فصل: تفسير الآية رقم (100)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏100‏]‏

‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏100‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ‏}‏ الآية‏.‏ قرأ يعقوب بالرفع عطفا على قوله‏:‏ ‏"‏والسابقون‏"‏‏.‏

واختلفوا في السابقين الأولين، قال سعيد بن المسيب، وقتادة، وابن سيرين وجماعة‏:‏ هم الذين صلُّوا إلى القبلتين‏.‏

وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ هم أهل بدر‏.‏

وقال الشعبي‏:‏ هم الذين شهدوا بيعة الرضوان، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية‏.‏

واختلفوا في أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امرأته خديجة، مع اتفاقهم على أنها أول من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ فقال بعضهم‏:‏ أول من آمن وصلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو قول جابر، وبه قال مجاهد وابن إسحاق، أسلم وهو ابن عشر سنين‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أول من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو قول ابن عباس وإبراهيم النخعي والشعبي‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ أول من أسلم زيد بن حارثة، وهو قول الزهري وعروة بن الزبير‏.‏

وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي يجمع بين هذه الأقوال فيقول‏:‏ أول من أسلم من الرجال أبو بكر

رضي الله عنه، ومن النساء خديجة، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن العبيد زيد بن حارثة‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان رجلا محببا سهلا وكان أنسب قريش وأعلمها بما كان فيها، وكان تاجرا ذا خُلقٍ ومعروف، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر؛ لعلمه وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه، فأسلم على يديه- فيما بلغني-‏:‏ عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، فجاء بهم إلى رسول صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا، فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام‏.‏ ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام، أما السابقون من الأنصار‏:‏ فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وكانوا ستة في العقبة الأولى، وسبعين في الثانية، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن، فأسلم معه خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ‏}‏ الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم‏.‏ ‏{‏وَالأنْصَارِ‏}‏ أي‏:‏ ومن الأنصار، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه، ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ‏}‏ قيل‏:‏ هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين‏.‏

وقيل‏:‏ هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة أو النصرة إلى يوم القيامة‏.‏

وقال عطاء‏:‏ هم الذين يذكرون المهاجرين والأنصار بالترحم والدعاء‏.‏

وقال أبو صخر حميد بن زياد‏:‏ أتيت محمد بن كعب القرظي فقلت له‏:‏ ما قولك في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏:‏ جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة محسنهم ومسيئهم، فقلت من أين تقول هذا‏؟‏ فقال‏:‏ يا هذا اقرأ قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ‏}‏ شرط في التابعين شريطة وهي أن يتبعوهم في أفعالهم الحسنة دون السيئة‏.‏

قال أبو صخر‏:‏ فكأني لم أقرأ هذه الآية قط‏.‏

روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه‏"‏‏.‏

ثم جمعهم الله عز وجل في الثواب فقال‏:‏ ‏{‏رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ‏}‏ قرأ ابن كثير‏:‏ ‏{‏من تحتها الأنهار‏}‏، وكذلك هو في مصاحف أهل مكة، ‏{‏خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏101‏]‏

‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ‏(‏101‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ‏}‏ وهم من مُزينة وجُهينة وأشجع وأسلم وغفار، كانت منازلهم حول المدينة، يقول‏:‏ من هؤلاء الأعراب منافقون، ‏{‏وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ‏}‏ أي‏:‏ ومن أهل المدينة من الأوس والخزرج قوم منافقون، ‏{‏مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ‏}‏ أي‏:‏ مرنوا على النفاق، يقال‏:‏ تمرد فلان على ربِّه أي‏:‏ عتا، ومرد على معصيته، أي‏:‏ مرن وثبت عليها واعتادها‏.‏ ومنه‏:‏ المريد والمارد‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ لجوا فيه وأبوا غيره‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ أقاموا عليه ولم يتوبوا‏.‏

‏{‏لا تَعْلَمُهُمْ‏}‏ أنت يا محمد، ‏{‏نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ‏}‏ اختلفوا في هذين العذابين‏.‏

قال الكلبي والسدي‏:‏ قام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا يوم الجمعة فقال‏:‏ ‏"‏اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان‏.‏ أخرج ناسا من المسجد وفضحهم، فهذا هو العذاب الأول‏.‏ والثاني‏:‏ عذاب القبر‏"‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الأول‏:‏ القتل والسبي، والثاني‏:‏ عذاب القبر‏.‏ وعنه رواية أخرى‏:‏ عُذِّبُوا بالجوع مرتين‏.‏

