فصل: الجزء الثالث

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


الجزء الثالث

سورة المائدة

مائة وعشرون آية، نزلت بالمدنية كلها إلا قوله‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ الآية، فإنها نزلت بعرفات‏.‏

روي عن أبي ميسرة قال‏:‏ أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكما لم يُنزلها في غيرها، قوله‏:‏ ‏{‏وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلام‏}‏ ‏{‏وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ‏}‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ وتمام الطهور في قوله‏:‏ ‏{‏إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ‏}‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ‏}‏ ‏{‏لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ‏}‏ الآية، ‏{‏مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ‏}‏ ذوقوله‏:‏ ‏{‏شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ‏(‏1‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ‏}‏ أي بالعهود، قال الزجاج‏:‏ هي أوكد العهود، يقال‏:‏ عاقدت فلانا وعقدت عليه أي‏:‏ ألزمته ذلك باستيثاق، وأصله من عقد الشيء بغيره ووصله به، كما يُعقد الحبل بالحبل إذا وُصل‏.‏

واختلفوا في هذه العقود، قال ابن جريج‏:‏ هذا خطاب لأهل الكتاب، يعني‏:‏ يا أيها الذين آمنوا بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود التي عهدتُها إليكم في شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهو قوله‏:‏ ‏"‏وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس‏"‏ ‏(‏سورة آل عمران، 187‏)‏‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ هو عام، وقال قتادة‏:‏ أراد بها الحِلْف الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية، وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ هي عهود الإيمان والقرآن، وقيل‏:‏ هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم‏.‏

‏{‏أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ‏}‏ قال الحسن وقتادة‏:‏ هي الأنعام كلها، وهي الإبل والبقر والغنم، وأراد تحليل ما حرم أهل الجاهلية على أنفسهم من الأنعام‏.‏

وروى أبو ظبيان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ بهيمة الأنعام هي الأجنة، ومثله عن الشعبي قال‏:‏ هي الأجنة التي توجد ميتة في بطون أمهاتها إذا ذُبحت أو نحرت، ذهب أكثر أهل العلم إلى تحليله‏.‏

قال الشيخ الإمام قرأت على أبي عبد الله محمد بن الفضل الخرقي فقلت‏:‏ قُرئ على أبي سهل محمد بن عمر بن طرفة وأنت حاضر، فقيل له‏:‏ حدثكم أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر ابن داسة أنا أبو داود السجستاني أنا مسدد أنا هشيم عن مجالد عن أبي الوداك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم قال قلنا‏:‏ يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة والشاة فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه‏"‏‏.‏ وروى أبو الزبير عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏"‏ ‏"‏ذكاة الجنين ذكاة أمه‏"‏‏.‏

وشرط بعضهم الإشعار، قال ابن عمر‏:‏ ذكاة ما في بطنها في ذكاتها إذا تم خلقه ونبت شعره، ومثله عن سعيد بن المسيب‏.‏

وعند أبي حنيفة رضي الله عنه لا يحل أكل الجنين إذا خرج ميتا بعد ذكاة الأم‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ بهيمة الأنعام‏:‏ وحشيها، وهي الظباء وبقر الوحش، سميت بهيمة لأنها أبهمت عن التمييز، وقيل‏:‏ لأنها لا نطق لها، ‏{‏إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر في قوله‏:‏ ‏"‏حرمت عليكم الميتة‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏وما ذبح على النصب‏"‏، ‏{‏غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ‏}‏ وهو نصب على الحال، أي‏:‏ لا محلي الصيد، ومعنى الآية‏:‏ أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما كان منها وحشيا فإنه صيد لا يحل لكم في حال الإحرام، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏2‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ‏}‏ نزلت في الحطم واسمه شريح بن ضبيعة البكري، أتى المدينة وخلّف خيله خارج المدينة، ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له‏:‏ إلى ما تدعو الناس‏؟‏ فقال‏:‏ إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فقال‏:‏ حسن إلا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه‏:‏ يدخل عليكم رجل من ربيعة يتكلم بلسان شيطان، ثم خرج شريح من عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد دخل بوجه كافر وخرج بقفا غادر وما الرجل بمسلم، فمر بسرح المدينة فاستاقه وانطلق، فاتبعوه فلم يُدركوه، فلما كان العام القابل خرج حاجا في حجاج بكر بن وائل من اليمامة ومعه تجارة عظيمة، وقد قلد الهدي، فقال المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ هذا الحطم قد خرج حاجا فخلِّ بيننا وبينه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنه قد قلد الهدي، فقالوا‏:‏ يا رسول الله هذا شيء كنا نفعله في الجاهلية، فأبى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس و مجاهد‏:‏ هي مناسك الحج، وكان المشركون يحجون ويهدون، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم فنهاهم الله عن ذلك‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ شعائر الله هي الهدايا المشعرة، والإشعار من الشعار، وهي العلامة، وإشعارها‏:‏ إعلامها بما يُعرف أنها هدي، والإشعار هاهنا‏:‏ أن يطعن في صفحة سنام البعير بحديدة حتى يسيل الدم، فيكون ذلك علامة أنها هدي، وهي سنة في الهدايا إذا كانت من الإبل، لما أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا أبو نعيم أنا أفلح عن القاسم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت‏:‏ فتلت قلائد بدن النبي صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها وأشعرها وأهداها، فما حَرُمَ عليه شيء كان أُحِلّ له‏.‏

وقاس الشافعي البقر على الإبل في الإشعار، وأما الغنم فلا تشعر بالجرح، فإنها لا تحتمل الجرح لضعفها، وعند أبي حنيفة‏:‏ لا يشعر الهدي‏.‏

وقال عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لا تحلوا شعائر الله هي أن تصيد وأنت محرم، بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وإذا حللتم فاصطادوا‏"‏، وقال السدي‏:‏ أراد حرم الله، وقيل‏:‏ المراد منه النهي عن القتل في الحرم، وقال عطاء‏:‏ شعائر الله حرمات الله واجتناب سخطه واتباع طاعته‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ‏}‏ أي‏:‏ بالقتال فيه، وقال ابن زيد‏:‏ هو النسيء، وذلك أنهم كانوا يحلونه في الجاهلية عاما ويحرمونه عاما، ‏{‏وَلا الْهَدْيَ‏}‏ وهو كل ما يهدى إلى بيت الله من بعير أو بقرة أو شاة، ‏{‏وَلا الْقَلائِدَ‏}‏ أي‏:‏ الهدايا المقلدة، يريد ذوات القلائد، وقال عطاء‏:‏ أراد أصحاب القلائد، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا أرادوا الخروج من الحرم قلدوا أنفسهم وإبلهم بشيء من لحاء شجر الحرم كيلا يتعرض لهم، فنهى الشرع عن استحلال شيء منها‏.‏ وقال مطرف بن الشخير‏:‏ هي القلائد نفسها وذلك أن المشركين كانوا يأخذون من لحاء شجر مكة ويتقلدونها فنهوا عن نزع شجرها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ‏}‏ أي‏:‏ قاصدين البيت الحرام، يعني‏:‏ الكعبة فلا تتعرضوا لهم، ‏{‏يَبْتَغُون‏}‏ يطلبون ‏{‏فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ‏}‏ يعني الرزق بالتجارة، ‏{‏وَرِضْوَانًا‏}‏ أي‏:‏ على زعمهم؛ لأن الكافرين لا نصيب له في الرضوان، وقال قتادة‏:‏ هو أن يصلح معاشهم في الدنيا ولا يعجل لهم العقوبة فيها، وقيل‏:‏ ابتغاء الفضل للمؤمنين والمشركين عامة، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصة؛ لأن المسلمين والمشركين كانوا يحجون، وهذه الآية إلى هاهنا منسوخة بقوله‏:‏ ‏"‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏"‏ ‏(‏سورة التوبة، 5‏)‏ وبقوله‏:‏ ‏"‏فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا‏"‏ ‏(‏سورة التوبة، 28‏)‏، فلا يجوز أن يحج مشرك ولا أن يأمن كافر بالهدي والقلائد‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذَا حَلَلْتُمْ‏}‏ من إحرامكم، ‏{‏فَاصْطَادُوا‏}‏ أمر إباحة، أباح للحلال أخذ الصيد، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض‏"‏ ‏(‏الجمعة، 10‏)‏‏.‏

‏{‏وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ‏}‏ قال ابن عباس وقتادة‏:‏ لا يحملنكم، يقال‏:‏ جرمني فلان على أن صنعت كذا، أي حملني، وقال الفراء‏:‏ لا يكسبنكم، يقال‏:‏ جرم أي‏:‏ كسب، وفلان جريمة أهله، أي‏:‏ كاسبهم، وقيل‏:‏ لا يدعونكم، ‏{‏شَنَآنُ قَوْمٍ‏}‏ أي‏:‏ بغضهم وعداوتهم، وهو مصدر شنئت، قرأ ابن ابن عامر وأبو بكر ‏{‏شَنَآنُ قَوْمٍ‏}‏ بسكون النون الأولى، وقرأ الآخرون بفتحها، وهما لغتان، والفتح أجود، لأن المصادر أكثرها فعلان، بفتح العين مثل الضربان والسيلان والنسلان ونحوها، ‏{‏أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الآخرون بفتح الألف، أي‏:‏ لأن صدوكم، ومعنى الآية‏:‏ ولا يحملنكم عداوة قوم على الاعتداء لأنهم صدوكم‏.‏ وقال محمد بن جرير‏:‏ لأن هذه السورة نزلت بعد قصة الحديبية، وكان الصد قد تقدم، ‏{‏أَنْ تَعْتَدُوا‏}‏ عليهم بالقتل وأخذ الأموال، ‏{‏وَتَعَاوَنُوا‏}‏ أي‏:‏ ليعين بعضكم بعضا، ‏{‏عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى‏}‏ قيل‏:‏ البر متابعة الأمر، والتقوى مجانبة النهي، وقيل‏:‏ البر‏:‏ الإسلام، والتقوى‏:‏ السنة، ‏{‏وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ قيل‏:‏ الإثم‏:‏ الكفر، والعدوان‏:‏ الظلم، وقيل‏:‏ الإثم‏:‏ المعصية، والعدوان‏:‏ البدعة‏.‏

أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري أنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن محمد بن أبي طاهر الدقاق ببغداد أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن الزبير القرشي أنا الحسن بن علي بن عفان أنا زيد بن الحباب عن معاوية بن صالح حدثني عبد الرحمن بن جبير بن نفير بن مالك الحضرمي عن أبيه عن النواس بن سمعان الأنصاري قال‏:‏ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم، قال‏:‏ ‏"‏البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس‏"‏‏.‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏3‏]‏

‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏3‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ ما ذكر على ذبحه اسم غير الله تعالى، ‏{‏وَالْمُنْخَنِقَة‏}‏ وهي التي تختنق فتموت، قال ابن عباس‏:‏ كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة حتى إذا ماتت أكلوها، ‏{‏وَالْمَوْقُوذَة‏}‏ هي المقتولة بالخشب، قال قتادة‏:‏ كانوا يضربونها بالعصا فإذا ماتت أكلوها، ‏{‏وَالْمُتَرَدِّيَة‏}‏ هي التي تتردى من مكان عال أو في بئر فتموت، ‏{‏وَالنَّطِيحَة‏}‏ وهي التي تنطحها أخرى فتموت، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث، نحو عين كحيل وكف خضيب، فإذا حذفت الاسم وأفردت الصفة، أدخلوا الهاء فقالوا‏:‏ رأينا كحيلة وخضيبة، وهنا أدخل الهاء لأنه لم يتقدمها الاسم، فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر، ومثله الذبيحة والنسيكة، وأكيلة السبع ‏{‏وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ‏}‏ يريد ما بقي مما أكل السبع، وكان أهل الجاهلية يأكلونه، ‏{‏إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء‏.‏

وأصل التذكية الإتمام، يقال‏:‏ ذكيت النار إذا أتممت إشعالها، والمراد هنا‏:‏ إتمام فري الأوداج وإنهار الدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل غير السن والظفر‏"‏‏.‏

وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المري والحلقوم وكما له أن يقطع الودجين معهما، ويجوز بكل محدد يقطع من حديد أو قصب أو زجاج أو حجر إلا السن والظفر، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما، وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع وأكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته، فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح، فهو في حكم الميتة، فلا يكون حلالا وإن ذبحته، وكذلك المتردية والنطيحة إذا أدركتها حية قبل أن تصير إلى حالة المذبوح فذبحتها تكون حلالا ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه فسقط على الأرض فمات كان حلالا؛ لأن الوقوع على الأرض من ضرورته، فإن سقط على جبل أو شجر أو سطح ثم تردى منه فمات فلا يحل، وهو من المتردية إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء فيحل كيف ما وقع؛ لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح‏.‏

‏{‏وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ‏}‏ قيل‏:‏ النصب جمع واحده نصاب، وقيل‏:‏ هو واحد وجمعه أنصاب مثل عنق وأعناق، وهو الشيء المنصوب‏.‏

واختلفوا فيه، فقال مجاهد وقتادة‏:‏ كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجرا منصوبة، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ويذبحون لها، وليست هي بأصنام، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة، وقال الآخرون‏:‏ هي الأصنام المنصوبة، ومعناه‏:‏ وما ذبح على اسم النصب، قال ابن زيد‏:‏ وما ذبح على النصب وما أهل لغير الله به‏:‏ هما واحد، قال قطرب‏:‏ على بمعنى اللام أي‏:‏ وما ذبح لأجل النصب‏.‏

‏{‏وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ‏}‏ أي‏:‏ ويحرم عليكم الاستقسام بالأزلام، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام، والأزلام هي‏:‏ القداح التي لا ريش لها ولا نصل، واحدها‏:‏ زَلْم، وزُلْم بفتح الزاي وضمها، وكانت أزلامهم سبعة قداح مستوية من شوحط يكون عند سادن الكعبة، مكتوب على واحد‏:‏ نعم، وعلى واحد‏:‏ لا وعلى واحد‏:‏ منكم، وعلى واحد‏:‏ من غيركم، وعلى واحد‏:‏ مُلْصَق، وعلى واحد‏:‏ العقل، وواحد غُفْل ليس عليه شيء، فكانوا إذا أرادوا أمرا من سفر أو نكاح أو ختان أو غيره، أو تدارءوا في نسب أو اختلفوا في تحمّل عقل جاءوا إلى هُبل، وكان أعظم أصنام قريش بمكة، وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح حتى يجيل القداح، ويقولون‏:‏ يا إلهنا إنا أردنا كذا وكذا، فإن خرج نعم، فعلوا، وإن خرج لا لم يفعلوا ذلك حولا ثم عادوا إلى القداح ثانية، فإذا أجالوا على نسب، فإن خرج منكم كان وسطا منهم، وإن خرج من غيركم كان حليفا، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ولا حلف، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله، وإن خرج الغفل أجالوا ثانيا حتى يخرج المكتوب، فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه، وقال‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ فِسْقٌ‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ الأزلام حصى بيض كانوا يضربون بها، وقال مجاهد‏:‏ هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها، وقال الشعبي وغيره‏:‏ الأزلام للعرب، والكعاب للعجم، وقال سفيان بن وكيع‏:‏ هي الشطرنج، وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏العيافة والطرق والطيرة من الجبت‏"‏ والمراد من الطرق‏:‏ الضرب بالحصى‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي أنا ابن فنجوية أنا ابن الفضل الكندي أخبرنا الحسن بن داود الخشاب أنا سويد بن سعيد أنا أبو المختار عن عبد الملك بن عمير عن رجاء بن حيوة عن أبي الدرداء قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أن ترجعوا إلى دينهم كفارا، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم فلما قوي الإسلام يئسوا، ويئس وأيس بمعنى واحد‏.‏

‏{‏فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا‏}‏ نزلت هذه الآية يوم الجمعة، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثني الحسن بن الصباح سمع جعفر بن عون أنا أبو العميس أنا قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا من اليهود قال له‏:‏ ‏"‏يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرأونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا، قال‏:‏ أية آية‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا‏"‏ قال عمر‏:‏ قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة‏.‏ أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيدا لنا‏"‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كان في ذلك اليوم خمسة أعياد‏:‏ جمعة وعرفة وعيد اليهود والنصارى والمجوس، ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده‏.‏

روى هارون بن عنترة عن أبيه قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما يبكيك يا عمر‏"‏‏؟‏ فقال‏:‏ أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذا كمل فإنه لم يكن شيء قط إلا نقص، قال‏:‏ صدقت‏.‏

وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم وعاش بعدها إحدى وثمانين يوما، ومات يوم الاثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة، وقيل‏:‏ توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول وكانت هجرته في الثاني عشر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم، يعني الفرائض والسنن والحدود والجهاد والأحكام والحلال والحرام، فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام، ولا شيء من الفرائض‏.‏ هذا معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما، وروي عنه أن آية الربا نزلت بعدها‏.‏

وقال سعيد بن جبير وقتادة‏:‏ أكملت لكم دينكم فلم يحج معكم مشرك‏.‏

وقيل‏:‏ أظهرت دينكم وأمّنتكم من العدو‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي‏}‏ يعني‏:‏ وأنجزت وعدي في قول ‏"‏ولأتم نعمتي عليكم‏"‏ ‏(‏سورة البقرة، 150‏)‏، فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين وعليها ظاهرين، وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين، ‏{‏وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا‏}‏ سمعت عبد الواحد المليحي قال‏:‏ سمعت أبا محمد بن أبي حاتم، قال‏:‏ سمعت أبا بكر النيسابوري سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي، سمعت عبد الملك بن مسلمة أنا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه، سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏قال جبريل عليه السلام قال الله تعالى‏:‏ هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما ما صحبتموه‏"‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ‏}‏ أي‏:‏ أُجهد في مجاعة، والمخمصة خلو البطن من الغذاء، يقال‏:‏ رجل خميص البطن إذا كان طاويا خاويا، ‏{‏غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ‏}‏ أي‏:‏ مائل إلى إثم وهو أن يأكل فوق الشبع، وقال قتادة غير متعرض لمعصية في مقصده، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ وفيه إضمار، أي‏:‏ فأكله فإن الله غفور رحيم‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الحسن المروزي أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي أنا أبو عبيد القاسم بن سلام أنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي قال رجل‏:‏ يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتي تحل لنا الميتة‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلا فشأنكم بها‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏4‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ‏}‏ الآية، قال سعيد بن جبير‏:‏ نزلت هذه الآية في عدي بن حاتم وزيد بن المهلهل الطائيين وهو زيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير، قالا يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة فماذا يحل لنا منها‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب قالوا‏:‏ يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها‏؟‏ فنزلت هذه الآية فلما نزلت أذِنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في اقتناء الكلاب التي يُنتفع بها، ونهى عن إمساك ما لا نفع فيه منها‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار أنا أحمد بن منصور الرمادي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من اتخذ كلبا إلا كلب ماشية أو صيد أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراط‏"‏ والأول أصح في سبب نزول هذه الآية‏.‏

‏{‏قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏}‏ يعني‏:‏ الذبائح على اسم الله تعالى، وقيل‏:‏ كل ما تستطيبه العرب وتستلذه من غير أن يرد بتحريمه نص من كتاب أو سنة ‏{‏وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ‏}‏ يعني‏:‏ وأحل لكم صيد ما علمتم من الجوارح‏.‏

