فصل: تفسير الآية رقم (12)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ‏(‏12‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن نَّكَثُواْ‏}‏ عطف على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَإِن تَابُواْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 11‏]‏ أي وإن لم يفعلوا ذلك بل نقضوا ‏{‏أيمانهم مّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ‏}‏ الموثق بها وأظهروا ما في ضمائرهم من الشر وأخرجوه من القوة إلى الفعل، وجوز أن يكون المراد وإن ثبتوا واستمروا على ما هم عليه من النكث، وفسر بعضهم النكث بالارتداد بقرينة ذكره في مقابلة ‏{‏فَإِن تَابُواْ‏}‏ والأول أولى بالمقام ‏{‏وَطَعَنُواْ فِى دِينِكُمْ‏}‏ قدحوا فيه بأن أعابوه وقبحوا أحكامه علانية‏.‏

وجعل ابن المنير طعن الذمي في ديننا بين أهل دينه إذا بلغنا كذلك، وعد هذا كثير ومنهم الفاضل المذكور نقضاً للعهد، فالعطف من عطف الخاص على العام وبه ينحل ما يقال‏:‏ كان الظاهر أو طعنوا لأن كلا من الطعن وما قبله كاف في استحقاق القتل والقتال، وكون الواو بمعنى أو بعيد، وقيل‏:‏ العطف للتفسير كما في قولك‏:‏ اسخف فلان بي وفعل معي كذا، على معنى وان نكثوا إيمانهم بطعنهم في دينكم والأول أولى، ولا فرق بين توجيه الطعن إلى الدين نفسه إجمالاً وبين توجيهه إلى بعض تفاصيله كالصلاة والحج مثلا، ومن ذلك الطعن بالقرآن وذكر النبي صلى الله عليه وسلم وحاشاه بسوء فيقتل الذمى به عند جمع مستدلين بالآية سواء شرط انتقاض العهد به أم لا‏.‏ وممن قال بقتله إذا أظهر الشتم والعياد بالله مالك‏.‏ والشافعي وهو قول الليث وأفتى به ابن الهمام، والقول بأن أهل الذمة يقرون على كفرهم الأصلي بالجزية وذا ليس بأعظم منه فيقرون عليه بذلك أيضاً وليس هو من الطعن المذكور في شيء ليس من الانصاف في شيء، ويلزم عليه أن لا يعزروا أيضاً كما لا يعزرون بعد الجزية على الكفر الأصلي، وفه لعمري بيع يتيمة الوجود صلى الله عليه وسلم بثمن بخس والدنيا بحذافيرها بل والآخرة بأسرها في جنب جنابه الرفيع جناح بعوضة أو أدنى، وقال بعضهم‏:‏ إن الآية لا تدل على ما ادعاه الجمع بفرد من الدلالات وإنها صريحة في أن اجتماع النكث والطعن يترتب عليه ما يترتب فكيف تدل على القتل بمجرد الطعن وفيه ما فيه، ولا يخفى حسن موقع الطعن من القتال المدلول عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر‏}‏ أي فقاتلوهم، ووضع فيه الظاهر موضع الضمير وسموا أئمة لأنهم صاروا بذلك رؤساء متقدمين على غيرهم بزعمهم فهم أحقاء بالقتال والقتل وروي ذلك عن الحسن، وقيل‏:‏ المراد بأئمتهم رؤساؤهم وصناديدهم مثل أبي اسفيان‏.‏ والحرث بن هشام، وتخصيصهم بالذكر لأن قتلهم أهم لا لأنه لا يقتل غيرهم، وقيل‏:‏ للمنع من مراقبتهم لكونهم مظنة لها أو للدلالة على استئصالهم فإن قتلهم غالباً يكون بعد قتل من دونهم، وعن مجاهد أنهم فارس والروم وفيه بعد‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة، وغيره عن حذيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ ما قوتل أهل هذه الآية بعد وما أدرى ما مراده والله تعالى أعلم بمراده، وقرأ نافع‏.‏ وابن كثير‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏أَئِمَّةَ‏}‏ بهمزتين ثانيتهما بين بين أي بين مخرج الهمزة والياء والألف بينهما، والكوفيون‏.‏ وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما من غير ادخال ألف، وهشام كذلك إلا أنه أدخل بينهما الألف هذا هو المشهور عن القراء السبعة‏.‏ ونقل أبو حيان عن نافع المد بين الهمزتين والياء‏.‏

وضعف كما قال بعض المحققين قراءة التحقيق وبين بين جماعة من النحويين كالفارسي، ومنهم من أنكر التسهيل بين بين وقرأ بياء خفيفة الكسرة، وأما القراءة بالياء فارتضاها أبو علي‏.‏ وجماعة، والزمخشري جعلها لحناً، وخطأه أبو حيان في ذلك لأنها قراءة رأس القراء والنحاة أبو عمرو، وقراءة ابن كثير‏.‏ ونافع وهي صحيحة رواية، وعدم ثبوتها من طريق التيسير يوجب التضييق؛ وكذا دراية فقد ذكر هو في المفصل وسائر الأئمة في كتبهم أنه إذا اجتمعت همزتان في كلمة فالواجه قلب الثانية حرف لين كما في آدم وأئمة فما اعتذر به عنه غير مقبول‏.‏ والحاصل أن القراآت هنا تحقيق الهمزتين وجعل الثانية بين بين بلا إدخال ألف وبه والخامسة بياء صريحة وكلها صحيحة لا وجه لانكارها، ووزن أئمة أفعلة كحمار وأحمرة، وأصله أئمة فنقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت ولما ثقل اجتماع الهمزتين فروا منه ففعلوا ما فعلوا ‏{‏إِنَّهُمْ لا أيمان لَهُمْ‏}‏ أي على الحقيقة حيث لا يراعونها ولا يفون بها ولا يرون نقضها نقصاً وإن أجروها على ألسنتهم، وإنما علق النفي بها كالنكث فيما سلف لا بالعهد المؤكد بها لأنها العمدة في المواثيق، والجملة في موضع التعليل إما لمضمون الشرط كأنه قيل‏:‏ وإن نكثوا وطعنوا كما هو المتوقع منهم إذ لا أيمان لهم حقيقة حتى ينكثوها فقاتلوا أو لاستمرار القتال المأمور به المستفاد من السياق فكأنه قيل‏:‏ فقاتلوهم إلى أن يؤمنوا إنهم لا أيمان لهم حتى يعقد معهم عقد آخر، وجعلها تعليلاً للأمر بالقتال لا يساعده تعليقه بالنكث والطعن لأن حالهم في أن لا أيمان لهم حقيقة بعد ذلك كحالهم قبله، والحمل على معنى عدم بقاء أيمانهم بعد النكث والطعن مع أنه لا حاجة إلى بيانه خلاف الظاهر، وقيل‏:‏ هو تعليل لما يستفاد من الكلام من الحكم عليهم بأنهم أئمة الكفر أي إنهم رؤساء الكفرة وأعظمهم شرا حيث ضموا إلى كفرهم عدم مراعاة الأيمان وهو كما ترى، والنفي في الآية عند الإمام أبي جنيفة عليه الرحمة على ما هو المتبادر، فيمينيي الكافر ليست يميناً عنده معتداً بها شرعاً، وعند الشافعي عليه الرحمة هي يمين لأن الله تعالى وصفها بالنكث في صدر الآية وهو لا يكون حيث لا يمين ولا أيمان لهم بما علمت‏.‏

وأجيب بأن باعتبار اعتقادهم أنه يمين، ويبعد أن الأخبار من الله تعالى والخطاب للمؤمنين، وقال آخرون‏:‏ إن الاستدلال بالنكث على اليمين إشارة أو اقتضاء ولا أيمان لهم عبارة فتترجح، والقول بأنها تؤول جمعا بين الأدلة فيه نظر لأنه إذا كان لا بد من التأويل في أحد الجانبين فتأويل غير الصريح أولى، ولعله لا يعتبر في ذلك التقدم والتأخر، وثمرة الخلاف أنه لو أسلم الكافر بعد يمين انعقدت في كفره ثم حنث هل تلزمه الكفارة فعند أبي حنيفة عليه الرحمة لا وعند الشافعي رحمه الله تعالى نعم‏.‏

وقرأ ابن عامر ‏{‏أيمان‏}‏ بكسر الهمزة على أنه مصدر آمنه إيماناً بمعنى أعطاه الأمان، ويستعمل بمعنى الحاصل بالمصدر وهو الأمان، والمراد أنه لا سبيل إلى أن تعطوهم أماناً بعد ذلك أبداً، قيل‏:‏ وهذا النفي بناء على أن الآية في مشركي العرب وليس لهم إلا الإسلام أو السيف؛ ومن الناس من زعم أن المراد لا سبيل إلى أن يعطوكم الأمان بعد، وفيه أنه مشعر بأن معاهدتهم معنا على طريقة أن يكون إعطاء الأمان من قبلهم وهو بين البطلان، أو على أن الإيمان بمعنى الإسلام، والجملة على هذا تعليل لمضمون الشرط لا غير على ما بينه شيخ الإسلام مأنه قيل، إن نكثوا وطعنوا كما هو الظاهر من حالهم لأنه إسلام لهم حتى يرتدعوا عن نقض جنس إيمانهم وعن الطعن في دينكم، وتشبث بهذه الآية على هذه القراءة من قال‏:‏ إن المرتد لا تقبل توبته بناء على أن الناكث هو المرتد وقد نفى الإيمان عنه، ونفيه مع أنه قد يقع منه نفي لصحته والاعتداد به ولا يخفى ضعفه لما علمت من معنى الآية، وقد قالوا‏:‏ الاحتمال يسقط الاستدلال، وقال القاضي‏:‏ بيض الله تعالى غرة أحواله في بيان ضعفه‏:‏ أنه يجوز أن يكون المراد نفي الإيمان عن قوم معينين والأخبار عنهم بأنه طبع على قلوبهم فلا يصدر منهم إيمان اصلا، أو يكون المراد أن المشركين لا إيمان لهم حتى يراقبوا ويمهلوا لأجله، ويفهم من هذا أنه لم يجعل الجملة تعليلاً لمضمون الشرط كما ذكرنا والظاهر أنه جعلها تعليلاً لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فقاتلوا‏}‏ يعني أن المانع من قتلهم أحد أمرين إما العهد وقد نقضوه أو الإيمان وقد حرموه، وربما يؤول ذلك إلى جعلها علة لما يفهم من الكلام كأنه قيل‏:‏ إن نكثوا وطعنوا فقاتلوهم ولا تتوقفوا لأنه لا مانع أصلا بعد ذلك لأنهم لا إيمان لهم ليكون مانعاً ولا يخفى ما فيه‏.‏

