعه ادعاء الفرق بين الفاعل والمفعول كما لا يخفى على الأحرار‏.‏

وصرحوا بأن حرمة اللواطة أشد من حرمة الزنا لقبحها عقلاً وطبعاً وشرعاً والزنا ليس بحرام كذلك وتزول حرمته بتزويج وشراء بخلافها وعدم الحد عند الإمام لا لخفتها بل للتغليظ لأنه مطهر على قول كثير من العلماء وإن كان خلاف مذهبنا، وبعض الفسقة اليوم دمرهم الله تعالى يهونون أمرها ويتمنون بها ويفتخرون بالاكثار منها‏.‏ ومنهم من يفعلها أخذاً للثأر ولكن من أين، ومنهم من يحمد الله سبحانه عليها مبنية للمفعول وذلك لأنهم نالوا الصدارة بأعجازهم؛ نسأل الله تعالى العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة‏.‏ واعلم أن للواطة أحكاماً أخر فقد قالوا‏:‏ إنه لا يجب بها المهر ولا العدة في النكاح الفاسد ولا في المأتي بها لشبهة ولا يحصل بها التحليل للزوج الأول ولا تثبت بها الرجعة ولا حرمة المصاهرة عند الأكثر ولا الكفارة في رمضان في رواية ولو قذف بها لا يحد ولا يلاعن خلافاً لهما في المسألتين كما في «البحر» أخذاً من «المجتبى»‏.‏ وفي «الشرنبلالية» عن «السراج» يكفي في الشهادة عليها عدلان لا أربعة خلافاً لهما أيضاً‏.‏

هذا ولم أقف للسادة الصوفية قدس الله تعالى أسرارهم على ما هو من باب الإشارة في قصة قوم لوط عليه السلام، وذكر بعضهم في قصة قوم صالح عليه السلام بعد الإيمان بالظاهر أن الناقة هي مركب النفس الإنسانية لصالح عليه السلام ونسبتها إليه سبحانه لكونها مأمورة بأمره عز وجل مختصة به في طاعته وقربه‏.‏ وما قيل‏:‏ إن الماء قسم بينها وبينهم لها شرب يوم ولهم شرب يوم إشارة إلى أن مشربهم من القوة العاقلة العملية ومشربه من القوة العاقلة النظرية‏.‏ وما روي أنها يوم شربها كانت تتفحج فيحلب منها اللبن حتى تملأ الأواني إشارة إلى أن نفسه تستخرج بالفكر من علومه الكلية الفطرية العلوم النافعة للناقصين من علوم الأخلاق والشرائع‏.‏ وخروجها من الجبل خروجها من بدن صالح عليه السلام‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إن الناقة كانت معجزة صالح عليه السلام وذلك أنهم سألوه أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر فخرجت فسقيت سر السر فأعطت بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية ثم قال لهم‏:‏ ذروها ترتع في رياض القدس وحياض الأنس ‏{‏وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوء‏}‏ من مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة ‏{‏فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 73‏]‏ وهو عذاب الانقطاع عن الوصول إلى الحقيقة ‏{‏واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء‏}‏ أي مستعدين للخلافة ‏{‏وَبَوَّأَكُمْ فِى الارض‏}‏ أي أرض القلب ‏{‏تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا‏}‏ وهي المعاملات بالصدق ‏{‏قُصُوراً‏}‏ تسكنون فيها ‏{‏وَتَنْحِتُونَ الجبال‏}‏ وهي جبال أطوار القلب

‏{‏بُيُوتًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 74‏]‏ هي مقامات السائرين إلى الله تعالى‏.‏ ‏{‏قَالَ الملا الذين استكبروا‏}‏ وهي الأوصاف البشرية والأخلاف الذميمة ‏{‏لِلَّذِينَ استضعفوا‏}‏ من أوصاق القلب والروح ‏{‏أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالحا مُّرْسَلٌ مّن رَّبّهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 75‏]‏ ليدعو إلى الأوصاف النورانية ‏{‏فَعَقَرُواْ الناقة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 77‏]‏ بسكاكين المخالفة ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة‏}‏ لضعف قلوبهم وعدم قوة علمهم ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 78‏]‏ موتى لا حراك بهم إلى حظيرة القدس‏.‏

