فصل: تفسير الآية رقم (102)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏102‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ‏}‏ روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وجابر رضي الله عنهم أن المشركين لمّا رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه قاموا إلى الظهر يُصلون جماعة ندموا أن لو كانوا كبوُّا عليهم، فقال بعضهم لبعض‏:‏ دعوهم فإن لهم بعدها صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائهم، يعني صلاة العصر، فإذا قاموا فيها فشدُّوا عليهم فاقتلوهم، فنزل جبريل عليه السلام فقال‏:‏ يا محمد إنها صلاة الخوف وإن الله عز وجل يقول‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ‏}‏ فعلّمه صلاة الخوف‏.‏

وجملته‏:‏ أن العدو إذا كانوا في معسكرهم في غير ناحية القبلة فيجعل الإمام القوم فرقتين فتقف طائفة وجاه العدو تحرسُهم، ويشرع الإمام مع طائفة في الصلاة، فإذا صلى بهم ركعة قام وثبت قائمًا حتى أتموا صلاتهم، ذهبوا إلى وِجَاه العدو ثم أتت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية، وثبت جالسًا حتى أتموا لأنفسهم الصلاة، ثم يُسَلِّم بهم، وهذه رواية سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك بذات الرقاع، وإليه ذهب مالك والشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏

أنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف‏:‏ أن طائفة صفّت معه وصفت طائفة وجَاهَ العدو فصلى بالتي معه ركعة ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا وصفوا وجاه العدو وجاءت الطائفةُ الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسم ثم سلّم بهم‏.‏ قال مالك‏:‏ وذلك أحسن ما سمعت في صلاة الخوف‏.‏

وأخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا مسدد أنا يحيى عن شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا‏.‏

وذهب قوم إلى أن الإمام إذا قام إلى الركعة الثانية تذهب الطائفة الأولى في خلال الصلاة إلى وِجَاهِ العدو وتأتي الطائفة الثانية فيُصلي بهم الركعة الثانية ويسلّم وهم لا يسلمون بل يذهبون إلى وِجَاهِ العدو، وتعود الطائفة الأولى فتتُّم صلاتَها، ثم تعود الطائفة الثانية فتتُّم صلاتَها، وهذه رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى كذلك‏.‏ وهو قول أصحاب الرأي‏.‏

أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي، أنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي، أنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي، أنا أبو عيسى الترمذي، أنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، أنا يزيد بن زريع، أنا معمر، عن الزهري، عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو، ثم انصرفوا فقاموا في مقام أولئك وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى ثم سلم بهم، فقام هؤلاء فصلوا ركعتهم‏.‏

وكلتا الروايتين صحيحة، فذهب قوم إلى أن هذا من الاختلاف المباح، وذهب الشافعي رضي الله عنه إلى حديث سهل بن أبي حثمة لأنه أشد موافقة لظاهر القرآن وأحوط للصلاة وأبلغ في حراسة العدو، وذلك لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ إذا صلّوا، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا‏}‏ وهذا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلوا، وقال‏:‏ ‏{‏فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ‏}‏ فمقتضاه أن يصلوا تمام الصلاة، فظاهره يدل أن كل طائفة تفارق الإمام بعد تمام الصلاة، والاحتياط لأمر الصلاة من حيث أنه لا يكثر فيها العمل والذهاب والمجيء والاحتياط لأمر الحرب من حيث أنهم إذا لم يكونوا في الصلاة كان أمكن للحرب والهرب إن احتاجوا إليه‏.‏

ولو صلى الإمام أربع ركعات بكل طائفة ركعتين جاز‏.‏ أنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين الإسفرايني، أنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، قال أنا الضعاني، أنا عفان بن مسلم، ثنا أبان العطار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنّا بذات الرقاع وكنّا إذا أتينا على شجرة ظليلة تركنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم معلّق بشجرة فأخذ سيف نبي الله صلى الله عليه وسلم فاخترطه فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتخافني‏؟‏ قال‏:‏ لا‏.‏ قال‏:‏ فمن يمنعك مني‏؟‏ قال‏:‏ الله يمنعني منك، قال فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ فأغمد السيف وعلّقه فنُودي بالصلاة، قال فصلى بطائفة ركعتين ثم تأخروا فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين‏:‏ قال‏:‏ فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، أنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنا الشافعي أخبرني الثقة ابن علية أو غيره، عن يونس، عن الحسن، عن جابر رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالناس صلاة الظهر في الخوف ببطن نخل، فصلى بطائفة ركعتين ثم سلم، ثم جاءت طائفة أخرى فصلى بهم ركعتين ثم سلم‏.‏

وروي عن حذيفة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف أنه صلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا‏"‏ ورواه زيد بن ثابت وقال‏:‏ ‏"‏كانت للقوم ركعة واحدة وللنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان‏"‏‏.‏

وتأوله قوم على صلاة شدة الخوف، وقالوا‏:‏ الفرض في هذه الحالة ركعة واحدة‏.‏

وأكثر أهل العلم على أن الخوف لا ينقص عدد الركعات، وإن كان العدو في ناحية القبلة في مستوى إن حملوا عليهم رأوهم صلى الإمام بهم جميعا وحرسوا في السجود، كما أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنا أبو نعيم الإسفرايني، أنا أبو عوانة الحافظ، أنا عمار، أنا يزيد بن هارون، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن جابر رضي الله عنهما قال‏:‏ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فصففنا خلفه صفين، والعدو بيننا وبين القبلة فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وكبرنا جميعًا ثم ركع وركعنا جميعًا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر للسجود والصف الذي يليه، وقام الصف المؤخر نحر العدو فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود وقام الصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود ثم قاموا ثم تقدم الصف المؤخر، وتأخر المقدم ثم ركع النبي صلى الله عليه وسلم وركعنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا، ثم انحدر بالسجود والصف الذي يليه الذي كان مؤخرًا في الركعة الأولى، وقام الصف المؤخر في نحر العدو، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود والصف الذي يليه انحدر الصف المؤخر بالسجود فسجدوا، ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم وسلمنا جميعًا قال جابر رضي الله عنه‏:‏ كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائهم‏.‏

واعلم أن صلاة الخوف جائزة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ عند عامة أهل العلم‏.‏ ويحكى عن بعضهم عدم الجواز ولا وجه له‏.‏

وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمة الله عليه‏:‏ كل حديث روي في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز، روي فيها ستة أوجه أو سبعة أوجه‏.‏

وقال مجاهد في سبب نزول هذه الآية عن ابن عياش الزرقي قال‏:‏ كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فصلينا الظهر، فقال المشركون‏:‏ لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم، وهم في الصلاة فنزلت الآية بين الظهر والعصر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ شهيدًا معهم فأقمت لهم الصلاة، ‏{‏فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ‏}‏ أي‏:‏ فلتقف، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وإذا أظلم عليهم قاموا‏"‏ البقرة- 20‏)‏ أي‏:‏ وقفوا، ‏{‏وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ واختلفوا في الذين يأخذون أسلحتهم، فقال بعضهم‏:‏ أراد هؤلاء الذين وقفوا مع الإمام يصلّون يأخذون الأسلحة في الصلاة، فعلى هذا إنما يأخذه إذا كان لا يشغله عن الصلاة، ولا يُؤْذي مَنْ بجنبه فإذا شغلته حركته وثَقّلَتْهُ عن الصلاة كالجعبة والترس الكبير أو كان يؤذي من جنبه كالرمح فلا يأخذه‏.‏

وقيل‏:‏ وليأخذوا أسلحتهم أي‏:‏ الباقون الذين قاموا في وجه العدو، ‏{‏فَإِذَا سَجَدُوا‏}‏ أي‏:‏ صلوا، ‏{‏فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ‏}‏ يريد مكان الذين هم وِِجَاَه العدو، ‏{‏وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا‏}‏ وهم الذين كانوا في وجه العدو، ‏{‏فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ‏}‏ قيل‏:‏ هؤلاء الذين أتوا، وقيل‏:‏ هم الذين صلّوا، ‏{‏وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ يتمنى الكفار، ‏{‏لَوْ تَغْفُلُونَ‏}‏ أي‏:‏ لو وجدُوكم غافلين، ‏{‏عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً‏}‏ فيقصدونَكم ويحملون عليكم حملة واحدة‏.‏

‏{‏وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ‏}‏ رخّص في وضع السلاح في حال المطر والمرض، لأن السلاح يثقل حمله في هاتين الحالتين، ‏{‏وَخُذُوا حِذْرَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ راقبوا العدو كيلا يتغفلوكم، والحذر ما يُتقَى به من العدو‏.‏

وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه غزا محاربًا وبنى أنمار، فنزلوا ولا يرون من العدو أحدًا، فوضع الناس أسلحتهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجة له قد وضع سلاحه حتى قطع الوادي والسماء تَرُشّ، فَحَاَل الوادي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أصحابه فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة فبصرَ به غَوْرَثُ بن الحارث المحاربي فقال‏:‏ قتلني الله إن لم أقتله، ثم انحدر من الجبل ومعه السيف فلم يشعر به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو قائم على رأسه ومعه السيف قد سَلَّه من غِمْدِهِ فقال‏:‏ يا محمد من يعصمك مني الآن‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ الله، ثم قال‏:‏ اللّهم اكفني غورث بن الحارث بما شئتَ، ثم أهوى بالسيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليضربه فأكبَّ لوجهِهِ من زَلْخٍة زُلِخَهَا من بين كتفيه، وندر سيفه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه ثم قال‏:‏ يا غورث من يمنعك مني الآن‏؟‏ قال‏:‏ لا أحد، قال تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله وأعطيكَ سيفكَ‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن أشهد أن لا أقاتلك أبدًا ولا أعين عليك عدوًا، فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، فقال غورث‏:‏ والله لأنت خير مني، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أجل أنا أحق بذلك منك، فرجع غورث إلى أصحابه فقالوا‏:‏ ويلك ما منعك منه‏؟‏ قال‏:‏ لقد أهويُت إليه بالسيف لأضربه فوالله ما أدري من زلخني بين كتفي فخررت لوجهي، وذكر حاله قال‏:‏ وسكن الوادي فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الوادي إلى أصحابه فأخبرهم الخبر وقرأ عليهم هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ من عدِّوكم‏.‏

وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس في هذه الآية كان عبد الرحمن بن عوف جريحًا‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا‏}‏ يُهانُون فيه، والجُنَاح‏:‏ الإثم، من جنحت‏:‏ إذا عدلت عن القصد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ‏(‏103‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ‏}‏ يعني‏:‏ صلاة الخوف، أي‏:‏ فرغتم منها، ‏{‏فَاذْكُرُوا اللَّهَ‏}‏ أي صلُّوا لله ‏{‏قِيَامًا‏}‏ في حال الصحة، ‏{‏وَقُعُودًا‏}‏ في حال المرض، ‏{‏وَعَلَى جُنُوبِكُمْ‏}‏ عند الحرج والزمانة، وقيل‏:‏ اذكروا الله بالتسبيح والتحميد والتهليل والتمجيد، على كل حال‏.‏

أخبرنا عمرو بن عبد العزيز الكاشاني، أنا القاسم بن جعفر الهاشمي، أنا أبو علي محمد بن أحمد اللؤلؤي، أنا أبو داود السجستاني، أنا محمد بن العلاء، أنا ابن أبي زائدة، عن أبيه، عن خالد بن سلمة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكُر الله على كل أحيانه‏"‏‏.‏

‏{‏فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ سكنتم وأمنتم، ‏{‏فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ‏}‏ أي‏:‏ أتموها أربعًا بأركانها، ‏{‏إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا‏}‏ قيل‏:‏ واجبًا مفروضًا مقدرًا في الحضر أربع ركعات وفي السفر ركعتان، وقال مجاهد‏:‏ أي فرضًا مؤقّتًا وقتَّه الله عليهم‏.‏

