فصل: تفسير الآية رقم (18)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

معطوف عليه أي المقصد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم، وقيل‏:‏ المشار إليه القتل أو الرمي والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل أو الرمي فيكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّ الله‏}‏ الخ من قبيل عطف البيان، وقيل‏:‏ المشار إليه الجميع بتأويل ما ذكر‏.‏ وجوز جعل اسم الاشارة مبتدأ محذوف الخبر وجعله منصوباف بفعل مقدر‏.‏

وقرأ ابن كثير‏.‏ ونافع‏.‏ وأبو بكر ‏{‏مُوهِنُ‏}‏ بالتشديد ونصب كيد‏.‏ وقرأ حفص عن عاصم بالتخفيف والاضافة وقرأ الباقون بالتخفيف والنصب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ‏}‏ خطاب للمشركين على سبيل التهكم فقد روي أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا باستار الكعبة وقالوا‏:‏ اللهم انصر أعلى الجندين وأهدي الفئتين وأكرم الحزبين‏.‏

وفي رواية أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان‏:‏ اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عنك فانصر أهله اليوم‏.‏ والأول مروي عن الكلبي‏.‏ والسدى، والمعنى إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما ‏{‏فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح‏}‏ حيث نصر أعلاهما وأهداهما وقد زعمتم أنكم الأعلى والأهدى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهلاك والذلة فالتهكم في نفس الفتح حيث وضع موضع ما يقاله ‏{‏وَإِن تَنتَهُواْ‏}‏ عن حراب الرسول عليه الصلاة والسلام ومعاداته ‏{‏فَهُوَ‏}‏ أي الانتهاء ‏{‏خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ من الحراب الذي ذقتم بسببه ما ذقتم من القتل والأسر، ومبنى اعتبار أصل الخيرية في المفضل عليه هو التهكم ‏{‏وَإِن تَعُودُواْ‏}‏ أي إلى حرابه عليه الصلاة والسلام ‏{‏نَعُدُّ‏}‏ لما شاهدتموه من الفتح ‏{‏وَلَن تُغْنِىَ‏}‏ أي لن تدفع ‏{‏عَنكُمْ فِئَتُكُمْ‏}‏ جماعتكم التي تجمعونها وتستغيثون بها ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من الاغناء أو المضار ‏{‏وَلَوْ كَثُرَتْ‏}‏ تلك الفئة وقرىء ‏{‏وَلَنْ يُغْنِى‏}‏ بالياء التحتانية لأن تأنيث الفئة غير حقيقي وللفصل ونصب شيئاف على أنه مفعول مطلق أو مفعول به، وجملة ولو كثرت في الموضع الحال ‏{‏وَأَنَّ الله مَعَ‏}‏ أي ولأن الله تعالى معين المؤمنين كان ذلك أو والأمر أن الله سبحانه معهم، وقرأ الأكثر ‏{‏المسلمين وَأَنْ‏}‏ بالكسر على الاستئناف، قيل‏:‏ وهي أوجه من قراءة الفتح لأن الجملة حينئذ تذييل، كأنه قيل‏:‏ القصد اعلاء أمر المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وكيت وكيت، وإن سنة الله تعالى جارية في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وهذا وإن أمكن اجراؤه على قراءة الفتح لكن قراءة الكسر نص فيه، ويؤيدها قراءة ابن مسعود ‏{‏والله مَعَ المؤمنين‏}‏، وروي عن عطاء‏.‏ وأبي بن كعب، وإليه ذهب أبو علي الجبائي أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبة عما يرغب فيه الرسول صلى الله عليه وسلم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مدار لسعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالانكار وتهييج العدو ولن تغني عنكم حينئذ كثرتكم إذ لم يكن الله تعالى معكم بالنصر والأمر ان الله سبحانه مع الكاملين في الإيمان، ويفهم كلام بعضهم أن الخطاب في ‏{‏تَسْتَفْتِحُواْ‏}‏ و‏{‏جَاءكُمْ‏}‏ للمؤمنين، وفيما بعده للمشركين ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جداً، وأيد كون الخطاب في الجميع للمؤمنين

بقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏المؤمنين يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ‏}‏ أي تتولوا، وقرىء بتشديد التاء ‏{‏عَنْهُ‏}‏ أي عن الرسول وأعيد الضمير إليه عليه الصلاة والسلام ون المقصود طاعته صلى الله عليه وسلم، وذكر طاعة الله تعالى توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله تعالى لأنه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى ورسوله وقيل‏:‏ الضمير للجهاد، وقيل‏:‏ للأمر الذي دل عليه الطاعة؛ والتولي مجاز، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ‏}‏ جملة حالة واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي مطلقاً لا لتقييد النهي عنه بحال السماع‏:‏ أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع تفهم واذعان، وقد يراد بالسماع التصديق، وقد يبقى الكلام على ظاهره من غير ارتكاب تجوز أصلاً، وقوله سبحانه

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ‏}‏ تقريراً لما قبله أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي ‏{‏كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا‏}‏ كالكفرة والمنافقين الذين يدعون السماع ‏{‏وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ أي سماعاً ينتفعون به لأنهم لا يصدقون ما سمعوه ولا يفهمونه حق فهمه والجملة في موضع الحال من ضمير قالوا‏:‏ والمنفى سماع خاص لكنه أتي به مطلقاً للاشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلاً بجعل سماعهم كالعدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدواب‏}‏ استئناف مسوق لبيان كمال سوء حال المشبه بهم مبالغة في التحذير وتقريراً للنهي أثر تقرير، والدواب جمع دابة، والمراد بها إما المعنى اللغوي أو العرفي أي أن شر من يدب على الأرض أو شر البهائم ‏{‏عَندَ الله‏}‏ أي في حكمه وقضائه ‏{‏الصم‏}‏ الذين لا يسمعون الحق ‏{‏البكم‏}‏ الذين لا ينطقون به، والجمع على المعني، ووصفوا بذلك لأن ما خلق له الحاستان سماع الحق والنطق به وحيث لم يوجد فيهم شيء من ذلك صاروا كأنهم فاقدون لهما رأساً‏.‏

وتقديم الصم على البكم لما أن صممهم متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له كما أن النطق به من فروع سماعه، وقيل‏:‏ التقديم لأن وصفهم بالصمم أهم نظرا إلى السابق واللاحق، ثم وصفوا بعدم التعقل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ تحقيقاً لكمال سوء حالهم فإن الأصم الابكم إذا كان له عقل ربما يفهم بعض الأمور ويفهمه غيره ويهتدي إلى بعض مطالبه‏.‏ أما إذا كان فاقداً للعقل أيضاً فقد بلغ الغاية في الشرية وسوء الحال، وبذلك يظهر كونهم شر الدواب حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ‏}‏ أي في هؤلاء الصم البكم ‏{‏خَيْرًا‏}‏ أي شيئاً من جنس الخير الذي من جملته صرف قواهم إلى تحري الحق واتباع الهدى ‏{‏لاسْمَعَهُمْ‏}‏ سماع تدبر وتفهم ولوقفوا على الحق وآمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وأطاعوه ‏{‏وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ‏}‏ سماع تفهم وتدبر وقد علم أن لا خير فيهم ‏{‏لَتَوَلَّواْ‏}‏ ولو ينتفعوا به وارتدوا بعد التصدق والقبول ‏{‏وَهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ لعنادهم، والجملة حال مؤكدة مع اقترانها بالواو، ومما ذكر يعلم الجواب عما قيل‏:‏ إن الآية قياس اقتراني من شرطيتين ونتيجته غير صحيحة لما أنه أشير فيه أولاً إلى منع القصد إلى القياس لفقد الكلية الكبرى، وثانياً إلى منع فساد النتيجة إذ اللازم لو علم الله تعالى فيهم خيراً في وقت لتولوا بعده قاله بعض المحققين، وفي المغنى والجواب من ثلاثة أوجه اثنان يرجعان إلى منع كون المذكور قياساً وذلك لاختلاف الوسط‏.‏ أحدهما أن التقدير لأسمعهم سماعاً نافعاً ولو أسمعهم سماعاً غير نافع لتولوا‏.‏ والثاني أن يقدر ولو أسمعهم على تقدير علم عدم الخير فيهم كما أشير إليه‏.‏ والثالث إلى منع استحالة النتيجة بتقدير كونه قياساً متحد الوسط، إذ التقدير ولو علم الله تعالى فيهم خيراً في وقت ما لتولوا بعد ذلك، ولا يخفى ضعف الجواب الأول لأنه لا قرينة على تقييد لو أسمعهم بالسماع الغير النافع ولأنه يحقق فيهم الاسماع الغير النافع إلا أن يقيد بالاسماع بعد نزول هذه الآية، وكذا ضعف الثالث لأن علمه تعالى بالخير ولو في وقت لا يستلزم التولي بل عدمه‏.‏ وأما الجواب الثاني فهو قوي لأن الشرطية الأولى قرينة على تقييد الاسماع في الشرطية الثانية بتقدير علم عدم الخير فيهم، وذكر بعضهم في الجواب أن الشرطيتين مهملتان وكبرى الشكل الأول يجب أن تكون كلية ولو سلم فإنما ينتجان أي اللزومية لو كانتا لزوميتين وهو ممنوع ولو سلم فاستحالة النتيجة ممنوعة، أي لا نسلم استحالة الحكم باللزوم بين المقدم والتالي وإن كان الطرفان محالين لأن علم الله تعالى فيهم خيراً محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وإن لم يوجد بينهما علاقة عقلية على ما هو التحقيق من عدم اشتراط العلاقة في استلزام المحال للمحال‏.‏

