فصل: تفسير الآية رقم (53)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏53‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ‏}‏ من كتابك ‏{‏وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ‏}‏ عيسى ‏{‏فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق‏.‏ وقال عطاء‏:‏ مع النبيين لأن كل نبي شاهد أمته‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته لأنهم يشهدون للرسل بالبلاغ‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَكَرُوا‏}‏ يعني كفار بني إسرائيل الذي أحس عيسى منهم الكفر وبروا في قتل عيسى عليه السلام، وذلك أن عيسى عليه السلام بعد إخراج قومه إياه وأمه عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به فذلك مكرهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ‏}‏ فالمكر من المخلوقين‏:‏ الخبث والخديعة والحيلة، والمكر من الله‏:‏ استدراج العبد وأخذه بغتة من حيث لا يعلم كما قال‏:‏ ‏"‏ سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ‏"‏ ‏(‏182- الأعراف‏)‏ وقال الزجاج‏:‏ مكر الله عز وجل مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الابتداء لأنه في مقابلته كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الله يستهزئ بهم ‏"‏ ‏(‏15- البقرة‏)‏ ‏"‏ وهو خادعهم ‏"‏ ‏(‏142- النساء‏)‏ ومكر الله تعالى خاصة بهم في هذه الآية، وهو إلقاؤه الشبه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى عليه السلام حتى قتل‏.‏

قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أن عيسى استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا‏:‏ قد جاء الساحر ابن الساحرة، والفاعل ابن الفاعلة، وقذفوه وأمه فلما سمع ذلك عيسى عليه السلام دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير‏.‏ فلما رأى ذلك يهوذا رأس اليهود وأميرهم فزع لذلك وخاف دعوته فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السلام، وثاروا إليه ليقتلوه فبعث الله إليه جبريل فأدخله في خوخة في سقفها روزنة فرفعه الله إلى السماء من تلك الروزنة، فأمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه يقال له‏:‏ ططيانوس أن يدخل الخوخة ويقتله، فلما دخل لم ير عيسى، فأبطأ عليهم فظنوا أنه يقاتله فيها، فألقى الله عليه شبه عيسى عليه السلام، فلما خرج ظنوا أنه عيسى عليه السلام فقتلوه وصلبوه، قال وهب‏:‏ طرقوا عيسى في بعض الليل، ونصبوا خشبة ليصلبوه، فأظلمت الأرض، فأرسل الله الملائكة فحالت بينهم وبينه، فجمع عيسى الحواريين تلك الليلة وأوصاهم ثم قال‏:‏ ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ويبيعني بدراهم يسيرة، فخرجوا وتفرقوا، وكانت اليهود تطلبه، فأتى أحد الحواريين إلى اليهود فقال لهم‏:‏ ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح‏؟‏ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه‏.‏ ولما دخل البيت ألقى الله عليه شبه عيسى، فرفع عيسى وأخذ الذي دلهم علي فقال‏:‏ أنا الذي دللتكم عليه فلم يلتفتوا إلى قوله وقتلوه وصلبوه، وهم يظنون أنه عيسى، فلما صلب شبه عيسى، جاءت مريم أم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها فأبرأها الله من الجنون تبكيان عند المصلوب، فجاءهما عيسى عليه السلام فقال لهما‏:‏ علام تبكيان‏؟‏ إن الله تعالى قد رفعني ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبه لهم، فلما كان بعد سبعة أيام قال الله عز وجل لعيسى عليه السلام‏:‏ اهبط على مريم المجدلانية اسم موضع في جبلها، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها، ولم يحزن حزنها ثم ليجتمع لك الحواريون فبثهم في الأرض دعاة إلى الله عز وجل فأهبطه الله عليها فاشتعل الجبل حين هبط نورًا، فجمعت له الحواريين فبثهم في الأرض دعاة ثم رفعه الله عز وجل إليه وتلك الليلة هي التي تدخن فيها النصارى، فلما أصبح الحواريون حدَّث كل واحد منهم بلغة من أرسله عيسى إليهم فذلك قوله تعالى ‏{‏وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّه وَاللَّه خَيْر الْمَاكِرِينَ‏}‏‏.‏

وقال السدي‏:‏ إن اليهود حبسوا عيسى في بيت وعشرة من الحواريين فدخل عليهم رجل منهم فألقى الله عليه شبهه، وقال قتادة ذكر لنا أن نبي الله عيسى عليه السلام قال لأصحابه أيكم يقذف عليه شبهي فإنه مقتول، فقال رجل من القوم‏:‏ أنا يا نبي الله فقتل ذلك الرجل ومنع الله عيسى عليه السلام ورفعه إليه وكساه الله الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وطار مع الملائكة فهو معهم حول العرش، وكان إنسيا ملكيا سمائيا أرضيا، قال أهل التواريخ‏:‏ حملت مريم بعيسى ولها ثلاث عشرة سنة، وولدت عيسى ببيت لحم من أرض أوري شلم لمضي خمس وستين سنة من غلبة الإسكندر على أرض بابل فأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنة، ورفعه الله من بيت المقدس ليلة القدر من شهر رمضان، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة فكانت نبوته ثلاث سنين، وعاشت أمه مريم بعد رفعه ست سنين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏55‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِذْ قَالَ اللَّه يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}‏ اختلفوا في بعض التوفي هاهنا، قال الحسن والكلبي وابن جريج‏:‏ إني قابضك ورافعك في الدنيا إليِّ من غير موت، يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فلما توفيتني ‏"‏ ‏(‏117- المائدة‏)‏ أي قبضتني إلى السماء وأنا حي، لأن قومه إنما تنصروا بعد رفعه إلى السماء لا بعد موته، فعلى هذا للتوفي تأويلان، أحدهما‏:‏ إني رافعك إلي وافيًا لم ينالوا منك شيئا، من قولهم توفيت كذا واستوفيته إذا أخذته تامًا والآخر‏:‏ أني مستلمك من قولهم توفيت منه كذا أي تسلمته، وقال الربيع بن أنس‏:‏ المراد بالتوفي النوم وكل ذي عين نائم وكان عيسى قد نام فرفعه الله نائما إلى السماء، معناه‏:‏ أني منومك ورافعك إلي كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وهو الذي يتوفاكم بالليل ‏"‏ ‏(‏60- الأنعام‏)‏ أي ينيمكم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ المراد بالتوفي الموت، روى عن علي بن طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه‏:‏ أني مميتك يدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل يتوفاكم ملك الموت ‏"‏ ‏(‏11- السجدة‏)‏ فعلى هذا له تأويلان‏:‏ أحدهما ما قاله وهب‏:‏ توفى الله عيسى ثلاث ساعات من النهار ثم رفعه الله إليه، وقال محمد بن إسحاق‏:‏ إن النصارى يزعمون أن الله تعالى توفاه سبع ساعات من النهار ثم أحياه ورفعه، والآخر ما قاله الضحاك وجماعة‏:‏ إن في هذه الآية تقديمًا وتأخيرًا معناه أني رافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا ومتوفيك بعد إنزالك من السماء‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، أخبرنا علي بن الجعد، أخبرنا عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏والذي نفس محمد بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عادلا يكسر الصليب، ويقتل الخنزير ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد‏"‏‏.‏

ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في نزول عيسى عليه السلام قال‏:‏ ‏"‏وتهلك في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الدجال فيمكث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى فيصلي عليه المسلمون‏"‏‏.‏

وقيل للحسين بن الفضل هل تجد نزول عيسى في القرآن‏؟‏ قال نعم‏:‏ ‏{‏وَكَهْلا‏}‏ ولم يكتهل في الدنيا وإنما معناه وكهلا بعد نزوله من السماء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي مخرجك من بينهم ومنجيك منهم ‏{‏وَجَاعِل الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ قال قتادة والربيع والشعبي ومقاتل والكلبي‏:‏ هم أهل الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينه في التوحيد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهو فوق الذين كفروا ظاهرين قاهرين بالعزة والمنعة والحجة، وقال الضحاك‏:‏ يعني الحواريين فوق الذين كفروا، وقيل‏:‏ هم أهل الروم، وقيل‏:‏ أراد بهم النصارى فهم فوق اليهود إلى يوم القيامة، فإن اليهود قد ذهب ملكهم، وملك النصارى دائم إلى قريب من قيام الساعة، فعلى هذا يكون الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين‏.‏ ‏{‏ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ‏}‏ في الآخرة ‏{‏فَأَحْكُم بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏ من أمر الدين وأمر عيسى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏56- 60‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏56‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ‏(‏57‏)‏ ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏59‏)‏ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا‏}‏ بالقتل والسبي والجزية والذلة ‏{‏وَالآخِرَةِ‏}‏ أي وفي الآخرة بالنار ‏{‏وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ قرأ الحسن وحفص بالياء، والباقون بالنون أي نوفي أجور أعمالهم ‏{‏وَاللَّه لا يُحِبّ الظَّالِمِينَ‏}‏ أي لا يرحم الكافرين ولا يثني عليهم بالجميل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ أي هذا الذي ذكرته لك من الخبر عن عيسى ومريم والحواريين ‏{‏نَتْلُوه عَلَيْكَ‏}‏ نخبرك به بتلاوة جبريل عليك ‏{‏مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ‏}‏ يعني القرآن والذكر ذي الحكمة، وقال مقاتل‏:‏ الذكر الحكيم أي المحكم الممنوع من الباطل وقيل‏:‏ الذكر الحكيم هو اللوح المحفوظ، وهو معلق بالعرش من درة بيضاء‏.‏ وقيل من الآيات أي العلامات الدالة على نبوتك لأنها أخبار لا يعلمها إلا قارئ كتاب أو من يوحى إليه وأنت أمي لا تقرأ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ‏}‏ الآية نزلت في وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ مالك تشتم صاحبنا‏؟‏ قال‏:‏ وما أقول قالوا‏:‏ تقول إنه عبد الله قال‏:‏ أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول فغضبوا وقالوا هل رأيت إنسانا قط من غير أب‏؟‏ فأنزل الله تعالى ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ‏}‏ في كونه خلقه من غير أب كمثل آدم لأنه خُلق من غير أب وأم ‏{‏خَلَقَه مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ‏}‏ يعني لعيسى عليه السلام ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ يعني فكان فإن قيل ما معنى قوله ‏{‏خَلَقَه مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَه كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ولا تكوين بعد الخلق‏؟‏ قيل معناه ثم خلقه ثم أخبركم أني قلت له‏:‏ كن فكان من غير ترتيب في الخلق كما يكون في الولادة وهو مثل قول الرجل‏:‏ أعطيتك اليوم درهما ثم أعطيتك أمس درهما أي ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهما‏.‏ وفيما سبق من التمثيل دليل على جواز القياس لأن القياس هو رد فرع إلى أصل بنوع شبه وقد رد الله تعالى خلق عيسى إلى آدم عليهم السلام بنوع شبه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الْحَقّ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ أي هو الحق وقيل جاءك الحق من ربك ‏{‏فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ الشاكين الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏61‏]‏

‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ ‏(‏61‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ‏}‏ أي جادلك في عيسى أو في الحق ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏ بأن عيسى عبد الله ورسوله ‏{‏فَقُلْ تَعَالَوْا‏}‏ وأصله تعاليوا تفاعلوا من العلو فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، قال الفراء‏:‏ بمعنى تعال كأنه يقول‏:‏ ارتفع‏.‏ قوله ‏{‏نَدْعُ‏}‏ جزم لجواب الأمر وعلامة الجزم سقوط الواو ‏{‏أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ‏}‏ قيل‏:‏ أبناءنا أراد الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة‏.‏ وأنفسنا عنى نفسه وعليا رضي الله عنه والعرب تسمي ابن عم الرجل نفسه، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولا تلمزوا أنفسكم ‏"‏ ‏(‏11- الحجرات‏)‏ يريد إخوانكم وقيل هو على العموم الجماعة أهل الدين ‏{‏ثُمَّ نَبْتَهِلْ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أي نتضرع في الدعاء، وقال الكلبي‏:‏ نجتهد ونبالغ في الدعاء، وقال الكسائي وأبو عبيدة‏:‏ نلتعن والابتهال الالتعان يقال‏:‏ عليه بهلة الله أي لعنته‏:‏ ‏{‏فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ‏}‏ منا ومنكم في أمر عيسى، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية على وفد نجران ودعاهم إلى المباهلة قالوا‏:‏ حتى نرجع وننظر في أمرنا ثم نأتيك غدا، فخلا بعضهم ببعض فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم‏:‏ يا عبد المسيح ما ترى‏؟‏ قال‏:‏ والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدًا نبي مرسل، والله ما لاعن قوم نبيًا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم ذلك لنهلكن فإن أبيتم إلا الإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم محتضنا للحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول لهم‏:‏ ‏"‏إذا أنا دعوت فأمنوا‏"‏ فقال أسقف نجران‏:‏ يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض منكم نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا يا أبا القاسم‏:‏ قد رأينا أن لا نلاعنك وأن نتركك على دينك ونثبت على ديننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فإن أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم‏"‏ فأبوا فقال‏:‏ ‏"‏فإني أنابذكم‏"‏ فقالوا‏:‏ ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكنا نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة ألفًا في صفر وألفًا في رجب، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وقال‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده إن العذاب قد تدلى على أهل نجران ولو تلاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏62- 64‏]‏

‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏62‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ ‏(‏63‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ‏(‏64‏)‏‏}‏‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَص الْحَقُّ‏}‏ النبأ الحق ‏{‏وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ‏}‏ و ‏"‏من‏"‏ صلة تقديره وما إله إلا الله ‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ أعرضوا عن الإيمان ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ‏}‏ الذين يعبدون غير الله، ويدعون الناس إلى عبادة غير الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ الآية قال المفسرون‏:‏ قدم وفد نجران المدينة فالتقوا مع اليهود فاختصموا في إبراهيم عليه السلام، فزعمت النصارى أنه كان نصرانيا وهم على دينه وأولى الناس به، وقالت اليهود‏:‏ بل كان يهوديا وهم على دينه وأولى الناس به، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ كلا الفريقين بريء من إبراهيم ودينه بل كان إبراهيم حنيفا مسلما وأنا على دينه فاتبعوا دينه دين الإسلام، فقالت اليهود‏:‏ يا محمد ما تريد إلا أن نتخذك ربا كما اتخذت النصارى عيسى ربا، وقالت النصارى‏:‏ يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك ما قالت اليهود في عزير، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ‏}‏ والعرب تسمي كل قصة لها شرح كلمة ومنه سميت القصيدة كلمة ‏{‏سَوَاءٍ‏}‏ عدل بيننا وبينكم مستوية، أي أمر مستو يقال‏:‏ دعا فلان إلى السواء، أي إلى النصفة، وسواء كل شيء وسطه ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فرآه في سواء الجحيم ‏"‏ ‏(‏55- الصافات‏)‏ وإنما قيل للنصف سواء لأن أعدل الأمور وأفضلها أوسطها وسواء نعت لكلمة إلا أنه مصدر، والمصادر لا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث، فإذا فتحت السين مددت، وإذا كسرت أو ضممت قصرت كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏مكانا سوى‏"‏ ‏(‏58- طه‏)‏ ثم فسر الكلمة فقال‏:‏ ‏{‏أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ‏}‏ ومحل أن رفع على إضمار هي، وقال الزجاج‏:‏ رفع بالابتداء، وقيل‏:‏ محله نصب بنزع حرف الصفة معناه بأن لا نعبد إلا الله وقيل‏:‏ محله خفض بدلا من الكلمة أي تعالوا إلى أن لا نعبد إلا الله ‏{‏وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًاوَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ كما فعلت اليهود والنصارى، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ‏"‏ ‏(‏31- التوبة‏)‏ وقال عكرمة‏:‏ هو سجود بعضهم لبعض، أي لا تسجدوا لغير الله، وقيل‏:‏ معناه لا نطيع أحدا في معصية الله ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا‏}‏ فقولوا أنتم لهم اشهدوا ‏{‏بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏ مخلصون بالتوحيد‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا أبو اليمان الحكم بن نافع، أخبرنا شعيب، عن الزهري، أخبرنا عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه وهو بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ودعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية بن خليفة الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا هو‏:‏

‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد‏:‏ فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم الإريسيين ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 66‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ‏(‏65‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ‏(‏66‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاة وَالإنْجِيل إِلا مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ تزعمون أنه كان على دينكم، وإنما دينكم اليهودية والنصرانية، وقد حدثت اليهودية بعد نزول التوراة والنصرانية بعد نزول الإنجيل، وإنما أنزلت التوراة والإنجيل من بعد إبراهيم بزمان طويل، وكان بين إبراهيم وموسى ألف سنة، وبين موسى وعيسى ألفا سنة ‏{‏أَفَلا تَعْقِلُونَ‏}‏ بطلان قولكم‏؟‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَا أَنْتُمْ‏}‏ بتليين الهمزة حيث كان مدني، وأبو عمرو والباقون بالهمز، واختلفوا في أصله فقال بعضهم‏:‏ أصله‏:‏ أأنتم وها تنبيه وقال الأخفش‏:‏ أصله أأنتم فقلبت الهمزة الأولى هاء كقولهم هرقت الماء وأرقت ‏{‏هَؤُلاءِ‏}‏ أصله أولاء دخلت عليه هاء التنبيه وهي في موضع النداء، يعني يا هؤلاء أنتم ‏{‏حَاجَجْتُمْ‏}‏ جادلتم ‏{‏فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ يعني في أمر موسى وعيسى وادعيتم أنكم على دينهما وقد أنزلت التوراة والإنجيل عليكم ‏{‏فَلِمَ تُحَاجُّون َفِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ‏}‏ وليس في كتابكم أنه كان يهوديا أو نصرانيا، وقيل حاججتم فيما لكم به علم يعني في أمر محمد صلى الله عليه وسلم لأنهم وجدوا نعته في كتابهم، فجادلوا فيه بالباطل، فلم تحاجّون في إبراهيم وليس في كتابكم، ولا علم لكم به‏؟‏ ‏{‏وَاللَّه يَعْلَم وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ثم برَّأ الله تعالى إبراهيم مما قالوا‏:‏ فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏67- 68‏]‏

‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏67‏)‏ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏68‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏مَا كَانَ إِبْرَاهِيم يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ والحنيف‏:‏ المائل عن الأديان كلها إلى الدين المستقيم، وقيل‏:‏ الحنيف‏:‏ الذي يوحِّد ويحج ويضحي ويختن ويستقبل الكعبة‏.‏ وهو أسهل الأديان وأحبها إلى الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ‏}‏ أي‏:‏ من اتبعه في زمانه، ‏{‏وَهَذَا النَّبِيُّ‏}‏ يعني‏:‏ محمدا صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ معه، يعني من هذه الأمة ‏{‏وَاللَّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، ورواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب بإسناده، حديث هجرة الحبشة، لما هاجر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان فاجتمعت قريش في دار الندوة وقالوا‏:‏ إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأرًا ممن قتل منكم ببدر، فاجمعوا مالا وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ولينتدب لذلك رجلان من ذوي رأيكم فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن الوليد مع الهدايا الأدم وغيره، فركبا البحر وأتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له‏:‏ إن قومنا لك ناصحون شاكرون ولصلاحك محبون وإنهم بعثونا إليك لنحذِّرك هؤلاء الذين قدموا عليك، لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء، وإنا كنا قد ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد، ولا يخرج منهم أحد قد قتلهم الجوع والعطش فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم، وقالا وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يُحَيُّونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك، قال‏:‏ فدعاهم النجاشي فلما حضروا، صاح جعفر بالباب‏:‏ يستأذن عليك حزب الله، فقال النجاشي‏:‏ مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل جعفر فقال النجاشي‏:‏ نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته، فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال‏:‏ ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي، فساءهما ذلك ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص‏:‏ ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك، فقال لهم النجاشي‏:‏ ما منعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق‏؟‏ قالوا‏:‏ نسجد لله الذي خلقك وملَّكك، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان، فبعث الله فينا نبيا صادقا فأمرنا بالتحية التي رضيها الله وهي السلام تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل قال‏:‏ أيكم الهاتف‏:‏ يستأذن عليك حزب الله‏؟‏ قال جعفر‏:‏ أنا، قال‏:‏ فتكلم، قال‏:‏ إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا‏.‏ فقال عمرو لجعفر‏:‏ تكلم، فقال جعفر للنجاشي‏:‏ سل هذين الرجلين أعبيد نحن أم أحرار‏؟‏ فإن كنا عبيدا أَبَقْنَا من أربابنا فارددنا إليهم، فقال النجاشي‏:‏ أعبيد هم أم أحرار‏؟‏ فقال عمرو‏:‏ بل أحرار كرام، فقال النجاشي‏:‏ نجوا من العبودية‏.‏ ثم قال جعفر‏:‏ سلهما هل أهرقنا دما بغير حق فيقتص منا‏؟‏ قال النجاشي‏:‏ إن كان قنطارا فعلي قضاؤه، فقال عمرو‏:‏ لا ولا قيراطًا، قال النجاشي‏:‏ فما تطلبون منهم‏؟‏ قال عمرو‏:‏ كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا فتركوا ذلك وابتغوا غيره فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا، فقال النجاشي‏:‏ ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعتموه أصدقني، قال جعفر‏:‏ أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان، كنا نكفر بالله ونعبد الحجارة، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدين الله الإسلام جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب عيسى بن مريم موافقا له، فقال النجاشي‏:‏ يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك، ثم أمر النجاشي فضرب بالناقوس فاجتمع إليه كل قسيس وراهب، فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي‏:‏ أنشدكم الله الذي أنزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًا مرسلا فقالوا‏:‏ اللهم نعم، قد بشرنا به عيسى وقال‏:‏ من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي لجعفر‏:‏ ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه‏؟‏ فقال‏:‏ يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ويأمرنا بأن نعبد الله وحده لا شريك له، فقال‏:‏ اقرأ علي مما يقرأ عليكم فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت عينا النجاشي وأصحابه من الدمع وقالوا‏:‏ زدنا يا جعفر من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف فأراد عمرو أن يُغْضب النجاشي فقال‏:‏ إنهم يشتمون عيسى وأمه، فقال النجاشي‏:‏ ما تقولون في عيسى وأمه فقرأ عليهم سورة مريم فلما أتى جعفر على ذكر مريم وعيسى عليهما السلام رفع النجاشي نُفثَهُ من سواكه قدر ما تُقْذَى العين فقال‏:‏ والله ما زاد المسيح على ما تقولون هذا، ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال‏:‏ اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي يقول‏:‏ آمنون من سبكم أو آذاكم غرم، ثم قال‏:‏ أبشروا ولا تخافوا فلا دَهْوَرة اليوم على حزب إبراهيم، قال عمرو‏:‏ يا نجاشي ومن حزب إبراهيم‏؟‏ قال‏:‏ هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن تبعهم‏.‏ فأنكر ذلك المشركون وادعوا في دين إبراهيم، ثم رد النجاشي على عمرو وصاحبه المال الذي حملوه وقال‏:‏ إنما هديتكم لي رشوة فاقبضوها فإن الله ملَّكني ولم يأخذ مني رشوة، قال جعفر‏:‏ فانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار، وأنزل الله تعالى ذلك اليوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في خصومتهم في إبراهيم وهو بالمدينة قوله عز وجل ‏{‏إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه وَهَذَا النَّبِيّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّه وَلِيّ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 72‏]‏

‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ ‏(‏69‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ‏(‏70‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏71‏)‏ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏72‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ نزلت في معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر حين دعاهم اليهود إلى دينهم، فنزلت ‏{‏وَدَّتْ طَائِفَةٌ‏}‏ تمنيت جماعة من أهل الكتاب يعني اليهود ‏{‏لَوْ يُضِلُّونَكُمْ‏}‏ عن دينكم ويردونكم إلى الكفر ‏{‏وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ‏}‏ يعني القرآن وبيان نعت محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ‏}‏ أن نعته في التوراة والإنجيل مذكور‏.‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ‏}‏ تخلطون الإسلام باليهودية والنصرانية، وقيل‏:‏ لم تخلطون الإيمان بعيسى عليه السلام وهو الحق بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وهو الباطل‏؟‏ وقيل‏:‏ التوراة التي أنزلت على موسى بالباطل الذي حرفتموه وكتبتموه بأيديكم ‏{‏وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ودينه حق‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا‏}‏ الآية‏.‏ قال الحسن والسدي‏:‏ تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقرى عيينة وقال بعضهم لبعض‏:‏ ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد ثم اكفروا آخر النهار وقولوا‏:‏ إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدًا ليس بذلك، وظهر لنا كذبه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم واتهموه وقالوا‏:‏ إنهم أهل الكتاب وهم أعلم منَّا به فيرجعون عن دينهم‏.‏

وقال مجاهد ومقاتل والكلبي هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود، فقال كعب بن الأشرف لأصحابه‏:‏ آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة وصلوا إليها أول النهار ثم اكفروا وارجعوا إلى قبلتكم آخر النهار لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم فيرجعون إلى قبلتنا، فأطلع الله تعالى رسوله على سرهم وأنزل ‏{‏وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا‏}‏ ‏{‏بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ‏}‏ أوله سمي وجهًا لأنه أحسنه وأول ما يواجه الناظر فيراه ‏{‏وَاكْفُرُوا آخِرَه لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ فيشكون ويرجعون عن دينهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏73‏]‏

‏{‏وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ‏}‏ هذا متصل بالأول من قول اليهود بعضهم لبعض ‏{‏وَلا تُؤْمِنُوا‏}‏ أي لا تصدقوا ‏{‏إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ‏}‏ وافق ملتكم واللام في ‏"‏لمن‏"‏ صلة، أي لا تصدقوا إلا من تبع دينكم اليهودية كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل عسى أن يكون ردف لكم ‏"‏ ‏(‏72- النحل‏)‏ أي‏:‏ ردفكم‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ‏}‏ هذا خبر من الله عز وجل أن البيان بيانه ثم اختلفوا‏:‏ فمنهم من قال‏:‏ كلام معترض بين كلامين، وما بعده متصل بالكلام الأول، إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض، ومعناه‏:‏ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والكتاب والحكمة والآيات من المنِّ والسلوى وفَلْق البحر وغيرها من الكرامات‏.‏ ولا تؤمنوا أن يحاجّوكم عند ربكم لأنكم أصح دينًا منهم‏.‏ وهذا معنى قول مجاهد‏.‏

وقيل‏:‏ إن اليهود قالت لسفلتهم ‏{‏وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ‏}‏ ‏{‏أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ‏}‏ من العلم أي‏:‏ لئلا يؤتى أحد، و‏"‏لا‏"‏ فيه مضمرة، كقوله تعالى يبيِّن الله لكم أن تضلوا النساء- 176‏)‏ أي‏:‏ لئلا تضلوا، يقول‏:‏ لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم في العلم، ولئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا‏:‏ عرفتم أن ديننا حق، وهذا معنى قول ابن جريج‏.‏

وقرأ الحسن والأعمش ‏{‏إنْ يُؤْتَى‏}‏ بكسر الألف، فيكون قول اليهود تامًا عند قوله‏:‏ ‏{‏إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ‏}‏ وما بعده من قول الله تعالى يقول‏:‏ قل يا محمد ‏{‏إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى‏}‏ أن بمعنى الجحد، أي ما يؤتي أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولوا‏:‏ نحن أفضل منكم، فقوله عز وجل ‏{‏عِنْدَ رَبِّكُمْ‏}‏ أي عند فضل ربكم بكم ذلك، وهذا معنى قول سعيد بن جبير والحسن والكلبي ومقاتل‏.‏ وقال الفراء‏:‏ ويجوز أن يكون أو بمعنى حتى كما يقال‏:‏ تعلق به أو يعطيك حقك أي حتى يعطيك حقك، ومعنى الآية‏:‏ ما أعطي أحد مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم‏.‏

وقرأ ابن كثير ‏{‏آنْ يُؤْتَى‏}‏ بالمد على الاستفهام وحينئذ يكون فيه اختصار تقديره‏:‏ أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونه ولا تؤمنون به، هذا قول قتادة والربيع وقالا هذا من قول الله تعالى يقول‏:‏ قل لهم يا محمد ‏{‏إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ‏}‏ بأن أنزل كتابا مثل كتابكم وبعث نبيًا حسدتموه وكفرتم به‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء وَاللَّه وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏ قوله أو يحاجوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين وتكون ‏"‏أو‏"‏ بمعنى أن لأنهما حرفا شرط وجزاء يوضع أحدهما موضع الآخر أي وإن يحاجوكم يا معشر المؤمنين عند ربكم فقل يا محمد‏:‏ إن الهدى هدى الله ونحن عليه، ويجوز أن يكون الجميع خطابا للمؤمنين، ويكون نظم الآية‏:‏ أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤكمنين حسدوكم فقل ‏{‏إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ‏}‏ وإن حاجوكم ‏{‏قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ‏}‏‏.‏

ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تُؤْمِنُوا‏}‏ كلام الله يثبِّت به قلوب المؤمنين لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم، يقول لا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من تبع دينكم، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل، ولا تصدقوا أن يحاجوكم في دينكم عند ربكم أو يقدروا على ذلك فإن الهدى هدى الله، و ‏{‏إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم‏}‏ فتكون الآية كلها خطاب الله للمؤمنين عند تلبيس اليهود لئلا يرتابوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏74- 75‏]‏

‏{‏يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏74‏)‏ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏75‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَخْتَصّ بِرَحْمَتِهِ‏}‏ أي بنبوته ‏{‏مَنْ يَشَاء وَاللَّه ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ الآية نزلت في اليهود أخبر الله تعالى أن فيهم أمانة وخيانة، والقنطار عبارة عن المال الكثير، والدينار عبارة عن المال القليل، يقول‏:‏ منهم من يؤدي الأمانة وإن كثرت، ومنهم من لا يؤديها وإن قلت قال مقاتل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ هم مؤمنوا أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه، ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ كفار اليهود، ككعب بن الأشرف وأصحابه، وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله عز وجل ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ عبد الله بن سلام، أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأدَّاها إليه، ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْه بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ فنحاص بن عازُورَاء، استودعه رجل من قريش دينارا فخانه، قوله ‏{‏يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ‏}‏ قرأ أبو عمرو وأبو بكر وحمزة ‏{‏يُؤَدِّهْ‏}‏ ‏{‏لا يُؤدهْ‏}‏ و ‏{‏نُصْلهْ‏}‏ و ‏{‏نُؤتِهْ‏}‏ و ‏{‏نُولِّهْ‏}‏ ساكنة الهاء وقرأ أبو جعفر وقالون ويعقوب بالاختلاس كسرا، والباقون بالإشباع كسرا، فمن سكن الهاء قال لأنها وضعت في موضع الجزم وهو الياء الذاهبة، ومن اختلس فاكتفى بالكسرة عن الياء، ومن أشبع فعلى الأصل، لأن الأصل في الهاء الإشباع، ‏{‏إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا‏}‏ قال ابن عباس مُلِحًّا يريد يقوم عليه يطالبه بالإلحاح، وقال الضحاك‏:‏ مواظبًا أي تواظب عليه بالاقتضاء، وقيل‏:‏ أراد أودعته ثم استرجعته وأنت قائم على رأسه ولم تفارقه ردّه إليك، فإن فارقته وأخرته أنكره ولم يؤدهِ ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ ذلك الاستحلال والخيانة، ‏{‏بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ‏}‏ أي‏:‏ في مال العرب إثم وحَرَجَ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ‏}‏ وذلك أن اليهود قالوا‏:‏ أموال العرب حلال لنا، لأنهم ليسوا على ديننا ولا حرمة لهم في كتابنا، وكانوا يستحلون ظلم من خالفهم في دينهم‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ قالت اليهود إن الأموال كلها كانت لنا فما في يد العرب منها فهو لنا وإنما ظلمونا وغصبونا فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم‏.‏

وقال الحسن وابن جريج ومقاتل‏:‏ بايع اليهود رجالا من المسلمين في الجاهلية فلما أسلموا تقاضوهم بقية أموالهم فقالوا‏:‏ ليس لكم علينا حق، ولا عندنا قضاء لأنكم تركتم دينكم، وانقطع العهد بيننا وبينكم وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتبهم فكذبهم الله عز وجل وقال عز من قائل‏:‏ ‏{‏وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ ثم قال ردا عليهم‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏76‏]‏

‏{‏بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ‏(‏76‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏بَلَى‏}‏ أي‏:‏ ليس كما قالوا بل عليهم سبيل، ثم ابتدأ فقال ‏{‏مَنْ أَوْفَى‏}‏ أي‏:‏ ولكن من أوفى ‏{‏بِعَهْدِهِ‏}‏ أي‏:‏ بعهد الله الذي عهد إليه في التوراة من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وأداء الأمانة، وقيل‏:‏ الهاء في عهده راجعة إلى الموفي ‏{‏وَاتَّقَى‏}‏ الكفر والخيانة ونقض العهد، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبّ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا قبيصة بن عقبة، أنا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مُرّة عن مسروق عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خَصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها‏:‏ إذا ائتُمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏77‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ قال عكرمة‏:‏ نزلت في رؤوس اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدّلوه وكتبوا بأيديهم غيره وحلفوا أنه من عند الله لئلا يفوتهم المآكل والرشا التي كانت لهم من أتْباعهم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا موسى بن إسماعيل، أنا أبو عوانة عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من حلف علي يمين صَبْرٍ يقتطع بها مالَ امرِئٍ مسلم لقيَ الله يومَ القيامة وهو عليه غضبان‏"‏ فأنزل الله تعالى تصديق ذلك ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ إلى آخر الآية، فدخل الأشعث بن قيس فقال‏:‏ ما يحدثكم أبو عبد الرحمن‏؟‏ فقالوا‏:‏ كذا وكذا، فقال‏:‏ فيّ أنزلتْ كانتْ لي بئرٌ في أرض ابن عم لي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثتهُ فقال‏:‏ ‏"‏هات بينتَكَ أو يمينه ‏"‏ قلت‏:‏ إذًا يحلفُ عليها يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من حلف على يمين صَبْرٍ وهو فيها فاجرٌ يقتطع بها مالَ امرئٍ مسلم لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان‏"‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنا عبد الغافر بن محمد الفارسي أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان أنا مسلم بن الحجاج أنا قتيبة بن سعيد أنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن علقمة بن وائل بن حجر، عن أبيه قال‏:‏ جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنْدة إلى النبي، فقال الحضرمي‏:‏ يا رسول الله إن هذا قد غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقال الكندي‏:‏ هي أرض في يدي أزرعها، ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي‏:‏ ‏"‏ألك بينة‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ لا قال‏:‏ ‏"‏فلك يمينه‏"‏ قال‏:‏ يا رسول الله إن الرجل فاجرٌ لا يبالي على ما يحلف عليه، قال‏:‏ ‏"‏ليس لك منه إلا ذلك‏"‏ فانطلق ليحلف له، فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أمَا لِئَن حلف على ماله ليأكله ظلما ليَلْقَيَنَّ الله وهو عنه مُعْرِض‏"‏ ورواه عبد الملك بن عمير عن علقمة، وقال هو امرؤ القيس بن عابس الكندي وخصمه ربيعة بن عبدان‏.‏

وروي لما همّ أن يحلف نزلت هذه الآية فامتنع امرؤ القيس أن يحلف، وأقر لخصمه بحقه ودفعه إليه‏.‏ أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد السرخسي، أنا أبو مصعب عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن سعيد بن كعب عن أخيه عبد الله بن كعب بن مالك عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من اقتطع حقَّ امرئٍ مسلم بيمينه حرّم الله عليه الجنة وأوجب له النار‏"‏ قالوا‏:‏ وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وإن كان قضيبا من أراك‏"‏ قالها ثلاث مرات‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عمرو بن محمد، أنا هشيم بن محمد أنا العوام بن حوشب عن إبراهيم بن عبد الرحمن عن عبد الله بن أبي أوفى أنّ رجلا أقام سلعة وهو في السوق فحلف بالله لقد أُعطي بها ما لم يعط ليُوقع فيها رجلا من المسلمين، فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ يستبدلون ‏{‏بِعَهْدِ اللَّهِ‏}‏ وأراد الأمانة، ‏{‏وَأَيْمَانِهِمْ‏}‏ الكاذبة ‏{‏ثَمَنًا قَلِيلا‏}‏ أي‏:‏ شيئا قليلا من حطام الدنيا، ‏{‏أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ‏}‏ لا نصيب لهم ‏{‏فِي الآخِرَةِ‏}‏ ونعيمها، ‏{‏وَلا يُكَلِّمُهُم اللَّهُ‏}‏ كلاما ينفعهم ويسرهم، وقيل‏:‏ هو بمعنى الغضب، كما يقول الرجل‏:‏ إني لا أكلم فلانا إذا كان غضب عليه، ‏{‏وَلا يَنْظُر إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ أي‏:‏ لا يرحمهم ولا يحسن إليهم ولا يُنيلهم خيرًا، ‏{‏وَلا يُزَكِّيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ لا يثني عليهم بالجميل ولا يطهرهم من الذنوب، ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنا عبد الغفار بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد، أنا سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا محمد بن جعفر، عن شعبة عن علي بن مُدرك عن أبي زرعة عن خرشة بن الحر عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم‏"‏ قال‏:‏ قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فقال أبو ذر‏:‏ خابوا وخسروا مَنْ هم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏المُسبل والمنّان والمنفق سلعته بالحَلِفَ الكاذب‏"‏ في رواية‏:‏ ‏"‏المسبل إزاره‏"‏‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أسيد أبو الحسن محمد بن الحسين العلوي أنا أبو نصر محمد بن حمدويه المروزي، أنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار عن أبي صالح، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم رجل حلف يمينا على مال مسلم فاقتطعه، ورجل حلف على يمين كاذبة بعد صلاة العصر أنه أعطي بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل منع فضل مالهِ فإن الله تعالى يقول‏:‏ اليوم أمنعك فضل ما لم تعمل يداك‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏

‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ‏(‏78‏)‏ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ ‏(‏79‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا‏}‏ يعني‏:‏ من أهل الكتاب لفريقا أي‏:‏ طائفة، وهم كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف وحييّ بن أخطب وأبو ياسر وشعبة بن عمر الشاعر، ‏{‏يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ يعطفون ألسنتهم بالتحريف والتغيير وهو ما غيروا من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك، يقال‏:‏ لوى لسانه على كذا أي‏:‏ غيره، ‏{‏لِتَحْسَبُوهُ‏}‏ أي‏:‏ لتظنوأ ما حرفوا ‏{‏مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ الذي أنزله الله تعالى، ‏{‏وما هو من الكتاب وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ‏}‏ عمدًا، ‏{‏وَهُمْ يَعْلَمُونَ‏}‏ أنهم كاذبون، وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ إن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعا وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيل وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَه اللَّه الْكِتَابَ‏}‏ الآية قال مقاتل والضحاك‏:‏ ما كان لبشر يعني‏:‏ عيسى عليه السلام، وذلك أن نصارى نجران كانوا يقولون‏:‏ إن عيسى أمرهم أن يتخذوه ربَّا فقال

تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ يعني‏:‏ عيسى ‏{‏أَنْ يُؤْتِيَه اللَّه الْكِتَابَ‏}‏ الإنجيل‏.‏

وقال ابن عباس وعطاء‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ يعني محمدا ‏{‏أَنْ يُؤْتِيَه اللَّه الْكِتَابَ‏}‏ أي القرآن، وذلك أن أبا رافع القرظي من اليهود، والرئيس من نصارى أهل نجران قالا يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك ربَّا فقال‏:‏ معاذ الله أن نأمر بعبادة غير الله ما بذلك أمرني الله، ولا بذلك أمرني فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏مَا كَانَ لِبَشَرٍ‏}‏ أي ما ينبغي لبشر، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ما يكون لنا أن نتكلم بهذا ‏"‏ سورة، النور الآية‏:‏ 16‏)‏ أي ما ينبغي لنا، والبشر‏:‏ جميع بني آدم لا واحد له من لفظه، كالقوم والجيش ويوضع موضع الواحد والجمع، ‏{‏أَنْ يُؤْتِيَه اللَّه الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ‏}‏ الفهم والعلم وقيل‏:‏ إمضاء الحكم عن الله عز وجل، ‏{‏وَالنُّبُوَّةَ‏}‏ المنزلة الرفيعة بالأنبياء، ‏{‏ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا‏}‏ أي‏:‏ ولكن يقول كونوا، ‏{‏رَبَّانِيِّينَ‏}‏‏.‏

واختلفوا فيه قال علي وابن عباس والحسن‏:‏ كونوا فقهاء علماء وقال قتادة‏:‏ حكماء وعلماء وقال سعيد بن جبير‏:‏ العالم الذي يعمل بعلمه، وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ فقهاء معلمين‏.‏

وقيل‏:‏ الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره، وقال عطاء‏:‏ علماء حكماء نُصحاء لله في خلقه، قال أبو عبيدة‏:‏ سمعت رجلا عالمًا يقول‏:‏ الرباني العالم بالحلال والحرام والأمر والنهي، العالم بأنباء الأمة ما كان وما يكون، وقيل‏:‏ الربانيون فوق الأحبار، والأحبار‏:‏ العلماء، والربانيون‏:‏ الذين جمعوا مع العلم البصارة بسياسة الناس‏.‏

قال المؤرّج‏:‏ كونوا ربانيين تدينون لربكم، من الربوبية، كان في الأصل رَبيّ فأدخلت الألف للتفخيم، ثم أدخلت النون لسكون الألف، كما قيل‏:‏ صنعاني وبهراني‏.‏

وقال المبرد‏:‏ هم أرباب العلم سُموا به لأنهم يربون العلم، ويقومون به ويربون المتعلمين بصغار العلوم قبل كبارها، وكل من قام بإصلاح شيء وإتمامه فقد ربَّه يربه، واحدها‏:‏ ‏"‏ربان‏"‏ كما قالوا‏:‏ ريان وعطشان وشبعان وعُريان ثم ضُمت إليه ياء النسبة كما قالوا‏:‏ لحياني ورقباني‏.‏

وحكي عن علي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ هو الذي يرب علمه، بعمله قال محمد بن الحنفية لما مات ابن عباس‏:‏ اليوم مات رباني هذه الأمة‏.‏ ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ بما أنتم، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ من كان في المهد صبيا ‏"‏ سورة مريم الآية 29‏)‏ أي‏:‏ من هو في المهد ‏{‏تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ‏}‏ قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ‏"‏ تعلِّمُون ‏"‏ بالتشديد من التعليم وقرأ الآخرون ‏"‏ تعلَمُون ‏"‏ بالتخفيف من العلم كقوله‏:‏ ‏{‏وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ‏}‏ أي‏:‏ تقرؤون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏80- 81‏]‏

‏{‏وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏80‏)‏ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ ‏(‏81‏)‏‏}‏‏.‏

قوله ‏{‏وَلا يَأْمُرَكُمْ‏}‏ قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة ويعقوب بنصب الراء عطفا على قوله‏:‏ ثم يقول، فيكون مردودا على البشر، أي‏:‏ ولا يأمَرَ ذلك البشر، وقيل‏:‏ على إضمار ‏"‏أن‏"‏ أي‏:‏ ولا أن يأمَرَكم ذلك البشر، وقرأ الباقون بالرفع على الاستئناف، معناه‏:‏ ولا يأمُرُكم الله، وقال ابن جريج وجماعة‏:‏ ولا يأمرُكم محمد، ‏{‏أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا‏}‏ كفعل قريش والصابئين حيث قالوا‏:‏ الملائكة بنات الله واليهود والنصارى حيث قالوا في المسيح وعُزير ما قالوا، ‏{‏أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ قاله على طريق التعجب والإنكار، يعني‏:‏ لا يقول هذا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ‏}‏ قرأ حمزة ‏"‏ لما ‏"‏ بكسر اللام وقرأ الآخرون بفتحها فمن كسر اللام فهي لام الإضافة دخلت على ما، ومعناه الذي يريد للذي آتيتكم أي‏:‏ أخذ ميثاق النبيين لأجل الذي آتاهم من الكتاب والحكمة يعني أنهم أصحاب الشرائع ومن فتح اللام فمعناه‏:‏ للذي آتيتكم بمعنى الخبر وقيل‏:‏ بمعنى الجزاء أي‏:‏ لئن آتيتكم ومهما آتيتكم وجواب الجزاء قوله ‏{‏لَتُؤْمِنُنَّ‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لَمَا آتَيْتُكُمْ‏}‏ قرأ نافع وأهل المدينة ‏"‏ آتيناكم ‏"‏ على التعظيم كما قال‏:‏ ‏"‏ وآتينا داوود زبورا ‏"‏ ‏(‏النساء- 163‏)‏ ‏"‏ وآتيناه الحكم صبيا ‏"‏ ‏(‏سورة مريم 12‏)‏ وقرأ الآخرون بالتاء لموافقة الخط ولقوله‏:‏ ‏{‏وَأَنَا مَعَكُمْ‏}‏‏.‏

واختلفوا في المَعْنِىِّ بهذه الآية‏:‏ فذهب قوم إلى أن الله تعالى أخذ الميثاق على النبيين خاصة أن يُبلِّغوا كتاب الله ورسالاته إلى عباده، وأن يُصدِّق بعضهم بعضًا وأخذ العهد على كل نبي أن يؤمن بمن يأتي بعده من الأنبياء وينصره إن أدركه، وإن لم يدركه أن يأمرَ قومَه بنصرته إن أدركوه، فأخذ الميثاق من موسى أن يؤمن بعيسى، ومن عيسى أن يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ بما أخذ الله الميثاق منهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فعلى هذا اختلفوا‏:‏ منهم من قال‏:‏ إنما أخذ الميثاق على أهل الكتاب الذين أرسَل منهم النبيين، وهذا قول مجاهد والربيع، ألا ترى إلى قوله ‏{‏ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ‏}‏ وإنما كان محمد صلى الله عليه وسلم مبعوثًا إلى أهل الكتاب دون النبيين يدل عليه أن في قراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ وأما القراءة المعروفة ‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللَّه مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ‏}‏ فأراد‏:‏ أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويُصدِّقوه وينصروه إن أدركوه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أراد أخذ الله الميثاق على النبيين، وأممهم جميعا في أمر محمد صلى الله عليه وسلم فاكتفى بذكر الأنبياء لأن العهد مع المتبوع عهد على الأتباع، وهذا معنى قول ابن عباس، وقال علي بن أبي طالب‏:‏ لم يبعث الله نبيا آدم ومن بعده إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد، وأخذ العهد على قومه ليؤمِنُنَّ به ولئن بُعث وهم أحياء لينصرنه‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ محمدا صلى الله عليه وسلم، ‏{‏لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ‏}‏ يقول الله تعالى للأنبياء حين استخرج الذرية من صلب آدم عليه السلام، والأنبياء فيهم كالمصابيح والسرج، وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي‏}‏ أي‏:‏ قبلتم على ذلكم عهدي، والإصر‏:‏ العهد الثقيل، ‏{‏قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ‏}‏ الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاشْهَدُوا‏}‏ أي‏:‏ فاشهدوا أنتم على أنفسكم وعلى أتباعكم، ‏{‏وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ‏}‏ عليكم وعليهم، وقال ابن عباس‏:‏ فاشهدوا، أي‏:‏ فاعلموا، وقال سعيد بن المسيب قال الله تعالى للملائكة فاشهدوا عليهم كنايةً عن غير مذكور‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏82‏]‏

‏{‏فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏82‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ‏}‏ الإقرار، ‏{‏فَأُولَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ‏}‏ العاصون الخارجون عن الإيمان‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏83- 90‏]‏

‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ‏(‏83‏)‏ ‏{‏قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ‏(‏84‏)‏ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏85‏)‏ كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏86‏)‏ أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ‏(‏87‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ ‏(‏88‏)‏ إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏89‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ ‏(‏90‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ‏}‏ وذلك أن أهل الكتاب اختلفوا فادّعى كل واحد أنه على دين إبراهيم عليه السلام واختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كلا الفريقين بريء من دين إبراهيم عليه السلام‏"‏ فغضبوا وقالوا‏:‏ لا نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ‏}‏ قرأ أبو جعفر وأهل البصرة وحفص عن عاصم ‏{‏يَبْغُون‏}‏ بالياء لقوله تعالى ‏{‏وَأُولَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ‏}‏ وقرأ الآخرون بالتاء لقوله تعالى ‏{‏لَمَا آتَيْتُكُمْ‏}‏، ‏{‏وَلَه أَسْلَمَ‏}‏ خضع وانقاد، ‏{‏مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ فالطوع‏:‏ الانقياد والاتباع بسهولة، والكره‏:‏ ما كان بمشقة وإباءٍ من النفس‏.‏

واختلفوا في قوله ‏{‏طَوْعًا وَكَرْهًا‏}‏ قال الحسن‏:‏ أسلم أهل السموات طوعا وأسلم من في الأرض بعضهم طوعا وبعضهم كرها، خوفا من السيف والسبي، وقال مجاهد‏:‏ طوعا المؤمن، وكرها ذلك الكافر، بدليل‏:‏ ‏"‏ ولله يسجد من في السموات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال ‏"‏ الرعد- 15‏)‏ وقيل‏:‏ هذا يوم الميثاق حين قال لهم‏:‏ ‏"‏ ألست بربكم قالوا بلى ‏"‏ الأعراف- 172‏)‏ فقال بعضهم‏:‏ طوعا وبعضهم‏:‏ كرها، وقال قتادة‏:‏ المؤمن أسلم طوعا فنفعه، والكافر أسلم كرها في وقت البأس فلم ينفعه، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فلم يك ينفعُهم إيمانُهم لمّا رأوا بأسنا ‏"‏ غافر- 85‏)‏ وقال الشعبي‏:‏ هو استعاذتهم به عند اضطرارهم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فإذا ركِبُوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدِّين ‏"‏ العنكبوت- 65‏)‏‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ طوعا الذي ‏{‏ولد‏}‏ في الإسلام، وكرها الذين أجبروا على الإسلام ممن يُسبى منهم فيجاء بهم في السلاسل، ‏{‏وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ‏}‏ قرأ بالياء حفص عن عاصم ويعقوب كما قرأ ‏{‏يَبْغُونَ‏}‏ بالياء وقرأ الباقون بالتاء فيهما إلا أبا عمرو فإنه قرأ ‏{‏يَبْغُونَ‏}‏ بالياء و ‏{‏تُرْجَعُونَ‏}‏ بالتاء، وقال‏:‏ لأن الأول خاص والثاني عام، لأن مرجع جميع الخلق إلى الله عز وجل‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّق بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْن لَه مُسْلِمُونَ‏}‏ ذكر الملل والأديان واضطراب الناس فيها، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول‏:‏ ‏{‏آمَنَّا بِاللَّهِ‏}‏ الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏ نزلت في اثني عشر رجلا ارتدُّوا عن الإسلام وخرجوا من المدينة وأتوا مكة كفارا، منهم الحارث بن سويد الأنصاري، فنزلت فيهم ‏{‏وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْه وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏كَيْفَ يَهْدِي اللَّه قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ‏}‏ لفظة استفهام ومعناه جحد، أي‏:‏ لا يهدي الله، وقيل معناه‏:‏ كيف يهديهم الله في الآخرة إلى الجنة والثواب ‏{‏وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُم الْبَيِّنَات وَاللَّه لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّف عَنْهُم الْعَذَاب وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ‏}‏ وذلك‏:‏ أن الحارث بن سويد لما لحق بالكفار ندم، فأرسل إلى قومه‏:‏ أن سلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل لي من توبة‏؟‏ ففعلوا ذلك فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ لما كان منه، فحملها إليه رجل من قومه وقرأها عليه فقال الحارث‏:‏ إنك- والله- ما علمت لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك وإن الله عز وجل لأصدق الثلاثة، فرجع الحارث إلى المدينة وأسلم وحسن إسلامه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا‏}‏ قال قتادة والحسن‏:‏ نزلت في اليهود كفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم، ثم ازدادوا كفرا بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ نزلت في اليهود والنصارى كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم ثم ازدادوا كفرا يعني‏:‏ ذنوبا في حال كفرهم‏.‏

قال مجاهد‏:‏ نزلت في جميع الكفار أشركوا بعد إقرارهم بأن الله خالقهم، ثم ازدادُوا كفرا أي‏:‏ أقاموا على كفرهم حتى هلكوا عليه‏.‏

قال الحسن‏:‏ ازدادوا كفرًا كلما نزلت آية كفروا بها، فازدادوا كفرًا وقيل‏:‏ ازدادوا كفرًا بقولهم‏:‏ نتربص بمحمد ريبَ المنون‏.‏

قال الكلبي‏:‏ نزلت في الأحد عشر من أصحاب الحارث بن سويد، لما رجع الحارث إلى الإسلام أقاموا هم على الكفر بمكة وقالوا‏:‏ نقيم على الكفر ما بدا لنا فمتى أردنا الرجعة ينزل فينا ما نزل في الحارث، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فمن دخل منهم في الإسلام قُبلت توبتهُ ونزل فيمن مات منهم كافرا‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ‏}‏ الآية‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد وعد الله قبول توبة من تاب، فما معنى قوله‏:‏ ‏{‏لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُم الضَّالُّونَ‏}‏ قيل‏:‏ لن تُقبل توبتُهم إذا رجعوا في حال المعاينة كما قال‏:‏ ‏"‏ وليستِ التوبةُ للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموتُ قال إني تبت الآن ‏"‏ سورة النساء الآية ‏(‏18‏)‏‏.‏

وقيل هذا في أصحاب الحارث بن سويد حيث أمسكوا عن الإسلام، وقالوا‏:‏ نتربص بمحمد فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه، لن يقبل منهم ذلك لأنهم متربصون غير محققين، وأولئك هم الضالون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ‏(‏91‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْء الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها، ‏{‏ذَهَبًا‏}‏ نصب على التفسير، كقولهم‏:‏ عشرون درهمًا‏.‏ ‏{‏وَلَوِ افْتَدَى بِهِ‏}‏ قيل‏:‏ معناه لو افتدى به، والواو زائدة مقحمة، ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن بشار، أخبرنا غندر، أخبرنا شعبة، عن أبي عمران قال‏:‏ سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يقول الله لأهونِ أهل النار عذابا يوم القيامة‏:‏ لو أنّ لك ما في الأرض من شيء أكنتَ تفدي به‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم فيقول‏:‏ أردتُ منك أهونَ من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ‏(‏92‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ‏}‏ يعني‏:‏ الجنة، قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد، وقال مقاتل بن حيان‏:‏ التقوى، وقيل‏:‏ الطاعة، وقيل‏:‏ الخير، وقال الحسن‏:‏ أن تكونوا أبرارًا‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن حماد قال‏:‏ أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البِرَّ وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزالُ الرجلُ يصدقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتَبَ عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزالُ الرجلُ يكذبُ ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتبَ عند الله كذابا‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ أي‏:‏ من أحبِّ أموالكم إليكم، روى الضحاك عن ابن عباس‏:‏ أن المراد منه أداء الزكاة‏.‏

وقال مجاهد والكلبي‏:‏ هذه الآية نسختها آية الزكاة، وقال الحسن‏:‏ كل إنفاق يبتغي به المسلم وجه الله حتى الثمرة ينال به هذا البِّر وقال عطاء‏:‏ لن تنالوا البِّر أي‏:‏ شرف الدين والتقوى حتى تتصدقُوا وأنتم أصحاء أشحاء‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول ‏"‏كان أبو طلحة الأنصاري أكثر أنصاريّ بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بِيْرُحَاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّبٍ، قال أنس‏:‏ فلما نزلت هذه الآية ‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ وإن أحب أموالي إلي بيرُحاء وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذُخَرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ بخٍ بخٍ ذلك مالٌ رابح‏.‏ أو قال‏:‏ ذلك مال رابح وقد سمعتُ ما قلتَ فيها وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة أفعلُ يا رسول الله فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه‏"‏‏.‏

وروي عن مجاهد قال‏:‏ كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فُتحتْ فدعا بها فأعجبته، فقال‏:‏ إن الله عز وجل يقول‏:‏ ‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ فأعتقها عمر‏.‏

وعن حمزة بن عبد الله بن عمر قال‏:‏ خطرت على قلب عبد الله بن عمر هذه الآية ‏{‏لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ‏}‏ قال ابن عمر‏:‏ فذكرتُ ما أعطاني الله عز وجل، فما كان شيء أعجب إليّ من فلانة، هي حرة لوجه الله تعالى، قال‏:‏ لولا أنني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها‏.‏

‏{‏وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ يعلمه ويجازي به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏93- 94‏]‏

‏{‏كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏93‏)‏ فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏94‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ‏}‏ سبب نزول هذه الآية‏:‏ أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ تزعم أنك على ملة إبراهيم‏؟‏ وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها، فلست على ملته‏!‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كان ذلك حلالا لإبراهيم عليه السلام‏"‏ فقالوا‏:‏ كلُّ ما نحرمه اليوم كان ذلك حرامًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية ‏{‏كُلّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ يريد‏:‏ سِوَى الميتة والدم، فإنه لم يكن حلالا قط‏.‏

