فصل: تفسير الآية رقم (112)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ‏(‏112‏)‏‏}‏

‏{‏يَأْتُوكَ بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ‏}‏ أي ماهر في السحر والفعل مجزوم في جواب الطلب‏.‏

وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي ‏{‏سَحَّارٍ‏}‏ وجاء فيه الامالة وعدمها وهو صيغة مبالغة؛ وفسره بعضهم بأنه الذي يديم السحر والساحر من أن يكون قد سحر في وقت دون وقت، وقيل‏:‏ الساحر‏:‏ هو المبتدىء في صناعة السحر والسحار هو المنتهى الذي يتعلن منه ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ ‏(‏113‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَاء السحرة فِرْعَوْنَ‏}‏ بعدما أرسل إليهم الحاشرين وإنما لم يصرح به للإيذان بمسارعة فرعون بالإرسال ومبادرة الحاشرين والسحرة إلى الامتثال‏.‏

واختلف في عدتهم‏.‏ فعن كعب أنهم إثنا عشر ألفاً، وعن ابن إسحق خمسة عشر ألفاً، وعن أبي ثمامة سبعة عشر ألفاً، وفي رواية تسعة عشر ألفاً؛ وعن السدي بضعة وثلاثون ألفاً، وعن أبي بزة أنهم سبعون ألفاً، وعن محمد بن كعب ثمانون ألفاً‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن ابن جرير قال‏:‏ السحرة ثلثمائة من قومه وثلمائة من العريش ويشكون في ثلثمائة من الاسكندرية‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا سبعين ساحراً وقد أخذوا السحر من رجلين مجوسيين من أهل نينوى مدينة يونس عليه السلام، وروى نحو ذلك عن الكلبي، والظاهر عدم صحته لأن المجوسية ظهرت زمن زرادشت على المشهور، وهو إنما جاء بعد موسى عليه السلام، واسم رئيسهم كما قال مقاتل‏:‏ شمعون وقال ابن جريج‏:‏ هو يوحنا، وقال ابن الجوزي نقلاً عن علماء السير‏:‏ أن رؤساءهم سابور وعازور وحطحط ومصفى ‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف بياني ولذا لم يعطف كأنه قيل‏:‏ فماذا قالوا له عند مجيئهم إياه‏؟‏ فقيل‏:‏ قالوا الخ، وهذا أولى مما قيل إنه حال من فاعل جاءوا أي جاءوا قائلين ‏{‏إِنَّ لَنَا لاجْرًا‏}‏ أي عوضاً وجزاء عظيماً‏.‏

‏{‏إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين‏}‏ والمقصود من الإخبار إيجاب الأجر واشتراطه كأنهم قالوا‏:‏ بشرط أن تجعل لنا أجراً إن غلبنا، ويحتمل أن يكون الكلام على حذف أداة الاستفهام وهو مطرد، ويؤيد ذلك أنه قرأ ابن عامر وغيره ‏{‏أئن‏}‏ بإثبات الهمزة وتوافق القراءتين أولى من تخالفهما؛ ومن هنا رجح الواحدي هذا الاحتمال، وذكر الشرط لمجرد تعيين مناط ثبوت الأجر لا لترددهم في الغلبة، وقيل‏:‏ له، وتوسيط الضمير وتحلية الخبر باللام للقصر، أي كنا نحن الغالبين لاموسى عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ‏(‏114‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ نَعَمْ‏}‏ إن لكم لأجراً‏.‏

‏{‏وَإِنَّكُمْ لَمِنَ المقربين‏}‏ عطف على مقدر هو عين الكلام السابق الدال عليه حرف الإيجاب، ويسمى مثل هذا عطف التلقين، ومن قال إنه معطوف على السابق أراد ما ذكرنا، والمعنى إن لكن لأجراً وإنكم مع ذلك لمن المقربين، أي إني لا أقتصر لكم على العطاء وحده وأن لكم معه ما هو أعظم منه وهو التقريب والتعظيم لأن من أعطى شيئاً إنما يتهنأ به ويغتبط إذا نال معه الكرامة والرفعة، وفي ذلك من المبالغة في الترغيب والتحريض ما لا يخفى، وروى عن الكلبي أنه قال لهم‏:‏ تكونون أول من يدخل مجلسي وآخر من يخرج عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ ‏(‏115‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف كنظيره السابق ‏{‏ياموسى إِمَّا أَن تُلْقِىَ‏}‏ ما تلقى أو لا ‏{‏وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين‏}‏ لما نلقى أو لا أو الفاعلين للإلقاء أو لا خيروه عليه السلام بالبدء بالإلقاء مراعاة للأدب ولذلك كما قيل من الله تعالى عليهم بما منّ، أو إظهاراً للجلادة وأنه لا يختلف عليهم الحال بالتقديم والتأخير، ولكن كانت رغبتهم في التقديم كما ينبى عنه تغييرهم للنظر بتعريف الخبر وتوسيط ضمير الفصل وتوكيد الضمير المستتر، والظاهر أنه وقع في المحكى كذلك بما يرادفه، وقول الجلال السيوطي‏:‏ إن الضمير المنفصل إما أن يكون فصلاً أو تأكيداً ولا يمكن الجمع بينهما لأنه على الأول لا محل له من الإعراب وعلى الثاني له محل كالمؤكد وهم كما لا يخفى‏.‏ وفرق الطيبي بين كون الضمير فصلاً وبين كونه توكيداً بأن التوكيد يرفع التجوز عن المسند إليه فيلزم التخصيص من تعريف الخبر، أي نحن نلقى البتة لا غيرنا، والفصل يخصص الإلقاء بهم لتخصيص المسند إليه فيعرى عن التوكيد، وتحقيق ذلك يطلب من محله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏116‏]‏

‏{‏قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ ‏(‏116‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي موسى عليه السلام وثوقاً بشأنه وتحقيراً لهم وعدم مبالاة بهم ‏{‏أَلْقَوْاْ‏}‏ أنتم ما تلقون أو لا، وبما ذكرنا يعلم جواب ما يقال‏:‏ إن إلقاءهم معارضة للمعجزة بالسحر وهي كفر والأمر به مثله فكيف أمرهم وهو هو‏؟‏ وحاصل الجواب أنه عليه السلام علم أنهم لا بد وأن يفعلوا ذلك، وإنما وقع التخيير في التقديم والتأخير كما صرح به في قوله سبحانه في آية أخرى‏:‏ ‏{‏أَوَّلَ مَنْ ألقى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 65‏]‏ فجوز لهم التقديم لا لإباحة فعلهم بل لتحقيرهم، وليس هناك دلالة على الرضا بتلك المعارضة، وقد يقال أيضاً‏:‏ إنه عليه السلام إنما أذن لهم ليبطل سحرهم فهو إبطال للكفرة بالآخرة وتحقيق لمعجزته عليه السلام، وعلى هذا يحمل ما جاء في بعض الآثار من أنهم لما قالوا ما قالوا سمع موسى عليه السلام منادياً يقول؛ بل ألقوا أنتم يا أولياء الله تعالى فأوجس في نفسه خيفة من ذلك حتى أمر عليه السلام، وسيجيء إن شاء الله تعالى تحقيق ذلك ‏{‏فَلَمَّا أَلْقُوْاْ‏}‏ ما القوا وكانمع كل واحد منهم حبل وعصا ‏{‏سَحَرُواْ أَعْيُنَ الناس‏}‏ بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه، ولذا لم يقل سبحانه سحروا الناس فالآية على حد قوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 66‏]‏ ‏{‏واسترهبوهم‏}‏ أي أرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم طلبوا إرهابهم ‏{‏وَجَاءو بِسِحْرٍ عَظِيمٍ‏}‏ في بابه، يروى أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً‏.‏

وفي بعض الآثار أن الأرض كان سعتها ميلاً في ميل وقد امتلأت من الحيات والأفاعي، ويقال‏:‏ إنهم طلوا تلك الحبال بالزئبق ولونوها وجعلوا داخل العصى زئبقاً أيضاً وألقوها على الأرض فلما أثر حر الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض حتى تخيل للناس أنها حيات‏.‏ واستدل بالآية من قال كالمعتزلة إن السحر لا حقيقة له وإنما هو مجرد تخييل، وفيه أنهم إن أرادوا أن ما وقع في القصة من السحر كان كذلك فمسلم والآية تدل عليه وإن أرادوا أن كل سحر تخييل فممنوع والآية لا تدل عليه، والذي ذهب إليه جمهور أهل السنة أن السحر أقسام وأن منه ما لا حقيقة له ومنه ما له حقيقة كما يشهد بذلك سحر اللعين لبيد بن الأعصم اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسحر يهود خيبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما حين ذهب ليخرص تمرهم‏.‏