وقال قتادة‏:‏ الدُّبَيْلة في الدنيا وعذاب القبر‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدنيا، والأخرى عذاب الآخرة‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ الأولى إقامة الحدود عليهم، والأخرى عذاب القبر‏.‏

وقال ابن إسحاق‏:‏ هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام ودخولهم فيه من غير حسبة ثم عذاب القبر‏.‏

وقيل‏:‏ إحداهما ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والأخرى عذاب القبر‏.‏

وقيل‏:‏ الأولى إحراق مسجدهم، مسجد الضرار، والأخرى إحراقهم بنار جهنم‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ‏}‏ أي‏:‏ إلى عذاب جهنم يخلدون فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏102‏]‏

‏{‏وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏102‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ومن أهل المدينة، أو‏:‏ من الأعراب آخرون، ولا يرجع هذا إلى المنافقين، ‏{‏اعْتَرَفُوا‏}‏ أقرُّوا، ‏{‏بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا‏}‏ وهو إقرارهم بذنوبهم وتوبتهم ‏{‏وَآخَرَ سَيِّئًا‏}‏ أي‏:‏ بعمل آخر سيئ، وضع الواو موضع الباء، كما يقال‏:‏ خلطت الماء واللبن، أي‏:‏ باللبن‏.‏

والعمل السيئ‏:‏ هو تخلُّفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

والعمل الصالح‏:‏ هو ندامتهم وربطهم أنفسهم بالسواري وقيل‏:‏ غزواتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ نزلت هذه الآية في قوم تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ثم ندموا على ذلك، وقالوا‏:‏ نكون في الظلال مع النساء، ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد واللأواء‏!‏ فلما قرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قالوا والله لَنُوثِقَنَّ أنفسنا بالسواري فلا نُطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقها، ويعذرنا، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ بهم فرآهم فقال‏:‏ مَنْ هؤلاء‏؟‏ فقالوا‏:‏ هؤلاء الذين تخلفوا عنك فعاهدوا الله عز وجل أن لا يُطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت تطلقهم وترضى عنهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ وأنا أقسم بالله لا أُطْلِقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم، رغبوا عني وتَخَلَّفوا عن الغزو مع المسلمين‏!‏ فأنزل الله هذه الآية فأرسل إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعذرهم، فلما أطلقوا قالوا‏:‏ يا رسول الله هذه أموالنا التي خَلَّفَتْنا عنك فتصدق بها وطَهِّرْنَا واستغفر لنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا‏"‏، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً‏}‏ الآية‏.‏

واختلفوا في أعداد هؤلاء التائبين، فروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ كانوا عشرة منهم أبو لبابة‏.‏ وروى عطية عنه‏:‏ أنهم كانوا خمسة أحدهم أبو لبابة‏.‏ وقال سعيد بن جبير وزيد بن أسلم‏:‏ كانوا ثمانية‏.‏ وقال الضحاك وقتادة‏:‏ كانوا سبعة‏.‏ وقالوا جميعا‏:‏ أحدهم أبو لبابة‏.‏

وقال قوم‏:‏ نزلت في أبي لبابة خاصة‏.‏ واختلفوا في ذنبه، قال مجاهد‏:‏ نزلت في أبي لبابة حين قال لقريظة‏:‏ إن نزلتم على حكمه فهو الذبح وأشار إلى حلقه‏.‏

وقال الزهري‏:‏ نزلت في تخلفه عن غزوة تبوك فربط نفسه بسارية، وقال‏:‏ والله لا أحلُّ نفسي ولا أذوق طعاما ولا شرابا، حتى أموت أو يتوب الله علي‏!‏ فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقيل له‏:‏ قد تِيْبَ عليك‏!‏، فقال‏:‏ والله لا أحلُّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده، ثم قال أبو لبابة‏:‏ يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال‏:‏ يجزيك يا أبا لبابة الثلث‏.‏

قالوا جميعا‏:‏ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلث أموالهم، وترك الثلثين، لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ‏}‏ ولم يقل‏:‏ خذ أموالهم‏.‏ قال الحسن وقتادة‏:‏ هؤلاء سوى الثلاثة الذين خلفوا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏103‏]‏

‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏103‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ‏}‏ بها من ذنوبهم، ‏{‏وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا‏}‏ أي‏:‏ ترفعهم من منازل المنافقين إلى منازل المخلصين‏.‏ وقيل‏:‏ تنمي أموالهم ‏{‏وَصَلِّ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ ادع لهم واستغفر لهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو قول الساعي للمصدق إذا أخذ الصدقة منه‏:‏ آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت‏.‏ والصلاة في اللغة‏:‏ الدعاء‏.‏ ‏{‏إِنَّ صَلاتَكَ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏صلاتك‏"‏ على التوحيد؛ ونصب التاء ها هنا وفي سورة هود ‏"‏أصلاتك‏"‏ وفي سورة المؤمنين ‏"‏على صلاتهم‏"‏ كلهن على التوحيد وافقهما حفص ها هنا وفي سورة هود‏.‏ وقرأ الآخرون بالجمع فيهن ويكسرون التاء ها هنا‏.‏