واختلفوا في هذه الجوارح، فقال الضحاك والسدي‏:‏ هي الكلاب دون غيرها، ولا يحل ما صاده غير الكلب إلا أن يدرك ذكاته، وهذا غير معمول به، بل عامة أهل العلم على أن المراد من الجوارح والكواسب من سباع البهائم كالفهد والنمر والكلب، ومن سباع الطير كالبازي والعُقاب والصقر ونحوها مما يقبل التعليم، فيحل صيد جميعها، سميت جارحة‏:‏ لجرحها لأربابها أقواتهم من الصيد، أي‏:‏ كسبها، يقال‏:‏ فلان جارحة أهله، أي‏:‏ كاسبهم، ‏{‏مُكَلِّبِينَ‏}‏ والمكلّب الذي يغري الكلاب على الصيد، ويقال للذي يعلمها أيضا‏:‏ مكلِّب، والكلاب‏:‏ صاحب الكلاب، ويقال للصائد بها أيضا كلاب، ونصب مكلبين على الحال، أي‏:‏ في حال تكليبكم هذه الجوارح أي إغرائكم إياها على الصيد، وذكر الكلاب لأنها أكثر وأعم، والمراد جميع جوارح الصيد، ‏{‏تُعَلِّمُونَهُنَّ‏}‏ تؤدبونهن آداب أخذ الصيد، ‏{‏مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ من العلم الذي علمكم الله، وقال السدي‏:‏ أي كما علمكم الله، ‏"‏من‏"‏ بمعنى الكاف، ‏{‏فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ‏}‏ أراد أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها فأخذت الصيد وقتلته كان حلالا والتعليم هو أن يوجد فيها ثلاثة أشياء‏:‏ إذا أشليت استشلت، وإذا زُجِرَت انزجرت، وإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل، وإذا وجد ذلك منه مرارا وأقله ثلاث مرات كانت معلمة، يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا موسى بن إسماعيل أنا ثابت بن زيد عن عاصم عن الشعبي عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك وقتل فكل، وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، وإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليها فأمسكن وقتلن فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قتل، وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإن وقع في الماء فلا تأكل‏"‏

واختلفوا فيما إذا أخذت الصيد وأكلت منه شيئا‏:‏ فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه، وروي ذلك عن ابن عباس، وهو قول عطاء وطاوس والشعبي، وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي وهو أصح قولي الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه‏"‏‏.‏

ورخص بعضهم في أكله، رُوي ذلك عن ابن عمر، وسلمان الفارسي، وسعد بن أبي وقاص، وبه قال مالك‏:‏ لما رُوي عن أبي ثعلبة الخشني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله تعالى فكل وإن أكل منه‏"‏‏.‏

وأما غير المعلم من الجوارح إذا أخذ صيدا، أو المعلم إذا خرج بغير إرسال صاحبه فأخذ وقتل فلا يكون حلالا إلا أن يدركه صاحبه حيا فيذبحه، فيكون حلالا‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عبد الله بن يزيد أنا حيوة أخبرني ربيعة بن يزيد الدمشقي عن أبي إدريس عن أبي ثعلبة الخشني قال قلت‏:‏ يا نبي الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم، وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي ليس بمعلم، وبكلبي المعلم فما يصح لي‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل وما صِدْتَ بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل وما صِدْتَ بكلبك غير المعلّم فأدركت ذكاته فكل‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ففيه بيان أن ذكر اسم الله عز وجل على الذبيحة شرط حالة ما يذبح، وفي الصيد حالة ما يرسل الجارحة أو السهم‏.‏

أخبرنا أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد الداودي أنا أبو الحسن علي بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن علوية الجوهري قال‏:‏ حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد بن الأثرم المقري بالبصرة حدثنا عمر بن شيبة أنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس قال‏:‏ ‏"‏ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر، قال‏:‏ رأيته واضعا قدمه على صفاحهما ويذبحهما بيده قال المنذري في مختصر السنن‏:‏ ‏"‏في إسناده داود بن عمرو الأودي الدمشقي، عامل واسط، وثقه يحيى بن معين، وقال الإمام أحمد‏:‏ حديث مقارب، وقال أبو زرعة‏:‏ لا بأس به‏.‏‏.‏‏.‏ وقال أحمد بن عبد الله العجلي‏:‏ ليس بالقوي‏"‏‏.‏

ويقول بسم الله والله أكبر‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏5‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏}‏ يعني‏:‏ الذبائح على اسم الله عز وجل، ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ‏}‏ يريد ذبائح اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمم قبل مبعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم حلال لكم، فأما من دخل في دينهم بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فلا تحل ذبيحته، ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله كالنصراني يذبح باسم المسيح فاختلفوا فيه، قال عمر لا يحل، وهو قول ربيعة، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنه يحل، وهو قول الشعبي وعطاء والزهري ومكحول، سئل الشعبي ومكحول عن النصراني يذبح باسم المسيح، قالا يحل فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون، وقال الحسن‏:‏ إذا ذبح اليهودي أو النصراني فذكر اسم غير الله وأنت تسمع فلا تأكله فإذا غاب عنك فكل فقد أحل الله لك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ‏}‏ فإن قيل‏:‏ كيف شرع لهم حل طعامنا وهم كفار ليسوا من أهل الشرع‏؟‏ قال الزجاج‏:‏ معناه حلال لكم أن تطعموهم فيكون خطاب الحل مع المسلمين، وقيل‏:‏ لأنه ذكر عقيبه حكم النساء، ولم يذكر حِلّ المسلمات لهم فكأنه قال حلال لكم أن تطعموهم حرام عليكم أن تزوجوهم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ هذا راجع إلى الأول منقطع عن قوله‏:‏ ‏"‏وطعامكم حل لهم‏"‏‏.‏

اختلفوا في معنى ‏"‏ المحصنات ‏"‏ فذهب أكثر العلماء إلى أن المراد منهن الحرائر، وأجازوا نكاح كل حرة، مؤمنة كانت أو كتابية، فاجرة كانت أو عفيفة، وهو قول مجاهد، وقال هؤلاء‏:‏ لا يجوز للمسلم نكاح الأمة الكتابية لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات‏"‏ ‏(‏سورة النساء، 25‏)‏ جوّز نكاح الأمة بشرط أن تكون مؤمنة، وجوّز أكثرهم نكاح الأمة الكتابية الحربية، وقال ابن عباس‏:‏ لا يجوز وقرأ ‏"‏قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله‏"‏ إلى قوله ‏"‏حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون‏"‏ ‏(‏التوبة، 29‏)‏، فمن أعطى الجزية حل لنا نساؤه ومن لم يعطها فلا يحل لنا نساؤه‏.‏

وذهب قوم إلى أن المراد من المحصنات في الآية‏:‏ العفائف من الفريقين حرائر كن أو إماء وأجازوا نكاح الأمة الكتابية، وحرموا البغايا من المؤمنات والكتابيات، وهو قول الحسن، وقال الشعبي‏:‏ إحصان الكتابية أن تستعف من الزنا وتغتسل من الجنابة‏.‏

‏{‏إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ‏}‏ مهورهن ‏{‏مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ‏}‏ غير معالنين بالزنا، ‏{‏وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ‏}‏ أي‏:‏ يسرون بالزنا، قال الزجاج‏:‏ حرم الله الجماع على جهة السفاح وعلى جهة اتخاذ الصديقة، وأحله على جهة الإحصان وهو التزوج‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ يقول ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر أو يغني عنهن شيئا وهى للناس عامة‏:‏ ‏"‏ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين‏"‏‏.‏

قال ابن عباس ومجاهد في معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ومن يكفر بالإيمان‏"‏ أي‏:‏ بالله الذي يجب

الإيمان به‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ بالإيمان أي‏:‏ بكلمة التوحيد وهي شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، وقيل‏:‏ من يكفر بالإيمان أي‏:‏ يستحل الحرام ويحرّم الحلال فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين قال ابن عباس‏:‏ خسر الثواب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏6‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ‏}‏ أي‏:‏ إذا أردتم القيام إلى الصلاة، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله‏"‏، ‏(‏سورة النحل، 98‏)‏، أي‏:‏ إذا أردت القراءة‏.‏

وظاهر الآية يقتضي وجوب الوضوء عند كل مرة يريد القيام إلى الصلاة، لكن أعلمنا ببيان السنة وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد من الآية‏:‏ ‏"‏إذا قمتم إلى الصلاة‏"‏ وأنتم على غير طُهر، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ‏"‏‏.‏

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد الحنيفي أنا أبو الحارث طاهر بن محمد الطاهري أنا أبو محمد الحسن بن محمد بن حليم أنا أبو الموجه محمد بن عمرو بن الموجه أنا عبدان أنا سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم فتح مكة الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ معنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة من النوم‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هو أمر على طريق الندب، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدد لها طهارته وإن كان على طهر، روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات‏"‏‏.‏

ورُوي عن عبد الله بن حنظلة بن عامر ‏"‏أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا أو غير طاهر، فلما شق ذلك عليه أمر بالسواك لكل صلاة‏"‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هذا إعلام من الله سبحانه وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما بَدَا له من الأفعال غير الصلاة، أخبرنا أبو القاسم الحنيفي أنا أبو الحارث الطاهري أنا الحسن بن محمد بن حليم أنا أبو الموجه أنا صدقة أنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمع سعيد بن الحويرث سمع ابن عباس رضي الله عنهما يقول‏:‏ ‏(‏كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فرجع من الغائط فأتي بطعام فقيل له‏:‏ ألا تتوضأ‏؟‏ ‏"‏فقال‏:‏ لِمَ‏؟‏ أأصلي فأتوضأ‏؟‏‏)‏‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ‏}‏ وحدُّ الوجه من مَنَابتِ شعر الرأس إلى مُنتهى الذقن طولا وما بين الأذنين عرضا يجب غسل جميعه في الوضوء، ويجب أيضا إيصالُ الماء إلى ما تحت الحاجبين وأهداب العينين والشارب والعذار أو العنفقة وإن كانت كثيفة وأما العارض واللحية فإن كانت كثيفة لا تُرى البشرة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوضوء، بل يجب غسل ظاهرها‏.‏

وهل يجب إمرار الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذقن‏؟‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ لا يجب، وبه قال أبو حنيفة، لأن الشعر النازل عن حد الرأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المسح عليه، كذلك النازل عن حدّ الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب غسله‏.‏

