فصل: تفسير الآية رقم (59)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا ‏(‏59‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ اختلفوا في ‏{‏أُولِي الأمْرِ‏}‏ قال ابن عباس وجابر رضي الله عنهم‏:‏ هم الفقهاء والعلماء الذين يعلِّمون الناس معالِمَ دينهم، وهو قول الحسن والضحاك ومجاهد، ودليله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولو رَدُّوُه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطٌونَهُ منهم‏"‏ النساء- 83‏)‏‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ هم الأمراء والولاة‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق علي الرعية أن يسمعوا ويطيعوا‏.‏

أخبرنا أبو علي حسان بن سعد المنيعي، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان، أنا أحمد بن يوسف السلمي، أنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن همام بن منبه أنا أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل أنا مسدد، أنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله حدثني، نافع، عن عبد الله رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏السمعُ والطاعةُ على المرءِ المسلم فيما أحبَّ وكَرِه، ما لم يُؤْمرْ بمعصية، فإذا أُمِرَ بمعصية فلا سمع ولا طاعة‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن محمد الدراوردي أنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك بن أنس، عن يحيى بن سعيد، أخبرنا عبادة بن الوليد بن عبادة أن أباه أخبره عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ ‏"‏بايعنا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمعِ والطاعةِ في اليُسرِ والعُسرِ والمَنْشَطِ والمَكْرِه، وعلى أَثَرٍة علينا وعلى أنْ لا نُنَازِعَ الأمر أهله، وعلى أن نقول بالحق أينما كُنّا لا نخاف في الله لَوْمَةَ لائمٍ‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبيد الله بن أحمد القفال، أنا أبو منصور أحمد بن الفضل البروجردي، أنا أبو بكر بن محمد بن همدان الصيرفي، أنا محمد بن يوسف الكديمي، قال أخبرنا أبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي التياح، عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر‏:‏ ‏"‏اسمع وأطع ولو لعبدٍ حبشي كأن رأسه زبيبة‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا أبو العباس، أنا محمد بن أحمد المحبوبي، أنا أبو عيسى الترمذي، أنا موسى بن عبد الرحمن الكندي، أنا زيد بن الحباب، أنا معاوية بن صالح، حدثني سليم بن عامر، قال‏:‏ سمعت أبا أُمامة رضي الله عنه يقول‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حَجّةِ الوَدَاع فقال‏:‏ ‏"‏اتُقوا الله وصَلُّوا خمسكم وصُومُوا شهرَكم وأدوا زكاةَ أموالِكُم وأطيعوا ذا أمركم تدخلوُا جنّة ربِّكُم‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ المراد أمراء السرايا، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا صدقة بن الفضل، أنا حجاج بن محمد، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ‏}‏ قال‏:‏ نزلتْ في عبيد الله بن حُذافة بن قيس بن عدي إذْ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ أراد بأولي الأمر أبا بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏ حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التيمي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم، أخبرنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي، أنا عمرو بن أبي عرزة بالكوفة، أخبرنا ثابت بن موسى العابد، عن سفيان بن عُيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي، عن حذيفة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقْتَدُوا باللّذين من بعدي أبي بكرٍ وعمر‏"‏، رضي الله عنهما‏.‏

وقال عطاء‏:‏ هم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان بدليل قوله تعالى ‏{‏والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار‏}‏ الآية‏.‏ أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمود، أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله الخلال، أنا عبد الله بن المبارك، عن إسماعيل المكي، عن الحسن، عن أنس بن مالك رضي الله عنهم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثلُ أصحابي في أمتي كالملحِ في الطعامِ لا يَصْلَح الطعامُ إلا بالملح‏"‏ قال‏:‏ قال الحسن‏:‏ قد ذهب ملحنا فكيف نصلح‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ اختلفتم، ‏{‏فِي شَيْءٍ‏}‏ من أمر دينكم، والتنازع، اختلاف الآراء وأصله من النزع فكأنّ المتنازعين يتجاذبان ويتمانعان، ‏{‏فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُول‏}‏ أي‏:‏ إلى كتاب الله وإلى رسوله ما دام حيا وبعد وفاته إلى سُنّته، والرُّد إلى الكتاب والسنة واجبٌ إن وُجد فيهما، فإن لم يُوجد فسبيله الاجتهاد‏.‏ وقيل‏:‏ الرُّد إلى الله تعالى والرسول أن يقول لِمَا لا يعلم‏:‏ الله ورسولُه أعلم‏.‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ الرُّد إلى الله والرسول، ‏{‏خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا‏}‏ أي‏:‏ أحسنُ مآلا وعاقبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا ‏(‏60‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ‏}‏ الآية قال الشعبي‏:‏ كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة فقال اليهودي‏:‏ نتحاكم إلى محمد، لأنه عرف أنه لا يأخذ الرّشوة ولا يميل في الحكم، وقال المنافق‏:‏ نتحاكم إلى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ويميلون في الحكم، فاتفقَا على أن يأتيَا كاهنًا في جُهينة فيتحاكما إليه، فنزلت هذه الآية‏.‏

قال جابر‏:‏ كانت الطواغيت التي يتحاكمون إليها واحد في جُهينة وواحد في أسلم، وفي كل حي كهان‏.‏

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس‏:‏ نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر، كان بينه وبين يهودي خصومة فقال اليهودي‏:‏ ننطلق إلى محمد، وقال المنافق‏:‏ بل إلى كعب بن الأشرف، وهو الذي سماه الله الطاغوت، فأبى اليهودي أن يخاصمه إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المنافق ذلك أتى معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق، وقال‏:‏ انطلق بنا إلى عمر رضي الله عنه، فأتيا عمر، فقال اليهودي‏:‏ اختصمتُ أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك، فقال عمر رضي الله عنه للمنافق‏:‏ أكذلك‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال لهما رويدكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر البيت وأخذ السيف واشتمل عليه ثم خرج فضرب به المنافق حتى برد، وقال‏:‏ هكذا أقضي بين من لم يرضَ بقضاء الله وقضاء رسوله‏.‏ فنزلت هذه الآية‏.‏ وقال جبريل‏:‏ إن عمر رضي الله عنه فرّق بين الحق والباطل، فسُمي الفاروق‏.‏

وقال السدي‏:‏ كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضُهم وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل رجل من بني قريظة رجلا من بني النضير قتل به أو أخذ ديته مائة وسق من تمر، وإذا قتل رجلُ من بني النضير رجلا من قريظة لم يقتل به وأعطى ديته ستين وسقًا، وكانت النضير وهم حلفاء الأوس أشرف وأكثر من قريظة وهم حلفاء الخزرج، فلما جاء الله بالإسلام وهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فاختصموا في ذلك، فقالت بنو النضير‏:‏ كنّا وأنتم قد اصطلحنا على أن نقتل منكم ولا تقتلون منّا، وديتُكم ستون وسْقًا وديتُنَا مائة وسْق، فنحن نعطيكم ذلك، فقالت الخزرج‏:‏ هذا شيء كنتم فعلتموه في الجاهلية لكثرتكم وقِلَّتِنا فقهرتُمونا، ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا ودينكم واحد فلا فضل لكم علينا، فقال المنافقون منهم‏:‏ انطلقوا إلى أبي بردة الكاهن الأسلمي، وقال المسلمون من الفريقين‏:‏ لا بلْ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبى المنافقون وانطلقوا إلى أبي بردة ليحكم بينهم، فقال‏:‏ أعظموا اللقمة، يعني الحظ، فقالوا‏:‏ لك عشرة أوسق، قال‏:‏ لا بل مائة وسق ديتي، فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل الله تعالى آية القصاص، وهذه الآية‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ‏}‏ يعني الكاهن أو كعب بن الأشرف، ‏{‏وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 62‏]‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا ‏(‏61‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ‏(‏62‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا‏}‏ أي‏:‏ يُعرضون عنك إعراضا‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ‏}‏ هذا وعيد، أي‏:‏ فكيف يصنعون إذا أصابتهم مصيبة، ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ عقوبةَ صدودِهم، وقيل‏:‏ هي كل مُصيبة تُصيب جميع المنافقين في الدنيا والآخرة، وتم الكلام هاهنا، ثم عاد الكلام إلى ما سبق، يُخبر عن فعلهم فقال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ جَاؤُوكَ‏}‏ يعني‏:‏ يتحاكمون إلى الطاغوت، ‏{‏ثُمَّ جَاءُوكَ‏}‏ يحيونك ويحلفون‏.‏

وقيل‏:‏ أراد بالمصيبة قتل عمر رضي الله عنه المنافق، ثم جاؤوا يطلبون ديته، ‏{‏يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا‏}‏ ما أردنا بالعدُول عنه في المحاكمة أو بالترافع إلى عمر، ‏{‏إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا‏}‏ قال الكلبي‏:‏ إلا إحسانًا في القول، وتوفيقًا‏:‏ صوابًا، وقال ابن كيسان‏:‏ حقًا وعدلا نظيره‏:‏ ‏"‏ليَحْلِفُنّ إن أردنا إلا الحسنىَ‏"‏، وقيل‏:‏ هو إحسان بعضهم إلى بعض، وقيل‏:‏ هو تقريب الأمر من الحق، لا القضاء على أمر الحكم، والتوفيق‏:‏ هو موافقة الحق، وقيل‏:‏ هو التأليف والجمع بين الخصمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏63- 65‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا ‏(‏63‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ‏(‏64‏)‏ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏65‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ مِنَ النفاق، أي‏:‏ علم أنّ ما في قلوبهم خلاف ما في ألسنتهم، ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ عن عُقوبتهم وقيل‏:‏ فأعرض عن قبول عذرهم وعظهم باللسان، وقل لهم قولا بليغًا، وقيل‏:‏ هو التخويف بالله، وقيل‏:‏ أن توعدهم بالقتل إن لم يتوبوا، قال الحسن‏:‏ القول البليغ أن يقول لهم‏:‏ إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق قُتلتم لأنه يبلغ من نفوسهم كل مبلغ، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ‏}‏ في الملأ ‏{‏وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا‏}‏ في السّر والخلاء، وقال‏:‏ قيل هذا منسوخ بآية القتال‏.‏

وله عز وجل ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ بأمر الله لأنّ طاعة الرسول وجبت بأمر الله، قال الزجاج‏:‏ ليطاع بإذن الله لأن الله قد أذن فيه وأمر به، وقيل‏:‏ إلا ليُطاع كلام تام كاف، بإذن الله تعالى أي‏:‏ بعلم الله وقضائه، أي‏:‏ وقوعُ طاعته يكون بإذن الله، ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ بتحاكمهم إلى الطاغوت ‏{‏جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ‏}‏ الآية‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، أخبرني عروة بن الزبير‏:‏ أنّ الزبير رضي الله عنه كان يحدِّث أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج مِنَ الحرة كانا يسقيان به‏.‏ كلاهما، فقال رسول الله للزبير‏:‏ اسقِ يا زبير، ثم أرسل إلى جارك، فغضب الأنصاري، ثم قال‏:‏ يا رسول الله أن كان ابن عمتك‏؟‏ فتلونّ وجهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال للزبير‏:‏ اسقِ ثم احبس الماءَ حتى يبلغ الجدر، فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقَّه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد به سعة له وللأنصاري، فلمّا أحْفَظَ الأنصاريُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقّه في صريح الحكم‏.‏

