فصل: تفسير الآيات رقم (27- 28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏27‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ‏}‏ قال السدي‏:‏ كانوا يسمعون الشيء من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفشونه، حتى يبلغ المشركين‏.‏

وقال الزهري والكلبي‏:‏ نزلت الآية في أبي لبابة، هارون بن عبد المنذر الأنصاري، من بني عوف بن مالك، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ، فأبوا وقالوا‏:‏ أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر، وكان مناصحا لهم، لأن ما له وولده وعياله كانت عندهم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآتاهم، فقالوا له‏:‏ يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ‏؟‏ فأشار أبو لبابة بيده على حلقة أنه الذبح، فلا تفعلوا، قال أبو لبابة‏:‏ والله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال‏:‏ والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره قال‏:‏ أما لو جاءني لاستغفرت له فأما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله عليه، فمكث سبعة أيام، لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه، فقيل له‏:‏ يا أبا لبابة قد تيب عليك، فقال‏:‏ لا والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاءه فحله بيده، ثم قال أبو لبابة‏:‏ يا رسول الله إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يجزيك الثلث فتصدق به‏"‏، فنزلت فيه ‏"‏لا تخونوا الله والرسول‏"‏‏.‏ ‏{‏وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ولا تخونوا أماناتكم ‏{‏وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ أنها أمانة‏.‏ وقيل‏:‏ وأنتم تعلمون أن ما فعلتم، من الإشارة إلى الحلق، خيانة‏.‏

قال السدي‏:‏ إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ لا تخونوا الله بترك فرائضه والرسول بترك سنته وتخونوا أمانتكم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله، والأعمال التي ائتمن الله عليها‏.‏

قال قتادة‏:‏ اعلموا أن دين الله أمانة فأدوا إلى الله عز وجل ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده، ومن كانت عليه أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها‏.‏

‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ‏}‏ قيل‏:‏ هذا أيضا في أبي لبابة، وذلك أن أمواله وأولاده كانوا في بني قريظة، فقال ما قال خوفا عليهم‏.‏

وقيل‏:‏ هذا في جميع الناس‏.‏ أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي- إملاء- وأخبرنا أبو بكر محمد بن محمد بن الحسن الطوسي، قالا حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الإسفراييني أنا محمد بن محمد بن رزمويه حدثنا يحيى بن محمد بن غالب، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بصبي فقبله وقال‏:‏ ‏"‏أما إنهم مبخلة مجبنة وإنهم لمن ريحان الله عز وجل‏"‏‏.‏

‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ‏}‏ لمن نصح الله ورسوله وأدى أمانته‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ‏(‏29‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ‏}‏ بطاعته وترك معصيته، ‏{‏يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ مخرجا في الدنيا والآخرة‏.‏

وقال مقاتل بن حيان‏:‏ مخرجا في الدين من الشبهات‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ نجاة أي يفرق بينكم وبين ما تخافون‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ بيانا‏.‏ وقال ابن إسحاق‏:‏ فصلا بين الحق والباطل يظهر الله به حقكم ويطفىء باطل من خالفكم‏.‏ والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان‏.‏ ‏{‏وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ‏}‏ يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم، ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ هذه الآية معطوفة على قوله ‏{‏وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ‏}‏ واذكر إذ يمكر بك الذين كفروا، وإذ قالوا اللهم، لأن هذه السورة مدنية وهذا المكر والقول إنما كانا بمكة، ولكن الله ذكرهم بالمدينة كقوله تعالى ‏"‏إلا تنصروه فقد نصره الله‏"‏ ‏(‏التوبة آية 40‏)‏ وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير‏:‏

أن قريشا فرقوا لما أسلمت الأنصار أن يتفاقم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة، ليتشاوروا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت رءوسهم‏:‏ عتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وأبو سفيان، وطعيمة بن عدي، وشيبة بن ربيعة، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام وزمعة بن الأسود، وحكيم بن حزام، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ، فلما رأوه قالوا‏:‏ من أنت‏؟‏ قال‏:‏ شيخ من نجد، سمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم، ولن تعدموا مني رأيا ونصحا، قالوا‏:‏ ادخل فدخل، فقال أبو البختري‏:‏ أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدا وتحبسوه في بيت، وتشدوا وثاقه، وتسدوا باب البيت غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه، كما هلك من كان قبله من الشعراء‏.‏ قال‏:‏ فصرخ عدوا الله الشيخ النجدي وقال‏:‏ بئس الرأي رأيتم والله لئن حبستموه في بيت فخرج أمره من وراء الباب الذي غلقتم دونه إلى أصحابه فيوشك أن يثبوا عليكم ويقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم، قالوا‏:‏ صدق الشيخ، فقال هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي‏:‏ أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير تخرجوه من أظهركم فلا يضركم ما صنع ولا أين وقع إذا غاب عنكم واسترحتم منه، فقال إبليس‏:‏ ما هذا لكم برأي تعتمدون عليه، تعمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ألم تروا إلى حلاوة منطقه وحلاوة لسانه وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه‏؟‏ والله لئن فعلتم ذلك ليذهبن وليستميل قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم فيخرجكم من بلادكم، قالوا‏:‏ صدق الشيخ‏:‏ فقال أبو جهل والله لأشيرن عليكم برأي ما أرى غيره إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابا نسيبا وسيطا فتيا ثم يعطى كل فتى منهم سيفا صارما، ثم يضربوه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها، وأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدي قريش ديته، فقال إبليس‏:‏ صدق هذا الفتى، وهو أجودكم رأيا، القول ما قال لا أرى رأيا غيره فتفرقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون له‏.‏ فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بذلك وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، وأذن الله له عند ذلك بالخروج إلى المدينة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب أن ينام في مضجعه وقال له‏:‏ تسيح ببردتي هذه فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه، ثم خرج النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ قبضة من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه فجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يقرأ‏:‏ ‏"‏إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا‏"‏ إلى قوله ‏"‏فهم لا يبصرون‏"‏ ‏(‏سورة يس 8- 9‏)‏ ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر، وخلف عليا بمكة حتى يؤدي عنه الودائع التي قبلها وكانت الودائع تودع عنده صلى الله عليه وسلم لصدقه وأمانته، وبات المشركون يحرسون عليا في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليا رضي الله عنه، فقالوا‏:‏ أين صاحبك‏؟‏ قال‏:‏ لا أدري، فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا‏:‏ لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاثا، ثم قدم المدينة، ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وإذ يمكر بك الذين كفروا‏"‏‏.‏

