فصل: تفسير الآية رقم (37)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب‏}‏ أي الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح، واللام على الوجهين متعلقة بـ ‏{‏يحشرون‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏ وقد يراد من الخبيث ما أنفقه المشركون لعداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم و‏{‏مِنَ الطيب‏}‏ ما أنفقه المسلمون لنصرته عليه الصلاة والسلام، فاللام متعلقة بـ ‏{‏تكون عليهم حسرة‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏ دون يحشرون، إذ لا معنى لتعليل حشرهم بتمييز المال الخبيث من الطيب، ولم تتعلق بتكون على الوجهين الأولين إذ لا معنى لتعليل كون أموالهم عليهم حسرة بتمييز الكفار من المؤمنين أو الفساد من الصلاح‏.‏ وقرأ حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ ويعقوب ‏(‏ليميز‏)‏ من التمييز وهو أبلغ من الميز لزيادة حروفه‏.‏ وجاء من هذا ميزته فتميز ومن الأول مزته فانماز‏.‏ وقرء شاذاً ‏{‏وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 59‏]‏‏.‏

‏{‏وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً‏}‏ أي يضم بعضه إلى بعض ويجمعه من قولهم‏:‏ سحاب مركوم ويوصف به الرمل والجيش أيضاً، والمراد بالخبيث إما الكافر فيكون المراد بذلك فرط ازدحامهم في الحشر، وإما الفساد فالمراد أنه سبحانه يضم كل صنف بعضه إلى بعض ‏{‏فَيَجْعَلَهُ فِى جَهَنَّمَ‏}‏ كله، وجعل الفساد فيها بجعل أصحابه فيها، وأما المال المنفق في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وجعله في جهنم لتكوى به جباههم وجنوبهم‏.‏

وقد يراد به هنا ما يعم الكافر وذلك المال على معنى أنه يضم إلى الكافر الخبيث ما له الخبيث ليزيد به عذابه ويضم إلى حسرة الدنيا حسرة الآخرة ‏{‏أولئك‏}‏ إشارة إلى الخبيث، والجمع لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين الذين بقوا على الكفر فوجه الجمع ظاهر، وما فيه من معنى البعد على الوجهين للإيذان ببعد درجتهم في الخبث‏.‏

‏{‏هُمُ الخاسرون‏}‏ أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ أي المعهودين وهم أبو سفيان وأصحابه، واللام عند جمع للتعليل أي قل لأجلهم ‏{‏إن يَنْتَهُوا‏}‏ عما هم فيه من معاداة الرسول صلى الله عليه وسلم بالدخول في الإسلام ‏{‏يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ منهم من الذنوب التي من جملتها المعاداة والانفاق في الضلال، وقال أبو حيان‏:‏ الظاهر أن اللام للتبليغ وأنه عليه الصلاة والسلام أمر أن يقول هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ هذه الجملة المحكية بالقول سواء قاله بهذه العبارة أم غيرها، وهذا الخلاف إنما هو على قراءة الجماعة وأما على قراءة ابن مسعود ‏{‏ءانٍ تَنتَهُواْ يَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ بالخطاب فلا خلاف في أنها للتبليغ على معنى خاطبهم بذلك، وقرىء ‏{‏نَّغْفِرْ لَهُمْ‏}‏ على أن الضمير لله عز وجل ‏{‏وَإِن يَعُودُواْ‏}‏ إلى قتاله صلى الله عليه وسلم أو إلى المعاداة على معنى إن داوموا عليها ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين‏}‏ أي عادة الله تعالى الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم‏.‏ وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة، ونظير ذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سُنَّةَ مَن قُدِرَ أَرْسَلْنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 77‏]‏ فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته تعالى لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 77‏]‏ باعتبار جريانها على أيديهم، ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، وبعضهم فسره بذلك ولعل الأول أولى لعمومه ولأن السنة تقتضي التكرر في العرف وإن قالوا‏:‏ العادة تثبت بمرة، والجملة على ما في البحر دليل الجواب، والتقدير أن يعودوا انتقمنا منه أو نصرنا المؤمنين عليهم فقد مضت سنة الأولين، وذهب غير واحد إلى أن المراد بالذين كفروا الكفار مطلقاً، والآية حث على الايمان وترغيب فيه، والمعنى أن الكفار أن انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي وخرجوا منها كما تنسل الشعرة من العجين وإن عادوا إلى الكفر بالارتداد فقد رجع التسليط والقهر عليهم، واستدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس، وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعموم الآية، واستدل بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك قال‏:‏ لا يؤاخذ الكافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم وذلك لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏إِن يَنتَهُواْ‏}‏ الخ‏.‏

وقال بعض‏:‏ إن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة أصلاً وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى وتلزمه حقوق العباد، ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن مذهبه في المرتد كمذهب المالكية في أنه إذا رجع إلى الإسلام لم تبق عليه تبعة وهو كالريح في أن من عصى طول العمر ثم ارتد ثم أسلم لم يبق عليه ذنب‏.‏

ونسب بعضهم قول ذلك إليه رضي الله تعالى عنه صريحاً وادعى أنه احتج عليه بالآية وأنه في غاية الضعف إذ المراد بالكفر المشار إليه في الآية هو الكفر الإصلي وبما سلف ما مضى في حال الكفر، وتعقب ذلك بأن أبا حنيفة ومالكاً أبقيا الآية على عمومها لحديث «الإسلام يعدم ما كان قبله» وإنهما قالا‏:‏ إن المرتد يلزمه حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى كما في كتاب أحكام القرآن لابن عبد الحق، وخالفهما الشافعي رضي الله تعالى عنه وقال‏:‏ يلزمه جميع الحقوق، وأنا أقول ما ذكره ذلك البعض عن أبي حنيفة في العاصي المذكور في غاية الغرابة، وفي كتب الأصحاب ما يخالفه، ففي الخانية إذا كان المرتد قضاء صلوات أو صيامات تركها في الإسلام ثم أسلم قال شمس الأئمة الحلواني‏:‏ عليه قضاء ما ترك في الإسلام لأن ترك الصلاة والصيام معصية تبقى بعد الردة‏.‏ نعم ذكر قاضيخان فيها ما يدل على أن بعض الأشياء يسقط عن هذا المرتد إذا عاد إلى الإسلام وأطال الكلام في المرتد ولا بأس بنقل شيء مما له تعلق في هذا المبحث إذ لا يخلو عن فائدة، وذلك أنه قال‏:‏ مسلم أصاب مالاً أو شيئاً يجب به القصاص أو حد قذف ثم ارتد أو أصاب ذلك، وهو مرتد في دار الإسلام ثم لحق بدار الحرب وحارب المسلمين زماماً ثم جاء مسلماً فهو مأخوذ بجميع ذلك ولو أصاب ذلك بعد ما لحق بدار الحرب مرتداً وأسلم فذلك كله موضوع عنه، وما أصاب المسلم من حدود الله تعالى كالزنا والسرقة وقطع الطريق ثم ارتد أو أصاب ذلك بعد الردة ثم لحق بدار الحرب ثم جاء مسلماً فكل ذلك يكون موضوعاً عنه إلا أنه يضمن المال في السرقة، وإذا أصاب دماً في الطريق كان عليه القصاص، وما أصاب في قطع الطريق من القتل خطأ ففيه الدية على عاقلته إن أصابه قبل الردة وفي ماله أصابه بعدها، وإن وجب على المسلم حد الشرب ثم ارتد ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فإنه لا يؤاخذ بذلك لأن الكفر بمنع وجوب الحد ابتداء فإذا اعترض منع البقاء وإن أصاب المرتد ذلك وهو محبوس لا يؤاخذ بحد الخمر والسكر ويؤاخذ بما سوى ذلك من حدود الله تعالى، ويتمكن الإمام من إقامة هذا الحد إذا كان في يده فإن لم يكن في يده حين أصاب ذلك ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فهو موضوع عنه أيضاً انتهى، ومنه يعلم أن قولهم المرتد يلزمه حقوق العباد دون حقوق الله تعالى ليس على إطلاقه وتمام الكلام في الفروع، وأنت تعلم أن الوجه في الآية هو المطابق لمقتضى المقام وأن المتبادر من الكفر الكفر الأصلي‏.‏

و «الإسلام يهدم ما كان قبله» بعض من حديث أخرجه مسلم عن عمرو بن العاص قال‏:‏ «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ ابسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه الشريفة قال‏:‏ فقبضت يدي فقال‏:‏ عليه الصلاة والسلام ما لك يا عمرو‏؟‏ قلت‏:‏ أردت أن أشترط قال‏:‏ تشترط ماذا‏؟‏ قلت‏:‏ أشترط أن يغفر لي قال‏:‏ أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله» الحديث‏.‏