وذكر البعض أن الناقة والسقب صورتا الإيمان بالله تعالى والإيمان برسوله عليه الصلاة والسلام وقد ظهرا بالذات وبالواسطة من الحجر الذي تشبهه قلوب القوم وعقرهم للناقة من قبيل ذبح يحيى عليه السلام للموت الظاهر في صورة الكبش يوم القيامة‏.‏ وفي ذلك دليل على أنهم من أسوأ الناس استعداداً وأتمهم حرماناً‏.‏ ويدل على سوء حالهم أن الشيخ الأكبر قدس سره لم ينظمهم في «فصوص الحكم» في سلك قوم نوح عليه السلام حيث حكم لهم بالنجاة على الوجه الذي ذكره‏.‏ وكذا لم ينظم في ذلك السلك قوم لوط عليه السلام وكأن ذلك لمزيد جهلهم وبعدهم عن الحكمة وإتيانهم البيوت من غير أبوابها وقذارتهم ودناءة نفوسهم‏.‏ والذي عليه المتشرعون أن أولئك الأقوام كلهم حصب جهنم لا ناجي فيهم والله تعالى أحكم الحاكمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً‏}‏ عطف على ما مر‏.‏ والمراد أرسلنا إلى مدين الخ‏.‏ ومدين وسمع مديان في الأصل علم لابن إبراهيم الخليل عليه السلام ومنع صرفه للعلمية والعجمة ثم سميت به القبيلة، وقيل‏:‏ هو عربي اسم لماء كانوا عليه، وقيل‏:‏ اسم بلد ومنع صرفه للعلمية والتأنيث فلا بد من تقدير مضاف حينئذٍ أي أهل مدين مثلاً أو المجاز‏.‏ والياء على هذا عند بعض زائدة‏.‏ وعن ابن بري الميم زائدة إذ ليس في كلامهم فعيل وفيه مفعل‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنه شاذ كمريم إذ القياس إعلاله كمقام‏.‏ وعند المبرد ليس بشاذ قيل وهو الحق لجريانه على الفعل‏.‏

وشعيب قيل تصغير شعب بفتح فسكون اسم جبل أو شعب بكسر فسكون الطريق في الجبل‏.‏ واختير أنه وضع مرتجلاً هكذا‏.‏ والقول بأن القول بالتصغير باطل لأن أسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يجوز تصغيرها فيه نظر لأن الممنوع التصغير بعد الوضع لا المقارن له ومدعي ذلك قد يدعي هذا وهو على ما وجد بخط النووي في «تهذيبه» ‏(‏ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم عليه السلام‏)‏، وقيل‏:‏ ابن ميكيل بن يشجر بن لاوي بن يعقوب، وبعضهم يقول‏:‏ ميكائيل بدل ميكيل، ونقل ذلك عن خط الذهبي في «اختصار المستدرك»‏.‏ وآخر يقول ملكاني بدله‏.‏ وذكر أن أم ميكيل بنت لوط عليه السلام‏.‏ وأخرج ابن عساكر من طريق إسحاق بن بشر عن الشرقي بن القطامي وكان نسابة أن شعيباً هو يثروب بالعبرانية وهو ابن عيفاء بن يوبب بمثناة تحتية أوله وواو وموحدتين بوزن جعفر بن إبراهيم عليه السلام، وقيل‏:‏ في نسبه غير ذاك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم كما أخرج ابن عساكر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إذا ذكر شعيب يقول‏:‏ «ذلك خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه» أي محاورته لهم، وكأنه كما قيل عنى عليه الصلاة والسلام ما ذكر في هذه السورة كما يعلم بالتأمل فيه‏.‏

وبعث رسولاً إلى أمتين مدين وأصحاب الأيكة، قال السدي وعكرمة رضي الله تعالى عنهما‏:‏ ما بعث الله تعالى نبياً مرتين إلا شعيباً مرة إلى مدين فأخذهم الله تعالى بالصيحة، ومرة إلى أصحاب الأيكة فأخذهم الله تعالى بعذاب يوم الظلة‏.‏ وأخرج ابن عساكر في «تاريخه» من حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً أن قوم مدين وأصحاب الأيكة أمتان بعث الله تعالى إليهما شعيباً‏.‏ وهو كما قال ابن كثير غريب وفي رفعه نظر واختار أنهما أمة واحدة، واحتج له بأن كلاً منهما وعظ بوفاء الميزان والمكيال وهو يدل على أنهما واحدة وفيه ما لا يخفى‏.‏