‏{‏إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسِهِ‏}‏ وهو يعقوب عليه السلام ‏{‏مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ‏}‏ يعني‏:‏ ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم، بل كان الكلُّ حلالا له ولبني إسرائيل، وإنما حرّمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة، يعني‏:‏ ليست في التوراة حرمتُها‏.‏

واختلفوا في الطعام الذي حرّمه يعقوب على نفسه وفي سببه، قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبي‏:‏ كان ذلك الطعام‏:‏ لحمان الإبل وألبانها، وروي أن يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سُقْمُه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليُحرِّمَنِّ أحبَّ الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها فحرّمهما‏.‏

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك‏:‏ هي العروق‏.‏

وكان السبب في ذلك أنه اشتكى عرق النَّسا وكان أصل وجعه فيما روى جُويبر ومقاتل عن الضحاك‏:‏ أن يعقوب كان نذر إن وهبه الله اثنى عشر ولدًا وأتى بيت المقدس صحيحًا أن يذبح آخرهم فتلقاه مَلك من الملائكة فقال‏:‏ يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع، فعالجه فلم يصرعْ واحدٌ منهما صاحبَه فغمزه المَلك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك، ثم قال له‏:‏ أمَا إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحًا ذبحت آخر ولدك، فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجًا، فلما قدمها يعقوب أراد ذبح ولده ونسي قول الملَكِ فأتاه الملَكُ وقال‏:‏ إنما غمزتك للمخرج وقد وُفي نذرُك فلا سبيل لك إلى ولدك‏.‏

وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي‏:‏ أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو‏:‏ وكان رجلا بطيشًا قويًا فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب، ثم صعد إلى السماء ويعقوب عليه السلام ينظر إليه، فهاج به عرق النسا ولقي من ذلك بلاءً وشدةً وكان لا ينام بالليل من الوجع، ويبيت وله زقاء، أي‏:‏ صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقًا ولا طعاما فيه عرق، فحرمه على نفسه، فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق يخرجونها من اللحم‏.‏

وروى جُويبر عن الضحاك عن ابن عباس‏:‏ لمّا أصاب يعقوب عرق النس وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل فحرمها يعقوب على نفسه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ حرّم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدًا لله تعالى‏:‏ فسأل ربَّه أن يجيز له ذلك فحرمه الله على ولده‏.‏

ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة، وقال السدي‏:‏ حرّم الله عليهم في التوراة ما كانوا يحرمونه قبل نزولها، وقال عطية‏:‏ إنما كان محرّمًا عليهم بتحريم إسرائيل فإنه كان قد قال‏:‏ لئن عافاني الله لا يأكله لي ولدٌ، ولم يكن محرّمًا عليهم في التوراة، وقال الكلبي‏:‏ لم يحرمه الله ‏{‏عليهم‏}‏ في التوراة وإنما حُرم عليهم بعد التوراة بظلمهم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فبظلمٍ من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أُحلّت لهم ‏"‏ سورة النساء الآية 160‏)‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏"‏ ذلك جزيناهم ببغيهم وإنّا لصادقون ‏"‏ سورة الأنعام الآية ‏(‏146‏)‏ وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبًا عظيمًا حرّم الله عليهم طعامًا طيبًا أو صبّ عليهم رِجْزًا وهو الموت‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ لم يكن شيء من ذلك حرامًا عليهم ولا حرمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم اتّباعًا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله، فكذّبهم الله عز وجل فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا‏}‏ حتى يتبين أنه كما قلتم، ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ فلم يأتوا‏.‏ فقال الله عز وجل‏:‏

فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون

تفسير الآيات رقم ‏[‏95- 98‏]‏

‏{‏قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏95‏)‏ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ‏(‏96‏)‏ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ‏(‏97‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ‏(‏98‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ صَدَقَ اللَّه فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ وإنما دعاهم إلى اتباع ملة إبراهيم لأن في اتباع ملة إبراهيم اتباعه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا‏}‏ سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين‏:‏ بيت المقدس قبلتنا، وهو أفضل من الكعبة وأقدم، وهو مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَام إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَه كَانَ آمِنًا‏}‏ وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس‏.‏

واختلف العلماء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ‏}‏ فقال بعضهم‏:‏ هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكانت زَبْدَةٌ بيضاءَ على الماء فدُحيت الأرض من تحته، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هو أول بيت بني في الأرض، رُوي عن علي بن الحسين‏:‏ أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتًا وهو البيت المعمور، وأمر الملائكة أن يطوفوا به، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتا على مثاله وقدره، فبنوا واسمه الضراح، وأمر مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور‏.‏

ورُوي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام، وكانوا يحجونه، فلما حجه آدم، قالت الملائكة‏:‏ بر حجك يا آدم حججنا هذا البيت قبلك بألف عام، ويرُوى عن ابن عباس أنه قال‏:‏ أراد به أنه أول بيت بناه آدم في الأرض، وقيل‏:‏ هو أول بيت مبارك وضع في الأرض هدىً للناس، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب، قال الضحاك‏:‏ أول بيت وُضع فيه البركة وقيل‏:‏ أول بيت وضع للناس يُحجُّ إليه‏.‏ وقيل‏:‏ أول بيت جعل قبلة للناس‏.‏ وقال الحسن والكلبي‏:‏ معناه‏:‏ أول مسجد ومتعَبِّدٍ وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏في بيوت أذن الله أن ترفع‏}‏ يعني المساجد‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا عبد الواحد، أنا الأعمش، أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، قال سمعت أبا ذر يقول‏:‏ قلت يا رسول الله أيُّ مسجد وُضع في الأرض أولا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏المسجد الحرام، قلت ثم أي‏؟‏ قال‏:‏ المسجد الأقصى قلت‏:‏ كم كان بينهما‏؟‏ قال‏:‏ أربعون سنة، ثم أينما أدركتْكَ الصلاة بعدُ فصلِّ فإن الفضل فيه‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَلَّذِي بِبَكَّةَ‏}‏ قال جماعة‏:‏ هي مكة نفسها، وهو قول الضحاك، والعرب تعاقبت بين الباء والميم، فتقول‏:‏ سَبَّدَ رأسه وسمَّده وضربة لازبٍ ولازم، وقال الآخرون‏:‏ بكة موضع البيت ومكة اسم البلد كله‏.‏

وقيل‏:‏ بكة موضع البيت والمطاف، سميت بكة‏:‏ لأن الناس يتباكون فيها، أي يزدحمون يبك بعضُهم بعضًا، ويصلي بعضهم بين يدي بعض ويمر بعضهم بين يدي بعض‏.‏

وقال عبد الله بن الزبير‏:‏ سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله‏.‏

وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها من قول العرب‏:‏ مَكَّ الفصيل ضرْعَ أمه وأمتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بها‏.‏

‏{‏مُبَارَكًا‏}‏ نصب على الحال أي‏:‏ ذا بركة ‏{‏وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ‏}‏ لأنه قبلة المؤمنين ‏{‏فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ‏}‏ قرأ ابن عباس ‏{‏آيَةٍ بَيِّنَةٍ‏}‏ على الواحدان، وأراد مقام إبراهيم وحده، وقرأ الآخرون ‏{‏آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ‏}‏ بالجمع فذكر منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، ومن تلك الآيات‏:‏ الحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها، وقيل‏:‏ مقام إبراهيم جميع الحرم، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه، وأن الجارحة إذا قصدت صيدًا فإذا دخل الصيدُ الحرم كفَّتْ عنه، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار، وإن الطاعة والصدقة فيها تُضاعف بمائة ألف‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، أنا مالك بن أنس عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله الأغرّ عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ دَخَلَه كَانَ آمِنًا‏}‏ أن يحاج فيه، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال‏:‏ رب اجعلْ هذا بلدًا آمنا، وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة، وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ أولَمْ يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا ويُتخطّف الناسُ من حولهم ‏"‏ سورة العنكبوت الآية 67‏)‏ وقيل‏:‏ المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمنًا، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏ لتدخُلنَّ المسجدَ الحرام إن شاء الله آمنين ‏"‏ سورة الفتح الآية 27‏)‏ وقيل‏:‏ هو خبر بمعنى الأمر تقديره‏:‏ ومن دخله فأمنُّوه، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدال في الحج ‏"‏ البقرة- 197‏)‏ أي‏:‏ لا ترفثوا ولا تفسقوا، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصًا أو حدًا فالْتجأ إلى الحرم فلا يُستوفَى منه فيه، ولكنه لا يُطعم ولا يُبايع ولا يُشاري حتى يخرج منه فيقتل، قاله ابن عباس، وبه قال أبو حنيفة، وذهب قوم إلى أن القتل الواجب بالشرع يُستوفى فيه أما إذا ارتكب الجريمة في الحرم يستوفى فيه عقوبته بالاتفاق‏.‏

وقيل‏:‏ معناه ومن دخله معظّمًا له متقربًا إلى الله عز وجل كان آمنًا يوم القيامة من العذاب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ ولله فرضٌ واجبٌ على الناس حجُّ البيت، قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص ‏{‏حِجّ الْبَيْتِ‏}‏ بكسر الحاء في هذا الحرف خاصةً، وقرأ الآخرون بفتح الحاء، وهي لغة أهل الحجاز، وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد‏.‏

والحج أحد أركان الإسلام، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن موسى، أنا حنظلة بن أبي سفيان، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله، وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة والحج وصوم رمضان‏.‏

