فصل: تفسير الآية رقم (33)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا‏}‏ الآية‏.‏ قال الضحاك‏:‏ نزلت في قوم من أهل الكتاب كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل وأفسدوا في الأرض‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ نزلت في قوم هلال بن عويمر، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم وداع هلال بن عويمر وهو أبو بردة الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وممن مرّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن لا يهاج، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الإسلام بناس من أسلم من قوم هلال بن عويمر، ولم يكن هلال شاهدا فشدوا عليهم فقتلوهم وأخذوا أموالهم فنزل جبريل عليه السلام بالقضاء فيهم، وقال سعيد بن جبير‏:‏ نزلت في ناس من عُرَيْنَة وعُكْل أتو النبي صلى الله عليه وسلم وبايعوه على الإسلام وهم كذبة فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة، فارتدوا وقتلوا الراعي واستاقوا الإبل‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا علي بن عبد الله ثنا الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو قلابة الجرمي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر من عُكْل فأسلموا واجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من أبوالها وألبانها، ففعلوا فصحوا فارتدوا وقتلوا رعاتها واستاقوا الإبل، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم، فأتي بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسَمَل أعينهم ثم لم يحسمهم حتى ماتوا‏.‏

ورواه أيوب عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ فقطع أيديهم وأرجلهم ثم أمر بمسامير فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا، قال أبو قلابة‏:‏ قتلوا وسرقوا وحاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا وهو المراد من قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ويسعون في الأرض فسادا‏.‏

واختلفوا في حكم هؤلاء العرنيين‏:‏ فقال بعضهم‏:‏ هي منسوخة لأن المثلة لا تجوز، وقال بعضهم‏:‏ حكمه ثابت إلا السمل والمثلة وروى قتادة عن ابن سيرين أن ذلك كان قبل أن ينزل الحد وقال أبو الزناد‏:‏ فلما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بهم أنزل الله الحدود ونهاه عن المثلة فلم يعد‏.‏

وعن قتادة قال‏:‏ بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كان يحث على الصدقة وينهى عن المثلة وقال سليمان التيمي عن أنس‏:‏ إنما سمل النبي صلى الله عليه وسلم أعين أولئك لأنهم سلموا أعين الرعاة‏.‏ وقال الليث بن سعد‏:‏ نزلت هذه الآية معاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعليما منه إياه عقوبتهم، وقال‏:‏ إنما جزاؤهم هذا لا المثلة، ولذلك ما قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا إلا نهى عن المثلة‏.‏

واختلفوا في المحاربين الذين يستحقون هذا الحد، فقال قوم‏:‏ هم الذين يقطعون الطريق ويحملون السلاح، والمكابرون في الأمصار، وهو قول الأوزاعي ومالك والليث بن سعد والشافعي رحمهم الله‏.‏

وقال قوم‏:‏ المكابرون في الأمصار ليس لهم حكم المحاربين في استحقاق هذه الحدود وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه‏.‏

وعقوبة المحاربين ما ذكر الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأرْضِ‏}‏ فذهب قوم إلى أن الإمام بالخيار في أمر المحاربين بين القتل والقطع والصلب، والنفي كما هو ظاهر الآية، وهو قول سعيد بن المسيب والحسن والنخعي ومجاهد‏.‏

وذهب الأكثرون إلى أن هذه العقوبات على ترتيب الجرائم لا على التخيير، لما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أنا عبد العزيز بن أحمدد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا إبراهيم بن محمد عن صالح مولى التوأمة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، فإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض‏.‏

وهو قول قتادة والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي رحمهم الله تعالى‏.‏

وإذا قتل قاطع الطريق يُقتل حتما حتى لا يسقط بعفو ولي الدم، وإذا أخذ من المال نصابا وهو ربع دينار تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، وإذا قتل وأخذ المال يُقتل ويُصلب‏.‏

واختلفوا في كيفيته‏:‏ فظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يقتل ثم يصلب وقيل‏:‏ يصلب حيا ثم يطعن حتى يموت مصلوبا، وهو قول الليث بن سعد، وقيل‏:‏ يصلب ثلاثة أيام حيا ثم ينزل فيقتل، وإذا أخاف السبيل ينفى‏.‏

واختلفوا في النفي‏:‏ فذهب قوم إلى أن الإمام يطلبه ففي كل بلدة يوجد ينفى عنه، وهو قول سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز، وقيل‏:‏ يطلب لتقام الحدود عليه، وهو قول ابن عباس والليث بن سعد، وبه قال الشافعي‏:‏ وقال أهل الكوفة‏:‏ النفي هو الحبس، وهو نفي من الأرض، وقال محمد بن جرير‏:‏ ينفى من بلده إلى غيره ويحبس في السجن في البلد الذي نُفي إليه حتى تظهر توبته‏.‏ كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه أول من حبس في السجون وقال‏:‏ أحبسه حتى أعلم منه التوبة، ولا أنفيه إلى بلد فيؤذيهم، ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكرت من الحد، ‏{‏لَهُمْ خِزْي‏}‏ عذاب وهوان وفضيحة، ‏{‏فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ فمن ذهب إلى أن الآية نزلت في الكفار، قال معناه‏:‏ إلا الذين تابوا من شركهم وأسلموا قبل القدرة عليهم فلا سبيل عليهم بشيء من الحدود ولا تبعة عليهم فيما أصابوا في حال الكفر من دم أو مال، وأما المسلمون المحاربون فمن تاب منهم قبل القدرة عليهم وهو قبل أن يظفر به الإمام تسقط عنه كل عقوبة وجبت حقا لله، ولا يسقط ما كان من حقوق العباد فإن كان قد قتل في قطع الطريق يسقط عنه بالتوبة قبل القدرة عليه تحتم القتل، ويبقى عليه القصاص لولي القتيل فإن شاء عفا عنه وإن شاء استوفاه، وإن كان قد أخذ المال يسقط عنه القطع وإن كان قد جمع بينهما يسقط عنه تحتم القتل والصلب، ويجب ضمان المال وهو قول الشافعي رضي الله عنه‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إذا جاء تائبا قبل القدرة عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلا أن يوجد معه مال بعينه فيرده إلى صاحبه‏.‏

وروي عن علي رضي الله عنه في حارثة بن يزيد كان خرج محاربا فسفك الدماء وأخذ المال، ثم جاء تائبا قبل أن يقدر عليه فلم يجعل علي رضي الله عنه عليه تبعة في دم ولا مال، إلا أن يوجد معه مال فيرد إلى صاحبه أما من تاب بعد القدرة عليه فلا يسقط عنه شيء منها‏.‏

وقيل‏:‏ كل عقوبة تجب حقا لله عز وجل من عقوبات قطع الطريق وقطع السرقة وحد الزنا والشرب تسقط بالتوبة بكل حال، والأكثرون على أنها لا تسقط‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35- 38‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏35‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏36‏)‏ يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ ‏(‏37‏)‏ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا‏}‏ اطلبوا، ‏{‏إِلَيْهِ الْوَسِيلَة‏}‏ أي‏:‏ القربة، فعيلة من توسل إلى فلان بكذا، أي‏:‏ تقرب إليه وجمعها وسائل، ‏{‏وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ تلخيصه‏:‏ امتثلوا أمر الله تنجوا‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ‏}‏ أخبر أن الكافر لو ملك الدنيا كلها ومثلها معها ثم فدى بذلك نفسه من العذاب لم يقبل منه ذلك الفداء، ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا‏}‏ فيه وجهان، أحدهما‏:‏ أنهم يقصدون ويطلبون المخرج منها، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏كلما أرادوا أن يخرجوا منها‏"‏ ‏(‏الحج- 22‏)‏ والثاني‏:‏ أنهم يتمنون ذلك بقلوبهم، كما قال الله تعالى إخبارا عنهم‏:‏ ‏"‏ربنا أخرجنا منها‏"‏ ‏(‏المؤمنون- 107‏)‏ ‏{‏وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا‏}‏ أراد به أيمانهما، وكذلك هو في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه‏.‏

وحكمه أن من سرق نصابا من المال من حرز لا شبهة له فيه تقطع يده اليمنى من الرسغ، ولا يجب القطع في سرقة ما دون النصاب عند عامة أهل العلم، حكي عن ابن الزبير أنه كان يقطع في الشيء القليل، وعامة العلماء على خلافه‏.‏

واختلفوا في القدر الذي يقطع فيه‏:‏ فذهب أكثرهم إلى أنه لا يقطع في أقل من ربع دينار، فإن سرق ربع دينار أو متاعا قيمته ربع دينار يقطع، وهو قول أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي والشافعي رحمهم الله، لِما أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال أنا أبو العباس الأصم أنا الربيع أنا الشافعي أنا ابن عيينة عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏القطع في ربع دينار فصاعدا‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن الشيرزي أخبرنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع سارقا في مجن ثمنه ثلاثة دراهم‏.‏