وإن قيل‏:‏ إنه سقط به ما قيل‏:‏ إن وصف أئمة الكفر بأنهم لا إسلام لهم تكرار مستغنى عنه، وجعل الجملة تعليلاً لما يستفاد من الكلام من الحكم عليهم بأنهم أئمة الكفر أي رؤساؤه على احتمال أن يراد الأخبار عن قوم مخصوصين بالطبع أظهر من جعلها تعليلاً لها على القراءة السابقة‏.‏ نعم يأبى حديث الأخبار بالطبع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ‏}‏ إذ مع الطبع لا يتصور الانتهاء وهو متعلق بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فقاتلوا‏}‏ أي قاتلوهم إرادة أن ينتهوا، أي ليكن غرضكم من القتال انتهاؤهم عما هم عليه من الكفر وسائر العظائم لا مجرد إيصال الأذية بهم كما هو شنشنة المؤذين، ومما قرر يعلم أن الترجى من المخاطبين لا من الله عز شأنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏أَلاَ تقاتلون‏}‏ تحريض على القتال لأن الاستفهام فيه للانكار والاستفهام الانكاري في معنى النفي وقد دخل النفي ونفى النفي إثبات، وحيث كان الترك مستقبحاً منكراً أفاد بطريق برهاني أن إيجاده أمر مطلوب مرغوب فيه فيفيد الحث والتحريض عليه، وقد يقال‏:‏ وجه التحريض على القتال أنهم حملوا على الإقرار بانتفائه كأنه أمر لا يمكن أن يعترف به طائعاً لكمال شناعته فليجؤون إلى ذلك ولا يقدرون على الإقرار به فيختارون القتال فيقاتلون ‏{‏قَوْماً نَّكَثُواْ أيمانهم‏}‏ التي حلفوها عند المعاهدة لكم على أن لا يعاونوا عليكم فعاونوا حلفاءهم بني بكر على خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خزاعة، والمراد قريش ‏{‏وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول‏}‏ من مكة مسقط رأسه عليه الصلاة والسلام حين تشاوروا بدار الندوة حسبما ذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏ وقال الجبائي‏:‏ هم اليهود الذين نقضوا العهد وخرجوا مع الأحزاب وهموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة، ولا يخفى أنه بأباه السياق وعدم القرينة عليه، والأول هو المروي عن مجاهد‏.‏ والدذى‏.‏ وغيرهما، واعترض بأن ما وقع في دار الندوة هو الهم بالإخراج أو الحبس أو القتل والذي استقر رأيهم عليه هو القتل لا الإخراج فما وجه التخصيص، وأجيب بأن التخصيص لأنه الذي وقع في الخارج ما يضاهيه مما ترتب على همهم وإن لم يكن بفعل منهم بل من الله تعالى لحكمة وما عداه لغو فخص بالذكر لأنه المقتضى للتحريض لا غيره مما لم يظهر له أثر‏.‏

وقيل‏:‏ إنه سبحانه اقتصر على الأدنى ليعلم غيره بطريق أولى، ولا يرد عليه أنه ليس بأدنى من الحبس كما توهم لأن بقاءه عليه الصلاة والسلام في يد عدوه المقتضى للتبريح بالتهديد ونحوه أشد منه بلا شبهة ‏{‏وَهُم بَدَءوكُمْ‏}‏ بالمقاتلة ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ وذلك يوم بدر وقد قالوا بعد أن بلغهم سلامة العير‏:‏ لا ننصرف حتى نستأصل محمداً صلى الله عليه وسلم ومن معه، وقال الزجاج‏:‏ بدأوا بقتال خزاعة حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وإليه ذهب الأكثرون، واختار جمع الأول لسلامته من التكرار، وقد ذكر سبحانه ثلاثة أمور كل منها يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بها حال الاجتماع ففي ذلك من الحث على القتال ما فيه ثم زاد ذلك بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَتَخْشَوْنَهُمْ‏}‏ وقد أقيم فيه السبب والعلة مقام المسبب والمعلول، والمراد أتتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم ‏{‏فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ‏}‏ بمخالفة أمره وترك قتال عوده، والاسم الجليل مبتدأ و‏{‏أَحَقُّ‏}‏ خبره و‏{‏أَن تَخْشَوْهُ‏}‏ بدل من الجلالة بدل اشتمال أو بتقدير حرف جر أي بأن تخشوه فمحله النصب أو الجر بعد الحذف على الخلاف، وقيل‏:‏ إن ‏{‏أَن تَخْشَوْهُ‏}‏ مبتدأ خبره ‏{‏أَحَقُّ‏}‏ والجملة خبر الاسم الجليل، أي خشية الله تعالى أحق أو الله أحق من غيره بالخشية أو الله حشيته أحق، وخير الأمور عندي أوسطها ‏{‏إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ فإن مقتضى إيمان المؤمن الذي يتحقق أنه لا ضار ولا نافع إلا الله تعالى ولا يقدر أحد على مضرة ونفع إلا بمشيئته أن لا يخاف إلا من الله تعالى، ومن خاف الله تعالى خاف منه كل شيء، وفي هذا من التشديد ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏قاتلوهم‏}‏ تجريد للأمر بالقتال بعد بيان موجبه على أتم وجه والتوبيخ على تركه ووعد بنصرهم وبتعذيب أعدائهم واخزائهم وتشجيع لهم ‏{‏يُعَذّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ بالقتل ‏{‏وَيُخْزِهِمْ‏}‏ ويذلهم بالاسر، وقد يقال‏:‏ يعذبهم قتلا وأسراً ويذلهم بذلك ‏{‏وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي يعجلكم جميعا غالبين عليهم أجمعين ولذلك أخر كما قال بعض المحققين عن التعذيب والاخزاء ‏{‏وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ‏}‏ قد تألموا من جهتهم، والمراد بهم أناس من خزاعة حلفائه عليه الصلاة والسلام كما قال عكرمة‏.‏ وغيره، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة وأسلموا فلقوا من أهلها أذى كثيراً فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أبشروا فإن الفرج قريب»‏.‏ وروي عنه رضي الله تعالى عنه أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَلاَ تقاتلون‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏ الخ ترغيب في فتح مكة وأورد عليه أن هذه السورة نزلت بعد الفتح فكيف يتأتى ما ذكر‏.‏ وأجيب بأن أولها نزل بعد الفتح وهذا قبله، وفائدة عرض البراءة من عهدهم مع أنه معلوم من قتال الفتح وما وقع فيه من الدلالة على عمومه لكل المشركين ومنعهم من البيت فتذكر ولا تغفل، قيل‏:‏ ولا يبعد حمل المؤمنين على العموم لأن كل مؤمن يسر بتقل الكفار وهوانهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ بما نالهم منهم من الأذى ولم يكونوا قادرين على دفعه، وقيل‏:‏ المراد يذهب غيظهم لانتهاك محارم الله تعالى والكفر به عز وجل وتكذيب رسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏

ظاهر العطف أن اذهاب الغيظ غير شفاء الصدور‏.‏ ووجه بأن الشفاء بقتل الاعداء وخزيهم واذهاب الغيظ بالنصرة عليهم أجمعين‏.‏ ولكون النصرة مدار القصد كان أثرها اذهاب الغيظ من القلب الذي هو أخص من الصدر‏.‏ وقيل‏:‏ اذهاب الغيظ كالتأكيد لشفاء الصدر وفائدته المبالغة في جعلهم مسرورين بما يمن الله تعالى عليهم من تعذيبه أعداءهم واخزائهم ونصرته سبحانه لهم عليهم، ولعل اذهاب الغيظ من القلب أبلغ مما عطف عليه فيكون ذكره من باب الترقي ولا يخلو عن حسن‏.‏ وقيل‏:‏ إن شفاء الصدور بمجرد الوعد بالفتح واذهاب الغيظ بوقوغ الفتح نفسه وليس بشيء، وقد أنجز الله تعالى جميع ما وعدهم به على أجمل ما يكون فالآية من المعجزات لما فيها من الأخبار بالغيب ووقوع ما أخبر عنه‏.‏ واستدل بها على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وقيل‏:‏ إن أسناد التعذيب إليه سبحانه مجاز باعتبار أنه جل وعلا مكنهم منه وأقدرهم عليه‏.‏

وفي الحواشي الشهابية قيل‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏بِأَيْدِيكُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏ كالصريح بأن مثل هذه الأفعال التي تصلح للباري فعل له تعالى وإنما للعبد الكسب بصرف القوى والآلات، وليس الحمل على الإسناد المجازي بمرضى عند العارف بأساليب الكلام، ولا الالزام بالاتفاق على امتناع كتب الله تعالى بأيديكم وامتناع كذب الله تعالى شأنه بألسنه الكفار بوارد لأن مجرد خلق الفعل لا يصحح إسناده إلى الخالق ما لم يصلح محلا له، وإمتناع ما ذكر للاحتراز عن شناعة العبارة إذ لا يقال‏:‏ يا خالق القادورات ولا المقدر للزنا والممكن منه، ثم قال‏:‏ ولا يخفى ما فيه فإنه تعالى لا يصلح محلا للقتل ولا للضرب ونجوه ما قصد بالاذلال وإنما هو خالق له، والفعل لا يسند حقيقة إلى خالقه وإن كان هو الفاعل الحقيقي للفرق بينه وبين الفاعل اللغوي إذ ر يقال‏:‏ كتب الله تعالى بيد زيد على أنه حقيقة بلا شبهة مع أنه لا شناعة فيه لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏كتاب الله‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 21‏]‏ فما ذكره غير مسلم اه‏.‏ وأنا أقول‏:‏ ءن مسألة خلق الأفعال قد قضى العلماء المحققون الوطر منها فلا حاجة إلى بسط الكلام فيها، وقد تكلموا في الآية بما تكلموا لكن بقي فيها شيء وهو السر في نسبة التعذيت إليه تعالى وذكر الأيدي ولم يذكروه، ولعل ذلك في النسبة ارادة المبالغة فانه تعذيب الله تعالى القوى العزيز وإن كان بأيدي العباد وفي ذكر الأيدي إما التنصيص على أن ذلك في الدنيا لا في الآخرة وإما لتكون البشارة بالتعذيب على الوجه الأتم الذي يترتب عليه شفاء الصدور ونحوه على الوجه الأكمل إذ فرق بين تعذيب العدو بيد عدوه وتعذيبه لا بيده، ولعمري أن الأول أحلى وأوقع في النفس فافهم‏.‏