‏{‏لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ ليحبسوك ويسجنوك ويوثقوك، ‏{‏أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ يصنعون ويصنع الله، والمكر التدبير وهو من الله التدبير بالحق‏.‏ وقيل‏:‏ يجازيهم جزاء المكر ‏{‏وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا‏}‏ يعني النضر بن الحارث، ‏{‏قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا‏}‏ وذلك أنه كان يختلف تاجرا إلى فارس والحيرة فيسمع أخبار رستم واسفنديار، وأحاديث العجم ويمر باليهود والنصارى فيراهم يقرؤن التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون، فجاء إلى مكة فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي ويقرأ القرآن فقال النضر‏:‏ قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ‏{‏إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ‏}‏ أخبار الأمم الماضية وأسماؤهم وما سطر الأولون في كتبهم‏.‏ والأساطير‏:‏ جمع اسطورة، وهي المكتوبة، من قولهم سطرت أي كتبت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏32‏)‏ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ‏}‏ الآية نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدار‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية، قال النضر‏:‏ لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين- أي‏:‏ ما هذا إلا ما سطره الأولون في كتبهم- فقال له عثمان بن مظعون رضي الله عنه‏:‏ اتق الله فإن محمدا يقول الحق، قال‏:‏ فأنا أقول الحق، قال عثمان‏:‏ فإن محمدا يقول لا إله إلا الله، قال وأنا أقول لا إله إلا الله، ولكن هذه بنات الله، يعني الأصنام، ثم قال‏:‏ اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك- ‏"‏والحق‏"‏ نصب بخبر كان، وهو عماد وصلة- ‏{‏فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ كما أمطرتها على قوم لوط، ‏{‏أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ ببعض ما عذبت به الأمم، وفيه نزل‏:‏ ‏"‏سأل سائل بعذاب واقع‏"‏‏.‏ ‏(‏المعارج- 1‏)‏‏.‏‏.‏

وقال عطاء‏:‏ لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلاثة صبرا من قريش‏:‏ طعيمة بن عدي وعقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث‏.‏

وروى أنس رضي الله عنه أن الذي قاله أبو جهل‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا محمد بن النضر، ثنا عبيد الله بن معاذ، ثنا أبي، ثنا شعبة، عن عبد الحميد صاحب الزيادي، سمع أنس بن مالك قال‏:‏ قال أبو جهل‏:‏ اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلت‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ‏}‏ اختلفوا في معنى هذه الآية، فقال محمد بن إسحاق‏:‏ هذا حكاية عن المشركين أنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأولى، وذلك أنهم كانوا يقولون إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفره، ولا يعذب أمة ونبيها معها، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكر جهالتهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم‏:‏ ‏"‏وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك‏"‏ الآية، وقالوا ‏"‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏"‏ ثم قال ردا عليهم‏:‏ ‏"‏وما لهم ألا يعذبهم الله‏"‏‏؟‏ وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون ‏"‏وهم يصدون عن المسجد الحرام‏"‏‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ هذا كلام مستأنف يقول الله عز وجل إخبارا عن نفسه‏:‏ ‏"‏وما كان الله ليعذبهم‏"‏‏.‏

واختلفوا في تأويلها، فقال الضحاك وجماعة‏:‏ تأويلها وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم، قالوا‏:‏ أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة، ثم خرج من بين أظهرهم وبقيت بها بقية من المسلمين يستغفرون، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏"‏، ثم خرج أولئك من بينهم فعذبوا، وأذن الله في فتح مكة، فهو العذاب الذي وعدهم‏.‏

قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ لم يعذب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا ويلحق بحيث أمر‏.‏ فقال‏:‏ ‏"‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏"‏ يعني المسلمين فلما خرجوا قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وما لهم ألا يعذبهم الله‏"‏، فعذبهم الله يوم بدر‏.‏

وقال أبو موسى الأشعري‏:‏ كان فيكم أمانان ‏"‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم‏"‏، ‏"‏وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏"‏ فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى والاستغفار كائن فيكم إلى يوم القيامة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ هذا الاستغفار راجع إلى المشركين وذلك أنهم كانوا يقولون بعد الطواف‏:‏ غفرانك غفرانك‏.‏

وقال يزيد بن رومان‏:‏ قالت قريش إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء، فلما أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا غفرانك اللهم، فقال الله عز وجل ‏"‏وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏"‏‏.‏

وقال قتادة والسدي‏:‏ معناه‏:‏ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون، أي‏:‏ لو استغفروا، ولكنهم لم يكونوا يستغفرون، ولو أنهم أقروا بالذنب، واستغفروا، لكانوا مؤمنين‏.‏

وقيل‏:‏ هذا دعاء إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة، كالرجل يقول لغيره لا أعاقبك وأنت تطيعني، أي أطعني حتى لا أعاقبك‏.‏

وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ وهم يستغفرون أي يسلمون‏.‏ يقول‏:‏ لو أسلموا لما عذبوا‏.‏ وروى الوالبي عن ابن عباس‏:‏ أي وفيهم من سبق له من الله أن يسلم ويؤمن ويستغفر وذلك مثل‏:‏ أبي سفيان، وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو، وحكيم بن حزام وغيرهم‏.‏

وروى عبد الوهاب عن مجاهد‏:‏ وهم يستغفرون أي وفي أصلابهم من يستغفر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏34‏)‏ وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ وما يمنعهم من أن يعذبوا، يريد بعد خروجك من بينهم، ‏{‏وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ‏}‏ أي‏:‏ يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت‏.‏

وقيل‏:‏ أراد بالعذاب الأول عذاب الاستئصال، وأراد بقوله ‏"‏وما لهم أن ألا يعذبهم الله‏"‏ أي‏:‏ بالسيف‏.‏

وقيل‏:‏ أراد بالأول عذاب الدنيا، وبهذه الآية عذاب الآخرة‏.‏

وقال الحسن‏:‏ الآية الأولى وهي قوله‏:‏ ‏"‏وما كان الله ليعذبهم‏"‏ منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وما لهم ألا يعذبهم الله‏"‏‏.‏

‏{‏وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ‏}‏ قال الحسن‏:‏ كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام، فرد الله عليهم بقوله‏:‏ ‏"‏وما كانوا أولياءه‏"‏ أي‏:‏ أولياء البيت، ‏{‏إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ‏}‏ أي‏:‏ ليس أولياء البيت، ‏{‏إِلا الْمُتَّقُونَ‏}‏ يعني‏:‏ المؤمنين الذين يتقون الشرك، ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً‏}‏ قال ابن عباس والحسن‏:‏ المكاء‏:‏ الصفير، وهي في اللغة اسم طائر أبيض، يكون بالحجاز له صفير، كأنه قال‏:‏ إلا صوت مكاء، والتصدية التصفيق‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون‏.‏

قال مجاهد‏:‏ كل نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف، ويستهزءون به، ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون‏.‏ فالمكاء‏:‏ جعل الأصابع في الشدق‏.‏ والتصدية الصفير، ومنه الصدى الذي يسمعه المصوت في الجبل‏.‏

قال جعفر بن ربيعة‏:‏ سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن قوله عز وجل ‏"‏إلا مكاء وتصدية‏"‏ فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا‏.‏

قال مقاتل‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى في المسجد قام رجلان عن يمينه فيصفران ورجلان عن شماله فيصفقان ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، وهم من بني عبد الدار‏.‏

قال سعيد بن جبير‏:‏ التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام، وعن الدين، والصلاة‏.‏ وهي على هذا التأويل‏:‏ التصددة بدالين، فقلبت إحدى الدالين ياء، كما يقال تظنيت من الظن، وتقضى البازي إذا البازي كسر، أي تقضض البازي‏.‏ قال ابن الأنباري‏:‏ إنما سماه صلاة لأنهم أمروا بالصلاة في المسجد فجعلوا ذلك صلاتهم‏.‏ ‏{‏فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ليصرفوا عن دين الله‏.‏