واعترض على أصل السؤال بأن لفظ ‏{‏لَوْ‏}‏ لم يستعمل في فصيح الكلام في القياس الاقتراني وإنما يستعمل في القياس الاستثنائي المستثنى فيه نقيض التالي لأنها لامتناع الشي لامتناع غيره، ولهذا لا يصح باستثناء نقيض التالي، وعلى الجواب بأن فيه تسليم كون ما ذكر قياساف ومنع كونه منتجاً لانتفاء شرائط الإنتاج وكيف يصح اعتقاد وقوع قياس في كلام الحكيم تعالى أهملت فيه شرائط الإنتاج وإن لم يكن مراده تعالى قياسيته وذكر أن الحق أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا‏}‏ وارد على قاعدة اللغة يعني أن سبب عدم الإسماع عدم العلم بالخير فيهم ثم ابتدأ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ‏}‏ كلاماً آخر على طريقة لو لم يخف الله تعالى لم يعصه وحاصل ذلك أنه كلام منقطع عما قبله والمقصود منه تقرير قولهم في جميع الأزمنة حيث ادعى لزومه لما هو مناف له ليفيد ثبوته على تقدير الشرط وعدمه، فمعنى الآية حينئذ أنه انتفى الإسماع لانتفاء علم الخير وأنهم ثابتون على التولي ففي الشرطية الأولى اللزوم في نفس الأمر وفي الثانية إدعائي فلا يكون على هيئة القياس‏.‏

وقال العلامة الثاني‏:‏ يجوز أن يكون التولي منفياً بسبب انتفاء الإسماع كما هو مقتضى أصل ‏{‏لَوْ‏}‏ لأن التولي بمعنى الاعراض عن الشيء كما هو أصل معناه لا بمعنى مطلق التكذيب والأنكار، فعلى تقدير عدم إسماعهم ذلك الشيء لم يتحقق التولي والاعراض لأن الاعراض عن الشيء فرع تحققه ولم يلزم من هذا تحقق الانقياد له لأن الانقياد للشيء وعدم الانقياد له ليسا على طرفي النقيض بل العدول والتحصيل لجواز ارتفاعهما بعدم ذلك الشيء وحاصله كما قيل‏:‏ إنه إذا كان التولي بمعنى الاعراض يجوز أن يكون ‏{‏لَوْ‏}‏ بمعناه المشهور، ويكون المقصود الأخبار بأن انتفاء الثاني في الخارج لانتفاء الأول فيه كالشرطية الأولى ولا ينتظم منهما القياس إذ ليس المقصود منهما بيان استلزام الأول للثاني في نفس الأمر ليستدل بل اعتبار السببية واللزوم بينهما ليعلم السببية بين الانتفائين المعلومين في الخارج، وما يقال‏:‏ من أن انتفاء التولي خير وقد ذكر أن لا خير فيهم مجاب عنه بأن لا نسلم ان انتفاء التولي بسبب انتفاء الاسماع خير لأنه يجوز أن يكون ذلك بسبب عدم الأهلية للاسماع وهو داء عضال وشر عظيم، وإنما يكون خيراً لو كانوا من أهله بأن أسمعوا شيئاً ثم انقادوا له ولم يعرضوا وهذا كما يقال‏:‏ لاخير في فلان لو كانت به قوة لقتل المسلمين، فإن عدم قتل المسلمين بناء على عدم القوة والقدرة ليس خيراً فيه وإن كان خيراً له اه‏.‏

ورده الشريف قدس سره بما تعقبه السالكوتي عليه الرحمة‏.‏ نعم قال مولانا محمد أمين بن صدر الدين‏:‏ إن حمل التولي ههنا على معنى الاعراض غير ممكن لمكان قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَهُم مُّعْرِضُونَ‏}‏ وأوجب أن يحمل اما على لازم معناه وهو عدم الانتفاء لأنه يلزم الاعراض أو على ملزومه وهو الارتداد لأنه يلزمه الاعراض فليفهم، وعن الجبائي أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أحي لنا قصيا فإنه كان شيخاً مباركاً حتى يشهد لك ونؤمن بك، فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصى الخ، وقيل‏:‏ هم بنو عبد الدار بن قصى لم يسلم منهم إلا مصعب بن عمير‏.‏ وسويد بن حرملة كانوا يقولون‏:‏ نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحاب اللواء، وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسن أنهم أهل الكتاب، والجملة الاسمية في موضع الحال من ضمير ‏{‏تَوَلَّوْاْ‏}‏، وجوز أن تكون اعتراضاً تذييلاً أي وهم قوم عادتهم الاعراض‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ‏}‏ تكرير النداء مع وصفهم بنعت الإيمان لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يرد بعده من الأوامر وتنبيههم على أن فيهم ما يوجب ذلك ‏{‏استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ بحسن الطاعة ‏{‏إِذَا دَعَاكُمْ‏}‏ أي الرسول إذ هو المباشر لدعوة الله تعالى مع ما أشرنا إليه آنفاً ‏{‏لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏ أي لما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال أو من الجهاد الذي أعزكم الله تعالى به بعد الذل وقواكم به بعد الضعف ومنعكم به من عدوكم بعد القهر كما روي ذلك عن عروة بن الزبير، وإطلاق ما ذكر على العقائد والأعمال وكذا على الجهاد اما استعارة أو مجاز مرسل باطلاق السبب على المسبب، وقال القتبي‏:‏ المراد به الشهادة وهو مجاز أيضاً، وقال قتادة‏:‏ القرآن، وقال أبو مسلم‏:‏ الجنة، وقال غير واحد‏:‏ هو العلوم الدينية التي هي مناط الحياة الأبدية كما أن الجهل مدار الموت الحقيقي، وهو استعارة مشهورة ذكرها الادباء وعلماء المعاني‏.‏ وللزمخشري‏:‏

لا تعجبن لجهول حلته *** فذاك ميت وثوبه كفن

واستدل بالآية على وجوب إجابته صلى الله عليه وسلم إذا نادى أحداً وهو في الصلاة، وعن الشافعي أن ذلك لا يبطلها لأنها أيضاً إجابة، وحكى الروياني أنها لا تجب وتبطل الصلاة بها، وقيل‏:‏ إنه يقطع الصلاة إذا كان الدعاء لأمر يفوت بالتأخير كما إذا رأى أعمى وصل إلى بئر ولو لم يحذره لهلك، وأيد القول بالوجوب بما أخرجه الترمذي‏.‏ والنسائي عن أبي هريرة «أنه صلى الله عليه وسلم مر علي أبيّ بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال‏:‏ ما منعك من إجابتي‏؟‏ قال‏:‏ كنت أصلي‏.‏ قال‏:‏ ألم تخبر فيما أوحي ‏{‏استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏ قال‏:‏ بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ لأعلمنك سورة أعظم سورة في القرآن ‏{‏الحمد للَّهِ رَبّ العالمين‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏:‏ 2‏]‏ هي السبع المثاني» وأنت تعلم أنه لا دلالة فيه على أن إجابته صلى الله عليه وسلم لا تقطع الصلاة، وقال بعضهم‏:‏ إن ذلك الدعاء كان لأمر مهم لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، وفيه نظر ‏{‏واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ‏}‏ عطف على استجيبوا، وأصل الحول كما قال الراغب تغير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول وباعتبار الانفصال قيل حال بينهما كذا، وهذا غير متصور في حق الله تعالى فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما وانفصال أحدهما عن الآخر، وظاهر كلام كثير أن الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون هناك استعارة تبعية، فمعنى يحول يقرب، ولا بعد في أن يكون من باب المجاز المرسل المركب لاستعماله في لازم معناه وهو القرب، بل ادعى أنه الأنسب، وإرادة هذا المعنى هو المروى عن الحسن‏.‏