ولا يخفى ما في الآية من الانسجام حيث يخرج منها بيت كامل من الشعر ‏{‏وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَاء‏}‏ ابتداء إخبار بأن بعض هؤلاء الذين أمروا بمقاتلتهم يتوب من كفره فيتوب الله تعالى عليه وقد كان كذلك حيث أسلم منهم أناس وحسن أسلامهم‏.‏ وقرأ الأعرج‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ وتعيسى الثقفي‏.‏ وعمرو بن عبيد ‏{‏وَيَتُوبَ‏}‏ بالنصب ورويت عن أبي عمرو‏.‏ ويعقوب أيضاً، واستشكلها الزجاج بأت توبة الله تعالى على من يشاء واقعة قاتلوا أو لم يقاتلوا والمنصوب في جواب الأمر مسبب عنه فلا وجه لادخال التوبة في جوابه، وقال ابن جنى‏:‏ إن ذلك كقولك‏:‏ إن تزرني أحسن إليك وأعطى زيداً كذا على أن المسبب عن الزيارة جميع الأمرين لا أن كل واحد مسبب بالاستقلال، وقد قالوا بنظير ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تأخَّر‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 1، 2‏]‏ الخ وفيه تعسف‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنه تعالى لما أمرهم بالمقاتلة شق ذلك على البعض فإذا قاتلوا جرى قتالهم جرى التوبة من تلك الكراهية فيصير المعنى إن تقاتلوهم يعذبهم الله ويتب عليكم من كراهة قتالهم، ولا يخفى أن الظاهر أن التوبة للكفار، وذكر بعض المدققين أن دخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى لأنه يكون منصوباً بالفاء فهو على عكس ‏{‏فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 10‏]‏ وهو المسمى بعطف التوهم، ووجهه أن القتال سبب لغل شوكتهم وإزالة نخوتهم فيتسبب لذلك لتأملهم ورجوعهم عن الكفر كما كان من أبي سفيان‏.‏ وعكرمة‏.‏ وغيرهما، والتقييد بالمشيئة للاسارة إلى أنها السبب الأصلي وأن الأول سبب عادي وللتنبيه إلى أن إفضاء القتال إلى التوبة ليس كافضائه إلى البواقي؛ وزعم بعض الأجلة أن قراءة الرفع على مراعاة المعنى حيث ذكر مضارع مرفوع بعد مجزوم هو جواب الأمر ففهم منه أن المعنى ويتوب الله على من يشاء على تقدير المقابلة لما يرون من ثباتكم وضعف حالهم‏.‏

وأما على قراءة النصب فمراعاة اللفظ إذ عطف على المجزوم منصوب بتقدير نصبه وليس بشيء، والحق أنه على الرفع مستأنف كما قدمنا ‏{‏والله عَلِيم‏}‏ لا تخفى عليه خافية ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ لا يفعل ولا يأمر إلا بما فيه حكمة ومصلحة فمتثلوا أمره عز وجل، وأيثار إظهار الاسم الجليل على الاضمار لتربية المهابة وإدخاله الروعة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ حَسبْتُمْ‏}‏ خطاب لمن شق عليه القتال من المؤمنين أو المنافقين ‏{‏وأم‏}‏ منقطعة جيء بها للانتقال عن أمرهم بالقتال إلى توبيخهم أو من التوبيخ السابق إلى توبيخ آخر، والهمزة المقدرة مع بل للتوبيخ على الحسبان المذكور أي بل أحسبتم وظننتم ‏{‏حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ‏}‏ على ما أنتم عليه ولا تؤمروا بالجهاد ولا تبتلوا بما يمحصكم ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جاهدوا مِنكُمْ‏}‏ الواو حالية و‏{‏لَّمّاً‏}‏ للنفي مع التوقع ونفي العلم، والمراد نفي المعلوم وهو اجلهاد على أبلغ وجه إذ هو بطريق البرهان إذ لو وقع جهادهم علمه الله تعالى لا محالة فإن وقوع ما لا يعلمه عز وجل محال كما أن عدم وقوع ما يعلمه كذلك وإلا لم يطابق علمه سبحانه الواقع فيكون جهلاً وهو من أعظم المحالات، فالكلام من باب الكناية، وقيل‏:‏ إن العلم مجاز عن التبيين مجازاً مرسلاً باستعماله في لازم معناه‏.‏ وفي الكشاف ما يشعر أولا بأن العلم مجاز عما ذكر وثانيا ما يشعر بأنه من باب الكناية‏.‏ وأجيب عنه بأنه أشار بذلك إلى أنه استعمل لنفي الوجود مبالغة في نفي التبيين، وما ذكره أولا من قوله‏:‏ إنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم وهو الذين جاهدوا في سبيل الله تعالى لوجهه جل شأنه حاصل المعنى، وذلك لأنه خطاب للمؤمنين إلهابا لهم وحثاً على ما حضهم عليه بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏قاتلوهم يُعَذّبْهُمُ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 14‏]‏ فإذا وبخوا على حسبان أن يتركوا ولم يوجد فيما بينهم مجاهد مخلص دل على أنهم إن لم يقاتلوا لم يكونوا مخلصين وأن الاخلاص إذا لم يظهر أثره بالجهاد في سبيل الله تعالى ومضادة الكفار كلا إخلاص، ولو فسر العلم بالتبين لم يفد هذه المبالغة فتدبر، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَمْ يَتَّخِذُواْ‏}‏ عطف على جاهدوا وداخل في حيز الصلة أو حال من فاعله، أي جاهدوا حال كونهم غير متخذين ‏{‏مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً‏}‏ أي بطانة وصاحب سر كما قال ابن عباس، وهي من الولوج وهو الدخول وكل شيء أدخلته في شيء وليس منه فهو وليجة، ويكون للمفرد وغيره بلفظ واحد وقد يجمع على ولائج، و‏{‏مِن دُونِ‏}‏ متعلق بالاتخاذ إن أبقى على حاله أو مفعول ثان له إن جعل بمعنى التصيير ‏{‏والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ أي بجميع أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيراً فخير وإن شراً فشر‏.‏ وقرىء على الغيبة وفي هذا إزاحة لما يتوهم من ظاهر قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا يَعْلَمِ‏}‏ الخ من أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها كما ذهب إليه هشام مستدلا بذلك‏.‏

ووجه الازاحة أن ‏{‏تَعْمَلُونَ‏}‏ مستقبل فيدل على خلاف ما ذكره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏مَا كَانَ للْمُشْركينَ‏}‏ أي لا ينبغي لهم ولا يليق وإن وقع ‏{‏أنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللهِ‏}‏ أي لا ينبغي لهم ولا يليق وإن وقع ‏{‏أَن يَعْمُرُواْ مساجد الله‏}‏ الظاهر أن المراد شيئاً من المساجد لأنه جمع مضاف فيعم ويدخل فيه المسجد الحرام دخولاً أولياً، وتعميره مناط افتخارهم، ونفي الجمع يدل على النفي عن كل فرد فيلزم نفيه عن الفرد المعين بطريق الكناية، وعن عكرمة‏.‏ وغيره أن المراد به المسجد الحرام واختاره بعض المحققين، وعبر عنه بالجمع لأنه قبلة المساجد وأمامها المتوجهة إليه محاريبها فعامره كعامرها، أو لأن كل مسجد ناحية من نواحيه المختلفة مسجد على حياله بخلاف سائر المساجد، ويؤيد ذلك قراءة أبي عمرو‏.‏ ويعقوب‏.‏ وابن كثير‏.‏ وكثير ‏{‏مساجد‏}‏ بالتوحيد، وحمل بعضهم ‏{‏مَا كَانَ‏}‏ على نفي الوجود والتحقق، وقدر بأن يعمروا بحق لأنهم عمروها بدونه ولا حاجة إلى ذلك على ما ذكرنا ‏{‏شَهِدِينَ على أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ‏}‏ باظهارهم ما يدل عليه وإن لم يقولوا نحن كفار، وقيل‏:‏ بقولهم لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، وقيل‏:‏ بقولهم كفرنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وهو حال من الضمير في ‏{‏يَعْمُرُواْ‏}‏ قيل‏:‏ أي ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين عمارة البيت والكفر بربه سبحانه، وقال بعضهم‏:‏ ءن المراد محال أن يكون ما سموه عمارة بيت الله تعالى مع ملابستهم لما ينافيها ويحبطها من عبادة غيره سبحانه فإنها ليست من العمارة في شيء، واعترض على قولهم‏:‏ إن المعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين متنافيين بأنه ليس بمعرب عن كنه المرام، فإن عدم استقامة الجميع بين المتنافيين إنما يستدعي انتفاء أحدهما لا بعينه لا انتفاء العمارة الذي هو المقصود، وظاهره أن النفي في الكلام راجع إلى المقيد، وحينئد لا مانع من أن يكون المراد من ‏{‏مَا كَانَ‏}‏ نفي اللياقة على ما ذكرنا، والغرض ابطال افتخار المشركين بذلك لاقترانه بما ينافيه وهو الشرك‏.‏ وجوز أن يوجه النفي إلى القيد كما هو الشائع وتكلف له بما لا يخلو عن نظر‏.‏ ولعل من قال في بيان المعنى‏:‏ ما استقام لهم أن يجمعوا الخ جعل محط النظر المقارنة التي أشعر بها الحال، ومع هذا لا يأبى أن يكون المقصود نظراً للمقام نفي صحة الافتخار بالعمارة والسقاية فتدبر جداً‏.‏

ومما يدل على أن المقام لنفي الافتخار ما أخرجه أبو الشيخ‏.‏ وابن جرير عن الضحاك أنه لما أسر العباس عيره المسلمون بالشرك وقطيعة الرحمن وأغلظ عليه علي كرم الله تعالى وجهه في القول، فقال‏:‏ تذكرون مساوينا وتكتمون محاسننا إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونقرى الحجيج ونفك العاني فنزلت‏:‏ وأخرج ابن جرير‏.‏

وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نحوه ‏{‏أولئك‏}‏ أي المشركون المذكورون ‏{‏حَبِطَتْ أعمالهم‏}‏ التي يفتخرون بها بما قارنها من الكفر فصارت كلا شيء ‏{‏وَفِى النار هُمْ خالدون‏}‏ لعظم ما ارتكبوه، وإيراد الجملة اسمية للمبالغة في الخلود، والظرف متعلق بالخبر قدم عليه للاهتمام به ومراعاة للفاصلة‏.‏