ومن الناس من زعم أنه عليه السلام بعث إلى ثلاث أمم، والثالثة أصحاب الرس‏.‏ والقول بأنه عليه السلام كان أعمى لا عكاز له يعتمد عليه بل قد نص العلماء ذوو البصيرة على أن الرسول لا بد أن يكون سليماً من منفر ومثلوه بالعمى والبرص والجذام، ولا يرد بلاء أيوب وعمى يعقوب بناء على أنه حقيقي لطروه بعد الإنباء والكلام فيما قارنه، والفرق أن هذا منفر بخلافه فيمن استقرت نبوته‏.‏ وقد يقال‏:‏ إن صح ذلك فهو من هذا القبيل‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف مبني على سؤال نشأ من حكاية إرساله إليهم كأنه قيل‏:‏ فماذا قال لهم‏؟‏ فقيل قال‏:‏ ‏{‏يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ‏}‏ مر تفسيره ‏{‏قَدْ جَاءتْكُم بَيّنَةٌ مّن رَّبّكُمْ‏}‏ أي معجزة عظيمة ظاهرة من مالك أموركم‏.‏ ولم تذكر معجزته عليه السلام في القرآن العظيم كما لم تذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم والأنبياء عليهم السلام فيه‏.‏ والقول بأنه لم يكن له عليه السلام معجزة غلط لأن الفاء في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَوْفُواْ الكيل والميزان‏}‏ لترتيب الأمر على مجىء البينة، واحتمال كونها عاطفة على ‏{‏اعبدوا‏}‏ بعيد، وإن كانت عبادة الله تعالى موجبة للاجتناب عن المناهي التي معظمها بعد الكفر البخس فكأنه قيل‏:‏ قد جاءتكم معجزة شاهدة بصحة نبوتي أوجبت عليكم الإيمان بها والأخذ بما أمرتكم به فأوفوا الخ؛ ولو ادعى مدع النبوة بغير معجزة لم تقبل منه لأنها دعوى أمر غير ظاهر وفيه إلزام للغير ومثل ذلك لا يقبل من غير بينة‏.‏ ومن الناس من زعم أن البينة نفس شعيب‏.‏ ومنهم من زعم أن المراد بالبينة الموعظة وأنها نفس ‏{‏فَأَوْفُواْ‏}‏ الخ وليس بشيء كما لا يخفى‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏إن من معجزاته عليه السلام ما روي من محاربة عصا موسى عليه السلام التنين حين دفع إليه غنمه وولادة الغنم الدرع خاصة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها ووقوع عصا آدم عليه السلام على يده في المرات السبع وغير ذلك من الآيات لأن هذه كلها كانت قبل أن يستنبأ موسى عليه السلام فكانت معجزات لشعيب‏)‏ اه‏.‏ وفيه نظر لأن ذلك متأخر عن المقاولة فلا يصح تفريع الأمر عليه، ولأنه يحتمل أن يكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصاً لنبوته بل في «الكشف» أن هذا متعين لأن موسى أدرك شعيباً عليه السلام بعد هلاك قومه ولأن ذلك لم يكن معرض التحدي‏.‏ وزعم الإمام أن الإرهاص غير جائز عند المعتزلة، ولهذا جعل ذلك معجزة لشعيب عليه السلام نظر فيه الطيبي بأن الزمخشري قال في آل عمران ‏(‏54‏)‏ في تكليم الملائكة عليهم السلام لمريم‏:‏ إنه معجزة لزكريا أو إرهاص لنبوة عيسى عليهما السلام، والمراد بالكيل ما يكال به مجازاً كالعيش بمعنى ما يعاش به‏.‏

ويؤيده أنه قد وقع في سورة هود ‏(‏58‏)‏ ‏{‏المكيال‏}‏ وكذا عطف ‏{‏الميزان‏}‏ عليه هنا، فإن المتبادر منه الآلة وإن جاز كونه مصدراً بمعنى الوزن كالميعاد بمعنى الوعد، وقيل‏:‏ إن الكيل وما عطف عليه مصدران والكلام على الإضمار أي أوفوا آلة الكيل والوزن‏.‏

‏{‏وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس‏}‏ أي لا تنقصوهم يقال بخسه حقه إذا نقصه إياه ومنه قيل للمكس البخس‏.‏ وفي أمثالهم تحسبها حمقاء وهي باخس أي ذات بخس‏.‏ وتعدى إلى مفعولين أولهما ‏{‏الناس‏}‏ والثاني ‏{‏أَشْيَاءهُمْ‏}‏ أي الكائنة في المبايعات من الثمن والمبيع، وفائدة التصريح بالنهي عن النقص بعد الأمر بالإيفاء تأكيد ذلك الأمر وبيان قبح ضده، وقد يراد بالأشياء الحقوق مطلقاً فإنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه‏.‏ وقد جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم كانوا قوماً طغاة بغاة يجلسون على الطريق فيبخسون الناس أموالهم وكانوا إذا دخل عليهم الغريب يأخذون دراهمه الجياد ويقولون دراهمك هذه زيوف فيقطعونها ثم يشترونها منه بالبخس‏.‏ وروي أنهم يعطونه أيضاً بدلها زيوفاً فكأنه لما نهوا عن البخس في الكيل والوزن نهوا عن البخس والمكس في كل شيء‏.‏ قيل‏:‏ ويدخل في ذلك بخس الرجل حقه من حسن المعاملة والتوقير اللائق به وبيان فضله على ما هو عليه للسائل عنه‏.‏ وكثير ممن انتسب إلى أهل العلم اليوم مبتلون بهذا البخس وليتهم قنعوا به بل جمعوا حشفاً وسوء كيلة فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏ وبدأ عليه السلام بذكر هذه الواقعة على ما قال الإمام ‏(‏لأن عادة الأنبياء عليهم السلام أنهم إذا رأوا قومهم مقبلين على نوع من أنواع المفاسد إقبالاً أكثر من إقبالهم على سائر الأنواع بدأوا بمنعهم عن ذلك النوع، وكان قومه عليه السلام مشغوفين بالبخس والتطفيف‏)‏ أكثر من غيره، والمراد من الناس ما يعمهم وغيرهم أي لا تبخسوا غيركم ولا يبخس بعضكم بعضاً‏.‏