ورُوي عن عثمان أنه قطع سارقا في أترجة قومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهما بدينار‏.‏ وهذا قول مالك رحمه الله تعالى أنه يقطع في ثلاثة دراهم‏.‏

وذهب قوم إلى أنه لا تقطع في أقل من دينار أو عشرة دراهم، يُروى ذلك عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وإليه ذهب سفيان الثوري وأصحاب الرأي‏.‏

وقال قوم لا يقطع إلا في خمسة دراهم يُروى ذلك عن أبي هريرة رضي الله عنه وبه قال ابن أبي ليلى، أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا عمر بن حفص بن غياث أخبرني أبي أنا الأعمش قال‏:‏ سمعت أبا صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده‏"‏ وقال الأعمش‏:‏ كانوا يرون أنه بيض الحديد والحبل‏.‏ يرون أن منها ما يساوي دراهم‏.‏

ويحتج بهذا الحديث من يرى القطع في الشيء القليل، وهو عند الأكثرين محمول على ما قاله الأعمش لحديث عائشة رضي الله عنها ‏"‏وإذا سرق شيئا من غير حرز كثمر في حائط لا حارس له أو حيوان في برية لا حافظ له، أو متاع في بيت منقطع عن البيوت لا قطع عليه‏"‏‏.‏

ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المُراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن‏"‏‏.‏

وروي عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع‏"‏‏.‏

وإذا سرق مالا له فيه شبهة كالعبد يسرق من مال سيده أو الولد يسرق من مال والده أو الوالد يسرق من مال ولده أو أحد الشريكين يسرق من مال المشترك شيئا‏:‏ لا قطع عليه‏.‏

وإذا سرق السارق أول مرة تقطع يده اليمنى من الكوع، ثم إذا سرق ثانيا تقطع رجله اليسرى من مفصل القدم‏.‏

واختلفوا فيما إذا سرق ثالثا‏:‏ فذهب أكثرهم إلى أنه تقطع يده اليسرى، ثم إذا سرق رابعا تقطع رجله اليمنى، ثم إذا سرق بعده شيئا يعزر ويحبس حتى تظهر توبته، وهو المروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو قول قتادة، وبه قال مالك والشافعي لما رُوي عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ‏"‏في السارق يسرق إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله‏"‏‏.‏

وذهب قوم إلى أنه إن سرق ثالثا بعدما قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى لا يقطع بل يحبس، ورُوي ذلك عن علي رضي الله عنه، وقال‏:‏ ‏"‏إني لأستحي أن لا أدع له يدا يستنجي بها ولا رجلا يمشي بها‏"‏ وهو قول الشعبي والنخعي، وبه قال الأوزاعي وأحمد وأصحاب الرأي‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏جَزَاءً بِمَا كَسَبَا‏}‏ نصب على الحال والقطع، ومثله‏:‏ ‏{‏نَكَالا‏}‏ أي‏:‏ عقوبة، ‏{‏مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏39‏)‏ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏40‏)‏ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ‏}‏ أي‏:‏ سرقته، ‏{‏وَأَصْلَح‏}‏ العمل، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ هذا فيما بينه وبين الله تعالى، فأما القطع فلا يسقط عنه بالتوبة عند الأكثرين، قال مجاهد‏:‏ قطع السارق توبته، فإذا قطع حصلت التوبة، والصحيح أن القطع للجزاء على الجناية، كما قال‏:‏ ‏{‏جَزَاءً بِمَا كَسَبَا‏}‏ فلا بد من التوبة بعد، وتوبته الندم على ما مضى والعزم على تركه في المستقبل، وإذا قطع السارق يجب عليه غرم ما سرق من المال عند أكثر أهل العلم، وقال سفيان الثوري وأصحاب الرأي‏:‏ لا غرم عليه، وبالاتفاق إن كان المسروق باقيا عنده يسترد وتقطع يده لأن القطع حق الله تعالى والغرم حق العبد، فلا يمنع أحدهما الآخر، كاسترداد العين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به الجميع، وقيل‏:‏ معناه ألم تعلم أيها الإنسان فيكون خطابا لكل أحد من الناس، ‏{‏يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ‏}‏ قال السدي واالكلبي‏:‏ يعذب من يشاء‏:‏ من مات على كفره، ويغفر لمن يشاء‏:‏ الكبيرة من تاب من كفره، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يعذب من يشاء على الصغيرة، ويغفر لمن يشاء على الكبيرة، ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ‏}‏ أي‏:‏ في موالاة الكفار فإنهم لم يعجزوا الله، ‏{‏مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ وهم المنافقون، ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا‏}‏ يعني‏:‏ اليهود، ‏{‏سَمَّاعُونَ‏}‏ أي‏:‏ قوم سماعون، ‏{‏لِلْكَذِبِ‏}‏ أي‏:‏ قائلون للكذب، كقول المصلي‏:‏ سمع الله لمن حمده، أي‏:‏ قبل الله، وقيل‏:‏ سماعون لأجل الكذب، أي يسمعون منك ليكذبوا عليك، وذلك أنهم كانوا يسمعون من الرسول صلى الله عليه وسلم ثم يخرجون ويقولون سمعنا منه كذا ولم يسمعوا ذلك منه، ‏{‏سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوك‏}‏ أي هم جواسيس، يعني‏:‏ بني قريظة لقوم آخرين، وهم أهل خيبر‏.‏

وذلك أن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا وكانا محصنين، وكان حدهما الرجم في التوراة، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فقالوا‏:‏ إن هذا الرجل الذي بيثرب ليس في كتابه الرجم ولكنه الضرب، فأرسلوا إلى إخوانكم من بني قريظة فإنهم جيرانه وصلح له فليسألوه عن ذلك‏.‏ فبعثوا رهطا منهم مستخفين وقالوا لهم‏:‏ سلوا محمدا عن الزانيين إذا أحصنا ما حدهما‏؟‏ فإن أمركم بالجلد فاقبلوا منه، وإن أمركم بالرجم فاحذروه ولا تقبلوا منه، وأرسلوا معهم الزانيين فقدم الرهط حتى نزلوا على بني قريظة والنضير فقالوا لهم‏:‏ إنكم جيران هذا الرجل ومعه في بلده وقد حدث، فينا حدث فلان وفلانة قد فَجَرَا وقد أحصنا، فنحب أن تسألوا لنا محمدا عن قضائه فيه، فقالت لهم قريظة والنضير‏:‏ إذًا والله يأمركم بما تكرهون‏.‏

ثم انطلق قوم، منهم كعب بن الأشرف وكعب بن أسد وسعية بن عمرو ومالك بن الصيف وكنانة بن أبي الحقيق وغيرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا‏:‏ يا محمد أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا ما حدهما في كتابك‏؟‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ هل ترضون بقضائي‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، فنزل جبريل عليه السلام بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به‏.‏

فقال له جبريل عليه السلام‏:‏ اجعل بينك وبينهم ابن صوريا، ووصفه له‏.‏

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هل تعرفون شابا أمرد أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ فأي رجل هو فيكم‏؟‏ فقالوا‏:‏ هو أعلم يهودي بقي على وجه الأرض بما أنزل الله سبحانه وتعالى على موسى عليه السلام في التوراة‏.‏

قال‏:‏ فأرسلوا إليه، ففعلوا فأتاهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنت ابن صوريا‏"‏‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ وأنت أعلم اليهود‏؟‏ قال‏:‏ كذلك يزعمون، قال‏:‏ أتجعلونه بيني وبينكم‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم‏.‏

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنشدك بالله الذي لا إله إلا هو، الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام وأخرجكم من مصر، وفلق لكم البحر وأنجاكم وأغرق آل فرعون، والذي ظلل عليكم الغمام وأنزل عليكم المن والسلوى، وأنزل عليكم كتابه وفيه حلاله وحرامه هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن‏؟‏ ‏"‏‏.‏

قال ابن صوريا‏:‏ نعم والذي ذكرتني به لولا خشية أن تحرقني التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك، ولكن كيف هي في كتابك يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم‏"‏، فقال ابن صوريا‏:‏ والذي أنزل التوراة على موسى هكذا أنزل الله عز وجل في التوراة على موسى عليه السلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فما كان أول ما ترخصتم به أمر الله‏؟‏ ‏"‏، قال‏:‏ كنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنا ابن عم ملك لنا فلم نرجمه، ثم زنى رجل آخر من الناس فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه، فقالوا‏:‏ والله لا ترجمه حتى يرجم فلان- لابن عم الملك- فقلنا‏:‏ تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الوضيع والشريف، فوضعنا الجلد والتحميم، وهو أن يجلد أربعين جلدة بحبل مطلي بالقار ثم يسود وجوههما، ثم يحملان على حمارين ووجوههما من قبل دبر الحمار ويطاف بهما، فجعلوا هذا مكان الرجم، فقالت اليهود لابن صوريا ما أسرع ما أخبرته به، وما كنا لما أثنينا عليك بأهل ولكنك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك، فقال لهم‏:‏ إنه قد أنشدني بالتوراة ولولا خشية التوراة أن تهلكني لما أخبرته، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند باب مسجده، وقال‏:‏ اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأنزل الله عز وجل ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي أنا زاهر بن أحمد أنا أبو إسحاق الهاشمي أنا أبو مصعب عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم قال‏:‏ إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلا منهم وامرأة زنيا، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما تجدون في التوراة في شأن الرجم‏؟‏ ‏"‏ فقالوا‏:‏ نفضحهم ويجلدون، قال عبد الله بن سلام‏:‏ كذبتم إن فيها لآية الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله‏:‏ ارفع يدك، فرفع يده فإذا فيها آية الرجم، قالوا‏:‏ صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، فقال عبد الله بن عمر‏:‏ فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة‏.‏