وذكروا أنه قد يصل السحر إلى حد المشيء على الماء والطيران في الهواء ونحو ذلك، وترتب ذلك عليه كترتب الشبع على الأكل والري على الشرب والإحراق على النار، والفاعل الحقيقي في كل ذلك هو الله تعالى‏.‏ نعم قال القرطبي‏:‏ أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله تعالى عنده إنزال الجراد والقمر والضفادع وفلق الحجر وقلب العصا وإحياء الموتى وانطاق العجماء وأمثال ذلك من آيات الرسل عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ومن أنكر حقيقته استدل بلزوم الالتباس بالمعجزة، وتعقب بأن الفرق مثل الصبح ظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏117‏]‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ ‏(‏117‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْحَيْنَا إلى مُوسَى‏}‏ بواسطة الملك كما هو الظاهر ‏{‏ءانٍ ألقى عَصَاكَ‏}‏ التي علمت من أمرها ما علمت و‏{‏ءانٍ‏}‏ تفسيرية لتقدم ما فيه معنى القول دون حروفه، وجوز أن تكون مصدرية فالمصدر مفعول الإيماء، والفاء في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏فَإِذَا هِىَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ‏}‏ فصيحة أي فألقاها فصارت حية فإذا هي الخ، وإنما حذف للإيذان بمسارعة موسى عليه السلام إلى الإلقاء وبغاية سرعة الانقلاب كأن لقفها لما يأفكون قد حصل متصلاً بالأمر بالإلقاء، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة الغريبة، واللقف كاللقفان التناول بسرعة، وفسره الحسن هنا بالسرط والبلع، والإفك صرف الشيء وقلبه عن الوجه المعتاد ويطلق على الكذب وبذلك فسره ابن عباس‏.‏ ومجاهد لكونه مقلوباً عن وجهه واشتهر ذلك فهي حتى صار حقيقة، و‏{‏مَا‏}‏ موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي ما يأفكونه ويكذبونه أو مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول أي المأفوك لأنه المتلقف، وقرأ الجمهور ‏{‏تَلْقَفْ‏}‏ بالتشديد وحذف إحدى التاءين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏118‏]‏

‏{‏فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏118‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَقَعَ‏}‏ أي ظهر وتبين كما قال الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ والفراء ‏{‏الحق‏}‏ وهو أمر موسى عليه السلام، وفسر بعضهم وقع بثبت على أنه قد استعير الوقع للثبوت والحصول أو للثبات والدوام لأنه في مقابل بطل والباطل زائل، وفائدة الاستعارة كما قيل‏:‏ الدلالة على التأثير لأن الوقع يستعمل في الأجسام، وقيل‏:‏ المراد من وقع الحق صيرورة العصاحية في الحقيقة وليس بشيء ‏{‏وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ أي ظهر بطلان ما كانوا مستمرين على عمله ‏{‏فَغُلِبُواْ‏}‏ أي فرعون وقومه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏119‏]‏

‏{‏فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ ‏(‏119‏)‏‏}‏

‏{‏فَغُلِبُواْ‏}‏ أي فرعون وقومه ‏{‏هُنَالِكَ‏}‏ أي في ذلك المجمع العظيم ‏{‏وانقلبوا صاغرين‏}‏ أي صاروا أذلاء أو رجعوا إلى المدينة كذلك فالانقلاب إما مجاز عن الصيرورة والمناسبة ظاهرة أو بمعنى الرجوع فصاغرين حال ورجح الأول بقوله

سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏120‏]‏

‏{‏وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏

‏{‏وَأُلْقِىَ السحرة ساجدين‏}‏ لأن ذلك كان بمحضر من فرعون قطعاً، وجوز رجوع ضمير غلبوا ‏{‏وانقلبوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 119‏]‏ على الاحتمال الأول إلى السحرة أيضاً، وتعقب بأنهم لا ذلة لهم؛ والحمل على الخوف من فرعون أو على ما قبل الإيمان لا يخفى ما فيه، والمراد من ‏{‏ألقى السحرة‏}‏ الخ أنهم خروا ساجدين، وعبر بذلك دونه تنبيهاً على أن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك فكأن أحداً دفعهم وألقاهم أو أن الله تعالى ألهمهم ذلك وحملهم عليه فالملقى هو الله تعالى بالهامه لهم حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى عليه السلام وينقلب الأمر عليه، ويحتمل أن يكون الكلام جارياً مجرى التمثيل مبالغة في سرعة خرورهم وشدته وإليه يشير كلام الأخفش، وجوزأن يكون التعبير بذلك مشاكلة لما معه من الإلقاء إلا أنه دون ما تقدم، يروى أن الاجتماع القوم كان بالإسكندرية وأنه بلغ ذنب الحية من وراء البحر وأنها فتحت فاها ثمانين ذراعاً فابتلعت متا صنعوا واحداً بعد واحد وقصدت الناس ففزعوا ووقع الزحام فمات منهم لذلك خمسة وعشرون ألفاً ثم أخذها موسى عليه السلام فعادت في يده عصا كما كانت وأعدم الله تعالى بقدرته تلك الأجرام العظام، ويحتمل أنه سبحانه فرقها أجزاء لطيفة فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه من أمر السماء وليس من السحر في شيء فعند ذلك خروا سجداً، والمتبادر من السجود حقيقته ولا يبعد أنهم كانوا عالمين بكيفيته، وقيل‏:‏ إن موسى وهرون عليهما السلام سجداً شكراً لله تعالى على ظهور الحق فاقتدوا بهما وسجدوا معهما، وحمل السجود على الخضوع أي أنهم خضعوا لما رأوا ما رأوا خلاف الظاهر الذي نطقت به الآثار من غير داع إلى ارتكابه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏121‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف‏.‏

وجوز أبو البقاء كونه حالاً من ضمير ‏{‏انقلبوا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 119‏]‏ وليس بشيء، وقيل‏:‏ هو حال من ‏{‏السحرة‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 120‏]‏ أو من ضميرهم المستتر في ‏{‏ساجدين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 120‏]‏ أي أنهم ألقوا ساجدين حال كونهم قائلين ‏{‏ءامَنَّا بِرَبّ العالمين‏}‏ أي مالك أمرهم والمتصرف فيهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏

‏{‏رَبّ موسى وهارون‏}‏ بدل مما قبل وإنما أبدلوا لئلا يتوهم أنهم أرادوا فرعون ولم يقتصروا على موسى عليه السلام إذ ربما يبقى للتوهم رائحة لأنه كان ربي موسى عليه السلام في صغره، ولذا قدم هرون في محل آخر لأنه أدخل في دفع التوهم أو لأجل الفاصلة أو لأنه أكبر سناً منه، وقدم موسى هنا لشرفه أو للفاصلة، وأما كون الفواصل في كلام الله تعالى لا في كلامهم فقد قيل‏:‏ إنه لا يضر، وروى أنهم لما قالوا‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 121‏]‏ قال فرعون‏:‏ أنا رب العالمين فقالوا رداً عليه‏:‏ رب موسى وهرون، وإضافة الرب إليهما كإضافته إلى العالمين، وقيل‏:‏ إن تلك الإضافة على معنى الاعتقاد أن الرب الذي يعتقد ربوبيته موسى وهرون ويكون عدم صدقه على فرعون بزعمه أيضاً ظاهراً جداً إلا أن ذلك خلاف الظاهر من الإضافة، ويعلم مما قدمنا سر تقديم السجود على هذا القول‏.‏

وقال الخازن في ذلك‏:‏ إن الله تعالى لما قذف في قلوبهم الإيمان خروا سجداً لله تعالى على ما هداهم إليه وألهمهم من الإيمان ثم أظهروا بذلك إيمانهم، وقيل‏:‏ إنهم بادروا إلى السجود تعظيماً لشأنه تعالى لما رأوا من عظيم قدرته ثم إنهم أظهروا الإيمان، ومن جعل الجملة حالا قال بالمقارنة فافهم، وأول من بادر بالإيمان كما وري عن ابن إسحق الرؤساء الأربعة الذيت ذكرهم ابن الجوزي ثم اتبعتهم السحرة جميعاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏123‏]‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏123‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ‏}‏ منكراً على السحرة موبخاً لهم على ما فعلوه ‏{‏ءامَنْتُمْ بِهِ‏}‏ أي برب موسى وهرون أو بالله تعالى لدلالة ذلك عليه أو بموسى عليه السلام قيل لقوله تعالى في آية أخرى‏:‏ ‏{‏آمَنْتُمْ لَهُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏ فإن الضمير فيها له عليه السلام لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 71‏]‏ الخ، والمقصود من الجملة الخبرية التوبيخ لأن الخبر إذا لم يقصد به فائدته ولا لازمها تولد منه بحسب المقام ما يناسبه، وهنا لما خاطبهم الجبار بما فعلوا مخبراً لهم بذلك مع ظهور عدم قصد إفادة أحد الأمرين والمقام هو المقام أفاد التوبيخ والتقريع، ويجوز أن تقدر فيه الهمزة بناء على اطراد ذلكوالاستفهام للانكار بمعنى أنه لا ينبغي ذلك، ويؤيد ذلك قراءة حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وأبي بكر عن عاصم‏.‏ وروح عن يعقوب ‏{‏أَءمِنتُمْ‏}‏ بهمزتين محققتين وتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين مما قرىء به أيضاً‏.‏

‏{‏قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ‏}‏ أي قبل أن آملاكم أنا بذلك وهو على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كلمات رَبّى‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 109‏]‏ لا أن الاذن منه في ذلك وأصل آذن أأذن بهمزتين الأولى للتكلم، والثانية من صلب الكلمة قلبت الفا لوقوعها ساكنة بعده مة ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ الصنيع ‏{‏لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ‏}‏ لحليلة احتلتموها أنتم وموسى وليس مما اقتضى الحال صدوره عنكم لقوة الدليل وظهور المعجزة، وهذا تمويه منه على القبط يريهم أنهم ما غلبوا ولا انقطعت حجتهم، قيل‏:‏ وكذا قوله‏:‏ ‏{‏قَبْلَ أَنْ ءاذَنَ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 321‏]‏ ‏{‏فِى المدينة‏}‏ أي في مصر قبل أن تخرجوا إلى الميعاد‏.‏