قال الكلبي ومقاتل‏:‏ نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنى عشر رجلا أبو جهل بن هشام، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام، والنضر بن الحرث، وحكيم بن حزام، وأبي بن خلف، وزمعة بن الأسود، والحارث بن عامر بن نوفلُ والعباس بن عبد المطلب، وكلهم من قريش، كان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر‏.‏

وقال الحكم بن عيينة‏:‏ نزلت في أبي سفيان أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً‏}‏ يريد‏:‏ ما أنفقوا في الدنيا يصير حسرة عليهم في الآخرة، ‏{‏ثُمَّ يُغْلَبُونَ‏}‏ ولا يظفرون، ‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ منهم، ‏{‏إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ‏}‏ خص الكفار لأن منهم من أسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ‏(‏37‏)‏ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ‏}‏ في سبيل الشيطان ‏{‏مِنَ الطَّيِّبِ‏}‏ يعني‏:‏ الكافر من المؤمن فينزل المؤمن الجنان والكافر النيران‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ العمل الخبيث من العمل الصالح الطيب، فيثب على الأعمال الصالحة الجنة، وعلى الأعمال الخبيثة النار‏.‏

وقيل‏:‏ يعني‏:‏ الإنفاق الخبيث في سبيل الشيطان من الإنفاق الطيب في سبيل الله‏.‏

‏{‏وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ أي‏:‏ فوق بعض، ‏{‏فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ يجمعه ومنه السحاب المركوم، وهو المجتمع الكثيف، فيجعله في جهنم ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ رده إلى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ‏}‏‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ‏}‏ الذين خسرت تجارتهم، لأنهم اشتروا بأموالهم عذاب الآخرة‏.‏

‏{‏قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا‏}‏ عن الشرك ‏{‏يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ‏}‏ أي‏:‏ ما مضى من ذنوبهم قبل الإسلام، ‏{‏وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ‏}‏ في نصر الله أنبياءه وإهلاك أعدائه‏.‏ قال يحيى بن معاذ الرازي‏:‏ توحيد لم يعجز عن هدم ما قبله من كفر، أرجو أن لا يعجز عن هدم ما بعده من ذنب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39- 41‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏39‏)‏ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ‏(‏40‏)‏ وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏41‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ شرك‏.‏ قال الربيع‏:‏ حتى لا يفتن مؤمن عن دينه ‏{‏وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ويكون الدين خالصا لله لا شرك فيه، ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْا‏}‏ عن الكفر، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ قرأ يعقوب ‏"‏تعملون‏"‏ بالتاء، وقرأ الاخرون بالياء‏.‏

‏{‏وَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ عن الإيمان وعادوا إلى قتال أهله، ‏{‏فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ‏}‏ ناصركم ومعينكم، ‏{‏نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ الآية‏.‏ الغنيمة والفيء‏:‏ اسمان لمال يصيبه المسلمون من أموال الكفار‏.‏ فذهب جماعة إلى أنهما واحد، وذهب قوم إلى أنهما مختلفان‏:‏ فالغنيمة‏:‏ ما أصابه المسلمون منهم عنوة بقتال، والفيء‏:‏ ما كان عن صلح بغير قتال‏.‏ فذكر الله عز وجل في هذه الآية حكم الغنيمة فقال‏:‏ ‏"‏فأن لله خمسه وللرسول‏"‏‏.‏

ذهب أكثر المفسرين والفقهاء إلى أن قوله‏:‏ ‏"‏لله‏"‏ افتتاح كلام على سبيل التبرك وإضافة هذا المال إلى نفسه لشرفه، وليس المراد منه أن سهما من الغنيمة لله منفردا، فإن الدنيا والآخرة كلها لله عز وجل‏.‏ وهو قول الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم والشعبي، قالوا‏:‏ سهم الله وسهم الرسول واحد‏.‏ والغنيمة تقسم خمسة أخماس، أربعة أخماسها لمن قاتل عليها، والخمس لخمسة أصناف كما ذكر الله عز وجل، ‏"‏وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل‏"‏‏.‏

قال بعضهم‏:‏ يقسم الخمس على ستة أسهم، وهو قول أبي العالية، سهم لله‏:‏ فيصرف إلى الكعبة‏.‏ والأول أصح، أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم، سهم كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، واليوم هو لمصالح المسلمين وما فيه قوة الإسلام، وهو قول الشافعي رحمه الله‏.‏

وروى الأعمش عن إبراهيم قال‏:‏ كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هو للخليفة بعده‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس والخمس لأربعة أصناف‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَلِذِي الْقُرْبَى‏}‏ أراد أن سهما من الخمس لذوي القربى وهم أقارب النبي صلى الله عليه وسلم، واختلفوا فيهم، فقال قوم‏:‏ جميع قريش‏.‏ وقال قوم‏:‏ هم الذين لا تحل لهم الصدقة‏.‏

وقال مجاهد وعلي بن الحسين‏:‏ هم بنو هاشم‏.‏

وقال الشافعي‏:‏ هم بنو هاشم وبنو المطلب وليس لبني عبد شمس ولا لبني نوفل منه شيء، وإن كانوا إخوة، والدليل عليه ما‏:‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز أحمد الخلال، ثنا أبو العباس الأصم، أنبأنا الربيع، أنبأنا الشافعي، أنبأنا الثقة، عن ابن شهاب، عن ابن المسيب، عن جبير بن مطعم عن أبيه قال‏:‏ قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، ولم يعط منه أحدا من بني عبد شمس ولا بني نوفل شيئا‏.‏

وأخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، ثنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع أنا الشافعي، أنا مطرف بن مازن عن معمر بن راشد، عن ابن شهاب، أخبرني محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال‏:‏ لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا‏:‏ يا رسول الله هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم، أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا وشبك بين أصابعه‏"‏‏.‏

واختلف أهل العلم في سهم ذوي القربى هل هو ثابت اليوم‏؟‏‏.‏

فذهب أكثرهم إلى أنه ثابت، وهو قول مالك والشافعي‏.‏

وذهب أ صحاب الرأي إلى أنه غير ثابت، وقالوا‏:‏ سهم رسول الله وسهم ذوي القربى مردودان في الخمس، وخمس الغنيمة لثلاثة أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء‏.‏

والكتاب والسنة يدلان على ثبوته، والخلفاء بعد الرسول صلى الله عليه وسلم كانوا يعطونه، ولا يفضل فقير على غني لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله، فألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة، غير أنه يعطى القريب والبعيد‏.‏ وقال‏:‏ يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين والأنثى سهما واحدا‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَالْيَتَامَى‏}‏ وهو جمع اليتيم، واليتيم الذي له سهم في الخمس هو الصغير المسلم، الذي لا أب له، إذا كان فقيرا، ‏{‏وَالْمَسَاكِينِ‏}‏ هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين، ‏{‏وَابْنَ السَّبِيلِ‏}‏ هو المسافر البعيد عن ماله، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدوا الوقعة، للفارس منهم ثلاثة أسهم، وللراجل سهم واحد، لما‏:‏

أخبرنا أبو صالح أحمد بن عبد الملك المؤذن، أنا عبد الله بن يوسف أنا أبو سعيد بن الأعرابي ثنا سعدان بن نصر ثنا أبو معاوية عن عبيد الله عن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم‏:‏ سهما له وسهمين لفرسه‏"‏ وهذا قول أكثر أهل العلماء وإليه ذهب الثوري، والأوزاعي، ومالك، وابن المبارك، والشافعي وأحمد وإسحاق‏.‏