قال أهل العلم‏:‏ ولِوُجوب الحج خمسُ شرائط‏:‏ الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة، فلا يجب على الكافر ولا على المجنون، ولو حجا بأنفسهما لا يصح لأن الكافر ليس من أهل القربة ولا حكم لفعل المجنون، ولا يجب على الصبي ولا على العبد، ولو حج صبي يعقل، أو عبد يصح حجهما تطوعًا لا يسقط به فرض الإسلام عنهما فلو بلغ الصبي، أو عُتق العبد بعدما حج واجتمع في حقه شرائط وجوب الحج وجب عليه أن يحج ثانيًا، ولا يجب على غير المستطيع، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا‏}‏ غير أنه لو تكلف فحج يسقط عنه فرض الإسلام‏.‏

والاستطاعة نوعان، أحدهما‏:‏ أن يكون مستطيعًا بنفسه والآخر‏:‏ أن يكون مستطيعًا بغيره، أما الاستطاعة بنفسه أن يكون قادرًا بنفسه على الذهاب ووَجَد الزادَ والراحلة، أخبرنا عبد الواحد بن محمد الكسائي الخطيب، ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، ثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سعيد بن سالم، عن إبراهيم بن يزيد، عن محمد بن عباد بن جعفر، قال‏:‏ قعدنا إلى عبد الله بن عمر فسمعته يقول‏:‏ سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما الحاج‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الشعث التفل‏"‏ فقام رجل آخر فقال‏:‏ يا رسول الله‏:‏ أي الحج أفضل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏العجُّ والثج‏"‏ فقام رجل آخر فقال‏:‏ يا رسول الله ما السبيل‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏زاد وراحلة‏"‏‏.‏

وتفصيله‏:‏ أن يجدَ راحلةً تصلح لمثله، ووجدَ الزادَ للذهاب والرجوع، فاضلا عن نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم وكسوتهم لذهابه ورجوعه، وعن دَيْن يكون عليه، ووجد رفقة يخرجُون في وقت جرت عادة أهل بلده بالخروج في ذلك الوقت، فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلا أن يقطعوا كل يوم أكثر من مرحلة لا يلزمهم الخروج في ذلك الوقت ويشترط أن يكون الطريق آمنًا فإن كان فيه خوف من عدوٍ مسلمٍ أو كافرٍ أو رَصديّ يطلب شيئا لا يلزمه، ويُشترط أن تكون المنازل المأهولة معمورة يجد فيها الزاد والماء، فإن كانَ زمان جُدوبةٍ تفرّق أهلها أو غارتْ مياهها فلا يلزمه، ولو لم يجد الراحلة لكنه قادر على المشي، أو لم يجد الزاد ولكن يمكنه أن يكتسب في الطريق لا يلزمه الحج، ويستحب لو فعل، وعند مالك يلزمه‏.‏

أما الاستطاعة بالغير هو‏:‏ أن يكون الرجل عاجزًا بنفسه، بأن كان زَمِنًا أو به مرض غير مرجو الزوال، لكن له مال يمكنَّه أن يستأجر من يحج عنه، يجب عليه أن يستأجر، أو لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه أو أجنبيّ الطاعةَ في أن يحج عنه، يلزمه أن يأمره إذا كان يعتمدُ صِدقَه، لأن وجوب الحج يتعلق بالاستطاعة، ويقال في العرف‏:‏ فلان مستطيع لبناء دار وإن كان لا يفعله بنفسه، وإنما يفعله بماله أو بأعوانه‏.‏

وعند أبي حنيفة لا يجب الحج ببذل الطاعة، وعند مالك لا يجب على المعضوب في المال‏.‏

وحُجّةُ من أوجبه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال‏:‏ كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خَثْعَم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت‏:‏ يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال ابن عباس والحسن وعطاء‏:‏ جَحَدَ فَرْضَ الحج، وقال مجاهد‏:‏ من كفر بالله واليوم الآخر‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ نزلت في اليهود حيث قالوا‏:‏ الحج إلى مكة غير واجب‏.‏

وقال السدي‏:‏ هو من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفرٌ به أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو الحسن الكَلَمَاتي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر، أخبرنا سهل بن عمار، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا شريك، عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من لم تَحْبسْه حاجةٌ ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر، ولم يحجَّ فليمتْ إنْ شاء يهوديا وإنْ شاء نصرانيًا‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏99‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏99‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل يا أهل الكتاب لما تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لم تصرفون عن دين الله، ‏{‏مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا‏}‏ تطلبونها، ‏{‏عِوَجًا‏}‏ زيغًا وميلا يعني‏:‏ لم تصدون عن سبيل الله باغين لها عوجًا‏؟‏ قال أبو عبيدة‏:‏ العِوج- بالكسر- في الدينِ والقولِ والعملِ والعَوَجُ- بالفتح- في الجدار، وكل شخص قائم، ‏{‏وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّه بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ أن في التوراة مكتوبًا نعت محمد صلى الله عليه وسلم وإن دين الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ ‏(‏100‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ قال زيد بن أسلم‏:‏ إن شاسَ بن قيس اليهودي- وكان شيخا عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين- مرَّ على نفر من الأوس والخزرج في مجلس جمعهم يتحدثون، فغاظه ما رأى من ألفتهم وصلاح ذات بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة، قال‏:‏ قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معه فقال‏:‏ اعمد إليهم واجلس معهم ثم ذكرهم يومَ بُعاثٍ وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بُعاث يومًا اقتتلت فيه الأوس مع الخزرجِ وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج، ففعل وتكلم فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيّين على الرُّكَب، أوسَ بن قبطي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فتقاولا ثم قال أحدهِما لصاحبه‏:‏ إن شئتم والله رددتها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعا وقالا قد فعلنا السلاحَ السلاحَ موعدكم الظاهرة، وهي حرة فخرجوا إليها، وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين حتى جاءهم‏.‏ فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية، وألف بينكم‏؟‏ ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا، الله الله ‏!‏‏!‏ فعرف القوم أنها نزغُة من الشيطان وكيدٌ من عدوهم فألقوا السلاح من أيديهم وبكوا وعانق بعضهم بعضا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية‏.‏

‏{‏يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ‏}‏ قال جابر‏:‏ فما رأيت قط يومًا أقبح أولا وأحسن آخرًا من ذلك اليوم، ثم قال الله تعالى على وجه التعجب‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ ولِمَ تكفرون‏؟‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَات اللَّهِ‏}‏ القرآن، ‏{‏وَفِيكُمْ رَسُولُهُ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال قتادة في هذه الآية علمان بيِّنان‏:‏ كتابُ الله ونبيُّ الله أما نبيُّ الله فقد مضَى وأمّا كتاب الله فأبقاه بين أظهركم رحمةً من الله ونعمة‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أنا أبو الفضل الحسن بن يعقوب بن يوسف العدل، أخبرنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب العبدي أنا أبو جعفر بن عوف أخبرنا أبو حيان يحيى بن سعيد بن حبان عن يزيد بن حيان قال‏:‏ سمعت زيد بن أرقم قال‏:‏ ‏"‏قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال‏:‏ أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يُوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيبه، وإني تارك فيكم الثقلين أولهما‏:‏ كتابُ الله فيه الهدى والنور، فتمسكوا بكتاب الله وخذوا به فحثّ عليه ورغّب فيه ثم قال‏:‏ وأهلُ بيتيّ أُذكِّرُكُمُ الله في أهل بيتي‏.‏

قوله تعالى ‏{‏وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يمتنع بالله ويستمسك بدينه وطاعته، ‏{‏فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ طريقا واضح، وقال ابن جريج ومن يعتصم بالله أي‏:‏ يُؤمن بالله، وأصل العصمة‏:‏ المنع، فكل مانع شيئا فهو عاصم له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ‏(‏102‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ كان بين الأوس والخزرج عداوة في الجاهلية وقتال حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأصلح بينهم فافتخر بعده منهم رجلان‏:‏ ثعلبة بن غنم من الأوس وأسعد بن زرارة من الخزرج، فقال الأوسي‏:‏ منّا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة، ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حميُّ الدبر، ومنّا سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن ورضي الله بحكمه في بني قريظة‏.‏

وقال الخزرجي‏:‏ منّا أربعة أحكموا القرآن‏:‏ أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم، فجرى الحديث بينهما فغضبا وأنشدا الأشعار وتفاخرا، فجاء الأوس والخزرج ومعهم السلاح فأتاهم النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ‏}‏‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود وابن عباس‏:‏ هو أن يُطَاع فلا يُعصى، قال مجاهد‏:‏ أن تُجاهدوا في سبيل الله حق جهاده ولا تأخذكم في الله لَوْمَةُ لائمٍ وتقوموا لله بالقسط ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم‏.‏ وعن أنس أنه قال‏:‏ لا يتقي الله عبد حقَّ تقاته حتى يخزن لسانه‏.‏

قال أهل التفسير‏:‏ فلما نزلت هذه الآية شقَّ ذلك عليهم، فقالوا‏:‏ يا رسول الله ومَنْ يقْوى على هذا‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فاتقوا الله ما استطعتم ‏"‏ التغابن 16‏)‏ فنسخت هذه الآية وقال مقاتل‏:‏ ليس في آل عمران من المنسوخ إلا هذا‏.‏‏.‏

‏{‏وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ مؤمنون، وقيل مخلصون مفوضون أموركم إلى الله عز وجل وقال الفضيل‏:‏ مُحسنون الظّنَّ بالله‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو بكر العبدوسي، أخبرنا أبو بكر بن محمد بن حمدون بن خالد بن يزيد، أخبرنا سليمان بن سيف، أخبرنا وهب بن جرير، أنا شعبة، عن الأعمش، عن مجاهد عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس اتقوا الله حقَّ تقاته فلو أن قطرةً من الزقوم قُطرتْ على الأرض لأمرَّتْ على أهل الدنيا معيشتَهم، فكيف بمن هو طعامه وليس له طعام غيره‏"‏‏؟‏