قال عروة‏:‏ قال الزبير‏:‏ والله ما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ‏{‏فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏

وروي أن الأنصاري الذي خاصم الزبير كان اسمه حاطب بن أبي بلتعة فلما خَرَجَا مرَّ على المقداد فقال‏:‏ لمن كان القضاء، فقال الأنصاري‏:‏ قضَى لابن عمته ولَوَى شدقه ففطن له يهودي كان مع المقداد، فقال‏:‏ قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه في قضاءٍ يقضي بينهم، وايْمُ الله لقد أذنبنا ذنبًا مرّة في حياة موسى عليه السلام فدعا موسى إلى التوبة منه، فقال‏:‏ اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنّا، فقال ثابت بن قيس بن شماس‏:‏ أمّا والله إنّ الله ليعلم مني الصدقَ ولو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت، فأنزل الله في شأن حاطب بن أبي بلتعة‏:‏ ‏{‏فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ‏}‏‏.‏

وقال مجاهد والشعبي‏:‏ نزلت في بِشْر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر رضي الله عنه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلا‏}‏ أي‏:‏ ليس الأمر كما يزعمون أنهم مؤمنُون ثم لا يرضون بحكمك، ثم استأنف القَسَم ‏{‏وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ ويجوز أن يكون ‏{‏لا‏}‏ في قوله ‏{‏فَلا‏}‏ صلة، كما في قوله ‏{‏فَلا أُقْسِمُ‏}‏ حتى يُحكِّمُوك‏:‏ أي يجعلوك حكمًا، ‏{‏فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ اختلف واختلط من أمورهم والْتَبَسَ عليهم حُكمه، ومنه الشجر لالتفاف أغصانه بعضها ببعض، ‏{‏ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ شكًّا، وقال غيره‏:‏ ضِيقًا، ‏{‏مِمَّا قَضَيْتَ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ إثْمًا، أي‏:‏ يأثمون بإنكارهم ما قضيت، ‏{‏وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا‏}‏ أي‏:‏ وينقادوا لأمرك انقيادًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66- 69‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ‏(‏66‏)‏ وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏67‏)‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏68‏)‏ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ‏(‏69‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا‏}‏ أي‏:‏ فرضنا وأوجبنا، ‏{‏عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ كما أمرنا بني إسرائيل ‏{‏أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ‏}‏ كما أمرنا بني إسرائيل بالخروج من مصر، ‏{‏مَا فَعَلُوهُ‏}‏ معناه‏:‏ أنّا ما كتبنا عليهم إلا طاعة الرسول والرضَى بحكمه، ولو كتبْنَا عليهم القتل والخروج عن الدور ما كان يفعله، ‏{‏إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ‏}‏ نزلت في ثابت بن قيس وهو من القليل الذي استثنى الله، قال الحسن ومقاتل لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم القليل، والله لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏إنّ من أمتي لرجالا الإيمانُ في قلوبهم أثبت من الجبال الرواسي‏"‏‏.‏

قرأ ابن عامر وأهل الشام ‏{‏إِلا قَلِيلا‏}‏ بالنصب على الاستثناء، وكذلك هو في مصحف أهل الشام، وقيل‏:‏ فيه إضمار، تقديره‏:‏ إلا أن يكون قليلا منهم، وقرأ الآخرون قليل بالرفع على الضمير الفاعل في قوله ‏{‏فَعَلُوه‏}‏ تقديره‏:‏ إلا نفر قليل فعلوه، ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ‏}‏ مِنْ طاعة الرسول والرضى بحكمه، ‏{‏لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏}‏ تحقيقًا وتصديقًا لإيمانهم‏.‏

‏{‏وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ثوابًا وافرًا‏.‏

‏{‏وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏}‏ أي‏:‏ إلى الصراط المستقيم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ‏}‏ الآية، نزلتْ في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما غيرَّ لونك‏"‏‏؟‏ فقال‏:‏ يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اسْتَوْحَشْتُ وحشةً شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرتُ الآخرة فأخاف أن لا أراك لأنك ترفع مع النبيين، وإنّي إن دخلت الجنة كنتُ في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال قتادة‏:‏ قال بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ كيف يكون الحال في الجنة وأنتَ في الدرجات العُلَى ونحن أسفل منك‏؟‏ فكيف نراك‏؟‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ‏}‏ في أداء الفرائض، ‏{‏وَالرَّسُول‏}‏ في السنن ‏{‏فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ‏}‏ أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم لا أنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء، ‏{‏وَالصِّدِّيقِينَ‏}‏ أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والصدّيق المبالغ في الصدق، ‏{‏وَالشُّهَدَاء‏}‏ قيل‏:‏ هم الذين استشهدوا في يوم أُحد، وقيل‏:‏ الذين استشهدوا في سبيل الله، وقال عكرمة‏:‏ النبيون هاهنا‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم والصديقون أبو بكر، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ‏{‏وَالصَّالِحِينَ‏}‏ سائر الصحابة رضي الله عنهم، ‏{‏وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا‏}‏ يعني‏:‏ رفقاء الجنّة، والعرب تضع الواحد موضع الجمع، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثم نخرجكم طفلا‏}‏ ‏(‏غافر- 67‏)‏ أي‏:‏ أطفالا ‏{‏ويولون الدُّبر‏}‏ أي‏:‏ الأدبار‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، أنا أبو العباس السراج، أنا قتيبة بن سعد، أنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أنس أنّ رجلا قال‏:‏ يا رسول الله الرجل يحبُّ قومًا ولمّا يلحق بهم‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏المرء مَعَ من أحبَّ‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي وأبو عمرو محمد بن عبد الرحمن النسوي قالا أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، أنا أبو العباس الأصم، أنا أبو يحيى زكريا بن يحيى المروزي، أنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قال رجل‏:‏ يا رسول الله متى الساعة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏وما أعددت لها‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ فلم يذكر كثيرًا، إلا أنه يحب الله ورسولَه قال‏:‏ ‏"‏فأنتَ مع من أحببت‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 72‏]‏

‏{‏ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ‏(‏70‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا ‏(‏71‏)‏ وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ‏(‏72‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا‏}‏ أي‏:‏ بثواب الآخرة، وقيل‏:‏ بمن أطاع رسول الله وأحبَّه، وفيه بيان أنهم لن ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم، وإنّما نالوُها بفضل الله عز وجل‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قارِبُوا وسَدِّدُوا واعلمُوا أنه لا ينجو أحدُ منكم بِعَمَلِهِ‏"‏، قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ولا أنا إلا أن يتغمدَنَي الله برحمة منه وفضل‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ‏}‏ من عدوِّكم، أي‏:‏ عدّتكم وآلتكم من السلاح، والحِذْرُ والحَذَرُ واحد، كالمِثْل والمَثَل والشِّبْهِ والشَّبَهِ، ‏{‏فَانْفِرُوا‏}‏ اخْرُجُوا ‏{‏ثُبَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ سرايا متفرقين سرية بعد سرية، والثبات جماعات في تفرقة واحدتها ثبة، ‏{‏أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ مجتمعين كلكم مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ‏}‏ نزلت في المنافقين‏.‏

وإنما قال ‏{‏مِنْكُم‏}‏ لاجتماعهم مع أهل الإيمان في الجنسية والنسبِ وإظهارِ الإسلام، لا في حقيقة الإيمان، ‏{‏لَيُبَطِّئَنّ‏}‏ أي‏:‏ ليتأخرنّ، وليتثاقلنَّ عن الجهاد، وهو عبد الله بن أبَيّ المنافق، واللام في ‏{‏لَيُبَطِّئَنّ‏}‏ لام القسم، والتبطئة‏:‏ التأخر عن الأمر، يقال‏:‏ ما أبطأ بك‏؟‏ أي‏:‏ ما أخَّرَك عنّا‏؟‏ ويقال‏:‏ أبْطَأَ إبطاءً وبطَّأَ يبطِّئُ تَبْطِئًة‏.‏ ‏{‏فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ‏}‏ أي‏:‏ قتلٌ وهزيمة، ‏{‏قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ‏}‏ بالقُعود، ‏{‏إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا‏}‏ أي‏:‏ حاضرًا في تلك الغزاة فيصيبني ما أصابهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏73- 74‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏73‏)‏ فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏74‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ‏}‏ فتح وغنيمة ‏{‏لَيَقُولَنَّ‏}‏ هذا المنافق، وفيه تقديم وتأخير، وقوله ‏{‏كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ‏}‏ متصل بقوله ‏{‏فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ‏}‏ تقديره‏:‏ فإن أصابتكم مصيبة قال‏:‏ قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا، كأنْ لمْ تكنْ بينكُمْ وبينَهُ مودةٌ أي‏:‏ معرفة‏.‏

قرأ ابن كثير وحفص ويعقوب ‏{‏تَكُن‏}‏ بالتاء، والباقون بالياء، أي‏:‏ ولئن أصابكم فضلُ من الله لَيَقُولَنَّ‏:‏ ‏{‏يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ‏}‏ في تلك الغزاة، ‏{‏فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا‏}‏ أي‏:‏ آخذ نصيبًا وافرًا من الغنيمة، وقوله ‏{‏فَأَفُوزَ‏}‏ نصب على جواب التمني بالفاء، كما تقول‏:‏ وددت أن أقوم فيتبعني الناس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ‏}‏ قيل‏:‏ نزلت في المنافقين، ومعنى يشرون أي‏:‏ يشترون، يعني الذين يختارون الدنيا على الآخرة، معناه‏:‏ آمنوا ثم قاتلوا، وقيل‏:‏ نزلت في المؤمنين المخلصين، معناه فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون أي‏:‏ يبيعُون الحياة الدنيا بالآخرة ويختارُون الآخرة ‏{‏وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ‏}‏ يعني يستشهد، ‏{‏أَوْ يَغْلِبْ‏}‏ يظفر، ‏{‏فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ‏}‏ في كلا الوجهين ‏{‏أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ ويدغم أبو عمرو والكسائي الباء في الفاء حيث كَان‏.‏

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏تكَفَّلَ الله لمن جاهدَ في سبيله لا يُخرجُهُ من بيتهِ إلا الجهادُ في سبيلهِ وتصديق كلمتهِ أن يُدخلَه الجنةَ أو يرجعَه إلى مسكنهِ الذي خرجَ منه معَ ما نال من أجرٍ أو غنيمة‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني أنا علي بن حجر، أنا إسماعيل بن جعفر، أنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنهما أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَثَلُ المجاهد في سبيل الله كمثل القانتِ الصائمِ الذي لا يفتُرُ من صلاةٍ ولا صيامٍ حتى يُرجعهً الله إلى أهلهِ بما يرجعُه من غنيمةٍ وأجرٍ، أو يتوفاه فيدخله الجنة‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 77‏]‏