وقد جاء بيان أوقات الصلاة في الحديث، أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا أبو بكر عبد الله بن هاشم، حدثنا وكيع، أنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الحارس، عن عياش بن أبي ربيعة الزرقي، عن حكيم بن حكيم عن عبَّاد بن حُنَيفْ، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أمَّني جبريلُ عند البيت مرتين فصلّى بي المغرب حينَ أفطر الصائم، وصلّى بي العشاءَ حينَ غابَ الشّفقُ، وصلّى بي الفجرَ حين حَرُمَ الطعامُ والشرابُ على الصائم، وصلّى بي الغد الظهرَ حين كان ظلُّ كلِّ شيءٍ مثله، وصلّى بي العصَر حين كان ظِلُّ كل شيء مثليه، وصلّى بي المغربَ حينَ أفطرَ الصائم، وصلّى بي العشاء ثُلُثَ الليل الأول، وصلّى بي الفجرَ فأسفر، ثم التفتَ إلي قال‏:‏ يا محمد هذا وقتُ النبيين من قبلك، الوقتُ ما بين هذين الوقتين‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر بن الحسن الحيري، أنا وكيع، أنا حاجب بن أحمد، ثنا عبد الله بن هشام، ثنا وكيع ثنا بدر بن عثمان، ثنا أبو بكر بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سائلا أتاه فسأله عن مواقيت الصلاة، قال‏:‏ فلم يردَّ عليه شيئًا ثم أمر بلالا فأذن ثم أمره فأقام الصلاةَ حين انشقَّ الفجرُ فصلى، ثم أمره فأقام الظهرَ، والقائل يقول‏:‏ قد زالت الشمس أو لم تزل، وهو كان أعلم منهم، ثم أمره فأقام العصرَ والشمس مرتفعةٌ بيضاء نقية، ثم أمره فأقام المغربَ حين وقعت الشمس، ثم أمره فأقام العشاءَ حين سقوط الشفقِ، قال‏:‏ وصلى الفجرَ من الغد، والقائل يقول‏:‏ طلعتِ الشمسُ أو لم تطلع، وصلى الظهر قريبًا من وقت العصر بالأمس وصلى العصر والقائل يقول قد احمرَّتِ الشمسُ وصلّى المغربَ قبل أن يغيبَ الشفقُ الأحمر، وصلى العشاء ثُلُثَ الليل الأول، ثم قال‏:‏ أين السائل عن الوقت‏؟‏ فقال الرجل‏:‏ أنا يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏ما بين هذين الوقتين وقت‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏104‏]‏

‏{‏وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏104‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ‏}‏ الآية، سبب نزولها أن أبا سفيان وأصحابه لمّا رجعوا يوم أُحد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة في آثارهم فشكوا ألم الجراحات، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَهِنُوا‏}‏ أي‏:‏ لا تضعُفوا ‏{‏في ابتغاء القوم‏}‏ في طلب أبي سفيان وأصحابه، ‏{‏إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ‏}‏ تتوجّعُون من الجراح، ‏{‏فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ يتوجّعُون، يعني الكفار، ‏{‏كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ‏}‏ أي‏:‏ وأنتم مع ذلك تأملون من الأجر والثواب في الآخرة والنصر في الدنيا ما لا يرجون، وقال بعض المفسرين‏:‏ المراد بالرجاء الخوف، لأن كل راج خائف أن لا يدرك مأموله‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ وترجون من الله أي‏:‏ تخافون من الله أي‏:‏ تخافون من عذاب الله ما لا يخافون، قال الفراء رحمه الله‏:‏ ولا يكون الرجاء بمعنى الخوف إلا مع الجحد، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏قل للذين آمنوا يغْفِرُوا للذين لا يْرجُونَ أيام الله‏"‏ الجاثية- 14‏)‏ أي‏:‏ لا يخافون، وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ما لَكُم لا ترجُون لله وقَارًا‏"‏ نوح- 13‏)‏ أي‏:‏ لا تخافون لله عظمتَه، ولا يجوز رجوتُك بمعنى‏:‏ خفتُك ولا خفتُك وأنتَ تريد رجوتك ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏105‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا ‏(‏105‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ‏}‏ الآية، روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال‏:‏ نزلت هذه الآية في رجل من الأنصار يقال له طعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث سرقَ درعًا من جار له يقال له قتادة بن النعمان، وكانت الدرع في جراب فيه دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود، يقال له زيد بن السمين، فالتمست الدرع عند طعمة فحلف‏:‏ بالله ما أخذها وما له بها من علم، فقال أصحاب الدرع‏:‏ لقد رأينا أثر الدقيق حتى دخل داره، فلما حلف تركوه واتبعوا أثر الدقيق إلى منزل اليهودي فأخذوه منه، فقال اليهودي دفعها إلي طعمة بن أبيرق، فجاء بنو ظفر وهم قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوه أن يُجادل عن صاحبهم، وقالوا له‏:‏ إنك إن لم تفعل افتضح صاحبنا، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُعاقب اليهودي‏.‏ ويُروى عن ابن عباس رضي الله عنهما في رواية أخرى أن طعمة سرق الدرع في جراب فيه نخالة فخرق الجراب حتى كان يتناثر منه النخالة طول الطريق فجاء به إلى دار زيد السمين وتركه على بابه، وحمل الدرع إلى بيته، فلما أصبح صاحب الدرع جاء على أثر النخالة إلى دار زيد السمين فأخذه وحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهمّ النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطع يد زيد اليهودي، وقال مقاتل‏:‏ إنّ زيدًا السمين أودع درعًا عند طعمة فجحدها طعمة فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ‏}‏ بالأمر والنهي والفصل، ‏{‏لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ‏}‏ بما علّمكَ الله وأوحى إليك، ‏{‏وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ‏}‏ طعمة ‏{‏خَصِيمًا‏}‏ معينًا مدافعًا عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏106- 108‏]‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏106‏)‏ وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ‏(‏107‏)‏ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ‏(‏108‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ‏}‏ ممّا هممتَ من معاقبة اليهودي، وقال مقاتل‏:‏ واستغفر الله من جِدَالِكَ عن طعمة ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏‏.‏

‏{‏وَلا تُجَادِلْ‏}‏ لا تُخاصم، ‏{‏عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يظلمون أنفسَهم بالخيانة والسرقة، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا‏}‏ يريد خوانًا في الدرع، أثيمًا في رميه اليهودي، قيل‏:‏ إنه خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمُرادُ به غيره، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فإنْ كنتَ في شكٍّ مما أنزلنا إليك‏"‏، والاستغفار في حق الأنبياء بعد النبوة على أحد الوجوه الثلاثة‏:‏ إمّا لذنب تقدم على النبوة أو لذنوب أمته وقرابته، أو لمباح جاء الشرع بتحرِّيهِ فيتركه بالاستغفار، فالاستغفار يكون معناه‏:‏ السمع والطاعة لحكم الشرع‏.‏

‏{‏يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ يستترون ويستحيون من الناس، يريد بني ظفر بن الحارث، ‏{‏وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ لا يستترون ولا يستحيون من الله، ‏{‏وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ‏}‏ يقولون ويُؤَلِّفون، والتبييت‏:‏ تدبير الفعل ليلا ‏{‏مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ وذلك أن قوم طعمة قالوا فيما بينهم‏:‏ نرفع الأمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يسمع قوله ويمينه لأنه مسلم ولا يسمع من اليهودي فإنه كافر، فلم يرضَ الله ذلك منهم، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا‏}‏ ثم يقول لقوم طعمة‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏109- 114‏]‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا ‏(‏109‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏110‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏111‏)‏ وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏112‏)‏ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا ‏(‏113‏)‏ لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏114‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ‏}‏ أي‏:‏ يا هؤلاء، ‏{‏جَادَلْتُم‏}‏ أي‏:‏ خاصمتم، ‏{‏عَنْهُم‏}‏ يعني‏:‏ عن طعمة، وفي قراءة أُبيّ بن كعب‏:‏ عنه ‏{‏فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ والجدال‏:‏ شدّة المخاصمة من الجَدْل، وهو شدة الفتل، فهو يريد فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج، وقيل‏:‏ الجدال من الجَدَالة، وهي الأرض، فكأن كل واحد من الخصمين يروم قهرَ صاحبه وصرعه على الجدالة، ‏{‏فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ عن طعمة، ‏{‏يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ إذا أخذه الله بعذابه، ‏{‏أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا‏}‏ كفيلا أي‏:‏ من الذي يذبُّ عنهم، ويتولى أمرهم يوم القيامة‏؟‏ ثم استأنف فقال‏:‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا‏}‏ يعني السرقة، ‏{‏أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ‏}‏ برميه البريء، وقيل‏:‏ ومَنْ يعمل سوءًا أي‏:‏ شركًا أو يظلم نفسَه‏:‏ يعني‏:‏ إثمًا دونَ الشركِ، ‏{‏ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ يتبْ إليه ويستغفرْهُ، ‏{‏يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ يعرض التوبةَ على طعمة في هذه الآية‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا‏}‏ يعني‏:‏ يمين طعمة بالباطل، أي‏:‏ ما سَرَقْتهُ إنّما سرقه اليهودي ‏{‏فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ‏}‏ فإنّما يضرُّ به نفسَه، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا‏}‏ بسارق الدرع ‏{‏حَكِيمًا‏}‏ حَكَم بالقطع على السارق‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً‏}‏ أي‏:‏ سرقة الدرع، ‏{‏أَوْ إِثْمًا‏}‏ يمينه الكاذبة، ‏{‏ثُمَّ يَرْمِ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ يقذف بما جَنَى ‏{‏بَرِيئًا‏}‏ منه وهو نسبة السرقة إلى اليهودي ‏{‏فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا‏}‏ البهتان‏:‏ هو البهت، وهو الكذب الذي يُتحيرّ في عِظَمهِ، ‏{‏وَإِثْمًا مُبِينًا‏}‏ أي‏:‏ ذنبًا بينًا، وقوله ‏{‏ثُمَّ يَرْمِ بِهِ‏}‏ ولم يقلْ بهما بعد ذكر الخطيئة والإثم، ردَّ الكنايةَ إلى الإثم، أو جعل الخطيئة والإثم كالشيء الواحد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ‏}‏ يقول للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏لَهَمَّت‏}‏ لقد هَمّتْ أي‏:‏

أضمرت، ‏{‏طَائِفَةٌ مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قوم طعمة، ‏{‏أَنْ يُضِلُّوكَ‏}‏ يخطئوك في الحكم ويلبسوا عليك الأمر حتى تدافع عن طعمة، ‏{‏وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ يعني يرجع وَبَالُهُ عليهم، ‏{‏وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ يُريد أن ضرره يرجع إليهم، ‏{‏وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏وَالْحِكْمَة‏}‏ يعني‏:‏ القضاء بالوحي ‏{‏وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ‏}‏ من الأحكام، وقيل‏:‏ من علم الغيب، ‏{‏وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ قوم طعمة، وقال مجاهد‏:‏ الآية عامةٌ في حق جميع الناس، والنّجوي‏:‏ هي الإسرار في التدبير، وقيل‏:‏ النجوى ما ينفرد بتدبيره قوم سرًّا كان أو جهرًا، فمعنى الآية‏:‏ لا خيرَ في كثير ممّا يدبرونه بينهم، ‏{‏إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ‏}‏ أي‏:‏ إلا في نجوى من أمر بصدقة، فالنّجوى تكون فعلا وقيل‏:‏ هذا استثناء منقطع، يعني‏:‏ لكن من أمر بصدقة، وقيل النجوى ها هنا‏:‏ الرجال المتناجون، كما قال الله تعالى ‏"‏وإذ هم نجوى‏"‏ الإسراء- 47‏)‏‏.‏ ‏{‏إلا من أمر بصدقة‏}‏ أي‏:‏ حثّ عليها، ‏{‏أَوْ مَعْرُوفٍ‏}‏ أي‏:‏ بطاعة الله وما يعرفه الشرع، وأعمالُ البِرّ كلّها معروف، لأنّ العقول تعرفها‏.‏