وقتادة، فالآية نظير قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد‏}‏ وفيها تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما قد يغفل عنه أصحابها، وجوز أن يكون المراد من ذلك الحث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، فمعنى يحول بينه وبين قلبه يميته فيفوته الفرصة التي هو واجدها وهو التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليماً كما يريده الله تعالى، فكأنه سبحانه بعد أن أمرهم بإجابة الرسول عليه الصلاة والسلام أشار لهم إلى اغتنام الفرصة من إخلاص القلوب للطاعة وشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه، وإلى هذا ذهب الجبائي‏.‏

وقال غير واحد‏:‏ إنه استعارة تمثيلية لتمكنه تعالى من قلوب العباد فيصرفها كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويلهمه رشده ويزيغ عن الصراط السوي قلبه ويبدله بالأمن خوفاً وبالذكر نسياناً، وذلك كمن حال بين شخص ومتاعه فإنه القادر على التصرف فيه دونه وهذا كما في حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة وقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إكثاره الدعاء بيا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال لها‏:‏ يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله تعالى فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ، ويؤيد هذا التفسير ما أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ يحول بين المؤمن والكفر ويحول بين الكافر والهدى‏.‏

ولعل ذلك منه عليه الصلاة والسلام إقتصار على الأمرين اللذين هما أعظم مدار للسعادة والشقاوة وإلا فهذا من فروع التمكن الذي أشرنا إليه ولا يختص أمره بما ذكر، وقد حال سبحانه بين العدلية وبين اعتقاد هذا فعدلوا عن سواء السبيل، وبين بعض الأفاضل ربط الآيات على ذلك بأنه تعالى لما نص بقوله عز من قائل‏:‏ ‏{‏لَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا لاسْمَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏ الخ، على أن الإسماع لا ينفع فيهم تسجيلاً على أولئك الصم البكم من على المؤمنين بما منحهم من الإيمان ويسر لهم من الطاعة، كأنه قيل‏:‏ إنكم لستم مثل أولئك المطبوعين على قلوبهم فإنهم إنما امتنعوا عن الطاعة لأنهم ما خلقوا إلا للكفر فما تيسر لهم الاستجابة، وكل ميسر لما خلق له، فأنتم لما منحتم الإيمان ووفقتم للطاعة فاستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما فيه حياتكم من مجاهدة الكفار وطلب الحياة الأبدية واغتنموا تلك الفرصة واعلموا أن الله تعالى قد يحول بين المرء وقلبه بأن يحول بينه وبين الإيمان وبينه وبين الطاعة ثم يجازيه في الآخرة بالنار، وتلخيصه أوليتكم النعمة فاشكروها ولا تكفروها لئلا أزيلها عنكم اه‏.‏

ولا يخفى ما فيه من التكليف، وقيل‏:‏ إن القوم لما دعوا إلى القتال والجهاد وكانوا في غاية الضعف والقلة خافت قلوبهم وضاقت صدورهم فقيل لهم‏:‏ قاتلوا في سبيل الله تعالى إذا دعيتم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الأمن خوفاً والجبن جرأة‏.‏ وقرىء ‏{‏بَيْنَ المرء‏}‏ بتشديد الراء على حذف الهمزة ونقل حركتها إليها وإجراء الوصل مجرى الوقف ‏{‏وَأَنَّهُ‏}‏ أي الله عز وجل أو الشأن ‏{‏إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم التي لم يخف عليه شيء منها فسارعوا إلى طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالغوا في الاستجابة، وقيل‏:‏ المعنى إنه تحشرون إليه تعالى دون غيره فيجازيكم فلا تألوا جهداً في انتهاز الفرصة، أو المعنى أنه المتصرف في قلوكبم في الدنيا ولا مهرب لكم عنه في الآخرة فسلموا الأمر إليه عز شأنه ولا تحدثوا أنفسكم بمخالفته‏.‏

وزعم بعضهم أنه سبحانه لما أشار في صدر الآية إلى أن السعيد من أسعده والشقي من أشله وأن القلوب بيده يقلبهما كيفما يشاء ويخلق فيها الدواعي والعقائد حسبما يريد ختمها بما يفيد أن الحشر إليه ليعلم أنه مع كون العباد مجبورين خلقوا مثابين معاقبين إما للجنة وإما للناس لا يتركون مهملين معطلين، وأنت تعلم أن الآية لا دلالة فيها على الجبر بالمعنى المشهور وليس فيها عند من أنصف بعد التأمل أكثر من انتهاء الأمور بالآخرة إليه عز شأنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ أي لا تختص إصابتها لمن يباشر الظلم منكم بل تعمه وغيره والمراد بالفتنة الذنب وفسر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد حسبما يقتضيه المعنى، والمصيب على هذا هو الأثر كالشآمة والوبال، وحينئذ إما أن يقدر أو يتجوز في إصابته، وجوز أن يراد به العذاب فلا حاجة إلى التقدير أو التجوز فيما ذكر لأن إصابته بنفسه، وكذا لا حاجة إلى ارتكاب تقدير في جانب الأمر ولا التزام استخدام و‏{‏لا‏}‏ نافية، والجملة المنفية قيل جواب الأمر على معنى إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم، واعترض بأن جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب ولو قدر ذلك وفاء بالقاعدة فسد المعنى، إذ يكون إن تتقوا الفتنة تعمكم إصابتها ولا تختص بالظالمين منكم وهوكما ترى، وأجيب بأن أصل الكلام واتقوا فتنة لا تصيبنكم فإن أصابتكم لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل عمتكم فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر في جواب الأمر لتسببه منه، وسمي جواب الأمر لأن المعاملة معه لفظاً‏.‏

وفيه أن البين أن عموم الإصابة ليس مسبباً عن عدم الإصابة ولا عن الأمر وظاهر التعبير يقتضيه، وقال بعض المحققين‏:‏ إن ذلك على رأي الكوفيين من تقدير ما سناسب الكلام وعدم التزام كون المقدر من جنس الملفوظ نفياً أو إثباتاً فيقدرون في نحو لا تدن من الأسد يأكك الإثبات أي إن تدن يأكلك وفي نحو اتقوا فتنة النفي أي إن لم تتقوا تصبكم واعترض عليه بأن ذلك القائل لم يقدر لا هذا ولا ذاك وإنما قدر ما يستقيم به المعني من غير نظر إلى مضمون الأمر أو نقيضه، وأجيب بأن مراده أن التقدير إن لم تتقوا تصبكم وإن أصابتكم لا تختص بالظالمين فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو نقيض الأمر لتسببه عنه، وما أورد على هذا من أنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة حينئذ إذ يكفي أن يقال‏:‏ إن لم تتقوا لا تصب الظالمين خاصة فمع كونه مناقشة لفظية مدفوع بأدنى تأمل لأن عدم اختصاص إصابة الفتنة بالظالمين كما يكون بعموم الإصابة لهم ولغيرهم كذلك يكون بعدم أصابتها لهم رأساً فلا بد من اعتبار الواسطة قطعاً‏.‏

وقال بعض المتأخرين‏:‏ مراد من قدر آن أصابتكم، إن لم تتقوا على مذهب من يرى تقدير النفي، لكنه عبر عنه بأصابت لتلازمها فلا يرد حديث الواسطة، نعم قيل‏:‏ إن جواب الشرط متردد فلا يليق تأكيده بالنون إذ التأكيد يقتضي دفع التردد، وأجيب بأنه هنا طلبي معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي وهو لا ينافيه التردد في وقوعه لأنه لا تردد في طلبه على أنه قيل‏:‏ إنه وإن كان متردداً في نفسه لكونه معلقاً بما هو متردد وهو الشرط لكنه ليس بمتردد بحسب الشرط، وعلى تقدير وقوعه فيليق به التأكيد بذلك الاعتبار، وأنت تعلم أن ابن جني رجح أن المنفي بلا يؤكد في السعة لشبهه بالنهي كما في قوله سبحانه‏:‏

‏{‏ادخلوا مساكنكم لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سليمان‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 18‏]‏‏.‏

وقال ناصر الدين‏:‏ إن هذا الجواب لما تضمن معنى النه يساغ توكيده، ووجه أن النفي إذا كان مطلوباً كان في معنى النهي وفي حكمه فيجوز فيه التأكيد كالنهي الصريح، ولا خفاء في أن عدم كونهم بحيث تصيبهم الفتنة مطلوب كما أن عدم كونهم يحطمهم سليمان وجنوده كذلك، وجوز أن تكون الجملة المنفية في موضع النصب صفة لفتنة، واعترض بأن فيه شذوذاً ون النون لا تدخل المنفي في غير القسم، وقد يجاب بأنك قد عرفت أن ابن جني وكذا بعض النحاة جوز ذلك، وقد ارتضاع ابن مالك في التسهيل، نعم ما ذكر كلام الجمهور‏.‏

وقال أبو البقاء وغيره‏:‏ يحتامل أن تكون ‏{‏لا‏}‏ ناهية والجملة في موضع الفة أيضاً لكن على إرادة القول كقوله‏:‏