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه‏:‏ للفارس سهمان، وللراجل سهم واحد‏.‏

ويرضخ للعبيد والنسوان والصبيان إذا حضروا القتال، ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقول‏.‏ وعند أبي حنيفة‏:‏ يتخير الإمام في العقار‏:‏ بين أن يقسمه بينهم، وبين أن يجعله وقفا على المصالح‏.‏

وظاهر الآية لا يفرق بين العقار والمنقول‏.‏

ومن قتل مشركا في القتال يستحق سلبه من رأس الغنيمة، لما روي عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين‏:‏ ‏"‏من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه‏"‏‏.‏ والسلب‏:‏ كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح، وفرسه الذي هو راكبه‏.‏

ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة، لزيادة عناء وبلاء يكون منهم في الحرب، يخصهم به من بين سائر الجيش ويجعله أسوة الجماعة في سهمان الغنيمة‏:‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا يحيى بن بكير، ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن سالم عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة، سوى قسم عامة الجيش‏.‏

وروي عن حبيب بن مسلمة الفهري، قال‏:‏ شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة‏.‏

واختلفوا في أن النفل من أين يعطى‏؟‏ فقال قوم‏:‏ من خمس الخمس، سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول سعيد بن المسيب، وبه قال الشافعي، وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم‏"‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ هو من الأربعة الأخماس بعد إفراز الخمس كسهام الغزاة، وهو قول أحمد وإسحاق‏.‏

وذهب بعضهم إلى أن النفل من رأس الغنيمة قبل الخمس كالسلب للقاتل‏.‏ وأما الفيء‏:‏ وهو ما أصابه المسلمون من أموال الكفار بغير إيجاف خيل ولا ركاب، بأن صالحهم على مال يؤدونه، ومال الجزية، وما يؤخذ من أموالهم إذا دخلوا دار الإسلام للتجارة، أو يموت واحد منهم في دار الإسلام ولا وارث له، فهذا كله فيء‏.‏

ومال الفيء كان خالصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، قال عمر رضي الله عنه‏:‏ إن الله قد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الفيء بشيء لم يعطه أحدا غيره ثم قرأ‏:‏ ‏"‏وما أفاء الله على رسوله منهم‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏قدير‏"‏ ‏"‏الحشر- 6‏"‏، وكانت هذه خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينفق على أهله وعياله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال الله عز وجل‏.‏

واختلف أهل العلم في مصرف الفيء بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال قوم‏:‏ هو للأئمة بعده‏.‏ وللشافعي فيه قولان‏:‏ أحدهما، للمقاتلة الذين أثبتت أساميهم في ديوان الجهاد، لأنهم القائمون مقام النبي صلى الله عليه وسلم في إرهاب العدو‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أنه لمصالح المسلمين، ويبدأ بالمقاتلة فيعطون منه كفايتهم، ثم بالأهم فالأهم من المصالح‏.‏

واختلف أهل العلم في تخميس الفيء‏:‏ فذهب الشافعي إلى أنه يخمس خمسه لأهل الغنيمة، على خمسة أسهم‏.‏ وأربعة أخماسه للمقاتلة وللمصالح‏.‏

وذهب الأكثرون‏:‏ إلى أن الفيء لا يخمس، بل مصرف جميعه واحد، ولجميع المسلمين فيه حق‏:‏

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز، أنا محمد بن زكريا العذافري، أنا إسحاق الدبري، ثنا عبد الرزاق، ثنا معمر، عن الزهري، عن مالك بن أوس بن الحدثان‏:‏ أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول‏:‏ ‏"‏ما على وجه الأرض مسلم إلا له في هذا الفيء حق، إلا ما ملكت أيمانكم‏"‏‏.‏

وأخبرنا أبو سعيد الطاهري أنبأنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزاز أنبأنا محمد بن زكريا العذافري أنبأنا أبو إسحاق الدبري ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب عن عكرمة بن خالد عن مالك بن أوس بن الحدثنان قال‏:‏ قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ‏"‏إنما الصدقات للفقراء والمساكين‏"‏ حتى بلغ ‏"‏عليم حكيم‏"‏ ‏"‏التوبة- 60‏"‏ فقال‏:‏ هذه لهؤلاء ثم قرأ‏:‏ ‏"‏واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه‏"‏ حتى بلغ ‏"‏وابن السبيل‏"‏، ثم قال‏:‏ هذه لهؤلاء، ثم قرأ ‏"‏ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى‏"‏ حتى بلغ ‏"‏للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا‏"‏ ‏"‏الحشر- 7- 9‏"‏ ثم قال‏:‏ هذه استوعبت المسلمين عامة، فلئن عشت، فليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه منها، لم يعرق فيها جبينه‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ‏}‏ قيل‏:‏ أراد ‏"‏اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول‏"‏ يأمر فيه بما يريد، فاقبلوه إن كنتم آمنتم بالله ‏{‏وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا‏}‏ أي‏:‏ إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا، يعني‏:‏ قوله‏:‏ ‏"‏يسألونك عن الأنفال‏"‏ ‏{‏يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏ يعني يوم بدر، فرق الله بين الحق والباطل وهو ‏{‏يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ‏}‏ حزب الله وحزب الشيطان، وكان يوم الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان، ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ على نصركم مع قلتكم وكثرتهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏42‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِذْ أَنْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ إذ أنتم نزول يا معشر المسلمين، ‏{‏بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا‏}‏ أي‏:‏ بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة، والدنيا‏.‏ تأنيث الأدنى، ‏{‏وَهُمْ‏}‏ يعني عدوكم من المشركين، ‏{‏بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى‏}‏ بشفير الوادي الأقصى من المدينة، والقصوى تأنيث الأقصى‏.‏

قرأ ابن كثير وأهل البصرة ‏"‏بالعدوة‏"‏ بكسر العين فيهما، والباقون بضمهما، وهما لغتان كالكسوة والكسوة والرشوة والرشوة‏.‏ ‏{‏وَالرَّكْبُ‏}‏ يعني‏:‏ العير يريد أبا سفيان وأصحابه، ‏{‏أَسْفَلَ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر، على ثلاثة أميال من بدر، ‏{‏وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ‏}‏ وذلك أن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها، فالتقوا على غير ميعاد، فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد‏"‏، لقلتكم وكثرة عدوكم، ‏{‏وَلَكِنّ‏}‏ الله جمعكم على غير ميعاد، ‏{‏لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا‏}‏ من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه، ‏{‏لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ‏}‏ أي‏:‏ ليموت من يموت على بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه‏.‏ ‏{‏وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ‏}‏ ويعيش من يعيش على بينة لوعده‏:‏ ‏"‏وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا‏"‏ ‏"‏الإسراء- 15‏)‏‏.‏ وقال محمد بن إسحاق‏:‏ معناه ليكفر من كفر بعد حجة قامت عليه، ويؤمن من آمن على مثل ذلك، فالهلاك هو الكفر، والحياة هي الإيمان‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ليضل من ضل عن بينة، ويهدي من اهتدى على بينة‏.‏

قرأ أهل الحجاز وأبو بكر ويعقوب‏:‏ ‏"‏حيي‏"‏ ببائين، مثل ‏"‏خشي‏"‏ وقرأ الآخرون‏:‏ بياء واحدة مشددة، لأنه مكتوب بياء واحدة‏.‏