والظاهر أن ‏{‏مَا‏}‏ لا يمكن حملها في الكل على العموم كما لا يخفى فلا تغفل‏.‏ وذكر بعضهم أن الكافر إذا أسلم يلزمه التوبة والندم على ما سلف مع الايمان حتى يغفر له وفيه تأمل فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏وقاتلوهم‏}‏ عطف على ‏{‏قُلْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏ وعم الخطاب لزيادة ترغيب المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الاولين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏ من الوعيد ‏{‏حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ أي لا يوجد منهم شرك كما روى عن ابن عباس‏.‏ والحسن، وقيل‏:‏ المراد حتى لا يفتتن مؤمن عن دينه ‏{‏وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ‏}‏ وتضمحل الأديان الباطلة كلها إما بهلاك أهلها جميعاً أو برجوعهم عنها خشية القتل، قيل‏:‏ لم يجيء تأويل هذه الآية بعد وسيتحقق مضمونها إذا ظهر المهدي فإنه لا يبقى على ظهر الأرض مشرك أصلاً على ما روى عن أبي عبد الله رضي الله تعالى عنه ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ‏}‏ عن الكفر بقتالكم ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ الجملة قائمة مقام الجزاء أي فيجازيهم على انتهائهم وإسلامهم، أو جعلت مجازاً عن الجزاء أو كناية وإلا فكونه تعالى بصيراً أمر ثابت قبل الانتهاء وبعده ليس معلقاً على شيء‏.‏ وعن يعقوب أنه قرأ ‏{‏تَعْمَلُونَ‏}‏ بالتاء على أنه خطاب للمسلمين المجاهدين أي بما تعملون من الجهاد المخرج لهم إلى الإسلام، وتعليق الجزاء بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشرون بالمباشرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن تَوَلَّوْا‏}‏ ولم ينتهوا عن كفرهم ‏{‏فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ‏}‏ أي ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم ‏{‏نِعْمَ المولى‏}‏ لا يضيع من تولاه ‏{‏وَنِعْمَ النصير‏}‏ لا يغلب من نصره‏:‏ هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ‏}‏ تأديب منه سبحانه لأهل بدر وهداية لهم إلى فناء الأفعال حيث سلب الفعل عنهم بالكلية، ويشبه هذا من وجه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى‏}‏ والفرق أنه لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مقام البقاء بالحق سبحانه نسب إليه الفعل بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ رَمَيْتَ‏}‏ مع سلبه عنه ‏{‏بِمَا رَمَيْتَ‏}‏ وإثباته لله تعالى في حيز الاستدراك ليفيد معنى التفصيل في عين الجمع فيكون الرامي محمداً عليه الصلاة والسلام لا بنفسه ولعلو مقامه صلى الله عليه وسلم وعدم كونهم في ذلك المقام الأرفع نسب سبحانه إليه صلى الله عليه وسلم ما نسب ولم ينسب إليهم رضي الله تعالى عنهم من الفعل شيئاً، وهذا أحد أسرار تغيير الأسلوب في الجملتين حيث لم ينسب في الأولى ونسب في الثانية، بقي سر التبعير بالمضارع المنفي ‏{‏بلم‏}‏ في حداهما والماضي المنفي ‏{‏تَفْرَحُواْ بِمَا‏}‏ في الأخرى فارجع إلى فكرك‏.‏ فلعل الله تعالى يفتحه عليك‏:‏ ‏{‏وَلِيُبْلِىَ المؤمنين مِنْهُ بَلاء حَسَنًا‏}‏ ليعطيهم عطاء جميلاً وهو توحيد الأفعال، والمراد لهذا فعل ذلك ‏{‏إِنَّ الله سَمِيعٌ‏}‏ بخطرات نفوسكم بنسبة القتل إليكم ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 17‏]‏ بأنه القتل حقيقة وكونكم مظهراً لفعله ‏{‏وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 18‏]‏ لاحتجابهم بأنفسهم ‏{‏إِن تَسْتَفْتِحُواْ‏}‏ الآية، قيل فيها‏:‏ أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفاتيح الصدق والإخلاص وترك السوي في طلب التجلي ‏{‏فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح‏}‏ بالتجلي فإنه سبحانه لم يزل متجلياً ولا يزال لكن لا يدرك ذلك إلا من فتح قلبه ‏{‏وَإِن تَنتَهُواْ‏}‏ عن طلب السوي ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ‏}‏ لما فيه من الفوز بالمولى ‏{‏وَإِن تَعُودُواْ‏}‏ إلى طلب الدنيا وزخارفها ‏{‏نَعُدُّ‏}‏ إلى خذلانكم ونكلكم إلى أنفسكم ‏{‏وَلَن تُغْنِىَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ‏}‏ الدنيوية ‏{‏شَيْئاً‏}‏ مما لخاصته سبحانه ‏{‏وَلَوْ كَثُرَتْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 19‏]‏ لأنها كسراب بقيعة ‏{‏يا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 20‏]‏ لأن ثمرة السماع الفهم والتصديق وثمرتهما الإرادة وثمرتها الطاعة فلاتصح دعوى السماع مع الإعراض ‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين قَالُواْ سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 21‏]‏ لكونهم محجوبين عن الفهم ‏{‏إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم‏}‏ عن السماع ‏{‏البكم‏}‏ عن القبول ‏{‏الذين لاَ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 22‏]‏ لماذا خلقوا ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْرًا‏}‏ استعداداً صالحاً ‏{‏لاسْمَعَهُمْ‏}‏ سماع تفهم ‏{‏وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ‏}‏ مع عدم علم الخير فيهم

‏{‏لَتَوَلَّواْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 23‏]‏ ولم ينتفعوا به وارتدوا سريعاً إذ شأن العارض الزوال وهم معرضون بالذات ‏{‏مُّعْرِضُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ استجيبوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ بالتصفية ‏{‏إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ‏}‏ وهو العلم بالله تعالى، وقد يقال‏:‏ استجيبوا لله تعالى بالباطن والأعمال القلبية وللرسول بالظاهر والأعمال النفسية، أو استجيبوا لله تعالى بالفناء في الجمع وللرسول عليه الصلاة والسلام بمراعاة حقوق التفصيل إذا دعاكم لما يحييكم من البقاء ‏{‏واعلموا أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ‏}‏ فيزول الاستعداد فانتهزوا الفرصة ‏{‏وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 24‏]‏ فيجازيكم على حسب مراتبكم ‏{‏واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَاصَّةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 25‏]‏ بل تشملهم وغيرهم بشؤم الصحبة ‏{‏واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ‏}‏ من حيث القدر لجهلكم ‏{‏مُّسْتَضْعَفُونَ‏}‏ في أرض النفس ‏{‏تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس‏}‏ أي ناس القوى الحسية لضعف نفوسكم ‏{‏فَآوَاكُمْ‏}‏ إلى مدينة العلم، وأيدكم بنصره في مقام توحيد الأفعال ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ أي لوم تجليات الصفات ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 26‏]‏ ذلك، وقد يقال‏:‏ واذكروا أيها الأرواح والقلوب إذ كنتم قليلاً ليس معكم غيركم إذ لم ينشأ لكم بعد الصفات والأخلاق الروحانية ‏{‏مُّسْتَضْعَفُونَ‏}‏ في أرض البدن ‏{‏تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ الناس‏}‏ من النفس وأعوانها ‏{‏فَآوَاكُمْ‏}‏ إلى حظائر قدسه ‏{‏وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ‏}‏ بالواردات الربانية ‏{‏وَرَزَقَكُم مّنَ الطيبات‏}‏ وهي تجلياته سبحانه ‏{‏تَشْكُرُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله‏}‏ بترك الإيمان ‏{‏والرسول‏}‏ بترك التخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام ‏{‏وَتَخُونُواْ أماناتكم‏}‏ وهي ما رزقكم الله تعالى من القدرة وسلامة الآلات بترك الأعمال الحسنة أو لا تخونوا الله تعالى بنقض ميثاق التوحيد الفطري السابق والرسول عليه الصلاة والسلام بنقض العزيمة ونبذ العقد اللاحق وتخونوا أماناتكم من المعارف والحقائق التي استودع الله تعالى فيكم حسب استعدادكم بإخفائها بصفات النفس ‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 27‏]‏ قبح ذلك أو تعلمون أنكم حاملوها ‏{‏واعلموا أَنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ‏}‏ يختبركم الله تعالى بها ليرى أتحتجبون بمحبتها عن محبته أو لا تحتجبون ‏{‏وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 28‏]‏ لمن لا يفتتن بذلك ولا يشغله عن محبته ‏{‏عَظِيمٌ ياأيها الذين ءامَنُواْ إَن تَتَّقُواْ الله‏}‏ بالاجتناب عن الخيانة والاحتجاب بمحبة الأموال والأولاد ‏{‏يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ نوراً تفرقو به بين الحق والباطل، وربما يقال‏:‏ إن ذلك إشارة إلى نور يفرقون به بين الأشياء بأن يعرفوها بواسطته معرفة يمتاز به بعضها عن بعض وهو المسمى عندهم بالفراسة‏.‏ وفي بعض الآثار «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور من نور الله تعالى» ‏{‏وَيُكَفّرْ عَنكُمْ‏}‏ وهي صفات نفوسكم ‏{‏الله وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ذنوب ذواتكم ‏{‏والله ذُو الفضل العظيم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 29‏]‏ فيجعل لكم الفرقان ويفعل ويفعل ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ الآية جعلها بعضهم خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناها ما ذكرناه سابقاً، وجعلها بعضهم خطاباً للروح وهو تأويل أنفسي، أي وإذ يمكر بك أيها الروح الذين كفروا وهي النفس وقواها ‏{‏لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ ليقيدوك في أسر الطبيعة ‏{‏أَوْ يَقْتُلُوكَ‏}‏ بانعدام آثارك

‏{‏أَوْ يُخْرِجُوكَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏ من عالم الأرواح ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ‏}‏ لأنك الرحمة للعالين ‏{‏وَمَا كَانَ الله مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏ إذ لا ذنب مع الاستغفار ولاعذاب من غير ذنب ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله‏}‏ أي أنهم مستحقون لذلك كيف لا وهم يصدون المستعدين عن المسجد الحرام الذي هو القلب بإغرائهم على الأمور النفسانية واللذات الطبيعية ‏{‏وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ‏}‏ لغلبة صفات أنفسهم عليهم ‏{‏إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون‏}‏ تلك الصفات ‏{‏ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 34‏]‏ ذلك الحكم، وقال النيسابوري‏:‏ ولكن أكثرهم أي المتقين لا يعلمون أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت‏}‏ وهو ذلك المسجد ‏{‏الإمكاء‏}‏ إلا وساوس وخطرات شيطانية ‏{‏وَتَصْدِيَةً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 35‏]‏ وعزماً على الأفعال الشنيعة ‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أموالهم‏}‏ من الاستعداد الفطري في غير مرضاة الله تعالى ‏{‏لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ طريقه الموصل إليه ‏{‏فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً‏}‏ لزوال لذاتهم حتى تكون نسياً منسياً ‏{‏ثُمَّ يُغْلَبُونَ‏}‏ لتمكن الأخلاق الذميمة فيهم فلا يستطيعون العدول عنها ‏{‏والذين كَفَرُواْ‏}‏ أي وهم، إلا أنه أقيم الظاهر مقام المضمر تعليلاً للحكم الذي تضمنه قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 36‏]‏ وهي جهنم القطعية ‏{‏قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ‏}‏ عما هم عليه ‏{‏يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 38‏]‏ ‏{‏وقاتلوهم‏}‏ أي قاتلوا أيها المؤمنون كفار النفوس فإن جهادها هو الجهاد الأكبر ‏{‏حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ مانعة عن الوصول إلى الحق ‏{‏وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ‏}‏ ويضمحل دين النفس الذي شرعته ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 39‏]‏ فيجازيهم على ذلك والله تعالى الموفق لأوضح المسالك لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم‏}‏ روى عن الكلبى أنها نزلت في بدر وهو الذي يقتضيه كلام الجمهور، وقال الواقدي‏:‏ كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة‏.‏ و‏{‏مَا‏}‏ موصولة والعائد محذوف، وكان حقها أن تكون مفصولة وجعلها شرطية خلاف الظاهر وكذا جعلها مصدرية، وغنم في الأصل من الغنم بمعنى الربح، وجاء غنم غنماً بالضم وبالفتح وبالتحريك وغنيمة وغنمانا بالضم؛ وفي «القاموس» المغنم والغنيم والغنيمة والغنم بالضم الفىء، والمشهور تغاير الغنيمة والفىء، وقيل‏:‏ اسم الفىء يشملهما لأنها راجعة إلينا ولا عكس فهي أخص، وقيل‏:‏ هما كالفقير والمسكين، وفسروها بما أخذ من الكفار قهراً بقتال أو إيجاف فما أخذ اختلاساً لا يسمى غنيمة وليس له حكمها، فإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئاً لم يخمس، وفي الدخول بإذنه روايتان والمشهور أنه يخمس لأنه لما أذن لهم فقد التزم نصرتهم بالإمداد فصاروا كالمنعة، وحكى عن الشافعي رضي الله تعالى عنه في المسألة الأولى التخميس وإن لم يسم ذلك غنيمة عنده لإلحاقه بها، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِن شَىْء‏}‏ بيان للموصول محله النصب على أنه حال من عائده المحذوف قصد به الاعتناء بشأن الغنيمة وأن لا يشذ عنها شيء، أي ما غنمتموه كائناً مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط خلا أن سلب المقتول لقاتله إذا نفله الإمام، وقال الشافعية‏:‏ السلب للقاتل ولو نحو صبي وقن وإن لم يشترط له وإن كان المقتول نحو قريبه وإن لم يقاتل أو نحو امرأة أو صبي إن قاتلا ولو أعرض عنه للخبر المتفق عليه «من قتل قتيلاً فله سلبه» نعم القاتل المسلم القن لذمي لا يستحقه عندهم وإن خرج بإذن الإمام‏.‏