حتى إذا جن الظلام واختلط *** جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط

لأن المشهور أن الجملة الإنشائية نهياً كانت أو غيرها لا تقع صفة ونحوها إلا بتقدير القول، وقد صرحوا بأن قولك‏:‏ مررت برجل أضربه بتقدير مقول فيه أضربه، وليس المقصود بالمقولية الحكاية بل استحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه، ومن الناس من جوز الوصف بذلك باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول، وأن تكون الجملة جواب قسم محذوف أي والله لا تيبن الظالمين خاصة بل تعم، وحينئذ يظهر أمر التأكيد، وأيد ذلك بقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وزيد بن ثابت‏.‏ وأبيّ‏.‏ وابن مسعود‏.‏ والباقر‏.‏ والربيع‏.‏ وأبو العالية ‏{‏لتصيبن‏}‏ فإن الظاهر فيها القسمية، وقيل‏:‏ إن الأصل لا إلا أن الألف حذفت تخفيفاً كما قالوا‏:‏ أم والله، وقال بعضهم‏:‏ أن ‏{‏لفتاه لا‏}‏ في القراءة المتواترة هي اللام والألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله‏:‏

فأنت من العواتك حين ترمي *** ومن ذم الرجال بمنتزاح

وكلا القولين لا يعول عليه، ويحتمل أن تكون نهياً مستأنفاً لتقرير الأمر وتأكيده، وهو من باب الكناية لأن الفتنة لا تنهى عن الإصابة إذ لا يتصور الامتثال منها بحال، والمعنى حينئذ لا تتعرضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة و‏{‏مِنْ‏}‏ على تقدير كون ‏{‏لا‏}‏ ناهية سواء جعلت الجملة صفة أو مؤكدة للأمر بيانية لا تبعيضية لأنها لو اعتبرت كذلك لكان النهي عن التعرض للظلم مخصوصاً بالظالمين منهم دون غيرهم فغير الظالم لا يكون منهياً عن التعرض له بمنطوق الآية وذلك شيء لا يراد‏.‏

وأما على الوجوه الأخر من كون ‏{‏لا‏}‏ نافية لا ناهية سواء كان قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لاَّ تُصِيبَنَّ‏}‏ صفة لفتنة كما هو الظاهر أو جواب الأمر أو جواب قسم فهي تبعيضية قطعاً، إذ الآية على هذه التقادير جميعاً مخبرة بأن إصابة الفتنة لا تخص بالظالمين بل تعم غيرهم أيضاً، فلو بين الذين ظلموا بالمخاطبين لأفهمت أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم كلهم ظالموا وحاشاهم، ثم لا يخفى أن الخطاب إذا كان عاماً لأمة وفسرت الفتنة بإثرار المنكر لا يجيء الإشكال على عموم الإصابة بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وازرة وِزْرَ أخرى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ لأنه كما يجب على مرتكب الذنب الانتهاء عنه يجب على الباقين رفعه وإذا لم يفعلوا كانوا آثمين فيصيبهم ما يصيبهم لأثمهم‏.‏

ويدل للوجوب ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيهمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم، وأخرج الترمذي‏.‏ وأبو داود عن قيس بن حازم عن أبي بكر رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب» وروى الترمذي أيضاً عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون‏.‏ ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة، وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل‏.‏

وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره، وأخرج غير واحد عن الزبير قال‏:‏ قرآنا هذه الآية زماماً وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبياً على أن تعرض الفتنة وهي افتراق الكلمة من أشد الظلم لا سيما هؤلاء الأجلاء، ثم فسر بضميرهم دلالة على الاختصا صوأكد بخاصة وكثيراً ما يشدد الأمر على الخاصة ‏{‏واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏ لم خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه ‏{‏واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ‏}‏ أي في العدد، والجملة الاسمية للإيذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏مُّسْتَضْعَفُونَ‏}‏ خبر ثان وجوز أن يكون صفة لقليل، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى الارض‏}‏ أي في أرض مكة تحت أيدي كفار قريش والخطاب للمهاجرين، أو تحت أيدي فارس والروم والخطاب للعرب كافة مسلمهم وكافرهم على ما نقل عن وهب‏.‏ واعترض بأنه بعيد لا يناسب المقام مع أن فارس لم تحكم على جميع العرب، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس‏}‏ خبر ثالث أو ثفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعدما وصف بغيرها، وجوز أبو البقاء أن تكون حالاً من المستكن في مستضعفون والمراد بالناس على الأول‏:‏ وهو الأظهر أما كفار قريش أو كفار العرب كما قال عكرمة لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم، وعلى الثاني‏:‏ فارس والروم‏.‏

وأخرج الديلمي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ قيل‏:‏ يا رسول الله ومن الناس‏؟‏ قال‏:‏ أهل فارس، والتخطف كالخطف الأخذ بسرعة، وفسر هنا بالاستلاب أي واذكروا حالكم وقت قلتكم وذلتكم وهوانكم على الناس وخوفكم من اختطافكم، أو اذكروا ذلك الوقت ‏{‏فَآوَاكُمْ‏}‏ أي إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم ‏{‏وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ‏}‏ بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة يوم بدر أو بأن قوى شوكتكم إذ بعث منكم من تضطرب قلوب أعدائكم من اسمه ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ من الغنائم ولم تطب إلا لهذه الأمة، وقيل‏:‏ هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة؛ والأول أنسب بالمقام والامتنان به هنا أظهر‏.‏ والثاني متعين عند من يجعل الخطاب للعرب ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ هذه النعم الجليلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول‏}‏ أصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء الإتمام، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه فإن الخائن ينقص المخون شيئاً مما خانه فيه، اعتبر الراغب في الخيانة أن تكون سراً، والمراد بها هنا عدم العمل بما أمر الله تعالى به ورسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏ وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن خيانة الله سبحانه بترك فرائضه والرسول صلى الله عليه وسلم بترك سنته وارتكاب معصيته‏.‏

وقيل‏:‏ المراد النهي عن الخيانة بأن يضمروا خلاف ما يظهرون أو يغلوا في الغنائم‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب رضي الله تعالى عنه أن المراد بها الإخلال بالسلاح في المغازي‏.‏ وذكر الزهر‏.‏ والكلبي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر هود قرظة إحدى وعشرين ليلة وفي رواية البيهقي خمساً وعشرين‏.‏ فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح‏.‏ كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات من أرض الشام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا‏:‏ أرسل لنا أبا لبابة ورفاعة بن عبد المنذر‏.‏ وكان مناصحاً لهم لأن ماله وولده وعياله كان عندهم‏.‏ فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقالوا‏:‏ يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار بيده إلى حلقه يعني أنه الذبح فلا تفعلوا‏.‏ قال أبو لبابة‏:‏ والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال‏:‏ والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله تعالى علي، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره قال‏:‏ أما لو جاءني لاستغفرت له أما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى توب الله تعالى عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاماً ولا شراباً حتى خر مغشياً عليه ثم تاب الله تعالى عليه فقيل له‏:‏ يا أبا لبابة قد تيب عليك‏.‏ فقال‏:‏ والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاءه عله الصلاة والسلام فحله بيده ثم قال أبو لبابة‏:‏ إن تمام توبتي أن أهجر دار قوم التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يجزيك الثلث أن تصدق به ونزلت فيه هذه الآية» وقال السدي‏:‏ كانوا يسمعون الشيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنهو عن ذلك، وأخرج أبو الشيخ وغيره عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمداً صلى الله عليه وسلم مريدكم فخذوا حذركم فنزلت ‏{‏وَتَخُونُواْ أماناتكم‏}‏ عطف على المجزوم أولاً والمراد النهي عن خيانة الله تعالى والرسول وخيانة بعضهم بعضاً، والكلام عند بعض على حذف مضاف أي أصحاب أماناتكم، ويجوز أن تجعل الأمانة نفسها مخونة، وجوز أبو البقاء أن يكون الفعل منصوباً بإضمار أن بعد الواو في جواب النهي كما في قوله‏:‏

لا تنه عن خلق وتأتي مثله *** عار عليك إذا فعلت عظيم

والمعنى لا تجمعوا بين الخيانتين والأول أولى لأن فيه النهي عن كل واحد على حدته بخلاف هذا فإنه نهى عن الجمع بينهما ولا يلزمه النهي عن كل واحد على حدته، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأمانات بالأعمال التي ائتمن الله تعالى عليها عباده، وقرأ مجاهد ‏{‏أمانتكم‏}‏ بالتوحيد وهي رواية عن أبي عمرو ولا منافاة بينها وبين القراءة الأخرى ‏{‏أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أي تبعة ذلك ووباله أو أنكم تخونون أو وأنتم علماء تميزون الحسن من القبيح، فالفعل إما متعد له مفعول مقدر بقرينة المقام أو منزل منزلة اللازم، قيل‏:‏ ولس المراد بذلك التقييد على كل حال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏}‏ لأنها سبب الوقوع في الاسم والعقاب، أو محنة من الله عز وجل يختبركم بها فلا يحملنكم حبها على الخيانة كأبي لبابة، ولعل الفتنة في المال أكثر منها في الولد ولذا قدمت الأموال على الأولاد، ولا يخفى ما في الأخبار من المبالغة‏.‏