‏{‏وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ‏}‏ لدعائكم، ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ بنياتكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43- 44‏]‏

‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏43‏)‏ وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ‏(‏44‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ‏}‏ يريك يا محمد المشركين، ‏{‏فِي مَنَامِكَ‏}‏ أي‏:‏ نومك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ في منامك أي في عينك، لأن العين موضع النوم، ‏{‏قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ‏}‏ لجبنتم ‏{‏وَلَتَنَازَعْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ اختلفتم ‏{‏فِي الأمْرِ‏}‏ أي‏:‏ في الاحجام والإقدام، ‏{‏وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ‏}‏ أي سلمكم من المخالفة والفشل، ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ علم ما في صدوركم من الحب لله عز وجل‏:‏

‏{‏وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن العدو قليل قبل لقاء العدو، وأخبر أصحابه بما رأى، فلما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين المؤمنين‏.‏

قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين‏؟‏ قال‏:‏ أراهم مائة، فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم‏؟‏ قال‏:‏ ألفا‏.‏

‏{‏وَيُقَلِّلُكُمْ‏}‏ يا معشر المؤمنين ‏{‏فِي أَعْيُنِهِمْ‏}‏ قال السدي‏:‏ قال ناس من المشركين‏:‏ إن العير قد انصرفت فارجعوا، فقال أبو جهل‏:‏ الآن إذا برز لكم محمد وأصحابه‏؟‏ فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم، إنما محمد وأصحابه أكلة جزور، فلا تقتلوهم، واربطوهم بالحبال- يقوله من القدرة التي في نفسه-‏:‏ قال الكلبي‏:‏ استقل بعضهم بعضا ليجترؤا على القتال، فقلل المشركين في أعين المؤمنين لكي لا يجبنوا، وقلل المؤمنين في أعين المشركين لكي لا يهربوا، ‏{‏لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا‏}‏ من إعلاء الإسلام وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله‏.‏ ‏{‏كَانَ مَفْعُولا‏}‏ كائنا، ‏{‏وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 46‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏45‏)‏ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً‏}‏ أي‏:‏ جماعة كافرة ‏{‏فَاثْبُتُوا‏}‏ لقتالهم، ‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا‏}‏ أي‏:‏ ادعوا الله بالنصر والظفر بهم، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ‏}‏ أي‏:‏ كونوا على رجاء الفلاح‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا‏}‏ لا تختلفوا، ‏{‏فَتَفْشَلُوا‏}‏ أي‏:‏ تجبنوا وتضعفوا، ‏{‏وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ نصرتكم‏.‏ وقال السدي‏:‏ جراءتكم وجدكم‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ حدتكم‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ قوتكم‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ دولتكم‏.‏ والريح ها هنا كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد، تقول العرب‏:‏ هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد‏.‏

قال قتادة وابن زيد‏:‏ هو ريح النصر لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله عز وجل تضرب وجوه العدو‏.‏

ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور‏"‏‏.‏

وعن النعمان بن مقرن قال‏:‏ شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا عبد الله بن محمد، ثنا معاوية بن عمرو، ثنا أبو إسحاق، عن موسى بن عقبة، عن سالم أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله وكان كاتبا له قال‏:‏ كتب إليه عبد الله بن أبي أوفى فقرأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، انتظر حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس فقال‏:‏ ‏"‏يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف‏"‏، ثم قال‏:‏ اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 48‏]‏

‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ‏(‏47‏)‏ وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏48‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا‏}‏ فخرا وأشرا، ‏{‏وَرِئَاءَ النَّاسِ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ البطر الطغيان في النعمة وترك شكرها، والرياء‏:‏ إظهار الجميل ليرى وإبطان القبيح، ‏{‏وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغي وفخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادلك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني‏"‏، قالوا‏:‏ لما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجاها الله، فارجعوا، فقال أبو جهل‏:‏ والله لا نرجع حتى نرد بدرا، وكان بدر موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام، فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا، فوافوها فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان، فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النية والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ وكان تزيينه أن قريشا لما اجتمعت للسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر من الحرب، فكاد ذلك أن يثنيهم فجاء إبليس في جند من الشياطين معه رايته، فتبدى لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، ‏{‏وَقَالَ‏}‏ لهم ‏{‏لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ مجير لكم من كنانة، ‏{‏فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ‏}‏ أي التقى الجمعان رأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء علم أنه لا طاقة له بهم، ‏{‏نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ‏}‏ قال الضحاك‏:‏ ولى مدبرا‏.‏ وقال النضر بن شميل‏:‏ رجع القهقرى على قفاه هاربا‏.‏ قال الكلبي‏:‏ لم التقوا كان إبليس في صف المشركين على صورة سراقة آخذا بيد الحارث بن هشام، فنكص على عقبيه، فقال له الحارث‏:‏ أفرارا من غير قتال‏؟‏ فجعل يمسكه فدفع في صدره وانطلق وانهزم الناس، فلما قدموا مكة قالوا هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة، فقال‏:‏ بلغني أنكم تقولون‏:‏ إني هزمت الناس، فوالله ما شعرت بمسيركم، حتى بلغني هزيمتكم‏!‏ فقالوا‏:‏ أما أتيتنا في يوم كذا‏؟‏ فحلف لهم‏.‏ فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان‏.‏

قال الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ‏}‏ قال‏:‏ رأى إبليس جبريل متعجرا ببرد يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يده اللجام يقود الفرس، ما ركب‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كان إبليس يقول‏:‏ إني أرى ما لا ترون وصدق‏.‏ وقال ‏{‏إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ‏}‏ وكذب والله ما به من مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة به ولا منعة فأوردهم وأسلمهم، وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه، إذا التقى الحق والباطل أسلمهم وتبرأ منهم‏.‏

وقال عطاء‏:‏ إني أخاف الله أن يهلكني فيمن يهلك‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ خاف أن يأخذه جبريل عليه السلام ويعرف حاله فلا يطيعوه‏.‏

وقيل‏:‏ معناه إني أخاف الله أي أعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمره‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏ وقيل‏:‏ معناه إني أخاف الله عليكم والله شديد العقاب‏.‏ وقيل‏:‏ انقطع الكلام عند قوله أخاف الله ثم يقول الله‏:‏ والله شديد العقاب‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن إبراهيم بن أبي علية، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة، وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام، إلا ما كان من يوم بدر‏"‏، فقيل‏:‏ وما رأى يوم بدر‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏أما إنه قد رأى جبريل عليه السلام وهو يزع الملائكة‏"‏‏.‏ هذا حديث مرسل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49- 50‏]‏

‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ‏(‏50‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ شك ونفاق، ‏{‏غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ غر المؤمنين دينهم، هؤلاء قوم كانوا مستضعفين بمكة قد أسلموا، وحبسهم أقرباؤهم من الهجرة، فلما خرجت قريش إلى بدر، أخرجوهم كرها، فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا، وقالوا‏:‏ غر هؤلاء دينهم، فقتلوا جميعا، منهم‏:‏ قيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف الجمحي، والعاص بن منبه بن الحجاج‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به، ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ‏}‏ قوي يفعل بأعدائه ما يشاء، ‏{‏حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى‏}‏ يا محمد، ‏{‏إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ يقبضون أرواحهم‏.‏ اختلفوا فيه، قيل‏:‏ هذا عند الموت، تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم بسياط النار‏.‏