‏{‏وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى الارض‏}‏ بالجور أو به وبالكفر ‏{‏بَعْدَ إصلاحها‏}‏ أي إصلاح أمرها أو أهلها بالشرائع، فالإضافة من إضافة المصدر إلى مفعوله بحذف المضاف، والفاعل الأنبياء وأتباعهم‏.‏ وجوز أن لا يقدر مضاف ويعتبر التجوز في النسبة الإيقاعية لأن إصلاح من في الأرض إصلاح لها، وأن تكون الإضافة من إضافة المصدر إلى الفاعل على الإسناد المجازي للمكان، وأن تكون على معنى في أي بعد إصلاح الأنبياء فيها‏.‏ ويأبى الحمل على الظاهر لأن الإصلاح يتعلق بالأرض نفسها كتعميرها وإصلاح طرقها لا تفسدوا في الأرض‏.‏

‏{‏ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل والميزان وترك البخس والإفساد أو إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، وأياً ما كان فإفراد اسم الإشارة وتذكيره ظاهر‏.‏

ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقاً أو في الإنسانية وحسن الأحدوثة وما يطلبونه من التكسب والتربح لأن الناس إذا عرفوهم بالأمانة رغبوا في معاملتهم ومتاجرتهم، وقيل‏:‏ ليس المراد من ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ هنا معنى الزيادة لأنه ليس للتفضيل بل المعنى ذلكم نافع لكم‏.‏

‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ قيل‏:‏ المراد بالإيمان معناه اللغوي، وتخص الخيرية بأمر الدنيا أي إن كنتم مصدقين لي في قولي، ومثل هذا الشرط على ما قال الطيبي إنما يجاء به في آخر الكلام للتأكيد، ويعلم من هذا أن شعيباً عليه السلام كان مشهوراً عندهم بالصدق والأمانة كما كان نبينا صلى الله عليه وسلم مشهوراً عند قومه بالأمين‏.‏ وقال بعض الذاهبين إلى ما ذكر‏:‏ إن تعليق الخيرية على هذا التصديق بتأويل العلم بها وإلا فهو خير مطلقاً‏.‏ وقال القطب الرازي‏:‏ إن ذلك ليس شرطاً للخيرية نفسها بل لفعلهم كأنه قيل‏:‏ فاتوا به إن كنتم مصدقين بي فلا يرد أنه لا توقف للخيرية في الإنسانية على تصديقهم به‏.‏ وقيل‏:‏ المراد به مقابل الكفر وبالخيرية ما يشمل أمر الدنيا والآخرة أي ذلك خير لكم في الدارين بشرط أن تؤمنوا، وشرط الإيمان لأن الفائدة من حصول الثواب مع النجاة من العقاب ظاهرة مع الإيمان خفية مع فقده للانغماس في غمرات الكفر، وبنى بعضهم نفع ترك البخس ونحوه في الآخرة على أن الكفار يعذبون على المعاصي كما يعذبون على الكفر فيكون الترك خيراً لهم بلا شبهة لكن لا يخفى أنه إذا فسر الإفساد في الأرض بالإفساد فيها بالكفر لا يكون لهذا التعليق على الإيمان معنى كما لا يخفى، وإخراجه من حيز الإشارة بعيد جداً‏.‏ وزعم الخيالي أن الأظهر أن ‏{‏ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ معترضة والشرط متعلق بما سبق من الأوامر والنواهي، وكأنه التزم ذلك لخفاء أمر الشرطية عليه‏.‏ وقد فر من هرة ووقع في أسد وهرب من القطر ووقف تحت الميزاب فاعتبروا يا أولي الألباب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏86‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلّ صراط‏}‏ أي طريق من الطرق الحسية ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ أي تخوفون من آمن بالقتل كما نقل عن الحسن وقتادة ومجاهد وروي عن ابن عباس أن بلادهم كانت يسيرة وكان الناس يمتارون منهم فكانوا يقعدون على الطريق ويخوفون الناس أن يأتوا شعيباً ويقولون لهم‏:‏ إنه كذاب فلا يفتنكم عن دينكم‏.‏ ويجوز أن يكون القعود على الصراط خارجاً مخرج التمثيل كما فيما حكي عن قول الشيطان‏:‏ ‏{‏لاقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 16‏]‏ أي ولا تقعدوا بكل طريق من طرق الدين كالشيطان، وإليه يشير ما روي عن مجاهد أيضاً‏.‏ والكلية مع أن دين الله الحق واحد باعتبار تشعبه إلى معارف وحدود وأحكام وكانوا إذا رأوا أحداً يشرع في شيء منها منعوه بكل ما يمكن من الحيل‏.‏ وقيل‏:‏ كانوا يقطعون الطريق فنهوا عن ذلك‏.‏ وروي ذلك عن أبي هريرة وعبد الرحمن بن زيد، ولعل المراد به ما يرجع إلى أحد القولين الأولين وإلا ففيه خفاء وإن قيل‏:‏ إن في الآية عليه مبالغة في الوعيد وتغليظ ما كانوا يرومونه من قطع السبيل‏.‏