أخرج ابن جرير‏.‏ وأبو الشيخ عن ابن مسعود وناس من الصحابة قال‏:‏ التقى موسى عليه السلام وأمير السحرة فقال له موسى‏:‏ أرأيتك أن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق فقال الساحر‏:‏ لآتين غداً بسحر لا يغلبه سحر فوالله لئن غلبتني لأمنن بك ولأشهدن أنك حق وفرعون ينظر إليهم وهو الذي نشأ عنه هذا القول ‏{‏لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا‏}‏ أي القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ عاقبة ما فعلتم، وهذا وعيد ساقه بطريق الإجمال للتهويل ثم عقبه بالتفصيل فقال‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏124‏]‏

‏{‏لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏124‏)‏‏}‏

‏{‏لاقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مّنْ خِلاَفٍ‏}‏ أي من كل جانب عضواً مغايراً للآخر كاليد من جانب والرجل منآخر، والجار في موضع الحال أي مختلفة، والقول بأن ‏(‏من‏)‏ تعليلية متعلقة بالفعل أي لأجل خلافكم بعيد ‏{‏ثُمَّ لاَصَلّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم، والتصليب مأخوذ من الصلب وهو الشد على خشبة أو غيرها وشاع في تعليق الشخص بنحو حبل في عنقه ليموت وهو المتعارف اليوم، ورأيت في بعض الكتب أن الصلب الذي عناه الجبار هو شد الشخص من تحت الإبطين وتعليقه حتى يهلك، وهوكقطع الأيدي والأرحجل أول من سنه فرعون على ما أخرجه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما، وشرعه الله تعالى لقطاع الطريق تعظيماً لجرمهم، ولهذا سماه سبحانه محاربة لله ولرسوله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏125‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ ‏(‏125‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ استئناف بياني ‏{‏إِنَّا إلى رَبّنَا مُنقَلِبُونَ‏}‏ أي إلى رحمته سبحانه وثوابه عائدون إن فعلت بنا ذلك فيا حبذاه‏.‏

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير أن السحرة حين خروا سجداً رأوا منازلهم تبنى لهم، وأخرج عن الأوزاعي أنهم رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها، ويحتمل أنهم أرادوا إنا ولا بد ميتون فلا ضير فيما تتوعدنا به والأجل محتوم لا يتأخر عن وقته‏:‏

ومن لم يمت بالسيف مات بغيره *** تعددت الأسباب والموت واحد

ويحتمل أيضاً أن المعنى إنا جميعاً ننقلب إلى الله تعالى فيحكم بيننا‏:‏

إلى ديان يوم الدين نمضي *** وعند الله تجتمع الخصوم

وضمير الجمع على الأول للسحرة فقط، وعلى الثالث لهم ولفرعون، وعلى الثاني يحتمل الأمرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ‏(‏126‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا تَنقِمُ‏}‏ أي ما تكره، وجاء في الماضي نقم ونقم على وزن ضرب وعلم ‏{‏مِنَّا‏}‏ معشر من آمن‏:‏

‏{‏إلاَّ أنْ آمَنَّا بئايات رَبّنَا لَمَّا جَاءتْنَا‏}‏ وذلك أصل المفاخر وأعظم المحاسن، والاستثناء مفرغ، والمصدر في موضع المفعول به، والكلام على حد قوله‏:‏

ولا عيب فيهم غير أن ضيوفهم *** تعاب بنسيان الأحبة والوطن

وقيل‏:‏ إن ‏{‏تَنقِمُ‏}‏ مضارب نقم بمعنى عاقب، يقال‏:‏ نقم نقماً وتنقاما وانتقم إذا عاقبه، وإلى هذا يشير ما روى عن عطاء، وعليه فيكون ‏{‏مِنَّا إِلاَّ‏}‏ في موضع المفعول له، والمراد على التقديرين حسن طمع فرعون في نجع تهديده إياهم، ويحتمل أن يكون على الثاني تحقيقاً لما أشاروا إليه أولاً من الرحمة والثواب‏.‏ ثم أعرضوا عن خاطبته وفزعوا والتجأوا إليه سبحانه وقالوا‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا‏}‏ أي أفض علينا صبراً يغمرنا كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون، ‏{‏فأفرغ‏}‏ على الأول استعارة تبعية تصريحية و‏{‏مَعِىَ صَبْراً‏}‏ قرينتها، والمراد هب لنا صبراً تاماً كثيراً، وعلى الثاني كيون ‏{‏صَبْراً‏}‏ استعارة أصلية مكنية و‏{‏أَفْرِغْ‏}‏ تخييلية، وقيل‏:‏ الكلام على الأول كالكلام على الثاني إلا أن الجامع هناك الغمر وههنا التطهير، وليس بذاك وأن جل قائله ‏{‏وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ‏}‏ أي ثابتين على ما رزقتنا من الإسلام غير مفتونين من الوعيد‏.‏ عن ابن عباس‏.‏ والكلبي‏.‏ والسدي أنه فعل بهم ما أوعدهم به، وقيل‏:‏ لم يقدر عليه لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا باياتنا أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وأجاب الأولون عن ذلك بأن المراد الغلبة بالحجة أو في عاقبة الأمر ونهايته وهذا لا ينافي قتل البعض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ ‏(‏127‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الملا مِن قَوْمِ فِرْعَونَ‏}‏ مخاطبين له بعدما شاهدوا من أمر موسى عليه السلام ما شاهدوا‏.‏

‏{‏أَتَذَرُ موسى‏}‏ أي أتتركه ‏{‏وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الارض‏}‏ أي في أرض مصر‏.‏

والمراد بالإفساد ما يشمل الديني والدنيوي، ومفعول الفعل محذوف للتعميم أو أنه منزل منزلة اللازم أو يقدر يفسدوا الناس بدعوتهم إلى دينهم والخروج عليك‏.‏ أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال‏:‏ لما آمنت السحرة أتبع موسى عليه السلام ستمائة ألف من بني إسرائيل ‏{‏وَيَذَرَكَ‏}‏ عطف على يفسدوا المنصوب بأن، أو منصوب على جواب الاستفهام كما ينصب بعد الفاء، وعلى ذلك قول الحطيئة‏:‏

ألم أك جارك ويكون بيني *** وبينكم المودة والأخاء

والمعنى كيف يكون الجمع بين تركك موسى عليه السلام وقومه مفسدين في الأرض وتركهم إياك الخ أي لا يمكن وقوع ذلك‏.‏ وقرأ الحسن‏.‏ ونعيم بن ميسرة بالرفع على أنه عطف على ‏(‏تذر‏)‏ أو استئناف أو حال بحذف المبتدأ، أي وهو يذرك لأن الجملة المضارعية لا تقترن بالواو على الفصيح، والجملة على تقدير الاستئناف معترضة مؤكدة لمعنى ما سبق، أي تذره وعادته وتركك، ولا بد من تقدير هو على ما قال الطيبي كما في احتمال الحال ليدل على الدوام، وعلى تقدير الحالية تكون مقررة لجهة الإشكال‏.‏ وعن الأشهب أنه قرأ بسكون الراء، وخرج ذلك ابن جنى على أنه تركت الضمة للتخفيف كما في قراءة أبي عمرو ‏{‏يَأْمُرُكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 67‏]‏ بإسكان الراء استقلالاً للضمة عند توالي الحركات، واختاره أبو البقاء، وقيل‏:‏ إنه عطف على ما تقدم بحسب المعنى، ويقال له في غير القرآن عطف التوهم، كأنه، قيل‏:‏ يفسدوا ويذرك كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مّنَ الصالحين‏}‏ ‏[‏المنافقين‏:‏ 10‏]‏

‏{‏وَءالِهَتَكَ‏}‏ أي معبوداتك‏.‏ يروى أنه كان يعبد الكواكب فهي آلهته وكان يعتقد أنها المربية للعالم السفلى مطلقاً وهو رب النوع الإنساني، وعن السدي أن فرعون كان قد اتخذ لقومه أصناماً وأمرهم بأن يعبدوها تقرباً إليه، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏أَنَاْ رَبُّكُمُ الاعلى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 24‏]‏ وقيل‏:‏ إنه كانت له بقرة يعبدها وكان إذا رأى بقرة حسنة أمر قومه بعبادتها، ولذلك أخرج السامري لبني إسرائيل عجلاً وهو رواية ضعيفة عن ابن عباس، وقال سليمان التيمي‏:‏ بلغني أنه كان يجعل في عنقه شيئاً يعبده، وأمر الجمع عليه يحتاج إلى عناية وقرأ ابن مسعود‏.‏ والضحاك‏.‏ ومجاهد‏.‏ والشعبي و‏{‏إلهتك‏}‏ كعبادتك لفظاً ومعنى فهو مصدر‏.‏

وأخرج غير واحد عن ابن باس أنه كان ينكر قراءة الجمع بالجمع ويقرأ بالمصدر ويقول‏:‏ إن فرعون كان يعبد ولا يعبد، ألا ترى قوله‏:‏ ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إله غَيْرِى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 38‏]‏ ومن هنا قال بعضهم‏:‏ الأقرب أنه كان دهرياً منكراً للصانع، وقيل‏:‏ الآلهة اسم للشمس وكان يعبدها؛ وأنشد أبو علي‏:‏

وأعجلنا الآلهة أن تؤبا *** ‏{‏قَالَ‏}‏ مجيباً لهم ‏{‏سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ‏}‏ كما كنا نفعل بهم ذلك من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ ونافع ‏(‏سنقتل‏)‏ بالتخفيف والتضعيف كما في موتت الإبل‏.‏