وقيل‏:‏ أراد الذين قتلوا من المشركين ببدر كانت الملائكة يضربون، ‏{‏وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ‏}‏ قال سعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ يريد أستاههم، ولكن الله حيي يكني‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف، وإذا ولو أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ يريد ما أقبل منهم وما أدبر، أي‏:‏ يضربون أجسادهم كلها، والمراد بالتوفي‏:‏ القتل‏.‏ ‏{‏وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ‏}‏ أي‏:‏ وتقول لهم الملائكة‏:‏ ذوقوا عذاب الحريق‏.‏ وقيل‏:‏ كان مع الملائكة مقامع من حديد يضربون بها الكفار، فتلتهب النار في جراحاتهم، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وذوقوا عذاب الحريق‏"‏‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هذا يوم القيامة تقول لهم خزنة جهنم‏:‏ ذوقوا عذاب الحريق‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يقولون لهم ذلك بعد الموت‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 54‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏51‏)‏ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏52‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏53‏)‏ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ ذلك الضرب الذي وقع بكم، ‏{‏بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ‏}‏ أي‏:‏ بما كسبت أيديكم، ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏‏.‏

‏{‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏ كفعل آل فرعون وصنيعهم وعادتهم، معناه‏:‏ أن عادة هؤلاء في كفرهم كعادة آل فرعون‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو أن آل فرعون أيقنوا أن موسى نبي من الله فكذبوه، كذلك هؤلاء جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم بالصدق فكذبوه، فأنزل الله بهم عقوبة كما أنزل بآل فرعون‏.‏ ‏{‏وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ‏{‏كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ‏}‏ أراد‏:‏ أن الله تعالى لا يغير ما أنعم على قوم حتى يغيروا هم ما بهم، بالكفران وترك الشكر، فإذا فعلوا ذلك غير الله ما بهم، فسلبهم النعمة‏.‏

وقال السدي‏:‏ نعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على قريش وأهل مكة، فكذبوه وكفروا به فنقله الله إلى الأنصار، ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏ كصنع آل فرعون، ‏{‏وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ من كفار الأمم، ‏{‏كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالمسخ وبعضهم بالريح وبعضهم بالغرق، فكذلك أهلكنا كفار بدر بالسيف، لما كذبوا بآيات ربهم، ‏{‏وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الأولين والآخرين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏55- 58‏]‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ‏(‏55‏)‏ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ ‏(‏56‏)‏ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏57‏)‏ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ‏(‏58‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ قال الكلبي ومقاتل‏:‏ يعني يهود بني قريظة، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه‏.‏

‏{‏الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ‏}‏ يعني عاهدتهم وقيل‏:‏ أي‏:‏ عاهدت معهم‏.‏ وقيل أدخل ‏"‏من‏"‏ لأن معناه‏:‏ أخذت منهم العهد، ‏{‏ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ‏}‏ وهم بنو قريظة، نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قالوا‏:‏ نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية، فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة، فوافقهم على مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَهُمْ لا يَتَّقُونَ‏}‏ لا يخافون الله تعالى في نقض العهد‏.‏

‏{‏فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ‏}‏ تجدنهم، ‏{‏فِي الْحَرْبِ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ إن أدركتهم في الحرب وأسرتهم، ‏{‏فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فنكل بهم من ورائهم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ أنذر بهم من خلفهم‏.‏ وأصل التشريد‏:‏ التفريق والتبديد، معناه فرق بهم جمع كل ناقض، أي‏:‏ افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وجاءوا لحربك فعلا من القتل والتنكيل، يفرق منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ يتذكرون ويعتبرون فلا ينقضون العهد‏.‏

‏{‏وَإِمَّا تَخَافَنَّ‏}‏ أي‏:‏ تعلمن يا محمد، ‏{‏مِنْ قَوْمٍ‏}‏ معاهدين، ‏{‏خِيَانَةً‏}‏ نقض عهد بما يظهر لكم منهم آثار الغدر كما ظهر من قريظة والنضير، ‏{‏فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ‏}‏ فاطرح إليهم عهدهم، ‏{‏عَلَى سَوَاءٍ‏}‏ يقول‏:‏ أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ‏}‏‏.‏

أخبرنا محمد بن الحسن المروزي، أنا أبو سهل محمد بن عمر بن طرفة السجزي، أنا أبو سليمان الخطابي أنا أبو بكر محمد بن بكر بن محمد بن عبد الرزاق بن داسة التمار، ثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، ثنا حفص بن عمر النمري، ثنا شعبة عن أبي الفيض عن سليم بن عامر عن رجل من حمير قال‏:‏ كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس وهو يقول‏:‏ الله أكبر الله أكبر، وفاء لا غدر، فنظر فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء‏"‏‏.‏ فرجع معاوية رضي الله عنه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏59- 60‏]‏

‏{‏وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ ‏(‏59‏)‏ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا‏}‏ قرأ أبو جعفر وابن عامر وحمزة وحفص ‏"‏يحسبن‏"‏ بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء، ‏"‏سبقوا‏"‏ أي‏:‏ فأتوا، نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين‏.‏ فمن قرأ بالياء يقول ‏"‏لا يحسبن الذين كفروا‏"‏ أنفسهم سابقين فائتين في عذابنا، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب‏.‏ قرأ ابن عامر‏:‏ ‏{‏إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ‏}‏ بفتح الألف، أي‏:‏ لأنهم لا يعجزون، ولا يفوتونني‏.‏ وقرأ الآخرون بكسر الألف على الابتداء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ‏}‏ الإعداد‏:‏ اتخاذ الشيء لوقت الحاجة‏.‏ ‏{‏مِنْ قُوَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ من الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاك‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنا محمد بن عيسى الجلودي، ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم بن الحجاج ثنا هارون بن معروف ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبي علي، ثمامة بن شفي أنه سمع عقبة بن عامر يقول‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، وهو على المنبر‏:‏ ‏"‏وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي‏"‏‏.‏

وبهذا الإسناد قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ‏"‏ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله عز وجل فلا يعجز أحدكم أن يلهو بأسهمه‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا أبو نعيم، ثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عن حمزة بن أبي أسيد عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا‏:‏ ‏"‏إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، ثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، ثنا حميد بن زنجويه، ثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، ثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن أبي نجيح السلمي قال‏:‏ حاصرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الطائف فسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة‏"‏، قال‏:‏ فبلغت يومئذ ستة عشر سهما‏.‏ وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو الحسين علي بن محمد بن بشران، أنا إسماعيل بن محمد الصفار، ثنا أحمد بن منصور الرمادي، ثنا عبد الرزاق، أنا معمر، عن يحيى بن كثير، عن زيد بن سلام، عن عبد الله بن زيد بن الأزرق عن عقبة بن عامر الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة‏:‏ صانعه، والممد به، والرامي به في سبيل الله‏"‏‏.‏