وجاء عن ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله سبحانه يقول‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا أموالكم‏}‏ الخ فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله تعالى من مضلات الفتن؛ ومثله عن علي كرم الله تعالى وجهه ‏{‏وَأَنَّ الله عِندَهُ عَذَابٌ عظِيمٌ‏}‏ لمن مال إليه سبحانه وآثر رضاه عليهما وراعى حدوده فيهما فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله‏}‏ في كل ما تأتون وما تذرون ‏{‏يَجْعَل لَّكُمْ‏}‏ بسبب ذلك الاتقاء ‏{‏فُرْقَانًا‏}‏ أي هداية ونوراً في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل كما روي عن ابن جريج وابن زيد، أو نصراً يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين كما قال الفراء، أو نجاة في الدارن كما هو ظاهر كلام السدي، أو مخرجاً من الشبهات كما جاء عن مقاتل، أو ظهوراً يشهر أمركم وينشر صتكم كما يشعر به كلام محمد بن إسحاق من بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي الصبح، وكل المعان ترجع إلى الفرق بن أمرن، وجوز بعض المحققين الجمع بينهما ‏{‏وَيُكَفّرْ عَنكُمْ سَيّئَاتِكُمْ‏}‏ أي يسترها في الدنيا ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ بالتجاوز عنها في الأخرى فلا تكرار، وقد يقال‏:‏ مفعول يغفر الذنوب وتفسر بالكبائر وتفسر السيئات بالصغائر، أو يقال‏:‏ المراد ما تقدم وما تأخر لأن الآية فـ أهل بدر وقد غفر لهم‏.‏

ففي الخبر لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال‏:‏ اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ تعليل لما قبله وتنبيه على أن ما وعد لهم على التقوى تفضل منه سبحانه وإحسان وأنها بمعزل عن أن توجب عليه جل شأنه شيئاً، قيل‏:‏ ومن عظيم فضله تعالى أنه يتفضل من غير واسطة وبدون التماس عوض ولا كذلك غيره سبحانه، ثم أنه عز وجل لما ذكر من ذكر نعمته بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذْكُرُوا إذْ أنتم قليل‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 26‏]‏ الخ ذكر نبيه عليه الصلاة والسلام النعمة الخاصة به بقوله عزَّ من قائل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ‏}‏ الخ ذكر نبيه عليه الصلاة والسلام النعمة الخاصة به بقوله عز من قائل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ فهو متعلق بمحذوف وقع مفعولاً لفعل محذوف معطوف على ما تقدم أو منصوب بالفعل المضمر المعطوف على ذلك، أي واذكر نعمته تعالى عليك إذ أو اذكر وقت مكرهم بك ‏{‏لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ بالوثاق ويعضده قراءة ابن عباس ‏{‏ليقيدوك‏}‏ وإليه ذهب الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ أو بالإثخان بالجرح من قولهم‏:‏ ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح، وهو المروى عن أبان‏.‏ وأبي حاتم‏.‏ والجبائي، وأنشد‏:‏

فقلت ويحكم ما في صحيفتكم *** قالوا الخليفة أمسى مثبتاً وجعاً

أو بالحبس في بيت كما روي عن عطاء‏.‏ والسدي‏.‏ وكل الأقوال ترجع إلى أصل واحد وهو جعله صلى الله عليه وسلم ثابتاً في مكانه أعم من أن يكون ذلك بالربط أو الحبس أو الإثخان بالجراح حتى لا يقدر على الحركة، ولا يردان الإثخان إن كان بدون قتل فلا ذكر له فما اشتهر من القصة وإن كان بالقتل يتكرر مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ‏}‏ لأنا نختار الأول، ولا يلزم أن يذكر في القصة لأنه قد يكون رأي من لا يعتد برأيه فلم يذكروا المراد على ما تقتضيه أو يقتلوك بسيوفهم ‏{‏أَوْ يُخْرِجُوكَ‏}‏ أي من مكة، وذلك على ما ذكر ابن إسحاق أن قريشاً لما رأت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم من غير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا داراً وأصابوا منهم منعة فحذروا رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها يتشاورون فيها ما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام فلما اجتمعوا كما قال ابن عباس لذلك واتعدوا أن يدخلوا الدار ليتشاوروا فيها غدواً في اليوم الذي اتعدوا فيه وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس عليه اللعنة في هيئة شيخ جليل عليه بدلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفاً على بابها قالوا‏:‏ من الشيخ‏؟‏ قال‏:‏ شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأياً ونصحاً قالوا‏:‏ أجل فادخل فدخل معهم وقد اجتمع أشراف قريش فقال بعضهم لبعض‏:‏ إن هذا الرجل قد كان من أمره ما رأيتم وإنا والله ما نأمنه قال‏:‏ فتشاوروا ثم قال قائل منهم‏:‏ احبسوه في الحديد واغلقوا عليه باباً ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيراً والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم‏.‏

فقال الشيخ النجدي‏:‏ لا والله ما هذا برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره فتشاوروا ثم قال قائل منهم‏:‏ نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فوالله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا والفتنا كما كانت‏.‏ قال الشيخ النجدي‏:‏ لا والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به‏؟‏ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على ح من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه عليه ثم يسير بهم إليكم فيطؤكم بهم في بلادكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأياً غيره‏.‏ قال فقال أبو جهل‏:‏ والله إن لي فيه لرأياً ما أراكم وقعتم عليه بعد‏.‏ قالوا وما هو يا أبا الحكم‏؟‏ قال‏:‏ أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً ثم يعمدون إليه فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه فيي القبائل جميعاً فرضوا منها بالعقل فعقلناه لهم‏.‏ قال فقال‏:‏ الشيخ النجدي‏:‏ القول ما قال الرجل هو هذا الرأي لا أرى غيره فتفرقوا على ذلك، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه نم على فراشي وتسبح بردي هذا الحضرم الأخضر فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام، وأذن له عليه الصلاة والسلام في الهجرة فخرج مع صاحبه أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار، وأنشد علي كرم الله تعالى وجهه مشيراً لما من الله تعالى به عليه‏:‏

وقيت بنفسي خير من وطىء الحصى *** ومن طاف بالبيت العتيقوبالحجر

رسول اله خاف أن يمكروا به *** فنجاه ذو الطول الإله من المكر

وبات رسول الله في الغار آمنا *** وقد صار في حفظ الإله وفي ستر

وبت أراعهم وما تهمونني *** وقد وطنت نفسي على القتل والأسر

‏{‏وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله‏}‏ أي يرد مكرهم ويجعل وخامته عليهم أو يجازيهم عله أو يعاملهم معاملة الماكرن وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل أو استعارة تمثيلية، وقد يكتفي بالمشاكلة الصرفة ‏{‏والله خَيْرُ الماكرين‏}‏ إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره سبحانه‏.‏

قال بعض المحققين‏:‏ إطلاق هذا المركب الإضافي عليه تعالى إن كان باعتبار أن مكره جل شأنه أنفذ وأبلغ تأثيراً فالإضافة للتفضيل لأن لمكر الغير أيضاً نفوذاً وتأثيراً في الجملة، وهذا معنى أصل فعل الخير فتحصل المشاركة فيه، وإذا كان باعتبار أنه سبحانه لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا بما يستوجبه الممكور به فلا شركة لمكر الغير فيه فالإضافة حينئذٍ للاختصاص كما في أعد لابن مروان لانتفاء المشاركة‏.‏

وقيل‏:‏ هو من قبيل الصيف أحر من الشتاء بمعنى أن مكره تعالى في خريته أبلغ من مكر الغير في شريته‏.‏

وادعى غير واحد أن المكر لا يطلق عليه سبحانه دون مشاكلة لأنه حيلة يجلب بها مضرة إلى الغير وذلك مما لا يجوز في حقه سبحانه‏.‏

واعترض بوروده من دون مشاكلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 99‏]‏‏.‏