‏{‏وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهرون‏}‏ أي غالبون كما كنا لم يتغير حالنا وهم مقهورون تحت أيدينا، وكان فرعون قد انقطع طمعه عن قتل موسى عليه السلام فلم يعد الملأ بقتله لما رأى من علو أمره وعظم شأنه وكأنه لذلك لم يعد بقتل قومه أيضاً، والظاهر على ما قيل‏:‏ إن هذا من فرعون بيان لأنهم لا يقدرون على أن يفسدوا في الأرض وإيذان بعدم المبالاة بهم وأن أمرهم فيما بعد كأمرهم فيما قبل وأن قتلهم عبث لا ثمرة فيه، وذكر الطيبي أنه من الأسلوب الحكيم وإن صدر من الأحمق، وأن الجملة الاسمية كالتذليل لما قبلها فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏128‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ موسى لِقَوْمِهِ‏}‏ تسلية لهم حين تضجروا مما سمعوا بأسلوب حكيم ‏{‏استعينوا بالله واصبروا‏}‏ على ما سمعتم من الأقاويل الباطلة ‏{‏إِنَّ الارض للَّهِ‏}‏ أي أرض مصر أو الأرض مطلقاً وهي داخلة فيها دخولاً أولياً ‏{‏يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ الذين أنتم منهم، وحاصله أنه ليس الأمر كما قال فرعون‏:‏ ‏{‏إِنَاْ فَوْقَهُمْ قاهرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 127‏]‏ فإن القهر والغلبة لمن صبر واستعان بالله ولمن وعده الله تعالى توريث الأرض وأنا ذلكم الموعود الذي وعدكم الله تعالى النصرة به وقهر الأعداء وتوريث أرضهم، وقوله‏:‏ ‏{‏والعاقبة‏}‏ الخ تقرير لما سبق‏.‏

وقرأ أبي‏.‏ وابن مسعود ‏{‏والعاقبة‏}‏ بالنصب عطفاً على اسم أن‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ‏(‏129‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي قوم موسى له عليه السلام ‏{‏أُوذِينَا‏}‏ من جهة فرعون ‏{‏مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا‏}‏ بالرسالة يعنون بذلك قتل الجبار أولادهم قبل مولده‏.‏ وبعده إذ قيل له‏:‏ يولد لبني إسرائيل غلام يسلبك ملكك ويكون هلاكك على يديه ‏{‏وَمِنْ بَعْدَمَا جِئْتَنَا‏}‏ أي رسولاً يعنون به ما توعدهم به من إعادة قتل الأبناء وسائر ما كان يفعل بهم لعداوة موسى عليه السلام من فنون الجور والعذاب، وقيل‏:‏ إن نفس ذلك الإيعاد إيذاء، وقيل‏:‏ جعل إيعاده بمنزلة فعله لكونه جباراً‏.‏

وقيل‏:‏ أرادوا الإيذاء بقتل الأبناء قبل مولد موسى عليه السلام وبعد مولده، وقيل‏:‏ المراد ما كانوا يستعبدون به ويمتهنون فيه من أنواع الخدم والمهن، وتعقب بأن ذلك ليس مما يلحقهم بواسطة موسى عليه السلام فليس لذكره كثير ملاءمة بالمقام، والظاهر أنه لا فرق بين الاتيان والمجيء وإن الجمع بينهما للتفنن والبعد عن التكرار اللفظي فإن الطباع مجبولة على معاداة المعادات، ولذلك جيء بأن المصدرية أولاً وبما أختها ثانياً‏.‏

وذكر الجلال اليوطي في الفرق بينهما أن الإتيان يستعمل في المعاني والأزمان والمجيء في الجواهر والأعيان وهو غير ظاهر هنا إلا أن يتكلف، ونقل عن الراغب في الفرق بينهما أن الاتيان هو المجيء بسهولة فهو أخص من مطلق المجيء وهو كسابقه هنا أيضاً، وهذا منهم جار مجري التحزن لعدم الاكتفاء بما كنى لهمعليه السلام لفرط ما عراهم وفظاعة ما اعتراهم، والمقام يقتضي الإطناب فإن شأن الحزين الشاكي إطالة الكلام رجاء أن يطفىء بذلك بعض الأوام، وقيل‏:‏ هو استبطاء منهم لما وعدهم عليه السلام أن النجاة والطفر والأول أولى فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ‏}‏ الذي فعل بكم ما فعل وتوعدكم بما توعد‏.‏

‏{‏وَيَسْتَخْلِفَكُمْ‏}‏ أي يجعلكم خلفاء ‏{‏فِى الارض‏}‏ أي أرض مصر تريح بما كنى عنه وتوكيد للتسلية على إبلغ وجه، وفيه إدماج معنى من عادي أولياء الله تعالى فقد بارزه بالمحاربة وحق له الدمار والخسار‏.‏ وعسى في مثله قطع في إنجاز الموعود والفوز بالمطلوب، ونص غير واحد على التعبير به للجري على سنن الكرماء‏.‏

وقيل‏:‏ تأدباً مع الله تعالى وإن كان الأمر مجزوماً به بوحي وإعلام منه سبحانه وتعالى، وقيل‏:‏ إن ذلك لعدم الجزم منه عليه السلام بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم، فقد روى أن مصر إنما فتحت في زمن داود عليه السلام‏.‏

وتعقب بأنه لا يساعده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 137‏]‏ فإن المتبادر استخلاف المستضعفين أنفسهم لا استخلاف أولادهم، والمجاز خلاف الأصل‏.‏ نعم المشهور أن بني إسرائيل بعد أن خرجوا مع موسى عليه السلام من مصر لم يرجعوا إليها في حياته، وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَيَنظُرَ‏}‏ أي يرى أو يعلم ‏{‏كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ أحسناً أم قبيحاً فيجازيكم حسبما يظهر منكم من الأعمال إرشاد لهم إلى الشكر وتحذير لهم عن الوقوع في مهاوي الكفر، وقيل‏:‏ فيه إشارة إلى ما وقع منهم بعد ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏130‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءالَ فِرْعَوْنَ بالسنين‏}‏ شروع في تفصيل مبادي الهلاك الموعود به وإيذان بأنهم لم يمهلوا حتى تحولوا من حال إلى حال إلى أن حل بهم عذاب الاستئصال، وتصديق الجملة بالقسم لإظهار الاعتناء بمضمونها، والمراد بآل فرعون أتباعه من القبط، وإضافة الآل إليه وهو لا يضاف إلا إلى الإشراف لما فيه من الشرف الدنيوي الظاهر وإن كان في نفس الأمر خسيساً، وعن الخطيب أن المراد فرعون وإله، والسنسن جمع سنة والمراد بها عام القحط وقد غلبت في ذلك حتى صارت كالعلم له لكثرة ما يذكر ويؤرخ به ولا كذلك العام الخصب، ولامها واو أو هاء، وقد اشتقوا منها فقالوا‏:‏ أسنت القوم إذا قحطوا، وقلوبا اللام تاء ليفرقوا بين ذلك وقولهم أسنى القوم إذا لبثوا في موضع سنة، قال المازني‏:‏ وهو شاذ لا يقاس عليه، وقال الفراء‏:‏ توهموا أن الهاء أصلية إذ وجدوها أصلية فقلبوها تاء وجاء أصابتنا سنية حمراء أي جدب شديد فالتصغير للتعظيم وإجراء الجمع مجرى سائر الجموع السالمة المعربة بالحروف هو اللغة المشهورة واللغة الأخرى إجراء الإعراب على النون لكن مع الياء خاصة فيسلك فيه مسلك حين في الإعراب بالحركات الثلاث مع التوين عند بني عامر وبنو تميم لا ينونون تخفيفاً وحينئذ لا تحذف النون للإضافة وعلى ذلك جاء قول الشاعر‏:‏

دعاني من نجد فإن سنينه *** لعبن بنا شيباً وشيبننا مرداً

ومنه قوله صلى الله عليه وسلم «اللهم اجعلها عليهم سنيناً كسنين يوسف عليه السلام» وهو على اللغة المشهورة ‏{‏وَنَقْصٍ مّن الثمرات‏}‏ بكثرة عاهات الثمار وخروج اليسير منها حتى لا تحمل النخلة كما روى عن رجاء بن حيوة إلا بسرة واحدة وكان الحقط على ما أخرج عبد بن حمبد وغيره عن قتادة في باديتهم وأهل ماشيتهم والنقص في أمصارهم وقراهم، وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ لما أخذ الله تعالى آل فرعون بالسنين يبس كل شيء لهم وذهبت مواشيهم حتى يبس نيل مصر فاجتمعوا إلى فرعون وقالوا له‏:‏ إن كنت كما تزعم فائتنا في نيل مصر بماء فقال‏:‏ غدوة يصبحكم الماء فلما خرجوا من عنده قال أي شيء صنعت‏؟‏ أنا لا أقدر على ذلك فغداً يكذبونني، فلما كان جوف الليل قال واغتسل ولبس مدرعة صوف ثم خرج حافياً حتى أتى النيل فقام في بطنه فقال‏:‏ اللهم إنك تعلم أني أعلم أنك تقدر على أن تملأ نيل مصر ماء فاملأه ماء فما علم إلا بخرير الماء يقبل فخرج وأقبل النيل مترعاً بالماء لما أراد الله تعالى بهم من الهلكة، وهذا إن صح يدل على أن الرجل لم يكن دهرياً نافياً للصانع كما يقال البعض ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ أي لكي يتعظوا فيتركوا ما هم عليه أو لكي يذكروا الله تعالى فيتضرعوا له ويلتجئوا إليه رغبة فيما عنده، وقيل‏:‏ لكي يتذكروا أن فرعون لو كان إلهاً لدفع ذلك الضر‏.‏