وأجاب أصحابنا بأن السلب مأخوذ بقوة الجيش فيكون غنيمة فيقسم قسمتها، وقد قال صلى الله عليه وسلم لحبيب بن أبي سلمة‏:‏ ‏"‏ ليس لك من صلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك ‏"‏ وما رووه يحتمل نصب الشرع ويحتمل التنفيل فيحمل على الثاني لما رويناه، والأسارى يخير فيهم الإمام وكذا الأرض المغنومة عندنا وتفصيله في الفقه، والمصدر المؤول من أن المفتوحة مع ما في حيزها في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ مبتدأ خبره محذوف أي فحق أو واجب أن لله خمسه، وقدر مقدماً لأن المطرد في خبرها إذا ذكر تقديمه لئلا يتوهم أنها مكسورة فأجرى على المعتاد فيه، ومنهم من أعربه خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم أن الخ، والجملة خبر لأن الأولى، والفاء لما في الموصول من معنى المجازاة، وقيل‏:‏ إنها صلة وأن بدل من أن الأولى، وروى الجعفي عن أبي عمر ‏{‏فَانٍ‏}‏ بالكسر وتقويه قراءة النخعي فللَّه خمسه ورجحت المشهورة بأنها آكد لدلالتها على إثبات الخمس وأنه لا سبيل لتركه مع احتمال الخبر لتقديرات كلازم وحق وواجب ونحوه، وتعقبه صاحب التقريب بأنه معارض بلزوم الإجمال‏.‏

وأجيب بأنه إن أريد بالإجمال ما يحتمل الوجوب والندب والإباحة فالمقام يأبى إلا الوجوب وإن أريد ما ذكر من لازم وحق وواجب فالتعميم يوجب التفخيم والتهويل‏.‏ وقرىء ‏{‏خُمُسَهُ‏}‏ بسكون الميم والجمهور على أن ذكر الله تعالى لتعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏ أو لبيان أنه لا بد في الخمسية من إخلاصها له سبحانه وأن المراد قسمة الخمس على ما ذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلرَّسُولِ وَلِذِى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ قيل ويكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏للرسول‏}‏ معطوفاً على ‏{‏يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ‏}‏ على التعليل الأول وبتقدير مبتدأ أي وهو أي الخمس للرسول الخ على التعليل الثاني، وإعادة اللام في القربى دون غيرهم من الأصناف الباقية لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلى الله عليه وسلم لمزيد اتصالهم به عليه الصلاة والسلام، وأريد بهم بنو هاشم وبنو المطلب المسلمون لأنه صلى الله عليه وسلم وضع سهم ذوي القربى فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، وأخيهما لأبيهما نوفل مجيباً عن ذلك حين قال له عثمان‏.‏ وجبير بن مطعم‏:‏ هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله تعالى منهم أرأيت إخواننا من بني عبد المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة نحن وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه رواه البخاري، أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلى الله عليه وسلم جاهلية ولا إسلاماً‏.‏

وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسة أسهم‏.‏ سهم له عليه الصلاة والسلام‏.‏ وسهم للمذكورين من ذوي القربى‏.‏ وثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة الباقية، وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فسقط سهمه صلى الله عليه وسلم كما سقط الصفي وهو ما كان يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع وسيف وجارية بموته صلى الله عليه وسلم لأنه كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده صلى الله عليه وسلم وكذا سقط سهم ذوي القربى وإنما يعطون بالفقر وتقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ولا حق لأغنيائهم لأن الخلفاء الأربعة الراشدين قسموه كذلك وكفى بهم قدوة، وروى عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه منع بني هاشم الخمس وقال‏:‏ إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوج أيمكم ويخدم ما لا خادم له منكم فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن السبيل غنى لا يعطي من الصدقة شيئاً ولا يتيم موسر‏.‏

وعن زيد بن علي كذلك قال‏:‏ ليس لنا أن نبني منه القصور ولا أن نركب منه البراذين، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم للنصرة لا للقرابة كما يشير إليه جوابه لعثمان‏.‏ وجبير رضي الله تعالى عنهما وهو يدل على أن المراد بالقربى في النص قرب النصرة لا قرب القرابة، وحيث انتهت النصرة انتهى الإعطاء لأن الحكم ينتهي بانتهاء علته واليتيم صغير لا أب له فيدخل فقراء اليتامى من ذوي القربى في سهم اليتامى المذكورين دون أغنيائهم والمسكين منهم في سهم المساكين، وفائدة ذكر اليتيم مع كون استحقاقه بالفقر والمسكنة لا باليتيم دفع توهم أن اليتيم لا يستحق من الغنيمة شيئاً لأن استحقاقها بالجهاد واليتيم صغير فلا يستحقها‏.‏

وفي التأويلات لعلم الهدى الشيخ أبي منصور أن ذوي القربى إنما يستحقون بالفقر أيضاً، وفائدة ذكرهم دفع ما يتوهم أن الفقير منهم لا يستحق لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، وفي «الحاوي القدسي» عن أبي يوسف أن الخمس يصرف لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وبه نأخذ انتهى، وهو يقتضي أن الفتوى على الصرف إلى ذوي القربى الأغنياء فليحفظ، وفي «التحفة» أن هذه الثلاثة مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق حتى لو صرف إلى صنف واحد منهم جاز كما في الصدقات كذا في «فتح القدير»، ومذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أن الخمس لا يلزم تخميسه وأنه مفوض إلى رأي الإمام كما يشعر به كلام خليل؛ وبه صرح ابن الحاجب فقال‏:‏ ولا يخمس لزوماً بل يصرف منه لآله عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد ومصالح المسلمين ويبدأون استحباباً كما نقل التتائي عن السنباطي بالصرف على غيرهم، وذكر أنهم بنو هاشم وأنهم يوفر نصيبهم لمنعهم من الزكاة حسبما يرى من قلة المال وكثرته، وكان عمر بن عبد العزيز يخص ولد فاطمة رضي الله تعالى عنها كل عام باثني عشر ألف دينار سوى ما يعطي غيرهم من ذوي القربى، وقيل‏:‏ يساوي بين الغني والفقير وهو فعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يعطي حسب ما يراه، وقيل‏:‏ يخير لأن فعل كل من الشيخين حجة‏.‏

وقال عبد الوهاب‏:‏ أن الإمام يبدأ بنفقته ونفقة عياله بغير تقدير، وظاهر كلام الجمهور أنه لا يبدأ بذلك وبه قال ابن عبد الحكم، والمراد بذكر الله سبحانه عند هذا الإمام أن الخمس يصرف في وجوه القربات لله تعالى والمذكور بعد ليس للتخصيص بل لتفضيله على غيره ولا يرفع حكم العموم الأول بل هو قار على حاله وذلك كالعموم الثابت للملائكة وإن خص جبريل وميكائيل عليهما السلام بعد‏.‏ ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه في قسمة الغنيمة أن يقدم من أصل المال السلب ثم يخرج منه حيث لا متطوع مؤنة الحفظ والنقل وغيرهما من المؤن اللازمة للحاجة إليها ثم يخمس الباقي فيجعل خمسة أقسام متساوية ويكتب على رقعة لله تعالى أو للمصالح وعلى رقعة للغانمين وتدرج في بنادق فما خرج لله تعالى قسم على خمس مصالح المسلمين كالثغور والمشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدين والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبراً سعة المال وضيقه، وهذا هو السهم الذي كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤنة سنة ويصرف الباقي في المصالح، وهل كان عليه الصلاة والسلام مع هذا التصرف مالكاً لذلك أو غير مالك قولان ذهب إلى الثاني الإمام الرافعي وسبقه إليه جمع متقدمون قال‏:‏ إنه عليه الصلاة والسلام مع تصرفه في الخمس المذكور لم يكن يملكه ولا ينتقل منه إلى غيره إرثاً‏.‏

ورد بأن الصواب المنصوص أنه كان يملكه، وقد غلط الشيخ أبو حامد من قال‏:‏ لم يكن صلى الله عليه وسلم يملك شيئاً وإن أبيح له ما يحتاج إليه، وقد يؤول كلام الرافعي بأنه لم ينف الملك المطلق بل الملك المقتضي للإرث عنه‏.‏

ويؤيد ذلك اقتضاء كلامه في الخصائص أنه يملك‏.‏ وبنو هاشم‏.‏ والمطلب، والعبرة بالانتساب للآباء دون الأمهات ويشترك فيه الغني والفقير لإطلاق الآية، وإعطائه عليه الصلاة والسلام العباس وكان غنياً والنساء، ويفضل الذكر كالإرث واليتامى، ولا يمنع وجود جد، ويدخل فيهم ولد الزنا والمنفى لا اللقيط على الأوجه؛ ويشترط فقره على المشهور ولا بد في ثبوت اليتم والإسلام والفقر هنا من البينة، وكذا في الهاشمي‏.‏ والمطلبي، واشترط جمع فيهما معها استفاضة النسبة والمساكين وابن السبيل ولو بقولهم بلا يمين‏.‏ نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة‏.‏ ويشترط الإسلام في الكل والفقر في ابن السبيل أيضاً وتمامه في كتبهم‏.‏

وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال‏:‏ يقسم ستة أسهم ويصرف سهم الله تعالى لمصالح الكعبة أي إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة وقع فيها الخمس كما قاله ابن الهمام‏:‏ وقد روى أبو داود في «المراسيل» وابن جرير عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضة فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسم ما بقي خمسة أسهم، ومذهب الإمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم أيضاً كمذهب أبي العالية إلا أنهم قالوا‏:‏ إن سهم الله تعالى وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى للإمام القائم مقام الرسول عليه الصلاة والسلام‏.‏ وسهم ليتامى آل محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وسهم لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم لا يشركهم في ذلك غيرهم ورووا ذلك عن زين العابدين‏.‏ ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهم، والظاهر أن الأسهم الثلاثة الأول التي ذكروها اليوم تخبأ في السرداب إذ القائم مقام الرسول قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته، وقيل‏:‏ سهم الله تعالى لبيت المال، وقيل‏:‏ هو مضموم لسهم الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

هذا ولم يبين سبحانه حال الأخماس الأربعة الباقية وحيث بين جل شأنه حكم الخمس ولم يبينها دل على أنها ملك الغانمين، وقسمتها عند أبي حنيفة للفارس سهمان وللراجل سهم واحد‏.‏ لما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل كذلك، والفارس في السفينة يستحق سهمين أيضاً وإن لم يمكنه القتال عليها فيها للتأهل، والمتأهب للشيء كالمباشر كما في «المحيط»، ولا فرق بين الفرس المملوك والمستأجر والمستعار وكذا المغصوب على تفصيل فيه، وذهب الشافعي‏.‏ ومالك إلى أن للفارس ثلاثة أسهم لما روى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس ذلك وهو قول الإمامين‏.‏

وأجيب بأنه قد روى عن ابن عمر أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس سهمين فإذا تعارضت روايتاه ترجح رواية غيره بسلامتها عن المعارضة فيعمل بها، وهذه الرواية رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏.‏

وفي «الهداية» أنه عليه الصلاة والسلام تعارض فعلاه في الفارس فنرجع إلى قوله عليه الصلاة والسلام وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ للفارس سهمان وللراجل سهم ‏"‏ وتعقبه في العناية بأن طريقة استدلاله مخالفة لقواعد الأصول فإن الأصل أن الدليلين إذا تعارضا وتعذر التوفيق والترجيح يصار إلى ما بعده لا إلى ما قبله وهو قال‏:‏ فتعارض فعلاه فنرجع إلى قوله، والمسلك المعهود في مثله أن نستدل بقوله ونقول فعله لا يعارض قوله لأن القول أقوى بالاتفاق، وذهب الإمام إلى أنه لا يسهم إلا لفرس واحد وعند أبي يوسف يسهم لفرسين، وما يستدل به على ذلك محمول على التنفيل عند الإمام كما أعطى عليه الصلاة والسلام سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل ولا يسهم لثلاثة اتفاقاً ‏{‏وَقَالَ موسى ياقوم إِن‏}‏ شرط جزاؤه محذوف أي إن كنتم آمنتم بالله تعالى فاعلموا أنه تعالى جعل الخمس لمن جعل فسلموه إليهم واقنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، وليس المراد مجرد العلم بذلك بل العلم المشفوع بالعمل والطاعة لأمره تعالى، ولم يجعل الجزاء ما قبل لأنه لا يصح تقدم الجزاء على الشرط على الصحيح عند أهل العربية، وإنما لم يقدر العمل قصراً للمسافة كما فعله النسفي لأن المطر في أمثال ذلك أن يقدر ما يدل ما قبله عليه فيقدر من جنسه، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أَنزَلْنَا‏}‏ عطف على الاسم الجليل و‏{‏مَا‏}‏ موصولة والعائد محذوف أي الذي أنزلناه ‏{‏على عَبْدِنَا‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من التشريف والتعظيم، وقرىء ‏{‏عَبْدَنَا‏}‏ بضمتين جمع عبد، وقيل‏:‏ اسم جمع له وأريد به النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فإن بعض ما نزل نازل عليهم ‏{‏يَوْمَ الفرقان‏}‏ هو يوم بدر فالإضافة للعهد، والفرقان بالمعنى اللغوي فإن ذلك اليوم قد فرق فيه بين الحق والباطل، والظرف منصوب بأنزلنا، وجوز أبو البقاء تعلقه بآمنتم، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏يَوْمَ التقى الجمعان‏}‏ بدل منه أو متعلق بالفرقان، وتعريف الجمعان للعهد، والمراد بهم الفريقان من المؤمنين والكافرين؛ والمراد بما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام من الآيات والملائكة والنصر على أن المراد بالإنزال مجرد الإيصال والتيسير فيشمل الكل شمولاً حقيقياً فالموصول عام ولا جمع بين الحقيقة والمجاز خلافاً لمن توهم فيه، وجعل الإيمان بهذه الأشياء من موجبات العلم بكون الخمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث أن الوحي ناطق بذلك وأن الملائكة والنصر لما كانا منه تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفاً إلى الجهات التي عينها الله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله على كُلّ شَيْء قَدِيرٌ‏}‏ ومن آثار قدرته جل شأنه ما شاهدتموه يوم التقى الجمعان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدنيا‏}‏ بدل من ‏{‏يوم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ أو معمول لاذكروا مقدراً، وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفاً لقدير وليس بشيء، والعدوة بالحركات الثلاث ششط الوادي وأصله من العدو التجاوز والقراءة المشهورة الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير‏.‏ وأبي عمرو‏.‏ ويعقوب‏.‏

وقرأ الحسن‏.‏ وزيد بن علي وغيرهما بالفتح وكلها لغات بمعنى ولا عبرة بإنكار بعضها و‏{‏الدنيا‏}‏ تأنيث الأدنى أي إذ أنتم نازلون بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة ‏{‏وَهُمْ‏}‏ أي المشركون ‏{‏بالعدوة القصوى‏}‏ أي البعدى من المدينة وهو تأنيث الأقصى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏القصيا‏}‏ ومن قواعدهم أن فعلى من ذوات الواو إذا كان اسماً تبدل لامه ياء كدنيا فإنه من دنا يدنو إذا قرب، ولم يبدل من قصوى على المشهور لأنه بحسب الأصل صفة ولم يبدل فيها للفرق بين الصفة والاسم، وإذا اعتبر غلبته وأنه جرى مجرى الأسماء الجامدة قيل قصيا وهي لغة تميم والأولى لغة أهل الحجاز، ومن أهل التصريف من قال‏:‏ إن اللغة الغالبة العكس فإن كانت صفة أبدلت اللام نحو العليا وإن كانت اسماً أقرت نحو حزوى؛ قيل‏:‏ فعلى هذا القصوى شاذة والقياس قصيا، وعنوا بالشذوذ مخالفة القياس لا الاستعمال فلا تنافي الفصاحة، وذكروا في تعليل عدم ازبدال بالفرق أنه إنما لم يعكس الأمر وإن حصل به الفرق أيضاً لأن الصفة أثقل فأبقيت على الأصل الأخف لثقل الانتقال من الضمة إلى الياء، ومن عكس أعطى الأصل للأصل وهو الاسم وغير في الفرع للفرق ‏{‏القصوى والركب‏}‏ أي العير أو أصحابها أبو سفيان وأصحابه وهو اسم جمع راكب لا جمع على الصحيح ‏{‏أَسْفَلَ مِنكُمْ‏}‏ أي في مكان أسفل من مكانكم يعني ساحل البحر، وهو نصب على الظرفية وفي «الأصل» صفة للظرف كما أرنا إليه ولهذا انتصب انتصابه وقام مقامه ولم ينسلخ عن الوصفية خلافاً لبعضهم وهو واقع موقع الخبر، وأجاز الفراء‏.‏ والأخفش رفعه على الاتساع أو بتقدير موضع الركب أسفل، والجملة عطف على مدخول إذ، أي إذ أنتم الخ وإذ الركب الخ‏.‏

واختار الجمهور أنها في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور قبل، ووجه الإطناب في الآية مع حصول المقصود بأن يقال‏:‏ يوم الفرقان يوم النصر والظفر على الأعداء مثلاً تصوير ما بدر سبحانه من أمر وقعة بدر والامتنان والدلالة على أنه من الآيات الغر المحجلة وغير ذلك وهذا مراد الزمخشري بقوله فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين وأن العير كان أسفل منهم الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته‏.‏ وتكامل عدته وتمهد أسباب العدة له وضعف شأن المسلمين والتباث أمرهم وإن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعاً من الله تعالى ودليلاً على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله سبحانه وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضاً لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم وتوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلو مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر تلك الوقعة، وليس السؤال عن فائدة الإخبار بما هو معلوم للمخاطب ليكون الجواب بأن فائدته لازمة كما ظنه غير واحد لما لا يخفى، وعلى هذا الطرز ذكر قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد‏}‏ أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال وعلمتم حالهم وحالكم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ويأساً من الظفر عليهم، وجعل الضمير الأول شاملاً للجمعين تغليباً والثاني للمسلمين خاصة هو المناسب للمقام إذ القصد فيه إلى بيان ضعف المسلمين ونصرة الله تعالى لهم مع ذلك، والزمخشري جعله فيهما شاملاً للفريقين لتكون الضمائر على وتيرة واحدة من غير تفكيك على معنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة لخالف بعضكم بعضاً فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله تعالى من التلاقي وسبب له ولا يخفى عدم مناسبته، وأمر التفكيك سهل ‏{‏ولكن‏}‏ تلاقيتم على غير موعد ‏{‏لّيَقْضِيَ الله أَمْراً‏}‏ وهو نصر المؤمنين وقهر أعدائهم ‏{‏كَانَ مَفْعُولاً‏}‏ أي كان واجباً أن يفعل بسبب الوعد المشار إليه بقوله سبحانه‏:‏

‏{‏وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 47‏]‏ أو كان مقدراً في الأزل‏.‏

وقيل‏:‏ كان بمعنى صار الدالة على التحول أي صار مفعولاً بعد أن لم يكن، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ‏}‏ بدل من ‏{‏لّيَقْضِيَ‏}‏ بإعادة الحرف أو متعلق بمفعولاً‏.‏