وهذه الجملة قيل‏:‏ عطف على جملة ‏{‏حَبِطَتْ‏}‏ على أنها خبر آخر لأولئك، وقيل‏:‏ هي مستأنفة كجملة ‏{‏أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ‏}‏ وفائدتهما تقرير النفي السابق الأولى من جهة نفي استتباع الثواب والثانية من جهة نفي استدفاع العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إنَّمَا يَعْمُرُ مساجد الله‏}‏ اختلف في المراد بالمساجد هنا كما اختلف في المراد بها هناك، خلا أن من قال هناك بأن المراد المسجد الحرام لا غير جوز هنا إرادة جميع المساجد قائلاً‏:‏ إنها غير مخالفة لمقتضى الحال فإن الإيجاب ليس كالسلب وادعى أن المقصود قصر تحقق العمارة على المؤمنين لا قصر لياقتها وجوازها وأنا أرى قصر اللياقة لائقاً بلا قصور، وقرىء بالتوحيد أي إنما يليق أن يعمرها ‏{‏مَنْ آمَنَ باللهِ واليَوْمِ الآخِر‏}‏ على الوجه الذي نطق به الوحي ‏{‏لَّيْسَ البر وَءاتَى الزكواة‏}‏ التي أتي بهما الرسول صلى الله عليه وسلم فيندرج في ذلك الإيمان به عليه الصلاة والسلام حتماً إذ لا يتلقى ذلك إلا منه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وجوز أن يكون ذكر الإيمان به عليه الصلاة والسلام قط طوى تحت ذكر الإيمان بالله تعالى دلالة على أنهما كشيء واحد إذا ذكر أحدهما فهم الآخر، على أنه أشير بذكر المبدأ والمعاد إلى ما جيب الإيمان به أجمع ومن جملته رسالته صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ إنما لم يذكر عليه الصلاة والسلام لأن المراد ‏{‏بِمَنِ‏}‏ هو صلى الله عليه وسلم وأصحابه أي المستحق لعمارة المساجد من هذه صفته كائناً من كان، وليس الكلام في إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام والإيمان به بل فيه نفسه وعمارته المسجد واستحقاقه لها، فالآية على حد قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنّى رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فآمِنُوا بالله ورسُولِه النَّبى الذِى يؤمن بالله وكلماتِه‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 158‏]‏ والوجه الثاني أولى‏.‏ والمراد بالعمارة ما يعم مرمة ما استرم منها وقمها وتنظيفها وتزيينها بالفرش لا على وجه يشغل قلب الالمصلي عن الحضور، ولعل ما هو من جنس ما يخرج من الأرض كالقطن والحصر السامانية أولى من نحو الصوف إذ قيل‏:‏ بكراهة الصلاة عليه، وتنويرها بالسرج ولو لم يكن هناك من يستضيء بها على ما نص عليه جمع، وإدامة العبادة والذكر ودراسة العلوم الشرعية فيها ونحو ذلك، وصيانتها مما لم تبن له في نظر الشارع كحديث الدنيا، ومن ذلك الغناء على مآذنها كما هو معتاد الناس اليوم لا سيما بالأبيات التي غالبها هجر من القول‏.‏ وقد وري عنه عليه الصلاة والسلام «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» وهذا الحديث في الحديث المباح فما ظنك بالمحرم مطلقاً أو المرفوع فوق المآذن‏.‏ وأخرج الطبراني بسند صحيح عن سلمان رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من توضأ في بيته ثم أتى المسجد فهو زائر الله تعالى وحق على المزور أن يكرم الزائر»

وأخرج سليم الرازي في الترغيب عن أنس رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه» وأخرج أبو بكر الشافعي‏.‏ وغيره عن أبي قرصافة قال‏:‏ «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إخراج القمامة من المسجد مهور الحور العين» وسمعته عليه الصلاة والسلام يقول «من بنى لله تعالى مسجداً بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة فقالوا‏:‏ يا رسول الله وهذه المساجد التي تبنى في الطرق‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ وهذه المساجد التي تبنى في الطرق» وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الغدو والرواح إلى المسجد من الجهاد في سبيل الله تعالى» وأخرج أحمد‏.‏ والترمذي وحسنه‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وجماعة عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان وتلا صلى الله عليه وسلم إنما يعمر» الآية‏.‏

واستشكل ذكر إيتاء الزكاة في الآية بأنه لا تظهر مدخليته في العمارة، وتكلف لذلك بأن الفقراء يحضرون المساجد للزكاة فتعمر بهم وأن من لا يبذل المال للزكاة الواجبة لا يبذله لعمارتها وهو كما ترى‏.‏ والحق أن المقصود بيان أن من يعمر المساجد هو المؤمن الظاهر إيمانه وهو إنما يظهر بإقامة واجباته، فعطف الإقامة والإيتاء على الإيمان للإشارة إلى ذلك ‏{‏وَلَمْ يَخْشَ‏}‏ أحد ‏{‏إِلاَّ الله‏}‏ فعمل بموجب أمره ونهيه غير آخذ له في الله تعالى لومة لائم ولا مانع له خوف ظالم فيندرج فيه عدم الخشية عند القتال الموبخ عليها في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 13‏]‏ وأما الخوف الجبلي من الأمور المخوفة فليس من هذا الباب ولا هو مما يدخل تحت التكليف، والخطاب والنهي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 21‏]‏ ليس على حقيقته‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا يخشون الأصنام ويرجونها فاريد نفي تلك الخشية عنهم ‏{‏فعسى أُوْلَئِكَ‏}‏ المنعوتون بأكمل النعوت ‏{‏أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين‏}‏ أي إبى الجنة وما أعد الله تعالى فيها لعباده كما روي عن ابن عباس‏.‏ والحسن، وإبراز اهتدائهم لذلك مع ما بهم من تلك الصفات الجليلة في معرض التوقع لحسم أطماع الكافرين عن الوصول إلى مواقف الاهتداء لأن هؤلاء المؤمنين وهم هم إذا كان أمرهم دائراً بين لعل وعسى فما بال الكفرة بيت المخازي والقبائح، وفيه قطع اتكال المؤمنين على أعمالهم وما هم عليه وإرشادهم إلى ترجيح جانب الخوف على جانب الرجاء، وهذا هو المناسب للمقام لا الاطماع وسلوك سنن الملوك مع كون القصد إلى الوجوب، وكون الكفرة يزعمون أنهم محقون وأن غيرهم على الباطل فلا يتأتى حسم أطماعهم لا يلتفت إليه بعد ظهور الحق وهذا لا ريب فيه‏.‏

وقيل‏:‏ إن الأوصاف المذكورة، وإن أوجبت الاهتداء، ولكن الثبات عليها مما لا يعلمه إلا الله تعالى وقد يطرأ ما يوجب ضد ذلك والعبرة للعاقبة، فكلمة التوقع يجوز أن تكون لهذا ولا يخفى ما فيه فان النظر إلى العاقبة هنا لا يناسب المقام الذي يقتضي تفضيل المؤمنين عليهم في الحال

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ ءامَنَ بالله واليوم الاخر وجاهد فِى سَبِيلِ الله‏}‏ السقاية والعمارة مصدر أسقي وعمر بالتخفيف إذ عمر المشدد يقال في عمر الإنسان لا في العمارة كما يتوهمه العوام، وصحت الياء في سقاية لأن بعدها هاء التأنيث، وظاهر الآية تشبيه الفعل بالفاعل والصفة بالذات وأنه لا يحسن هنا فلا بد من التقدير، إما في جانب الصفة أي أجعلتم أهل السقاية والعمارة كمن آمن، ويؤيده قراءة محمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنه‏.‏ وابن الزبير‏.‏ وأبي جعفر‏.‏ وأبي وجزة السعدي وهو من القراء وإن اشتهر بالشعر ‏{‏أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج‏}‏ بضم السين جمع ساق ‏{‏مّنَ المسجد‏}‏ بفتحتين جمع عامر، وكذا قراءة الضحاك ‏{‏سِقَايَةَ‏}‏ بالضم أيضاً مع الياء والتاء ‏{‏وعمرة‏}‏ كما في القراءة السابقة، ووجه سقاية فيها أن يكون جمعاً جاء على فعال ثم أنث كما أنث من الجموع نحو حجارة فإن في كلا القراءتين تشبيه ذات بذات، وإما في جانب الذات أي أجعلتموهما كإيمان من آمن وجهاد من جاهد، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى التقدير في شيء وإنما المصدر بمعنى اسم الفاعل، والمعنى عليه كما في الأول، وأياً ما كان فالخطاب إما للمشركين على طريقة الالتفات واختاره أكثر المحققين وهو المتبادر من النظم، وتخصيص ذكر الإيمان في جانب المشبه به واستدل له بما أخرجه ابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين قالوا‏:‏ عمارة بيت الله تعالى والقيام على السقاية خير من الإيمان والجهاد فذكر الله تعالى خير الإيمان به سبحانه والجهاد مع نبيه صلى الله عليه وسلم على عمران المشركين البيت وقيامهم على السقاية، وبما أخرجه ابن جرير‏.‏ وأبو الشيخ عن الضحاك قال‏:‏ أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك، فقال العباس‏:‏ أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونفك العاني ونحجب البيت ونسقي الحاج فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏المهتدين أَجَعَلْتُمْ‏}‏ الآية، وهذا ظاهر في أن الخطاب لهم وهم مشركون‏.‏

وإما لبعض المؤمنين المؤثرين للسقاية والعمارة على الهجرة والجهاد، واستدل له بما أخرجه مسلم‏.‏ وأبو داود‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وجماعة عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه فقال رجل منهم‏:‏ ما أبالي أن لا أعمل عملاً لله تعالى بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر‏:‏ بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر‏:‏ بل الجهاد في سبيل الله تعالى خير مما قلتم فزجرهم عمر رضي الله تعالى عنه وقال‏:‏ لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكن إذا صليتم الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيه فيما اختلفتم فيه فأنزل الله تعالى الآية إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ وبما روي من طرق أن الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏

والعباس، وذلك أن الأمير كرم الله تعالى وجهه قال له‏:‏ يا عمر لو هاجرت إلى المدينة فقال له‏:‏ أولست في أفضل من الهجرة وألست أسقي الحاج وأعمر البيت، وهذا ظاهر في أن العباس رضي الله تعالى عنه كان إذ ذاك مسلماً على خلاف ما يقتضيه غيره من الأخبار المتقدم بعضها، وأيد هذا القول بأنه المناسب للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدم مساواتهم عند الله تعالى للفريق الثاني وبيان أعظمية درجتهم عند الله تعالى الظاهر دخوله في الرد على وجه يشعر بعدم حرمان الأولين بالكلية لمكان أفعل التفضيل، وجعل المشتمل على ذلك استطراداً لتفضيل من اتصف بتلك الصفات على غيره من المسلمين خلاف الظاهر، وكذا القول بأنه سيق لتفضيلهم على أهل السقاية والعمارة من الكفرة وهم وإن لم يكن لهم درجة عند الله تعالى جاء على زعمهم ومدعاهم، على أنه قيل عليه‏:‏ إنه ليس فيه كثير نفع لأنه إن لم يشعر بعدم الحرمان فليس بمشعر بالحرمان، والكلام على الأول توبيخ للمشركين ومداره إنكار تشبيه أنفسهم من حيث اتصافهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظر عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافهم بالإيمان والجهاد، أو على إنكار تشبيه وصفيهم المذكورين في حد ذاتهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهاد‏.‏