وعن الزجاج أنهم إنما أخذوا بالضراء لأن أحوال الشدة ترقق القلوب وترغب فيما عند الله تعالى ألا ترى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 51‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏131‏]‏

‏{‏فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏131‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذَا جَاءتْهُمُ الحسنة‏}‏ الخ بيان لعدم تذكرهم وتماديهم في الغي، والمراد بالحسنة كما يفهمه ظاهر كلام البعض الخصب والرخاء، وفسرها مجاهد بالرخاء والعافية وبعضهم بأعم من ذلك أي إذا جاءهم ما يستحسنونه ‏{‏قَالُواْ لَنَا هذه‏}‏ أي إنا مستحقوها بيمن الذات ‏{‏وَإِن تُصِبْهُمْ سَيّئَةٌ‏}‏ أي ضيقة وجدب أو جدب ومرض أو عقوبة وبلاء ‏{‏يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ‏}‏ أي يتشاءموا بهم ويقولوا‏:‏ ما أصابنا ذلك إلا بشؤمهم، وأصل إطلاق التطير على التشاؤم على ما قال الأزهري إن العرب كانت تزجر الطير فتتشاءم بالبارح وتتيمم بالسانح‏.‏ وفي المثل من إلى بالسانح بعد البارح، قال أبو عبيد‏:‏ سأل يونس رؤبة وأنا شاهد عن السانح والبارح فقال‏:‏ السانح ما ولاك ميامنه والبارح ما ولاك مياسره، وقيل‏:‏ البارح ما يأتي من جهة الشمال والسانح ما يأتي من جهة اليمين وأنشدوا‏:‏

زجرت لها طير الشمال فإن يكن *** هواك الذي تهوى يصبك اجتنابها

ثم إنهم سموا الشؤم طيراً وطائراً والتساؤم تطيراً، وقد يطلقون الطائر على الحظ والنصيب خيراً أو شراً حتى قيل‏:‏ إن أصل التطير تفريق الما لوتطييره بين القوم فيطير لكل أحد نصيبه من خير أو شر ثم غلب في الشر‏.‏ وفي الآية إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك لا سيما بعد مشاهدة الآيات وقد كانوا بحيث لم يؤثر فيهم شيء منها بل ازدادوا عتواً وعناداً، وتعريف الحسنة وذكرها بأداة التحقيق كما قال غير واحد لكثرة وقوعها وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات لأن العناية الإلهية اقتضت سبق الرحمة وعموم النعمة قبل حصول الأعمال، وتنكير السيئة وذكرها بأداة الشك لندورها وعدم تعلق الإرادة بإحداثها إلا بالتبع فإن النقمة بمقتضى تلك العناية إنما تستحق بالأعمال‏.‏

والزمخشري بين الحسنة بالخصب والرخاء ثم قال في تعليل ما ذكر‏:‏ لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته واتساعه وأما السيئة فلا تقع إلا في الندرة ولا يقع إلا شيء منها‏.‏ وقال «صاحب الكشف»‏:‏ ذلك إشارة إلى أن التعريف للعهد الخارجي التقريري بدليل أنه ذكر في مقابلة قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذنَا آلَ فِرْعَوْنَ بالسنين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 130‏]‏ وقوله‏:‏ لأن الجنس الخ أي جنس الخصب والرخاء وفيه مبالغة أي إنه لكثرة الوقوع كأن الجنس كله واجب الوقوع، ولهذا لا يزال يتكاثر حتى يستغرق الجنس‏.‏ وقوله‏:‏ وإما السيئة الخ في مقابلة ذلك دليل بين على إرادة هذا المعنى فلا تخالف بين كلاميه ولم يرد بالجنس العهد الذهني وهذا مراد صاحب المفتاح وبه يندفع ما توهمه صاحب الإيضاح انتهى‏.‏ وفيه تعريض بشيخه الطيبي حيث حمل الجنس على العهد الذهني وقال ما قال والبحث طويل الذيل فليطلب من شروح المفتاح وشرح التلخيص للعلامة الثاني وحواشيه، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله‏}‏ استنئاف مسوق من قبله تعالى لرد مقالتهم الباطلة وتحقيق للحق في ذلك وتصديره بكلمة التنبيه لإبراز كمال العناية بمضمونه أي ليس شؤمهم إلا عند الله أي من قبله وحكمه كما قال ابن عباس، وقال الزجاج‏:‏ المعنى ليس الشؤم الذي يلحقهم إلا الذي وعدوا به من العقاب عنده لا ما ينالهم في الدنيا، وقال الحسن‏:‏ المعنى إلا إن ما تشاءموا محفوظ عليهم حتى يجازيهم الله تعالى به يوم القيامة، وفسر بعضهم الطائر هنا بالحظ أي إنماحظهم وما طار إليهم من القضاء والقدر بسبب شؤمهم عند الله، وقرأ الحسن ‏{‏إِنَّمَا‏}‏ وهو اسم جمع طائر على الصحيح لأنه على أوزان المفردان، وقال الأخفش هو جمع له، وروى عن قطرب أن الطير يكون واحداً وجمعاً وكذا الطائر، وأنشد ابن الأعرابي‏:‏

كأنه تهتان يوم ماطر *** على رؤوس كرؤوس الطائر

‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك فيقولون ما يقولون، وإسناد عدم العلم إلى أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلم ولكن لا يعمل بمقتضى علمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏132‏]‏

‏{‏وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏132‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ شروع في بيان بعض آخر مما أخذوا به من فنون العذاب التي هي في أنفسها آيات بينات وعدم إرعوائهم عما هم عليه من الكفر والعناد أي قالوا بعد ما رأوا ما رأوا من العصا والسنين ونقص الثمرات ‏{‏مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ‏}‏ كلمة مهما مما اختلف فيها فقيل هي كلمة برأسها موضوعة لزيادة التعميم‏.‏ وقيل‏:‏ هي مركبة من مه اسم فعل للكف إما باق على معناه أو مجرد عنه وما الشرطية‏.‏ وقال الخليل‏:‏ أصلها ما ما على أن الأولى شرطية والثانية إبهامية متصلة بها لزيادة التعميم فقلبت ألف ما الأولى هاء فراراً من بشاعة التكرار، وأسلم الأقوال كما قال غير واحد القول بالبساطة‏.‏ وفي حاشية التسهيل لابن هشام ينبغي لمن قال بالبساطة أن يكتب مهما بالياء ولمن قال أصلها ماما أن يكتبها بالألف، وفي «الشرح» وكذا إذا قيل أصلها مه ما‏.‏ وتعقب ذلك الشمني بأن القائلين بالأصلين المذكورين متفقون على أن مهما أصل آخر فما ينبغي في كتب آخرها على القول الأولى ينبغي على القول الثاني، وفيه نظر‏.‏

وهي اسم شرط لا حرف على الصحيح، ومحلها الرفع هنا على الابتداء وخبرها إما الشرط أو الجزاء أو هما على الخلاف أو النصب على أنها مفعول به لفعل يفسره ما بعد أي أي شيء تحضره لدينا تأتنا به، ومن الناس من جوز مجيئها في محل نصب على الظرفية، وشدد الزمخشري الإنكار عليه في «الكشاف»، وذكر ابن المنير أنه غير القائل بظرفيتها كلام الخليل أو شبهها بمتى ما، وخالف ابن مالك في ذلك وقال‏:‏ إنه مسموع عن العرب كقوله‏:‏

وإنك مهما تعط بطنك سؤهل *** وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا

ويوافقه كما قال الشهاب استعمال المنطقيين لها بمعنى كلما وجعلها سور الكلية فإنها تفيد العموم كما صرحوا به وليس من مخترعاتهم كما توهم، وأنت تعلم أن كونها هنا ظرفاً مما لا ينبغي الإقدام عليه بوجه لإباء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مّنْ ءايَةٍ‏}‏ عنه لأنه بيان لمهما وليس بزمان، وتسميتهم إياها آية من باب المجاراة لموسى عليه السلام والاستهزاء بها مع الإشعار بأن هذا العنوان لا يؤثر فيهم وألا فهم ينكرون كونها آية في نفس الأمر ويزعمون أنها سحر كما ينبىء عنه قولهم ‏{‏لّتَسْحَرَنَا بِهَا‏}‏ والضميران المجروران راجعان إلى مهما، وتذكير الأول لرعاية جانب اللفظ لإبهامه، وتأنيث الثاني للمحافظة على جانب المعنى لأنه إنما رجع إليه بعدما بين بآية، وادعى ابن هشام أن الأولى عود الضمير الثاني إلى آية، ولعله راعى القرب والذاهب إلى الأول راعى أن ‏{‏ءايَةً‏}‏ مسوقة للبيان فالأولى رجوع الضمير على المفسر المقصود بالذات وإن كان المآل واحداً أي لتسحر بتلك الآية أعيننا وتشبه علينا ‏{‏فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي بمصدقين لك ومؤمنين بنبوتك أصلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏133‏]‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ‏(‏133‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ‏}‏ عقوبة لجرائمهم لا سيما قولهم هذا ‏{‏الطوفان‏}‏ أي ما طاف بهم وغشى أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل فهو اسن جنس من الطواف، وقيل‏:‏ إنه في الأصل مصدر كنقصان، وهو اسم لكل شيء حادث يحيط بالجهات ويعم كالماء الكثير والقتل الذريع والموت الجار، فـ وقد اشتهر في طوفان الماء وجاء تفسيره هنا بذلك في عدة روايات عن ابن عباس، وجاء عن عطاء‏.‏ وماهد تفسيره بالموت، وأخرج ذلك ابن جرير وغيره عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعاً، وعن وهب بن منبه أنه الطاعون بلغة اليمن وعن أبي قلابة أنه الجدري، وهم أول من عذبوا به، وهذا القولان ينجران إلى الخبر المرفوع ‏{‏والجراد‏}‏ هو المعروف واحده جرادة سمي لجرده ما على الأرض، وهو جنود الله تعالى يسلطه على من يشاء من عباده، وأخرج أبو داود‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والطبراني وغيرهم عن أبي زهير النميري مرفوعاً النهي عن مقاتلته معلللاً بما ذكر، وذكر البيهقي أن ذلك إن صح مراد به إذا لم يتعرض لإفساد المزارع فإذا تعرض له جاز دفعه بما يقع به الدفع من القتال والقتل أو أريد بها لإشارة إلى تعذر مقاومته بذلك، وأخرج أبو داود ومن معه عن سليمان قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجراد فقال «أكثر جنود الله تعالى لا آكله ولا أحرمه» وزعم أنه مخلوق من ذنوب ابن آدم مؤول ‏{‏والقمل‏}‏ بضم القاف وتشديد الميم قيل‏:‏ هو الدبي وهو الصغار من الجراد ولا يسمى جراداً إلا بعد نبات أجنحته، وروى ذلك عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة والسدي، وقيل هو القدران جمع القراد المعروف، وقيل‏:‏ صغار الذر، وعن حبيب بن أبي ثابت أنها الجعلان، وعن ابن زيد قال‏:‏ زعم بعض الناس أنها البراغيث، وعن سعيد بن جبير أنها السوس وهي الدابة التي تكون في الحنطة وغيرها، ويسمى قملاً بفتح فسكون وبذلك قرأ الحسن ‏{‏والضفادع‏}‏ جمع ضفدع كزبرج‏.‏ وجعفر‏.‏ وجندب ودرهم وهذا أقل أو مردود الدابة المائية المعروفة ‏{‏والدم‏}‏ معروف وتشديد داله لغة‏.‏