‏{‏أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ‏}‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي، أنا محمد بن حماد، أنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سالم هو ابن أبي الجعد، عن أم الدرداء رضي الله عنها، عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا أخبرُكم بأفضلَ من درجة الصيام والصدقة والصلاة‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ قلنا بلى، قال‏:‏ ‏"‏إصلاحُ ذاتِ البين‏.‏ وفساد ذات البين هي الحالقة‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، أنا أحمد بن منصور الرمادي، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أمه أم كلثوم بنت عقبة، وكانت من المهاجرات الأوَل، قالت‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ليس بالكذاب من أصلح بين الناس فقال خيرًا أو نَمَى خيرًا‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ هذه الأشياء التي ذكرها، ‏{‏ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ طلب رضاه، ‏{‏فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ‏}‏ في الآخرة، ‏{‏أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ قرأ أبو عمرو وحمزة ‏{‏يُؤْتِيه‏}‏ بالياء، يعني‏:‏ يؤتيه الله، وقرأ الآخرون بالنون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏115- 116‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏115‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ‏(‏116‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ‏}‏ نزلت في طعمة بن أبيرق وذلك أنه لمّا ظهرت عليه السرقة خاف على نفسه من قطع اليَدِ والفضيحة، فهرب إلى مكة وارتدّ عن الدين، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ‏}‏ أي‏:‏ يخالفه، ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى‏}‏ التوحيد والحدود ‏{‏وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ غير طريق المؤمنين ‏{‏نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى‏}‏ أي‏:‏ نكله في الآخرة إلى ما تولَّى في الدنيا، ‏{‏وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏‏.‏

رُوي أن طعمة بن أبيرق نزل على رجل من بني سليم من أهل مكة يقال له الحجاج بن عُلاط، فنقب بيته فسقط عليه حجر فلم يستطع أن يدخل ولا أن يخرج حتى أصبح، فأُخذ ليقتل، فقال بعضهم‏:‏ دعوه فإنه قد لجأ إليكم فتركوه فأخرجوه من مكة، فخرج مع تجار من قضاعة نحو الشام، فنزلوا منزلا فسرق بعض متاعهم وهرب، فطلبوه وأخذوه ورموه بالحجارة حتى قتلوه، فصار قبره تلك الحجارة، وقيل‏:‏ إنه ركب سفينة إلى جدة فسرق فيها كيسًا فيه دنانير فأخذ، فألقي في البحر، وقيل‏:‏ إنه نزل في حرّة بني سليم وكان يعبد صنما إلى أن مات فأنزل الله تعالى فيه‏:‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا‏}‏ أي‏:‏ ذهب عن الطريق وحُرم الخير كله، وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما إنّ هذه الآية نزلتْ في شيخ من الأعراب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا نبيَّ الله إني شيخ متهتك في الذنوب، إلا أني لم أشرك بالله شيئا منذ عرفتهُ وآمنت به، ولم أَتّخذ من دونه وليًّا ولم أوَاقع المعاصي جرأة على الله، وما توهمت طرفة عين أني أُعجز الله هربًا، وإني لنادمٌ تائبٌ مستغفرٌ فما حالي‏؟‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏117- 118‏]‏

‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا ‏(‏117‏)‏ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا ‏(‏118‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا‏}‏ نزلت في أهل مكة، أي‏:‏ ما يعبدون، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وقال ربكم ادعوني‏"‏ ‏(‏غافر- 60‏)‏ أي‏:‏ اعبدوني، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏إن الذين يستكبرون عن عبادتي‏"‏ ‏(‏غافر- 60‏)‏، قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ دُونِهِ‏}‏ أي‏:‏ من دون الله، ‏{‏إِلا إِنَاثًا‏}‏ أراد بالإناث الأوثان لأنهم كانوا يسمونها باسم الإناث، فيقولون‏:‏ اللات والعزى ومناة، وكانوا يقولون لصنم كل قبيلة‏:‏ أنثىَ بني فلان فكان في كل واحدة منهن شيطان يتراءى للسدنة والكهنة ويكلمهم، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا‏}‏ هذا قول أكثر المفسرين‏.‏

يدل على صحة هذا التأويل- أن المراد بالإناث الأوثان-‏:‏ قراءة ابن عباس رضي الله عنه ‏{‏إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِثنًا‏}‏ جَمْعُ جمعِ الوثن فصير الواو همزة، وقال الحسن وقتادة‏:‏ إلا إناثًا أي‏:‏ مواتًا لا روح فيه، لأن أصنامهم كانت من الجمادات، سّماها إناثا لأنه يخبر عن الموات، كما يخبر عن الإناث، ولأن الإناث أدون الجنسين، كما أن الموات أرذل من الحيوان، وقال الضحاك‏:‏ أراد بالإناث الملائكة، وكان بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون‏:‏ الملائكة إناث، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا‏"‏ الزخرف- 19‏)‏ ‏{‏وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا‏}‏ أي‏:‏ وما يعبدون إلا شيطانًا مريدًا لأنهم إذا عبدُوا الأصنام فقد أطاعوا الشيطان، والمريد‏:‏ المارد، وهو المتمرد العاتي الخارج عن الطاعة، وأراد‏:‏ إبليس‏.‏

‏{‏لَعَنَهُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ أبعده الله من رحمته، ‏{‏وَقَالَ‏}‏ يعني‏:‏ قال إبليس، ‏{‏لأتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا‏}‏ أي‏:‏ حظًا معلومًا، فما أُطيع فيه إبليس فهو مفروضه، وفي بعض التفاسير‏:‏ من كل ألف واحدٌ لله تعالى وتسعمائة وتسعة وتسعون لإبليس، وأصل الفرض في اللغة‏:‏ القطع، ومنه الفرضة في النهر وهي الثلمة تكون فيه، وفرض القوس والشِّراك‏:‏ للشَّقِّ الذي يكون فيه الوَتَرُ والخيط الذي يشد به الشراك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏119- 123‏]‏

‏{‏وَلأضِلَّنَّهُمْ وَلأمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ‏(‏119‏)‏ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا ‏(‏120‏)‏ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا ‏(‏121‏)‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا ‏(‏122‏)‏ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ‏(‏123‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلأضِلَّنَّهُم‏}‏ يعني‏:‏ عن الحق، أي‏:‏ لأغوينهم، يقوله إبليس، وأراد به التزيين، وإلا فليس إليه من الإضلال شيء، كما قال‏:‏ ‏"‏لأزينَنّ لهم في الأرض‏"‏ الحجر- 39‏)‏ ‏{‏وَلأمَنِّيَنَّهُم‏}‏ قيل‏:‏ أمنّيَنَّهم ركوبَ الأهواء، وقيل‏:‏ أُمنيِّنَهَّم أن لا جَنَّةَ ولا نارَولا بعث، وقيل‏:‏ أمنيّنَهَّم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي، ‏{‏وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنْعَامِ‏}‏ أي‏:‏ يقطعونها ويشقونها، وهي البحيرة ‏{‏وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد وسعيد بن المسيب والضحاك‏:‏ يعني دين الله، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏لا تَبْديلَ لخلقِ الله‏"‏ الروم- 30‏)‏ أي‏:‏ لدين الله، يريد وضع الله في الدين بتحليل الحرام وتحريم الحلال‏.‏

وقال عكرمة وجماعة من المفسرين‏:‏ فليُغيرنّ خلق الله بالخِصاء والوشم وقطع الآذان حتى حرّم بعضهم الخصاء وجوزه بعضهم في البهائم، لأن فيه غرضًا ظاهرًا، وقيل‏:‏ تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق الأنعام للركوب والأكل فحرَّموها، وخلق الشمسَ والقمرَ والأحجارَ لمنفعة العباد فعبدوها من دون الله، ‏{‏وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ربًّا يطيعه، ‏{‏فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا‏}‏‏.‏

‏{‏يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ‏}‏ فوعدُهٌ وتمنيتُهُ ما يوقع في قلب الإنسان من طول العمر ونيل الدنيا، وقد يكون بالتخويف بالفقر فيمنعه من الإنفاق وصلة الرحم كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏الشيطانُ يعِدُكُم الفقرَ‏"‏ البقرة- 268‏)‏ ويُمنّيهم بأنْ لا بعثَ ولا جنَّةَ ولا نار ‏{‏وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا‏}‏ أي‏:‏ باطلا‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا‏}‏ أي‏:‏ مفرًا ومعدِلا عنها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ من تحت الغُرف والمساكن، ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ الآية‏.‏ قال مسروق وقتادة والضحاك‏:‏ أراد ليس بأمانيكم أيها المسلمون ولا أماني أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى، وذلك أنَّهم افتخروا، فقال أهل الكتاب‏:‏ نبيّنا قبلَ نبيّكم وكتابُنا قبل كتابكم فنحن أوْلَى بالله منكم، وقال المسلمون‏:‏ نبيّنا خاتمُ الأنبياء وكتابُنا يقضي على الكتب، وقد آمنا بكتابكم ولم تؤمنوا بكتابنا فنحن أوْلى‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ‏}‏ يا مشركي أهل الكتاب، وذلك أنهم قالوا‏:‏ لا بعثَ ولا حسابَ، وقال أهل الكتاب‏:‏ ‏"‏لن تمسّنا النار إلا أياما معدودة‏"‏ البقرة- 80‏)‏ ‏"‏لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى‏"‏ البقرة- 111‏)‏، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ليس الأمر بالأماني وإنّما الأمر بالعمل الصالح‏.‏

‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ وقال ابن عباس وسعيد بن جبير وجماعة‏:‏ الآية عامة في حق كل عامل‏.‏

وقال الكبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لما نزلت هذه الآية شقّت على المسلمين وقالوا‏:‏ يا رسول الله وأيّنا لم يعمل سوءًا غيرك فكيف الجزاء‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏منه ما يكون في الدنيا، فمنْ يعملْ حسنةً فله عشرُ حسنات، ومن جُوزي بالسيّئة نقصتْ واحدةٌ من عشر، وبقيتْ له تسعُ حسنات، فويل لمن غلبتْ آحادُه أعشارَه، وأمّا ما يكون جزاء في الآخرة فيقابل بين حسناته وسيئاته، فيلقى مكان كل سيئة حسنة وينظر في الفضل، فيعطي الجزاءَ في الجنة فيؤتي كلّ ذي فضلٍ فَضْلَه‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، ثنا أبو بكر محمد بن أحمد العبدوسي، ثنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد، ثنا يحيى بن جعفر بن الزبرقان والحرث بن محمد، قالا ثنا روح هو ابن عبادة، ثنا موسى بن عبيدة، أخبرني مولى بن سباع‏:‏ سمعت عبد الله بن عمر يحدث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال‏:‏ كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُنزلتْ عليه هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أبا بكر ألا أقرئك آية أُنزلتْ عليّ‏؟‏ قال‏:‏ قلتُ بلى، قال‏:‏ فأقرأنيها، قال‏:‏ ولا أعلم إلا أني وجدتُ انفصامًا في ظهري حتى تمطَّيت لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما لك يا أبا بكر‏؟‏ فقلتُ يا رسول الله بأبي أنت وأمي وأيُّنا لم يعمل سوءًا‏؟‏ إنا لَمَجْزِيُّون بكل سوء عملناه‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمّا أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فتجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله، وليست لكم ذنوب، وأمّا الآخرون فيُجمع ذلك لهم حتى يُجزوا يومَ القيامة‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 125‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ‏(‏124‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا ‏(‏125‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا‏}‏ أي‏:‏ مقدار النقير، وهو النقرة التي تكون في ظهر النَّواة، قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة وأبو بكر ‏{‏يَدْخُلُون‏}‏ بضم الياء وفتح الخاء هاهنا وفي سورة مريم وحم المؤمن، زادَ أبو عمرو‏:‏ ‏"‏ يدخلونها ‏"‏ في سورة فاطر، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء‏.‏