والقول باعتبار المقارنة مما أغمض عنه المحققون لإباء المقام إياه، كيف لا وقد بين حبوط أعمالهم بذلك الاعتبار وكونها بمنزلة العدم، فتوبيخهم بعد على تشبيهها بالإيمان والجهاد، ثم رد ذلك بما يشعر بعدم حرمانهم عن أصل الفضيلة بالكلية مما لا يساعده النظم الكريم، ولو اعتبر لما احتيج إلى تقرير إنكار التشبيه وتأكيده بشيء آخر إذ لا شيء أظهر بطلاناً من نسبة المعدوم إلى الموجود، وقيل‏:‏ لا مانع من اعتبارها ويقطع النظر عما تقدم من بيان الحبوط، وعدم الحرمان المشعور به مبني على ذلك وفيه ما فيه، والمعنى أجعلتم أهل السقاية والعمارة في الفضيلة وعلو الدرجة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهاد وشتان ما بينهما فإن السقاية والعمارة وإن كانتا في أنفسهما من أعمال البر والخير لكنهما وإن خلتا عن القوادح بمعزل أن يشبه أهلهما بأهل الإيمان والجهاد أو يشبه نفسهما بنفس الإيمان والجهاد وذلك قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله‏}‏ أي لا يساوي الفريق الأول الثاني وبظاهره يترجح التقدير الأول، وإذا كان المراد لا يستوون بأوصافهم يرجع إلى نفي المساواة في الأوصاف فيوافق الإنكار على التقدير الثاني، وإسناد عدم الاستواء إلى الموصوفين لأن الأهم بيان تفاوتهم، وتوجيه النفي ههنا والإنكار فيما سلف إلى الاستواء والتشبيه مع أن دعوى المفتخرين بالسقاية والعمارة من المشركين أو المؤمنين إنما هي الأفضلية دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفي التساوي والتشابه نفي للأفضلية بالطريق الأولى، لكن ينبغي أن يعلم أن الأفضلية التي يدعيها المشركون تشعر بثبوت أصل الفضيلة للمفضل عليه وهم بمعزل عن اعتقاد ذلك، وكيف يتصور منهم أن في جهادهم وقتلهم فضيلة أو أن في الإيمان المستلزم لتسفيه رأيهم فيما هم عليه فضيلة، فلا بد أن يكون ذلك من باب المجاراة فلا تغفل‏.‏

والجملة استئناف لتقرير الإنكار المذكور وتأكيده، وجوز أبو البقاء أن تكون حالاً من مفعولي الجعل والرابط ضمير الجمع كأنه قيل‏:‏ سويتم بينهم حال كونهم متفاوتين عند الله ‏{‏والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين‏}‏ أريد بهم المشركون وبالظلم الشرك أو وضع الشيء في غير موضعه شركاً كان أو غيره فيدخل فيه ظلمهم في ذلك الجعل وهو أبلغ في الذم، والمراد من الهداية الدلالة الموصلة لا مطلق الدلالة لأنه لا يناسب المقام، وهذا حكم منه تعالى أنه سبحانه لا يوفق هؤلاء الظالمين إلى معرفة الحق وتمييز الراجح من المرجوح ولعله سيق لزيادة تقرير عدم التساوي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله‏}‏ استئناف لبيان مراتب فضلهم زيادة في الرد وتكميلاً له، وزيادة الهجرة وتفصيل نوعي الجهاد للإيذان بأن ذلك من لوازم الجهاد لا أنه اعتبر بطريق التدارك أمر لم يعتبر فيما سلف، والظاهر من السياق أن المفضل عليه أهل السقاية والعمارة من المشركين، وقد أنشرنا إلى ماله وما عليه حسبما ذكره بعض الفضلاء‏.‏ وأنا أقول‏:‏ إذا أريد من افعل المبالغة في الفضل وعلو المرتبة والمنزلة فالأمر هين وإذا أريد به حقيقته فهناك احتمالان الأول‏:‏ أن يقال‏:‏ حذف المفضل عليه إيذاناً بالعموم، أي إن هؤلاء المتصفين بهذه الصفات أعلى رتبة وأكثر كرامة ممن لم يتصف بها كائناً من كان ويدخل فيه أهل السقاية والعمارة، ويكفي في تحقق حقيقة أفعل وجود أصل الفعل في بعض الأفراد المندرجة تحت العموم كما يقال‏:‏ فلان أعلم الخلق مع أن منهم من لا يتصف بشيء من العلم بل لا يمكن أن يتصف به أصلاً، وهذا مما لا ينبغي أن يشك فيه سوى أنه يعكر علينا أن المقصود بالمفضل عليه في المثال من له مشاركة في أصل الفعل ولا كذلك ما نحن فيه، فإن لم يضر هذا فالأمر ذاك وإلا فهو كما ترى‏.‏ الثاني‏:‏ أن يقال‏:‏ ما أفهمته الصيغة من أن للسقاة والعمار من المشركين درجة جاء على زعم المشركين وحسن ذلك وقوع مثله في كلامهم مع المؤمنين فإنهمق الوا كما دل عليه بعض الأخبار السابقة‏:‏ السقاية والعمارة خير من الإيمان والجهاد ولا شك أن ما يشعر به خير من أن في الإيمان والجهاد خيراً إنما جاء على زعم المؤمنين فما في الآية خارج مخرج المشاكلة مع ما في كلامهم وإن اختلف اللفظ، وما قيل‏:‏ من أن جعل معنى التفضيل بالنسبة إلى زعم الكفرة ليس فيه كثير نفع ليس فيه كثير ضرر كما لا يخفى على من ذاق طعم البلاغة ولو بطرف اللسان، ويشعر كلام بعضهم أن التفضيل مبني على ما تقدم من قطع النظر وإغماض العين أي المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة أعلى رتبة ممن خلا منها وإن حاز جميع ما عداها مما هو كمال في حد ذاته كالسقاية والعمارة، والمراد بسبيل الله هنا الإخلاص أو نحوه لا الجهاد فالمعنى جاهدوا مخلصين ‏{‏وَأُوْلئِكَ‏}‏ الموصوفون بما ذكر ‏{‏هُمُ الفائزون‏}‏ أي المختصون بالفوز العظيم أو بالفوز المطلق كأن فوز من عداهم ليس بفوز بالنسبة إلى فوزهم‏.‏

والكلام على الثاني توبيخ لمن يؤثر السقاية والعمارة من المؤمنين على الهجرة والجهاد، أي أجعلتم أهلهما من المؤمنين في الفضيلة والكرامة كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما كالإيمان والجهاد، قالوا‏:‏ وإنما لم يذكر الإيمان في جانب المشبه مع كونه معتبراً فيه قطعاً تعويلاً على ظهور الأمر وإشعاراً بأن مدار إنكار التشبيه هو السقاية والعمارة دون الإيمان، وإنما لم يترك ذكره في جانب المشبه به أيضاً تقوية للإنكار وتذكيراً لأسباب الرجحان ومبادىء الأفضلية وإيذاناً بكمال التلازم بين الإيمان وما تلاه‏.‏

ومعنى عدم الاستواء عند الله تعالى وأعظمية درجة الفريق الثاني على هذا التقرير ظاهر‏.‏

والمراد بالظلم الظلم بوضع كل من الراجح والمرجوح في موضع الآخر لا الظلم الأعم، وبعدم الهداية عدم هدايته تعالى للمؤثرين إلى معرفة ذلك لا عدم الهداية مطلقاً، والقصر في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أولئك هُمُ الفائزون‏}‏ بالنسبة إلى درجة الفريق الثاني أو إلى الفوز المطلق إدعاء كما مر اه‏.‏

وأنت تعلم أن عدم ذكر الإيمان في جانب المشبه ظاهر لأن المؤمنين ما تنازعوا كما يدل عليه حديث مسلم السابق إلا فيما هو الأفضل بعده فمن قائل السقاية ومن قائل العمارة ومن قائل الجهاد، نعم يحتاج ذكره في جانب المشبه به إلى نكتة، والتوبيخ في الآية على هذا التقدير أبلغ منه على التقدير الأول فتأمل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏يُبَشِّرهُم رَّبُّهُمْ‏}‏ أي في الدنيا على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام‏.‏ وقرأ حمزة ‏{‏يُبَشّرُهُمْ‏}‏ بفتح الياء وسكون الباء وضم الشين والتخفيف على أنه من بشر الثلاثي وأخرجها أبو الشيخ عن طلحة بن مصرف، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم وكونه سبحانه هو المبشر ما لا يخفى من اللطافة واللطف ‏{‏بِرَحْمَةٍ مّنْهُ‏}‏ واسعة ‏{‏وَرِضْوَانٍ‏}‏ كبير ‏{‏وجنات‏}‏ عالية قطوفها دانية ‏{‏لَّهُمْ فِيهَا‏}‏ أي الجنات وقيل‏:‏ الرحمة ‏{‏نَعِيمٌ مُّقِيمٌ‏}‏ لا يرتحل ولا يسافر عنهم، وهو استعارة للدائم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ أي الجنات ‏{‏أَبَدًا‏}‏ تأكيد لما يدل عليه الخلود ودفع احتمال أن يراد منه المكث الطويل ‏{‏إِنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ لا قدر بالنسبة إليه لأجور الدنيا أو للأعمال التي في مقابلته والجملة استئناف وقع تعليلاً لما سبق‏.‏ وذكر أبو حيان أنه تعالى لما وصف المؤمنين بثلاث صفات الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال قابلهم على ذلك بالتبشير بثلاثة‏.‏ الرحمة‏.‏ والرضوان‏.‏ والجنة‏.‏ وبدأ سبحانه بالرحمة في مقابلة الإيمان لتوقفها عليه ولأنها أعم النعم وأسبقها كما أن الإيمان هو السابق، وثنى تعالى بالرضوان الذي هو نهاية الإحسان في مقابلة الجهاد الذي فيه بذل الأنفس والأموال، وثلث عز وجل بالجنان في مقابلة الهجرة وترك الأوطان إشارة إلى أنهم لما آثروا تركها بدلهم بدار الكفر الجنان الدار التي هي في جواره‏.‏