وروى أن موسى عليه السلام لما رأى من فرعون وقومه العناد والإصرار دعا وقال‏:‏ يا رب إن فرعون علا في الأرض وإن قومه قد نقضوا العهد رب فخذهم بعقوبة تجعلها عليهم نقمة ولقومي عظة ولمن بعدهم آية وعبرة فأرسل الله تعالى عليهم المطر ثمانية أيام في ظلمة شديدة لم يستطع أحد لها أن يخرج من بيته فدخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منه قطرة وكانت مشتبكة في بيوتهم وفاض الماء على أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والتصرف ودام ذلك الماء عليهم سبعة أيام من السبت إلى السبت فقالوا‏:‏ يا موسى ادع لنا ربك يشكف عنا ذلك ونحن نؤمن بك ونرسل معك بني إسرائيل فدعا ربه فكشف عنهم فنبث من العشب والكلأ ما لم يعهد مثله قبله، فقالوا‏:‏ ما كان هذا الماء إلا نعمة علينا فلم يؤمنوا‏.‏

فبعث الله تعالى عليهم الجراد فأكل زروعهم وثمارهم وأبوابهم وسقوفهم وثيابهم وأمتعتهم حتى أكل مسامير الحديد التي في الأبواب ولم يصب بني إسرائيل من ذلك شيء، فعجوا وضجوا إلى موسى عليه السلام، وقالوا له كما قالوا أولاً فخرج عليه السلام إلى الصحراء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع إلى النواحي التي جاء منها، وقيل‏:‏ جاءت ريح فألقته في البحر فلم يؤمنوا، فسلط الله تعالى عليهم القمل فأكل ما أبقى الجراد وكان يدخل بين ثوب أحدهم وجلده فيمصه وإذا أراد أن يأكل طعاماً امتلأ قملاً، وقال ابن المسيب‏:‏ ابتلوا بالسوس فكان الرجل منهم يخرج بعشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد إلا بثلاث أقفزة منها وأخذ حواجبهم وأشفار عيونهم وسائر شعورهم وفعل في جلودهم ما يفعله الجدري ومنعهم النوم والقرار ففزعوا إلى موسى عليه السلام فرفع عنهم، فقالوا‏:‏ قد تحققنا الآن أنك ساحر، فأرسل الله تعالى عليهم الضفادع فامتلأت بيوتهم وأفنيتهم وأمتعتهم وآنيتهم منها فلا يكشف أحد إنا إلا وجدها فيه، وكان الرجل يجلس في الضفادع فتبلغ إلى حلقه فإذا أراد أن يتكلم يشب الضفدع فيدخل في فيه؛ وكانت تشب في قدورهم فتفسد عليهم طعامهم وتطفىء نيرانهم، وإذا اضطجع أحدهم ركبته حتى تكون عليه ركاماً فلا يستطيع أن ينقلب وإذا أراد أن يأكل سبقته إلى فيه ولا يعجن عجيناً إلا امتلأ منها ففزعوا إليه عليه السلام وتضرعوا فأخذ عليهم العهود والمواثيق ودعا فكشف الله تعالى عنهم ذلك فنقضوا العهد، فأرسل الله تعالى عليهم الدم فسال النيل عليهم دماً عبيطاً وصارت مياههم دماء فكان فرعون يجمع بين القبطي والإسرائيلي في إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دماً ويقومان إلى الجرة فيها الماء فيخرج للقبطي دم وللإسرائيلي ماء حتى إن المرأة من آل فرعون تأتي المرأة من بني إسرائيل فتقول لها استقيني ماء فتصب لها من قربتها فيصير في الإناء دماً حتى كانت تقول‏:‏ اجعليه في فيك ثم مجيه في فيّ فتفعل ذلك فيصير دماً‏.‏

وقال ابن ابن أسلم‏:‏ إن الدم الذي سلط عليهم كان الرعاف ‏{‏ءايات‏}‏ حال من الأشياء المتقدمة‏.‏

‏{‏مّفَصَّلاَتٍ‏}‏ مبينات لا يشك عاقل أنها آيات إلهية لا سحر كما يزعمون، أو مميزاً بعضها من بعض منفصلة بالزمان لامتحان أحوالهم وكان بين كل اثنين منها شهر وكان امتداد كل واحدة منها شهراً كما أخرج ذلك ابن المنذر عن ابن عباس، وأخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم قال‏:‏ كانت الآيات التسع في تسع سنين في كل سنة آية، وأخرج أحمد في الزهد وغيره عن نوف الشامي قال‏:‏ مكث موسى عليه السلام في آل فرعون بعدما غلب السحرة عشرين سنة يريهم الآيات الجراد والقمل الخ فأبوا أن يسلموا‏.‏

وفي رواية أبي الشيخ عن ابن عباس أنه مكث عليه السلام بعد أن غلب أربعين سنة يريهم ما ذكر، ورأيت في مسامرات الشيخ ابن العربي قدس سره أن موسى عليه السلام مكث ينذر آل فرعون ستة عشر شهراً إلى أن أغرقوا فأدخلوا ناراً ولم ينتفعوا بما رأوا من الآيات ‏{‏فاستكبروا‏}‏ عن الإيمان بها‏.‏

‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ‏}‏ جملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ‏(‏134‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز‏}‏ أي العذاب المذكور على التفصيل كما روي عن الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ ومجاهد؛ و‏{‏لَّمّاً‏}‏ لا تنافي التفصيل والتكرير كما لا يخفى‏.‏

وعن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه أنه أصابهم ثلج أحمر لم يروه قبل فهلك منهم كثير، وعن ابن جبير أنه الطاعون، وقد ورد إطلاقه عليه في حديث أسامة بن زيد المرفوع «وهو الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال‏:‏ أمر موسى عليه السلام بني إسرائيل فقال‏:‏ ليذبح كل منكم كبشاً ثم ليخضب كفه في دمه ثم ليضرب على بابه ففعلوا، فقال القبط لهم‏:‏ لم تجعلوا هذا الدم على أبوابكم‏؟‏ قالوا‏:‏ إن الله تعالى يريد أن يرسل عليكم عذاباً فنسلم وتهلكون، قال القبط‏:‏ فما يعرفكم الله تعالى إلا بهذه العلامة‏؟‏ قالوا‏:‏ هكذا أمرنا نبينا، فأصبحوا وقد طعن من قوم فرعون سبعون ألفاً فأمسوا وهم لا يتدافنون، والمعنى على الأول أنهم كلما وقع عليهم عقوبة من العقوبات المذكورة‏.‏