وروي عن خالد بن زيد عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة‏:‏ صانعه يحتسب في صنعته الخير، والرامي به ومنبله، وارموا واركبوا، وإن ترموا أحب إلي من أن تركبوا، كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق‏.‏ ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنه نعمة تركها أو قال كفرها‏"‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ‏}‏ يعني‏:‏ ربطها واقتناؤها للغزو‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ القوة الحصون ومن رباط الخيل الإناث‏.‏ وروي عن خالد بن الوليد أنه كان لا يركب في القتال إلا الإناث لقلة صهيلها‏.‏ وعن أبي محيريز قال‏:‏ كان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون ذكور الخيل عند الصفوف وإناث الخيل عند البيات والغارات‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا أبو نعيم، ثنا زكريا عن عامر، ثنا عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، الأجر والمغنم‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، ثنا محمد بن إسماعيل، ثنا علي بن حفص، ثنا ابن المبارك، ثنا طلحة بن أبي سعيد قال‏:‏ سمعت سعيدا المقبري يحدث أنه سمع أبا هريرة يقول‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا وتصديقا بوعده، فإن شبعه، وريه، وروثه، وبوله في ميزانه يوم القيامة‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي، أنبأنا أبو مصعب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الخيل ثلاثة‏:‏ لرجل أجر، ولرجل ستر، وهي لرجل وزر، فأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله، فأطال لها في مرج أو روضة فما أصابت في طيلها من ذلك المرج أو الروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت طيلها ذلك فاستنت شرفا أو شرفين، كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه، ولم يرد أن يسقيها كان ذلك له حسنات، فهي لذلك الرجل أجر، وأما التي هي له ستر‏:‏ فرجل ربطها تغنيا وتعففا، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر، وأما التي هي له وزر‏:‏ فرجل ربطها فخرا ورياء، ونواء لأهل الإسلام، فهي على ذلك وزر‏"‏ وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر فقال‏:‏ ‏"‏ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة‏:‏ ‏"‏فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره‏"‏ ‏{‏تُرْهِبُونَ بِهِ‏}‏ تخوفون ‏{‏عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ‏}‏ أي‏:‏ وترهبون آخرين، ‏{‏مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ‏}‏ قال مجاهد ومقاتل وقتادة‏:‏ هم بنو قريظة‏.‏ وقال السدي‏:‏ هم أهل فارس‏.‏ وقال الحسن وابن زيد‏:‏ هم المنافقون، لا تعلمونهم، لأنهم معكم يقولون‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ هم كفار الجن‏.‏

‏{‏وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ‏}‏ يوفى لكم أجره، ‏{‏وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ‏}‏ لا تنقص أجوركم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 64‏]‏

‏{‏وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏61‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏62‏)‏ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏63‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏64‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ‏}‏ أي‏:‏ مالوا إلى الصلح، ‏{‏فَاجْنَحْ لَهَا‏}‏ أي‏:‏ مل إليها وصالحهم‏.‏ روي عن قتادة والحسن‏:‏ أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏"‏ ‏"‏براءة- 5‏"‏ ‏{‏وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏}‏ ‏!‏ ثم بالله، ‏{‏إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ‏}‏ يغدروا ويمكروا بك‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعني بني قريظة‏.‏ ‏{‏فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ‏}‏ كافيك الله، ‏{‏هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ بالأنصار‏.‏

‏{‏وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بين الأوس والخزرج، كانت بينهم إحن وثارات في الجاهلية، فصيرهم الله إخوانا بعد أن كانوا أعداء، ‏{‏لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ أسلم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة، ثم أسلم عمر بن الخطاب فتم به الأربعون، فنزلت هذه الآية‏.‏

واختلفوا في محل ‏"‏من‏"‏ فقال أكثر المفسرين محله خفض، عطفا على الكاف في قوله‏:‏ ‏"‏حسبك الله‏"‏ وحسب من اتبعك، وقال بعضهم‏:‏ هو رفع عطفا على اسم الله معناه‏:‏ حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏65- 67‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ‏(‏65‏)‏ الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ‏(‏66‏)‏ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏67‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ‏}‏ أي‏:‏ حثهم على القتال‏.‏

‏{‏إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ‏}‏ رجلا ‏{‏صَابِرُونَ‏}‏ محتسبون، ‏{‏يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ‏}‏ من عدوهم يقهروهم، ‏{‏وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ‏}‏ صابرة محتسبة، ‏{‏يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ ذلك ‏{‏بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ أي‏:‏ إن المشركون يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، ولا يثبتون إذا صدقتموهم القتال، خشية أن يقتلوا‏.‏ وهذا خبر بمعنى الأمر، وكان هذا يوم بدر فرض الله على الرجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين، فثقلت على المؤمنين، فخفف الله عنهم، فنزل‏:‏

‏{‏الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا‏}‏ أي‏:‏ ضعفا في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف، وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏"‏ضعفاء‏"‏ بفتح العين والمد على الجمع، وقرأ الآخرون بسكون العين، ‏{‏فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ‏}‏ من الكفار، ‏{‏وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ فرد من العشرة إلى الاثنين، فإن كان المسلمون على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا‏.‏

وقال سفيان قال ابن شبرمة‏:‏ وأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا‏.‏

قرأ أهل الكوفة‏:‏ ‏"‏وإن يكن منكم مائة‏"‏، بالياء فيهما وافق أهل البصرة في الأول والباقون بالتاء فيهما‏.‏ وقرأ عاصم وحمزة ‏"‏ضعفاء‏"‏ بفتح الضاد هاهنا وفي سورة الروم، والباقون بضمها‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى‏}‏ قرأ أبو جعفر وأهل البصرة‏:‏ ‏"‏تكون‏"‏ بالتاء والباقون بالياء، وقرأ أبو جعفر‏:‏ ‏"‏أسارى‏"‏، والآخرون‏.‏ ‏"‏أسرى‏"‏‏.‏

وروى الأعمش عن عمر بن مرة عن أبي عبيد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما تقولون في هؤلاء‏"‏‏؟‏ فقال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله قومك وأهلك فاستبقهم واستأن بهم، لعل الله أن يتوب عليهم، وخذ منهم فدية، تكون لنا قوة على الكفار، وقال عمر رضي الله عنه‏:‏ يا رسول الله كذبوك وأخرجوك قدمهم نضرب أعناقهم، مكن عليا من عقيل فيضرب عنقه، ومكني من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر، وقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأدخلهم فيه ثم أضرم عليهم نارا‏.‏ فقال له العباس‏:‏ قطعت رحمك‏.‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، ثم دخل، فقال ناس‏:‏ يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس‏:‏ يأخذ بقول عمر، وقال ناس‏:‏ يأخذ بقول ابن رواحة، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ‏"‏إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال‏:‏ ‏"‏فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم‏"‏

‏"‏إبراهيم- 36‏"‏، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى حيث قال‏:‏ ‏"‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏"‏ ‏"‏المائدة- 118‏"‏، وإن مثلك يا عمر مثل نوح حيث قال‏:‏ ‏"‏رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا‏"‏ ‏"‏نوح- 26‏"‏، ومثل موسى قال‏:‏ ‏"‏ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم‏"‏ ‏"‏يونس- 88‏"‏، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أنتم اليوم عالة فلا يفلتن منهم أحد إلا بفداء أو ضرب عنق‏"‏، قال عبد الله ابن مسعود إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع علي الحجارة من السماء من ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إلا سهيل بن بيضاء‏"‏‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ قال عمر بن الخطاب فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان قلت‏:‏ يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أبكي للذي عرض علي أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة، لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا‏"‏ ‏"‏الأنفال 67- 69‏"‏ فأحل الله الغنيمة لهم‏.‏ بقوله‏:‏ ‏"‏له أسرى‏"‏ جمع أسير مثل قتلى وقتيل‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ يبالغ في قتال المشركين وأسرهم، ‏{‏تُرِيدُونَ‏}‏ أيها المؤمنون ‏{‏عَرَضَ الدُّنْيَا‏}‏ بأخذكم الفداء، ‏{‏وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ‏}‏ يريد لكم ثواب الآخرة بقهركم المشركين ونصر دين الله عز وجل، ‏"‏والله عزيز حكيم‏"‏‏.‏