‏{‏وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ‏(‏75‏)‏ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا ‏(‏76‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا ‏(‏77‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ‏}‏ لا تجاهدون ‏{‏فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ في طاعة الله، يعاتبهم على ترك الجهاد، ‏{‏وَالْمُسْتَضْعَفِينَ‏}‏ أي‏:‏ عن المستضعفين، وقال ابن شهاب‏:‏ في سبيل المستضعفين لتخليصهم، وقيل‏:‏ في تخليص المستضعفين من أيدي المشركين، وكان بمكة جماعة، ‏{‏مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ‏}‏ يَلْقون من المشركين أذًى كثيرًا، ‏{‏الَّذِين‏}‏ يَدْعُون و ‏{‏يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا‏}‏ يعني‏:‏ مكة، الظالم أي‏:‏ المشرك، أهلها يعني القرية التي من صفتها أن أهلها مشركون، وإنما خفض ‏{‏الظَّالِمِ‏}‏ لأنه نعتٌ للأهل، فلما عاد الأهل إلى القرية صار كأن الفعل لها، كما يقال مررت برجل حسنه عينه، ‏{‏وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا‏}‏ أي‏:‏ من يلي أمرنا، ‏{‏وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ من يمنع العدوَّ عنّا، فاستجاب الله دعوتهم، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ولّى عليهم عتاب بن أسيد وجعله الله لهم نصيرًا ينصف المظلومين من الظالمين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ في طاعته، ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ‏}‏ أي‏:‏ في طاعة الشيطان، ‏{‏فَقَاتِلُوا‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ‏}‏ أي‏:‏ حزبَه وجنودَه وهم الكفار، ‏{‏إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ‏}‏ مَكْرَهُ، ‏{‏كَانَ ضَعِيفًا‏}‏ كما فعل يوم بدر لمّا رأى الملائكة خاف أن يأخذوه فهرب وخذلهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ‏}‏ الآية، قال الكلبي‏:‏ نزلت في عبد الرحمن بن عوف الزهري، والمقداد بن الأسود الكندي، وقدامة بن مظعون الجمحي، وسعد بن أبي وقاص، وجماعة كانوا يلقون من المشركين بمكة أذًى كثيرًا قبل أن يهاجروا، ويقولون‏:‏ يا رسول الله ائذنْ لنا في قتالهم فإنهم قد آذَوْنَا، فيقول لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كُفّوا أيديَكم فإني لم أؤمر بقتالهم‏"‏‏.‏

‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ‏}‏ فلما هاجروا إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين شق ذلك على بعضهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا كُتِبَ‏}‏ فُرضَ، ‏{‏عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ‏}‏ يعني‏:‏ يخشون مشركي مكة، ‏{‏كَخَشْيَةِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ كخشيتهم من الله، ‏{‏أَوْ أَشَدُّ‏}‏ أكثر، ‏{‏خَشْيَةً‏}‏ وقيل‏:‏ معناه وأشدّ خشية، ‏{‏وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ‏}‏ الجهاد ‏{‏لَوْلا‏}‏ هلا ‏{‏أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ‏}‏ يعني‏:‏ الموت أي‏:‏ هلا تركتَنا حتى نموت بآجالنا‏؟‏‏.‏

واختلفوا في هؤلاء الذين قالوا ذلك، قيل‏:‏ قاله قوم من المنافقين لأن قوله‏:‏ ‏{‏لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ‏}‏ لا يليق بالمؤمنين‏.‏

وقيل‏:‏ قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا راسخين في العلم قالوه خوفًا وجبنًا لا اعتقادًا، ثم تابوا، وأهل الإيمان يتفاضلون في الإيمان‏.‏

وقيل‏:‏ هم قوم كانوا مؤمنين فلمّا فرض عليهم القتال نافقوا من الجبن وتخلّفوا عن الجهاد، ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد، ‏{‏مَتَاعُ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ منفعتها والاستمتاع بها ‏{‏قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ‏}‏ أي‏:‏ وثوابُ الآخرة خيرٌ وأفضل، ‏{‏لِمَنِ اتَّقَى‏}‏ الشرك ومعصية الرسول، ‏{‏وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو جعفر وحمزة والكسائي بالياء والباقون تظلمون بالتاء‏.‏

أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن معاوية الصيدلاني، أخبرنا الأصم، أنا عبد الله بن محمد بن شاكر، أنا محمد بن بشر العبدي، أنا مسعر بن كدام عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم، حدثني المستورد بن شداد قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما الدنيا في الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بِمَ يرجع‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏78- 79‏]‏

‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا ‏(‏78‏)‏ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏79‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ‏}‏ أي‏:‏ ينزل بكم الموت، نزلت في المنافقين الذين قالوا في قتلى أُحد‏:‏ لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، فردَّ الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ‏}‏، ‏{‏وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ‏}‏ والبروج‏:‏ الحصون والقلاع، والمشيّدة‏:‏ المرفوعة المطوّلة، قال قتادة‏:‏ معناه في قصوٍر محصنة، وقال عكرمة‏:‏ مُجَصَّصَة، والشّيد‏:‏ الجص، ‏{‏وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ‏}‏ نزلت في اليهود والمنافقين، وذلك أنهم قالوا لمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة‏:‏ ما زِلْنَا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا منذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ تُصِبْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ اليهود ‏{‏حَسَنَة‏}‏ أي خصب ورخص في السعر، ‏{‏يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ لنا، ‏{‏وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ الجدب وغلاء الأسعار ‏{‏يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ‏}‏ أي‏:‏ من شؤم محمد وأصحابه، وقيل‏:‏ المراد بالحسنة الظفر والغنيمة يوم بدر، وبالسيئة القتل والهزيمة يوم أُحد، يقولوا هذه من عندك أي‏:‏ أنت الذي حملتنا عليه يا محمد، فعلى هذا يكون هذا من قول المنافقين، ‏{‏قُلِ‏}‏ لهم يا محمد، ‏{‏كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ الحسنة والسيئة كلها من عند الله، ثم عيّرهم بالجهل فقال‏:‏ ‏{‏فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين واليهود، ‏{‏لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا‏}‏ أي‏:‏ لا يفقهون قولا وقيل‏:‏ الحديث هاهنا هو القرآن أي‏:‏ لا يفقهون معاني القرآن‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏فَمَالِ هَؤُلاءِ‏}‏ قال الفراء‏:‏ كثرت في الكلام هذه الكلمة حتى توهّمُوا أنّ اللام متصلة بها وأنهما حرف واحد، ففصلوا اللام ممّا بعدها في بعضه، ووصلوها في بعضه، والاتصال القراءة، ولا يجوز الوقف على اللام لأنها لام خافضة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ‏}‏ خير ونعمة ‏{‏فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ‏}‏ بليٍّة أو أمر تكرهه، ‏{‏فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ أي‏:‏ بذنوبك، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وما أصابكُم من مصيبةٍ فبما كسبتْ أيديكم‏"‏ الشورى- 30‏)‏ ويتعلّق أهل القدَرَ بظاهر هذه الآية، فقالوا‏:‏ نفى الله تعالى السيئةَ عن نفسه ونسبها إلى العبد، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ولا متعلق لهم فيه، لأنه ليس المراد من الآية حسنات الكسب ولا سيآته من الطاعات والمعاصي، بل المراد منهم ما يُصيبهم من النِّعم والمِحَن، وذلك ليس من فعلهم بدليل أنه نسبها إلى غيرهم ولم ينسبها إليهم، فقال‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَكَ‏}‏ ولا يقال في الطاعة والمعصية أصابني، إنّما يقال‏:‏ أصبتها، ويقال في النِّعَم‏:‏ أصابني، بدليل أنه لم يذكر عليه ثوابًا ولا عقابًا، فهو كقوله تعالى ‏{‏فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه‏}‏ الأعراف- 131‏)‏، ولما ذكر حسنات الكسب وسيئاته نسبها إليه، ووعد عليها الثواب والعقاب، فقال ‏{‏منْ جاءَ بالحسنةِ فَلَهُ عَشْرُ أمثالِها ومَنْ جاءَ بالسيئة فلا يُجْزَي إلا مثلَها‏}‏ الأنعام- 160‏)‏‏.‏

وقيل‏:‏ معنى الآية‏:‏ ما أصابك من حسنة من النصر والظفر يوم بدر فمن الله، أي‏:‏ من فضل الله، وما أصابك من سيئة من القتل والهزيمة يوم أُحد فمن نفسك، أي‏:‏ بذنب نفسك من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

فإن قيل كيف وجه الجمع بين قوله ‏{‏قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ وبين قوله ‏{‏فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ قيل‏:‏ قوله ‏{‏قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ الخصبُ والجدبُ والنصرُ والهزيمةُ كلهُّا من عند الله، وقوله‏:‏ ‏{‏فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ أي‏:‏ ما أصابك من سيئة من الله فبذنبِ نفسِك عقوبةَ لك، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وما أصابكم من مُصيبة فبما كَسَبَتْ أيديكم‏"‏ الشورى- 30‏)‏ يدل عليه ما روَى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أنه قرأ ‏{‏وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ وأنا كتبتُها عليك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هذه الآية متصلة بما قبلها، والقول فيه مضمر تقديره‏:‏ فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا، يقولون‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ‏}‏ ‏{‏قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ‏}‏ ‏{‏وَأَرْسَلْنَاكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ على إرسالك وصدقك، وقيل‏:‏ وكفى بالله شهيدًا على أن الحسنة والسيئة كلها من الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏80‏]‏