‏{‏قَالُواْ يَا موسى‏}‏ في كل مرة على القول بأن المراد بالرجز غير ما تقدم أنه لما وقع عليهم الثلج المهلك أو الطاعون الجارف قالوا ‏{‏ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهدَ عِنْدَكَ‏}‏ أي بعهده سبحانه عندك وهو النبوة كما قال أبو مسلم فما مصدرية، وسميت النبوة عهداً كما قال العلامة الثاني‏:‏ لأن الله تعالى عهد إكرام الأنبياء عليهم السلام بها وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقاً تحفظ كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور منه جل وعلا أو بالذي عهد إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك، ‏{‏فَمَا‏}‏ موصولة والجار والمجرور صلة لأدع أو حال من الضمير فيه، يعني ادع الله تعالى متوسلاً بما عهد عندك، ويحتمل أن تكون الباء للقسم الاستعطافي كما يقال‏:‏ بحياتك افعل كذا، فالمراد استعطافه عليه السلام لأن يدعو، وأن تكون للقسم الحقيقي وجوابه ‏{‏لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز‏}‏ الذي وقع علينا ‏{‏لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِى إسراءيل‏}‏ أي أقسمنا بعهد الله تعالى عندك ‏{‏لَئِن كَشَفْتَ‏}‏ الخ، وخلاصة ما ذكروه في الباء هنا أنها إما للإلصاق أو للسببية أو للقسم بقسميه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ‏(‏135‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بالغوه‏}‏ أي إلى حد من الزمان هم واصلون إليه ولا بد فمعذبون فيه أو مهلكون، وهو وقت الغرق كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أو الموت كما روي عن الحسن، والمراد أنجيناهم من العذاب إلى ذلك الوقت، ومن هنا صح تعلق الغاية بالكشف، ولا حاجة إلى جعل الجار والمجرور متعلقاً بمحذوف وقع حالاً من الرجز خلافاً لزاعمه‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بالأجل ما عينوه لإيمانهم ‏{‏إذَا هُمْ يَنْكُثُونَ‏}‏ أي ينقضون العهد، وأصل النكث فل طاقات الصوف المغزول ليغزل ثانياً فاستعير لنقض العهد بعد إبرامه، وجواب ‏{‏لما‏}‏ فعل مقدر يؤذن به إذا الفجائية لا الجملة المقترنة بها، وإن قيل به فتساهل، أي فلما كشفنا عنهم ذلك فاجأوا بالنكث من غير توقف وتأمل كذا قيل، وعليه فكلا الاسمين أعني لما وإذا معمول لذلك الفعل على أن الأول ظرفه، والثاني مفعوله قاله العلامة، والداعي لذلك المحافظة على ما ذهبوا إليه من أن ما يلي كلمة لما من الفعلين يجب أن يكون ماضياً لفظاً أو معنى، إلا أن مقتضى ما ذكروا من أن إذ وإذا المفاجأة في موضع المفعول به للفعل المتضمنين هما إياه أن يكون التقدير فاجأوا زمان النكث أو مكانه‏.‏

وقد يقال أيضاً‏:‏ تقدير الفعل تكلف مستغنى عنه إذ قد صرحوا بأن لما تجاب بإذا المفاجأة الداخلة على الجملة الاسمية، نعم هم يذكرون ما يوهم التقدير وليس به بل هو بيان حاصل المعنى وتفسير له فتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ‏(‏136‏)‏‏}‏

‏{‏فانتقمنا منْهُمْ‏}‏ أي فأردنا الانتقام منهم، وأول بذلك ليتفرع عليه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَأَغْرَقْنَاهُمْ‏}‏ وإلا فالإغراق عين الانتقام فلا يصح تفريعه عليه‏.‏

وجوز أن تكون الفاء تفسيرية وقد أثبتها البعض كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ونادى نوح ربه فقال رب‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 45‏]‏ الخ وحينئذٍ لا حاجة إلى التأويل ‏{‏في اليم‏}‏ أي البحر كما روي عن ابن عباس‏.‏ والسدي رضي الله تعالى عنهم، ويقع على ما كان ملحاً زعافاً وعلى النهر الكبير العذب الماء ولا يكسر ولا يجمع جمع السلامة، وقال الليث‏:‏ هو البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل‏:‏ هو لجة البحر وهو عربي في المشهور‏.‏ وقال ابن قتيبة‏:‏ إنه سرياني واصله كما قيل إلى ما ترى والقول بأنه اسم للبحر الذي غرق فيه فرعون غريق في يم الضعف ‏{‏بأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بآيَاتنَا‏}‏ تعليل للإغراق يعني أن سبب الإغراق وما استوجبوا به ذلك العقاب هو التكذيب بالآيات العظام وهو الذي اقتضى تعلق إرادة الله تعالى به تعلقاً تنجيزياً وهذا لا ينافي تفريع الإرادة على النكث لأن التكذيب هو العلة الأخيرة والسبب القريب ولا مانع من تعدد الأسباب وترتب بعضها على بعض قاله الشهاب ونور الحق ساطع منه، وقال شيخ الإسلام‏:‏ الفاء وإن دلت على ترتب الإغراق على ما قبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذاناً بأن مدار جميع ذلك تكذيب آيات الله تعالى وما عطف عليه ليكون ذلك مزجرة للسامعين عن تكذيب الآيات الظاهرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى، وفيه مناقشة لا تخفى‏.‏

‏{‏وَكَانُوا عَنْهَا غَافلينَ‏}‏ الضمير المجرور للآيات، والغفلة مجاز عن عدم الذكر والمبالاة أي بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم مبالاتهم بها وتفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية وإلا فالمكذب بأمر لا يكون غافلاً عنه للتنافي بين الأمرين، وفي ذلك إشارة إلى أن من شاهد مثلها لا ينبغي له أن يكذب بها مع علمه بها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للنقمة وأريد بها الغرق كما يدل عليه ما قبله، وعليه فيجوز أن تكون الجملة حالية بتقدير قد، ولا مجاز في الغفلة حينئذٍ والأول أولى كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏137‏]‏

‏{‏وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ‏(‏137‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ‏}‏ بالاستعباد وذبح الأبناء، والجمع بين صيغتي الماضي والمستقبل للدلالة على استمرار الاستضعاف وتجدده، والمراد بهم بنو إسرائيل، وذكروا بهذا العنوان إظهار الكمال اللطف بهم وعظم الإحسان إليهم حيث رفعوا من حضيض المذلة إلى أوج العزة، ولعل فيه إشارة إلى إن الله سبحانه عند القلوب المنكسرة‏.‏ ونصب القوم على أنه مفعول أول لأورثنا والمفعول الثاني قوله سبحانه‏:‏

‏{‏مشارق الأرض وَمَغَاربَهَا‏}‏ أي جميع جهاتها ونواحيها، والمراد بها على ما روي عن الحسن‏.‏ وقتادة‏.‏ وزيد بن أسلم أرض الشام، وذكر محي السنة البغوي أنها أرض الشام ومصر، وفي رواية أنها أرض مصر التي كانت بأيدي المستضعفين، وإلى ذلك ذهب الجبائي، ورواه أبو الشيخ عن الليث بن سعد، أي أورثنا المستضعفين أرض مستضعفيهم وملكهم، ومعنى توريثهم إياها على القول بأنهم لم يدخلوها بعد أن خرجوا منها مع موسى عليه السلام إدخالها تحت ملكهم وعدم وجود مانع لهم عن التصرف فيها أو تمكين أولادهم فيها وذلك في زمن داود وسليمان عليهما السلام، ولا يخفى أنه خلاف المتبادر كما مرت الإشارة إليه‏.‏ على أن أرض مصر بعد أن فتحت في زمن داود عليه السلام لم يكن لبني إسرائيل تمكن فيها واستقرار وإنما كان ملك وتصرف وكان التمكن في الأرض المقدسة، والسوق على ما قيل يقتضي ذكر ما تمكنوا فيه لا ما ملكوه، وأقول قد يقال‏:‏ المراد بالأرض هنا وفيما تقدم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 129‏]‏ الأرض المقدسة التي طلب موسى عليه السلام من فرعون بني إسرائيل ليذهب بهم إليها فإنها موطن آبائهم فيكون موسى عليه السلام قد وعدهم هلاك عدوهم المانع لهم من الذهاب إليها وجعل الله تعالى إياهم خلفاء فيها بعد آبائهم وأسلافهم أو بعد من هي في يده إذ ذاك من العمالقة ثم أخبر سبحانه هنا أن الوعد قد نجز وقد أهلكنا أعداء أولئك الموعودين وأورثناهم الأرض التي منعوهم عنها ومكناهم فيها وفي حصول بغية موسى عليه السلام وما ألطف توريث الأبناء مساكن الآباء ‏{‏التي باركنا فيهَا‏}‏ بالخصب وسعة الأرزاق أو بذلك وبكونها مساكن الأنبياء عليهم السلام والصالحين وذلك ظاهر على تقدير أن يراد بمشارق الأرض ومغاربها الشام ونواحيها‏.‏ فقد أخرج ابن أبي شيبة عن أبي أيوب الأنصاري قال ليهاجرن الرعد والبرق والبركات إلى الشام‏.‏

وأخرج ابن عساكر عن ضمرة بن ربيعةقال‏:‏ سمعت أنه لم يبعث نبي إلا من الشام فإن لم يكن منها أبى به إليها، وأخرج أحمد عن عبد الله بن خوالة الأزدي أنه قال‏:‏ «يا رسول الله خر لي بلداً أكون فيه قال عليك بالشام فإنه خيرة الله تعالى من أرضه يجتبي إليه خيرته من عباده»

وأخرج ابن عساكر عن واثلة بن الأسقع قال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عليكم بالشام فإنها صفوة بلاد الله تعالى يسكنها خيرته من عباده»، وأخرج الحاكم وصححه عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ ‏"‏ يأتي على الناس زمان لا يبقى فيه مؤمن إلا لحق بالشام ‏"‏ وجاء من حديث أحمد‏.‏ والترمذي‏.‏ والطبراني‏.‏ وابن حبان‏.‏ والحاكم أيضاً وصححه عن زيد بن ثابت‏.‏ أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ طوبى للشام فقيل له‏:‏ ولم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ إن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها ‏"‏ والأحاديث في فضل الشام كثيرة وقد جمعها غير واحد إلا أن في الكثير منها مقالاً وسبب الوضع كان قوياً، وهو اسم لأحد الأقاليم العرفية، وفي «القاموس» أنها بلاد عن مشأمة القبلة وسميت بذلك لأن قوماً من بني كنعان تشاءموا إليها أي تياسروا أو سمى بسام بن نوح فإنه بالشين بالسريانية أو لأن أرضها شامات بيض وحمر وسود وعلى هذا لا تهمز‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي الأغبش وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عما بورك من الشام أين مبلغ حده‏؟‏ فقال‏:‏ أول حدوده عريش مصر والحد الآخر طرف الثنية والحد الآخر الفرات والحد الآخر جعل فيه قبر هود النبي عليه السلام، وليس المراد بها ما هو متعارف الناس اليوم أعني دمشق نعم هي داخلة فيها، وقد تكلمنا على حدودها بأبسط من هذا في حواشينا على «شرح مختصر السمرقندية» لابن عصام، وقد ولع الناس في دمشق مدحاً وذماً فقال بعضهم‏:‏