والقول الثاني‏:‏ يجب إمرار الماء على ظاهره، لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه، والوجه ما يقع به المواجهة من هذا العضو، ويقال في اللغة بقل وجه فلان وخرج وجهه‏:‏ إذا نبتت لحيته‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ‏}‏ أي‏:‏ مع المرافق، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم‏"‏ ‏(‏سورة النساء، 2‏)‏ أي‏:‏ مع أموالكم، وقال‏:‏ ‏"‏من أنصاري إلى الله‏"‏ ‏(‏سورة آل عمران، 52 وسورة الصف، 14‏)‏، أي‏:‏ مع الله‏.‏

وأكثر العلماء على أنه يجب غسل المرفقين، وفي الرِّجْل يجب غسل الكعبين، وقال الشعبي ومحمد بن جرير‏:‏ لا يجب غسل المرفقين والكعبين في غسل اليد والرِّجْل لأن حرف ‏"‏إلى‏"‏ للغاية والحدّ، فلا يدخل في المحدود‏.‏

قلنا‏:‏ ليس هذا بحدّ ولكنه بمعنى مع كما ذكرنا، وقيل‏:‏ الشيء إذا حدّ إلى جنسه يدخل فيه الغاية، وإذا حدّ إلى غير جنسه لا يدخل، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏"‏ ‏(‏سورة البقرة، 187‏)‏، لم يدخل الليل فيه لأنه ليس من جنس النهار‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ‏}‏ اختلف العلماء في قدر الواجب من مسح الرأس، فقال مالك‏:‏ يجب مسح جميع الرأس كما يجب مسح جميع الوجه في التيمم، وقال أبو حنيفة‏:‏ يجب مسح ربع الرأس، وعند الشافعي رحمه الله‏:‏ يجب قدر ما يطلق عليه اسم المسح‏.‏

واحتج من أجاز مسح بعض الرأس بما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا يحيى بن حسان عن حماد بن زيد وابن علية عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن عمرو بن وهب الثقفي عن المغيرة بن شعبة ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفيه‏"‏، فأجاز بعض أهل العلم المسح على العمامة بهذا الحديث، وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق‏.‏

ولم يُجوّز أكثر أهل العلم المسح على العمامة بدلا من المسح على الرأس، وقالوا‏:‏ في حديث المغيرة أن فرض المسح سقط عنه بمسح الناصية، وفيه دليل على أن مسح جميع الرأس غير واجب‏.‏

قوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وَأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ‏}‏، قرأ نافع وابن عامر والكسائي ويعقوب وحفص ‏"‏وأرْجُلَكم‏"‏ بنصب اللام، وقرأ الآخرون ‏"‏وأرْجُلِكم‏"‏ بالخفض، فمن قرأ ‏"‏وأرجلكم‏"‏ بالنصب فيكون عطفا على قوله‏:‏ ‏"‏فاغسلوا وجوهكم وأيديكم‏"‏ أي‏:‏ واغسلوا أرجلكم، ومن قرأ بالخفض فقد ذهب قليل من أهل العلم إلى أنه يمسح على رجلين، ورُوي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الوضوء غسلتان ومسحتان، ويُروى ذلك عن عكرمة وقتادة، وقال الشعبي‏:‏ نزل جبريل بالمسح وقال‏:‏ ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا‏؟‏

وقال محمد بن جرير الطبري يتخير المتوضئ بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين‏.‏

وذهب عامة أهل العلم من الصحابة والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين، وقالوا‏:‏ خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم، كما قال تبارك وتعالى‏:‏ ‏"‏عذاب يوم أليم‏"‏، فالأليم صفة العذاب، ولكنه أخذ إعراب اليوم للمجاورة، وكقولهم‏:‏ جُحْرُ ضبٍ خربٍ، فالخرب نعت للجُحر، وأخذ إعراب الضبِّ للمجاورة‏.‏

والدليل على وجوب غسل الرجلين‏:‏ ما أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي الخطيب أنا أبو عبد الله الحافظ أنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب أنا يحيى بن محمد بن يحيى أنا الحجبي ومسدد قالا أخبرنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرٍو قال‏:‏ ‏"‏تخلف عنّا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر سافرناه فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر، ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادانا بأعلى صوته‏:‏ ‏"‏ويل للأعقاب من النار‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل حدثنا عبدان أنا عبد الله أنا معمر حدثني الزهري عن عطاء بن يزيد عن حمران مولى عثمان قال‏:‏ ‏"‏رأيت عثمان رضي الله عنه توضأ فأفرغ على يديه ثلاثا ثم مضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاثا، ثم مسح رأسه، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا ثم اليسرى ثلاثا ثم قال‏:‏ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال‏:‏ من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء غفر الله له ما تقدّم من ذنبه‏"‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أراد بقوله ‏{‏وَأَرْجُلَكُم‏}‏ المسح على الخفين كما رُوي ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع وضع يديه على ركبتيه‏"‏ وليس المراد منه أنه لم يكن بينهما حائل، ويُقال‏:‏ قبّل فلان رأس الأمير ويده، وإن كانت العمامة على رأسه، ويده في كمه‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم أنا زكريا عن عامر عن عروة بن المغيرة عن أبيه رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏"‏كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة في سفر فقال‏:‏ ‏"‏أمعك ماء‏"‏ فقلت‏:‏ نعم، فنزل عن راحلته فمشى حتى توارى عني في سواد الليل، ثم جاء فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه ويديه، وعليه جبة من صوف فلم يستطع أن يُخرج ذراعيه منها حتى أخرجهما من أسفل الجبة فغسل ذراعيه، ثم مسح برأسه، ثم أهويت لأنزع خفيه فقال‏:‏ دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين‏"‏، فمسح عليهما‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَى الْكَعْبَيْنِ‏}‏ فالكعبان هما العظمان الناتئان من جانبي القدمين، وهما مجتمع مفصل الساق والقدم، فيجب غسلهما مع القدمين كما ذكرنا في المرفقين‏.‏

وفرائض الوضوء‏:‏ غسل الأعضاء الثلاثة كما ذكر الله تعالى، ومسح الرأس، واختلف أهل العلم في وجوب النية‏:‏ فذهب أكثرهم إلى وجوبها لأن الوضوء فيفتقر إلى النية كسائر العبادات، وذهب بعضهم إلى أنها غير واجبة وهو قول الثوري وأصحاب الرأي‏.‏

واختلفوا في وجوب الترتيب، وهو أن يغسل أعضاءه على الولاء كما ذكر الله تبارك وتعالى‏:‏ فذهب جماعة إلى وجوبه، وهو قول مالك والشافعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله، ويروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏

واحتج الشافعي بقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏إن الصفا والمروة من شعائر الله‏"‏، ‏(‏سورة البقرة، 158‏)‏‏.‏ وبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بالصفا، وقال‏:‏ ‏"‏نبدأ بما بدأ الله به‏"‏ وكذلك هاهنا بدأ الله تعالى بذكر غسل الوجه فيجب علينا أن نبدأ فعلا بما بدأ الله تعالى به ذكرا‏.‏

وذهب جماعة إلى أن الترتيب سنّة، وقالوا‏:‏ الواوات المذكورة في الآية للجميع لا للترتيب كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏"‏ الآية ‏(‏سورة التوبة، 60‏)‏، واتفقوا على أنه لا تجب مراعاة الترتيب في صرف الصدقات إلى أهل السهمان، ومن أوجب الترتيب أجاب بأنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه راعى الترتيب بين أهل السهمان، وفي الوضوء لم ينقل أنه توضأ إلا مرتبا كما ذكر الله تعالى، وبيان الكتاب يُؤخذ من السنة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا‏"‏ ‏(‏سورة الحج، 77‏)‏، لما قدم ذكر الركوع على السجود، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل إلا كذلك فكان مراعاة الترتيب فيه واجبة، كذلك الترتيب هنا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا‏}‏ أي‏:‏ اغتسلوا، أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها ‏"‏أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يُدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصبُّ على رأسه ثلاث غرفات بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله‏"‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ‏}‏ فيه دليل على أنه يجب مسح الوجه واليدين بالصعيد وهو التراب، ‏{‏مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ‏}‏ بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم، ‏{‏مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ضيق، ‏{‏وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ‏}‏ من الأحداث والجنابات والذنوب، ‏{‏وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ إتمام النعمة تكفير الخطايا بالوضوء كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏"‏ ‏(‏سورة الفتح، 2‏)‏، فجعل تمام نعمته غفران ذنوبه‏.‏

أخبرنا أبو الحسن عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران‏:‏ أن عثمان توضأ بالمقاعد ثلاثا ثلاثا ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من توضأ وضوئي هذا خرجت خطاياه من وجهه ويديه ورجليه‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن حمران مولى عثمان‏:‏ أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جلس على المقاعد يوما فجاءه المؤذن فآذنه بصلاة العصر فدعا بماء فتوضأ، ثم قال‏:‏ والله لأحدثنكم حديثا لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه، ثم قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما من امرئ مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يصلي الصلاة إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها‏"‏ قال مالك‏:‏ أراه يريد هذه الآية ‏{‏وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي‏}‏ ورواه ابن شهاب وقال عروة‏:‏ الآية ‏"‏إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات‏"‏ ‏(‏سورة البقرة، 159‏)‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا يحيى بن بكير أنا الليث عن خالد عن سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر قال رقيت مع أبي هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد، فتوضأ قال‏:‏ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء، فمن استطاع أن يطيل منكم غرته فليفعل‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7- 9‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏7‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏8‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏9‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ النعم كلها، ‏{‏وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ‏}‏ عهده الذي عاهدكم به أيها المؤمنون، ‏{‏إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا‏}‏ وذلك حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا، وهو قول أكثر المفسرين، وقال مجاهد ومقاتل‏:‏ يعني الميثاق الذي أخذ عليهم حين أخرجهم من صلب آدم عليه السلام، ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ بما في القلوب من خير وشر‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ‏}‏ أي‏:‏ كونوا قائمين بالعدل قوّالين بالصدق، أمرهم بالعدل والصدق في أفعالهم وأقوالهم، ‏{‏وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ‏}‏ ولا يحملنكم، ‏{‏شَنَآنُ قَوْمٍ‏}‏ بغض قوم، ‏{‏عَلَى أَلا تَعْدِلُوا‏}‏ أي‏:‏ على ترك العدل فيهم لعداوتهم‏.‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏اعْدِلُوا‏}‏ يعني‏:‏ في أوليائكم وأعدائكم، ‏{‏هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى‏}‏ يعني‏:‏ إلى التقوى، ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ وهذا في موضع النصب؛ لأن فعل الوعد واقع على المغفرة، ورفعها على تقدير أي‏:‏ وقال لهم مغفرة وأجر عظيم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 11‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏10‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُم‏}‏ بالدفع عنكم، ‏{‏إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ‏}‏ بالقتل‏.‏