وقيل‏:‏ سبب نزول هذه الآية القصاص، وذلك أن بني النضير كان لهم فضل على بني قريظة فقال بنو قريظة‏:‏ يا محمد إخواننا بنو النضير وأبونا واحد وديننا واحد ونبينا واحد، إذا قتلوا منا قتيلا واحدا لم يقيدونا وأعطونا ديته سبعين وسقا من تمر، وإذا قتلنا منهم قتلوا القاتل وأخذوا منا الضعف مائة وأربعين وسقا من تمر، وإن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منا وبالرجل منهم الرجلين منا، وبالعبد الحر منا، وجراحتنا على التضعيف من جراحاتهم، فاقض بيننا وبينهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

والأول أصح لأن الآية في الرجم‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ‏}‏ قيل‏:‏ اللام بمعنى إلى، وقيل‏:‏ هي لام كي، أي‏:‏ يسمعون لكي يكذبوا عليك، واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لِقَوْم‏}‏ أي‏:‏ لأجل قوم ‏{‏آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ‏}‏ وهم أهل خيبر، ‏{‏يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ‏}‏ جمع كلمة ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِه‏}‏ أي‏:‏ من بعد وضعه مواضعه، ذكر الكناية ردا على لفظ الكلم، ‏{‏يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ‏}‏ أي‏:‏ إن أفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا، ‏{‏وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ‏}‏ كفره وضلالته، قال الضحاك‏:‏ هلاكه، وقال قتادة‏:‏ عذابه، ‏{‏فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا‏}‏ فلن تقدر على دفع أمر الله فيه، ‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُم‏}‏ وفيه رد على من ينكر القدر، ‏{‏لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ‏}‏ أي‏:‏ للمنافقين واليهود، فخزي المنافقين الفضيحة وهتك الستر بإظهار نفاقهم، وخزي اليهود الجزية والقتل والسبي والنفي، ورؤيتهم من محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيهم ما يكرهون، ‏{‏وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏ الخلود في النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأهل البصرة والكسائي ‏"‏للسحت‏"‏ بضم الحاء، والآخرون بسكونها، وهو الحرام، وأصله الهلاك والشدة، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ‏}‏ ‏(‏طه، 61‏)‏، نزلت في حكام اليهود كعب بن الأشرف وأمثاله، كانوا يرتشون ويقضون لمن رشاهم‏.‏

قال الحسن‏:‏ كان الحاكم منهم إذا أتاه أحد برشوة جعلها في كمه فيريها إياه ويتكلم بحاجته فيسمع منه ولا ينظر إلى خصمه، فيسمع الكذب ويأكل الرشوة‏.‏

وعنه أيضا قال‏:‏ إنما ذلك في الحَكَم إذا رشوته ليحق لك باطلا أو يبطل عنك حقا‏.‏ فأما أن يعطي الرجل الوالي يخاف ظلمه ليدرأ به عن نفسه فلا بأس، فالسحت هو الرشوة في الحكم على قول الحسن ومقاتل وقتادة والضحاك، وقال ابن مسعود‏:‏ هو الرشوة في كل شيء، وقال ابن مسعود‏:‏ من يشفع شفاعة ليرد بها حقا أو يدفع بها ظلماٍ فأهدي له فقبل فهو سحت، فقيل له‏:‏ يا أبا عبد الرحمن ما كنا نرى ذلك إلا الأخذ على الحكم، فقال‏:‏ الأخذ على الحكم كفر قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏"‏سورة المائدة، 44‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد أنا ابن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لعن الله الراشي والمرتشي‏"‏‏.‏

والسحت كل كسب لا يحل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا‏}‏ خيّر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم في الحكم بينهم إن شاء حكم وإن شاء ترك‏.‏

واختلفوا في حكم الآية اليوم هل للحاكم الخيار في الحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا‏؟‏ فقال أكثر أهل العلم‏:‏ هو حكم ثابت، وليس في سورة المائدة منسوخ، وحكام المسلمين بالخيار في الحكم بين أهل الكتاب إن شاءوا حكموا وإن شاءوا لم يحكموا، وإن حكموا حكموا بحكم الإسلام، وهو قول النخعي والشعبي وعطاء وقتادة‏.‏

وقال قوم‏:‏ يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بينهم، والآية منسوخة نسخها قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏"‏ ‏(‏سورة المائدة، 49‏)‏، وهو قول مجاهد وعكرمة، وروي ذلك عن ابن عباس وقال‏:‏ لم ينسخ من المائدة إلا آيتان، قوله تعالى‏:‏ ‏"‏لا تحلوا شعائر الله‏"‏ نسخها قوله تعالى‏:‏ ‏"‏اقتلوا المشركين‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم‏"‏ نسخها قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وأن احكم بينهم بما أنزل الله‏"‏ فأما إذا تحاكم إلينا مسلم وذمي فيجب علينا الحكم بينهما لا يختلف القول فيه، لأنه لا يجوز للمسلم الانقياد لحكم أهل الذمة‏.‏ قوله ‏{‏وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْط‏}‏ أي‏:‏ بالعدل، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ‏}‏ أي‏:‏ العادلين، روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏المقسطون عند الله على منابر من نور‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏43‏)‏ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاة‏}‏ هذا تعجيب للنبي صلى الله عليه وسلم، وفيه اختصار، أي‏:‏ كيف يجعلونك حكما بينهم فيرضون بحكمك وعندهم التوراة‏؟‏ ‏{‏فِيهَا حُكْمُ اللَّه‏}‏ وهو الرجم، ‏{‏ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي بمصدقين لك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا‏}‏ أي‏:‏ أسلموا وانقادوا لأمر الله تعالى، كما أخبر عن إبراهيم عليه السلام‏:‏ ‏"‏إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين‏"‏ ‏(‏سورة البقرة، 131‏)‏، وكما قال‏:‏ ‏"‏وله أسلم من في السموات والأرض‏"‏ ‏(‏سورة آل عمران، 83‏)‏، وأراد بهم النبيين الذين بعثوا من بعد موسى عليه السلام ليحكموا بما في التوراة، وقد أسلموا لحكم التوراة وحكموا بها، فإن من النبيين من لم يؤمر بحكم التوراة منهم عيسى عليه السلام، قال الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏"‏لكل جعلنا منك شرعة ومنهاجا‏"‏ ‏(‏سورة المائدة، 48‏)‏‏.‏

وقال الحسن والسدي‏:‏ أراد به محمدا صلى الله عليه وسلم حكم على اليهود بالرجم، ذكر بلفظ الجمع كما قال‏:‏ ‏"‏إن إبراهيم كان أمة قانتا‏"‏ ‏(‏سورة النحل، 120‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ هَادُوا‏}‏ فيه تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ فيها هدى ونور للذين هادوا‏.‏ ثم قال‏:‏ يحكم بها النبيون الذين أسلموا والربانيون، وقيل‏:‏ هو على موضعه، ومعناه‏:‏ يحكم بها النبيون الذين أسلموا على الذين هادوا، كما قال‏:‏ ‏"‏وإن أسأتم فلها‏"‏ ‏(‏سورة الإسراء، 7‏)‏ أي‏:‏ فعليها، وقال‏:‏ ‏"‏أولئك لهم اللعنة‏"‏ ‏(‏سورة الرعد، 25‏)‏ أي‏:‏ عليهم، وقيل‏:‏ فيه حذف، كأنه قال‏:‏ للذين هادوا وعلى الذين هادوا فحذف أحدهما اختصارا‏.‏

‏{‏وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ‏}‏ يعني العلماء‏:‏ واحدهم حبر، وحبر بفتح الحاء وكسرها، والكسر أفصح، وهو العالم المحكم للشيء، قال الكسائي وأبو عبيد‏:‏ هو من الحبر الذي يكتب به وقال قطرب هو من الحبر الذي هو بمعنى الجمال بفتح الحاء وكسرها، وفي الحديث ‏"‏يخرجُ من النار رجل قد ذهب حبره وسبره‏"‏ أي‏:‏ حسنه وهيئته، ومنه التحبير وهو التحسين، فسمى العالم حبرا لما عليه من جمال العلم وبهائه، وقيل‏:‏ الربانيون هاهنا من النصارى، والأحبار من اليهود، وقيل‏:‏ كلاهما من اليهود‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّه‏}‏ أي‏:‏ استودعوا من كتاب الله، ‏{‏وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ‏}‏ أنه كذلك‏.‏