روى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال‏:‏ لما نزلت ‏{‏لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ‏}‏ قال أهل الكتاب‏:‏ نحنُ وأنتم سواء، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ‏}‏ الآية، ونزلت أيضا‏:‏

‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا‏}‏ أحكمُ دينًا ‏{‏مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ‏}‏ أي أخلص عمله لله، وقيل‏:‏ فوض أمره إلى الله، ‏{‏وَهُوَ مُحْسِنٌ‏}‏ أي‏:‏ مُوحِّد، ‏{‏وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ‏}‏ يعني‏:‏ دين إبراهيم عليه السلام، ‏{‏حَنِيفًا‏}‏ أي‏:‏ مُسلمًا مُخلصًا، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ومن دين إبراهيم الصلاة إلى الكعبة والطواف بها ومناسك الحج، وإنما خُصَّ إبراهيم لأنه كان مقبولا عند الأمم أجمع، وقيل‏:‏ لأنه بُعث على ملة إبراهيم وزيد له أشياء‏.‏

‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا‏}‏ صفيًا، والخلّة‏:‏ صفاء المودّة، وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان إبراهيم عليه السلام أبا الضيفان، وكان منزله على ظهر الطّريق يضيّف من مرَّ به من الناس، فأصاب الناسَ سَنَةٌ فحُشروا إلى باب إبراهيم عليه السلام يطلبون الطعامَ وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى الخليل الذي له بمصر، فقال خليله لغلمانه‏:‏ لو كان إبراهيم عليه السلام إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له، فقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رُسل إبراهيم عليه السلام، فمرُّوا ببطحاء فقالوا‏:‏ إنا لو حملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة، فإنّا نستحي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة، فملؤوا تلك الغرائر سهلة، ثم أتوا إبراهيم فأعلموه وسارة نائمة، فاهتم إبراهيم لمكان الناس ببابه، فغلبته عيناه فنام واستيقظت سارة وقد ارتفع النهار، فقالت‏:‏ سبحان الله ما جاء الغلمان‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قالت‏:‏ فما جاءوا بشيء‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، فقامت إلى الغرائر ففتحتها فإذا هي أجود دقيق حُواري يكون، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناسَ فاستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام، فقال‏:‏ يا سارة من أين هذا‏؟‏ قالت‏:‏ من عند خليلك المصري، فقال‏:‏ هذا من عند خليلك الله، قال‏:‏ فيومئذٍ اتخذه الله خليلا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل، والخلة‏:‏ الصداقة، فسُمي خليلا لأنّ الله أحبه واصطفاه‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الخلة وهي الحاجة، سُمي خليلا أي‏:‏ فقيرًا إلى الله لأنه لم يجعل فقره وفاقته إلا إلى الله عزّ وجل والأول أصح لأن قوله ‏{‏وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا‏}‏ يقتضي الخلة من الجانبين، ولا يتصور الحاجة من الجانبين‏.‏

ثنا أبو المظفر بن أحمد التيمي، ثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم، ثنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الاطرابلسي، ثنا أبو قلابة الرقاشي، ثنا بشر بن عمر، ثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو كُنتُ متخذًا خليلا لاتخذتُ أبا بكر خليلا ولكنَّ أبا بكر أخي وصاحبي، ولقد اتخذ الله صاحبَكم خليلا‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏126‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا ‏(‏126‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا‏}‏ أي‏:‏ أحاط علمه بجميع الأشياء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏127‏]‏

‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا ‏(‏127‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ‏}‏ الآية‏:‏ قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ نزلت هذه الآية في بنات أم كُجّة وميراثهن وقد مضت القصة في أول السورة‏.‏

وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ هي اليتيمة تكون في حجر الرجل، وهو وليها فيرغب في نكاحها إذا كانت ذات جمال ومال بأقل من سُنَّة صداقها، وإذا كانت مرغوبة عنها في قلة المال والجمال تركها، وفي رواية هي اليتيمة تكون في حجر الرجل قد شركته في ماله فيرغب أن يتزوجها لدمامتها ويكره أن يزوجها غيره فيدخل عليه في ماله فيحبسها حتى تموت فيرثها، فنهاهم الله عن ذلك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَسْتَفْتُونَك‏}‏ أي‏:‏ يستخبرونك في النساء، ‏{‏قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ‏}‏ قيل معناه ويفتيكم في ما يتلى عليكم، وقيل معناه‏:‏ ونفتيكم ما يتلى عليكم، يريد‏:‏ الله يفتيكم وكتابه يفتيكم فيهن، وهو قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ‏}‏ قوله ‏{‏فِي يَتَامَى النِّسَاءِ‏}‏ هذا إضافة الشيء إلى نفسه لأنه أراد باليتامى النساء، ‏{‏اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ لا تعطونهن، ‏{‏مَا كُتِبَ لَهُنَّ‏}‏ من صداقهن، ‏{‏وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ‏}‏ أي‏:‏ في نِكَاحِهنّ لمالِهنّ وجمالهنّ بأقل من صداقهن، وقال الحسن وجماعة أراد أن تؤتونهن حقهن من الميراث، لأنهم كانوا لا يُوَرِّثُون النساءَ، وترغبون أن تنكحوهن، أي‏:‏ عن نكاحهن لدمامتهن‏.‏

‏{‏وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ‏}‏ يريد‏:‏ ويُفتيكم في المستضعفين من الولدان وهم الصغار، أن تعطوهم حقوقهم، لأنهم كانوا لا يُوَرِّثون الصغار، يريد ما يتلى عليكم في باب اليتامى من قوله ‏{‏وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ‏}‏ يعني بإعطاء حقوق الصغار، ‏{‏وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ‏}‏ أي‏:‏ ويفتيكم في أن تقُوموا لليتامى بالقسط بالعدل في مُهورهن ومواريثهن، ‏{‏وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا‏}‏ يُجازيكم عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏128‏]‏

‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏128‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ الآية، نزلت في عمرة ويُقال في خولة بنت محمد بن مسلمة، وفي زوجها سعد بن الربيع- ويقال رافع بن خديج- تزوجها وهي شابة فلما علاها الكِبرَ تزوّج عليها امرأة شابة، وآثرها عليها، وجفا ابنة محمد بن سلمة، فأتَتْ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فشكت إليه فنزلت فيها هذه الآية‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ كان رجل له امرأة قد كبرت وله منها أولاد فأراد أن يطلقها ويتزوج عليها غيرها، فقالت‏:‏ لا تطلقني ودعني أقوم على أولادي واقْسِمْ لي من كل شهرين إن شئت، وإن شئت فلا تَقْسِم لي‏.‏ فقال‏:‏ إن كان يصلح ذلك فهو أحب إليّ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ‏}‏ أي علمت ‏{‏مِنْ بَعْلِهَا‏}‏ أي‏:‏ من زوجها ‏{‏نُشُوزًا‏}‏ أي‏:‏ بُغضًا، قال الكلبي‏:‏ يعني ترك مضاجعتها، ‏{‏أَوْ إِعْرَاضًا‏}‏ بوجهه عنها وقلة مجالستها، ‏{‏فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا‏}‏ أي‏:‏ على الزوج والمرأة، أنْ يصالحا أي‏:‏ يتصالحا، وقرأ أهل الكوفة ‏{‏أَنْ يُصْلِحَا‏}‏ من أصلح، ‏{‏بَيْنَهُمَا صُلْحًا‏}‏ يعني‏:‏ في القِسْمة والنفقة، وهو أن يقول الزوج لها‏:‏ إنك قد دخلت في السن وإني أريد أن أتزوج امرأة شابة جميلة أوثرها عليك في القسمة ليلا ونهارًا فإن رضيتِ بهذا فأقيمي وإن كرهتِ خلّيْتُ سبيلك، فإن رضيتْ كانتْ هي المحسنة ولا تُجبر على ذلك، وإنْ لم ترض بدون حقها من القسم كان على الزوج أن يوفّيها حقها من القسم والنفقة أو يسرحها بإحسان، فإن أمسكها ووفّاها حقها مع كراهية فهو مُحسن‏.‏

وقال سليمان بن يسار في هذه الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ فإن صالحته عن بعض حقّها من القسْم والنفقة فذلك جائز ما رضيت، فإن أنكرته بعد الصلح فذلك لها ولها حقها‏.‏

وقال مقاتل بن حيان في هذه الآية‏:‏ هو أن الرجل يكون تحته المرأة الكبيرة فيتزوج عليها الشابة، فيقول للكبيرة‏:‏ أعطيتَك من مالي نصيبًا على أن أقسم لهذه الشابة أكثر مما أَقْسِمُ لك فترضَى بما اصطلحا عليه، فإن أبتْ أن ترضى فعليه أن يَعْدِلَ بينهما في القسْم‏.‏

وعن عليّ رضي الله عنه في هذه الآية قال‏:‏ تكون المرأة عند الرجل فتنبوُ عينهُ عنها من دمامة أو كبر فتكره فرقته، فإن أعطته من مالها فهو له حل، وإن أعطته من أيامها فهو له حلٌّ ‏{‏وَالصُّلْحُ خَيْرٌ‏}‏ يعني‏:‏ إقامتها بعد تخييره إياها، والمصالحة على ترك بعض حقّها من القسم والنفقة خيرٌ من الفرقة، كما يُروَى أن سودة رضي الله عنها كانت امرأة كبيرة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يُفارقها، فقالت‏:‏ لا تطلقني وإنما بي أن أبعث في نسائك وقد جعلتُ نوبتي لعائشة رضي الله عنها فأمسكها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يقسم لعائشة يومها ويوم سودة رضي الله عنها‏.‏

قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ‏}‏ يريد‏:‏ شُحَّ كلِّ واحد من الزوجين بنصيبه من الآخر، والشُّح‏:‏ أقبح البخل، وحقيقتهُ‏.‏ الحرص على منع الخير، ‏{‏وَإِنْ تُحْسِنُوا‏}‏ أي‏:‏ تصلحوا ‏{‏وَتَتَّقُوا‏}‏ الجورَ، وقيل‏:‏ هذا خطاب مع الأزواج، أي‏:‏ وإن تحسنوا بالإقامة معها على الكراهة وتتّقوا ظُلمَها ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏ فيجزيكم بأعمالكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏129‏]‏

‏{‏وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏129‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ‏}‏ أي‏:‏ لن تقدروا أن تُسووا بين النساء في الحب وميل القلب، ‏{‏وَلَوْ حَرَصْتُمْ‏}‏ على العدل، ‏{‏فَلا تَمِيلُوا‏}‏ أي‏:‏ إلى التي تُحبونها، ‏{‏كُلَّ الْمَيْلِ‏}‏ في القسم والنّفقة، أي‏:‏ لا تُتبعُوا أهواءَكم أفعالَكم، ‏{‏فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ‏}‏ أي فَتَدعُوا الأخرى كالمنوطة لا أيمًّا ولا ذاتَ بعل‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كالمحبوسة، وفي قراءة أُبي بن كعب‏:‏ كأنها مسجونة‏.‏

ورُوي عن أبي قلابة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقْسِمْ بين نسائه، فيعدل ويقول‏:‏ ‏"‏اللّهم هذا قَسْمِي فيما أملك فلا تَلُمْنِي فيما تَمْلِكَ ولا أملك‏"‏، ورواه بعضهم عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد عن عائشة رضي الله عنها متصلا‏.‏

ورُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ كانت له امرأتان فمالَ إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقُّه مائل‏"‏‏.‏ ‏{‏وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا‏}‏ الجورَ، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏130‏]‏

‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا ‏(‏130‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنْ يَتَفَرَّقَا‏}‏ يعني‏:‏ الزوج والمرأة بالطلاق، ‏{‏يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ‏}‏ من رزقه، يعني‏:‏ المرأة بزوج آخر والزوج بامرأة أخرى، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا‏}‏ واسعَ الفضل والرحمة حكيمًا فيما أمر به ونهى عنه‏.‏