وكان الفداء لكل أسير أربعين أوقية، والأوقية أربعون درهما‏.‏

قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله في الأسارى ‏"‏فإما منا بعد وإما فداء‏"‏، ‏"‏محمد- 4‏"‏ فجعل الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استبعدوهم، وإن شاءوا فادوهم، وإن شاءوا أعتقوهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏68- 69‏]‏

‏{‏لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ‏(‏68‏)‏ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏69‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كانت الغنائم حراما على الأنبياء والأمم فكانوا إذا أصابوا شيئا من الغنائم جعلوه للقربان، فكانت تنزل نار من السماء فتأكله، فلما كان يوم بدر أسرع المؤمنون في الغنائم وأخذوا الفداء، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏لولا كتاب من الله سبق‏"‏ يعني لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنه يحل لكم الغنائم‏.‏

وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ لولا كتاب من الله سبق أنه لا يعذب أحدا ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ لولا كتاب من الله سبق أنه لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، وأنه لا يأخذ قوما فعلوا أشياء بجهالة ‏{‏لَمَسَّكُمْ‏}‏ لنا لكم وأصابكم، ‏{‏فِيمَا أَخَذْتُمْ‏}‏ من الفداء قبل أن تؤمروا به، ‏{‏عَذَابٌ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ لم يكن من المؤمنين أحد ممن أحضر إلا حب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال‏:‏ يا رسول الله كان الإثخان في القتل أحب إلي من استبقاء الرجال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ‏"‏‏.‏

فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزل‏:‏ ‏{‏فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ‏}‏ الآية‏.‏ وروينا عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي‏"‏‏.‏

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي، أنا أبو طاهر الزيادي، أنا محمد بن الحسين القطان، ثنا أحمد بن يوسف السلمي، ثنا عبد الرزاق، أنبأنا معمر عن همام، ثنا أبو هريرة قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏"‏لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا، وذلك بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏70- 71‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏70‏)‏ وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏71‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى‏}‏ قرأ أبو عمرو وأبو جعفر‏:‏ ‏"‏من الأسارى‏"‏ بالألف، والباقون بلا ألف‏.‏

نزلت في العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وكأن أسر يوم بدر، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر، وكان يوم بدر نوبته، وكان خرج بعشرين أوقية من الذهب ليطعم بها الناس، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرون أوقية معه، فأخذت منه في الحرب، فكلم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحتسب العشرين أوقية من فدائه فأبى وقال‏:‏ ‏"‏أما شيء خرجت تستعين به علينا فلا أتركه لك‏"‏ وكلف فداء ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث، فقال العباس‏:‏ يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها‏:‏ إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله ولعبيد الله وللفضل وقثم‏"‏، يعني نبيه، فقال له العباس‏:‏ وما يدريك‏؟‏ قال‏:‏ أخبرني به ربي عز وجل، قال العباس‏:‏ أشهد أنك صادق‏!‏ وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله، ولم يطلع عليه أحد إلا الله عز وجل، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى‏"‏ الذين أخذت منهم الفداء، ‏{‏إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا‏}‏ أي إيمانا، ‏{‏يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ‏}‏ من الفداء، ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏}‏ ذنوبكم ‏{‏وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ قال العباس رضي الله عنه فأبدلني الله عنها عشرين عبدا كلهم تاجر يضرب بمال كثير وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان عشرين أوقية، وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال أهل مكة، وأنا أنتظر المغفرة من ربي عز وجل‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ‏}‏ يعني الأسارى، ‏{‏فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ‏}‏ ببدر، ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ قال ابن جريج‏:‏ أراد بالخيانة الكفر، أي‏:‏ إن كفروا بك فقد كفروا بالله من قبل فأمكن منهم المؤمنين ببدر حتى قتلوهم وأسروهم، وهذا تهديد لهم إن عادوا إلى قتال المؤمنين ومعاداتهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72- 74‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏72‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ‏(‏73‏)‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏74‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا‏}‏ أي‏:‏ هجروا قومهم وديارهم، يعني المهاجرين‏.‏ ‏{‏وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا‏}‏ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه، أي‏:‏ أسكنوهم منازلهم، ‏{‏وَنَصَرُوا‏}‏ أي‏:‏ ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار رضي الله عنهم، ‏{‏أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏ دون أقربائهم من الكفار‏.‏ قيل‏:‏ في العون والنصرة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في الميراث وكانوا يتوارثون بالهجرة، فكان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام، وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى كان فتح مكة وانقطعت الهجرة، وتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا، وصار ذلك منسوخا بقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله‏"‏ ‏"‏الأحزاب- 6‏"‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ يعني الميراث، ‏{‏حَتَّى يُهَاجِرُوا‏}‏ قرأ حمزة‏:‏ ‏"‏ولا يتهم‏"‏ بكسر الواو، والباقون بالفتح، وهما واحد كالدلالة والدلالة‏.‏ ‏{‏وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ‏}‏ أي‏:‏ استنصركم المؤمنون الذين لم يهاجروا، ‏{‏فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ‏}‏ عهد فلا تنصروهم عليهم، ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ‏}‏ في العون والنصرة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ في الميراث، أي‏:‏ يرث المشركون بعضهم من بعض، ‏{‏إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ إلا تعاونوا وتناصروا‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ جعل الله المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون من سواهم، وجعل الكافرين بعضهم أولياء بعض، ثم قال‏:‏ ‏{‏إِلا تَفْعَلُوهُ‏}‏ وهو أن يتولى المؤمن الكافر دون المؤمن ‏{‏تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ‏}‏ فالفتنة في الأرض قوة الكفر، والفساد الكبير ضعف الإسلام‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا‏}‏ لا مرية ولا ريب في إيمانهم‏.‏ قيل‏:‏ حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين، ‏{‏لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ في الجنة‏.‏ فإن قيل‏:‏ أي معنى في تكرار هذه الآية‏؟‏ قيل‏:‏ المهاجرون كانوا على طبقات‏:‏ فكان بعضهم أهل الهجرة الأولى، وهم الذي هاجروا قبل الحديبية، وبعضهم أهل الهجرة الثانية، وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكة، وكان بعضهم ذا هجرتين هجرة الحبشة والهجرة إلى المدينة، فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى، ومن الثانية الهجرة الثانية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏75‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏75‏)‏‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ معكم، يريد‏:‏ أنتم منهم وهو منكم، ‏{‏وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْض‏}‏ وهذا نسخ التوارث بالهجرة ورد الميراث إلى ذوي الأرحام‏.‏

قوله ‏{‏فِي كِتَابِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ في حكم الله عز وجل‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بكتاب الله القرآن، يعني‏:‏ القسمة التي بينها في سورة النساء، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