قال قتادة‏:‏ نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببطن نخل فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تبارك وتعالى نبيه على ذلك، وأنزل الله صلاة الخوف‏.‏

وقال الحسن‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم محاصرا غطفان بنخل، فقال رجل من المشركين‏:‏ هل لكم في أن أقتل محمدا‏؟‏ قالوا‏:‏ وكيف تقتله‏؟‏ قال‏:‏ أفتك به، قالوا‏:‏ وددنا أنك قد فعلت ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم متقلد سيفه، فقال‏:‏ يا محمد أرني سيفك فأعطاه إيّاه فجعل الرجل يهز السيف وينظر مرة إلى السيف ومرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ من يمنعك مني يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ الله، فتهدده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فشام السيف ومضى، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

وقال مجاهد وعكرمة والكلبي وابن يسار عن رجاله‏:‏ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي، وهو أحد النقباء ليلة العقبة، في ثلاثين راكبا من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة، فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة، وهي من مياه بني عامر، فاقتتلوا، فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم، أحدهم عمرو بن أمية الضمري، فلم يرعهم إلا الطير تحوم في السماء، يسقط من بين خراطيمها علق الدم، فقال أحد النفر‏:‏ قتل أصحابنا، ثم تولى يشتد حتى لقي رجلا فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال‏:‏ الله أكبر الجنة ورب العالمين، فرجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية، فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم، حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما، وكانوا قد عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات، قالوا‏:‏ نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلسْ حتى نطعمك ونعطيك الذي سألته فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض وقالوا‏:‏ إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه‏؟‏ فقال عمر بن جحاش‏:‏ أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده وجاء جبريل وأخبره، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة ثم دعا عليا فقال‏:‏ لا تبرح مقامك، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل‏:‏ توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي رضي الله عنه حتى تناهوا إليه ثم تبعوه، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال‏:‏ ‏{‏فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏12‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ‏(‏12‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا‏}‏ وذلك أن الله عز وجل وعد موسى عليه السلام أن يورثه وقومه الأرض المقدسة وهي الشام، وكان يسكنها الكنعانيون الجبارون، فلما استقرت لبني إسرائيل الدار بمصر أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحاء من أرض الشام وهي الأرض المقدسة، وكانت لها ألف قرية في كل قرية ألف بستان، وقال‏:‏ يا موسى إني كتبتها لكم دارا وقرارا فاخرج إليها وجاهد من فيها من العدو فإني ناصرك عليهم، وخذ من قومك اثني عشر نقيبا من كل سبط نقيبا يكون كفيلا على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، فاختار موسى النقباء وسار موسى ببني إسرائيل حتى قربوا من أريحاء فبعث هؤلاء النقباء يتجسسون له الأخبار ويعلمون علمها، فلقيهم رجل من الجبابرة يقال له عوج بن عنق، وكان طوله ثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاث وثلاثين ذراعا وثلث ذراع، وكان يحتجر بالسحاب ويشرب منه ويتناول الحوت من قرار البحر فيشويه بعين الشمس يرفعه إليها ثم يأكله، ويُروى أن الماء طبق ما على الأرض من جبل وما جاوز ركبتي عوج وعاش ثلاثة آلاف سنة حتى أهلكه الله على يدي موسى عليه السلام، وذلك أنه جاء وقلع صخرة من الجبل على قدر عسكر موسى عليه السلام، وكان فرسخا في فرسخ، وحملها ليطبقها عليهم فبعث الله الهدهد فقوّر الصخرة بمنقاره فوقعت في عنقه فصرعته، فأقبل موسى عليه السلام وهو مصروع فقتله، وكانت أمه عنق إحدى بنات آدم وكان مجلسها جريبا من الأرض، فلما لقي عوج النقباء وعلى رأسه حزمة حطب أخذ الاثني عشر وجعلهم في حجزته وانطلق بهم إلى امرأته، وقال انظري إلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، وطرحهم بين يديها وقال‏:‏ ألا أطحنهم برجلي‏؟‏ فقالت امرأته‏:‏ لا بل خلِّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا، ففعل ذلك‏.‏

ورُوي أنه جعلهم في كُمِّه وأتى بهم إلى الملك فطرحهم بين يديه، فقال الملك‏:‏ ارجعوا فأخبروهم بما رأيتم، وكان لا يحمل عنقودا من عنبهم إلا خمسة أنفس منهم في خشبة، ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع منها حبها خمسة أنفس، فرجع النقباء وجعلوا يتعرفون أحوالهم، وقال بعضهم لبعض يا قوم‏:‏ إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبر القوم ارتدوا عن نبي الله ولكن اكتموا، وأخبروا موسى وهارون فيريان رأيهما وأخذ بعضهم على بعضهم الميثاق بذلك، ثم إنهم نكثوا العهد وجعل كل واحد منهم ينهى سبطه عن قتالهم ويخبرهم بما رأى‏:‏ إلا رجلان فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا‏.‏

‏{‏وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ‏}‏ ناصركم على عدوكم، ثم ابتدأ الكلام فقال‏:‏ ‏{‏لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ‏}‏ يا معشر بني إسرائيل، ‏{‏وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ‏}‏ نصرتموهم، وقيل‏:‏ ووقرتموهم وعظمتموهم؛ ‏{‏وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ قيل‏:‏ هو إخراج الزكاة، وقيل‏:‏ هو النفقة على الأهل، ‏{‏لأكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ لأمحون عنكم سيئاتكم، ‏{‏وَلأدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ‏}‏ أي‏:‏ أخطأ قصد السبيل، يريد طريق الحق وسواء كل شيء‏:‏ وسطه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 14‏]‏

‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏13‏)‏ وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ فبنقضهم، و ‏"‏ما‏"‏ صلة، ‏{‏مِيثَاقَهُم‏}‏ قال قتادة‏:‏ نقضوه من وجوه لأنهم كذّبوا الرسل الذين جاءوا بعد موسى وقتلوا أنبياء الله ونبذوا كتابه وضيّعوا فرائضه ‏{‏لَعَنَّاهُم‏}‏ قال عطاء أبعدناهم من رحمتنا، قال الحسن ومقاتل‏:‏ عذبناهم بالمسخ، ‏{‏وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً‏}‏ قرأ حمزة والكسائي قسية بتشديد الياء من غير ألف، وهما لغتان مثل الذاكية والذكية، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قاسية أي يابسة، وقيل‏:‏ غليظة لا تلين، وقيل معناه‏:‏ إن قلوبهم ليست بخالصة للإيمان بل إيمانهم مشوب بالكفر والنفاق، ومنه الدراهم القاسية وهي الردية المغشوشة‏.‏

‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ‏}‏ قيل‏:‏ هو تبديلهم نعت النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ تحريفهم بسوء التأويل، ‏{‏وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ وتركوا نصيب أنفسهم مما أُمروا به من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبيان نعته، ‏{‏وَلا تَزَالُ‏}‏ يا محمد ‏{‏تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ على خيانة، فاعلة بمعنى المصدر كالكاذبة واللاغية، وقيل‏:‏ هو بمعنى الفاعل والهاء للمبالغة مثل روَّاية ونسابة وعلامة وحسابة، وقيل‏:‏ على فرقة خائنة، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ على خائنة أي‏:‏ على معصية، وكانت خيانتهم نقضهم العهد ومظاهرتهم المشركين على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهمّهم بقتله وسمّه، ونحوهما من خياناتهم التي ظهرت، ‏{‏إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ‏}‏ لم يخونوا ولم ينقضوا العهد وهم الذين أسلموا من أهل الكتاب، ‏{‏فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ‏}‏ أي‏:‏ أعرض عنهم ولا تتعرض لهم، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ وهذا منسوخ بآية السيف‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ‏}‏ قيل‏:‏ أراد بهم اليهود والنصارى فاكتفى بذكر أحدهما، والصحيح أن الآية في النصارى خاصة لأنه قد تقدم ذكر اليهود، وقال الحسن‏:‏ فيه دليل على أنهم نصارى بتسميتهم لا بتسمية الله تعالى، أخذنا ميثاقهم في التوحيد والنبوة، ‏{‏فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ‏}‏ بالأهواء المختلفة والجدال في الدين، قال مجاهد وقتادة‏:‏ يعني بين اليهود والنصارى، وقال قوم‏:‏ هم النصارى وحدهم صاروا فرقا منهم اليعقوبية والنسطورية والملكانية، وكل فرقة تكفّر الأخرى، ‏{‏وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ‏}‏ في الآخرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 17‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ‏(‏15‏)‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏16‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ‏}‏ يريد‏:‏ يا أهل الكتابين، ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ من التوارة والإنجيل مثل صفة محمد صلى الله عليه وسلم وآية الرجم وغير ذلك، ‏{‏وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ‏}‏ أي‏:‏ يعرض عن كثير مما أخفيتم فلا يتعرض له ولا يؤاخذكم به، ‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ‏}‏ يعني‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ الإسلام، ‏{‏وَكِتَابٌ مُبِينٌ‏}‏ أي‏:‏ بيّن، وقيل‏:‏ مبين وهو القرآن‏.‏