وأجيب بأن المشاكلة فيما ذكر تقديرية وهي كافية في الغرض، وفيه نظر، فقد جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه «من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في عقله» والمشاكلة التقديرية فيه بعيدة جداً بل لا يكاد يدعيها منصف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ التي لو أنزلناها على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ‏{‏قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هذا‏}‏ قائله النضر بن الحرث من بن عبد الدار على ما عليه جمهور المفسرن وكان ختلف إلى أرض فارس والحرة فيسمع أخبارهم عن رستم‏.‏ واسفنديار وكبار العجم وكان يمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل، وإسناد القول إلى ضمير الجمع من إسناد فعل البعض إلى الكل لما أن اللعين كان رئيسهم وقاضيهم الذي يقولون بقوله ويعملون برأيه‏.‏

وقيل‏:‏ قاله الذين ائتمروا في أمره عليه الصلاة والسلام في دار الندوة، وأياً ما كان فهو غاية المكابرة ونهاية العناد، إذ لو استطاعوا شيئاً من ذلك فما منعهم من المشيئة‏؟‏ وقد تحداهم عليه الصلاة والسلام وقرعهم بالعجز عشر سنين ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا بما سواه من أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا لا سيما في ميدان البيان فإنهم كانوا فرسانه المالكين لأزمته الحائزين قصب السبق به‏.‏

واشتهر أنهم علقوا القصائد السبعة المشهورة على باب الكعبة متحدين بها، لكن تعقب أن ذلك مما لا أصل له وإن اشتهر، وزعم بعضهم أن هذا القول كان منهم قبل أن ينقطع طمعهم عن القدرة على الإتيان بمثله، وليس بشيء ‏{‏إِنْ هذا إِلاَّ أساطير الاولين‏}‏ جمع أسطورة على ما قاله المبرد كأحدوثة وأحاديث ومعناه ما سطر وكتب‏.‏ وفي «القاموس» الأساطير الأحاديث لا نظام لها جمع اسطار وإسطير وأسطور وبالهاء في الكل‏.‏ وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر وغيره وجمعه أسطر وسطور وأسطار وجمع الجمع أساطير ويحرك في الكل، وقال بعضهم‏:‏ إن جمع سطر بالسكون أسطر وسطور وجمع سطر أسطار وأساطر، وهو مخالف لما في «القاموس»، والكلام على التشبيه، وأرادوا ما هذا إلا كقصص الأولين وحكاياتهم التي سطروها وليس كلام الله تعالى، وكأنه بيان لوجه قدرتهم على قول مثله لو شاؤوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ السماء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ قائل هذا النضر أضاً على ما روي عن مجاهد‏.‏ وسعيد بن جبر، وجاء في رواية أنه لما قال أولاً ما قال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ويلك إنه كلام الله تعالى فقال ذلك‏.‏ وأخرج البخاري‏.‏ والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما أنه أبو جهل بن هشام‏.‏ وأخرج ابن جرير عن زيد بن رومان‏.‏ ومحمد بن قيس أن قريشاً قال بعضها لبعض أكرم الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق الخ وهو أبلغ في الجحود من القول الأول لأنهم عدوا حقيته محالاً فلذا علقوا عليها طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ولو كانت ممكنة لفروا من تعليقه عليها، وما يقال‏:‏ إن أن للخلو عن الجزم فكيف استعملت في صورة الجزم‏؟‏ أجاب عنه القطب بأنها لعدم الجزم بوقوع الشرط ومتى جزم بعدم وقوعه عدم الجزم بوقوعه، وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ وفيه بحث ذكره العلامة الثاني‏.‏ واللام في ‏{‏الحق‏}‏ قيل للعهد، ومعنى العهد فيه أنه الحق الذي ادعاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه كلام الله تعالى المنزل عليه عليه الصلاة والسلام على النمط المخصوص ‏{‏وَمِنْ عِندَكَ‏}‏ إن سلم دلالته عليه فهو للتأكيد وحينئذٍ فالمعلق به كونه حقاً بالوجه الذي يدعيه النبي صلى الله عليه وسلم لا الحق مطلقاً لتجويزهم أن كون مطابقاً للواقع غير منزل ‏{‏أساطير الاولين‏}‏ وفي «الكشاف» أن قولهم‏:‏ هو الحق تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين، هذا هو الحق، وزعم بعضهم أن هذا قول بأن اللام للجنس وأشار إلى أن الأولى حملها على العهد الخارجي على معنى الحق المعهود المنزل من عند الله تعالى هذا لا أساطر الأولين فالتركيب مفيد لتخصيص المسند إليه بالمسند على آكد وجه، وحمل كلام البيضاوي على ذلك وطعن في مسلك الكشاف بعدم ثبوت قائل أولاً على وجه التخصيص يتهكم به، ولا يخفى ما فيه من المنع والتعسف ‏{‏وأمطر‏}‏ استعارة أو مجاز لأنزل، وقد تقدم الكلام في المطر والإمطار، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ مّنَ السماء‏}‏ صفة حجارة وذكره للإشارة إلى أن المراد بها السجيل والحجارة المسومة للعذاب، يروى أنها حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم، وجوز أن يكون الجار متعلقاً بالفعل قبله، والمراد بالعذاب الأليم غير إمطار الحجارة بقرينة المقابلة، ويصح أن يكون من عطف العام على الخاص، وتعلق ‏{‏مِنْ عِندِكَ‏}‏ بمحذوف قيل‏:‏ هو حال مما عنده أو صفة له، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والأعمش ‏{‏الحق‏}‏ بالرفع على أن هو مبتدأ لا فصل، وقول الطبرسي‏:‏ إنه لم يقرأ بذلك ليس بذاك، ولا أرى فرقاً بين القراءتين من جهة المراد بالتعريف خلافاً لمن زعمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ‏}‏ جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان لما كان الموجب لإمهالهم وعدم إجابة دعائهم الذي قصدوا به ما قصدوا، واللام هي التي تسمى لام الجحود ولام النفي لاختصاصها بمنف كان الماضية لفظاً أو معنى، وهي إما زائدة أو غر زائدة والخبر محذوف، أي ما كان الله مريداً لتعذيبهم؛ وأياً ما كان فالمراد تأكيد النفي أما على زيادتها فظاهر وأما على عدم زيادتها وجعل الخبر ما علمت فلان نفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه، وقيل‏:‏ في وجه إفادة اللام تأكيد النفي هنا أنها هي التي في قولهم‏:‏ أنت لهذه الخطة أي مناسب لها وهي تليق بك، ونفي اللياقة أبلغ من نفي أصل الفعل ولا يخلو عن حسن وإن قيل‏:‏ إنه تكلف لا حاجة إليه بعد ما بينه النحاة في وجه ذلك، وحمل غير واحد العذاب على عذاب الاستئصال، واعترض بأنه لا دليل على هذا التقييد مع أنه لا يلائمه المقام؛ وأجب بمنع عدم الملاءمة، بل من أمعن النظر في كلامهم رآه مشعراً بطلب ذلك، والدليل على التقييد أنه وقع عليهم العذاب والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم كالقحط فعلم أن المراد به عذاب الاستئصال والقرينة علييه تأكيد النفي الذي يصرفه إلى أعظمه، فالمراد من الآية الإخبار بأن تعذيبهم عذاب استئصال، والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم خارج عن عادته تعالى غير مستقيم في حكمه وقضائه، والمراد بالاستغفار في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ أما استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين حين هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي هذا عن الضحاك واختاره الجبائي، وقال الطيبي‏:‏ إنه أبلغ لدلالته على استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة، وإسناد الاستغفار إلى ضمير الجميع لوقوعه فيما بينهم ولجعل ما صدر عن البعض كما قيل بمنزلة الصادر عن الكل فليس هناك تفكيك للضمائر كما يوهمه كلام ابن عطية‏.‏

وأما دعاء الكفرة بالمغفرة وقولهم غفرانك فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعاً من عذابه جحل شأنه ولو من الكفرة، وروى هذا عن يزيد بن رومان‏.‏ ومحمد بن قيس قالا‏:‏ إن قريشاً لما قالوا ما قالوا ندموا حين أمسوا فقالوا‏:‏ غفرانك اللهم، وأما التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 117‏]‏ وروى هذا عن السدي‏.‏ وقتادة‏.‏ وابن زيد، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل من الأقوال الثلاثة، وأياً ما كان فالجملة الاسمية في موضع الحال إلا أن القيد مثبت على الوجهين الأولين منفي على الوجه الأخير، ومبني الاختلاف في ذلك ما نقل عن السلف من الاختلاف في تفسيره، والقاعدة المقررة بين القوم في القيد الواقع بعد الفعل المنفي، وحاصلها على ما قيل‏:‏ إن القيد في الكلام المنفي قد يكون لتقييد النفي وقد يكون لنفي التقييد بمعنى انتفاء كل من الفعل والقيد أو القيد فقط أو الفعل فقط، وقيل‏:‏ إن الدال على انتفاء الاستغفار هنا على الوجه الأخير القرينة والمقام لا نفس الكلام وإلا لكان معنى ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ‏}‏ نفي كونه فيهم لأن أمر الحالية مشترك بين الجملتين، وأطال الكلام في نفي تساوي الجملتين سؤالاً وجواباً، ثم تكلف للتفرقة بما تكلف، واعترض عليه بما اعترض، والظاهر عندي عدم الفرق في احتمال كل من حيث أنه كلام فيه قيد توجه النفي إلى القيد‏.‏