‏{‏مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ‏(‏80‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏من أطاعني فقد أطاع الله ومن أحبني فقد أحبَّ الله‏"‏ فقال بعض المنافقين‏:‏ ما يريد هذا الرجل إلا أن نتخذه ربَّا كما اتخذت النصارى عيسى بن مريم ربًا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ من يطع الرسول فيما أمر به فقد أطاع الله، ‏{‏وَمَنْ تَوَلَّى‏}‏ عن طاعته، ‏{‏فَمَا أَرْسَلْنَاكَ‏}‏ يا محمد، ‏{‏عَلَيْهِمْ حَفِيظًا‏}‏ أي‏:‏ حافظًا ورقيبًا، بلْ كل أمورهم إليه تعالى، وقيل‏:‏ نسخ الله عز وجل هذا بآية السيف، وأمره بقتال من خالف الله ورسوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81- 83‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ‏(‏81‏)‏ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا ‏(‏82‏)‏ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا ‏(‏83‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين يقولون باللسان للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنا آمنا بك فَمُرْنا فأمرك طاعة، قال النحويون‏:‏ أي أمرُنا وشأنُنَا أن نطيعك، ‏{‏فَإِذَا بَرَزُوا‏}‏ خرجُوا، ‏{‏مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ‏}‏ قال قتادة والكلبي‏:‏ بيَّتَ أي‏:‏ غيّر وبدّل الذي عَهِدَ إليهم النبي صلى الله عليه وسلم، ويكون التبييت بمعنى التبديل، وقال أبو عبيدة والقتيبي‏:‏ معناه‏:‏ قالوا وقدرُوا ليلا غير ما أعطوك نهارًا، وكل ما قدر بليل فهو تبييت، وقال أبو الحسن الأخفش‏:‏ تقول العرب للشيء إذا قُدِّرَ، قدبُيِّتَ، يُشبهونه بتقدير بيوت الشعر، ‏{‏وَاللَّهُ يَكْتُبُ‏}‏ أي‏:‏ يُثبتُ ويحفظ، ‏{‏مَا يُبَيِّتُونَ‏}‏ ما يُزورون ويُغيّرون ويقدرون، وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ يعني ما يُسرّون من النفاق، ‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ‏}‏ يا محمد ولا تعاقبهم، وقيل‏:‏ لا تُخبرْ بأسمائهم، منع الرسول صلى الله عليه وسلم من الإخبار بأسماء المنافقين، ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا‏}‏ أي‏:‏ اتخذه وكيلا وكفى بالله وكيلا وناصرا‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ‏}‏ يعني‏:‏ أفلا يتفكّرون في القرآن، والتدبر هو النظر في آخر الأمر، ودُبر كل شيء آخره‏.‏ ‏{‏وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا‏}‏ أي تفاوتًا وتناقضًا كثيرًا، قاله ابن عباس، وقيل‏:‏ لوجدوا فيه أي‏:‏ في الإخبار عن الغيب بما كان وبما يكون اختلافًا كثيرًا، أفلا يتفكرون فيه فيعرفوا- بعدم التناقض فيه وصدق ما يخبر- أنه كلام الله تعالى لأن ما لا يكون من عند الله لا يخلو عن تناقض واختلاف‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ‏}‏ وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث السرايا فإذا غَلَبُوا أو غُلِبُوا بادَرَ المنافقون يستخبرون عن حالهم، فيُفشون ويُحدِّثون به قبل أن يحدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيُضعفون به قلوبَ المؤمنين فأنزل الله تعالى ‏{‏وَإِذَا جَاءَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين ‏{‏أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ‏}‏ أي‏:‏ الفتح والغنيمة ‏{‏أَوِ الْخَوْفِ‏}‏ القتل والهزيمة ‏{‏أَذَاعُوا بِهِ‏}‏ أشاعوه وأفشوه، ‏{‏وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ‏}‏ أي‏:‏ لو لم يحدثوا به حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به، ‏{‏وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ذوي الرأي من الصحابة مثل أبي بكر وعمرو وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ‏{‏لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم‏}‏ أي‏:‏ يستخرجونه وهم العلماء، أي‏:‏ عَلِمُوا ما ينبغي أن يُكتم وما ينبغي أن يُفشَى، والاستنباط‏:‏ الاستخراج، يقال‏:‏ استنبط الماءَ إذا استخرجه، وقال عكرمة‏:‏ يستنبطونه أي‏:‏ يحرصون عليه ويسألون عنه، وقال الضحاك‏:‏ يتبعونه، يريد الذين سمعوا تلك الأخبار من المؤمنين والمنافقين، لو ردوه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى ذوي الرأي والعلم، لَعلِمَه الذين يستنبطونه منهم، أي‏:‏ يحبون أن يعلموه على حقيقته كما هو‏.‏

‏{‏وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ‏}‏ كلكم ‏{‏إِلا قَلِيلا‏}‏ فإن قيل‏:‏ كيف استثنى القليل ولولا فضله لاتبع الكلُّ الشيطان‏؟‏ قيل‏:‏ هو راجع إلى ما قبله، قيل‏:‏ معناه أذاعوا به إلا قليلا لم يفشه، عني بالقليل المؤمنين، وهذا قول الكلبي واختيار الفراء، وقال‏:‏ لأنّ عِلْمَ السرِّ إذا ظهرَ عَلِمَه المستنبطُ وغيرُه، والإذاعة قد تكون في بعض دون بعض، وقيل‏:‏ لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا ثم قوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ‏}‏ كلام تام‏.‏

وقيل‏:‏ فضلُ الله‏:‏ الإسلامُ ورحمتُه‏:‏ القرآن، يقول لولا ذلك لابتعتم الشيطان إلا قليلا وهم قوم اهتدوا قبل مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن، مثل زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل وجماعة سواهما‏.‏

وفي الآية دليل على جواز القياس، فإن من العلم ما يُدرك بالتلاوة والرواية وهو النّص، ومنه ما يدرك بالاستنباط وهو القياس على المعاني المودعة في النصوص‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏84‏]‏

‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا ‏(‏84‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ‏}‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وَاعَدَ أبا سفيان بعد حرب أُحد موسم بدر الصغرى في ذي القعدة فلما بلغ الميعاد دعا الناس إلى الخروج فكرهه بعضهم، فأنزل الله عز وجل ‏{‏فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ‏}‏ أي‏:‏ لا تَدَعْ جهاد العدو والانتصار للمستضعفين من المؤمنين ولو وحدك، فإن الله قد وعدك النصرة وعاتبهم على ترك القتال، والفاء في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَاتِل‏}‏ جواب عن قوله ‏{‏وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ فقاتل، ‏{‏وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ على القتال أي حضّهم على الجهاد ورغبّهم في الثواب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين راكبًا فكفاهم الله القتال، فقال جل ذكره ‏{‏عَسَى اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ لعلّ الله، ‏{‏أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ قتال الذين كفروا المشركين و ‏"‏عسى‏"‏ من الله واجب، ‏{‏وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا‏}‏ أي‏:‏ أشدّ صولة وأعظم سلطانًا، ‏{‏وَأَشَدُّ تَنْكِيلا‏}‏ أي‏:‏ عقوبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏85‏]‏

‏{‏مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا ‏(‏85‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ نصيب منها، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ الشفاعة الحسنة هي الإصلاح بين الناس، والشفاعة السيئة هي المشي بالنميمة بين الناس‏.‏

وقيل‏:‏ الشفاعة الحسنة هي حُسنُ القول في الناس ينال به الثوابَ والخير، والسيئة هي‏:‏ الغيبة وإساءة القول في الناس ينال به الشر‏.‏

وقوله ‏{‏كِفْلٌ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ من وزرها، وقال مجاهد‏:‏ هي شفاعة الناس بعضهم لبعض، ويُؤجر الشفيع على شفاعته وإن لم يُشفّع‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا سفيان الثوري، عن أبي بردة، أخبرني جدي أبو بردة، عن أبيه عن أبي موسى رضي الله عنه قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل يسأل أو طالب حاجة أقبل علينا بوجهه، فقال‏:‏ ‏"‏اشفعُوا لتُؤْجروا ليقضي الله على لسان نبيه ما شاء‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مقيتًا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ مقتدرًا مجازيًا، قال الشاعر‏:‏

وذي ظعنٍ كففتُ النفسَ *** عنهُ وكنتُ على مساءته مُقيتًا

وقال مجاهد‏:‏ شاهدًا‏:‏ وقال قتادة‏:‏ حافظًا، وقيل‏:‏ معناه على كل حيوان مقيتا أي‏:‏ يوصل القوت إليه‏.‏

وجاء في الحديث ‏"‏كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يَقُوتُ ويِقيْتُ‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏86‏]‏

‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا ‏(‏86‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ التحية‏:‏ هي دعاء الحياة، والمراد بالتحية ها هنا، السلام، يقول‏:‏ إذا سلّم عليكم مُسلّم فأجيبُوا بأحسن منها أو رُدُّوها كما سلّم، فإذا قال‏:‏ السلام عليكم، فقل‏:‏ وعليكم السلامُ ورحمة الله، وإذا قال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله، فقل‏:‏ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، فإذا قال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّ مثله، رُوي أنّ رجلا سلّم على ابن عباس رضي الله عنهما، قال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم زاد شيئا، فقال ابن عباس‏:‏ إن السلام ينتهي إلى البركة‏.‏

وُروي عن عمران بن حصين‏:‏ أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ السلام عليكم، فردّ عليه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏عشرٌ‏"‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله، فرّد عليه فجلس، فقال‏:‏ ‏"‏عشرون‏"‏ ثم جاء آخر فقال‏:‏ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردّ عليه، فقال‏:‏ ‏"‏ثلاثون‏"‏‏.‏

واعلم أن السلام سنة وردُّ السلام فريضة، وهو فرض على الكفاية، وكذلك السلام سنة على الكفاية فإذا سلّم واحدٌ من جماعة كان كافيا في السنة، وإذا سلّم واحدٌ على جماعة وردَّ واحدٌ منهم سقط الفرض عن جميعهم‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محَمْشَ الزيادي، أنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر، أنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر بن بكير الكوفي، أنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنهم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده لا تدْخُلُوا الجنَّةَ حتى تُؤْمنُوا ولا تُؤمنُوا حتى تحابوّا، أولا أدلّكم على شيء إذا فعلتمُوه تحاببتم‏؟‏ أفشُوا السلام بينكم‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا قتيبة، أنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أيُّ الإسلام خير‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ أنْ تُطعمَ الطعامَ وتقرأ السلامَ على منْ عرفتَ ومَنْ لم تعرف‏"‏‏.‏ ومعنى قوله‏:‏ أيُّ الإسلام خير، يريد أيُّ خصال الإسلام خير‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا‏}‏ معناه أي إذا كان الذي سلّم مسلمًا، ‏{‏أَوْ رُدُّوهَا‏}‏ بمثلها إذا لم يكن مسلمًا‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب عن مالك عن عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم‏:‏ فإنما يقول السَّامُّ عليكم، فقلْ عليك‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا‏}‏ أي‏:‏ على كل شيءٍ من رَدِّ السلام بمثله أو بأحسن منه، حسيبًا أي‏:‏ محاسبًا مجازيًا، وقال مجاهد‏:‏ حفيظًا، وقال أبو عبيدة‏:‏ كافيًا، يقال‏:‏ حسبي هذا أي كفاني‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏87- 88‏]‏

‏{‏اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ‏(‏87‏)‏ فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ‏(‏88‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ‏}‏ اللام لامُ القسم تقديره‏:‏ والله ليجمعنّكم في الموت وفي القبور، ‏{‏إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ وسُميت القيامةَ قيامةً لأن الناس يقومون من قبورهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏يوم يخرُجُون من الأجداثِ سراعًا‏"‏ المعارج- 43‏)‏ وقيل‏:‏ لقيامهم إلى الحساب، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏يومَ يقوم الناس لربِّ العالمين‏"‏، المطففين- 6‏)‏ ‏{‏وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا‏}‏ أي‏:‏ قولا ووعدًا، وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏أَصْدَق‏}‏ صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الزاي‏.‏

‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ‏}‏ اختلفوا في سبب نزولها فقال قوم‏:‏ نزلت في الذين تخلِّفُوا يوم أُحد

من المنافقين، فلما رجعوا قال بعضُ الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ اقتلهم فإنّهم منافقون، وقال بعضهم‏:‏ اعف عنهم فإنهم تكلّموا بالإسلام‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو الوليد، أنا شعبة، عن عدي بن ثابت، قال‏:‏ سمعت عبد الله بن يزيد، يحدث عن زيد بن ثابت، قال‏:‏ لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى أُحد رجع ناسٌ ممن خرج معه وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة تقول نقاتلهم وفرقة تقول لا نقاتلهم، فنزلت‏:‏ ‏{‏فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا‏}‏ وقال‏:‏ ‏"‏إنها طَيْبُة تَنفي الذنوبَ كما تنفي النارُ خَبَثَ الفِضّة‏"‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ قوم خرجوا إلى المدينة وأسلموا ثم ارتدُّوا واستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتّجرُون فيها فخرجوا وأقاموا بمكة، فاختلف المسلمون فيهم، فقائل يقول‏:‏ هم منافقون، وقائل يقول‏:‏ هم مؤمنون‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ نزلت في ناس من قريش قدِمُوا المدينة وأسلموا ثم نَدِمُوا على ذلك فخرجوا كهيئة المتنزهين حتى باعدوا من المدينة فكتبُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنّا على الذي فارقناك عليه من الإيمان ولكنّا اجْتَوَيْنَا المدينة واشتقنا إلى أرضنا، ثم إنهم خرجوا في تجارة لهم نحو الشام فبلغ ذلك المسلمين، فقال بعضهم‏:‏ نخرج إليهم فنقتلهم ونأخذ ما معهم لأنهم رَغِبُوا عن ديننا، وقالت طائفة‏:‏ كيف تقتلون قومًا على دينكم إن لم يذَرُوا دِيارَهم، وكان هذا بعين النبي صلى الله عليه وسلم وهو سَاكِتٌ لا ينهى واحدًا من الفريقين، فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هم قوم أسلموا بمكة ثم لم يهاجروا وكانوا يظاهرون المشركين، فنزلت ‏{‏فَمَا لَكُمْ‏}‏ يا معشر المؤمنين ‏{‏فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ صرتم فيهم فئتين، أي‏:‏ فرقتين، ‏{‏وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ نَكَّسَهم وردَّهم إلى الكفر، ‏{‏بِمَا كَسَبُوا‏}‏ بأعمالهم غير الزاكية ‏{‏أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا‏}‏ أي‏:‏ أن ترشدوا ‏{‏مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ‏}‏ وقيل‏:‏ معناه أتقولون أنّ هؤلاء مهتدون وقد أضلّهم الله، ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ من يضلله الله عن الهدى، ‏{‏فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ طريقًا إلى الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏89- 90‏]‏

‏{‏وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ‏(‏89‏)‏ إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا ‏(‏90‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدُّوا‏}‏ تمنَّوا، يعني أولئك الذين رجعوا عن الدين تمنّوا ‏{‏لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً‏}‏ في الكفر، وقوله ‏{‏فَتَكُونُونَ‏}‏ لم يُردْ به جواب التمني لأن جواب التمني بالفاء منصوب، إنما أراد النسق، أي‏:‏ وَدُّوا لو تكفرون ووَدُّوا لو تكونون سواء، مثل قوله ‏"‏ودُّوا لو تدهن فيدهنون‏"‏ القلم- 9‏)‏ أي‏:‏ ودّوا لَوْ تدهن وودّوا لَوْ تُدهنون، ‏{‏فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ‏}‏ منعَ من موالاتهم، ‏{‏حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ معكم‏.‏

قال عكرمة‏:‏ هي هجرة أخرى، والهجرة على ثلاثة أوجه‏:‏ هجرة المؤمنين في أول الإسلام، وهي قوله تعالى ‏"‏ للفقراء المهاجرين ‏"‏ الحشر- 8‏)‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله‏"‏ النساء- 100‏)‏، ونحوهما من الآيات، وهجرة المنافقين‏:‏ وهي الخروج في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صابرًا محتسبًا كما حكى ها هنا مَنَعَ من موالاتهم حتى يهاجروا في سبيل الله، وهجرة سائر المؤمنين وهي ما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏المهاجرُ من هَجَرَ ما نهى الله عنه‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ أعرضوا عن التوحيد والهجرة، ‏{‏فَخُذُوهُم‏}‏ أي‏:‏ خذوهم أسارى، ومنه يقال للأسير أخيذ، ‏{‏وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ‏}‏ في الحِلّ والحَرَمِ، ‏{‏وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا‏}‏ ثم استثنى طائفة منهم فقال‏:‏

‏{‏إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ‏}‏ وهذا الاستثناء يرجع إلى القتل لا إلى الموالاة، لأنّ موالاة الكفار والمنافقين لا تجوز بحال، ومعنى ‏{‏يَصِلُون‏}‏ أي‏:‏ ينتسبون إليهم ويتصلون بهم ويدخلون فيهم بالحِلَفِ والجوار، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يريدون ويلجأون إلى قوم، ‏{‏بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ‏}‏ أي‏:‏ عهد، وهم الأسلميون، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَادَعَ هلال بن عويمر الأسلمي قبل خروجه إلى مكة على أن لا يعينه ولا يُعين عليه، ومن وصل إلى هلال من قومه وغيرهم ولجأ إليه فلهم من الجوار مثل ما لهلال‏.‏

وقال الضحّاك عن ابن عباس‏:‏ أراد بالقوم الذين بينكم وبينهم ميثاق بني بكر بن زيد بن مناة كانوا في الصلح والهدنة، وقال مقاتل‏:‏ هم خُزاعة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ جَاءُوكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يتصلون بقوم جاءوكم، ‏{‏حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ضاقت صدورهم، قرأ الحسن ويعقوب ‏"‏حصرةً ‏"‏‏)‏ منصوبة منونة أي‏:‏ ضيقة صدورهم، يعني القوم الذين جاءوكم وهم بنو مدلج، كانوا عاهدوا أن لا يقاتلوا المسلمين وعاهدوا قريشًا أن لا يقاتلوهم، حصرت‏:‏ ضاقت صدورهم، ‏{‏أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ‏}‏ أي‏:‏ عن قتالكم للعهد الذي بينكم، ‏{‏أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من أمِنَ منهم، ويجوز أن يكون معناه أنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم، يعني قريشًا قد ضاقت صُدُورُهم لذلك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أو بمعنى الواو، كأنّه يقول‏:‏ إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حَصِرَتْ صدورُهم، أي‏:‏ حصرت صدورهم عن قتالكم والقتال معكم، وهم قوم هلال الأسلميون وبنو بكر، نهى الله سبحانه عن قتال هؤلاء المرتدين إذا اتصلوا بأهل عهدٍ للمسلمين، لأنّ من انضم إلى قوم ذوي عهدٍ فله حكمهم في حقن الدم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ‏}‏ يذكر منَّتَهُ على المسلمين بكفِّ بأس المعاهدين، يقول‏:‏ إن ضيق صدورهم عن قتالكم لما ألقى الله في قلوبهم من الرعب وكفهم عن قتالكم، ولو شاء الله لسلطهم عليكم فَلَقَاتلوكم مع قومهم، ‏{‏فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ‏}‏ أي‏:‏ اعتزلوا قتالكم، ‏{‏فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ‏}‏ ومن اتصل بهم، ويقال‏:‏ يوم فتح مكة يقاتلوكم مع قومهم، ‏{‏وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ‏}‏ أي‏:‏ الصلح فانقادوا واستسلموا ‏{‏فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ طريقا بالقتل والقتال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏91‏]‏

‏{‏سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏91‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَتَجِدُونَ آخَرِينَ‏}‏ قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هم أسد وغَطَفَان كانوا حاضري المدينة تكلموا بالإسلام رياءً وهم غير مسلمين، وكان الرجل منهم يقول له قومه بماذا أسلمت‏؟‏ فيقول آمنت بهذا القرد وبهذا العقرب والخنفساء، وإذا لقوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا‏:‏ إنا على دينكم، يريدون بذلك الأمنَ في الفريقين‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس هم بنو عبد الدار كانوا بهذه الصفة، ‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ‏}‏ فلا تتعرّضوا لهم، ‏{‏وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ‏}‏ فلا يتعرضوا لهم، ‏{‏كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ‏}‏ أي‏:‏ دُعُوا إلى الشرك، ‏{‏أُرْكِسُوا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ رجعوا وعادوا إلى الشرك، ‏{‏فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فإن لم يكفُّوا عن قتالكم حتى تسيروا إلى مكة، ‏{‏وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ‏}‏ أي‏:‏ المفاداة والصلح، ‏{‏وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ‏}‏ ولم يقبضوا أيديهم عن قتالكم، ‏{‏فَخُذُوهُم‏}‏ أسراء، ‏{‏وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ‏}‏ أي‏:‏ وجدتموهم، ‏{‏وَأُولَئِكُم‏}‏ أي‏:‏ أهل هذه الصفة، ‏{‏جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا‏}‏ أي‏:‏ حُجَّةً بينّةً ظاهرة بالقتل والقتال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏92‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏92‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا‏}‏ الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي، وذلك أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يُظهر إسلامَه لأهله فخرج هاربًا إلى المدينة، وتحصّن في أطمٍ من آطامها، فجزعت أمه لذلك جزعًا شديدًا وقالت لابنيها الحارث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه‏:‏ والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى تأتوني به، فخرجا في طلبه، وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة، فأتوا عياشًا وهو في الأطم، قالا له‏:‏ انزل فإن أمك لم يؤوها سقفُ بيت بعدك، وقد حلفت ألا تأكل طعامًا ولا تشرب شرابًا حتى ترجع إليها ولك عهد الله علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوا له بالله نزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه بنسعةٍ، فجلده كل واحد منهم مائة جلدة، ثم قدموا به على أمه فلما أتاها قالت‏:‏ والله لا أحُلّكَ من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به، ثم تركوه موثقًا مطروحًا في الشمس ما شاء الله، فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال‏:‏ يا عياش أهذا الذي كنت عليه فوالله لئن كان هدى لقد تركت الهدى، ولئن كانت ضلالة لقد كنت عليها، فغضب عياش من مقالته، وقال‏:‏ والله لا ألقاك خاليًا أبدا إلا قتلتك، ثم إن عياشًا أسلم بعد ذلك وهاجر ثم أسلم الحارث بن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عياش حاضرًا يومئذ ولم يشعر بإسلامه، فبينا عياش يسير بظهر قباء إذ لقي الحارثَ فقتله، فقال الناس‏:‏ ويحك أي شيء صنعت‏؟‏ إنه قد أسلم، فرجع عياش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ يا رسول الله قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته، فنزل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً‏}‏‏.‏