‏{‏وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ أي الطريق الموصلة إليه وهي الإيمان أو السبيل الذي قعدوا عليه فوضع المظهر موضع المضمر بياناً لكل صراط ‏(‏و‏)‏ دلالة على عظم ما ‏(‏يصدون عنه‏)‏ وتقبيحاً لما كانوا عليه، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مَنْ ءامَنَ بِهِ‏}‏ مفعول ‏{‏تَصُدُّونَ‏}‏ على إعمال الأقرب لا ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ خلافاً لما يوهمه كلام الزمخشري إذ يجب عند الجمهور في مثل ذلك حينئذٍ إظهار ضمير الثاني‏.‏ ولا يجوز حذفه إلا في ضرورة الشعر فيلزم أن يقال‏:‏ تصدونهم وإذا جعل ‏{‏تَصُدُّونَ‏}‏ بمعنى تعرضون يصير لازماً ولا يكون مما نحن فيه‏.‏ وضمير ‏{‏بِهِ‏}‏ لله تعالى أو لكل صراط أو سبيل الله تعالى لأن السبيل يذكر ويؤنث كما قيل، وجملة ‏{‏تُوعَدُونَ‏}‏ وما عطف عليه في موضع الحال من ضمير ‏{‏تَقْعُدُواْ‏}‏ أي موعدين وصادين‏:‏ وقيل‏:‏ هي على التفسير الأول استئناف بياني، والأظهر ما ذكرنا‏.‏

‏{‏وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ أي وتطلبون لسبيل الله تعالى عوجاً بإلقاء الشبه أو بوصفها للناس بما ينقصها وهي أبعد من شائبة الإعوجاج‏:‏ وهذا إخبار فيه معنى التوبيخ وقد يكون تهكماً بهم حيث طلبوا ما هو محال إذ طريق الحق لا يعوج‏.‏ وفي الكلام ترق كأنه قيل‏:‏ ما كفاكم أنكم توعدون الناس على متابعة الحق وتصدونهم عن سبيل الله تعالى حتى تصفونه بالاعوجاج ليكون الصد بالبرهان والدليل‏.‏ وعلى ما روي عن أبي هريرة وابن زيد جاء أن يراد بتبغونها عوجاً عيشهم في الأرض واعوجاج الطريق عبارة عن فوات أمنها‏.‏ وذكر الطيبي أن معنى هذا الطلب حينئذٍ معنى اللام في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 8‏]‏ وعلى سائر الأوجه في الكلام الحذف والإيصال‏.‏

‏{‏واذكروا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً‏}‏ عددكم ‏{‏فَكَثَّرَكُمْ‏}‏ فوفر عددكم بالبركة في النسل كما روي عن ابن عباس‏.‏ وحكي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى في نسلها البركة والنماء فكثروا وفشوا‏.‏ وجوز الزجاج أن يكون المعنى إذ كنتم مقلين فقراء فجعلكم مكثرين موسرين، أو كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد‏.‏ و‏{‏إِذْ‏}‏ مفعول ‏{‏اذكروا‏}‏ أو ظرف لمقدر كالحادث أو النعم أي أذكروا ذلك الوقت أو ما فيه ‏{‏وانظروا كَيْفَ كَانَ عاقبة المفسدين‏}‏ أي آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم كقوم نوح وعاد وثمود واعتبروا بهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏87‏]‏

‏{‏وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ‏(‏87‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مّنكُمْ ءامَنُواْ بالذى أُرْسِلْتُ بِهِ‏}‏ من الشرائع والأحكام ‏{‏وَطَائِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ‏}‏ به أو لم يفعلوا الإيمان ‏{‏فاصبروا حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا‏}‏ خطاب للكفار ووعيد لهم أي تربصوا لتروا حكم الله تعالى بيننا وبينكم فإنه سبحانه سينصر المحق على المبطل ويظهره عليه، أو هو خطاب للمؤمنين وموعظة لهم وحث على الصبر واحتمال ما كان يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم الله تعالى بينهم وينتقم لهم منهم‏.‏ ويجوز أن يكون خطاباً للفريقين أي ليصبر المؤمنون على أذى الكفار وليصبر الكفار على ما يسوؤهم من إيمان من آمن منهم حتى يحكم فيميز الخبيث من الطيب، والظاهر الاحتمال الأول‏.‏ وكان المقصود أن إيمان البعض لا ينفعكم في دفع بلاء الله تعالى وعذابه ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين‏}‏ إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه فهو في غاية السداد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏88‏]‏

‏{‏قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ‏(‏88‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ الملا الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ‏}‏ استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل له‏:‏ فماذا قالوا له عليه السلام بعدما سمعوا منه هذه المواعظ‏؟‏ فقيل‏:‏ قال أشراف قومه المستكبرون متطاولين عليه عليه السلام غير مكتفين بمجرد الاستعصاء بل بالغين من العتو مبلغاً عظيماً ‏{‏لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين ءامَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا‏}‏ بغضاً لكم ودفعاً لفتنتكم المترتبة على المساكنة والجوار، والتأكيد القسمي للمبالغة والاعتناء بالحكم و‏{‏مَعَكَ‏}‏ متعلق بالإخراج لا بالايمان، ونسبة الإخراج إليه عليه السلام أولاً وإلى المؤمنين ثانياً للتنبيه على أصالته عليه السلام في ذلك وتبعيتهم له فيه، وتوسيط النداء باسمه العلي بين المعطوفين لزيادة التقرير والتهديد الناشئة عن غاية الوقاحة والطغيان، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا‏}‏ عطف على جواب القسم أي والله ليكونن أحد الأمرين البتة الإخراج أو العود على أن المقصد الأهم هو العود وإنما ذكر الأول لمجرد القسر والإلجاء كما يفصح عنه عدم تعرضه عليه السلام بجواب الإخراج، والمتبادر من العود الرجوع إلى الحالة الأولى وهذا مما لا يمكن في حق شعيب عليه السلام لأن الأنبياء عليهم السلام معصومون عما دون الكفر بمراتب‏.‏ نعم هو ممكن في حق من آمن به فإسناده إليه عليه السلام من باب التغليب، قيل‏:‏ وقد غلب عليه المؤمنون هنا كما غلب هو عليهم في الخطاب فيكون في الآية حينئذ تغليبان، وقال غير واحد‏:‏ أن تعود بمعنى تصير كما أثبته بعض النحاة واللغويين فلا يستدعي العود إلى حالة سابقة وعلى ذلك قوله‏:‏