وجملةُ حُكم الآية‏:‏ أنّ الرجل إذا كانت تحته امرأتان أو أكثر فإنه يجب عليه التسوية بينهن في القسْم، فإن ترك التسوية بينهن في فعل القسْم عصى الله تعالى، وعليه القضاء للمظلومة، والتسوية، شرط في البيتوتة، أما في الجماع فلا لأنه يدور على النشاط وليس ذلك إليه ولو كانت في نكاحه حُرَّةٌ وأمَةٌ فإنه يبيت عند الحرّة ليلتين وعند الأمة ليلة واحدة، وإذا تزوج جديدة على قديمات عنده يخصُّ الجديدة بأن يبيت عندها سبع ليال على التوالي إن كانت بكرًا، وإن كانت ثيبًا فثلاث ليال ثم يُسوّي بعد ذلك بين الكل، ولا يجب قضاء هذه الليالي للقديمات‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، ثنا أحمد بن عبد الله النعيمي، ثنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا يوسف بن راشد، ثنا أبو أسامة، ثنا سفيان الثوري، ثنا أيوب وخالد، عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ مِنَ السنّة إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعًا، ثم قَسَمَ، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثا، ثم قسم‏.‏ قال أبو قلابة‏:‏ ولو شئتُ لقلت‏:‏ إن أنسًا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وإذا أراد الرجل سفَر حاجة فيجوز له أن يحمل بعض نسائه مع نفسه بعد أن يُقرع بينهنّ فيه، ثم لا يجب عليه أن يقضي للباقيات مدة سفره، وإن طالت إذا لم يزد مقامه في بلده على مدة المسافرين، والدليل عليه ما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، ثنا أبو العباس الأصم، ثنا الربيع، ثنا الشافعي، ثنا عمي محمد بن علي بن شافع، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت‏:‏ ‏"‏كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرَعَ بين نسائه فأيتهُن خرج سهْمُها خرج بها، أما إذا أراد سفر نقلة فليس له تخصيص بعضهن لا بالقرعة ولا بغيرها‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏131- 132‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا ‏(‏131‏)‏ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ‏(‏132‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ‏}‏ عبيدًا ومُلكًا ‏{‏وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أهل التوراة والإنجيل وسائر الأمم المتقدمة في كتبهم، ‏{‏وَإِيَّاكُمْ‏}‏ أهل القرآن في كتابكم، ‏{‏أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ‏}‏ أي‏:‏ وحّدُوا اللهَ وأطيعوه، ‏{‏وَإِنْ تَكْفُرُوا‏}‏ بما أوصاكم الله به ‏{‏فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ‏}‏ قيل‏:‏ فإن لله ملائكة في السموات والأرض هي أطوع له منكم، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا‏}‏ عن جميع خلقه غير محتاج إلى طاعتهم، ‏{‏حَمِيدًا‏}‏ محمودًا على نعمه‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا‏}‏ قال عكرمة عن ابن عباس‏:‏ يعني شهيدًا أن فيها عبيدًا، وقيل‏:‏ دافعًا ومجيرًا‏.‏

فإن قيل‏:‏ فأي فائدة في تكرار قوله تعالى ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ‏}‏ قيل‏:‏ لكلّ واحد منهما وجه، أمّا الأول‏:‏ فمعناه لله ما في السموات وما في الأرض وهو يُوصيكم بالتقوى فاقبلوا وصيتَه، وأمّا الثاني فيقول‏:‏ فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيًّا أي‏:‏ هو الغني وله الملك فاطلبوا منه ما تطلبون وأمّا الثالث فيقول‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا‏}‏ أي‏:‏ له الملك فاتخذوه وكيلا ولا تتوكلوا على غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏133- 135‏]‏

‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا ‏(‏133‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ‏}‏ يُهلككم ‏{‏أَيُّهَا النَّاسُ‏}‏ يعني‏:‏ الكفار، ‏{‏وَيَأْتِ بِآخَرِينَ‏}‏ يقول بغيركم خير منكم وأطوع، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا‏}‏ قادرًا‏.‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ‏}‏ يُريد من كان يريد بعمله عَرَضًا من الدنيا ولا يريد بها الله عز وجل آتاه الله من عَرَضِ الدنيا أو دفع عنه فيها ما أراد الله، وليس له في الآخرة من ثواب، ومن أراد بعمله ثواب الآخرة آتاه الله من الدنيا ما أحب وجزاه الجنة في الآخرة‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ كونوا قائمين بالشهادة بالقسط، أي‏:‏ بالعدل لله، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كونوا قوامين بالعدل في الشهادة على من كانت، ‏{‏وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ‏}‏ في الرحم، أي‏:‏ قُولُوا الحقَّ ولو على أنفسكم بالإقرار أو الوالدين والأقربين، فأقيموها عليهم لله، ولا تُحابوا غنيًا لغناه ولا ترحموا فقيرًا لفقره، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا‏}‏ منكم أي أقيموا على المشهُود عليه وإن كان غنيًا وللمشهود له وإن كان فقيرًا فالله أولى بهما منكم، أي كِلُوا أمرَهما إلى الله‏.‏ وقال الحسن‏:‏ معناه الله أعلم بهما، ‏{‏فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا‏}‏ أي تجوروا وتميلوا إلى الباطل من الحق، وقيل‏:‏ معناه لا تتبعوا الهوى لتعدلوا، أي‏:‏ لتكونوا عادلين كما يقال‏:‏ لا تتبع الهوى لترضي ربك‏.‏

‏{‏وَإِنْ تَلْوُوا‏}‏ أي‏:‏ تحرفوا الشهادة لتبطلوا الحق ‏{‏أَوْ تُعْرِضُوا‏}‏ عنها فتكتموها ولا تقيموها، ويقال‏:‏ تلووا أي تدافعوا في إقامة الشهادة، يقال‏:‏ لَوَيْتهُ حقَّه إذا دفعتَه، ومطلتَه، وقيل‏:‏ هذا خطاب مع الحكام في ليِّهم الأشداق، يقول‏:‏ وإن تلووا أي تميلوا إلى أحد الخصمين أو تعرضوا عنه، قرأ ابن عامر وحمزة ‏{‏تَلُوُوا‏}‏ بضم اللام، قيل‏:‏ أصله تلووا، فحذفت إحدى الواوين تخفيفًا، وقيل‏:‏ معناه وإن تلوا القيام بأداء الشهادة أو تعرضوا فتتركوا أداءَها ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ الآية، قال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في عبد الله بن سلام وأسد وأُسيد ابنى كعب، وثعلبة بن قيس وسلامّ بن أخت عبد الله بن سلامّ، وسلمة بن أخيه ويامين بن يامين فهؤلاء مُؤمُنوا أهل الكتاب أتَوْا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ إنا نُؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير ونكفر بما سواه من الكتب والرسل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بل آمِنُوا بالله ورسولهِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والقرآن وبموسى والتوارة، وبكل كتاب قبله‏"‏، فأنزل الله هذه الآية ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبموسى عليه السلام والتوراة ‏{‏آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ‏}‏ يعني القرآن، ‏{‏وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزِلَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ من التوراة والإنجيل والزبور وسائر الكتب‏.‏

قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو ‏"‏ نزل وأنزل ‏"‏ بضم النون والألف، وقرأ الآخرون ‏"‏ نزل وأنزل ‏"‏ بالفتح أي أنزل الله‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا‏}‏ فلما نزلت هذه الآية قالوا‏:‏ فإنا نؤمن بالله ورسوله والقرآن وبكل رسولٍ وكتابٍ كان قبل القرآن، والملائكة واليوم الآخر لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ أراد به اليهود والنصارى، يقول‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ بموسى وعيسى ‏{‏آمِنُوا‏}‏ بمحمدٍ والقرآن، وقال مجاهد‏:‏ أراد به المنافقين، يقول‏:‏ يا أيها الذين آمنوا باللسان آمنوا بالقلب وقال أبو العالية وجماعة‏:‏ هذا خطاب للمؤمنين يقول‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا‏}‏ أي أقيمُوا واثبتُوا على الإيمان، كما يُقال للقائم‏:‏ قُمْ حتى أرجع إليك، أي اثبت قائمًا، وقيل‏:‏ المراد به أهل الشرك، يعني ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ باللات والعزى ‏{‏آمِنُوا‏}‏ بالله ورسوله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 139‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا ‏(‏137‏)‏ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا‏}‏ قال قتادة‏:‏ هم اليهود آمَنُوا بموسى ثم كَفَرُوا من بعد بعبادتهم العجل، ثم آمَنُوا بالتوراة ثم كفروا بعيسى عليه السلام، ثم ازْدَادَوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ هو في جميع أهل الكتاب آمَنُوا بنبيهم ثم كَفَرُوا به، وآمَنُوا بالكتاب الذي نزل عليه ثم كفروا به، وكفرهم به‏:‏ تركهم إيّاه ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ هذا في قوم مرتدين آمنوا ثمّ ارتدوا ثمّ آمنوا ثمّ ارتدوا ثُمّ آمنوا ثم ارتدوا ثمّ آمنوا ثمّ ارتدوا‏.‏

ومثل هذا هلْ تُقبل توبته‏؟‏ حُكي عن علي رضي الله عنه‏:‏ أنه لا تُقبل توبته بل يقتل، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏ وأكثر أهل العلم على قبول توبته، وقال مجاهد‏:‏ ثم ازدادوا كفرًا أي ماتوا عليه، ‏{‏لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏ ما أقاموا على ذلك، ‏{‏وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا‏}‏ أي طريقًا إلى الحق، فإن قيل‏:‏ ما معنى قوله ‏{‏لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ‏}‏ ومعلوم أنه لا يغفر الشرك إن كان أول مرّة‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ معناه أن الكافر إذا أسلم أول مرّة ودام عليه يُغفر له كفرُه السابق، فإن أسلم ثم كفر ثم أسلم ثم كفر لا يُغفر له كفرُه السابق، الذي كان يُغفر له لو دَامَ على الإسلام‏.‏

‏{‏بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ‏}‏ أخبرهم يا محمد، ‏{‏بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ والبشارة‏:‏ كل خبر يتغير به بشرة الوجه سارًّا كان أو غير سار، وقال الزجاج‏:‏ معناه اجعل في موضع بشارتك لهم العذاب، كما تقول العربك تحيّتُك الضرب وعِتَابُك السيف، أي‏:‏ بدلا لك من التحية، ثم وصف المنافقين فقال‏:‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ‏}‏ يعني‏:‏ يتخذون اليهودَ أولياء وأنصارًا أو بطانة ‏{‏مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ‏}‏ أي‏:‏ المعونة والظهور على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه‏:‏ وقيل‏:‏ أيطلبون عندهم القوة والغلبة، ‏{‏فَإِنَّ الْعِزَّةَ‏}‏ أي‏:‏ الغلبة والقوة والقدرة، ‏{‏لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏140- 141‏]‏

‏{‏وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا ‏(‏141‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ‏}‏ قرأ عاصم ويعقوب ‏"‏نزل ‏"‏ بفتح النون والزاي، أي‏:‏ نزل الله، وقرأ الآخرون ‏"‏نزل ‏"‏ بضم النون وكسر الزاي، أي‏:‏ عليكم يا معشر المسلمين، ‏{‏أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ‏}‏ يعني القرآن، ‏{‏يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ مع الذي يستهزئون، ‏{‏حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ‏}‏ أي‏:‏ يأخذوا في حديث غير الاستهزاء بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، وهذا إشارة إلى ما أنزل الله في سورة الأنعام ‏"‏وإذا رأيتَ الذين يخُوضُون في آياتنا فأَعرضْ عنهم حتى يخوُضوا في حديث غيرِه‏"‏ الأنعام- 68‏)‏‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ دخل في هذه الآية كلُّ مُحْدِث في الدين وكلُّ مبتدع إلى يوم القيامة، ‏{‏إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ إن قعدتم عندهم وهم يخوضون ويستهزئون ورضيتم به فأنتم كفار مثلهم، وإن خاضوا في حديث غيره فلا بأس بالقعود معهم مع الكراهة، وقال الحسن‏:‏ لا يجوز القعود معهم وإن خاضوا في حديث غيره، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ والأكثرون على الأول‏.‏ وآية الأنعام مكية وهذه مدنية والمتأخر أوْلَى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ‏}‏ ينتظرون بكم الدوائر، يعني‏:‏ المنافقين، ‏{‏فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ ظفر وغنيمة، ‏{‏قَالُوا‏}‏ لكم ‏{‏أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ‏}‏ على دينكم في الجهاد، كنا معكم فاجعلوا لنا نصيبا من الغنيمة، ‏{‏وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ‏}‏ يعني دولة وظهور على المسلمين، ‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين للكافرين، ‏{‏أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ‏}‏ والاستحواذ‏:‏ هو الاستيلاء والغلبة، قال تعالى‏:‏ ‏"‏استحوذ عليهم الشيطان‏"‏ المجادلة- 19‏)‏ أي‏:‏ استولى وغلب، يقول‏:‏ ألم نخبركم بعورة محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونطلعكم على سرهم‏؟‏