وهذا نهي عن قتل المؤمن كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏"‏ الأحزاب- 53‏)‏‏.‏

‏{‏إِلا خَطَأً‏}‏ استثناء منقطع معناه‏:‏ لكنْ إنْ وقَعَ خطأ، ‏{‏وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ‏}‏ أي‏:‏ فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة، ‏{‏وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ‏}‏ كاملة، ‏{‏إِلَى أَهْلِهِ‏}‏ أي‏:‏ إلى أهل القتيل الذي يرثونه، ‏{‏إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا‏}‏ أي‏:‏ يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية، ‏{‏فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ‏}‏ أراد به إذا كان الرجل مسلمًا في دار الحرب منفردًا مع الكفار فقتله من لم يعلم بإسلامه فلا دية فيه، وعليه الكفارة، وقيل‏:‏ المراد منه إذا كان المقتول مسلمًا في دار الإسلام وهو مِنْ نَسَبِ قوم كفار، وقرابتُهُ في دار الحرب حربٌ للمسلمين ففيه الكفارة ولا دية لأهله، وكان الحارث بن زيد من قوم كفار حرب للمسلمين وكان فيه تحرير رقبة ولم يكن فيه دية لأنه لم يكن بين قومه وبين المسلمين عهد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ‏}‏ أراد به إذا كان المقتول كافرًا ذميًا أو معاهدًا فيجب فيه الدية والكفارة، والكفارة تكون بإعتاق رقبة مؤمنة سواء كان المقتول مسلمًا أو معاهدًا، رجلا كان أو امرأةً، حرًا كان أو عبدًا، وتكون في مال القاتل، ‏{‏فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏}‏ والقاتل إن كان واجدًا للرقبة أو قادرًا على تحصيلها بوجود ثمنها فاضلا عن نفقته ونفقة عياله وحاجته من مسكن ونحوه فعليه الإعتاق، ولا يجوز أن ينتقل إلى الصوم فإن عجز عن تحصيلها فعليه صومُ شهرين متتابعين، فإن أفطر يومًا متعمدًا في خلال الشهرين أو نسي النية ونوى صومًا آخر وجب عليه استئناف الشهرين‏.‏

وإن أفطر يومًا بعذر مرضٍ أو سفرٍ فهل ينقطع التتابع‏؟‏ اختلف أهل العلم فيه، فمنهم من قال‏:‏ ينقطع وعليه استئناف الشهرين، وهو قول النخعي وأظهر قولي الشافعي رضي الله عنه لأنه أفطر مختارًا، ومنهم من قال‏:‏ لا ينقطع وعليه أن يبني، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والشعبي‏.‏

ولو حاضت المرأة في خلال الشهرين أفطرت أيام الحيض ولا ينقطع التتابع، فإذا طَهُرَتْ بَنَتْ على ما صامت، لأنه أمرٌ مكتوب على النساء لا يمكنهن الاحتراز عنه‏.‏

فإن عجز عن الصوم فهل يخرج عنه بإطعام ستين مسكينًا‏؟‏ فيه قولان، أحدهما‏:‏ يخرج كما في كفارة الظهار، والثاني‏:‏ لا يخرج لأن الشرع لم يذكر له بدلا فقال‏:‏ ‏{‏فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ‏}‏‏.‏

‏{‏تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ جعل الله ذلك توبة لقاتل الخطأ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا‏}‏ بمن قتل خطأ ‏{‏حَكِيمًا‏}‏ فيما حكم به عليكم‏.‏

أما الكلام في بيان الدية، فاعلم أن القتل على ثلاثة أنواع‏:‏ عمد محض، وشبه عمد، وخطأ محض‏.‏

أما العمد المحض فهو‏:‏ أن يقصد قتل إنسان بما يقصد به القتل غالبا فقتله ففيه القصاص عند وجود التكافؤ، أو دية مغلظة في مال القاتل حالَّة‏.‏

وشبه العمد‏:‏ أنْ يقصد ضربه بما لا يموت مثله من مثل ذلك الضرب غالبًا، بأن ضربه بعصًا خفيفة، أو حجر صغير ضربة أو ضربتين، فمات فلا قصاص فيه، بل يجب فيه دِيَةُ مغلّظة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين‏.‏

والخطأ المحض هو‏:‏ أن لا يقصد ضربه بل قصد شيئا آخر فأصابه فمات منه فلا قصاص فيه، بل تجب ديةٌ مخففة على عاقلته مؤجلة إلى ثلاث سنين‏.‏

وتجب الكفارة في ماله في الأنواع كلها، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه‏:‏ قتل العمد لا يوجب الكفارة، لأنه كبيرة كسائر الكبائر‏.‏

وديةُ الحر المسلم مائة من الإبل فإذا عدمت الإبل وجبت قيمتها من الدراهم أو الدنانير في قول، وفي قولٍ يجب بدل مقدر منها وهو ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، لما رُوي عن عمر رضي الله عنه‏:‏ فرض الدية على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر ألف درهم‏"‏‏.‏

وذهب قوم إلى أن الواجب في الدية مائة من الإبل، أو ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهم، وهو قول عروة بن الزبير والحسن البصري رضي الله عنهما، وبه قال مالك‏.‏

وذهب قوم إلى أنها مائة من الإبل أو ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم، وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي‏.‏

ودية المرأة نصف دية الرجل، ودية أهل الذمة والعهد ثلث دِيةِ المسلم، إن كان كتابيًا، وإن كان مجوسيًا فخُمسُ الدِّيَة، رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال‏:‏ دِيَةُ اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه‏.‏

وذهب قوم إلى أن دية الذمي والمعاهد مثل دِيَةِ المسلم، رُوي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وهو قول سفيان الثوري وأصحاب الرأي‏.‏

وقال قوم‏:‏ دية الذمي نصف دية المسلم وهو قول عمر بن عبد العزيز، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله‏.‏

والدية في العمد المحض وشبه العمد مغلّظة بالسِّن فيجب ثلاثون حُقّة وثلاثون جَذَعة وأربعون خَلِفَة في بطونها أولادها، وهو قول عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وبه قال عطاء، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي رضي الله عنه، أنا ابن عيينة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط أو العصا مائة من الإبلِ مُغلّظة، منها أربعون خَلِفَة في بطونها أولادها‏"‏‏.‏

وذهب قوم إلى أن الدِّية المغلّظة أرباعٌ‏:‏ خمسٌ وعشرون بنت مخاض، وخمْسَ وعشرون بنت لبون، وخمسٌ وعشرون حُقّة، وخَمسٌ وعشرون جَذَعَة، وهو قول الزهري وربيعة وبه قال مالك وأحمد وأصحاب الرأي‏.‏

وأما دِيةُ الخطأ فمخففة، وهي أخماسٌ بالاتفاق، غير أنهم اختلفوا في تقسيمها، فذهب قوم إلى أنها عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لَبُون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حُقّة، وعشرون جَذَعَة، وهو قول عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري وربيعة، وبه قال مالك والشافعي رحمهم الله، وأبدل قوم بني اللبون ببنات المخاض، يُروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي‏.‏

ودية الأطراف على هذا التقدير، ودية المرأة فيها على النصف من دية الرجل، والدية في قتل الخطأ وشبه العمد على العاقلة، وهم عصبات القاتل من الذكور، ولا يجب على الجاني منها شيء لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجَبَها على العاقلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏93‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ‏(‏93‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا‏}‏ الآية، نزلت في مِقْيَس بن صُبَابة الكناني، وكان قد أسلم هو وأخوه هشام، فوجد أخاه هشام قتيلا في بني النجار فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رجلا من بني فهر إلى بني النجار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمْتم قاتل هشام بن صبابة أن تدفعوه إلى مقيس فيقتص منه، وإن لم تعلموا أن تدفعوا إليه ديَتَه، فأبلغهم الفهري ذلك فقالوا‏:‏ سمعًا وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلا ولكنّا نؤدي ديَتَه، فأعطوه مائة من الإبل، ثم انصرفا راجعين نحو المدينة فأتى الشيطان مقيسًا فوسوس إليه، فقال‏:‏ تقبل دية أخيك فتكون عليك مسبَّة، اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية؛ فتغفل الفهري فرماه بصخرة فشدخه، ثم ركب بعيرًا وساق بقيتها راجعًا إلى مكة كافرًا فنزل فيه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا‏}‏ ‏{‏فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا‏}‏ بكفره وارتدادِهِ، وهو الذي استثناه النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة، عمّن أمَنَهُ فقتل وهو متعلق بأستار الكعبة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ‏}‏ أي‏:‏ طرده عن الرحمة، ‏{‏وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا‏}‏ اختلفوا في حكم هذه الآية‏.‏

فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أن قاتل المؤمن عمدًا لا توبةَ له، فقيل له‏:‏ أليس قد قال الله في سورة الفرقان‏:‏ ‏"‏ولا يقتلون النفس التي حرَّمَ الله إلا بالحقِّ‏"‏ إلى أن قال ‏"‏ومن يَفْعَلْ ذلك يلق أثَامًا يُضاعفْ له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مُهَانًا إلا مَنْ تابَ‏"‏ الفرقان 67- 70‏)‏، فقال‏:‏ كانت هذه في الجاهلية، وذلك أن أناسًا من أهل الشرك كانُوا قد قتلُوا وزنوا فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ إنّ الذي تدعوا إليه لحَسَنٌ، لو تخبرنا أنّ لِمَا عملنا كفارة، فنزلت ‏"‏والذين لا يدعون مع الله إلها آخر‏"‏ إلى قوله ‏"‏إلا مَنْ تَابَ وآمن‏"‏ فهذه لأولئك‏.‏

وأما التي في النساء فالرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم‏.‏

وقال زيد بن ثابت‏:‏ لما نزلت التي في الفرقان ‏"‏والذين لا يدعُون مع الله إلها آخر‏"‏، عجبنا من لينها فلبثنا سبعة أشهر ثم نزلت الغليظة بعد اللّينة فنسخت اللينة، وأراد بالغليظة هذه الآية، وباللّينة آية الفرقان‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ تلك آية مكية وهذه مدنية نزلت ولم ينسخها شيء‏.‏

والذي عليه الأكثرون، وهو مذهب أهل السنة‏:‏ أن قاتل المسلم عمدًا توبته مقبولة لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وإني لغفارٌ لمن تاب وآمن وعملَ صالحا‏"‏ طه- 82‏)‏ وقال‏:‏ ‏"‏إن الله لا يغفر أن يُشْرَكَ به ويغفرُ ما دون ذلكَ لمن يشاء‏"‏ النساء- 48‏)‏ وما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما فهو تشديد ومبالغة في الزجر عن القتل، كما رُوي عن سفيان بن عُيينة أنه قال‏:‏ إن لم يقتل يقال له‏:‏ لا توبةَ لك، وإن قَتَلَ ثم جاء يُقال‏:‏ لك توبة‏.‏ ويُروى مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