وجوز أبو البقاء أيضاً تعلقه بيقضي، واستطيب الطيبي الأول، والمراد بالبينة الحجة الظاهرة، أي ليموت من يموت عن حجة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجلة، ويجوز أن يراد بالحياة الإيمان وبالموت الكفر استعارة أو مجازاً مرسلاً، وبالبينة إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدافعة أي ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، وإلى هذا ذهب قتادة‏.‏ ومحمد بن إسحاق، قيل‏:‏ والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله تعالى وقضائه، والمشارفة في الهلاك ظاهرة، وأما مشارفة الحياة فقيل‏:‏ المراد بها الاستمرار على الحياة بعد الوقعة، وإنما قيل ذلك‏:‏ لأن من حي مقابل لمن هلك، والظاهر أن ‏{‏عَنْ‏}‏ بمعنى بعد كقوله تعالى‏:‏

‏{‏عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نادمين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 40‏]‏، وقييل‏:‏ لما لم يتصور أن يهلك في الاستقبال من هلك في الماضي حمل من هلك على المشارفة ليرجع إلى الاستقبال، وكذا لما لم يتصور أن يتصف بالحياة المستقبلة من اتصف بها في الماضي حمل على ذلك لذلك أيثضاً، لكن يلزم منه أن يختص بمن لم يكن حياً إذ ذاك فيحمل على دوام الحياة دون الاتصاف بأصلها، فيكون المعنى لتدوم حياة من أشرف لدوامها، ولا يجوز أن يكون المعنى لتدوم حياة من حي في الماضي لأن ذلك صادق على من هلك فلا تحصل المقابلة إلا أن يخصص باعتبارها، وتكلف بعضهم لتوجيه المضي والاستقبال بغير ما ذكر مما لا يخلو عن تأمل، واعتبار المضي بالنظر إلى علم الله تعالى وقضائه والاستقبال بالنظر إلى الوجود الخارجي مما لا غبار عليه، و‏{‏عَنْ‏}‏ لا يتعين كونها بمعنى بعد بل يمكن أن تبقى على معنى المجاوزة الذي لم يذكر البصريون سواه‏.‏

ونظير ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِى ءالِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 53‏]‏ بناءً على أن المراد ما نتركها صادرين عن قولك كما هو رأي البعض، ويمكن أن تكون بمعنى على كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏ وقول ذي الأصبع‏:‏

لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب *** عني ولا أنت دياني فتخزوني

وقرأ الأعمش ‏{‏لِيُهْلِكَ‏}‏ بفتح العين، وروي ذلك عن عاصم وهي على ما قال ابن جني في «المحتسب» شاذة مرغوب عنها لأن الماضي هلك بالفتح ولا يأتي فعل يفعل إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام فهو من اللغة المتداخلة‏.‏

وفي «القاموس» أن هلك كضرب ومنع وعلم وهو ظاهر في جواز الكسر والفتح في الماضي والمضارع‏.‏

نعم المشهور في الماضي الفتح وفي المضارع الكسر، وقرأ ابن كثير‏.‏ ونافع‏.‏ وأبو بكر‏.‏ ويعقوب ‏{‏حَىّ‏}‏ بفك الإدغام قال أبو البقاء‏:‏ وفيه وجهان أحدهما‏:‏ الحمل على المستقبل وهو يحيى فكما لم يدغم فيه لم يدغم في الماضي‏.‏ والثاني‏:‏ أن حركة الحرفين مختلفة فالأول مكسور والثاني مفتوح واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار ضبب البلد إذا كثر ضبه، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة فكأن الياء الثانية ساكنة ولو سكنت لم يلزم الإدغام فكذلك إذا كانت في تقدير الساكن، والياآن أصل وليست الثانية بدلاً من واو، وأما الحيوان فالواو فيه بدل من الياء، وأما الحواء فليس من لفظ الحية بل من حوى يحوي إذا جمع ‏{‏وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏ أي بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الكفر والإيمان على الاعتقاد والقول، أما اشتمال الإيمان على القول فظاهر لاشتراط إجراء الأحكام بكلمتي الشهادة، وأما اشتمال الكفر عليه فبناءً على المعتاد فيه أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِى مَنَامِكَ قَلِيلاً‏}‏ مقدر باذكر أو بدل من ‏{‏يوم الفرقان‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ وجوز أن يتعلق بـ ‏{‏عليم‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 42‏]‏ وليس بشيء، ونصب قليلاً على أنه مفعول ثالث عند الأجهوري أو حال على ما يفهمه كلام غيره‏.‏

والجمهور على أنه صلى الله عليه وسلم أرى ما أرى في النوم وهو الظاهر المتبادر، وحكمة إراءتهم إياه صلى الله عليه وسلم وسلم قليلين أن يخبر أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون ذلك تثبيتاً لهم، وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة المنامة لأنها ينام فيها فلم تكن عنده هناك رؤيا أصلاً بل كانت رؤية، وإليه ذهب البلخي ولا يخفى ما فيه لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمي على ما قال بعض المحققين أوفى موضع الشخص النائم على ما في «الكشف» ففي الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه، وما قيل‏:‏ إن فائدة العدول الدلالة على الأمن الوافر فليس بشيء لأنه لا يفيد ذلك فالنوم في تلك الحال دليل إلا من لا أن يريهم في عينه التي هي محل النوم، على أن الروايات الجمة برؤيته صلى الله عليه وسلم إياهم مناماً وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظراً إلى الظاهر، ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة فإنه الفصيح العالم بكلام العرب، وتخريج كلامه على أن في الكلام مضافاً محذوفاً أقيم المضاف إليه مقامه أي في موضع منامك مما لا يرتضيه اليقظان أيضاً، والتعبير بالمضارع لاستحضار الصورة الغريبة، والمراد إذا أراكهم الله قليلاً ‏{‏وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ‏}‏ أي لجبنتم وهبتم الإقدام، وجمع ضمير الخطاب في الجزاء مع إفراده في الشرط إشارة كما قيل‏:‏ إلى أن الجبن يعرض لهم لا له صلى الله عليه وسلم إن كان الخطاب للأصحاب فقط وإن كان للكل يكون من إسناد ما للأكثر للكل ‏{‏ولتنازعتم فِى الامر‏}‏ أي أمر القتال وتفرقت آراؤكم في الثبات والفرار ‏{‏ولكن الله سَلَّمَ‏}‏ أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع‏.‏

‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ أي الخواطر التي جعلت كأنها مالكة للصدور، والمراد أنه يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع ولذلك دبر ما دبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم فِى أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً‏}‏ مقدر بمضمر خوطب به الكل بطريق التلوين والتعميم معطوف على ما قبل، والضميران مفعولا يرى وقليلاً حال من الثاني، وإنما قللهم سبحانه في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى من بجنبه‏:‏ أتراهم سبعين‏؟‏ فقال‏:‏ أراهم مائة تثبيتاً لهم وتصديقاً لرسول عليه الصلاة والسلام ‏{‏وَيُقَلّلُكُمْ فِى أَعْيُنِهِمْ‏}‏ حتى قال أبو جهل‏:‏ إنما أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أكلة جزور، وكان هذا التقليل في ابتداء الأمر قبل التحام القتال ليجترؤا عليهم ويتركوا الاستعداد والاستمداد ثم كثرهم سبحانه حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا‏.‏

‏{‏لِيَقْضِىَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور‏}‏ كرر لاختلاف الفعل المعلل به إذ هو في الأول اجتماعهم بلا ميعاد وهنا تقليلهم ثم تكثيرهم، أو لأن المراد بالأمر ثم الالتقاء على الوجه المحكي، وههنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه، هذا وذكر غير واحد أن ما وقع في هذه الواقعة من عظائم الآيات فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلاً والقليل كثيراً لكن لا على ذلك الوجه ولا إلى ذلك الحد وإنما يتصور ذلك بصد الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشرائط‏.‏ واعترض بأن ما ذكر من التعليل مناسب لتقليل الكثير لا لتكثير القليل، وأجيب بأن تكثير القليل من جانب المؤمنين بكون الملائكة عليهم السلام ومن جانب الكفرة حقيقة فلا يحتاج إلى توجيه فيهما وإنما المحتاج إليه تقليل الكثير، وذكر في «الكشاف» طريقين لإبصار الكثير قليلاً أن يستر الله تعالى بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما خلق في عيون الحول ما يستكثرون به القليل فيرون الواحد اثنين، وعليه فيمكن أن يقال‏:‏ إن رؤيتهم للمؤمنين مثليهم من قبيل رؤية الأحول بل هي أعظم على تقدير أن يراد مثلي أنفسهم وحينئذٍ لا يحتاج إلى حديث رؤية الملائكة مع المؤمنين، وفي الانتصاف أن في ذلك دليلاً بيناً على أنه تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو ارتفاع حجب أو غير ذلك، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلاً لما أمكن أن يستتر عنهم البعض وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك فعلى هذا يجوز أن يخلق الله تعالى الإدراك مع انتفاء هذه الأسباب ويجوز أن لا يخلقه مع اجتماعها فلا ربط إذن بين الرؤية وبينها في مقدور الله تعالى، وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤيته تعالى لفقد شرطها وهو التجسم ونحوه، وحسبهم هذه الآية في بطلان زعمهم لكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، ثم إن رؤياه عليه الصلاة والسلام كانت في قول على طرز رؤية أصحابه رضي الله تعالى عنهم المشركين، وذكر بعض المحققين أنها كانت في مقام التعبير فلا يلزم أن تكون على خلاف الواقع، والقلة معبرة بالمغلوبية، والواقعة من الرؤية منها ما يقع بعينه ومنها ما يعبر ويؤول، وتحقيق الكلام فيها يقتضي بسطاً فتيقظ واستمع لما يتلى فنقول‏:‏

اعلم أن النفس الناطقة الإنسانية سلطان القوى البدنية وهي الآت لها وظاهر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة العمل كالسيف الذي يكل بكثرة القطع فالنفس إذا استعملت القوى الظاهرة استعمالاً كثيراً بحيث يعرض لها الكلال تعطلها لتستريح وتقوى كما أن الفارس إذا أكثر ركوب فرسه يرسله ليستريح ويرعى‏.‏