ومن هنا قال بعضهم‏:‏ إن المعنى الأولى لو كنت فيهم لم يعذبوا كما قيل في معنى الثانية‏:‏ لو استغفروا لم يعذبوا، ويكون ذلك إشارة إلى أنهم عذبوا بما وقع لهم في بدر لأنهم أخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ولم يبق فيهم فيها إلا أن هذا خلاف الظاهر ولا يظهر عليه كون الآية جواباً لكلمتهم الشنعاء، وعن ابن عباس أن المراد بهذا الاستغفار استغفار من يؤيد منهم بعد، أي وما كان الله معذبهم وفيهم من سبق له من الله تعالى العناية أنه يؤمن ويستغفر كصفوان بن أمية‏.‏ وعكرمة بن أبي جهل‏.‏ وسهل بن عمرو‏.‏ وأضاربهم، وعن مجاهد أن المراد به استغفار من في أصلابهم ممن علم الله تعالى أنه يؤمن، أي ماكان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر وهو كما ترى، ويظهر لي من تأكيد النفي في الجملة الأولى وعدم تأكيده في الجملة الثانية أن كون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم ادعى حكمة لعدم التعذيب من الاستغفار، وحمل بعضهم التعذيب المنفي في الجملة الثانية بناء على الوجه الأخير على ما عدا تعذيب الاستئصال، وحمل الأول‏:‏ على التعذيب الدنيوي والثاني‏:‏ على الأخروي ليس بشيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله‏}‏ أي أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم أي لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة إذا زال المانع وكيف لا يعذبون ‏{‏وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام‏}‏ أي وحالهم الصد عن ذلك حقيقة كما فعلوا عام الحديبية وحكماً كما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى ألجأوهم للهجرة، ولما كانت الآيتان يتراءى منهما التناقض زادوا في التفسير إذا زال ليزول كما ذكرنا، وأنت تعلم أنه إذا حمل التعذيب في كل على تعذيب الاستئصال احتيج إلى القول بوقوعه بعد زوال المانع وهو خلاف الواقع، وقال بعضهم في دفع ذلك‏:‏ إن التعذيب فيما مر تعذيب الاستئصال وهنا التعذيب بقتل بعضهم، ونقل الشهاب عن الحسن والعهدة عليه أن هذه نسخت ما قبلها، والظاهر أنه أراد النفيين السابقين، والذي في «الدر المنثور» أنه وكذا عكرمة والسدي قالوا‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏ منسوخ بهذه الآية، وأياماً كان يرد عليه أنه لا نسخ فـ يالإخبار إلا إذا تضمنت حكماً شرعياً، وفي تضمن المنسوخ هنا ذلك خفاء، وقال محمد بن إسحق‏:‏ أن الآية الأولى متصلة بما قبلها على أنها حكاية عن المشركين فإنهم كانوا يقولون‏:‏ إن الله تعالى لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب سبحانه أمة ونبيها معها فقص الله تعالى ذلك على نبيه صلى الله عليه وسلم مع قولهم الآخر فكأنه قيل‏:‏ وإذ قالوا اللهم الخ وقالوا أيضاً‏:‏ كيت وكيت ثم رد عليهم بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله‏}‏ على معنى أنهم يعذبون وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون، وفيه أن وقوع ذلك القول منهم في غاية البعد مع أن الظاهر حينئذ أن يقال‏:‏ ليعذبنا ومعذبنا ونحن نستغفر ليكون على طرز قولهم السابق، وأيضاً الأخبار الكثيرة تأبى ذلك، فقد أخرج أبو الشيخ‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي في شعيب الايمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ كان فيكم إمامان مضى أحدهما وبقي الآخر وتلا ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏ الخ‏.‏

وجاء مثل ذلك عن ابن عباس‏.‏ وأبي موسى الأشعري، وأخرج أبو داود‏.‏ والترمذي في الشمال‏.‏ والنسائي‏.‏ عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه الصلاة والسلام فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده ثم قال‏:‏ رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم‏؟‏ رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون‏؟‏ ونحن نستغفرك ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته وقد انحصت الشمس» وذهب الجبائي إلى أن المنفي فيما مر عذاب الدنيا وهذا العذاب عذاب الآخرة أي أنه يعذبهم في الآخرة لا محالة وهو خلاف سياق الآية، ‏{‏وَمَا‏}‏ على ما عليه الجمهور وهو الظاهر استفهامية، وقيل‏:‏ إنها نافية أي ليس ينفي عنهم العذاب مع تلبسهم بالصد عن المسجد الحرام ‏{‏وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ‏}‏ أي وما كانوا مستحقين ولاية المسجد الحرام مع شركهم، والجملة في موضع الحال من ضمير يصدون مبينة لكمال قبح ما صنعوا من الصدفان مباشرتهم للصد عنه مع عدم استحقاقهم لولاية أمره في غاية القبح، وهذا رد لما كانوا يقولون‏:‏ نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء ‏{‏إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ‏}‏ أي ما أولياء المسجد الحرام ‏{‏إِلاَّ المتقون‏}‏ من الشرك الذي لا يعبدون فيه غيره تعالى، والمراد بهم المسلمون وهذه المرتبة الأولى من التقوى، وما أشرنا إليه من رجوع الضميرين إلى المسجد هو المتبادر المروي عن أبي جعفر‏.‏

والحسن، وقيل‏:‏ هما راجعان إليه تعالى، وعليه فلا حاجة إلى اعتبار الاستحقاق فيما تقدم آنفاً إذ لم تثبت لهم ولاية الله تعالى أصلاً بخلاف ولاية المسجد فإنهم كانوا متولين له وقت النزول فاحتيج إلى التأويل بنفي الاستحقاق، ويفسر المتقون حينئذ بما هو أخص من المسلمين لأن ولاية الله تعالى لا يكفي فيها الإسلام بل لا بد فيها أيضاً من المرتبة الثانية من التقوى وإن وجدت المرتبة الثالثة منها فالولاية ولاية كبرى، وهذا ما نعرفه من نصوص الشرعية المطهرة والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، وغالب الجهلة اليوم على أن الولي هو المجنون ويعبرون عنه بالمجذوب، صدقوا ولكن عن الهدى، وكلما أطبق جنونه وكثر هذيانه واستقذرت النفوس السليمة أحواله كانت ولايته أكمل وتصرف في ملك الله تعالى أتم، وبعضهم يطلق الولي عليه وعلى من ترك الأحكام الشرعية ومرق من الدين المحمدي وتكلم بكلمات القوم وتزيا بزيهم، وليس منهم في عير ولا نفير، وزعم أن من أجهد نفسه في العبادة محجوباً ومن تمسك بالشريعة مغبوناً، وإن هناك باطن يخالف الظاهر إذا هو عرف انحل القيد ورفع التكليف وكملت النفس‏:‏

وألقت عصاها واستقر بها النوى *** كما قرعينا بالأياب المسافر

ويسمون هذا المرشد، صدقوا ولكن إلى النار، والشيخ صدقوا ولكن النجدي، والعارف صدقوا ولكن بسباسب الضلال، والموحد صدقوا ولكن للكفر والايمان، وقد ذكر مونا حجة الإسلام الغزالي هذا النوع من الكفرة الفجرة وقال‏:‏ إن قتل واحد منهم أفضل عند الله تعالى من قتل مائة كافر، وكذا تكلم فيهم الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بنحو ذلك‏:‏