تجنب دمشق ولا تأتها *** وإن شاقك الجامع الجامع

فسوق الفسوق بها نافق *** وفجر الفجور بها طالع

وقال آخر‏:‏

دمشق غدت جنة للورى *** زها وصفا العيش في ظلها

وفيها لدى النفس ما تشتهي *** ولا عيب فيها سوى أهلها

وقال آخر فـ الشام ولعله عنى متعارف الناس‏:‏

قيل لي ما يقول في الشام حبر *** شام من بارق الهنا ما شامه

قلت ماذا أقول في وصف أرض *** هي في وجنة المحاسن شامه

وأنا أقول إذا صح الحديث فهو مذهبي ونعوذ بالله تعالى من اتباع الهوى، والموصول صفة المشارق والمغارب، وقيل‏:‏ صفة الأرض وضعفه أبو البقاء بأن فيه العطف على الموصوف قبل الصفة وهو نظير قولك‏:‏ قام أم هند وأبوها العاقلة، وجوز أن يكون المفعول الثاني لأورثنا أي الأرض التي فعلى هذا يكون نصب المشارق وما عطف عليه بيستضعفون على معنى يستضعفون فيها وأن يكون المشارق منصوبة بيستضعفون والتي صفة كما في الوجه الأول والمفعول الثاني لأورثنا محذوف أي الأرض أو الملك، ولا يخفى بعده وأن المتبادر هو الأول‏.‏

‏{‏وَتَمَّتْ كَلمَةُ رَبِّكَ الحسنى عَلَى بَني إسْرَآءيلَ‏}‏ أي مضت عليهم واستمرت من قولهم‏:‏ مضى على الأمر إذا استمر، والمراد من الكلمة وعده تعالى لهم بالنصر والتمكين على لسان نبيهم عليه السلام وهو قوله السابق ‏{‏عسى ربكم أن يهلك عدوكم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 129‏]‏ الخ، وذهب غير واحد إلى أنه الوعد الذي يؤذن به قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 5‏]‏، وقيل‏:‏ المراد بها علمه تعالى الأزلي، والمعنى مضى واستمر عليهم ما كان مقدراً من إهلاك عدوهم وتوريهم الأرض، و‏{‏الحسنى‏}‏ تأنيث الأحسن صفة للكلمة ووصفت بذلك لما فيها من الوعد بما يحبون ويستحسنون، وعن الحسن أنه أريد بالكلمة عدته سبحانه وتعالى لهم بالجنة ولا يخفى أنه يأباه السابق والسياق، والتفت من التكلم إلى الخطاب في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ربك‏}‏ على ما قال الطيبي لأن ما قبله من القصص كان غير معلوم له صلى الله عليه وسلم‏.‏ وأما كون جل شأنه منجزاً لما وعد ومجرياً لما قضى وقدر فهو معلوم له عليه الصلاة والسلام، وذكر في «الكشف» أنه ادمج في هذا الالتفات أنه ستتم كلمة ربك في شأنك أيضاً‏.‏ وقرأ عاصم في رواية ‏{‏كلمات‏}‏ بالجمع لأنها مواعيد، والوصف بالحسنى لتأويله بالجماعة، وقد ذكروا أنه يجوز وصف كل جمع بمفرد مؤنث إلا أن الشائع في مثله التأنيث بالتاء؛ وقد يؤنث بالألف كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مآرب أخرى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 18‏]‏ ‏{‏بمَا صَبَرُوا‏}‏ أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه وحسبك بهذا حاثاً على الصبر ودالاً على أن من قابل البلاء بالجزع وكله الله تعالى إليه ومن قابله بالصبر ضمن الله تعالى له الفرج‏.‏

وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن قال‏:‏ لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم بشيء صبروا ودعوا الله تعالى لم يلبثوا أن يرفع الله تعالى ذلك عنهم ولكنهم يفزعون إلى السيف فيوكلون إليه ثم تلي هذه الآية، وفي رواية أخرى عنه قال‏:‏ ما أوتيت بنو إسرائيل ما أوتيت إلا بصبرهم وما فزعت هذه الأمة إلى السيف قط فجاءت بخير‏.‏ وأقول قد شاهدنا الناس سنة الألف والمائتين والثمان والأربعين قد فزعوا إلى السيف فما أغناهم شيئاً ولا تم لهم مراد ولا حمد منهم أمر، بل وقعوا في حرة رحيله، ووادي خدبات، وأم حبوكر، ورموا لعمر الله بثالثة الأثافي، وقص من جناح عزهم القدامى والخوافي ولم يعلموا أن عيش المضر حلوه مر مقر وأن الفرج إنما يصطاد بشباك الصبر‏.‏ وما أحسن قول الحسن‏:‏

عجبت ممن خف كيف خف *** وقد سمع قوله سبحانه‏:‏ وتلا الآية، ويعلم منها أن التحزن لا ينافي الصبر لأن الله سبحانه وصف بني إسرائيل به مع قولهم السابق لموسى عليه السلام

‏{‏أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 129‏]‏ ‏{‏وَدَمَّرْنَا‏}‏ أي خربنا وأهلكنا ‏{‏مَا كَانَ يَصْنَعُ فرْعَوْنَ وَقَوْمُهُ‏}‏ في أرض مصر من العمارات والقصور أي دمرنا الذي كان هو ويصنعه فرعون على أن ‏{‏ما‏}‏ موصولة واسم كان ضمير راجع إليها وجملة يصنع فرعون من الفعل والفاعل خبر كان والجملة صلة الموصول والعائد إليه محذوف، وجوز أن يكون فرعون اسم كان ويصنع خبر مقدم والجملة الكونية صلة ما والعائد محذوف أيضاً‏.‏ وتعقبه أبو البقاء بأن يصنع يصلح أن يعمل في فرعون فلا يقدر تأخيره كما لا يقدر تأخير الفعل في قولك‏:‏ قام زيد وفيه غفلة عن الفرق بين المثال وما نحن فيه وهو مثل الصبح ظاهر وقيل‏:‏ ‏{‏ما‏}‏ مصدرية وكان سيف خطيب والتقدير ما يصنع فرعون الخ، وقيل‏:‏ كان كما ذكر وما موصولة اسمية والعائد محذوف والتقدير ودمرنا الذي يصنعه فرعون الخ أي صنعه، والعدول إلى صيغة المضارع على هذين القولين لاستحضار الصورة ‏{‏وَمَا كَانُوا يَعْرشُونَ‏}‏ من الجنات أو ما كانوا يرفعونه من البنيان كصرح هامان، وإلى الأول يشير كلام الحسن وإلى الثاني كلام مجاهد‏.‏

وقرأ ابن عامر‏.‏ وأبو بكر هنا وفي النحل ‏{‏يعرشون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 68‏]‏ بضم الراء والباقون بالكسر وهما لغتان فصيحتان والكسر على ما ذكر اليزيدي‏.‏ وأبو عبيدة أفصح، وقرىء في الشواذ ‏{‏يغرسون‏}‏ من غرس الأشجار‏.‏ وفي «الكشاف» أنها تصحيف وليس به‏.‏ هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ما وجدته لبعض أرباب التأويل من العارفين أن العصا إشارة إلى نفسه التي يتوكأ عليها أي يعتمد في الحركات والأفعال الحيوانية ويهش بها على غنم القوة البهيمية السليمة ورق الملكات الفاضلة والعادات الحميدة من شجرة الفكر وكانت لتقدسها مقنادة لأوامره مرتدعة عن أفعالها الحيوانية إلا بإذنه كالعصا وإذا أرسلها عند الاحتجاج على الخصوم صارت كالثعبان تلقف ما يأفكون من الأكاذيب ويظهرون من حبال الشبهات وعصا المغالطات فيغلبهم ويقهرهم‏.‏ وأن نزع اليد إشارة إلى إظهار القدرة الباهرة الساطعة منها أنوار الحق‏.‏ وجعل بعضهم فرعون إشارة إلى النفس الأمارة وقومه إشارة إلى صفاتها وكذا السحرة وموسى إشارة إلى الروح وقومه بنو إسرائيل العقل والقلب والسر وعلى هذا القياس‏.‏ وأول النيسابوري الطوفان بالعلم الكثير والجراد بالواردات والقمل بالإلهامات والضفادع بالخواطر والدم بأصناف المجاهدات والرياضات وهو كما ترى‏.‏

وقد ذكر غير واحد أن السحر كان غالباً في زمن موسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته ما كانت، والطب ما كان غالباً في زمن عيسى عليه السلام فلهذا كانت معجزته من جنس الطب؛ والفصاحة كانت غالباً في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم والتفاخر بها أشهر من ‏(‏قفا نبك‏)‏ فلهذا كانت معجزته القرآن، وإنما كانت معجزة كل نبي من جنس ما غلب على زمانه ليكون ذلك أدعى إلى إجابة دعواه‏.‏