وفي الحديث الصحيح يقول الله سبحانه‏:‏ «يا أهل الجنة هل رضيتم فيقولون كيف لا نرضى وقد باعدتنا عن نارك وأدخلتنا جنتك فيقول سبحانه‏:‏ لكم عندي أفضل من ذلك فيقولون‏:‏ وما أفضل من ذلك‏؟‏ فيقول جل شأنه‏:‏ أحل لكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبداً» ولا يخفى أن وصف الجنات بأن لهم فيها نعيم مقيم على هذا التوزيع في غاية اللطافة لما أن في الهجرة السفر الذي هو قطعة من العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آَبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ءابَاءكُمْ وإخوانكم أَوْلِيَاء‏}‏ نهى لكل فرد من أفراد المخاطبين عن موالاة فرد من المشركين لا عن موالاة طائفة منهم فإن ذلك مفهوم من النظم الكريم دلالة لا عبارة، والآية على ما روى الثعلبي عن ابن عباس نزلت في المهاجرين فأنهم لما أمروا بالهجرة قالوا‏:‏ إن هاجرنا قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشيرتنا وذهبت تجاراتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا وبقينا ضائعين فنزلت فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه أو أبوه أو أخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم في ذلك‏.‏ وروي عن مقاتل أنها نلزت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا مكة نهياً عن موالاتهم‏.‏ وروي عن أبي جعفر‏.‏ وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى قريش يخبرهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عزم على فتح مكة، وهذا ونحوه يقتضي أن هذه الآية نزلت قبل الفتح‏.‏ واستشكل ذلك الإمام الرازي بأن الصحيح أن هذه السورة إنما نزلت بعد فتح مكة فكيف يمكن أن يكون سبب النزول ما ذكر‏.‏ وأجيب بأن نزولها قبل الفتح لا ينافي كون نزول السورة بعده لأن المراد معظمها وصدرها، وعلى القول بأنها نزلت في حاطب فالمعتبر عموم اللفظ لا خصوص السبب ويدخل حاطب في النهي عن الاتخاذ بلا شبهة ‏{‏ءانٍ‏}‏ أي اختاروا ‏{‏استحبوا الكفر عَلَى الإيمان‏}‏ وأصروا عليه إصراراً لا يرجى معه إقلاع أصلاً، ولتضمن استحب معنى ما ذكر تعدى بعلى، وتعليق النهي عن الاتخاذ بذلك لما أنه قبل ذلك ربما يؤدي بهم إلى الإسلام بسبب شعورهم بمحاسن الدين ‏{‏وَمَن يَتَوَلَّهُمْ‏}‏ أي واحداً منهم، والضمير في الفعل لمراعاة لفظ الموصول وللإيذان باستقلال كل واحد منهم بالاتصاف بالظلم الآتي لأن المراد تولى فرد واحد منهم و‏{‏مِنْ‏}‏ في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مّنكُمْ‏}‏ للجنس لا للتبعيض ‏{‏فَأُوْلَئِكَ‏}‏ أي المتولون ‏{‏هُمُ الظالمون‏}‏ بوضعهم الموالاة في غير موضعها فالظلم بمعناه اللغوي، وقد يراد به التجاوز والتعدي عما حد الله تعالى إن كان المراد ومن يتولهم بعد النهي، والحصر ادعائي كأن ظلم غيرهم كلا ظلم عند ظلمهم وفي ذلك من الزجر عن الموالاة ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ تلوين للخطاب وأمر له صلى الله عليه وسلم بأن يثبت المؤمنين ويقوي عزائمهم على الانتهاء عما نهوا عنه من موالاة الآباء والإخوان ويزهدهم فيهم وفيمن يجري مجراهم ويقطع علائقهم عن زخارف الدنيا الدنية على وجه التوبيخ والترهيب أي قل يا محمد للمؤمنين ‏{‏إِن كَانَ ءابَاؤُكُمْ وإخوانكم وأزواجكم‏}‏ لم يذكر الأبناء والأزواج فيما سلف وذكرهم هنا لأن ما تقدم في الأولياء وهم أهل الرأي والمشورة والأبناء والأزواج تبع ليسوا كذلك وما هنا في المحبة وهم أحب إلى كل أحد ‏{‏وَعَشِيرَتُكُمْ‏}‏ أي ذووا قرابتكم، وقيل‏:‏ عشيرة الرجل أهله الأدنون، وأياً ما كان فذكره للتعميم والشمول وهو من العشرة أي الصحبة لأنها من شأن القربى، وقيل من العشرة العدد المعروف وسميت العشيرة بذلك على هذا لكمالهم لأن العشرة كما علمت عدد كامل أو لأن بينهم قد نسب كعد العشرة فإنه عقد من العقود وهو معنى بعيد‏.‏

وقرأ أبو بكر عن عاصم ‏{‏عشيراتكم‏}‏، والحسن ‏{‏عشائركم‏}‏ وأنكر أبو الحسن وقوع الجمع الأول في كلامهم وإنما الواقع الجمع الثاني ‏{‏وَعَشِيرَتُكُمْ وأموال اقترفتموها‏}‏ أي اكتسبتموها، وأصل الاقتراف اقتطاع الشيء من مكانه إلى غيره من قرفت القرحة إذا قشرتها‏.‏ والقرف القشر، ووصفت الأموال بذلك إيماء إلى عزتها عندهم لحصولها بكد اليمين وعرق الجبين ‏{‏وتجارة‏}‏ أي أمتعة اشتريتموها للتجارة والربح ‏{‏تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا‏}‏ بفوات وقت رواجها بغيبتكم عن مكة المعظمة في أيام المواسم ‏{‏ومساكن تَرْضَوْنَهَا‏}‏ منازل تعجبكم الإقامة فيها، والتعرض للصفات المذكورة للإيذان بأن اللوم على محبة ما ذكر من زينة الحياة الدنيا لا ينافي ما فيها من مبادىء المحبة وموجبات الرغبة فيها وأنها مع مالها من فنون المحاسن بمعزل عن أن تكون كما ذكر سبحانه بقوله‏:‏ ‏{‏أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مّنَ الله وَرَسُولِهِ‏}‏ بالحب الاختياري المستتبع لأثره الذي هو الملازمة وتقديم الطاعة لا ميل الطبع فإنه أمر جبلي لا يمكن تركه ولا يؤاخذ عليه ولا يكلف الإنسان بالامتناع عنه ‏{‏وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ‏}‏ أي طريق ثوابه ورضاه سبحانه، ولعل المراد به هنا أيضاً الإخلاص ونحوه لا الجهاد وإن أطلق عليه أيضاً أنه سبيل الله تعالى، ونظم حب هذا في سلك حب الله تعالى شأنه وحب رسوله عليه الصلاة والسلام تنويهاً بشأنه وتنبيهاً على أنه مما يجب أن يحب فضلاً عن أن يكره وإيذاناً بأن محبته راجعة إلى محبة الله عز وجل ومحبة حبيبه صلى الله عليه وسلم فإن الجهاد عبارة عن قتال أعدائهما لأجل عداوتهم فمن يحبهما يجب أن يحب قتال من لا يحبهما ‏{‏فَتَرَبَّصُواْ‏}‏ أي انتظروا ‏{‏حتى يَأْتِىَ الله بِأَمْرِهِ‏}‏ أي بعقوبته سبحانه لكم عاجلاً أو آجلاً على ما روي عن الحسن واختاره الجبائي، وروي عن ابن عباس‏.‏

ومجاهد‏.‏ ومقاتل أنه فتح مكة‏.‏

‏{‏والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين‏}‏ أي الخارجين عن الطاعة في موالاة المشركين وتقديم محبة من ذكر على محبة الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم أو القوم الفاسقين كافة ويدخل المذكورون دخولاً أولياً، أي لا يهديهم إلى ما هو خير لهم، والآية أشد آية نعت على الناس ما لا يكاد يتخلص منه إلا من تداركه الله سبحانه بلطفه، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله تعالى ويبغض في الله تعالى حتى يحب في الله سبحانه أبعد الناس ويبغض في الله عز وجل أقرب الناس» والله تعالى الموفق لأحسن الأعمال‏.‏

ومن باب الإشارة‏:‏ أنه سبحانه أشار إلى تمكن رسوله عليه الصلاة والسلام ووصول أصحابه رضي الله تعالى عنهم إلى مقام الوحدة الذاتية بعد أن كانوا محتجبين بالأفعال تارة وبالصفات أخرى وبذلك تحققت الضدية على أكمل وجه بينهم وبين المشركين فنزلت البراءة وأمروا بنبذ العهد ليقع التوافق بين الباطن والظاهر وأمر المشركون بالسياحة في الأرض أربعة أشهر على عدد مواقفهم في الدنيا والآخرة تنبيهاً لهم فإنهم لما وقفوا في الدنيا مع الغير بالشرك حجبوا عن الدين والأفعال والصفات والذات في برزخ الناسوت فلزمهم أن يوقفوا في الآخرة على الله عز وجل ثم على الجبروت ثم على الملكوت ثم على النار في جحيم الآثار فيعذبوا بأنواع العذاب‏.‏ ومن طبق الآيات على ما في الأنفس ذكر أن هذه المدة هي مدة كمال الأوصاف الأربعة النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية ثم قال سبحانه لهم‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله‏}‏ إذ لا بد من حبسكم في تلك المواقف بسبب وقوفكم مع الغير بالشرك ‏{‏وَأَنَّ الله مُخْزِى الكافرين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 2‏]‏ المحجوبين عن الحق بافتضاحهم عند ظهور رتبة ما عبدوه من دونه ووقوفهم معه على النار ‏{‏وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الاكبر‏}‏ أي وقت ظهور الجمع الذاتي في صورة التفصيل ‏{‏أَنَّ الله بَرِىء مّنَ المشركين وَرَسُولُهُ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 3‏]‏ المراد بذلك كمال المخالفة والتضاد وانقطاع المدد الروحاني، والمراد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِلاَّ الذين عاهدتم مّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4‏]‏ الذين بقيت فيهم مسكة من الاستعداد وأثر من سلامة الفطرة وبقايا من المروءة أمر المؤمنون أن يتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم وهي مدة تراكم الدين وتحقق الحجاب إن لم يرجعوا ويتوبوا ثم قال سبحانه بعد أن ذكر ما ذكر‏:‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي علماً ‏{‏وَهَاجَرُواْ‏}‏ أي هجروا الرغائب الحسية والأوطان النفسية ‏{‏وجاهدوا فِى سَبِيلِ الله بأموالهم‏}‏ وهي أموال معلوماتهم ومراداتهم ومقدوراتهم، والجهاد بهذه إشارة إلى محو صفاتهم، والجهاد بالأنفس إشارة إلى فنائها في الله تعالى أولئك ‏{‏أَعْظَمُ دَرَجَةً‏}‏ في التوحيد

‏{‏عَندَ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 20‏]‏ تعالى ‏{‏يُبَشّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مّنْهُ‏}‏ وهو ثواب الأعمال ‏{‏وَرِضْوَانٍ‏}‏ وهو ثواب الصفات ‏{‏وجنات لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 21‏]‏ وهو مشاهدة المحبوب الذي لا يزول وذلك جزاء الأنفس، ووجه الترتيب على هذا ظاهر وإنما تولى الله تعالى بشارتهم بنفسه عز وجل ليزدادوا حباً له تبارك وتعالى لأن القلوب مجبولة على حب من يبشرها بالخير‏.‏ ثم إنه سبحانه بين أن القرابة المعنوية والتناسب المعنوي والوصلة الحقيقية أحق بالمراعاة من الاتصال الصوري مع فقد الاتصال المعنوي واختلاف الوجهة وذم سبحانه التقيد بالمألوفات الحسية وتقديمها على المحبوب الحقيقي والتعين الأول له والسبب الأقوى للوصول إلى الحضرة وتوعد عليه بما توعد تسأل الله تعالى التوفيق إلى ما يقربنا منه إنه ولي ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِى مَوَاطِنَ‏}‏ خطاب للمؤمنين خاصة وامتنان عليهم بالنصرة على الأعداء التي يترك لها الغيور أحب الأشياء إليه، والمواطن جمع موطن وهو الموضع الذي يقيم فيه صاحبه، وأريد بها مواطن الحرب أي مقاماتها ومواقفها ومن ذلك قوله‏:‏