فإن لم تك الأيام تحسن مرة *** إلى فقد عادت لهن ذنوب

فكأنهم قالوا‏:‏ لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوامعك من قريتنا أو لتصيرن مثلنا فحينئذ لا إشكال ولا تغليب، وكذا يقال فيما بعد وهو حسن ولا يأباه ‏{‏إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 89‏]‏ لاحتمال أن يقال بالتغليب فيه أو يقال إن التنجية لا يلزم أن تكون بعد الوقوع في المكروه، ألا ترى إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فأنجيناه وَأَهْلَهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 83‏]‏ وأمثاله‏.‏

وقال ابن المنير على احتمال تسليم استعمال العود بمعنى الجروع إلى أمر سابق يجاب بأنه على نهج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله وَلِيُّ الذين ءامَنُواْ يُخْرِجُهُم مّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كَفَرُواْ أَوْلِيَاؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُم مّنَ النور إِلَى الظلمات‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 257‏]‏ فإن الإخراج يستدعي دخولاً سابقاً فيما وقع الإخراج منه، وهو غير متحقق في المؤمن والكافر الأصليين، لكن لما كان الايمان والكفر من الأفعال الاختيارية التي خلق الله تعالى العبد ميسراً لكل واحد منهما متمكناً منه لو أراده عبر عن تمكن المؤمن من الكفر، ثم عدوله عنه إلى الايمان اختياراً بالإخراج من الظلمات إلى النور توفيقاً من الله تعالى له ولطفاً به وبالعكس في حق الكافر، ويأتي نظير ذلك في قوله تعالى‏:‏

‏{‏أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 61‏]‏ وهذا من المجاز المعبر فيه عن السبب بالمسبب‏.‏ وفائدة اختياره في هذه المواضع تحقيق التمكن والاختيار لإقامة حجة الله تعالى على عباده‏.‏

وقيل‏:‏ إن هذا القول كان جارياً على ظنهم أنه عليه السلام كان في ملتهم لسكوته قبل البعثة عن الانكار عليهم أو أنه صدر عن رؤسائهم تلبيساً على الناس وإيهاماً لأنه كان على دينهم، وما صدر عنه عليه السلام في أثناء المحاورة وقع على طريق المشاكلة، وذكر الشهاب احتمالاً آخر في الجواب وهو أن الظاهر أن العود هو المقابل للخروج إلى ما خرج منه وهو القرية، والجار والمجرور في موضع الحال أي ليكن منكم الخروج من قريتنا أو العود إليها كائنين في ملتنا فينحل الإشكال من غير حاجة إلى ما تقدم، ولا يخفى بعده‏.‏ وإنما لم يقولوا أو لنعيدنكم على طريقة ما قبله لما أن مرادهم أن يعودوا بصورة الطواعية حذر الإخراج عن الوطن باختيار أهون الشرين لا إعادتهم بسائر وجوه الإكراه والتعذيب، ومن الناس من زعم أن تعودن لا يصلح أن يكون جواباً للقسم لأنه ليس فعل المقسم، وجعل ما أشرنا إليه أولى في بيان المعنى مخلصاً من ذلك وهو باطل لأنه يقتضي أن القسم لا يكون على فعل الغير ولم يقل أحد به، وقد شاع نحو والله ليضربن زيد من غير نكير وعدي العود بفي إيماء إلى أن الملة لهم بمنزلة الوعاء المحيط بهم ‏{‏قَالَ‏}‏ استئناف كنظائر أي قال شعيب عليه السلام رداً لمقالتهم الباطلة وتكذيباً لهم في أيمانهم الفاجرة‏:‏ ‏{‏أَوْ لَوْ كُنَّا كارهين‏}‏ على أن الهمزة لإنكار الوقوع ونفيه، والواو للعطف على محذوف، وقد يقال‏:‏ لها في مثل هذا الموضع واو الحال أيضاً و‏{‏لَوْ‏}‏ هي التي يؤتى بها لبيان ما يفيده الكلام السابق بالذات أو بالواسطة من الحكم الموجب أو المنفي على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بادخالها على أبعدها منه وأشدها منافاة له ليظهر بثبوته أو انتفائه معه ثبوته أو انتفاؤه مع ما عداه من الأحوال بطريق الألوية، والكلام ههنا في تقدير أنعود فيها لو لم نكن كارهين ولو كنا كارهين غير مبالين بالإكراه، فالجملة في موضع الحال من ضمير الفعل المقدر والمآل أنعود فيها حال عدم الكراهة وحال الكراهة إنكاراً لما تفيده كلمتهم الشنيعة بإطلاقها من العود على أي حالة غير أنه اكتفى بذكر الحالة التي هي أشد الأحوال منافاة للعود وأكثرها بعداً منه تنبيهاً على أنها هي الواقعة في نفس الأمر وثقة بإغنائها عن ذكر الأولى إغناءاً واضحاً لأن العود الذي تعلق به الإنكار حين تحقق مع الكراهة على ما يوجبه كلامهم فلأن يتحقق مع عدمها أولى، وهذا بعض مما ذكره شيخ الإسلام في هذا المقام، وقد أطنب فيه الكلام وأتى بالنقض والإبرام فأرجع إليه، وقد جوز أن يكون الاستفهام باقياً على حاله، وجعل بعضهم الهمزة بمعنى كيف، ووجه التعجيب إلى العود أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها وتقدير فعل العودة لقوة دلالة الكلام عليه أولى من تقدير فعل الإعادة كما فعل الزمخشري، وفي «التيسير» تقدير فعل الإخراج أي تخرجوننا من غير ذنب ونحن كارهون لمفارقة الأوطان، وقد وجه بأن العود مفروغ عنه لا يتصور من عاقل فلا يكون إلا الإخراج، ولا يخفى ضعف هذا التقدير‏.‏ وذكر أبو البقاء أن ‏{‏لَوْ‏}‏ هنا بمعنى أن لأنها للمستقبل، وجوز أن تكون على أصلها وما أشار إليه شيخ الإسلام في هذا المقام أبعد مغزى فليتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏89‏]‏