قال المبرِّد‏:‏ يقول المنافقون للكفار ألم نغلبكم على رأيكم ‏{‏وَنَمْنَعْكُم‏}‏ ونصرفكم، ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ عن الدخول في جملتهم، وقيل‏:‏ معناه ألم نستول عليكم بالنصرة لكم ونمنعكم من المؤمنين‏؟‏ أي‏:‏ ندفع عنكم صولة المؤمنين بتخذيلهم عنكم ومراسلتنا إيّاكم بأخبارهم وأمورهم، ومُرادُ المنافقين بهذا الكلام إظهار المنة على الكافرين‏.‏

‏{‏فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ يعني‏:‏ بين أهل الإيمان وأهل النفاق، ‏{‏وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا‏}‏ قال عليُّ‏:‏ في الآخرة، وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم‏:‏ أي حجة، وقيل‏:‏ ظهورًا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 143‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا ‏(‏142‏)‏ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا ‏(‏143‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ‏}‏ أي يعاملونه معاملة المخادعين وهو خادعهم، أي‏:‏ مجازيهم على خِداعهم وذلك أنهم يعطون نورًا يوم القيامة كما للمؤمنين، فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط، ويُطفأ نورُ المنافقين، ‏{‏وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين ‏{‏قَامُوا كُسَالَى‏}‏ أي‏:‏ متثاقلين لا يُريدون بها الله فإن رآهم أحد صلوا وإلا انصرفُوا فلا يُصلون، ‏{‏يُرَاءُونَ النَّاسَ‏}‏ أي‏:‏ يفعلون ذلك مراءاةً للناس لا اتّباعًا لأمر الله، ‏{‏وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن‏:‏ إنما قال ذلك لأنهم يفعلونها رياءً وسمعة، ولو أرادوا بذلك القليلَ وجهَ الله تعالى لكان كثيرًا، وقال قتادة‏:‏ إنما قلّ ذكرُ المنافقين لأن الله تعالى لم يقبله، وكلُّ ما قَبِلَ الله فهو كثير‏.‏

‏{‏مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ مترددين متحيرّين بين الكفر والإيمان، ‏{‏لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ‏}‏ أي‏:‏ ليسوا من المؤمنين فيجب لهم ما يجب للمؤمنين، وليسوا من الكفار فيُؤخذ منهم ما يُؤخذ من الكفار، ‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ طريقًا إلى الهُدى‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، قال أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أنا محمد بن عيسى الجلودي، أنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنا مسلم بن الحجاج، أنا محمد بن المثنى، أنا عبد الوهاب، يعني الثقفي أنا عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرّة وإلى هذه مرّة‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 147‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏144‏)‏ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏(‏145‏)‏ إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏146‏)‏ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ‏(‏147‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ نهى الله المؤمنين عن موالاة الكفار، وقال‏:‏ ‏{‏أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا‏}‏ أي حجة بينةً في عذابكم، ثم ذكر منازل المنافقين، فقال جلّ ذكره‏:‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ‏}‏ قرأ أهل الكوفة ‏{‏فِي الدَّرْكِ‏}‏ بسكون الراء والباقون بفتحها وهما لغتان كالظّعْن والظعَن والنّهْر والنّهَر، وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ‏{‏فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ‏}‏ في توابيت من حديد مقفلة في النار، وقال أبو هريرة‏:‏ بيت مقفل عليهم تتوقد فيه النار من فوقهم ومن تحتهم، ‏{‏وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا‏}‏ مانعًا من العذاب‏.‏

‏{‏إِلا الَّذِينَ تَابُوا‏}‏ مِنَ النفاق وآمنوا ‏{‏وَأَصْلَحُوا‏}‏ عملهم ‏{‏وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ‏}‏ وثقوا بالله ‏{‏وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ‏}‏ أراد الإخلاص بالقلب، لأن النفاق كفر القلب، فَزَوالهُ يكون بإخلاص القلب، ‏{‏فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ قال الفراء‏:‏ من المؤمنين، ‏{‏وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ في الآخرة ‏{‏أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ يعني‏:‏ الجنّة، وحُذفتِ الياء مِنْ ‏{‏يُؤْتِ اللَّه‏}‏ في الخط لسقوطها في اللفظ، وسقوطها في اللفظ لسكون اللام في ‏"‏الله‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ إن شكرتم نعماءَهُ ‏{‏وَآمَنْتُمْ‏}‏ به، فيه تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ إن آمنتم وشكرتم، لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان، وهذا استفهام بمعنى التقرير، معناه‏:‏ إنه لا يعذب المؤمن الشاكر، فإن تعذيبه عبادَهُ لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا يُنْقِصُ من سلطانه، والشكرُ‏:‏ ضد الكفر والكفر ستر النعمة، والشكر‏:‏ إظهارُها، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا‏}‏ فالشكر من الله تعالى هو الرضى بالقليل من عباده وإضعاف الثواب عليه، والشكر من العبد‏:‏ الطاعة، ومن الله‏:‏ الثواب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 149‏]‏

‏{‏لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ‏(‏148‏)‏ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏149‏)‏‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِم‏}‏ يعني‏:‏ لا يحب الله الجهر بالقبح من القول إلا من ظلم، فيجوز للمظلوم أن يخبر عن ظلم الظالم وأن يدعو عليه، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وَلَمَنْ انتصرَ بعد ظلمه فأولئك ما عليهم مِنْ سَبيل‏"‏ الشورى- 41‏)‏، قال الحسن‏:‏ دعاؤه عليه أن يقول‏:‏ اللهم أعني عليه اللهم استخرجْ حقي منه، وقيل‏:‏ إن شُتِم جاز أن يشتم بمثله لا يزيد عليه‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله الخرقي، أنا أبو الحسن الطيسفوني، أنا عبد الله بن عمر الجوهري، أنا أحمد بن علي الكشميهني، أنا علي بن حجر، أخبرنا إسماعيل بن جعفر، أنا العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏المستبان ما قالا فعلى البادئ ما لم يَعْتَدِ المظلوم‏"‏‏.‏

وقال مجاهد هذا في الضيف إذا نزل بقوم فلم يقروه ولم يحسنوا ضيافته فله أن يشكو ويذكر ما صُنع به‏.‏ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل، أنا قتيبة بن سعيد، أنا الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة بن عامر، أنه قال‏:‏ قلنا يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يُقرُوْنَنَا فما ترى‏؟‏ فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنْ نزلتم بقوم فأمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذُوا منهم حقَّ الضيف الذي ينبغي لهم‏"‏‏.‏

وقرأ الضحاك بن مزاحم وزيد بن أسلم‏:‏ ‏{‏إِلا مَنْ ظَلَمَ‏}‏ بفتح الظاء واللام، معناه‏:‏ لكن الظالم اجهروا له بالسوء من القول، وقيل معناه‏:‏ لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لكن يجهر من ظلم، والقراءة الأولى هي المعروفة، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا‏}‏ لدعاء المظلوم، ‏{‏عَلِيمًا‏}‏ بعقاب الظالم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا‏}‏ يعني‏:‏ حسنةً فيعملُ بها كُتِبتْ له عشرًا، وإنْ همَّ بها ولم يعملْها كِتُبَتْ له حسنةٌ واحدة، وهو قوله ‏{‏أَوْ تُخْفُوهُ‏}‏ وقيل المراد من الخير‏:‏ المال، يُريدُ‏:‏ إنْ تُبدوا صدقةً تُعطونها جهرًا أو تخفوها فتعطوها سرًا، ‏{‏أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ‏}‏ أي‏:‏ عن مَظْلَمةٍ، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا‏}‏ أولى بالتجاوز عنكم يوم القيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150- 153‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا ‏(‏150‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏151‏)‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏152‏)‏ يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏153‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ الآية، نزلت في اليهود، وذلك أنهم آمنوا بموسى عليه السلام والتوراة وعزير، وكفروا بعيسى والإنجيل وبمحمد والقرآن، ‏{‏وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا‏}‏ أي‏:‏ دينًا بين اليهودية والإسلام ومذهبًا يذهبون إليه‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا‏}‏ حقق كفرهم ليعلم أن الكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا‏}‏‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ‏}‏ كُلِهَّم ‏{‏وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ بين الرُّسل وهم المؤمنون، يقولون‏:‏ لا نُفَرِّق بين أحدٍ من رسله، ‏{‏أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ‏}‏ بإيمانهم بالله وكتبه ورسله، قرأ حفص عن عاصم ‏{‏يُؤْتِيهِمْ‏}‏ بالياء، أي‏:‏ ‏{‏يؤتيهم الله‏}‏، والباقون بالنون ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ‏}‏ الآية، وذلك أنّ كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء من اليهود قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنْ كنتَ نبيًا فأتنا بكتاب جملةً من السماء، كما أتى به موسى عليه السلام، فأنزل الله عليه‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ‏}‏‏.‏

وكان هذا السؤال منهم سؤال تحكّم واقتراح، لا سؤال انقياد، والله تعالى لا ينزل الآيات على اقتراح العباد‏.‏ قوله‏:‏ ‏{‏فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ أعظم من ذلك، يعني‏:‏ السبعين الذي خرج بهم موسى عليه السلام إلى الجبل، ‏{‏فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً‏}‏ أي‏:‏ عيانًا، قال أبو عُبيدة‏:‏ معناه قالوا جهرة أرنا الله، ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ‏}‏ يعني إلهًا، ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ‏}‏ ولم نستأصلهم، قيل‏:‏ هذا استدعاء إلى التوبة، معناه‏:‏ أن أولئك الذين أجرموا تابوا فعفونا عنهم، فتوبوا أنتم حتى نعفوَ عنكم، ‏{‏وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا‏}‏ أي‏:‏ حجةً بينةً من المعجزات، وهي الآيات التسع‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏154- 157‏]‏

‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏154‏)‏ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا ‏(‏155‏)‏ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ‏(‏156‏)‏ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‏(‏157‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ‏}‏ قرأ أهل المدينة بتشديد الدال وفتح العين نافع برواية ورش ويجزمها الآخرون، ومعناه‏:‏ لا تعتدوا ولا تظلموا باصطياد الحيتان فيه، ‏{‏وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ فبنقضهم، و ‏"‏ما‏"‏ صلة كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فبما رحمة من الله‏"‏ آل عمران- 159‏)‏، ونحوها، ‏{‏وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ختم عليها، ‏{‏فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا‏}‏ يعني‏:‏ ممن كذّب الرُّسلَ لا ممن طبعَ على قلبه، لأنّ من طَبعَ الله على قلبه لا يُؤمن أبدًا، وأراد بالقليل‏:‏ عبدَ الله بن سلام وأصحابهَ، وقيل‏:‏ معناه لا يؤمنون قليلا ولا كثيرًا‏.‏

‏{‏وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا‏}‏ حين رموها بالزنا‏.‏