‏{‏فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ قال قتادة والضحاك‏:‏ نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة‏.‏ رُوي عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ‏}‏ والظالمون والفاسقون كلها في الكافرين، وقيل‏:‏ هي على الناس كلهم‏.‏

وقال ابن عباس وطاووس‏:‏ ليس بكفر ينقل عن الملة، بل إذا فعله فهو به كافر وليس كمن كفر بالله واليوم الآخر‏.‏

قال عطاء‏:‏ هو كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق، وقال عكرمة معناه‏:‏ ومن لم يحكم بما أنزل الله جاحدا به فقد كفر، ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق‏.‏

وسئل عبد العزيز بن يحيى الكناني عن هذه الآيات، فقال‏:‏ إنها تقع على جميع ما أنزل الله لا على بعضه، فكل من لم يحكم بجميع ما أنزل الله فهو كافر ظالم فاسق، فأما من حكم بما أنزل الله من التوحيد وترك الشرك، ثم لم يحكم بجميع ما أنزل الله من الشرائع لم يستوجب حكم هذه الآيات‏.‏ وقال العلماء‏:‏ هذا إذا رد نص حكم الله عيانا عمدا، فأما من خفي عليه أو أخطأ في تأويل فلا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏45‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ أوجبنا على بني إسرائيل في التوراة، ‏{‏أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ‏}‏ يعني‏:‏ نفس القاتل بنفس المقتول وفاء يقتل به، ‏{‏وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ‏}‏ تفقأ بها، ‏{‏وَالأنْفَ بِالأنْفِ‏}‏ يُجدع به، ‏{‏وَالأذُنَ بِالأذُنِ‏}‏ تُقطع بها، قال ابن عباس‏:‏ أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة وهو‏:‏ أن النفس بالنفس إلى آخرها، فما بالهم يخالفون فيقتلون بالنفس النفسين، ويفقأون بالعين العينين، وخفف نافع الأذن في جميع القرآن وثقلها الآخرون، ‏{‏وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ‏}‏ تقلع بها وسائر الجوارح قياس عليها في القصاص، ‏{‏وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ‏}‏ فهذا تعميم بعد تخصيص، لأنه ذكر العين والأنف والأذن والسن، ثم قال‏:‏ ‏{‏وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ‏}‏ أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد والرجل واللسان ونحوها، وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه، لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته، وقرأ الكسائي ‏"‏والعين‏"‏ وما بعدها بالرفع، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو جعفر وأبو عمرو ‏"‏والجروح‏"‏ بالرفع فقط وقرأ الآخرون كلها بالنصب كالنفس‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ‏}‏ أي بالقصاص ‏{‏فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ‏}‏ قيل‏:‏ الهاء في ‏"‏له‏"‏ كناية عن المجروح وولي القتيل، أي‏:‏ كفارة للمتصدق وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص والحسن والشعبي وقتادة‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي أنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي أنا عبد الله الحسين بن محمد الدينوري أنا عمر بن الخطاب أنا عبد الله بن الفضل أخبرنا أبو خيثمة أنا جرير عن مغيرة عن الشعبي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من تصدق من جسده بشيء كفر الله عنه بقدره من ذنوبه‏"‏‏.‏

وقال جماعة‏:‏ هي كناية عن الجارح والقاتل، يعني‏:‏ إذا عفا المجني عليه من الجاني فعفوه كفارة لذنب الجاني لا يؤاخذ به في الآخرة، كما أن القصاص كفارة له، فأما أجر العافي فعلى الله عز وجل، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏فمن عفا وأصلح فأجره على الله‏"‏ ‏(‏الشورى- 40‏)‏، رُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهو قول إبراهيم ومجاهد وزيد بن أسلم، ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46- 48‏]‏

‏{‏وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏46‏)‏ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏47‏)‏ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ على آثار النبيين الذين أسلموا، ‏{‏بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإنْجِيلَ فِيهِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ في الإنجيل، ‏{‏هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا‏}‏ يعني الإنجيل، ‏{‏لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ‏}‏ قرأ الأعمش وحمزة ‏"‏ولِيحكمَ‏"‏ بكسر اللام وفتح الميم، أي لكي يحكم، وقرأ الآخرون بسكون اللام وجزم الميم على الأمر، قال مقاتل بن حيان‏:‏ أمر الله الربانيين والأحبار أن يحكموا بما في التوراة، وأمر القسيسين والرهبان أن يحكموا بما في الإنجيل، فكفروا وقالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله، ‏{‏وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ الخارجون عن أمر الله تعالى‏.‏

قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ‏}‏ يا محمد ‏{‏الْكِتَابَ‏}‏ القرآن، ‏{‏بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ من الكتب المنزلة من قبل، ‏{‏وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ‏}‏ روى الوالبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، أي شاهدا عليه وهو قول مجاهد وقتادة والسدي والكسائي‏.‏

قال حسان‏:‏

إن الكتاب مهيمن لنبينا *** والحق يعرفه ذوو الألباب

يريد‏:‏ شاهدا ومصدقا‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ دالا وقال سعيد بن جبير وأبو عبيدة، مؤتمنا عليه، وقال الحسن‏:‏ أمينا وقيل‏:‏ أصله مؤيمن، مفيعل من أمين، كما قالوا‏:‏ مبيطر من البيطار، فقلبت الهمزة هاء، كما قالوا‏:‏ أرقت الماء وهرقته، وإيهات وهيهات، ونحوها‏.‏ ومعنى أمانة القرآن ما قال ابن جريج‏:‏ القرآن أمين على ما قبله من الكتب، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدقوا وإلا فكذبوا‏.‏

وقال سعيد بن المسيب والضحاك قاضيا، وقال الخليل‏:‏ رقيبا وحافظا، والمعاني متقاربة، ومعنى الكل‏:‏ أن كل كتاب يشهد بصدقه القرآن فهو كتاب الله تعالى، وما لا فلا‏.‏ ‏{‏فَاحْكُمْ‏}‏ يا محمد، ‏{‏بَيْنَهُمْ‏}‏ بين أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك، ‏{‏بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ‏}‏ بالقرآن، ‏{‏وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ‏}‏ أي لا تعرض عما جاءك من الحق ولا تتبع أهواءهم، ‏{‏لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا‏}‏ قال ابن عباس والحسن ومجاهد‏:‏ أي سبيلا وسنة، فالشرعة والمنهاج الطريق الواضح، وكل ما شرعت فيه فهو شريعة وشرعة، ومنه شرائع الإسلام لشروع أهلها فيها، وأراد بهذا أن الشرائع مختلفة، ولكل أهل ملة شريعة‏.‏

قال قتادة‏:‏ الخطاب للأمم الثلاث‏:‏ أمة موسى وأمه عيسى وأمه محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين، للتوراة شريعة والإنجيل شريعة وللفرقان شريعة، والدين واحد وهو التوحيد‏.‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ أي‏:‏ على ملة واحدة، ‏{‏وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ‏}‏ ليختبركم، ‏{‏فِي مَا آتَاكُمْ‏}‏ من الكتب وبين لكم من الشرائع فيتبين المطيع من العاصي والموافق من المخالف، ‏{‏فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ‏}‏ فبادروا إلى الأعمال الصالحة، ‏{‏إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ‏(‏49‏)‏ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ‏(‏50‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاس بن قيس من رؤساء اليهود بعضهم لبعض‏:‏ اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك لم يخالفنا اليهود، وإن بيننا وبين الناس خصومات فنحاكمهم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك، ويتبعنا غيرنا، ولم يكن قصدهم الإيمان، وإنما كان قصدهم التلبيس ودعوته إلى الميل في الحكم فأنزل الله عز وجل الآية‏.‏ ‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ أي‏:‏ أعرضوا عن الإيمان والحكم بالقرآن، ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ فاعلم أن إعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعجل لهم العقوبة في الدنيا ببعض ذنوبهم، ‏{‏وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ‏}‏ يعني اليهود، ‏{‏لَفَاسِقُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ‏}‏ قرأ ابن عامر ‏"‏تبغون‏"‏ بالتاء وقرأ الآخرون بالياء، أي‏:‏ يطلبون، ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 52‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏51‏)‏ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ‏(‏52‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ‏}‏ اختلفوا في نزول هذه الآية وإن كان حكمها عاما لجميع المؤمنين‏.‏

فقال قوم‏:‏ نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول، وذلك أنهما اختصما، فقال عبادة‏:‏ إن لي أولياء من اليهود كثير عددهم شديدة شوكتهم، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم وولاية اليهود، ولا مولى لي إلا الله ورسوله، فقال عبد الله‏:‏ لكني لا أبرأ من ولاية اليهود، لأني أخاف الدوائر، ولا بد لي منهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه، قال‏:‏ إذًا أقبل، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