‏{‏قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ‏(‏89‏)‏‏}‏

‏{‏قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ عظيماً لا يقادر قدره‏.‏

‏{‏إِنْ عُدْنَا فِى مِلَّتِكُمْ‏}‏ التي هي الشرك وزعمنا كما زعمتم أن لله سبحانه نداً تعالى عن ذلك علواً كبير‏.‏

‏{‏بَعْدَ إِذْ نَجَّيْنَا الله مِنْهَا‏}‏ وعلمنا بطلانها وأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله أي إن عدنا في ملتكم فقد افترينا، واستشكل ذلك بأن الظاهر فيما إذا كان الجواب مثل ما ذكر أن يتعلق ظهوره والعلم به بالشرط نحو ‏{‏إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 77‏]‏ و‏{‏إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 40‏]‏ وإن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس، والمقصود هنا تقييد نفس الافتراء بالعود، ولفظ قد وصيغة الماضي يمنعانه، والجواب ما أشار إليه الزمخشري من أنه من باب الإخراج لا على مقتضى الظاهر وإيثار قد والماضي الدالين على التأكيد إما لأنه جواب قسم مقدر أو لأنه تعجيب على معنى ما أكذبنا أن عدنا الخ‏.‏ ووجه التعجيب أن المرتد أبلغ في الافتراء من الكافر لأن الكافر مفتر على الله تعالى الكذب حيث يزعم أن لله سبحانه نداً ولا ندله والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل والحمل على التعجب على ما في «الكشف» أولى لأن حذف اللام ضعيف، وجوز أبو حيان تبعاً لابن عطية أن يكون الفعل المذكور قسماً كما يقال برئت من الله تعالى إن فعلت كذا وكقول مالك بن الأشتر النخعي‏:‏

أبقيت وفري وانحرفت عن العلا *** ولقيت أضيافي بوجه عبوس

إن لم أشن على ابن هند غارة *** لم تخل يوماً من ذهاب نفوس

وهذا نوع من أنواع البديع وقد ذكره غير واحد من أصحاب البديعيات، ومثله عز الدين الموصلي بقوله‏:‏

برئت من سلفي والشم من هممي *** إن لم أدن بتقى مبرورة القسم

والباعونية بقولها‏:‏

لامكنتني المعالي من سيادتها *** إن لم أكن لهم من جملة الخدم

‏{‏وَمَا يَكُونُ لَنَا‏}‏ أي ما يصح لنا وما يقع فكيون تامة، وقد يأتي ذلك بمعنى ما ينبغي وما يليق‏.‏

‏{‏أَن نَّعُودَ فِيهَا‏}‏ في حال من الأحوال أو وقت من الأوقات ‏{‏إِلا أَن يَشَاء الله رَبُّنَا‏}‏ أي إلا حال أو وقت مشيئة الله لعودنا، والتعرض لعنوان الربوبية للتصريح بأنه المالك الذي لا يسأل عما يفعل‏.‏

‏{‏وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْء عِلْمًا‏}‏ فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة ومشيئته على موجب الحكمة فكل ما يقع مشتمل عليها، وهذا إشارة إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الكافرين، وفيه من الانقطاع إلى الله تعالى ما لا يخفى، ويؤكد ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَلَى الله تَوَكَّلْنَا‏}‏ فإن التوكل عليه سبحانه إظهار العجز والاعتماد عليه جل شأنه، وأظهار الاسم الجليل للمبالغة، وتقديم المعمول لإفادة الحصر‏.‏