‏{‏وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ‏}‏‏.‏

وذلك أن الله تعالى ألقى شَبَه عيسى عليه السلام على الذي دلّ اليهودَ عليه، وقيل‏:‏ إنهم حبسوا عيسى عليه السلام في بيت وجعلوا عليه رقيبًا فألقىَ الله تعالى شبه عيسى عليه السلام على الرقيب فقتلوه، وقيل غير ذلك، كما ذكرنا في سورة آل عمران‏.‏

قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ‏}‏ في قتله، ‏{‏لَفِي شَكٍّ مِنْهُ‏}‏ أي‏:‏ في قتله، قال الكلبي‏:‏ اختلافهم فيه هو أن اليهود قالتْ نحن قتلناه، وقالتْ طائفة من النصارى نحن قتلناه، وقالت طائفة منهم ما قتله هؤلاء ولا هؤلاء بل رفعه الله إلى السماء، ونحن ننظر إليه، وقيل‏:‏ كان الله تعالى ألقى شبه وجه عيسى عليه السلام على وجه صطيافوس ولم يلقه على جسده، فاختلفوا فيه فقال بعضهم قتلنا عيسى، فإن الوجه وجه عيسى عليه السلام وقال بعضهم لم نقتله لأن جسده ليس جسد عيسى عليه السلام، فاختلفوا‏.‏ قال السدي‏:‏ اختلافهم من حيث أنَّهم قالوا‏:‏ إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا‏؟‏ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ حقيقة أنه قتل أو لم يُقتل، ‏{‏إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ‏}‏ لكنهم يتبعون الظن في قتله‏.‏ قال الله جل جلاله‏:‏ ‏{‏وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا‏}‏ أي‏:‏ ‏{‏ما قتلوا عيسى يقينا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏158- 159‏]‏

‏{‏بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏158‏)‏ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ‏(‏159‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ‏}‏ وقيل قوله ‏"‏يقينا‏"‏ ترجع إلى ما بعده وقوله ‏"‏وما قتلوه‏"‏ كلام تام تقديره‏:‏ بل رفعه الله إليه يقينًا، والهاء في ‏"‏ما قتلوه‏"‏ كناية عن عيسى عليه السلام، وقال الفراء رحمه الله‏:‏ معناه وما قتلوا الذي ظنوا أنه عيسى يقينًا، ورُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما معناه‏:‏ ما قتلوا ظنهم يقينًا، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا‏}‏ منيعا بالنقمة من اليهود، ‏{‏حَكِيمًا‏}‏ حكم باللعنة والغضب عليهم، فسلّط عليهم ضيطوس بن اسبسيانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ أي‏:‏ وما من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى عليه السلام، هذا قول أكثر المفسرين وأهل العلم، وقوله ‏"‏قبل موته‏"‏ اختلفوا في هذه الكناية‏:‏ فقال عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي‏:‏ إنها كناية عن الكتابي، ومعناه‏:‏ وما من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمننّ بعيسى عليه السلام قبل موته، إذا وقع في البأس حين لا ينفعه إيمانهُ سواء احترق أو غرق أو تردّى في بئر أو سقط عليه جدارٌ أو أكله سبعٌ أو مات فجأةً، وهذه رواية عن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهم‏.‏ قال‏:‏ فقيل لابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أرأيت إن خر من فوق بيت‏؟‏ قال‏:‏ يتكلم به في الهواء قال‏:‏ فقيل أرأيت إن ضرب عُنقُ أحدهم‏؟‏ قال‏:‏ يتلجلج به لسانه‏.‏

وذهب قومٌ إلى أن الهاء في ‏"‏موته‏"‏ كناية عن عيسى عليه السلام، معناه‏:‏ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ بعيسى قبل موت عيسى عليه السلام، وذلك عند نزوله من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد إلا آمن به حتى تكون الملة واحدة، ملة الإسلام‏.‏

وروينا عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يُوشك أنْ ينزلَ فيكم ابنُ مريمَ حكمًا عدلا يكسر الصّليبَ، ويقتلُ الخنزيرَ، ويضع الجزية، ويفيضُ المالُ حتى لا يقبله أحدُ، ويهلك في زمانه الملل كلَّها إلا الإسلام، ويقتلُ الدجالَ فيمكثُ في الأرض أربعين سنة ثم يتوفَّى ويُصلي عليه المسلمون‏"‏، وقال أبو هريرة‏:‏ اقرأوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ‏}‏ قبل موت عيسى بن مريم، ثم يُعيدها أبو هريرة ثلاث مرات‏.‏

وروي عن عكرمة‏:‏ أن الهاء في قوله ‏{‏لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ‏}‏ كناية عن محمد صلى الله عليه وسلم يقول لا يموت كتابي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقيل‏:‏ هي راجعة إلى الله عز وجل يقول‏:‏ وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن بالله عز وجل، قبل موته عند المعاينة حين لا ينفعه إيمانهُ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ‏}‏ يعني‏:‏ عيسى عليه السلام، ‏{‏عَلَيْهِمْ شَهِيدًا‏}‏ أنّه قد بلّغهم رسالة ربه، وأقر بالعبودية على نفسه كما قال تعالى مخبرا عنه ‏"‏وكنتُ عليهم شهيدًا ما دمتُ فيهم‏"‏ المائدة- 117‏)‏ وكل نبي شاهد على أمته قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏فكيفَ إذا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أمّةٍ بشهيدٍ وجِئْنَا بِكَ على هؤلاءِ شهيدًا‏"‏ النساء- 41‏)‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏160‏]‏

‏{‏فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ‏(‏160‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا‏}‏ وهو ما تقدم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بآيات الله وبُهتانهم على مريم، وقولهم‏:‏ إنّا قتلنا المسيح ‏{‏حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ‏}‏ وهي ما ذكر في سورة الأنعام، فقال‏:‏ ‏"‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏"‏ ‏(‏الأنعام- 146‏)‏‏.‏

ونظم الآية‏:‏ فبظلم من الذين هادوا وهو ما ذكرنا، ‏{‏وَبِصَدِّهِم‏}‏ وبصرفهم أنفسَهم وغيرَهم، ‏{‏عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا‏}‏ أي‏:‏ عن دين الله صدًا كثيرًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏161- 162‏]‏

‏{‏وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏161‏)‏ لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏162‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ‏}‏ في التوراة ‏{‏وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ‏}‏ مِنَ الرشا في الحكم، والمآكل التي يصيبونها من عوامِّهم، عاقبناهم بأنْ حرّمنا عليهم طيبات، فكانُوا كلّما ارتكبوا كبيرةً حُرّم عليهم شيءٌ من الطيبات التي كانت حلالا لهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ذلكَ جَزَيْنَاهم بِبَغْيِهم وإنّا لصادقون‏"‏ الأنعام- 146‏)‏، ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏‏.‏

‏{‏لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ليس كل أهل الكتاب بهذه الصفة، لكن الراسخون البالغون في العلم أولو البصائر منهم، وأراد به الذين أسْلَموا من علماء اليهود مثل عبد الله بن سلام وأصحابه، ‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ يعني‏:‏ المهاجرون والأنصار، ‏{‏يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ يعني‏:‏ سائر الكتب المنزلة، ‏{‏وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ‏}‏ اختلفوا في وجه انتصابه، فحُكي عن عائشة رضي الله عنها وأبان بن عثمان‏:‏ أنه غلط من الكاتب ينبغي أن يكتب والمقيمون الصلاة وكذلك قوله في سورة المائدة ‏"‏إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون‏"‏ المائدة- 62‏)‏، وقوله ‏"‏إن هذان لساحران‏"‏ طه- 63‏)‏ قالوا‏:‏ ذلك خطأ من الكاتب‏.‏

وقال عثمان‏:‏ إن في المصحف لحنًا ستقيمه العرب بألسنتها، فقيل له‏:‏ ألا تغيرّه‏؟‏ فقال‏:‏ دعوه فإنه لا يُحلُّ حرامًا ولا يُحرِّم حلالا‏.‏

وعامة الصحابة وأهل العلم على أنه صحيح، واختلفوا فيه، قيل‏:‏ هو نصب على المدح، وقيل‏:‏ نصب بإضمار فعل تقديره‏:‏ أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة، وقيل‏:‏ موضعه خفض‏.‏

واختلفوا في وجهه، فقال بعضهم‏:‏ معناه لكن الراسخون في العلم منهم ومن المقيمين الصلاة، وقيل‏:‏ معناه يؤمنون بما أَنزل إليك وإلى المقيمين الصلاة، ثم قوله‏:‏ ‏{‏وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ رجوع إلى النسق الأوّل، ‏{‏وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ قرأ حمزة سيؤتيهم بالياء والباقون بالنون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏163‏]‏

‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا ‏(‏163‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ هذا بناء على ما سبق من قوله ‏"‏يسألك أهل الكتاب أن تُنَزِّلَ عليهم كتابا من السماء‏"‏ ‏{‏النساء- 153‏}‏، فلما ذكر الله عيوبهم وذنوبهم غضبوا وجحدوا كل ما أنزل الله عز وجل، وقالوا‏:‏ ما أنزل الله على بشر من شيء، فنزل‏:‏ ‏"‏وما قَدَرُوا الله حقَّ قَدْرِه إذ قالُوا ما أنزل الله على بشر مِنْ شيء‏"‏ الأنعام- 91‏)‏ وأنزل‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ‏}‏ فذكر عدَّةً من الرسل الذين أوحى إليهم، وبدأ بذكر نوح عليه السلام لأنه كان أبا البشر مثل آدم عليه السلام، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وجعلنا ذريته هم الباقين‏"‏ الصافات- 77‏)‏ ولأنه أول نبي من أنبياء الشريعة، وأول نذير على الشرك، وأول من عذبت أمته لردِّهم دعوته، وأهُلك أهل الأرض بدعائه وكان أطول الأنبياء عمرًا وجعلت معجزته في نفسه، لأنه عمّر ألف سنة فلم تسقط له سن ولم تشب له شعرة ولم تنتقص له قوة، ولم يصبر نبيٌّ على أذى قومه ما صبر هو على طول عمره‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ‏}‏ وهم أولاد يعقوب، ‏{‏وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا‏}‏ قرأ الأعمش وحمزة‏:‏ ‏{‏زُبُورًا‏}‏ والزُّبور بضم الزاي حيث كان، بمعنى‏:‏ جمع زُبور، أي آتينا داود كُتبًا وصُحُفًا مزبورة، أي‏:‏ مكتوبة، وقرأ الآخرون بفتح الزاي وهو اسم الكتاب الذي أنزل الله تعالى على داود عليه السلام، وكان فيه التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجل، وكان داود يبرزَ إلى البرية فيقوم ويقرأ الزّبورَ ويقوم معه علماء بني إسرائيل، فيقومون خلفه ويقوم الناس خلف العلماء، ويقوم الجنّ خلف الناس، الأعظمُ فالأعظم، والشياطين خلف الجن وتجيء الدواب التي في الجبال فيقمن بين يديه تعجبا لما يسمعن منه، والطير ترفرف على رؤوسهم، فلما قارف الذنب لم يرَ ذلك، فقيل له‏:‏ ذاك أُنس الطاعة، وهذه وحْشَةُ المعصية‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنا أبو بكر الجوزقي، أنا أبو العباس، أنا يحيى بن زكريا، أنا الحسن بن حماد، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن طلحة بن يحيى، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقراءتك لقد أعطيتَ مِزْمارًا من مزامير آل داود‏"‏، فقال‏:‏ أمَا والله يا رسول الله لو علمتُ أنك تستمع لحَبّرته لحَبرّته‏"‏ وكان عمر رضي الله عنه إذا رآه يقول‏:‏ ذكِّرْنا يا أبا موسى، فيقرأ عنده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏164‏]‏