قال السدي‏:‏ لما كانت وقعة أحد اشتدت على طائفة من الناس وتخوفوا أن يدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين‏:‏ أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا إني أخاف أن يدال علينا اليهود، وقال رجل آخر‏:‏ أما أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أمانا، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهما‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول، وقالوا‏:‏ ماذا يصنع بنا إذا نزلنا، فجعل أصبعه على حلقه أنه الذبح، أي‏:‏ يقتلكم، فنزلت هذه الآية‏.‏

‏{‏بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏ في العون والنصرة ويدهم واحدة على المسلمين، ‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ‏}‏ فيوفقهم ويعنهم ‏{‏فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ أي‏:‏ نفاق يعني عبد الله بن أبي وأصحابه من المنافقين الذين يوالون اليهود، ‏{‏يُسَارِعُونَ فِيهِمْ‏}‏ في معونتهم وموالاتهم، ‏{‏يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ‏}‏ دولة، يعني‏:‏ أن يدول الدهر دولة فنحتاج إلى نصرهم إيانا، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا، وقيل‏:‏ نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه من جدب وقحط فلا يعطونا الميرة والقرض، ‏{‏فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ‏}‏ قال قتادة ومقاتل‏:‏ بالقضاء الفصل من نصر محمد صلى الله عليه وسلم على من خالفه، وقال الكلبي والسدي‏:‏ فتح مكة، وقال الضحاك‏:‏ فتح قرى اليهود مثل خيبر وفدك، ‏{‏أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ‏}‏ قيل‏:‏ بإتمام أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ هو عذاب لهم، وقيل‏:‏ إجلاء بني النضير، ‏{‏فَيُصْبِحُوا‏}‏ يعني هؤلاء المنافقون، ‏{‏عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ‏}‏ من موالاة اليهود ودس الأخبار إليهم، ‏{‏نَادِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53- 54‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ‏(‏53‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَ‏}‏ حينئذ، ‏{‏يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ قرأ أهل الكوفة‏:‏ ‏"‏ويقولُ‏"‏ بالواو والرفع وقرأ أهل البصرة بالواو ونصب اللام عطفا على ‏{‏أَنْ يَأْتِيَ‏}‏ أي‏:‏ وعسى أن يقول الذين آمنوا، وقرأ الآخرون بحذف الواو ورفع اللام، وكذلك هو في مصاحف أهل العالية استغناء عن حرف العطف بملابسة هذه الآية بما قبلها، يعني يقول الذين آمنوا في وقت إظهار الله تعالى نفاق المنافقين، ‏{‏أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ‏}‏ حلفوا بالله، ‏{‏جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ حلفوا بأغلظ الأيمان، ‏{‏إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ إنهم مؤمنون، يريد‏:‏ أن المؤمنين حينئذ يتعجبون من كذبهم وحلفهم بالباطل‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ‏}‏ بطل كل خير عملوه، ‏{‏فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ‏}‏ خسروا الدنيا بافتضاحهم، والآخرة بالعذاب وفوات الثواب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام ‏"‏يرتدد‏"‏ بدالين على إظهار التضعيف ‏"‏عن دينه‏"‏ فيرجع إلى الكفر‏.‏

قال الحسن‏:‏ علم الله تبارك وتعالى أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم صلى الله عليه وسلم فأخبر أنه سيأتي بقوم يحبهم الله ويحبونه‏.‏

واختلفوا في أولئك القوم من هم‏؟‏ قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه والحسن وقتادة‏:‏ هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قبض ارتد عامة العرب إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس، ومنع بعضهم الزكاة، وهمّ أبو بكر رضي الله عنه بقتالهم فكره ذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عز وجل‏؟‏ ‏"‏ فقال أبو بكر‏:‏ والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها‏"‏‏.‏

قال أنس بن مالك رضي الله عنه‏:‏ كرهت الصحابة قتال مانعي الزكاة وقالوا‏:‏ أهل القبلة، فتقلد أبو بكر سيفه وخرج وحده، فلم يجدوا بدا من الخروج على أثره‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ كرهنا ذلك في الابتداء ثم حمدناه عليه في الانتهاء‏.‏

قال أبو بكر بن عياش‏:‏ سمعت أبا حصين يقول‏:‏ ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر رضي الله عنه، لقد قام مقام نبي من الانبياء في قتال أهل الردة‏.‏

وكان قد ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث فرق‏:‏

منهم بنو مذحج ورئيسهم ذو الخمار، عبهلة بن كعب، العنسي، ويلقب بالأسود، وكان كاهنا مشعبذا فتنبأ باليمن واستولى على بلادها، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل ومن معه من المسلمين، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم، وعلى النهوض إلى حرب الأسود، فقتله فيروز الديلمي على فراشه، قال ابن عمر رضي الله عنه فأتى الخبر النبي صلى الله عليه وسلم من السماء الليلة التي قُتل فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قتل الأسود البارحة قتله رجل مبارك‏"‏، قيل‏:‏ ومن هو‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فيروز، فازفيروز فبشر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهلاك الأسود، وقبض صلى الله عليه وسلم من الغد؛ وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعدما خرج أسامة وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر رضي الله عنه‏.‏

والفرقة الثانية‏:‏ بنو حنيفة باليمامة، ورئيسهم مسيلمة الكذاب، واسمه ثمامة بن قيس وكان قد تنبأ في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر سنة عشر، وزعم أنه أُشرك مع محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة، وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك، وبعث بذلك إليه مع رجلين من أصحابه، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أتشهدان أن مسيلمة رسول الله‏؟‏ قالا نعم‏.‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما‏"‏، ثم أجاب‏:‏ ‏"‏من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد فإن الأرض لله يروثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين‏"‏، ومرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوفي، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي وحشي، غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب، بعد حرب شديد، وكان وحشي يقول‏:‏ قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام‏.‏

والفرقة الثالثة‏:‏ بنو أسد، ورئيسهم طليحة بن خويلد بن الوليد، وكان طليحة آخر من ارتد، وادعى النبوة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأول من قوتل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الردة، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إليه، فهزمهم خالد بعد قتال شديد، وأفلت طليحة فمر على وجهه هاربا نحو الشام، ثم إنه أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه‏.‏

وارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم في خلافة أبي بكر رضي الله عنه خلق كثير، حتى كفى الله المسلمين أمرهم ونصر دينه على يدي أبي بكر رضي الله عنه‏.‏

قالت عائشة‏:‏ ‏"‏توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتدت العرب واشرأب النفاق، ونزل بأبي بكر ما لو نزل بالجبال الراسيات لهاضها‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ هم الأشعريون، روي عن عياض بن غنم الأشعري قال‏:‏ لما نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هم قوم هذا، وأشار إلى أبي موسى الأشعري‏"‏ وكانوا من اليمن‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي أنا أبو الحسن الطيسفوني أنا أبو عبد الله بن عمر الجوهري أنا أحمد بن علي الكشميهني، حدثنا علي بن حجر أنا إسماعيل بن جعفر أنا محمد بن عمرو بن علقمه عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة، الإيمان يمان والحكمة يمانية‏"‏

وقال الكلبي‏:‏ هم أحياء من اليمن ألفان من النخع وخمسة آلاف من كندة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أفياء الناس، فجاهدوا في سبيل الله يوم القادسية في أيام عمر رضي الله عنه‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ يعني‏:‏ أرقاء رحماء، لقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏واخفض لهما جناح الذل من الرحمة‏"‏، ولم يرد به الهوان، بل أراد به أن جانبهم ليِّن على المؤمنين، وقيل‏:‏ هو من الذل من قولهم دابة ذلول، يعني أنهم متواضعون كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا‏"‏، ‏{‏أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ أشداء غلاظ على الكفار يعادونهم ويغالبونهم، من قولهم‏:‏ عزّه أي غلبه، قال عطاء‏:‏ أذلة على المؤمنين‏:‏ كالولد لوالده والعبد لسيده، أعزة على الكافرين‏:‏ كالسبع على فريسته، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏أشداء على الكفار رحماء بينهم‏"‏‏.‏ ‏{‏يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ‏}‏ يعني‏:‏ لا يخافون في الله لوم الناس، وذلك أن المنافقين كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم، وروينا عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ ‏"‏بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة وأن نقوم أو نقول بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم‏"‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ أي محبتهم لله ولين جانبهم للمسلمين، وشدتهم على الكافرين، من فضل الله عليهم، ‏{‏وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 56‏]‏

‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ‏(‏55‏)‏ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي بن سلول حين تبرأ عبادة من اليهود، وقال‏:‏ أتولى الله ورسوله والذين آمنوا، فنزل فيهم من قوله‏:‏ ‏"‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء‏"‏، إلى قوله‏:‏ ‏"‏إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا‏"‏ يعني عبادة بن الصامت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال جابر بن عبد الله‏:‏ جاء عبد الله بن سلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وفارقونا وأقسموا أن لا يجالسونا، فنزلت هذه الآية، فقرأها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ ‏"‏يا رسول الله رضينا بالله وبرسوله وبالمؤمنين أولياء‏"‏‏.‏ وعلى هذا التأويل أراد بقوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ رَاكِعُونَ‏}‏ صلاة التطوع بالليل والنهار، قاله ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