وفي الآية دلالة على أن لله تعالى أن يشاء الكفر‏.‏

وادعى شيخ الإسلام أن المراد استحالة وقوع ذلك كأنه قيل‏:‏ وما كان لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله تعالى العود وهيهات ذلك، ولا يكاد يكون كما ينبىء عنه التعرض لعنوان الربوبية، وقولهم‏:‏ ‏{‏بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله‏}‏ فإن تنجيته تعالى إياهم منها من دلائل عدم مشيئته سبحانه لعودهم فيها، وفرع على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واسع‏}‏ الخ بعد أن فسره بما فسره محالية مشيئته العود لكن لطفاً وهو وجه في الآية، ولعل ما ذهبت إليه فيها أولى، ولا يرد على تقدير العود مفعولاً للمشيئة أنه ليس لذلك سعة العلم بعد حينئذ كبير معنى، بل كان المناسب ذكر شمول الإرادة وأن الحوادث كلها بمشيئة الله تعالى لما لا يخفى، ولا يحتاج إلى القول بأن ذلك منه عليه السلام رد لدعوى الحصر باحتمال قسم ثالث، والزمخشري بني تفسيره على عقيدته الفاسدة من وجوب رعاية الصلاح والأصلح وأن الله تعالى لا يمكن أن يشار الكفر بوجه لخروجه عن الحكمة، واستدل بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واسع‏}‏ الخ، ورده ابن المنير بأن موقع ماذكر الاعتراف بالقصور عن علم العاقبة والاطلاع على الأمور الغائبة‏.‏ ونظير ذلك قوله إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏{‏وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاء رَبّى شَيْئاً وَسِعَ رَبّى كُلَّ شَىْء عِلْماً‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 80‏]‏ فإنه عليه السلام لما رد الأمر إلى المشيئة وهي مغيبة مجد الله تعالى بالانفراد بعلم الغائبات انتهى، وإلى كون المراد من الاستثناء التأبيد ذهب جعفر بن الحرث والزجاج أيضاً وجعلوا ذلك كقول الشاعر‏:‏

إذا شاب الغراب أتيت أهلي *** وصار القار كاللبن الحليب

وأنت خبير بأن ذلك مخالف للنصوص النقلية والعقلية وللعبارة والإشارة، وقال الجبائي‏.‏ والقاضي‏:‏ المراد بالملة الشريعة وفيها ما لا يرجع إلى الاعتقاد، ويجوز أن يتعبد الله تعالى عباده به ومفعول المشيئة العود إلى ذلك أي ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله تعالى عودنا بأن يتعبدنا بها وينقلنا إليها وينسخ ما نحن فيه من الشريعة، وقيل‏:‏ المراد إلا أن يشاء الله تعالى أن يمكنكم من إكراهنا ويخلي بينكم وبينه فنعود إلى أظهار ملتكم مكرهين، وقوى بسبق ‏{‏أَوْ لَوْ كُنَّا كارهين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 88‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ إن الهاء في قوله سبحانه ‏{‏فِيهَا‏}‏ يعود إلى القرية لا الملة فيكون المعنى أنا سنخرج من قريتكم ولا نعود فيها إلا أن يشاء الله بما ينجزه لنا من الوعد في الإظهار عليكم والظفر بكم فنعود فيها؛ وقيل‏:‏ إن التقدير إلا أن يشاء الله أن يردكم إلى الحق فنكون جميعاً على ملة واحدة، ولا يخفى أن كل ذلك مما يضحك الثكلى، وبالجملة الآية ظاهرة فيما ذهب إليه أهل السنة وسبحانه من سد باب الرشد عن المعتزلة‏.‏

‏{‏رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق‏}‏ إعراض عن مفاوضتهم أثر ما ظهر من عتوهم وعنادهم وإقبال على الله تعالى بالدعاء والفتح بمعنى الحكم والقضاء لغة لحمير أو لمراد‏.‏ والفتاح عندهم القاضي والفتاحة بالضم الحكومة‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أنه قال‏:‏ الفتح القضاء لغة يمانية‏.‏ وأخرج البيهقي وجماعة عن ابن عباس قال‏:‏ ما كنت أدري ما قوله ‏{‏رَبَّنَا افتح‏}‏ حتى سمعت ابنة ذي يزن وقد جرى بيني وبينها كلام فقالت أفاتحك تريد أقاضيك و‏{‏بَيْنِنَا‏}‏ منصوب على الظرفية والتقييد بالحق لإظهار النصفة، وجوز أن يكون مجازاً عن البيان والإظهار وإليه ذهب الزجاج، ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيهاً له بفتح الباب وإزالة الإغلاق حتى يوصل إلى ما خلفها وبيننا على ما قيل مفعولب به بتقدير ما بيننا ‏{‏وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين‏}‏ أي الحاكمين لخلو حكمك عن الجور والحيف أو المظهرين لمزيد علمك وسعة قدرتك والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله‏.‏