‏{‏وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ‏(‏164‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ وكما أوحينا إلى نوح وإلى الرسل، ‏{‏وَرُسُلا‏}‏ نصب بنزع حرف الصفة، وقيل‏:‏ معناه وقصصنا عليك رسلا وفي قراءة أبيّ ‏"‏ ورسل قد قصصناهم عليك من قبل ‏"‏ ‏{‏وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ قال الفراء‏:‏ العرب تسمي ما يُوصل إلى الإنسان كلامًا بأيّ طريق وصل، ولكن لا تحققه بالمصدر، فإذا حقق بالمصدر، ولم يكن إلا حقيقة الكلام- كالإرادة- يقال‏:‏ أراد فلان إرادةً، يريدُ حقيقة الإرادة، ويقال‏:‏ أراد الجدار، ولا يقال أراد الجدار إرادةً لأنه مجاز غير حقيقة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏165- 167‏]‏

‏{‏رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏165‏)‏ لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏166‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا ‏(‏167‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ‏}‏ فيقولوا‏:‏ ما أرسلتَ إلينا رسولا وما أنزلتَ إلينا كتابًا، وفيه دليل على أنّ الله تعالى لا يعذب الخلق قبل بعثه الرسول، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وما كُنّا مُعذِّبينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولا‏"‏ ‏(‏الاسراء- 15‏)‏، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، ثنا موسى بن إسماعيل، أنا أبو عوانة، أنا عبد الملك، عن ورَّاد كاتب المغيرة، عن المغيرة قال‏:‏ قال سعد بن عُبادة رضي الله عنه‏:‏ لو رأيتُ رجلا مع امرأتي لضربتهُ بالسيف غير مُصْفِح، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏تعجبون من غيرة سعد‏؟‏ والله لأنا أغْيَرُ منه، والله أغيرُ مني، ومن أجل غيرة الله حرّم الله الفواحش ما ظهرَ منها ومَا بَطَن، ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعثَ المُنذرين والمُبشرين، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله، ومن أجل ذلك وعد اللهُ الجنةَ‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما أن رؤساء مكة أتوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا محمد سأَلْنَا عنكَ اليهود وعن صفتك في كتابهم فزعموا أنهم لا يعرفونَكَ، ودخل عليه جماعة من اليهود فقال لهم‏:‏ إني- والله- أعلم إنكم لتعلمون أني رسول الله، فقالوا‏:‏ ما نعلم ذلك، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ‏}‏ إن جحدوك وكذّبوك ‏{‏أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ بكتمان نَعْتِ محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏168- 171‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ‏(‏168‏)‏ إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏169‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏170‏)‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا ‏(‏171‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا‏}‏ قيل‏:‏ إنما قال ‏"‏وظلموا‏"‏- مع أن ظلمهم بكفرهم- تأكيدا، وقيل‏:‏ معناه كفروا بالله وظلموا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتمان نعته، ‏{‏لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا‏}‏ يعني‏:‏ دين الإسلام‏.‏

‏{‏إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ‏}‏ يعني اليهودية، ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏}‏ وهذا في حق من سبق حكمه فيهم أنهم لا يؤمنون‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ‏}‏ تقديره‏:‏ فآمنوا يكن الإيمان خيرًا لكم، ‏{‏وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ‏}‏ نزلت في النصارى وهم أصناف‏:‏ اليعقوبية والملكانية والنسطورية والمرقوسية فقالت اليعقوبية‏:‏ عيسى هو الله، وكذلك الملكانية، وقالت النسطورية‏:‏ عيسى هو ابن الله، وقالت‏:‏ المرقوسية ثالث ثلاثة، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

ويقال الملكانية يقولون‏:‏ عيسى هو الله، واليعقوبية يقولون‏:‏ ابن الله، والنسطورية يقولون‏:‏ ثالث ثلاثة‏.‏ علَّمهم رجل من اليهود يقال له بَوْلَس، سيأتي في سورة التوبة إنْ شاء الله تعالى‏.‏

وقال الحسن‏:‏ يجوز أن تكون نزلت في اليهود والنصارى، فإنهم جميعًا غلوا في أمر عيسى، فاليهود بالتقصير، والنصارى بمجاوزة الحدّ، وأصل الغلو‏:‏ مجاوزة الحدّ، وهو في الدين حرام‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ‏}‏ لا تُشدِّدوا في دينكم فتفتَرُوا على الله ‏{‏وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ‏}‏ لا تقولوا إنّ له شريكًا وولدًا ‏{‏إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُه‏}‏ وهي قوله ‏"‏كن‏"‏ فكان بشرًا من غير أب، وقيل غيره، ‏{‏أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ‏}‏ أي أعلمها وأخبرها بها، كما يقال‏:‏ ألقيتُ إليك كلمة حسنة، ‏{‏وَرُوحٌ مِنْهُ‏}‏ قيل‏:‏ هو روح كسائر الأرواح إلا أن الله تعالى أضافه إلى نفسه تشريفا‏.‏

وقيل‏:‏ الروح هو النفخ الذي نفخه جبريل عليه السلام في دِرْعِ مريم فحملته بإذن الله تعالى، سميّ النفخ روحًا لأنه ريح يخرج من الروح وأضافه إلى نفسه لأنه كان بأمره‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏روح منه‏"‏ أي ورحمة، فكان عيسى عليه السلام رحمةً لمن تبعه وأمن به‏.‏

وقيل‏:‏ الروح‏:‏ الوحي، أوحى إلى مريم بالبشارة، وإلى جبريل عليه السلام بالنفخ، وإلى عيسى أن كن فكان، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بالرُّوح مِنْ أمرِه‏"‏ النحل- 2‏)‏ يعني‏:‏ بالوحي، وقيل‏:‏ أراد بالروح جبريل عليه السلام، معناه‏:‏ وكلمته ألقاها إلى مريم، وألقاها إليها أيضًا روح منه بأمره وهو جبريل عليه السلام، كما قال‏:‏ ‏"‏تنزل الملائكةُ والرُّوح‏"‏ القدر- 4‏)‏ يعني‏:‏ جبريل فيها، وقال‏:‏ ‏"‏فأرسلنا إليها روحنا‏"‏ مريم- 17‏)‏، يعني‏:‏ جبريل‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أنا صدقة بن الفضل، أنا الوليد، عن الأوزاعي، حدثنا عمرو بن هاني، حدثني جُنادة بن أمية، عن عُبادة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ شَهِدَ أنْ لا إله إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ له، وأنّ محمدًا عبدُه ورسولُه، وأنّ عيسى عبدُ الله ورسولهُ وكلمته ألقاها إلى مريمَ ورُوحٌ منه، وأن الجنَّةَ والنّارَ حقٌ أدْخَلَه الله الجنة على ما كانَ من العمل‏"‏‏.‏

‏{‏فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ‏}‏ أي‏:‏ ولا تقولوا هم ثلاثة، وكانت النصارى تقول‏:‏ أب وابن وروح قدس، ‏{‏انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ‏}‏ تقديره‏:‏ انتهوا يكن الانتهاء خيرًا لكم، ‏{‏إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ‏}‏ واعلم أنّ التبني لا يجوز لله تعالى، لأنّ التبني إنما يجوز لمن يُتصور له ولد، ‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏172‏]‏

‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ‏(‏172‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ‏}‏ وذلك أنّ وفد نجران قالوا‏:‏ يا محمد إنك تعيب صاحبنا فتقول‏:‏ إنه عبد الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنّه ليس بعار لعيسى عليه السلام أن يكون عبدًا لله‏"‏، فنزل‏:‏ ‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ‏}‏ لن يأنف ولن يتعظم، والاستنكاف‏:‏ التكبر مع الأنفة، ‏{‏وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ‏}‏ وهم حملة العرش، لا يأنفون أن يكونوا عبيدًا لله، ويستدل بهذه الآية من يقول بتفضيل الملائكة على البشر، لأن الله تعالى ارتقى من عيسى إلى الملائكة، ولا يُرْتقي إلا إلى الأعلى، لا يقال‏:‏ لا يستنكف فلان من هذا ولا عبده، إنّما يقال‏:‏ فلان لا يستنكف من هذا ولا مولاه، ولا حجة لهم فيه لأنه لم يقل ذلك رفعًا لمقامهم على مقام البشر، بل رَّدًا على الذين يقولون الملائكة آلهة، كما ردّ على النصارى قولَهم المسيح ابن الله، وقال ردا على النصارى بزعمهم، فإنهم يقولون بتفضيل الملائكة‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا‏}‏ قيل الاستنكاف هو التكبر مع الأنفة، والاستكبار هو العلو والتكبر من غير أنَفَةٍ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏173- 174‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ‏(‏173‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ‏(‏174‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُم من فضله‏}‏ مِنَ التضعيف ما لا عين رأت ولا أُذنٌ سمعتْ ولا خطرَ على قلب بشر، ‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا‏}‏ عن عبادته، ‏{‏فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ محمدًا صلى الله عليه وسلم، هذا قول أكثر المفسرين، وقيل‏:‏ هو القرآن، والبرهانُ‏:‏ الحُجّة، ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا‏}‏ مبينًا يعني القرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏175- 176‏]‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏175‏)‏ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏176‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ‏}‏ امتنعوا به من زيغ الشيطان، ‏{‏فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ‏}‏ يعني الجنّة، ‏{‏وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ‏}‏ نزلت في جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال‏:‏ عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصبَّ عليَّ من وضوئه، فعقلتُ فقلتُ‏:‏ يا رسول الله لمن الميراث إنما يرثني الكَلالَة‏؟‏ فنزلت ‏"‏يستفتُونَكَ قلِ اللهُ يُفتيكُمْ في الكَلالَةِ‏"‏، وقد ذكرنا معنى الكَلالَةِ وحكمَ الآية في أول السورة‏.‏

وفي هذه الآية بيان حكم ميراث الأخوة للأب والأم أو للأب‏.‏

قوله ‏{‏يَسْتَفْتُونَك‏}‏ أي‏:‏ يستخبرونَكَ ويسألونَكَ، ‏{‏قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ‏}‏ ‏{‏إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا‏}‏ يعني إذا ماتت الأخت فجميع ميراثها للأخ، ‏{‏إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ‏}‏ فإن كان لها ابنٌ فلا شيء للأخ، وإن كان ولدها أنثى فللأخ ما فَضُلَ عن فرض البنات، ‏{‏فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ‏}‏ أراد اثنتين فصاعدًا، وهو أن من مات وله أخوات فلهنّ الثلثان، ‏{‏وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ‏}‏، ‏{‏يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا‏}‏ قال الفراء رحمة الله عليه وأبو عبيدة‏:‏ معناه أن لا تضلوا، وقيل‏:‏ معناه يبين الله لكم كراهة أن تضلوا، ‏{‏وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن رجاء، أنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء رضي الله عنهم قال‏:‏ آخرُ سورة نزلت كاملة براءة، وآخر آية نزلت خاتمة سورة النساء ‏{‏يستفتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفتيكُمْ في الكَلالَة‏}‏

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن آخر آيةٍ نزلتْ آية الربا، وآخر سورة نزلت ‏{‏إذا جاء نصر الله والفتح‏}‏‏.‏ ورُوي عنه أن آخر آية نزلت قوله تعالى ‏"‏واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله‏"‏ ‏(‏البقرة- 281‏)‏‏.‏

ورُوي بعد ما نزلت سورة النصر عاشَ النبي صلى الله عليه وسلم عامًا، ونزلت بعدها سورة براءة وهي آخر سورة نزلت كاملةً فعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها ستة أشهر، ثم نزلت في طريق حجة الوداع ‏"‏يستفتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفتيكُم في الكَلالَة‏"‏ فسُميتْ آية الصيف، ثم نزلت وهو واقف بعرفة‏:‏ ‏"‏اليومَ أكملتُ لكمْ دِيْنَكُمْ وأتممتُ عليكُمْ نِعْمَتِي‏"‏ ‏(‏المائدة- 3‏)‏ فعاش بعدها أحدًا وثمانين يومًا، ثم نزلت آيات الرِّبا، ثم نزلت ‏"‏واتّقُوا يومًا تُرْجَعُونَ فيه إلى الله‏"‏ فعاش بعدها أحدًا وعشرين يومًا‏.‏