كم موطن لولاي طحت كما هوى *** بأجرامه من قلة النيق منهوي

والمنع من الصرف لصيغة منتهى الجمهوع، واللام موطئة للقسم أي قسم والله لقد نصركم الله في مواقف ووقائع ‏{‏كَثِيرَةٍ‏}‏ منها وقعة بدر التي ظهرت بها شمس الإسلام، ووقعة قريظة‏.‏ والنضير‏.‏ والحديبية وأنهاها بعضهم إلى ثمانين‏.‏ وروي أن المتوكل اشتكى شكاية شديدة فنذر أن يتصدق إن شفاه الله تعالى بمال كثير فلما شفي سأل العلماء عن حد الكثير فاختلفت أقوالهم فأشير إليه أن يسأل أبا الحسن علي بن محمد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم وقد كان حبسه في داره فأمر أن يكتب إليه فكتب رضي الله تعالى عنه يتصدق بثمانين درهماً ثم سألوه عن العلة فقرأ هذه الآية وقال‏:‏ عددنا تلك المواطن فبلغت ثمانين ‏{‏وَيَوْمَ حُنَيْنٍ‏}‏ عطف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على المكان وعكسه جائز على ما يقتضيه كلام أبي علي ومن تبعه‏.‏ نعم ظاهر كلام البعض المنع لأن كلاً من الظرفين يتعلق بالفعل بلا توسط العاطف، ومتعلقات الفعل إنما يعطف بعضها على بعض إذا كانت من جنس واحد، وقال آخرون‏:‏ لا منع من نسق زمان على مكان وبالعكس إلا أن الأحسن ترك العاطف في مثله‏.‏ ومن منع العطف أو استحسن تركه قال‏:‏ إنه معطوف بحذف المضاف أي وموطن يوم حنين، ولعل التغيير للإيماء إلى ما وقع فيه من قلة الثبات من أول الأمر‏.‏

وقد يعتبر الحذف في جانب المعطوف عليه، أي في أيام مواطن، والعطف حينئذٍ من عطف الخاص على العام، ومزية هذا الخاص التي أشار إليها العطف هي كون شأنه عجيباً وما وقع فيه غريباً للظفر بعد اليأس والفرج بعد الشدة إلى غير ذلك، وليس المراد بها كثرة الثواب وعظم النفع ليرد أن يوم حنين ليس بأفضل من يوم بدر الذي نالوا به القدح المعلى وفازوا فيه بالدرجات العلا فلا تتأتى فيه نكتة العطف؛ وقيل‏:‏ إن موطن اسم زمان كمقتل الحسين فالمعطوفان متجانسان وهو بعيد عن الفهم‏.‏ وأوجب الزمخشري كون ‏{‏يَوْمٍ‏}‏ منصوباً بمضمر والعطف من عطف جملة على جملة أي ونصركم يوم حنين، ولا يصح أن يكون ناصبه ‏{‏نَصَرَكُمُ‏}‏ المذكور لأن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ‏}‏ بدل من يوم حنين فيلزم كون زمان الإعجاب بالكثرة ظرف النصرة الواقعة في المواطن الكثيرة لاتحاد الفعل ولتقييد المعطوف بما يقيد به المعطوف عليه وبالعكس‏.‏

واليوم مقيد بالإعجاب بالكثرة والعامل منسحب على البدل والمبدل منه جميعاً، ويلزم من ذلك أن يكون زمان الإعجاب ظرفاً وقيداً للنصرة الواقعة في المواطن الكثيرة وهو باطل إذ لا إعجاب في تلك المواطن‏.‏

وأجيب بأن الفعل في المتعاطفين لا يلزم أن يكون واحداً بحيث لا يكون له تعدد أفراد كضربت زيداً اليوم وعمراً قبله وأضربه حين يقوم وحين يقعد إلى غير ذلك بل لا بد في نحو قولك‏:‏ زيد وعمرو من اعتبار الأفراد وإلا لزم قيام العرض الواحد بالشخص بمحلين مختلفين وهو لا يجوز ضرورة فلا يلزم من تقييده في حق المعطوف بقيد تقييده في حق المعطوف عليه بذلك، ولا نسلم أن هذا هو الأصل حتى يفتقر غيره إلى دليل، وقال بعضهم‏:‏ إن ذلك إنما يلزم لو كان المبدل منه في حكم التنحية مع حرف العطف ليؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة إذ أعجبتكم وليس كذلك بل يؤول إلى نصركم الله في مواطن كثيرة وإذ أعجبتكم ولا محذور فيه، وفي كون البدل قيداً للمبدل منه نظر، وحنين واد بين مكة والطائف على ثلاثة أميال من مكة حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون هوزان‏.‏ وثقيفاً‏.‏ وحشما وفيهم دريد بن الصمة يتيمنون برأيه وأناساً من بني هلال وغيرهم وكانوا أربعة آلاف وكان المسلمون على ما روى الكلبي عشرة آلاف وعلى ما روي عن عطاء ستة عشر ألفاً، وقيل‏:‏ ثمانية آلاف، وصحح أنهم كانوا اثني عشر ألفاً العشر الذين حضروا مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء فلما التقوا قال سلمة بن سلامة أو أبو بكر رضي الله تعالى عنهما‏:‏ لن نغلب اليوم من قلة إعجاباً بكثرتهم، وقيل‏:‏ إن قائل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستبعد ذلك الإمام لانقطاعه صلى الله عليه وسلم عن كل شيء سوى الله عز وجل‏.‏ ويؤيد ذلك ما أخرجه البيهقي في الدلائل عن الربيع أن رجلاً قال يوم حنين‏:‏ لن نغلب من قلة فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والظاهر أن هذه الكلمة إذا لم ينضم إليها أمر آخر لا تنافي التوكل على الله تعالى ولا تستلزم الاعتماد على الأسباب، وإنما شقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما انضم إليها من قرائن الأحوال مما يدل على الإعجاب، ولعل القائل أخذها من قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «خير الأصحاب أربعة وخير السرايا أربعمائة وخير الجيوش أربعة آلاف ولا يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة كلمتهم واحدة» لكن صحبها ما صحبها من الإعجاب، ثم إن القوم اقتتلوا قتالاً شديداً فأدرك المسلمون إعجابهم، والجمع قد يؤخذ بفعل بعضهم فولوا مدبرين وكان أول من انهزم الطلقاء مكراً منهم وكان ذلك سبباً لوقوع الخلل وهزيمة غيرهم، وقيل‏:‏ إنهم حملوا أولاً على المشركين فهزموهم فأقبلوا على الغنائم فتراجعوا عليهم فكان ما كان والنبي صلى الله عليه وسلم على بغلته الشهباء تزول الجبال ولا يزول ومعه العباس‏.‏

وابن عمه أبو سفيان بن الحرث‏.‏ وابنه جعفر‏.‏ وعلي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وربيعة بن الحرث‏.‏ والفضل بن العباس‏.‏ وأسامة بن زيد‏.‏ وأيمن بن عبيد‏.‏ وقتل رضي الله تعالى عنه بين يديه عليه الصلاة والسلام وهؤلاء من أهل بيته‏.‏ وثبت معه أبو بكر‏.‏ وعمر رضي الله تعالى عنهما فكانوا عشرة رجال، ولذا قال العباس رضي الله تعالى عنه‏:‏

نصرنا رسول الله في الحرب تسعة *** وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا

وعاشرنا لاقي الحمام بنفسه *** بما مسه في الله لا يتوجع

وقد ظهر منه صلى الله عليه وسلم من الشجاعة في تلك الوقعة ما أبهر العقول وقطع لأجله أصحابه رضي الله تعالى عنهم بأنه عليه الصلاة والسلام أشجع الناس، وكان يقول إذ ذاك غير مكترث بأعداء الله تعالى‏:‏

أنا النبي لا كذب *** أنا ابن عبد المطلب

واختار ركوب البغلة إظهاراً لثباته الذي لا ينكره إلا الحمار وأنه عليه الصلاة والسلام لم يخطر بباله مفارقة القتال فقال للعباس وكان صيتاً‏:‏ «صح بالناس» فناد يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، فكروا عنقاً واحداً لهم حنين يقولون‏:‏ لبيك لبيك، ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ هذا حين حمى الوطيس ‏"‏ ثم أخذ كفاً من تراب فرماهم ثم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ انهزموا ورب الكعبة ‏"‏ فانهزموا، وتفصيل القصة على أتم وجه في كتب السير ‏{‏فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ‏}‏ أي لم تنفعكم تلك الكثرة ‏{‏شَيْئاً‏}‏ من النفع في أمر العدو أو لم تعطكم شيئاً يدفع حاجتكم ‏{‏وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الارض بِمَا رَحُبَتْ‏}‏ أي برحبها وسعتها على أن ‏{‏مَا‏}‏ مصدرية والباء للملابسة والمصاحبة أي ضاقت مع سعتها عليكم‏.‏ وفيه استعارة تبعية إما لعدم وجدان مكان يقرون به مطمئنين أو أنهم لا يجلسون في مكان كما لا يجلس في المكان الضيق ‏{‏ثُمَّ وَلَّيْتُم‏}‏ أي الكفار ظهوركم على أن ولي متعدية إلى مفعولين كما في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الادبار‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 15‏]‏ ويدل عليه كلام الراغب، وزعم بعضهم أنه لا حاجة إلى تقدير مفعولين لما في «القاموس» ولى تولية أدبر بل لا وجه له عند بعض وليس بشيء، والاعتماد على كلام الراغب في مثل ذلك أرغب عند المحققين بل قيام‏:‏ إن كلام «القاموس» ليس بعمدة في مثله، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّدْبرين‏}‏ حال مؤكدة وهو من الإدبار بمعنى الذهاب إلى خلف والمراد منهزمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏مُّدْبِرِينَ ثُمَّ أَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ‏}‏ أي رحمته التي تسكن بها القلوب وتطمئن اطمئناناً كلياً مستتبعاً للنصر القريب، وأما مطلق السكينة فقد كانت حاصلة له صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَعَلَى المؤمنين‏}‏ عطف على رسوله وإعادة الجار للإيذان بالتفاوت، والمراد بهم الذين انهزموا، وفيه دلالة على أن الكبيرة لا تنافي الإيمان‏.‏

وعن الحسن أنهم الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ المراد ما يعم الطائفتين ولا يخلو عن حسن، ولا ضير في تحقق أصل السكينة في الثابتين من قبل، وفسر بعضهم السكينة بالأمان وهو له صلى الله عليه وسلم بمعاينة الملائكة عليهم السلام ولمن معه بظهور علامات ذلك وللمنهزمين بزوال قلقهم واضطرابهم باستحضار إن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أو نحو ذلك، والظاهر أن ‏{‏ثُمَّ‏}‏ في محلها للتراخي بين الانهزام وإنزال السكينة على هذا الوجه‏.‏