وقال السدي‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون‏"‏، أراد به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه‏.‏

وقال جوبير عن الضحاك في قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ قال‏:‏ هم المؤمنون بعضهم أولياء بعض، وقال أبو جعفر محمد بن علي الباقر‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ نزلت في المؤمنين، فقيل له‏:‏ إن أناسا يقولون إنها نزلت في علي رضي الله عنه، فقال‏:‏ هو من المؤمنين‏.‏

‏{‏وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ يعني‏:‏ يتولى القيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يريد المهاجرين والأنصار، ‏{‏فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ أنصار دين الله، ‏{‏هُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏57‏)‏ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ‏(‏58‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا‏}‏ قال ابن عباس كان رفاعة بن زيد بن التابوت وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام، ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادّونهما، فأنزل الله عز وجل هذه الآية ‏"‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا‏"‏، بإظهار ذلك بألسنتهم قولا وهم مستبطنون الكفر، ‏{‏مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ اليهود، ‏{‏وَالْكُفَّارَ‏}‏ قرأ أهل البصرة والكسائي ‏"‏الكفار‏"‏، بخفض الراء، يعني‏:‏ ومن الكفار وقرأ الآخرون بالنصب، أي‏:‏ لا تتخذوا الكفار، و ‏{‏أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة وقام المسلمون إليها، قالت اليهود‏:‏ قد قاموا لا قاموا، وصلوا لا صلوا، على طريق الاستهزاء، وضحكوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏.‏

وقال السدي‏:‏ نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول‏:‏ أشهد أن محمدا رسول الله، قال‏:‏ حُرق الكاذبُ، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وهو وأهله نيام فتطايرت منها شرارة فاحترق البيت واحترق هو وأهله‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا المسلمين فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا‏:‏ يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت- فيما أحدثت- الأنبياء قبلك، ولو كان فيه خير لكان أولى الناس به الأنبياء، فمن أين لك صياح كصياح العنز‏؟‏ فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ونزل ‏"‏ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله‏"‏، الآية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا‏}‏ الآية‏.‏ قرأ الكسائي‏:‏ ‏"‏هل تنقمون‏"‏، بإدغام اللام في التاء، وكذلك يدغم لام هل في التاء والثاء والنون، ووافقه حمزه في التاء والثاء وأبو عمرو في ‏"‏هلْ ترى‏"‏ في موضعين‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من اليهود، أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع وغيرهما، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل، فقال‏:‏ أومن ‏"‏بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ونحن له مسلمون‏"‏، فلما ذكر عيسى عليه السلام جحدوا نبوته، وقالوا‏:‏ والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فأنزل الله هذه الآية ‏"‏قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا‏"‏ أي‏:‏ تكرهون منا، ‏{‏إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ هل تكرهون منا إلا إيماننا وفسقكم، أي‏:‏ إنما كرهتم إيماننا وأنتم تعلمون أنا على حق، لأنكم فسقتم بأن أقمتم على دينكم لحب الرياسة وحب الأموال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏60- 63‏]‏

‏{‏قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏60‏)‏ وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ ‏(‏61‏)‏ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏62‏)‏ لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ‏(‏63‏)‏‏}‏‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد، ‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ‏}‏ أخبركم، ‏{‏بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكرتم، يعني قولهم لم نر أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم ولا دينا شرا من دينكم، فذكر الجواب بلفظ الابتداء، وإن لم يكن الابتداء شرا كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏أفأنبأكم بشر من ذلكم النار‏"‏ ‏(‏الحج، 72‏)‏، ‏{‏مَثُوبَةً‏}‏ ثوابا وجزاء، نصب على التفسير، ‏{‏عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ هو من لعنه الله، ‏{‏وَغَضِبَ عَلَيْهِ‏}‏ يعني‏:‏ اليهود، ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ‏}‏ فالقردة أصحاب السبت، والخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام‏.‏

ورُوي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أن الممسوخين كلاهما من أصحاب السبت، فشبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير‏.‏ ‏{‏وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ‏}‏ أي‏:‏ جعل منهم من عبد الطاغوت، أي‏:‏ أطاع الشيطان فيما سوّل له، وتصديقها قراءة ابن مسعود‏:‏ ومن عبدوا الطاغوت، وقرأ حمزة ‏"‏وعبُد‏"‏ بضم الباء ‏"‏الطاغوت‏"‏ بجر التاء، أراد العبد وهما لغتان عبْد بجزم الباء وعبُد بضم الباء، مثل سبْع وسبُع، وقيل‏:‏ هو جمع العباد، وقرأ الحسن وعبد الطاغوت، على الواحد، ‏{‏أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏}‏ أي‏:‏ عن طريق الحق‏.‏

‏{‏وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا‏}‏ يعني‏:‏ هؤلاء المنافقين، وقيل‏:‏ هم الذين قالوا‏:‏ ‏"‏آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار وكفروا آخره‏"‏، دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا‏:‏ آمنا بك وصدقناك فيما قلت، وهم يسرون الكفر، ‏{‏وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ‏}‏ يعني‏:‏ دخلوا كافرين وخرجوا كافرين، ‏{‏وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ من اليهود ‏{‏يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ‏}‏ قيل‏:‏ الإثم المعاصي والعدوان الظلم، وقيل‏:‏ الإثم ما كتموا من التوراة، والعدوان ما زادوا فيها، ‏{‏وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ‏}‏ الرِّشَا، ‏{‏لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏لَوْلا‏}‏ هلا ‏{‏يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ‏}‏ يعني‏:‏ العلماء، قيل‏:‏ الربانيون علماء النصارى والأحبار علماء اليهود، ‏{‏عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏64‏]‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ‏}‏ قال ابن عباس وعكرمة والضحاك وقتادة‏:‏ إن الله تعالى كان قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا وأخصبهم ناحية فلما عصوا الله في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به كف الله عنهم ما بسط عليهم من السعة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء‏:‏ يد الله مغلولة، أي‏:‏ محبوسة مقبوضة عن الرزق نسبوه إلى البخل، تعالى الله عن ذلك‏.‏

قيل‏:‏ إنما قال هذه المقالة فنحاص، فلما لم ينهه الآخرون ورضوا بقوله أشركهم الله فيها‏.‏

وقال الحسن‏:‏ معناه يد الله مكفوفة عن عذابنا فليس يعذبنا إلا ما تبرّ به قسمة قدر ما عبد آباؤنا العجل‏.‏ والأول أولى لقوله‏:‏ ‏"‏ينفق كيف يشاء‏"‏‏.‏

‏{‏غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أمسكت أيديهم عن الخيرات‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ أجابهم الله تعالى فقال‏:‏ أنا الجواد وهم البخلاء وأيديهم هي المغلولة الممسكة‏.‏ وقيل‏:‏ هو من الغل في النار يوم القيامة لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل‏"‏ ‏(‏غافر، 71‏)‏‏.‏ ‏{‏وَلُعِنُوا‏}‏ عُذِّبوا، ‏{‏بِمَا قَالُوا‏}‏ فمن لعنهم أنهم مُسخوا قردة وخنازير وضربت عليهم الذلة والمسكنة في الدنيا وفي الآخرة بالنار، ‏{‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏}‏ ويد الله صفة من صفاته كالسمع، والبصر والوجه، وقال جل ذكره‏:‏ ‏"‏لما خلقت بيدي‏"‏ ‏(‏ص، 75‏)‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كلتا يديه يمين‏"‏ والله أعلم بصفاته، فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم‏.‏

وقال أئمة السلف من أهل السنة في هذه الصفات‏:‏ ‏"‏أمرُّوها كما جاءت بلا كيف‏"‏‏.‏

‏{‏يُنْفِقُ‏}‏ يرزق، ‏{‏كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا‏}‏ أي‏:‏ كلما نزلت آية كفروا بها وازدادوا طغيانا وكفرا، كلما نزلت آية ‏{‏وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ‏}‏ يعني‏:‏ بين اليهود والنصارى، قاله الحسن ومجاهد‏:‏ وقيل بين طوائف اليهود جعلهم الله مختلفين في دينهم متباغضين ‏{‏إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ اليهود أفسدوا وخالفوا حكم التوراة، فبعث الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم طيطوس الرومي، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم أفسدوا فبعث الله عليهم المسلمين‏.‏

وقيل‏:‏ كلما أجمعوا أمرهم ليفسدوا أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأوقدوا نار المحاربة أطفأها الله، فردهم وقهرهم ونصر نبيه ودينه، هذا معنى قول الحسن، وقال قتادة‏:‏ هذا عام في كل حرب طلبته اليهود فلا تلقى اليهود في البلد إلا وجدتهم من أذلِّ الناس، ‏{‏وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ‏(‏65‏)‏ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ ‏(‏66‏)‏ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ‏(‏67‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَاتَّقَوْا‏}‏ الكفر، ‏{‏لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ‏}‏ يعني‏:‏ أقاموا أحكامهما وحدودهما وعملوا بما فيهما، ‏{‏وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، وقيل‏:‏ كتب أنبياء بني إسرائيل، ‏{‏لأكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ‏}‏ قيل‏:‏ من فوقهم هو المطر، ومن تحت أرجلهم نبات الأرض‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لأنزلت عليهم القطر وأخرجت لهم من نبات الأرض‏.‏