وليس في الآية متعلق لمن يقول بالتخليد في النار بارتكاب الكبائر، لأن الآية نزلت في قاتل وهو كافر، وهو مقيس بن صبابة، وقيل‏:‏ إنه وعيد لمن قتل مؤمنًا مستحلا لقتله بسبب إيمانه، ومن استحل قتل أهل الإيمان لإيمانهم كان كافرًا مخلدًا في النار، وقيل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا‏}‏ معناه‏:‏ هي جزاؤه إن جازاه، ولكنه إن شاء عذبه وإن شاء غفر له بكرمه، فإنه وعد أنْ يغفر لمن يشاء‏.‏

حكي أن عمرو بن عبيد جاء إلى أبي عمرو بن العلاء فقال له‏:‏ هل يُخلفُ الله وعدَه‏؟‏ فقال‏:‏ لا فقال‏:‏ أليس قد قال الله تعالى ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا‏}‏ فقال له أبو عمرو بن العلاء‏:‏ من العجمة أُتِيْتَ يا أبا عثمان‏!‏ إن العرب لا تعد الإخلاف في الوعيد خلفًا وذمًا، وإنما تعد إخلاف الوعد خلفًا وذمًا، وأنشد‏:‏

وإنِّي وإنْ أوْعَدْتُه أو وَعَدْتُه *** لَمُخْلِفُ إيعادَيِ ومُنْجِزُ مَوْعِدِي

والدليل على أن غير الشرك لا يوجب التخليد في النار ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا أبو اليمان، أنا شعيب، عن الزهري، قال أخبرني أبو إدريس عائذ الله بن عبد الله أن، عبادة بن الصامت رضي الله عنه- وكان شهد يوم بدرًا وهو أحد النقباء ليلة العقبة- وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وحوله عصابة من أصحابه‏:‏ ‏"‏بايعوني على أن لا تُشْرِكُوا بالله شيئا ولا تسرقُوا ولا تزنُوا ولا تقتلُوا أولادَكم ولا تأتوا ببهتانٍ تفترونَه بينَ أيديكُم وأرجلكم ولا تعصُوا في معروفٍ، فمنْ وفىَّ منكم فأجرُه على الله، ومن أصاب من ذلك شيئُا فعُوقِبَ في الدنيا فهو كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئا ثم ستره الله، فهو إلى الله إن شاءَ عفا عنه وإن شاء عاقبه‏"‏، فبايعناه على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏94‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏94‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا‏}‏ الآية، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نزلت هذه الآية في رجل من بني مرة بن عوف يقال له مرداس بن نهيك، وكان من أهل فدك وكان مسلمًا لم يُسلم من قومه غيره، فسمعوا بسريةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم تريدهم، وكان على السرية رجل يقالُ له غالب بن فُضالة الليثي، فهربُوا وأقام الرجل لأنه كان على دين المسلمين، فلما رأى الخيل خاف أن يكونوا من غير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فألجأ غنمه إلى عاقُول من الجبل، وصعد هو إلى الجبل فلما تلاحقت الخيلُ سمعهم يكبرون، فلمّا سمع التكبير عرف أنهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكبرّ ونزل وهو يقول‏:‏ لا إله إلا الله محمد رسول الله، السلام عليكم، فتغشاه أسامة بن زيد فقتله واستاق غنمه ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وجدًا شديدًا، وكان قد سبقهم قبل ذلك الخبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏قتلتموه إرادَةَ ما مَعَه‏"‏‏؟‏ ثم قرأ هذه الآية على أسامة بن زيد، فقال‏:‏ يا رسول الله استغفر لي، فقال فكيف بلا إله إلا الله‏؟‏ قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، قال أسامة‏:‏ فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيدها حتى وَددْتُ أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغفرَ لي بعد ثلاث مرات، وقال‏:‏ ‏"‏اعتقْ رقبةً‏"‏‏.‏

وروى أبو ظبيان عن أسامة رضي الله عنه قال قلت‏:‏ يا رسول الله إنّما قال خوفًا من السلاح، قال‏:‏ ‏"‏أفلا شققتَ عن قلبه حتى تعلم أقالها خوفًا أم لا‏"‏‏؟‏

وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ مرَّ رجلٌ من بني سليم على نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه غنم له فسلّم عليهم، قالوا‏:‏ ما سلم عليكم إلا ليتعوذ منكم فقاموا فقتلُوه وأخذوا غنمه فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ يعني إذا سافرتم في سبيل الله، يعني‏:‏ الجهاد‏.‏

‏{‏فَتَبَيَّنُوا‏}‏ قرأ حمزة والكسائي هاهنا في موضعين وفي سورة الحجرات بالتاء والثاء من التثبيت، أي‏:‏ قفوا حتى تعرفوا المؤمنَ من الكافر، وقرأ الآخرون بالياء والنون من التبين، يقال‏:‏ تَبَيَّنْتُ الأمرَ إذا تأملته، ‏{‏وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَم‏}‏ هكذا قراءة أهل المدينة وابن عامر وحمزة، أي‏:‏ المقادة، وهو قول ‏"‏لا إله إلا الله محمد رسول الله‏"‏، وقرأ الآخرون السلام، وهو السلام الذي هو تحية المسلمين لأنه كان قد سلّم عليهم، وقيل‏:‏ السلّم والسلام واحد، أي‏:‏ لا تقولوا لمن سلّم عليكم لستَ مؤمنًا، ‏{‏تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ يعني‏:‏ تطلبون الغُنم والغنيمة، و ‏"‏عرض الحياة الدنيا‏"‏ منافعها ومتاعها، ‏{‏فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ‏}‏ أي غنائم، ‏{‏كَثِيرَة‏}‏ وقيل‏:‏ ثوابٌ كثير لمن اتّقَى قتلَ المؤمن، ‏{‏كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ كذلك كنتم تكتُمُون إيمانكم من المشركين ‏{‏فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ‏}‏ بإظهار الإسلام، وقال قتادة‏:‏ كنتم ضُلالا من قبل فمنَّ الله عليكم بالإسلام والهداية‏.‏

وقيل معناه‏:‏ كذلك كنتم من قبل تأمنْون في قومكم بلا إله إلا الله قبل الهجرة فلا تخيفوا من قالها فمنَّ الله عليكم بالهجرة، فَتَبَيَّنُوا أن تقتلوا مؤمنًا‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ قلت‏:‏ إذا رأى الغزاةُ في بلد أو قرية شعارَ الإسلام فعليهم أن يكفُّوا عنهم، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا قومًا فإن سمع أذانًا كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أغار عليهم‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا سفيان، عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، عن ابن عصام، عن أبيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعثَ سريةً قال‏:‏ ‏"‏إذا رأيتم مسجدًا أو سمعتم مؤذنًا فلا تقتُلُوا أحدًا‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏95‏]‏

‏{‏لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏95‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ الآية، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، ثنا عبد العزيز بن عبد الله، ثنا إبراهيم بن عبد الله، حدثنا إبراهيم بن سعد الزهري، حدثني صالح بن كيسان، عن ابن شهاب عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أنه قال‏:‏ رأيتُ مروان بن الحكم جالسًا في المسجد فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أنا زيد بن ثابت رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملى عليه ‏{‏لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّه‏}‏ قال‏:‏ فجاء ابنُ أم مكتوم وهو يُمْلِيها علي، فقال‏:‏ يا رسول الله لو أستطيعُ الجهادَ لجاهدتُ، وكان رجلا أعمى، فأنزل الله تعالى عليه وفخذُهُ على فخذي، فثقلتْ علي حتى خفتُ أن ترضَّ فخذي، ثم سُرِّى عنه فأنزل الله ‏{‏غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ‏}‏‏.‏

فهذه الآية في الجهاد والحثِّ عليه، فقال‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ عن الجهاد ‏{‏غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ‏}‏ قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي بنصب الراء، أي‏:‏ إلا أولي الضّرر، وقرأ الآخرون برفع الراء على نعت ‏"‏ القاعدين ‏"‏ يُريُد‏:‏ لا يستوي القاعدون الذين هم غيرُ أولي الضرر، أي‏:‏ غير أولي الزَّمَانَةِ والضّعف في البدن والبصر، ‏{‏وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ‏}‏ غير أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين، لأن العذر أقعدهم‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا عبد الرحيم بن منيب، أنا يزيد بن هارون، أخبرنا حميد الطويل، عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا رجع من غزوة تبوك، فَدَنَا من المدينة قال‏:‏ ‏"‏إنّ في المدينة لأقوامًا ما سرتُمْ من مسيرٍ ولا قطعتم من وادٍ إلا كانوا معكم فيه‏"‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله وهم بالمدينة‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر‏"‏

ورَوى القاسم عن ابن عباس قال‏:‏ ‏{‏لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ عن بدر والخارجون إلى بدر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً‏}‏ أي‏:‏ فضيلةً، وقيل‏:‏ أراد بالقاعدين هاهنا أولي الضرر، فضّل الله المجاهدين عليهم درجةً لأن المجاهد باشر الجهاد مع النِّية وأولو الضرر كانت لهم نيةٌ ولكنّهم لم يباشروا، فنزلوا عنهم بدرجة، ‏{‏وَكُلا‏}‏ يعني المجاهد والقاعد ‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ يعني‏:‏ الجنة بإيمانهم، وقال مقاتل‏:‏ يعني المجاهد والقاعد المعذُور، ‏{‏وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ يعني‏:‏ على القاعدين من غير عذر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏96‏]‏

‏{‏دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏96‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ قال ابن محيريز في هذه الآية‏:‏ هي سبعون درجة ما بين كل درجتين عدو الفرس الجواد المضمَّر سبعين خريفا‏.‏

وقيل‏:‏ الدرجات هي الإسلام والجهاد والهجرة والشهادة فازَ بها المجاهدون، أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد بن شريك الشافعي، أنا عبد الله بن مسلم أبو بكر الجُورَبْذِي، أنا يونس بن عبد الأعلى، أنا ابن وهب، حدثني أبو هانئ الخولاني، عن أبي عبد الرحمن الجبلي، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يا أبا سعيد من رضيَ بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا وجبت له الجنة‏"‏ قال فعجب لها أبو سعيد فقال‏:‏ أعِدْهَا علي يا رسول الله، ففعل، قال‏:‏ ‏"‏وأخْرَى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض‏"‏ قال‏:‏ وما هي يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله‏"‏‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن علي بن الشاه، أنا أبي، أنا أبو الحسن علي بن أحمد بن صالح المطرِّز، أنا محمد بن يحيى، أنا شريح بن النعمان، أنا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من آمَنَ بالله ورسولهِ وأقامَ الصلاةَ وصامَ رمضانَ كانَ حقًّا على الله عز وجل أن يُدخلهُ الجنّةَ، جاهد في سبيل الله أو جلسَ في أرضه التي وُلد فيها‏"‏، قالوا‏:‏ أفلا نُنذر الناس بذلك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إن في الجنّة مائة درجة أعدّها الله للمجاهدين في سبيله، ما بين كل من الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتُمُ الله فاسألوه الفِرْدَوسَ فإنه أوسط الجنّةِ وأعلى الجنّةِ وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة‏"‏‏.‏