وهذا التعطل الحاصل باسترخاء الأعصاب الدماغية المتصلة بالآت الإدراك هو النوم وما يتراىء هناك هو الرؤيا إلا أن المتكلمين والحكماء المشائين والمتألهين من الإشراقيين والصوفية اختلفوا في حقيقتها إلى مذاهب، فذهب المعتزلة وجمهور أهل السنة من المتكلمين إلى أن الرؤيا خيالات باطلة، ووجه ذلك عند المعتزلة فقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الشغاف والبنية المخصوصة إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراك عندهم وعند الجماعة، وهم لم يشترطوا شيئاً من ذلك أن الإدراك حالة النوم خلاف العادة وأن النوم ضد الإدراك فلا يجامعه فلا تكون الرؤيا إدراكاً حقيقة، وقال الأستاذ أبو إسحاق‏:‏ إن الرؤيا إدراك حق إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه من إبصار وسمع وذوق وغيرها من الإدراكات وما يجده اليقظان من إدراكاته فلو جاز التشكيك فيما يجده النائم لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة والقدح في الأمور المعلومة حقيقتها بالبديهة، ولم يخالف في كون النوم ضداً للإدراك لكنه زعم أن الإدراكات تقوم بجزء من أجزاء الإنسان غير ما يقوم به النوم من أجزائه فلا يلزم اجتماع الضدين في محل‏.‏

وذهب المشاءون إلى أن المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك الذي هو لوح المحسوسات ومجمعها فإن الحواس الظاهرة إذا أخذت صور المحسوسات الخارجية وأدتها إلى الحس المشترك صارت تلك الصور مشاهدة هناك ثم إن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور إذا ركبت صورة فربما انطبعت تلك الصورة في الحس المشترك وصارت مشاهدة على حسب مشاهدة الصورة الخارجية فإن مدار المشاهدة الانطباع في الحس المشترك سواء انحدرت إليه من الخارج أو من الداخل، ثم إن القوة المتخيلة من شأنها التصوير دائماً لا تسكن نوماً ولا يقظة فلو خليت وطباعها لما فترت عن رسم الصور في الحس المشترك إلا أنه يصرفها عن ذلك أمران‏.‏ أحدهما توارد الصور من الخارج على الحس المشترك إذ بعد انتقاشه بهذه الصورة لا يسع أن ينتقش بالصورة التي تركبها المتخيلة‏.‏

وثانيهما تسلط العقل أو الوهم عليها بالضبط عندما يستعملانها في مدركاتهما، ولا شك في انقطاع هذين الصارفين عند النوم فيتسع لانتقاش الصور من الداخل فيكون ما يدركه النائم صوراً مرتسمة في الحس المشترك وموجودة فيه وهو الرؤيا إلا أن منها ما هو صادق ومنها ما هو كاذب‏.‏ أما الأولى فهي التي ترد تلك الصور فيها على الحس المشترك من النفس الناطقة، وبيانه أنه صور جميع الحوادث ما كان وما يكون مرتسمة في المبادىء العالية التي يعبر عنها أرباب الشرع بالملائكة ومنطبعة بالنفوس المجردة الفلكية واتصال النفس المجردة بالمجرد لعلة الجنسية أشد من اتصالها بالقوى الجسمانية فمن شأنها أن تتصل بذلك وتنتق بما فيه إلا أن اشتغالها بالحواس الظاهرة والباطنة واستغراقها بتدبير بدنها يمنعانها عن ذلك الاتصال والانتقاش لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها من الاشتغال بغيره، فءن الذي لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى الواحد القهار، ولا يمكن إزالة العائق بالكلية إلا أنه يسكن اشتغالها بالإدراكات الحسية حالة النوم إذ في اليقظة ينتشر الروح إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس الظاهرة حالة الانتشار ويحصل بها الإدراك فتشتغل النفس بتلك الإدراكات، وأما في النوم الذي هو أخ الموت فينحبس الروح إلى الباطن ويرجع عن الحواس الظاهرة بعد انصبابه إليها فتتعطل فيحصل للنفس أدنى فراغ فتتصل بتلك المبادىء اتصالاً روحانياً معنوياً وتنتقش ببعض ما فيها مما استعدت هي له كالمرايا إذا حوذي بعضها ببعض فانتقش في بعضها ما يتسع له مما انتقش في البعض الآخر فتدرك النفس مما ارتسم في تلك المبادىء ما يناسبها من أحوالها وأحوال ما يقارنها من الأقارب والأهل والولد والإقليم والبلد ماضيه وآتيه إلا أن هذا الإدراك لعدم تأديه من طرف الحس كلي فتحاكيه القوة المتخيلة التي جبلت محاكية لما يرد عليها بصور جزئية مثالية خيالية مناسبة إياه فتحاكي ما هو خير بالنسبة إليها في صورة جميلة وما هو شر كذلك في صورة قبيحة هائلة على مراتب مختلفة ووجوه متعددة ومن ثمة قد ترى ذاتها بصفة جميلة صورية ومعنوية من الجمال والعلم والكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات المحمودة، وقد ترى ذاتها متصفة بأضداد ما ذكر، وقد ترى تلك الصفات في صورة ما غلبت الصفات عليه، بل قد ترى أنها نفسها صارت نوعاً آخر لغلبة صفاته عليها، ومتى غلبت عليها الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة ترى صوراً جميلة وأضخاصاً حميدة كذوي الجمال والعلماء والأولياء والملائكة، بل قد ترى أنها صارت عالماً أو ملكاً مثلاف، ومتى غلبت عليها الصفات الذميمة ترى صوراً هائلة كصورة غولية أو سبعية، وكذا رؤية حال من يقاربه من الأهل والولد والإقليم مثلاً فإنها تراها باعتبار اختلاف المراتب والمناسبات على ما هي عليه في المضي أو الحال أو الاستقبال حتى لو اهتمت بمصالح الناس رأتها ولو كانت منجذبة الهمة إلى المعقولات لاحت لها أشياء منها، فمتى لم يكن اختلاف بين تلك الصورة وبين ما هي مأخوذة منه إلا بالكلية والجزئية كانت الرؤية غير محتاجة إلى التعبير، والتجاوز عنها إلى ما يناسبها بوجه من المماثلة أو الضدية التي يقتضيها نحو الألف والخلق والأسباب السماوية وغير ذلك من وجوه خفية لا يطلع عليها إلا الأفراد من أئمة التعبير، وإن كانت مخالفة لها لقصور يقع في المتخيلة إما لذاتها أو لعروض دهشة وحيرة لها مما ترى أو لغير ذلك كانت محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع المعبر القهقرى مجرداً لما يراه النائم عن تلك الصور التي صورتها المتخيلة إلى أن ينتهي بمرتبة أو مراتب إلى ما تلقته النفس من تلك المبادىء فيكون هو الواقع، وقد يتفق سيما إذا كان الرائي كثير الاهتمام بالرؤيا أن يعبر رؤياه في النوم الذي رآها فيه أو غيره، فهو إما بتذكره لما كانت الرؤيا حكاية عنه، وإما بتصوير المتخيلة حكاية رؤياه بحكاية أخرى، وحينئذٍ يحتاج إلى تعبيرين‏.‏

وأما الثانية‏:‏ فهي تكون لأشياء أما لأن النفس إذا أحست في حال اليقظة بتوسط الآلات الجسمانية بصور جزئية محسوسة أو خيالية وبقيت مخزونة في قوة الخيال فعند النوم الذي يخلص فيه الحس المشترك عما يرد عليه من الحواس الظاهرة ترسم في الحس المشترك ارتسام المحسوسات إما على ما كانت عليها وإما بصور مناسبة لها، أو لأن النفس أتقنت بواسطة المتخيلة صورة ألفتها فعند النوم تتمثل في الحس المشترك، أو لأن مزاج الدماغ يتغير فيتغير مزاج الروح الحاملة للقوة المتخيلة فتتغير أفعال المتخيلة بحسب تلك التغيرات، ولذلك يرى الدموي الأشياء الحمر والصفراوي النيران والأشعة والسوداوي الجبال والأدخنة والبلغمي المياه والألوان البيض، ومن هذا القبيل رؤية كون بدنه أو بعض أعضائه في الثلج أو الماء أو النار عند غلبة السخونة أو البرودة عليه، ورؤية أنه يأكل أو يشرب أو يبول عند عروض الاحتياج إلى أحدها‏.‏

ومن العجائب في هذا الباب أنه إذا غلب المني واحتاجت الطبيعة إلى دفعه تحتال باستعانة القوة المتخيلة إلى تصوير ما يندفع به من الصور السحنة وفي إرسال الريح الناشرة لآلة الجماع وإرادة حركاتها حتى يندفع بذلك ما أرادت اندفاعه، وقد يكون ذلك التوجه والاعتياد لا لغلبة المني فلهذا قد لا يندفع به شيء، وقد يعرض للروح اضطراب وتحريك من الأسباب الخارجة والداخلة فترى أموراً متغيرة متفرقة غير منضبطة فربما يتركب من المجموع صورة غير معهودة قلما يتصورها أحد أو يقع مثلها في الخارج، وقد يكون ذلك لاتصالات فلكية وأوضاع سماوية، فإذا كانت الرؤيا لأحد هذه الأمور تسمى أضغاث أحلام ولا تعبير لها ولا تقع‏.‏

وقد ذكروا أن أصدق الناس رؤيا أعدلهم مزاجاف ومن كان مع ذلك منقطعاً عن العلائق الشاغلة والخيالات الفاسدة معتاداً للصدق متوجهاً إلى الرؤيا واستثباتها وكيفيتها كانت رؤياه أصح وأصدق وأكثر أحلام الكذاب والسكران والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر أو خيالات فاسدة ومقتضيات قوى غضبية وشهوية كاذبة لا يعتمد عليها، ومن هنا قالوا‏:‏ لا اعتماد على رؤيا الشاعر لتعوده الأكاذيب الباطلة والتخيلات الفاسدة‏.‏