‏{‏يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ‏}‏ رضاه، ‏{‏سُبُلَ السَّلامِ‏}‏ قيل‏:‏ السلام هو الله عز وجل، وسبيله دينه الذي شرع لعباده، وبعث به رسله، وقيل‏:‏ السلام هو السلامة، كاللذاذ واللذاذة بمعنى واحد، والمراد به طرق السلامة، ‏{‏وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ أي‏:‏ من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ‏{‏بِإِذْنِهِ‏}‏ بتوفيقه وهدايته، ‏{‏وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ وهو الإسلام‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏ وهم اليعقوبية من النصارى يقولون المسيح هو الله تعالى، ‏{‏قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ من يقدر أن يدفع من أمر الله شيئا إذا قضاه‏؟‏ ‏{‏إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ‏}‏ قيل‏:‏ أرادوا أن الله تعالى لنا كالأب في الحنو والعطف، ونحن كالأبناء له في القرب والمنزلة، وقال إبراهيم النخعي‏:‏ إن اليهود وجدوا في التوراة يا أبناء أحباري، فبدلوا يا أبناء أبكاري، فمن ذلك قالوا‏:‏ نحن أبناء الله، وقيل‏:‏ معناه نحن أبناء رسل الله‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ‏}‏ يريد إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحباؤه فإن الأب لا يعذب ولده، والحبيب لا يعذب حبيبه، وأنتم مقرون أنه معذبكم‏؟‏ وقيل‏:‏ فلم يعذبكم أي‏:‏ لِمَ عذّب من قبلكم بذنوبهم فمسخهم قردة وخنازير‏؟‏ ‏{‏بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ‏}‏ كسائر بني آدم مجزيون بالإساءة والإحسان، ‏{‏يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ فضلا ‏{‏وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ عدلا ‏{‏وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 20‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏19‏)‏ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏يُبَيِّنُ لَكُمْ‏}‏ أعلام الهدى وشرائع الدين، ‏{‏عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ‏}‏ أي انقطاع من الرسل‏.‏

واختلفوا في مدة الفترة بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم، قال أبو عثمان النهدي‏:‏ ستمائة سنة، وقال قتادة‏:‏ خمسمائة وستون سنة، وقال معمر والكلبي، خمسمائة وأربعون سنة وسميت فترة لأن الرسل كانت تترى بعد موسى عليه السلام من غير انقطاع إلى زمن عيسى عليه السلام، ولم يكن بعد عيسى عليه السلام سوى رسولنا صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏{‏أَنْ تَقُولُوا‏}‏ كيلا تقولوا، ‏{‏مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ‏}‏ أي‏:‏ منكم أنبياء ‏{‏وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يعني أصحاب خدم وحشم، قال قتادة‏:‏ كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن لمن قبلهم خدم‏.‏ ورُوي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا‏"‏‏.‏

وقال أبو عبد الرحمن الحُبُلي‏:‏ سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال‏:‏ ألسنا من فقراء المهاجرين‏؟‏ فقال له عبد الله‏:‏ ألك امرأة تأوي إليها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ألك مسكن تسكنه‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فأنت من الأغنياء، قال‏:‏ فإن لي خادما، قال‏:‏ فأنت من الملوك‏.‏

قال السدي‏:‏ وجعلكم ملوكا أحرارا تملكون أمر أنفسكم بعدما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم، قال الضحاك‏:‏ كانت منازلهم واسعة فيها مياه جارية فمن كان مسكنه واسعا وفيه ماء جار فهو ملك ‏{‏وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ‏}‏ يعني عالمي زمانكم، قال مجاهد‏:‏ يعني المنّ والسلوى والحَجَر وتظليل الغمام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏21- 22‏]‏

‏{‏يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ ‏(‏21‏)‏ قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ اختلفوا في الأرض المقدسة، قال مجاهد‏:‏ هي الطور وما حوله، وقال الضحاك‏:‏ إيليا وبيت المقدس، وقال عكرمة والسدي‏:‏ هي أريحاء، وقال الكلبي‏:‏ هي دمشق وفلسطين وبعض الأردن، وقال قتادة‏:‏ هي الشام كلها، قال كعب‏:‏ وجدت في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله في أرضه وبها أكثر عباده‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكن لكم، وقال ابن إسحاق‏:‏ وهب الله لكم، وقيل‏:‏ جعلها لكم، وقال السدي‏:‏ أمركم الله بدخولها، وقال قتادة أمروا بها كما أمروا بالصلاة، أي‏:‏ فَرَض عليكم‏.‏ ‏{‏وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ‏}‏ أعقابكم بخلاف أمر الله، ‏{‏فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ صعيد إبراهيم عليه السلام جبل لبنان فقيل له‏:‏ انظر فما أدركه بصرك فهو مقدّس وهو ميراث لذريتك‏.‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ‏}‏ وذلك أن النقباء الذين خرجوا يتجسسون الأخبار لمّا رجعوا إلى موسى وأخبروه بما عاينوا، قال لهم موسى‏:‏ اكتموا شأنهم ولا تخبروا به أحدا من أهل العسكر فيفشلوا، فأخبر كل رجل منهم قريبه وابن عمه إلا رجلان وفيَّا بما قال لهما موسى، أحدهما يوشع بن نون بن أفرائيم بن يوسف عليهم السلام فتى موسى، والآخر كالب بن يوفنا ختن موسى عليه السلام على أخته مريم بنت عمران، وكان من سبط يهود وهما من النقباء فعلمت جماعة من بني إسرائيل ذلك ورفعوا أصواتهم بالبكاء وقالوا يا ليتنا في أرض مصر، وليتنا نموت في هذه البرية ولا يُدْخلنا الله أرضهم فتكون نساؤنا وأولادنا وأثقالنا غنيمة لهم، وجعل الرجل يقول لصاحبه‏:‏ تعال نجعل علينا رأسا وننصرف إلى مصر، فذلك قوله تعالى إخبارا عنهم ‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ‏}‏ أصل الجبار‏:‏ المتعظم الممتنع عن القهر، يُقال‏:‏ نخله جبارة إذا كانت طويلة ممتنعة عن وصول الأيدي إليها، وسُمي أولئك القوم جبارين لامتناعهم بطولهم وقوة أجسادهم، وكانوا من العمالقة وبقية قوم عاد، فلما قال بنو إسرائيل ما قالوا وهموا بالانصراف إلى مصر خرَّ موسى وهارون ساجدين، وخرق يوشع وكالب ثيابهما وهما اللذان أخبر الله تعالى عنهما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ‏}‏ أي‏:‏ يخافون الله تعالى، قرأ سعيد بن جبير ‏"‏يخافون‏"‏ بضم الياء، وقال‏:‏ الرجلان كانا من الجبارين فأسلما واتبعا موسى، ‏{‏أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا‏}‏ بالتوفيق والعصمة قالا ‏{‏ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ‏}‏ يعني‏:‏ قرية الجبارين، ‏{‏فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ‏}‏ لأن الله تعالى منجز وعده، وإنا رأيناهم وأجسامهم عظيمة وقلوبهم ضعيفة، فلا تخشوهم، ‏{‏وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ فأراد بنو إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة وعصوهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 26‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا ‏(‏24‏)‏ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏25‏)‏ قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ‏}‏ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو نعيم أنا إسرائيل عن مخارق عن طارق بن شهاب قال سمعت ابن مسعود يقول‏:‏ لقد شهدت من المقداد بن الأسود مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إليّ مما عدل به، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين، فقال‏:‏ لا نقول كما قال قوم موسى عليه السلام‏:‏ ‏"‏اذهب أنت وربك فقاتلا‏"‏ ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسرّه ما قال‏.‏ فلما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت من مخالفتهم أمر ربهم وهمهم بيوشع وكالب غضب موسى عليه السلام ودعا عليهم‏.‏

‏{‏قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي‏}‏ قيل‏:‏ معناه وأخي لا يملك إلا نفسه، وقيل‏:‏ معناه لا يطيعني إلا نفسي وأخي ‏{‏فَافْرُق‏}‏ فافصل، ‏{‏بَيْنَنَا‏}‏ قيل‏:‏ فاقض بيننا، ‏{‏وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ‏}‏ العاصين‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ قيل‏:‏ هاهنا تم الكلام معناه تلك البلدة محرمة عليهم أبدا لم يرد به تحريم تعبد، وإنما أراد تحريم منع، فأوحى الله تعالى إلى موسى‏:‏ بي حلفت لأحرمنّ عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبدي يوشع وكالب، ولأتيهنّهم في هذه البرية ‏{‏أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏ يتيهون مكان كل يوم من الأيام التي تحبسون فيها سنة، ولألقين جيفهم في هذه القفار، وأما بنوهم الذين لم يعلموا الشر فيدخلونها، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً‏}‏ ‏{‏يَتِيهُونَ‏}‏ يتحيرون، ‏{‏فِي الأرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا تحزن على مثل هؤلاء القوم، فلبثوا أربعين سنة في ستة فراسخ وهم ستمائة ألف مقاتل، وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه‏.‏

وقيل‏:‏ إن موسى وهارون عليهما السلام لم يكونا فيهم، والأصح أنهما كانا فيهم ولم يكن لهما عقوبة إنما كانت العقوبة لأولئك القوم، ومات في التيه كل من دخلها ممن جاوز عشرين سنة غير يوشع وكالب، ولم يدخل أريحاء أحد ممن قالوا إنا لن ندخلها أبدا فلما هلكوا وانقضت الأربعون سنة، ونشأت النواشئ من ذراريهم ساروا إلى حرب الجبارين‏.‏

واختلفوا فيمن تولى تلك الحرب وعلى يدي من كان الفتح، فقال قوم‏:‏ وإنما فتح موسى أريحاء وكان يوشع على مقدمته، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل، فدخلها يوشع فقاتل الجبابرة ثم دخلها موسى عليه السلام فأقام فيها ما شاء الله تعالى، ثم قبضه الله تعالى إليه، ولا يعلم قبره أحد، وهذا أصح الأقاويل لاتفاق العلماء أن عوج بن عنق قتله موسى عليه السلام‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ إنما قاتل الجبارين يوشع ولم يسر إليهم إلا بعد موت موسى عليه السلام، وقالوا‏:‏ مات موسى وهارون جميعا في التيه‏.‏