واعلمْ أن الجهاد في الجملة فرضٌ، غير أنه ينقسم إلى فرض العين وفرض الكفاية‏.‏

ففرض العين‏:‏ أن يدخل الكفارُ دار قوم من المؤمنين، فيجب على كل مكلف من الرجال، ممن لا عذر له من أهل تلك البلدة الخروجُ إلى عدوهم، حرًا كان أو عبدًا، غنيًا كان أو فقيرًا، دفعًا عن أنفسهم وعن جيرانهم‏.‏

وهو في حق من بَعُدَ منهم من المسلمين فرض على الكفاية، فإن لم تقع الكفاية بمن نزل بهم يجب على من بعد منهم من المسلمين عونُهم، وإن وقعت الكفاية بالنازلين بهم فلا فرض على الأبعدين إلا على طريق الاختيار، ولا يدخل في هذا القسم العبيد والفقراء، ومن هذا القبيل أن يكون الكفار قارِّين في بلادهم، فعلى الإمام أن لا يخلي سنة عن غزوة يغزوها بنفسه أو بسراياه حتى لا يكون الجهاد معطَّلا والاختيارُ للمطيق الجهاد مع وقوع الكفاية بغيره‏:‏ أنْ لا يقعد عن الجهاد، ولكنْ لا يُفترض، لأنّ الله تعالى وعد المجاهد والقاعد الثوابَ في هذه الآية فقال‏:‏ ‏{‏وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى‏}‏ ولو كان فرضًا على الكافة لاستحق القاعد العقاب لا الثواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏97‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏97‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ‏}‏ الآية، نزلت في ناس من أهل مكة تكلَّمُوا بالإسلام ولم يهاجروا، منهم‏:‏ قيس بن الفاكه بن المغيرة وقيس بن الوليد بن المغيرة وأشباههما، فلما خرج المشركون إلى بدر خرجوا معهم فقتلوا مع الكفار، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ‏}‏ أراد به ملك الموت وأعوانه، أو أراد ملك الموت وحده، كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏قل يتوفاكم ملك الموت الذي وُكِّلَ بكم‏"‏ السجدة- 11‏)‏، والعرب قد تخاطب الواحد بلفظ الجمع ‏{‏ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ‏}‏ بالشرك، وهو نصب على الحال أي‏:‏ في حال ظلمهم، قيل‏:‏ أي بالمقام في دار الشرك لأن الله تعالى لم يقبل الإسلام بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالهجرة، ثم نسخ ذلك بعد فتح مكة فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا هجرة بعد الفتح‏"‏، وهؤلاء قُتلوا يومَ بدر وضربتِ الملائكة وجوههم وأدبارهم، وقالوا لهم‏:‏ فِيْمَ كنتم‏؟‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ في ماذا كنتم‏؟‏ أو في أي الفريقين كنتم‏؟‏ أفي المسلمين‏؟‏ أم في المشركين‏؟‏ سؤال توبيخ وتعيير فاعتذروا بالضعف عن مقاومة أهل الشرك، و ‏{‏قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ‏}‏ عاجزين، ‏{‏فِي الأرْضِ‏}‏ يعني أرض مكة، ‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة ‏{‏أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا‏}‏ يعني‏:‏ إلى المدينة وتخرجوا من مكة، من بين أهل الشرك‏؟‏ فأكذبهم الله تعالى وأعلمنا بكذبهم، وقال‏:‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ‏}‏ منزلهم ‏{‏جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ بئس المصير إلى جهنم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏98- 100‏]‏

‏{‏إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا ‏(‏98‏)‏ فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ‏(‏99‏)‏ وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏100‏)‏‏}‏‏.‏

ثم استثنى أهل العذر منهم، فقال‏:‏ ‏{‏إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً‏}‏ لا يقدرون على حيلة ولا على نفقة ولا قوة للخروج منها، ‏{‏وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ لا يعرفون طريقًا إلى الخروج‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا يعرفون طريق المدينة‏.‏

‏{‏فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ‏}‏ يتجاوز عنهم، وعسَى من الله واجبٌ، لأنه للإطماع، والله تعالى إذا أطمع عبدًا وصله إليه، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كنتُ أنا وأمي ممن عذر الله، يعني المستضعفين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو لهؤلاء المستضعفين في الصلاة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا معاذ بن فضالة، أنا هشام، عن يحيى هو ابن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قال‏:‏ سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد في الركعة الآخرة من صلاة العشاء قنت اللّهم أنجِ عياشَ بن أبي ربيعة اللّهم أنجِ الوليدَ اللّهم أنجِ سلمةَ بن هشام اللّهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين اللّهم اشْدُدُ وطأتَكَ على مضر، اللهم اجعلها سنين كسنيِّ يوسف ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً‏}‏ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏{‏مُرَاغَمًا‏}‏ أي‏:‏ مُتَحَوَّلا يتحول إليه، وقال مجاهد‏:‏ متزحزحًا عما يكره، وقال أبو عبيدة‏:‏ المُراغم‏:‏ يقال‏:‏ راغمت قومي وهاجرتهم، وهو المُضْطَرَبُ والمَذْهَبُ‏.‏

رُوي أنه لمّا نزلت هذه الآية سمعها رجل من بني ليث شيخ كبير مريض يقال له جُنْدُع بن ضَمْرة، فقال‏:‏ والله ما أبيت الليلة بمكة، أخرجوني، فخرجوا به يحملونه على سرير حتى أتوا به التنعيم فأدركه الموت، فصفقَ يمينه على شماله ثم قال‏:‏ اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك عليه رسولك، فمات فبلغ خبرُه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ لو وَافَى المدينة لكان أتم وأوْفَى أجرًا، وضحك المشركون وقالوا‏:‏ ما أدرك هذا ما طلب، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ‏}‏‏.‏ أي‏:‏ قبل بلوغه إلى مهاجره، ‏{‏فَقَدْ وَقَعَ‏}‏ أي‏:‏ وجَبَ ‏{‏أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ‏}‏ بإيجابه على نفسه فضْلا منه، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏101‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ سافرتم، ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ‏}‏ أي‏:‏ حرج وإثم ‏{‏أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ‏}‏ يعني من أربع ركعات إلى ركعتين، وذلك في صلاة الظهر والعصر والعشاء ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ‏}‏ أي‏:‏ يغتالكم ويقتلكم ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ في الصلاة، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏على خوفٍ من فرْعَوْنَ وملئهم أن يفتنهم‏"‏ يونس- 83‏)‏ أي‏:‏ يقتلهم‏.‏

‏{‏إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا‏}‏ أي‏:‏ ظاهر العداوة‏.‏

اعلم أن قصر الصلاة في السفر جائز بإجماع الأمة، واختلفوا في جواز الإتمام‏:‏ فذهب أكثرهم إلى أن القصر واجب، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وجابر وابن عباس رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وعمر بن عبد العزيز وقتادة وهو قول مالك وأصحاب الرأي، لِمَا رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ ‏"‏الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأُقرتْ صلاة السفر وأُتمت صلاة الحضر‏"‏‏.‏

وذهب قوم إلى جواز الإتمام، رُوي ذلك عن عثمان وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما، وبه قال الشافعي رضي الله عنه، إن شاءَ أتمَّ وإن شاءَ قصرَ، والقصرُ أفضل‏.‏

أخبرنا الإمام عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا إبراهيم بن محمد، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏"‏كل ذلك قد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم قصرَ الصلاةَ وأتمَّ‏"‏‏.‏

وظاهر القرآن يدل على هذا، لأنه قال‏:‏ ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ‏}‏ ولفظ لا جناح إنما يستعمل في الرخص لا فيما يكون حتمًا، فظاهر الآية يوجب أنّ القصر لا يجوز إلا عند الخوف وليس الأمر على ذلك، إنمّا نزلت الآية على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو‏.‏

والقصر جائز في السفر في حال الأمن عند عامة أهل العلم، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا مسلم بن خالد وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي روّاد عن ابن جريج، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، عن عبد الله بن بَابَاه، عن يعلى بن أمية، قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ إنما قال الله تعالى ‏{‏أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ وقد أمن الناس، فقال عمر رضي الله عنه‏:‏ عجبت مما عجبتُ منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي، أنا عبد الوهاب، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ سافر رسول الله بين مكة والمدينة آمنًا لا يخاف إلا الله فصلى ركعتين‏"‏‏.‏

وذهب قوم إلى أنّ ركعتي المسافر ليستا بقصر إنما القصر أن يصلي ركعة واحدة في الخوف، يُروى ذلك عن جابر رضي الله عنه وهو قول عطاء وطاووس والحسن ومجاهد، وجعلوا شرط الخوف المذكور في الآية‏:‏ باقيًا وذهب أكثر أهل العلم إلى أن الاقتصار على ركعة واحدة لا يجوز خائفًا كان أو آمنًا‏.‏

واختلف أهل العلم في مسافة القصر، فقالت طائفة‏:‏ يجوز القصر في السفر الطويل والقصير، رُوي ذلك عن أنس رضي الله عنه، وقال عمرو بن دينار‏:‏ قال لي جابر بن زيد‏:‏ اقصر بعرفة، أما عامة الفقهاء فلا يجوِّزون القصر في السفر القصير‏.‏

واختلف في حد ما يجوز به القصر، فقال الأوزاعي‏:‏ مسيرة يوم، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم يقصران ويفطران في أربعة بُرُدٍ، وهي ستة عشر فرسخًا، وإليه ذهب مالك وأحمد وإسحاق، وقول الحسن والزهري قريب من ذلك، قالا مسيرة يومين، وإليه ذهب الشافعي رضي الله عنه، قال‏:‏ مسيرة ليلتين قاصدتين، وقال في موضع‏:‏ ستة وأربعون ميلا بالهاشمي، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي‏:‏ مسيرة ثلاثة أيام‏.‏

وقيل‏:‏ قوله ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ متصل بما بعده من صلاة الخوف منفصل عمّا قبله، رُوي عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال‏:‏ نزل قوله ‏{‏فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ‏}‏ هذا القدر، ثم بعد حوْلٍ سألُوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة الخوف فنزل‏:‏ ‏{‏إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا‏}‏ ‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ‏}‏ الآية‏.‏ ومثله في القرآن كثير أن يجيء الخبر بتمامه ثم يُنسق عليه خبر آخر، وهو في الظاهر كالمتصل به، وهو منفصل عنه، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ الآن حَصْحَصَ الحقُّ أنا راوَدْتُهُ عن نفسه وإنه لمن الصّادقين‏"‏ يوسف- 51‏)‏، وهذه حكاية عن امرأة العزيز، وقوله‏:‏ ‏"‏ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب‏"‏ يوسف- 52‏)‏ إخبار عن يوسف عليه السلام‏.‏