وقال الفراء أراد به التوسعة في الرزق كما يقال فلان في الخير من قرنه إلى قدمه، ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض‏"‏ ‏(‏الأعراف، 96‏)‏‏.‏

‏{‏مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ مؤمني أهل الكتاب، عبد الله بن سلام وأصحابه، مقتصدة أي عادلة غير غالية، ولا مقصرة جافية، ومعنى الاقتصاد في اللغة‏:‏ الاعتدال في العمل من غير غلو ولا تقصير‏.‏

‏{‏وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ‏}‏ كعب بن الأشرف وأصحابه، ‏{‏سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ‏}‏ بئس شيئا عملهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ عملوا القبيح مع التكذيب بالنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ الآية، روي عن مسروق قال‏:‏ قالت عائشة رضي الله عنها من حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أنزل الله فقد كذب، وهو يقول‏:‏ ‏"‏يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‏"‏ الآية‏.‏ روى الحسن‏:‏ أن الله تعالى لما بعث رسوله ضاق ذرعا وعرف أن من الناس من يكذبه، فنزلت هذه الآية‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في عيب اليهود، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الإسلام، فقالوا أسلمنا قبلك وجعلوا يستهزئون به، فيقولون له‏:‏ تريد أن نتخذك حنانا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك سكت فنزلت هذه الآية، وأمره أن يقول لهم‏:‏ ‏"‏يا أهل الكتاب لستم على شيء‏"‏ الآية‏.‏

وقيل‏:‏ بلغ ما أنزل إليك من الرجم والقصاص، نزلت في قصة اليهود‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في أمر زينب بنت جحش ونكاحها‏.‏

وقيل‏:‏ في الجهاد، وذلك أن المنافقين كرهوه، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت‏"‏ ‏(‏محمد، 20‏)‏ وكرهه بعض المؤمنين قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم‏"‏ الآية ‏(‏النساء، 70‏)‏، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يمسك في بعض الأحايين عن الحث على الجهاد لما يعلم من كراهة بعضهم، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ‏}‏ قرأ أهل المدينة ‏(‏رسالاته‏)‏، على الجمع والباقون رسالته على التوحيد‏.‏

ومعنى الآية‏:‏ إن لم تبلّغ الجميع وتركت بعضه، فما بلغت شيئا، أي‏:‏ جرمك في ترك تبليغ البعض كجرمك في ترك تبليغ الكل، كقوله‏:‏ ‏"‏ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا‏"‏ ‏(‏النساء، 150- 151‏)‏، أخبر أن كفرهم بالبعض محبط للإيمان بالبعض‏.‏

وقيل‏:‏ بلّغْ ما أنزل إليك أي‏:‏ أظهر تبليغه، كقوله‏:‏ ‏"‏فاصدع بما تؤمر‏"‏ ‏(‏الحجر، 94‏)‏ وإن لم تفعل‏:‏ فإن لم تظهر تبليغه فما بلغت رسالته، أمره بتبليغ ما أنزل إليه مجاهرا محتسبا صابرا، غير خائف، فإن أخفيت منه شيئا لخوف يلحقك فما بلّغت رسالته‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ يحفظك ويمنعك من الناس، فإن قيل‏:‏ أليس قد شج رأسه وكسرت رباعيته وأوذي بضروب من الأذى‏؟‏

قيل‏:‏ معناه يعصمك من القتل فلا يصلون إلى قتلك‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت هذه الآية بعدما شج رأسه لأن سورة المائدة من آخر ما نزل من القرآن‏.‏

وقيل‏:‏ والله يخصك بالعصمة من بين الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم‏.‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ‏}‏ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا أبو اليمان أنا شعيب عن الزهري أنا سنان بن أبي سنان الدولي وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن جابر بن عبد الله أخبره أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل نجد، فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم، قفل معه وأدركتهم القائلة في واد كثير العضاة، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس يستظلون بالشجر، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة وعلق بها سيفه ونمنا نومة، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا وإذا عنده أعرابي، فقال‏:‏ ‏"‏إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتًا، فقال‏:‏ من يمنعك مني‏؟‏ فقلت‏:‏ الله ‏"‏ثلاثا‏"‏، ولم يعاقبه وجلس‏.‏

وروى محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الأعرابي سل سيفه وقال‏:‏ من يمنعك مني يا محمد قال‏:‏ الله، فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وجعل يضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل أنا إسماعيل بن خليل أخبرنا علي بن مسهر أنا يحيى بن سعيد أنا عبد الله بن عامر بن ربيعة قال‏:‏ سمعت عائشة رضي الله عنها تقول‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم سهر فلما قدم المدينة قال ليت رجلا صالحا من أصحابي يحرسني الليلة، إذ سمعنا صوت سلاح، فقال‏:‏ من هذا‏؟‏ قال‏:‏ أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك، فنام النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال عبد الله بن شقيق عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة فقال لهم‏:‏ ‏"‏أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله سبحانه وتعالى‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 71‏]‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ‏(‏68‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏69‏)‏ لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ ‏(‏70‏)‏ وَحَسِبُوا أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ تقيموا أحكامهما وما يجب عليكم فيهما، ‏{‏وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ‏}‏ فلا تحزن، ‏{‏عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى‏}‏ وكان حقه‏:‏ ‏{‏والصائبين‏}‏ وقد ذكرنا في سورة البقرة وجه ارتفاعه‏.‏ وقال سيبويه‏:‏ فيه تقديم وتأخير تقديره‏:‏ إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى من آمن بالله إلى آخر الآية، والصابئون كذلك، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ أي‏:‏ باللسان، وقوله‏:‏ ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ بالقلب، وقيل‏:‏ الذين آمنوا على حقيقة الإيمان ‏{‏مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ثبت على الإيمان، ‏{‏وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ في التوحيد والنبوة، ‏{‏وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا‏}‏ عيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهما، ‏{‏وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ‏}‏ يحيى وزكريا‏.‏

‏{‏وَحَسِبُوا‏}‏ ظنوا ‏{‏أَلا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ عذاب وقتل، وقيل‏:‏ ابتلاء واختبار، أي‏:‏ ظنوا أن لا يُبتلوا ولا يُعذبهم الله، قرأ أهل البصرة وحمزة والكسائي ‏"‏ تكون ‏"‏ برفع النون على معنى أنها لا تكون، ونصبها الآخرون كما لو لم يكن قبله لا ‏{‏فَعَمُوا‏}‏ عن الحق فلم يبصروه، ‏{‏وَصَمُّوا‏}‏ عنه فلم يسمعوه، يعني عموا وصموا بعد موسى صلوات الله وسلامه عليه، ‏{‏ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ ببعث عيسى عليه السلام، ‏{‏ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ‏}‏ بالكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ ‏(‏72‏)‏ لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏73‏)‏ أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ‏}‏ وهم الملكانية واليعقوبية منهم، ‏{‏وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ‏}‏‏.‏

‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ المرقوسية، وفيه إضمار معناه‏:‏ ثالث ثلاثة آلهة، لأنهم يقولون‏:‏ الإلهية مشتركة بين الله تعالى ومريم وعيسى، وكل واحد من هؤلاء إله فهم ثلاثة آلهة، يبين هذا قوله عز وجل للمسيح‏:‏ ‏"‏أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله‏"‏‏؟‏ ‏(‏المائدة، 116‏)‏، ومن قال‏:‏ إن الله ثالث ثلاثة ولم يرد به الإلهية لا يكفر، فإن الله يقول‏:‏ ‏"‏ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم‏"‏ ‏(‏المجادلة، 7‏)‏، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ما ظنك باثنين الله ثالثهما‏"‏‏.‏ ثم قال ردا عليهم‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ‏}‏ ليصيبن ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏ خص الذين كفروا لعلمه أن بعضهم يؤمنون‏.‏

‏{‏أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ‏}‏‏؟‏ قال الفراء‏:‏ هذا أمر بلفظ الاستفهام كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فهل أنتم منتهون‏"‏ ‏(‏المائدة، 91‏)‏، أي‏:‏ انتهوا، والمعنى‏:‏ أن الله يأمركم بالتوبة والاستغفار من هذا الذنب العظيم، ‏{‏وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ‏}‏ مضت ‏{‏مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ‏}‏ أي‏:‏ ليس هو بإله بل هو كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة، ‏{‏وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ‏}‏ أي‏:‏ كثيرة الصدق‏.‏