قصة وفاة هارون‏:‏

قال السدي‏:‏ أوحى الله عز وجل إلى موسى أني متوفي هارون فأتِ به جبل كذا وكذا، فانطلق موسى وهارون عليهما السلام نحو ذلك الجبل فإذا هما بشجرة لم ير مثلها وإذا ببيت مبني وفيه سرير عليه فرش وإذا فيه ريح طيبة، فلما نظر هارون إلى ذلك أعجبه، فقال‏:‏ يا موسى إني أحب أن أنام على هذا السرير قال‏:‏ فنم عليه، فقال‏:‏ إني أخاف أن يأتي ربُّ هذا البيت فيغضب عليّ، قال له موسى‏:‏ لا ترهب إني أكفيك أمر رب هذا البيت فنم، قال‏:‏ يا موسى نم أنت معي فإن جاء رب البيت غضب عليّ وعليك جميعا فلما ناما أخذ هارون الموت فلما وجد منيته قال‏:‏ يا موسى خدعتني، فلما قبض رفع البيت وذهبت تلك الشجرة ورفع السرير به إلى السماء، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل وليس معه هارون قالوا‏:‏ إن موسى قتل هارون وحسده لحب بني إسرائيل له، فقال موسى عليه السلام‏:‏ ويحكم كان أخي فكيف أقتله، فلما أكثروا عليه قام فصلى ركعتين ثم دعا الله تعالى ونزل السرير حتى نظروا إليه بين السماء والأرض فصدقوه‏.‏

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال‏:‏ صعد موسى وهارون عليهما السلام الجبل فمات هارون وبقي موسىٍ فقالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام أنت قتلته فآذوه فأمر الله الملائكة فحملوه حتى مروا به على بني إسرائيل وتكلمت الملائكة بموته حتى عرف بنو إسرائيل أنه مات، فبرأه الله تعالى مما قالوا، ثم إن الملائكة حملوه ودفنوه فلم يطلع على موضع قبره أحد إلا الرخم فجعله الله أصم وأبكم‏.‏

وقال عمرو بن ميمون‏:‏ مات هارون قبل موت موسى عليه السلام في التيه، وكانا قد خرجا إلى بعض الكهوف فمات هارون ودفنه موسى وانصرف إلى بني إسرائيل، فقالوا‏:‏ قتلته لحبنا إياه، وكان محببا في بني إسرائيل، فتضرع موسى عليه السلام إلى ربه عز وجل فأوحى الله إليه أن انطلق بهم إلى قبره فإني باعثه، فانطلق بهم إلى قبره فناداه موسى فخرج من قبره ينفض رأسه، فقال‏:‏ أنا قتلتك‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكني مت، قال‏:‏ فعد إلى مضجعك، وانصرفوا‏.‏

وأما وفاة موسى عليه السلام، قال ابن إسحاق‏:‏ كان موسى عليه الصلاة والسلام قد كره الموت وأعظمه فأراد الله أن يحبب إليه الموت، فنبأ يوشع بن نون فكان يغدو ويروح عليه، قال‏:‏ فيقول له موسى عليه السلام يا نبي الله ما أحدث الله إليك‏؟‏ فيقول له يوشع‏:‏ يا نبي الله ألم أصحبك كذا وكذا سنة، فهل كنت أسألك شيئا مما أحدث الله إليك حتى تكون أنت الذي تبتدئ به وتذكره‏؟‏ ولا يذكر له شيئا، فلما رأى ذلك كره موسى الحياة وأحب الموت‏.‏

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي أنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي أنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان أنا أحمد بن يوسف السلمي أنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه قال‏:‏ أخبرنا أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏جاء ملك الموت إلى موسى بن عمران، فقال له‏:‏ أجب ربك، قال‏:‏ فلطم موسى عليه السلام عين ملك الموت ففقأها، قال‏:‏ فرجع ملك الموت إلى الله تعالى فقال‏:‏ إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت وقد فقأ عيني قال فرد الله إليه عينه، وقال‏:‏ ارجع إلى عبدي فقل له‏:‏ الحياة تريد‏؟‏ فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور، فما وارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة، قال‏:‏ ثم مه‏؟‏ قال‏:‏ ثم تموت، قال‏:‏ فالآن من قريب، ربِّ أدنني من الأرض المقدسة رمية بحجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏والله لو أني عنده لأريتكم قبره إلى جنب الطريق عند الكثيب الأحمر‏"‏‏.‏

وقال وهب‏:‏ خرج موسى لبعض حاجته فمرّ برهط من الملائكة يحفرون قبرا لم ير شيئا قط أحسن منه ولا مثل ما فيه من الخضرة والنضرة والبهجة، فقال لهم‏:‏ يا ملائكة الله لم تحفرون هذا القبر‏؟‏ قالوا‏:‏ لعبد كريم على ربه، فقال‏:‏ إن هذا العبد من الله لهو بمنزلة ما رأيت كاليوم مضجعا قط، فقالت الملائكة‏:‏ يا صفي الله تحب أن يكون لك‏؟‏ قال‏:‏ وددت، قالوا‏:‏ فانزل واضطجع فيه وتوجه إلى ربك، قال‏:‏ فاضطجع فيه وتوجه إلى ربه ثم تنفس أسهل تنفس فقبض الله تبارك وتعالى روحه، ثم سوّت عليه الملائكة‏.‏

وقيل‏:‏ إن ملك الموت أتاه بتفاحة من الجنة فشمها فقبض روحه‏.‏

وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة فلما مات موسى عليه السلام وانقضت الأربعون سنة بعث الله يوشع نبيا فأخبرهم أن الله قد أمره بقتال الجبابرة، فصدقوه وتابعوه فتوجه ببني إسرائيل إلى أريحاء ومعه تابوت الميثاق، فأحاط بمدينة أريحاء ستة أشهر، فلما كان السابع نفخوا في القِران وضج الشعب ضجة واحدة فسقط سور المدينة، ودخلوا فقاتلوا الجبارين وهزموهم وهجموا عليهم يقتلونهم، وكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عنق الرجل يضربونها حتى يقطعونها، فكان القتال يوم الجمعة فبقيت منهم بقية وكادت الشمس تغرب وتدخل ليلة السبت، فقال‏:‏ اللهم اردد الشمس عليّ وقال للشمس‏:‏ إنك في طاعة الله سبحانه وتعالى وأنا في طاعته فسأل الشمس ان تقف والقمر أن يقيم حتى ينتقم من أعداء الله تعالى قبل دخول السبت، فردت عليه الشمس وزيدت في النهار ساعة حتى قتلتهم أجمعين، وتتبع ملوك الشام فاستباح منهم أحدا وثلاثين ملكا حتى غلب على جميع أرض الشام، وصارت الشام كلها لبني إسرائيل وفرق عماله في نواحيها وجمع الغنائم، فلم تنزل النار، فأوحى الله إلى يوشع أن فيها غلولا فمرهم فليبايعوا فبايعوه فالتصقت يد رجل منهم بيده فقال‏:‏ هلم ما عندك فأتاه برأس ثور من ذهب مكلل بالياقوت والجواهر كان قد غلَّه، فجعله في القربان وجعل الرجل معه فجاءت النار فأكلت الرجل والقربان، ثم مات يوشع ودفن في جبل أفرائيم، وكان عمره مائة وستا وعشرين سنة، وتدبيره أمر بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلام سبعا وعشرين سنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏27‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ‏}‏ وهما هابيل وقابيل ويقال له قابين، ‏{‏إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا‏}‏ وكان سبب قربانهما على ما ذكره أهل العلم أن حواء كانت تلد لآدم عليه السلام في كل بطن غلاما وجارية، وكان جميع ما ولدته أربعين ولدا في عشرين بطنا أولهم قابيل وتوأمته أقليما، وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أمة المغيث، ثم بارك الله عز وجل في نسل آدم عليه السلام، قال ابن عباس‏:‏ لم يمت آدم حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألفا‏.‏

واختلفوا في مولد قابيل وهابيل، فقال بعضهم‏:‏ غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة، فولدت له قابيل وتوأمته أقليما في بطن واحد، ثم ولدت هابيل وتوأمته لبودا في بطن‏.‏

وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول‏:‏ إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة، فحملت فيها بقابيل وتوأمته أقليما، فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولا طلقا حتى ولدتهما، ولم تر معهما دما فلما هبط إلى الأرض تغشاها فحملت بهابيل وتوأمته، فوجدت عليهما الوحم والوصب والطلق والدم، وكان آدم إذا شب أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى، فكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء إلا توأمته التي ولدت معه لأنه لم يكن يومئذ نساء إلا أخواتهم، فلما ولد قابيل وتوأمته أقليما ثم هابيل وتوأمته لبودا، وكان بينهما سنتان في قول الكلبي وأدركوا، أمر الله تعالى آدم عليه السلام أن ينكح قابيل لبودا أخت هابيل وينكح هابيل أقليما أخت قابيل، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل، فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل، وقال‏:‏ هي أختي أنا أحق بها، ونحن من ولادة الجنة وهما من ولادة الأرض، فقال له أبوه‏:‏ إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك، وقال‏:‏ إن الله لم يأمره بهذا وإنما هو من رأيه، فقال لهما آدم عليه السلام‏:‏ فقربا قربانا فأيكما يقبل قربانه فهو أحق بها، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء بيضاء فأكلتها، وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلته الطير والسباع، فخرجا ليقربا قربانا وكان قابيل صاحب زرع فقرب صبرة من الطعام من أردأ زرعه وأضمر في نفسه ما أبالي أيقبل مني أم لا لا يتزوج أختي أبدا، وكان هابيل صاحب غنم فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرب به وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل فوضعا قربانهما أعلى الجبل، ثم دعا آدم عليه السلام فنزلت نار من السماء وأكلت قربان هابيل ولم تأكل قربان قابيل فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا‏}‏ يعني هابيل ‏{‏وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ‏}‏ يعني‏:‏ قابيل فنزلوا على الجبل وقد غضب قابيل لرد قربانه وكان يضمر الحسد في نفسه إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت، فلما غاب آدم أتى قابيل هابيل وهو في غنمه، ‏{‏قَالَ لأقْتُلَنَّكَ‏}‏ قال‏:‏ ولِمَ‏؟‏ قال‏:‏ لأن الله تعالى قبل قربانك وردّ قرباني، وتنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة، فيتحدث الناس أنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي، ‏{‏قَالَ‏}‏ هابيل‏:‏ وما ذنبي‏؟‏ ‏{‏إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28- 30‏]‏