وذهب بعض أصحاب المكاشفات وأرباب المشاهدات من الحكماء المتألهين والصوفية المنكرين لارتسام الصور في الخيال إلى أن الرؤيا مشاهدة النفس صوراً خيالية موجودة في عالم المثال الذي هو برزخ بين عالم المجردات اللطيفة المسمى عندهم بعالم الملكوت، وبين عالم الموجودات العينية الكثيفة المسمى بعالم الملك، وقالوا‏:‏ فيه موجودات متشخصة مطابقة لما في الخارج من الجزئيات مثل لها قائمة بنفسها مناسبة لما في العالمين المذكورين، إما لعالم الملك فلأنها صور جسمانية شبحية، وإما لعالم الملكوت فلأنها معلقة غير متعلقة بمكان وجهة كالمجردات حتى أنه يرى صوراً مثالية لشخص واحد في مرايا متعددة بل في مواضع متكثرة كما يرى بعض الأولياء في زمان واحد في أماكن متعددة شرقية وغربية، ثم إن لتلك الصور مجالي مختلفة كالمرايا والماء الصافي، والقوى الجسمانية سيما الباطنة إذا انقطعت عن الاشتغال بالأمور الخارجية العائقة إذ بذلك يحصل لها زيادة مناسبة لذلك العالم كما للمتجردين عن العلائق البشرية، وإذا قويت تلك المناسبة كما للأنبياء عليهم السلام والأولياء الكمل قدس الله تعالى أسرارهم تظهر في القوى الظاهرة أيضاً، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يشاهد جبريل عليه السلام حين ما ينزل بالوحي والصحابة رضي الله تعالى عنهم حوله كانوا لا يشاهدونه‏.‏ هذا واستشكل قول المتكلمين‏:‏ أن الرؤيا خيالات باطلة بأنه قد شهد الكتاب والسنة بصحتها بل لم يكن أحد من الناس إلا وقد جربها من نفسه تجربة توجب التصديق بها‏.‏ وأجيب بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكاً بالبصر رؤية وكون ما يتخيله إدراكاً بالسمع سمعاً باطل فلا ينافي كونها أمارة لبعض الأشياء‏.‏ وذكر حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة في شرح قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من رآني في المنام فقد رآني» الحديث أنه ليس المراد بقوله عليه الصلاة والسلام فقد رآني رؤية الجسم بل رؤية المثال الذي صار آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه إليه، ثم ذكر أن النفس غير المثال المتخيل، فالشكل المرئي ليس روحه صلى الله عليه وسلم ولا شخصه بل مثاله على التحقيق، وكذا رؤيته سبحانه نوماً فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة لكن تنتهي تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره وهو آلة حقاً في كونه واسطة في التعريف، فقول الرائي‏:‏ رأيت الله تعالى نوماً لا يعني به أنه رأى ذاته تعالى‏.‏

وقال أيضاً‏:‏ من رآه صلى الله عليه وسلم مناماً لم يرد رؤيته حقيقة بشخصه المودع روضة المدينة بل رؤية مثاله وهو مثال روحه المقدسة عليه الصلاة والسلام‏.‏

قيل‏:‏ ومن هنا يعلم جواب آخر للأشكال وهو أن مرادهم أن ما يرى في المنام ليس له حقيقة ثابتة في نفس الأمر كما أن المرئي في اليقظة كذلك بل هو مثال متخيل يظهره الله تعالى للنفس في المنام كما يظهر لها الأمور الغيبية بعد الموت والنوم والموت أخوان، ووصف ما ذكر بالباطل لعله من قبيل وصف العالم به في قول لبيد‏:‏

ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وأنت تعلم أن ما ذكره حجة الإسلام ليس مما اتفق عليه علماؤه فقد ذهب جمع إلى أن رؤيته صلى الله عليه وسلم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة وبغيرها إدراك للمثال، على أن كلام المتكلمين ظاهر المخالفة للكتاب والسنة ولا يكاد يسلم تأويله عن شيء فتأمل‏.‏ ولعل النوبة تقضي إلى ذكر زيادة كلام في هذا المقام‏.‏

وبالجملة إنكار الرؤيا على الإطلاق ليس في محله كيف وقد جاء في مدحها ما جاء‏.‏ ففي «صحيح مسلم» أيها الناس لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها مسلم أو ترى له‏.‏ وجاء في أكثر الروايات أنها جزء من ست وأربعين‏.‏ ووجه ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام عمل بها ستة أشهر في مبدأ الوحي وقد استقام ينزل عليه الوحي ثلاثاً وعشرين سنة، ولا يتأتى هذا على رواية خمس وأربعين، وكذا على رواية سبعين جزأً؛ أو رواية ست وسبعين وهي ضعيفة ورواية ست وعشرين وقد ذكرها ابن عبد البر ورواية النووي من أربعة وعشرين والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً‏}‏ أي حاربتم جماعة من الكفرة ولم يصفها سبحانه لظهور أن المؤمنين لا يحاربون إلا الكفار، وقيل‏:‏ ليشمل بإطلاقه البغاة ولا ينافيه خصوص سبب النزول، ومنهم من زعم أن الانقطاع معتبر في معنى الفئة لأنها من فأوت أي قطعت والمنقطع عن المؤمنين إما كفار أو بغاة، وبنى على ذلك أنه لا ينبغي أن يقال‏:‏ لم توصف لظهور الخ وليس بشيء كما لا يخفى، واللقاء قد غلب في القتال كالنزال‏.‏ وتصدير الخطاب بحرفي النداء والتنبيه إظهاراً لكمال الاعتناء بمضمون ما بعده ‏{‏فاثبتوا‏}‏ للقائهم ‏{‏وَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ والظاهر أن المراد إلا وأو على ما مر ‏{‏واذكروا الله كَثِيراً‏}‏ أي في تضاعيف القتال، وفسر بعضهم هذا الذكر بالتكبير، وبعضهم بالدعاء ورووا أدعية كثيرة في القتال منها اللهم أنت ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك فاقتلهم واهزمهم، وقيل‏:‏ المراد بذكره سبحانه إخطاره بالقلب وتوقع نصره، وقيل‏:‏ المراد اذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر على الأعداء في الدنيا والثواب في الآخرة ليدعوكم ذلك إلى الثبات في القتال ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي تفوزون بمرامكم من النصر والمثوبة، والأولى حمل الذكر على ما يعم التكبير والدعاء وغير ذلك من أنواع الذكر، وفي الآية تنبيه على أن العبد ينبغي أنه لا يشغله شيء عن ذكر مولاه سبحانه، وذكره جل شأنه في مثل ذلك الموطن من أقوى أدلة محبته جل شأنه، ألا ترى من أحب مخلوقاً مثله كيف يقول‏:‏

ولقد ذكرتك والرماح نواهل *** مني وبيض الهند تشرب من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها *** برقت كبارق ثغرك المتبسم

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في كل ما تأتون وما تذرون ويندرج في ذلك ما أمروا به هنا ‏{‏وَلاَ تنازعوا‏}‏ باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر وأحد‏.‏ وقرىء ‏{‏وَلاَ تنازعوا‏}‏ بتشديد التاء ‏{‏فَتَفْشَلُواْ‏}‏ أي فتجبنوا عن عدوكم وتضعفوا عن قتالهم، والفعل منصوب بأن مقدرة في جواب النهي، ويحتمل أن يكون مجزوماً عطفاً عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏ بالنصب معطوف على ‏{‏تفشلوا‏}‏ على الاحتمال الأول‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏بِهِ وَيُذْهِبَ‏}‏ بياء الغيبة والجزم وهو عطف عليه أيضاً على الاحتمال الثاني، والريح كما قال الأخفش مستعارة للدولة لشبهها بها في نفوذ أمرها وتمشيه‏.‏ ومن كلامهم هبت رياح فلان إذ دالت له الدولة وجرى أمره على ما يريد وركدت رياحه إذا ولت عنه وأدبر أمره وقال‏:‏

إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها *** فما تدري السكون متى يكون

وعن قتادة‏.‏ وابن زيد أن المراد بها ريح النصر وقالا‏:‏ لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو‏.‏ وعن النعمان بن مقرن قال‏:‏ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تميل الشمس وتهب الرياح، وعلى هذا تكون الريح على حقيقتها، وجوز أن تكون كناية عن النصر وبذلك فسرها مجاهد ‏{‏واصبروا‏}‏ على شدائد الحرب ‏{‏إِنَّ الله مَعَ الصابرين‏}‏ بالإمداد والإعانة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم بناءً على المشهور من حيث أنهم المباشرون للصبر فهم متبوعون من تلك الحيثية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم‏}‏ بعد أن أمروا بما أمروا من أحاسن الأعمال ونهوا عما يقابلها، والمراد بهم أهل مكة أبو جهل وأصحابه حين خرجوا لحماية العير ‏{‏بَطَراً‏}‏ أي فخراً وأشراً ‏{‏وَرِئَاء الناس‏}‏ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة‏.‏ روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره أرسل إلى قريش أن أرجعوا فقد سلمت العير فقال أبو جهل‏:‏ والله لا نرجع حتى نرد بدراً ونشرب الخمور وتعزف علينا القينات ونطعم بها من حضرنا من العرب فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا بدل الخمور وناحت عليهم النوائح، بدل القينات وكانت أموالهم غنائم بدلاً عن بذلها، ونصب المصدرين على التعليل، ويجوز أن يكونا في موضع الحال، أي بطرين مرائين، وعلى التقديرين المقصود نهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم في البطر والرياء وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص إذا قلنا‏:‏ إن النهي عن الشيء أمر بضده‏.‏

‏{‏وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله‏}‏ عطف على ‏{‏بَطَراً‏}‏ وهو ظاهر على تقدير أنه حال بتأويل اسم الفاعل لأن الجملة تقع حالاً من غير تكلف وأما على تقدير كونه مفعولاً له فيحتاج إلى تكلف لأن الجملة لا تقع مفعولاً له، ومن هنا قيل‏:‏ الأصل أن يصدوا فلما حذفت أن المصدرية ارتفع الفعل مع القصد إلى معنى المصدرية بدون سابك كقوله‏:‏

ألا أيها الزاجري أحضر الوغى *** أي عن أن أحضر وهو شاذ

واختير جعله على هذا استئنافاً؛ ونكتة التعبير بالاسم أولاً والفعل أخيراً أن البطر والرياء دأبهم بخلاف الصد فءنه تجدد لهم في زمن النبوة ‏{‏والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ فيجازيهم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم‏}‏ مقدر بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين على ما قيل، ويجوز أن يكون المضمر مخاطباً به المؤمنون والعطف على لا تكونوا، أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وغيرها بأن وسوس إليهم ‏{‏وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ‏}‏ أي ألقى في روعهم وخيل لهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم وحافظ عن السوء حتى قالوا‏:‏ اللهم أنصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين، فالقول مجاز عن الوسوسة، والإسناد في ‏{‏إِنّى جَارٌ‏}‏ من قبيل الإسناد إلى السبب الداعي و‏{‏لَكُمْ‏}‏ خبر ‏{‏لا‏}‏ أو صفة ‏{‏غَالِبٌ‏}‏ والخبر محذوف، أي لا غالب كائناً لكم موجود و‏{‏اليوم‏}‏ معمول الخبر ولا يجوز تعلق الجار بغالب وإلا لانتصب لشبهه بالمضاف حينئذٍ، وأجاز البغداديون الفتح وعليه يصح تعلقه به، و‏{‏مِنَ الناس‏}‏ حال من ضمير الخبر لا من المستتر في ‏{‏غَالِبٌ‏}‏ لما ذكرنا، وجملة إني جار تحتمل العطف والحالية ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان‏}‏ أي تلاقى الفريقان وكثيراً ما يكنى بالترائي عن التلاقي وإنما أول بذلك لمكان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَكَصَ على عَقِبَيْهِ‏}‏ أي رجع القهقرى فإن النكوص كان عند التلاقي لا عند الترائي، والتزام كونه عنده فيه خفاء‏.‏ والجار والمجرور في موضع الحال المؤكدة أو المؤسسة أن فسر النكوص بمطلق الرجوع، وأياً ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية، شبه بطلان كيده بعد تزيينه بمن رجع القهقرى عما يخافه كأنه قيل‏:‏ لما تلاقتا بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم‏.‏