إلى الماء يسعى من يغص بلقمة *** إلى أين يسعى من يغص بماء

والزمخشري جعل المتقون أخص من المسلمين على الوجه الأول أيضاً وهو أبلغ في نفي الولاية عن المذكورين أي لا يصلح لأن يلي أمر المسجد من ليس بمسلم وإنما يستأهل ولايته من كان براً تقياً فكيف بالكفرة عبدة الأوثان ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ أن لا ولاية لهم عليه، وكأنه نبه سبحانه بذكر الأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ولكن يجحده عناداً، وقد يراد بالأكثر الكل لأن له حكمه في كثير من الأحكام كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت‏}‏ أي المسجد الحرام الذي صدوا المسلمين عنه، والتعبير عنه بالبيت للاختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله تعالى فينبغي أن يعظم بالعبادة وهم لم يفعلوا ‏{‏إِلا‏}‏ أي صفيراً، وهو فعال بضم أوله كسائر أسماء الأصوات فإنها تجيء على فعال إلا ما شذ كالنداء من مكا يمكو إذا صفر، وقرىء بالقصر كبكا ‏{‏مُكَاء وَتَصْدِيَةً‏}‏ أي تصفيقاً، وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت، ووزنه تفعلة من الصد كما قال أبو عبيدة فحول إحدى الدالين ياء كما في تقضي البازي لتقضضه، ومن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 57‏]‏ أي يضجون لمزيد تعجبهم، وأنكر عليه، وقيل‏:‏ هو من الصدأ وهو ما يسمع من رجع الصوت عند جبل ونحوه، والمراد بالصلاة إما الدعاء أو أفعال أخر كانوا يفعلونها ويسمونها صلاة، وحمل المكاء والتصدية عليها على ما يشير إليه كلام الراغب بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها ولا معنى لها كصفير الطيور وتصفيق اللعب‏.‏ وقد يقال‏:‏ المراد أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي تليق أن تقع عند البيت على حد‏:‏

تحية بينهم ضرب وجيع *** يروى أنهم كانوا إذا أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي يخلطون عليه بالصفير والتصفيق ويرون أنهم يصلون أيضاً‏.‏

وروى أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون‏.‏ وقال بعض القائلين‏:‏ إن التصدية بمعنى الصد، والمراد صدهم عن القراءة أو عن الدين أو الصد بمعنى الضجة كما نقل عن ابن يعيش في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 57‏]‏ والمأثور عن ابن عباس وجمع من السلف ما ذكرناه‏.‏

نعم روى عن ابن جبير‏:‏ تفسير التصدية بصد الناس عن المسجد الحرام، وفيه بعد، وأبعد من ذلك تفسير عكرمة لها بالطواف على الشمال بل لا يكاد يسلم، والجملة معطوفة إما على ‏{‏وَهُمْ يَصُدُّونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 34‏]‏ فتكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ببيان أنهم صدوا ولم يقوموا مقام من صدوه في تعظيم البيت، أو على ‏{‏وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 34‏]‏ فتكون تقريراً لعدم استحقاقهم لولايته‏.‏ وقرأ الأعمش‏.‏ ‏{‏صَلاَتِهِمْ‏}‏ بالنصب وهي رواية عن عاصم‏.‏ وأبان، وهو حينئذ خبر كان ومكاء بالرفع اسمها، وفي ذلك الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو من القلب عند السكاكي، وقال ابن جني‏:‏ لا قلب ثم قال‏:‏ لسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح وإنما جاءت منه أبيات شاذة لكن من وراء ذلك ما أذكره، وهو أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته‏.‏ ألا تراك تقول‏:‏ خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه فإذا الأسد ولا فرق بينهما‏.‏ وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسداً واحداً معيناً وإنما تريد واحد من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا النصب والرفع جوازاً قريباً كأنه قيل‏:‏ وما كان صلاتهم إلا هذا الجنس من الفعل ولا يكون مثل قولك‏:‏ كان قائم أخاك، لأنه ليس في قائم معنى الجنسية‏.‏

وأيضاً فإنه يجوز مع النفي ما لا يجوز مع الإيجاب‏.‏ ألا تراك تقول‏:‏ ما كان إنسان خيراً منك ولا تجيز كان إنسان خيراً منك، وتمام الكلام عليه في موضعه ‏{‏فَذُوقُواْ العذاب‏}‏ يعني القتل والأسر يوم بدر كما روى عن الحسن‏.‏ والضحاك، وقيل‏:‏ عذاب الآخرة، وقيل‏:‏ العذاب المعهود في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 32‏]‏ ولا تعيين، والباء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏ للسببية، والفاء على تقدير أن لا يراد من العذاب عذاب الآخرة للتعقيب، وعلى تقدير أن يراد ذلك للسببية كالباء وأمر اجتماعهما ظاهر، والمتبادر من الكفر ما يرجع إلى الاعتقاد، وقد يراد به ما يشمل الاعتقاد والعمل كما يراد من الإيمان في العرف ذلك أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ نزلت على ما روى عن الكلبي‏.‏ والضحاك‏.‏ ومقاتل‏.‏ في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنى عشر رجلاً‏.‏ أبو جهل‏.‏ وعتبة‏.‏ وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس‏.‏ وبنية‏.‏ ومنية ابنا الحجاج‏.‏ وأبو البحتري بن هشام والنضر بن الحرث‏.‏ وحكيم بن حزام‏.‏ وأبي بن خلف‏.‏ وزمعة بن الأسود والحرث بن عامر بن نوفل‏.‏ والعباس بن عبد المطلب وكلهم من قريش، وكان كل يوم يطعم كل واحد عشر جزر وكانت النوبة يوم الهزيمة للعباس، وروى ابن إسحاق أنها نزلت في أصحاب العير‏.‏

وذلك أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا إلى مكة مشى صفوان بن أمية‏.‏ وعكرمة بن أبي جهل في رجال من قريش أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا‏:‏ يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرنا بمن أصيب منا ففعلوا، وعن سعيد بن جبير‏.‏ ومجاهد أنها نزلت في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش ليقاتل بهم النبي صلى الله عليه وسلم سوى من استجاشهم من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية من الذهب وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالاً من الذهب، وفيهم يقول كعب بن مالك من قصيدة طويلة أجاب بها هبيرة بن أبي وهب‏:‏

فجئنا إلى موج من البحر وسطهم *** أحابيش منهم حاسر ومقنع

ثلاثة آلاف ونحن عصابة *** ثلاث مئين إن كثرنا فأربع

وسبيل الله طريقه، والمراد به دينه واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، واللام في ‏{‏لِيَصُدُّواْ‏}‏ لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل لأن غرضهم الصد عن السبيل بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم، وكأن هذا بيان لعبادتهم المالية بعد عبادتهم البدنية، والموصول اسم إن وخبرها على ما قال العلامة الطيبي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيُنفِقُونَهَا‏}‏ وينفقون إما حال أو بدل من كفروا أو عطف بيان، واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 10‏]‏ فهو جزاء بحسب المعنى، وفي تكرير الإنفاق في الشرط والجزاء الدلالة على كمال سوء الانفاق كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 192‏]‏ وقولهم‏:‏ من أدرك الضمان فقد أدرك المرعى، والكلام مشعر بالتوبيخ على الانفاق والإنكار عليه، قيل‏:‏ وإلى هذا يرجع قول بعضهم إن مساق ما تقدم لبيان غرض الانفاق ومساق هذا لبيان عاقبته وأنه لم يقع بعد فليس ذلك من التكرار المحظور، وقيل‏:‏ في دفعه أيضاً‏:‏ المراد من الأول‏:‏ الإنفاق في بدر‏.‏

‏{‏وينفقون‏}‏ لحكاية الحال الماضية، وهو خبر إن، ومن الثاني‏:‏ الإنفاق في أحد، والاستقبال على حاله، والجملة عطف على الخبر لكن لما كان إنفاق الطائفة الأولى سبباً لإنفاق الثانية، أتى بالفاء لابتنائه عليه، وذهب القطب إلى هذا الإعراب أيضاً على تقدير دفع التكرار باختلاف الغرضين، وذكر أن الحاصل أنا لو حملنا ‏{‏رزقناهم يُنفِقُونَ‏}‏ على الحال فلا بد من تغاير الإنفاقين وإن حملناه على الاستقبال اتحدا، كأنه قيل‏:‏ إن الذين كفروا يريدون أن ينفقون أموالهم فسينفقونها، وحمل المنفق في الأول على البعض وفي الثاني على الكل لا أراه كما ترى، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً‏}‏ عطف على ما قبله، والتراخي زماني، والحسرة الندم والتأسف، وفعله حسر كفرح أي ثم تكون عليهم ندماً وتأسفاً لفواتها من غير حصول المطلوب، وهذا في بدر ظاهر‏.‏ وأما في أحد فلأن المقصود لهم لم ينتج بعد ذلك فكان كالفائت، وضمير تكون للأموال على معنى تكون عاقبتها عليهم حسرة، فالكلام على تقدير مضافين أو ارتكاب تجوز في الإسناد‏.‏

وقال العلامة الثاني‏:‏ إنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة إنفاقهم حسرة بكون ذات الأموال كذلك وأطلق المشبه به على المشبه وفيه خفاء، ومن الناس من قال‏:‏ إن إطلاق الحسرة بطريق التجوز على الانفاق مبالغة فافهم ‏{‏ثُمَّ يُغْلَبُونَ‏}‏ أي في مواطن أخر بعد ذلك ‏{‏والذين كَفَرُواْ‏}‏ أي الذي أصروا على الكفر من هؤلاء ولم يسلموا ‏{‏إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏}‏ أي يساقون لا إلى غيرها‏.‏