وقيل‏:‏ سُميت صديقة لأنها صدقت بآيات الله، كما قال عز وجل في وصفها‏:‏ ‏"‏وصدقت بكلمات ربها‏"‏ ‏(‏التحريم، 12‏)‏، ‏{‏كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ‏}‏ أي‏:‏ كانا يعيشان بالطعام والغذاء كسائر الآدميين، فكيف يكون إلها من لا يقيمه إلا أكل الطعام‏؟‏

وقيل‏:‏ هذا كناية عن الحدث، وذلك أن من أكل وشرب لا بد له من البول والغائط، ومَنْ هذه صفته كيف يكون إلها‏؟‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏}‏ أي يُصرفون عن الحق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏75- 78‏]‏

‏{‏مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ‏(‏75‏)‏ قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏76‏)‏ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ‏(‏77‏)‏ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ‏(‏78‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ لا تتجاوزوا الحد، والغلو والتقصير كل واحد منهما مذموم في الدين، وقوله‏:‏ ‏{‏غَيْرَ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ في دينكم المخالف للحق، وذلك أنهم خالفوا الحق في دينهم، ثم غلوا فيه بالإصرار عليه، ‏{‏وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ‏}‏ والأهواء جمع الهوى وهو ما تدعو إليه شهوة النفس ‏{‏قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ يعني‏:‏ رؤساء الضلالة من فريقي اليهود والنصارى، والخطاب للذين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نهوا عن اتباع أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم ‏{‏وَأَضَلُّوا كَثِيرًا‏}‏ يعني‏:‏ من اتبعهم على أهوائهم ‏{‏وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ‏}‏ عن قصد الطريق، أي‏:‏ بالإضلال، فالضلال الأول من الضلالة، والثاني بإضلال من اتبعهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ‏}‏ يعني‏:‏ أهل أيلة لما اعتدوا في السبت، وقال داود عليه السلام‏:‏ اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة، ‏{‏وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ‏}‏ أي‏:‏ على لسان عيسى عليه السلام، يعني‏:‏ كفار أصحاب المائدة، لما لم يؤمنوا، قال عيسى‏:‏ اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا خنازير، ‏{‏ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ‏}‏ أي‏:‏ لا ينهى بعضهم بعضا ‏{‏لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي أنا أبو إسحاق الثعلبي أنا الحسن محمد بن الحسين أنا أحمد بن محمد بن إسحاق أنا أبو يعلى الموصلي أنا وهب بن بقية أنا خالد- يعني ابن عبد الله الواسطي- عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل إذا عمل العامل منهم الخطيئة نهاه الناهي تعذيرا فإذا كان من الغد جالسه وآكله وشاربه كأنه لم يره على الخطيئة بالأمس، فلما رأى الله تبارك وتعالى ذلك منهم ضرب قلوب بعضهم على بعض، وجعل منهم القردة والخنازير، ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم عليهما السلام ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا أو ليضربن الله قلوب بعضكم على بعض ويلعنكم كما لعنهم‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 81‏]‏

‏{‏كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏79‏)‏ تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ ‏(‏80‏)‏ وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ‏(‏81‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ‏}‏ قيل‏:‏ من اليهود كعب بن الأشرف وأصحابه، ‏{‏يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ مشركي مكة حين خرجوا إليهم يجيشون على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس ومجاهد والحسن‏:‏ منهم يعني من المنافقين يتولون اليهود، ‏{‏لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ بئس ما قدموا من العمل لمعادهم في الآخرة، ‏{‏أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ غضب الله عليهم، ‏{‏وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ‏}‏ محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ‏}‏ يعني القرآن، ‏{‏مَا اتَّخَذُوهُمْ‏}‏ يعني الكفار، ‏{‏أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ أي خارجون عن أمر الله سبحانه وتعالى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا‏}‏ يعني‏:‏ مشركي العرب، ‏{‏وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى‏}‏ لم يرد به جميع النصارى لأنهم في عداوتهم المسلمين كاليهود في قتلهم المسلمين وأسرهم وتخريب بلادهم وهدم مساجدهم وإحراق مصاحفهم، لا ولاء، ولا كرامة لهم، بل الآية فيمن أسلم منهم مثل النجاشي وأصحابه، وقيل‏:‏ نزلت في جميع اليهود وجميع النصارى، لأن اليهود أقسى قلبا والنصارى ألين قلبا منهم، وكانوا أقل مظاهرة للمشركين من اليهود‏.‏

قال أهل التفسير‏:‏ ائتمرت قريش أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم ويعذبونهم، فافتتن من افتتن، وعصم الله منهم من شاء، ومنع الله تعالى رسوله بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بأصحابه ولم يقدر على منعهم ولم يُؤمرْ بعدُ بالجهاد أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، وقال‏:‏ ‏"‏إن بها ملكا صالحا لا يَظلم ولا يُظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا‏"‏ وأراد به النجاشي، واسمه أصحمة وهو بالحبشة عطية، وإنما النجاشي اسم الملك، كقولهم قيصر وكسرى، فخرج إليهم سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، وهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة بنت سهيل بن عمرو، ومصعب بن عمير وأبو سلمة بن عبد الأسد وامرأته أم سلمة بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى بنت أبي حثمة وحاطب بن عمرو و سهل بن بيضاء رضي الله عنهم، فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الهجرة الأولى ثم خرج جعفر بن أبي طالب، وتتابع المسلمون إليها وكان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان‏.‏

فلما علمت قريش بذلك وجهوا عمرو بن العاص وصاحبه بالهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردوهم إليهم، فعصمه الله، وذُكرت القصة في سورة آل عمران‏.‏

فلما انصرفا خائبين، أقام المسلمون هناك بخير دار وأحسن جوار إلى أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلا أمره، وذلك في سنة ستة من الهجرة كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان- وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها فمات زوجها،- ويبعث إليه من عنده من المسلمين فأرسل النجاشي إلى أم حبيبة جارية يقال لها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، فأعطتها أوضاحا لها سرورا بذلك، فأذنت لخالد بن سعيد بن العاص حتى أنكحها على صداق أربعمائة دينار، وكان الخاطب لرسول الله صلى الله عليه وسلم النجاشي رحمه الله فأنفذ إليها النجاشي أربعمائة دينار على يد أبرهة، فلما جاءتها بها أعطتها خمسين دينارا فردته وقالت‏:‏ أمرني الملك أن لا آخذ منك شيئا، وقالت‏:‏ أنا صاحبة دهن الملك وثيابه، وقد صدَّقت محمدا صلى الله عليه وسلم وآمنت به، وحاجتي منك أن تقرئيه منك السلام، قالت نعم‏:‏ وقد أمر الملك نساءه أن يبعثن إليك بما عندهن من عود وعنبر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يراه عليها وعندها فلا ينكر‏.‏

قالت أم حبيبة‏:‏ فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، فخرج من خرج إليه وأقمت بالمدينة حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه وكان يسألني عن النجاشي فقرأت عليه من أبرهة السلام فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما السلام، وأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة‏"‏ يعني‏:‏ أبا سفيان مودة، يعني‏:‏ بتزويج أم حبيبة، ولما جاء أبا سفيان تزويج أم حبيبة، قال‏:‏ ذلك الفحل لا يُقرع أنفه‏.‏

وبعث النجاشي بعد قدوم جعفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابنه أزهى بن أصحمة بن أبجر في ستين رجلا من الحبشة، وكتب إليه‏:‏ يا رسول الله أشهد أنك رسول الله صادقا مصدقا وقد بايعتك وبايعت ابن عمك وأسملت لله رب العالمين، وقد بعثت إليك ابني أزهى، وإن شئت أن آتيك بنفسي فعلت والسلام عليك يا رسول الله، فركبوا سفينة في أثر جعفر وأصحابه حتى إذا كانوا في وسط البحر غرقوا، ووافى جعفر وأصحابه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعين رجلا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن وآمنوا، وقال‏:‏ آمنوا، وقالوا‏:‏ ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى عليه السلام، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية ‏{‏وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى‏}‏ يعني‏:‏ وفد النجاشي الذين قدموا مع جعفر وهم السبعون، وكانوا أصحاب الصوامع‏.‏

وقال مقاتل والكلبي كانوا أربعين رجلا اثنان وثلاثون من الحبشة، وثمانية روميون من أهل الشام‏.‏

وقال عطاء‏:‏ كانوا ثمانين رجلا أربعون من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، واثنان وثلاثون من الحبشة وثمانية روميون من أهل الشام‏.‏

وقال قتادة‏:‏ نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة من الحق مما جاء به عيسى عليه السلام، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم صدقوه وآمنوا به فأثنى الله عز وجل بذلك عليهم‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ‏}‏ أي علماء، قال قطرب‏:‏ القس والقسيس العالم بلغة الروم، ‏{‏وَرُهْبَانًا‏}‏ الرهبان العبّاد أصحاب الصوامع، واحدهم راهب، مثل فارس وفرسان، وراكب وركبان، وقد يكون واحدا وجمعه رهابين، مثل قربان وقرابين، ‏{‏وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ لا يتعظمون عن الإيمان والإذعان للحق‏.‏