‏{‏وَقَالَ إِنّي بَرِىء مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّى أَخَافُ الله‏}‏ تبرأ منهم إما بتركهم أو بترك الوسوسة لهم التي كان يفعلها أولاً وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة عليهم السلام، وإنما لم نقل خاف على نفسه لأن الوسوسة بخوفه عليهم أقرب إلى القبول بل يبعد وسوسته إليهم بخوفه على نفسه، وقيل‏:‏ إنه لا يخاف على نفسه لأنه من المنظرين وليس بشيء‏.‏

وقد يقال‏:‏ المقصود من هذا الكلام أنه عظم عليهم الأمر وأخذ يخوفهم بعد أن كان يحرضهم ويشجعهم كأنه قال‏:‏ يا قوم الأمر عظيم والخطب جسيم وإني تارككم لذلك وخائف على نفسي الوقوع في مهاوي المهالك مع أني أقدر منكم على الفرار وعلى مراحل هذه القفار، وحينئذٍ لا يبعد أن يراد من الخوف الخوف على نفسه حيث لم يكن هناك قول حقيقة، وقال غير واحد من المفسرين‏:‏ أنه لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينها وبين كنانة من الأحنة والحرب فكاد ذلك يثبطهم فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وكان من أشراف كنانة فقال لهم لا غالب لكم اليوم وإني جار لكم من بني كنانة وحافظكم ومانع عنكم فلا يصل إليكم مكروه منهم فلما رأى الملائكة تنزل من السماء نكص وكانت يده في يد الحرث بن هاشم فقال له‏:‏ إلى أين أتخذ لنا في هذه الحالة‏؟‏ فقال له‏:‏ إني أرى ما لا ترون فقال‏:‏ والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب فدفع في صدر الحرث وانطلق وانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا‏:‏ هزم الناس سراقة فبلغه الخبر فقال‏:‏ والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وروى هذا عن ابن عباس‏.‏

والكلبي‏.‏ والسدي‏.‏ وغيرهم، وعليه يحتمل أن يكون معنى قوله‏:‏ إني أخاف الله إني أخاف أن يصيبني بمكروه من الملائكة أو يهلكني، ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله، وفي «الموطأ» ما رؤي الشيطان يوماً هو أصغر فيه ولا أدخر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر فإنه قد رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة عليهم السلام، وما في كتاب «التيجان» من أن إبليس قتل ذلك اليوم مخرج على هذا وإلا فهو تاج سلطان الكذب، وروى الأول عن الحسن واختاره البلخي‏.‏ والجاحظ، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله شَدِيدُ العقاب‏}‏ يحتمل أن يكون من كلام اللعين وإن يكون مستأنفاً من جهته سبحانه وتعالى، وادعى بعضهم أن الأول هو الظاهر إذ على احتمال كونه مستأنفاً يكون تقريراً لمعذرته ولا يقتضيه المقام فيكون فضلة من الكلام، وتعقب بأنه بيان لسبب خوفه حيث أنه يعلم ذلك فافهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ يَقُولُ المنافقون‏}‏ ظرف لزين أو نكص أو ‏{‏شديد العقاب‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 48‏]‏، وجوز أبو البقاء أيضاً أن يقدر اذكروا ‏{‏والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ‏}‏ أي الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان بعد وبقي فيها شبهة، قيل‏:‏ وهم فتية من قريش أسلموا بمكة وحبسهم آباؤهم حتى خرجوا معهم إلى بدر‏.‏ منهم قيس بن الوليد بن المغيرة‏.‏ والعاص بن منبه بن الحجاج‏.‏ والحرث بن زمعة‏.‏ وأبو قيس بن الفاكه، فالمرض على هذا مجاز عن الشبهة‏.‏

وقيل‏:‏ المراد بهم المنافقون سواء جعل العطف تفسيرياً أو فسر مرض القلوب بالأحن والعداوات والشك مما هو غير النفاق، والمعنى إذ يقول الجامعون بين النفاق ومرض القلوب، وقيل‏:‏ يجوز أن يكون الموصول صفة المنافقين، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف لأن هذه صفة للمنافقين لا تنفك عنهم، أو تكون الواو داخلة بين المفسر والمفسر نحو أعجبني زيد وكرمه، وزعم بعضهم أن ذلك وهم وهو من التحامل بمكان إذ لا مانع من ذلك صناعة ولا معنى، والقول بأن وجه الوهم فيه أن المنافقين جار على موصوف مقدر أي القوم المنافقون فلا يوصف ليس بوجيه إذ للقائل أن يقول‏:‏ إنه أجرى المنافقون هنا مجرى الأسماء مع أن الصفة لا مانع من أن توصف وقيام العرض بالعرض دون إثبات امتناعه خرط القتاد، ومن فسر الذين في قلوبهم مرض بأولئك الفئة الذين أسلموا بمكة قال‏:‏ إنهم لما رأوا قلة المسلمين قالوا‏:‏ ‏{‏غَرَّ هَؤُلاء‏}‏ يعنون المؤمنين الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏دِينَهُمُ‏}‏ حتى تعرضوا لمن لايدي لهم به فخرجوا وهم ثلثمائة وبضعة عشر إلى زهاء الألف، وعلى احتمال جعله صفة للمنافقين يشعر كلام البعض أن القول لم يكن عند التلاقي، فقد روى عن الحسن أن هؤلاء المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر‏.‏

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ هم يومئذٍ في المسلمين، وفي القلب من هذا شيء، فإن الذي تشهد له الآثار أن أهل بدر كانوا خلاصة المؤمنين ‏{‏وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله‏}‏ جواب لهم ورد لمقالتهم ‏{‏فَإِنَّ الله عَزِيزٌ‏}‏ غالب لا يذل من توكل عليه ولا يخذل من استجار به وإن قل ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ يفعل بحكمته البالغة ما تستبعده العقول، وتحار في فهمه ألباب الفحول‏.‏ وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه أو أنه قائم مقامه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى‏}‏ خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب، والمضارع هنا بمعنى الماضي لأن ‏{‏لَوْ‏}‏ الامتناعية ترد المضارع ماضياً كما أن إن ترد الماضي مضارعاً، أي ولو رأيت ‏{‏إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملئكة‏}‏ الخ لرأيت أمراً فظيعاً، ولا بد عند العلامة من حمل معنى المضي هنا على الفرض والتقدير، وليس المعنى على حقيقة المضي، قيل‏:‏ والقصد إلى استمرار امتناع الرؤية وتجدده وفيه بحث، وإذ ظرف لترى والمفعول محذوف، أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذٍ، و‏{‏الملائكة‏}‏ فاعل يتوفى، وتقديم المفعول للاهتمام به، ولم يؤنث الفعل لأن الفاعل غير حقيقي التأنيث، وحسن ذلك الفصل بينهما، ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن عامر ‏{‏تتوقى‏}‏ بالتاء‏.‏ وجوز أبو البقاء أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى، والملائكة على هذا مبتدأ خبره جملة ‏{‏الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ‏}‏ والجملة الاسمية مستأنفة، وعند أبي البقاء في موضع الحال، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير، ومن يرى أنه لا بد فيها من الواو وتركها ضعيف يلتزم الأول، وعلى الأول يحتمل أن يكون جملة يضربون مستأنفة وأن تكون حالاً من الفاعل أو المفعول أو منهما لاشتمالها على ضميريهما وهي مضارعية يكتفي فيها بالضمير كما لا يخفى‏.‏ والمراد من وجوههم ما أقبل منهم، ومن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وأدبارهم‏}‏ ما أدبر وهو كل الظهر‏.‏ وعن مجاهد أن المراد منه أستاههم ولكن الله تعالى كريم يكنى والأول أولى، وذكرهما يحتمل أن يكون للتخصيص بهما لأن الخزي والنكال في ضربهما أشد ويحتمل أن يراد التعميم على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالغدو والاصال‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏ لأنه أقوى ألماً، والمراد من الذين كفروا قتلى بدر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره‏.‏

وروي عن الحسن أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ذلك ضرب الملائكة‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس ما يشعر بالعموم‏.‏ فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال‏:‏ آيتان يبشر بهما الكافر عند موته وقرأ ‏{‏وَلَوْ تَرَى‏}‏ الخ، ولعل الرواية عنه رضي الله تعالى عنه لم تصح ‏{‏وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق‏}‏ عطف على ‏{‏يَضْرِبُونَ‏}‏ بإضمار القول، أي ويقولون ذوقوا، أو حال من ضميره كذلك أي ضاربين وجوههم وقائلين ذوقوا، وهو على الوجهين من قول الملائكة، والمراد بعذاب الحريق عذاب النار في الآخرة، فهو بشارة لهم من الملائكة بما هو أدهى وأمر مما هم فيه، وقيل كان مع الملائكة يوم بدر مقامع من حديد كلما ضربوا المشركين بها التهبت النار في جراحاتهم، وعليه فالقول للتوبيخ، والتعبير بذوقوا قيل‏:‏ للتهكم لأن الذوق يكون في المطعومات المستلذة غالباً، وفيه نكتة أخرى وهو أنه قليل من كثير وأنه مقدمة كأنموذج الذائق‏.‏ وبهذاالاعتبار يكون فيه المبالغة، وإن أشعر الذوق بقلته‏.‏

وذكر بعضهم‏:‏ وهو خلاف الظاهر أنه يحتمل أن يكون هذا القول من كلام الله تعالى كماف ي آل عمران ‏{‏وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 181‏]‏ وجواب ‏{‏لَوْ‏}‏ محذوف لتفظيع الأمر وتهويله وتقديره ما أشرنا إليه سابقاً، وقدره الطيبي لرأيت قوة أوليائه ونصرهم على أعدائه