وقيل‏:‏ إذا أريد من المؤمنين المنهزمون فهي على محلها، وإن أريد الثابتون يكون التراخي في الأخبار أو باعتبار مجموع هذا الإنزال وما عطف عليه، وجعلها للتراخي الرتبي بعيد ‏{‏وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا‏}‏ بأبصاركم كما يرى بعضكم بعضاً وهم الملائكة عليهم السلام على خيول بلق عليهم البياض، وكون المراد لم تروا مثلها قبل ذلك خلاف الظاهر ولم نر في الآثار ما يساعده، واختلف في عددهم فقيل‏:‏ ثمانية آلاف لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ‏}‏ مع قوله سبحانه بعد‏:‏ ‏{‏يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 124، 125‏]‏ وقيل‏:‏ خمسة آلاف للآية الثانية والثلاثة الأولى داخلة في هذه الخمسة، وقيل‏:‏ ستة عشر ألفاً بعدد العسكرين اثنا عشر ألفاً عسكر المسلمين وأربعة آلاف عسكر المشركين، وكذا اختلفوا في أنهم قاتلوا في هذه الوقعة أم لا، والجمهور على أن الملائكة لم يقاتلوا إلا يوم بدر‏.‏ وإنما نزلوا لتقوية قلوب المؤمنين بإلقاء الخواطر الحسنة وتأييدهم بذلك وإلقاء الرعب في قلوب المشركين‏.‏ فعن سعيد بن المسيب قال حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال‏:‏ لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا‏:‏ شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكنافنا‏.‏

واحتج من قال‏:‏ إنهم قاتلوا بما روي أن رجلاً من المشركين قال لبعض المؤمنين بعد القتال‏:‏ أين الخيل البلق والرجال عليهم ثياب بيض‏؟‏ ما كنا نراهم فيكم إلا كهيئة الشامة وما كان قتلنا إلا بأيديهم فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «تلك الملائكة» وليس له سند يعول عليه ‏{‏وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ بالقتل والأسر والسبي ‏{‏وَذَلِكَ‏}‏ أي ما فعل بهم مما ذكر ‏{‏جَزَاء الكافرين‏}‏ لكفرهم في الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك‏}‏ التعذيب ‏{‏على مَن يَشَاء‏}‏ أن يتوب عليه منهم لحكمة تقتضيه والمراد يوفقه للإسلام ‏{‏والله غَفُورٌ‏}‏ يتجاوز عما سلف منهم من الكفر والمعاصي ‏{‏رَّحِيمٌ‏}‏ يتفضل عليهم ويثيبهم بلا وجوب عليه سبحانه‏.‏ روى البخاري عن المسور بن مخرمة «أن أناساً منهم جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وقالوا‏:‏ يا رسول الله أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبى أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا، وقد سبى يومئذٍ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إن عندي ما ترون إن خير القول أصدقه اختاروا إما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم قالوا‏:‏ ما كنا نعدل بالأحساب شيئاً فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن هؤلاء جاؤنا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً فمن كان بيده شيء وطابت به نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه قالوا‏:‏ قد رضينا وسلمنا، فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ إنا لا ندري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا فرفعت إليه صلى الله عليه وسلم العرفاء أنهم قد رضوا»‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ‏}‏ أخبر عنهم بالمصدر للمبالغة كأنهم عين النجاسة، أو المراد ذو ونجس لخبث بواطنهم وفساد عقائدهم أو لأن معهم الشرك الذي هو بمنزلة النجس أو لأنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات فهي ملابسة لهم، وجوز أن يكون ‏{‏نَجَسٌ‏}‏ صفة مشبهة وإليه ذهب الجوهري، ولا بد حينئذٍ من تقدير موصوف مفرد لفظاً مجموع معنى ليصح الإخبار به عن الجمع أي جنس نجس ونحوه، وتخريج الآية على أحد الأوجه للذكورة هو الذي يقتضيه كلام أكثر الفقهاء حيث ذهبوا إلى أن أعيان المشركين طاهرة ولا فرق بين عبدة الأصنام وغيرهم من أصناف الكفار في ذلك‏.‏ وروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير‏.‏ وأخرج أبو الشيخ‏.‏ وابن مردويه عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من صافح مشركاً فليتوضأ أو ليغسل كفيه»‏.‏ وأخرج ابن مردويه عن هشام بن عروة عن أبيه عن جده قال‏:‏ «استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام فناوله يده فأبى أن يتناولها فقال‏:‏ يا جبريل ما منعك أن تأخذ بيدي‏؟‏ فقال‏:‏ إنك أخذت بيد يهودي فكرهت أن تمس يدي يداً قد مستها يد كافر فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ فناوله يده فتناولها» وإلى ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مال الإمام الرازي وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ولا يعدل عنه إلا بدليل منفصل‏.‏ قيل‏:‏ وعلى ذلك فلا يحل الشرب من أوانيهم ولا مؤاكلتهم ولا لبس ثيابهم لكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم والسلف خلافه، واحتمال كونه قبل نزول الآية فهو منسوخ بعيد، والاحتياط لا يخفى‏.‏ والاستدلال على طهارتهم بأن أعيانهم لو كانت نجسة ما أمكن بالإيمان طهارتها إذ لا يعقل كون الإيمان مطهراً، ألا ترى أن الخنزير لو قال‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله لا يطهر، وإنما يطهر نجس العين بالاستحالة على قول من يرى ذلك وعين الكافر لم تستحل بالإيمان عيناً أخرى ليس بشيء وإن ظنه من تهوله القعقعة شيئاً، لأن الطهارة والنجاسة أمران تابعان لما يفهم من كلام الشارع عليه الصلاة والسلام وليستأمر بوطتين بالاستحالة وعدمها فإذا فهم منه نجاسة شيء في وقت وطهارته في وقت آخر أو ما بالعكس كما في الخمر اتبع وإن لم يكن هناك استحالة وذلك ظاهر‏.‏ وقرأ ابن السميقع ‏{‏أنجاس‏}‏ على صيغة الجمع‏.‏ وقرأ أبو حيوة ‏{‏المشركون نَجَسٌ‏}‏ بكسر النون وسكون الجيم وهو تخفيف نجس ككبد في كبد، ويقدر حينئذٍ موصوف كما قررناه آنفاً فيما قاله الجوهري، وأكثر ما جاء هذا اللفظ تابعاً لرجس، وقول الفراء وتبعه الحريري في درته إنه لا يجوز ذلك بغير اتباع ترده هذه القراءة إذ لا اتباع فيها ‏{‏فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد‏}‏ تفريع على نجاستهم والمراد النهي عن الدخول إلا أنه نهي عن القرب للمبالغة‏.‏

وأخرج عبد الرزاق والنحاس عن عطاء أنهم نهوا عن دخول الحرم كله فيكون المنع من قرب نفس المسجد على ظاهره، وبالظاهر أخذ أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه إذ صرف المنع عن دخول الحرم إلى المنع من الحج والعمرة، ويؤيده قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا‏}‏ فإن تقييد النهي بذلك يدل على اختصاص المنهي عنه بوقت من أوقات العام أي لا يحجوا ولا يعتمروا بعد حج عامهم هذا وهو عام تسعة من الهجرة حين أمر أبو بكر رضي الله تعالى عنه على الموسم ويدل عليه نداء علي كرم الله تعالى وجهه يوم نادى ببراءة ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك وكذا قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً‏}‏ أي فقراً بسبب منعهم لما أنهم كانوا يأتون في الموسم بالمتاجر فإنه إنما يكون إذا منعوا من دخول الحرم كما لا يخفى‏.‏

والحاصل أن الإمام الأعظم يقول بالمنع عن الحج والعمرة ويحمل النهي عليه ولا يمنعون من دخول المسجد الحرام وسائر المساجد عنده، ومذهب الشافعي‏.‏ وأحمد‏.‏ ومالك رضي الله تعالى عنهم كما قال الخازن أنه لا يجوز للكافر ذمياً كان أو مستأمناً أن يدخل المسجد الحرام بحال من الأحوال فلو جاء رسول من دار الكفر والإمام فيه لم يأذن له في دخوله بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه من يسمع رسالته خارجه، ويجوز دخوله سائر المساجد عند الشافعي عليه الرحمة، وعن مالك كل المساجد سواء في منع الكافر عن دخولها وزعم بعضهم أن المنع في الآية إنما هو عن تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه وهو خلاف الظاهر جداً والظاهر النهي على ما علمت، وكون العلة فيه نجاستهم إن لم نقل بأنها ذاتية لا يقتضي جواز الفعل ممن اغتسل ولبس ثياباً طاهرة لأن خصوص العلة لا يخصص الحكم كما في الاستبراء، والكلام على حد لا أرينك هنا فهو كناية عن نهي المؤمنين عن تمكينهم مما ذكر بدليل أن ما قبل وما بعد خطاب للمؤمنين، ومن حمله على ظاهره استدل به على أن الكفار مخاطبون بالفروع حيث إنهم نهوا فيه والنهي من الأحكام وكونهم لا ينزجرون به لا يضر بعد معرفة معنى مخاطبتهم بها‏.‏

يروى أنه لما جاء النهي شق ذلك على المؤمنين وقالوا‏:‏ من يأتينا بطعامنا وبالمتاع فأنزل الله سبحانه ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً‏}‏ ‏{‏فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ‏}‏ أي عطائه أو تفضيله بوجه آخر ‏{‏فَمَنْ‏}‏ على الأول ابتدائية أو تبعيضية وعلى الثاني سببية، وقد أنجز الله تعالى وعده بأن أرسل السماء عليهم مدراراً ووفق أهل نجد وتبالة وجرش فأسلموا وحملوا إليهم الطعام وما يحتاجون إليه في معاشهم ثم فتح عليهم البلاد والغنائم وتوجه إليهم الناس من كل فج عميق، وعن ابن جبير أنه فسر الفضل بالجزية، ويؤيد بأن الأمر الآتي شاهد له وما ذكرناه أولى وأمر الشهادة هين وقرىء ‏{‏عائلة‏}‏ على أنه إما مصدر كالعاقبة والعافية أو اسم فاعل صفة لموصوف مؤنث مقدر أي حالاً عائلة أي مفتقرة وتقييد الإغناء بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏مِصْرَ إِن شَاء‏}‏ ليس للتردد ليشكل بأنه لا يناسب المقام وسبب النزول بل لبيان أن ذلك بإرادته لا سبب له غيرها حتى ينقطعوا إليه سبحانه ويقطعوا النظر عن غيره، وفيه تنبيه على أنه سبحانه متفضل بذلك الإغناء لا واجب عليه عز وجل لأنه لو كان بالإيجاب لم يوكل إلى المشيئة، وجوز أن يكون التقييد لأن الإغناء ليس مطرداً بحسب الأفراد والأحوال والأوقات ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ‏}‏ بأحوالكم ومصالحكم ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏ فيما يعطي ويمنع‏.‏