‏{‏لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ‏(‏28‏)‏ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ ‏(‏29‏)‏ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَئِنْ بَسَطْتَ‏}‏ أي‏:‏ مددت، ‏{‏إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال عبد الله بن عمر‏:‏ وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه يده، وهذا في الشرع آدم جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلبا للأجر كما فعل عثمان رضي الله عنه، قال مجاهد‏:‏ كتب عليهم في ذلك الوقت إذا أراد رجل قتل رجل أن لا يمتنع ويصبر‏.‏

‏{‏إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ‏}‏ ترجع، وقيل‏:‏ تحتمل، ‏{‏بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ‏}‏ أي‏:‏ بإثم قتلي إلى إثمك، أي‏:‏ إثم معاصيك التي عملت من قبل، هذا قول أكثر المفسرين‏.‏ وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال‏:‏ معناه إني أريد أن يكون عليك خطيئتي التي عملتها أنا إذا قتلتني وإثمك فتبوء بخطيئتي ودمي جميعا، وقيل‏:‏ معناه أن ترجع بإثم قتلي وإثم معصيتك التي لم يتقبل لأجلها قربانك، أو إثم حسدك‏.‏

فإن قيل‏:‏ كيف قال إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، وإرادة القتل والمعصية لا تجوز‏؟‏ قيل ليس ذلك بحقيقة إرادة ولكنه لما علم أنه يقتله لا محالة وطّن نفسه على الاستسلام طلبا للثواب فكأنه صار مريدا لقتله مجازا، وإن لم يكن مريدا حقيقة، وقيل‏:‏ معناه إني أريد أن تبوء بعقاب قتلي فتكون إرادة صحيحة، لأنها موافقة لحكم الله عز وجل، فلا يكون هذا إرادة للقتل، بل لموجب القتل من الإثم والعقاب، ‏{‏فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ‏}‏ أي‏:‏ طاوعته وشايعته وعاونته، ‏{‏قَتْلَ أَخِيهِ‏}‏ أي في قتل أخيه، وقال مجاهد‏:‏ فشجعته، وقال قتادة‏:‏ فزينت له نفسه، وقال يمان‏:‏ سهلت له نفسه ذلك، أي‏:‏ جعلته سهلا تقديره‏:‏ صوّرت له نفسه أن قتل أخيه طوع له أي سهل عليه، فقتله فلما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله، قال ابن جريج‏:‏ فتمثل له إبليس وأخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم شدخ رأسه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلّمه القتل، فرضخ قابيل رأس هابيل بين حجرين قيل‏:‏ قتل وهو مستسلم، وقيل‏:‏ اغتاله وهو في النوم فشدخ رأسه فقتله، وذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ وكان لهابيل يوم قتل عشرون سنة‏.‏

واختلفوا في موضع قتله قيل‏:‏ بالبصرة في موضع المسجد الأعظم فاسودَّ جسم القاتل وسأله آدم عليه السلام عن أخيه فقال لم أكن عليه وكيلا فقال‏:‏ بل قتلته ولذلك اسودَّ جسدك، مكث آدم مائة سنة لم يضحك قط منذ قتله‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ على جبل ثور وقيل عند عقبة حراء، فلما قتله تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه كان أول ميت على وجه الأرض من بني آدم، وقصدته السباع، فحمله في جراب على ظهره أربعين يوما، وقال ابن عباس‏:‏ سنة، حتى أروح، وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمى به فتأكله، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم ألقاه في الحفرة وواراه، وقابيل ينظر إليه، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيه‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيه‏}‏ فلما رأى قابيل ذلك قال يا ويلتا كلمة تحسر فقيل لما رأى الدفن من الغراب أنه أكبر علما منه وأن ما فعله كان جهلا فندم وتحسر ‏{‏قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي‏}‏ أي‏:‏ جيفته، وقيل‏:‏ عورته لأنه قد سلب ثيابه، ‏{‏فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ‏}‏ على حمله على عاتقه لا على قتله، وقيل‏:‏ على فراق أخيه، وقيل‏:‏ ندم لقلة النفع بقتله فإنه أسخط والديه، وما انتفع بقتله شيئا ولم يكن ندمه على القتل وركوب الذنب‏.‏

قال عبد المطلب بن عبد الله بن حنطب‏:‏ لما قتل ابن آدم أخاه وجفت الأرض بما عليها سبعة أيام ثم شربت الأرض دمه كما يشرب الماء، فناداه آدم أين أخوك هابيل‏؟‏ قال‏:‏ ما أدري ما كنت عليه رقيبا، فقال الله تعالى‏:‏ إن دم أخيك ليناديني من الأرض، فلم قتلت أخاك‏؟‏ قال‏:‏ فأين دمه إن كنت قتلته‏؟‏ فحرم الله عز وجل على الأرض يومئذ أن تشرب دما بعده أبدا‏.‏

وقال مقاتل بن سليمان عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لما قتل قابيل هابيل وآدم عليه السلام بمكة اشتاك الشجر وتغيرت الأطعمة وحمضت الفواكه، وأمرّ الماء واغبرت الأرض، فقال آدم عليه السلام‏:‏ قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فإذا قابيل قد قتل هابيل فأنشأ يقول وهو أول من قال الشعر‏:‏ تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح

تغير كل ذي لون وطعم وقلّ بشاشة الوجه المليح

ورُوي‏:‏ المليح‏.‏

ورُوي عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ من قال إن آدم عليه السلام قال شعرا فقد كذب، إن محمدا صلى الله عليه وسلم والأنبياء كلهم عليهم السلام في النهي عن الشعر سواء، ولكن لما قتل قابيل هابيل رثاه آدم وهو سرياني، فلما قال آدم مرثيته قال لشيث‏:‏ يا بني إنك وصي احفظ هذا الكلام ليتوارث فيرق الناس عليه، لم يزل ينقل حتى وصل إلى يعرب بن قحطان، وكان يتكلم بالعربية والسريانية وهو أول من خط بالعربية، وكان يقول الشعر فنظر في المرثية فرد المقدم إلى المؤخر والمؤخر إلى المقدم، فوزنه شعرا وزاد فيه أبيات منها‏:‏ وما لي لا أجود بسكب دمع وهابيل تضمنه الضريح

أرى طول الحياة عليّ غما فهل أنا من حياتي مستريح

فلما مضى من عمر آدم عليه السلام مائة وثلاثون سنة، وذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين ولدت له حواء شيثا، وتفسيره‏:‏ هبة الله، يعني إنه خلف من هابيل علّمه الله تعالى ساعات الليل والنهار، وعلّمه عبادة الخلق في كل ساعة منها، وأنزل عليه خمسين صحيفة فصار وصي آدم وولي عهده، وأما قابيل فقيل له اذهب طريدا شريدا فزعا مرعوبا لا تأمن من تراه، فأخذ بيد أخته أقليما وهرب بها إلى عدن من أرض اليمن، فأتاه إبليس فقال له إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يعبد النار فانصب أنت نارا أيضا تكون لك ولعقبك، فبنى بيتا للنار فهو أول من عبد النار، وكان لا يمر به أحد إلا رماه، فأقبل ابن له أعمى ومعه ابن له، فقال ابنه‏:‏ هذا أبوك قابيل، مرمى الأعمى أباه فقتله، فقال ابن الأعمى‏:‏ قتلت أباك‏؟‏ فرفع يده فلطم ابنه، فمات فقال الأعمى‏:‏ ويل لي قتلت أبي برميتي وقتلت ابني بلطمتي‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ فعلقت إحدى رجلي قابيل إلى فخدها وساقها وعلقت من يومئذ إلى يوم القيامة ووجهه إلى الشمس ما دارت عليه، في الصيف حظيرة من نار وفي الشتاء حظيرة من ثلج‏.‏

قال‏:‏ واتخذ أولاد قابيل آلات اللهو من اليراع والطبول والمزامير والعيدان والطنابير، وانهمكوا في اللهو وشرب الخمر وعبادة النار والزنا والفواحش حتى غرّقهم الله بالطوفان أيام نوح عليه السلام، وبقي نسل شيث‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث ثنا أبي ثنا الأعمش حدثني عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سنّ القتل‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ‏}‏ قرأ أبو جعفر من أجل ذلك بكسر النون موصولا وقراءة العامة بجزم النون، أي‏:‏ من جراء ذلك القاتل وجنايته، يقال‏:‏ أجل يأجل أجلا إذا جنى، مثل أخذ يأخذ أخذا، ‏{‏كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏ قتلها فيقاد منه، ‏{‏أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ‏}‏ يريد بغير نفس وبغير فساد في الأرض من كفر أو زنا أو قطع طريق، أو نحو ذلك ‏{‏فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ اختلفوا في تأويلها، قال ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة‏:‏ من قتل نبيا أو إماما عدلا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن شدّ عضد نبي أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعا‏.‏

قال مجاهد‏:‏ من قتل نفسا محرمة يصلى النار بقتلها، كما يصلاها لو قتل الناس جميعا ‏"‏ومن أحياها‏"‏ من سلم من قتلها فقد سلم من قتل الناس جميعا‏.‏

قال قتادة‏:‏ عظم الله أجرها وعظّم وزرها، معناه من استحل قتل مسلم بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا في الإثم لأنهم لا يسلمون منه، ‏{‏وَمَنْ أَحْيَاهَا‏}‏ وتورع عن قتلها، ‏{‏فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ في الثواب لسلامتهم منه‏.‏ قال الحسن‏:‏ فكأنما قتل الناس جميعا يعني‏:‏ أنه يجب عليه من القصاص بقتلها مثل الذي يجب عليه لو قتل الناس جميعا، ومن أحياها‏:‏ أي عُفِي عمن وجب عليه القصاص له فلم يقتله فكأنما أحيا الناس جميعا، قال سليمان بن علي قلت للحسن‏:‏ يا أبا سعيد‏:‏ هي لنا كما كانت لبني إسرائيل‏؟‏ قال‏:‏ إي والذي لا إله غيره ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا، ‏{‏وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ‏}‏‏.‏