‏{‏سَكَنٌ لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ إن دعاءك رحمة لهم‏.‏ قاله ابن عباس‏.‏ وقيل‏:‏ طمأنينة لهم، وسكون لهم، أن الله عز وجل قد قَبِلَ منهم‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ تثبيتٌ لقلوبهم‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

واختلفوا في وجوب الدعاء على الإمام عند أخذ الصدقة‏:‏ قال بعضهم‏:‏ يجب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يُستحب‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يجب في صدقة الفرض ويستحب في صدقة التطوع‏.‏ وقيل‏:‏ يجب على الإمام، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال‏:‏ سمعت عبد الله بن أبي أوْفَى- وكان من أصحاب الشجرة- قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوْمُه بصدقة قال‏:‏ ‏"‏اللهم صلِّ عليهم‏"‏، فأتاه أبي بصدقته فقال‏:‏ ‏"‏اللهم صلِّ على آل أبي أوفى‏"‏‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ ليس هذا في صدقة الفرض إنما هو في صدقة كفارة اليمين‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ هي صدقة الفرض، فلما نزلت توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا من المتخلّفين‏:‏ هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يُكَلَّمُونَ ولا يُجَالَسُون، فما لهم‏؟‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏104- 106‏]‏

‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏104‏)‏ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏105‏)‏ وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏106‏)‏‏}‏‏.‏

فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ‏}‏ أي‏:‏ يقبلها، ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب الأصم، أنبأنا الربيع بن سليمان، أنبأنا الشافعي، أنبأنا سفيان بن عيينة، عن ابن عجلان، عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه‏.‏ قال‏:‏ سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏والذي نفسي بيده ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبا ولا يصعد إلى السماء إلا طيب إلا كأنما يضعها في يد الرحمن عز وجل فيربيها له كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى إن اللقمة لتأتي يوم القيامة وإنها لمثل الجبل العظيم، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هذا وعيد لهم‏.‏ قيل‏:‏ رؤية النبي صلى الله عليه وسلم بإعلام الله تعالى إياه، ورؤية المؤمنين بإيقاع المحبة في قلوبهم لأهل الصلاح، والبغضة لأهل الفساد‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ قرأ أهل المدينة والكوفة غير أبي بكر‏:‏ ‏"‏مرجون‏"‏ بغير همز، والآخرون‏:‏ بالهمز، والإرجاء‏:‏ التأخير، مرجون‏:‏ مؤخرون‏.‏ لأمر الله‏:‏ لحكم الله عز وجل فيهم، وهم الثلاثة الذين تأتي قصتهم من بعدُ‏:‏ كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، لم يبالغوا في التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة، فوقفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة ونهى الناس عن مكالمتهم ومخالطتهم، حتى شقَّهم القلق وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وكانوا من أهل بدر فجعل أناس يقولون‏:‏ هلكوا، وآخرون يقولون‏:‏ عسى الله أن يغفر لهم، فصاروا مُرْجَئِيْنَ لأمر الله لا يدرون أيعذبهم أم يرحمهم، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏107‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‏(‏107‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا‏}‏ قرأ‏:‏ أهل المدينة والشام ‏"‏الذين‏"‏ بلا واو، وكذلك هو في مصاحفهم، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏والذين‏"‏ بالواو‏.‏ ‏{‏مَسْجِدًا ضِرَارًا‏}‏ نزلت هذه الآية في جماعة من المنافقين، بنوا مسجدا يضارُّون به مسجد قباء، وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق‏:‏ وديعة بن ثابت، وجذام بن خالد، ومن داره أُخْرِج هذا المسجد، وثعلبة بن حاطب، وجارية بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ومعتب بن قشير، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وأبو حبيبة بن الأزعر، ونبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، ورجل يقال له‏:‏ بَحْزَج، بنوا هذا المسجد ضرارا، يعني‏:‏ مضارة للمؤمنين، ‏{‏وَكُفْرًا‏}‏ بالله ورسوله، ‏{‏وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏؛ لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء، فبنوا مسجد الضرار، ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة، وكان يصلي بهم مجمع بن جارية‏.‏

فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة، والليلة المطيرة والليلة الشاتية، وإنَّا نحب أن تأتينا وتصلي بنا فيه وتدعوا لنا بالبركة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إني على جناح سفر، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه‏"‏‏.‏

‏{‏وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ انتظارًا وإعدادًا لمن حارب الله ورسوله‏.‏ يقال‏:‏ أرصدت له‏:‏ إذا أعددت له‏.‏ وهو أبو عامر الراهب وكان أبو عامر هذا رجلا منهم، وهو أبو حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد ترهَّب في الجاهلية وتنصَّر ولبس المُسوح، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال له أبو عامر‏:‏ ما هذا الذي جئت به‏؟‏ قال‏:‏ جئت بالحنيفية دين إبراهيم، قال أبو عامر‏:‏ فإنا عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنك لست عليها‏"‏، قال‏:‏ بلى ولكنك أدخلت في الحنيفية ما ليس منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما فعلت ولكنّي جئت بها بيضاء نقية‏"‏، فقال أبو عامر‏:‏ أمات اللهُ الكاذبَ منا طريدا وحيدا غريبا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏آمين‏"‏‏.‏ وسماه أبا عامر الفاسق‏.‏

فلما كان يوم أحد قال أبو عامر لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حُنين، فلما انهزمت هوازن يئس وخرج هاربا إلى الشام فأرسل إلى المنافقين أنِ استعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، وابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتٍ بجند من الروم، فأُخْرِج محمدا وأصحابه، فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ وهو أبو عامر الفاسق، ليصلي فيه إذا رجع من الشام‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ يرجع إلى أبي عامر يعني حارب الله ورسوله من قبل أي‏:‏ من قبل بناء مسجد الضرار‏.‏

‏{‏وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا‏}‏ ما أردنا ببنائه، ‏{‏إِلا الْحُسْنَى‏}‏ إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ‏}‏ في قيلهم وحلفهم‏.‏ روي لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ونزل بذي أوَان موضع قريب من المدينة أتوه فسألوه إتيان مسجدهم فدعا بقميصه ليلبسه ويأتيهم، فنزل عليه القرآن وأخبره الله تعالى خبر مسجد الضرار وما همُّوا به، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم، ومعن بن عدي، وعامر بن السكن، ووحشيا قاتل حمزة، وقال لهم‏:‏ انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهلُه فاهدموه واحرقوه، فخرجوا سريعا حتى أتوا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدُّخْشُم، فقال مالك‏:‏ أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي، فدخل أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا، ثم خرجوا يشتدُّون، حتى دخلوا المسجد وفيه أهله، فحرَّقوه وهدموه، وتفرق عنه أهله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجِيَف والنتن والقمامة‏.‏ ومات أبو عامر الراهب بالشام وحيدا فريدا غريبا‏.‏

وروي أن بني عمرو بن عوف، الذين بنوا مسجد قباء، أتوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة فيؤمهم في مسجدهم، فقال‏:‏ لا ولا نعمة عين، أليس بإمام مسجد الضرار‏؟‏ فقال له مجمع‏:‏ يا أمير المؤمنين‏:‏ لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صلَّيت فيه وإني لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيت معهم فيه، كنت غلاما قارئا للقرآن، وكانوا شيوخا لا يقرؤون القرآن فصلَّيت ولا أحسب إلا أنهم يتقربون إلى الله تعالى، ولم أعلم ما في أنفسهم، فعذره عمر وَصدَّقه وأمره بالصلاة في مسجد قباء‏.‏

وقال عطاء‏:‏ لما فتح الله على عمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجد، وأمرهم أن لا يبنوا في مدينتهم مسجدين يضار أحدهما صاحبه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏108‏]‏

‏{‏لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ‏(‏108‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏لا تصل فيه‏"‏ منع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في مسجد الضرار‏.‏ ‏{‏لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى‏}‏ اللام لام الابتداء‏.‏ وقيل‏:‏ لام القسم، تقديره‏:‏ والله لمسجد أسس، أي‏:‏ بُني أصله على التقوى، ‏{‏مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ‏}‏ أي‏:‏ من أول يوم بني ووضع أساسه، ‏{‏أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ‏}‏ مصليا‏.‏

واختلفوا في المسجد الذي أسس على التقوى‏:‏ فقال ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبو سعيد الخدري‏:‏ هو مسجد المدينة، مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، والدليل عليه‏:‏

ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن حاتم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد الخراط قال‏:‏ سمعت أبا سلمة عبد الرحمن قال‏:‏ مَرَّ بي عبد الرحمن بن أبي سعيد، قال‏:‏ فقلت له‏:‏ كيف سمعت أباك يذكر في المسجد الذي أسس على التقوى‏؟‏ فقال‏:‏ قال أبي‏:‏ دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت بعض نسائه فقلت‏:‏ يا رسول الله أيُّ المسجدين الذي أسس على التقوى‏؟‏ قال‏:‏ فأخذ كفًا من الحصباء فضرب به الأرض، ثم قال‏:‏ هو مسجدكم هذا، مسجد المدينة، قال‏:‏ فقلت‏:‏ أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره‏.‏

وأخبرنا أبو الحسن الشَّيْرَزي أنبأنا زاهر بن أحمد، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي، أنبأنا أبو مصعب، عن مالك عن خُبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة، ومنبري على حوضي‏"‏‏.‏

وذهب قوم إلى أنه مسجد قباء، وهو رواية عطية عن ابن عباس، وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة‏:‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا عبد العزيز بن مسلم، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد قباء كلَّ سبت ماشيا وراكبا، وكان عبد الله بن عمر يفعله‏.‏

وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصلي فيه ركعتين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا‏}‏ من الأحداث والجنابات والنجاسات‏.‏ وقال عطاء‏:‏ كانوا يستنجون بالماء ولا ينامون بالليل على الجنابة‏.‏

أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أنبأنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني، أخبرنا محمد بن العلاء، حدثنا معاوية بن هشام، عن يونس بن الحارث، عن إبراهيم بن أبي ميمونة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏نزلت هذه الآية في أهل قباء‏"‏‏:‏ ‏{‏فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية‏"‏‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ‏}‏ أي المتطهرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏109‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏109‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ‏}‏ قرأ نافع وابن عامر ‏"‏أُسِّسَ‏"‏ بضم الهمزة وكسر السين، ‏"‏بنيانُه‏"‏ برفع النون فيهما جميعا على غير تسمية الفاعل‏.‏ وقرأ الآخرون ‏"‏أَسَّسَ‏"‏ فتح الهمزة والسين، ‏"‏بنيانَه‏"‏‏:‏ بنصب النون، على تسمية الفاعل‏.‏ ‏{‏عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ‏}‏ أي‏:‏ على طلب التقوى ورضا الله تعالى خير ‏{‏أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا‏}‏ على شفير، ‏{‏جُرُفٍ‏}‏ قرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر ‏"‏جُرْف‏"‏ ساكنة الراء، وقرأ الباقون بضم الراء وهما لغتان، وهي البئر التي لم تُطْوَ‏.‏ قال أبو عبيدة‏:‏ هو الهوة وما يجرفه السيل من الأودية فينجرف بالماء فيبقى واهيا، ‏{‏هَارٍ‏}‏ أي‏:‏ هائر وهو الساقط يقال‏:‏ هار يهور فهو هائر، ثم يقلب فيقال‏:‏ هار مثل شاك وشائك وعاق وعائق‏.‏ وقيل‏:‏ هو مِنْ يهار‏:‏ إذا انهدم، ومعناه‏:‏ الساقط الذي يتداعى بعضه في إثْر بعض، كما ينهار الرمل والشيء الرخو‏.‏ ‏{‏فَانْهَارَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ سقط بالباني ‏{‏فِي نَارِ جَهَنَّمَ‏}‏ يريد بناء هذا المسجد الضرار كالبناء على شفير جهنم فيهور بأهلها فيها‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يريد صيَّرهم النفاقُ إلى النار‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ والله ما تناهى أن وقع في النار، وذكر لنا أنه حفرت بقعة فيه، فرُئي الدخان يخرج منها‏.‏ وقال جابر بن عبد الله‏:‏ رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏110- 111‏]‏

‏{‏لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏110‏)‏ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ‏(‏111‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً‏}‏ أي‏:‏ شكًّا ونفاقا، ‏{‏فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ يحسبون أنهم كانوا في بنيانه محسنين كما حُبب العجل إلى قوم موسى‏.‏ قاله ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ حسرة وندامة لأنهم ندموا على بنائه‏.‏ وقال السدي‏:‏ لا يزال هدم بنائهم ريبة وحزازة وغيظا في قلوبهم‏.‏

‏{‏إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ تتصدَّع قلوبهم فيموتوا‏.‏ قرأ ابن عامر، وأبو جعفر، وحمزة، وحفص‏:‏ ‏"‏تَقطّع‏"‏ بفتح التاء أي‏:‏ تتقطع‏.‏ والآخرون بضمها‏.‏ وقرأ يعقوب وحده‏:‏ ‏"‏إلى أن‏"‏ خفيف، على الغاية، ‏"‏تُقطع‏"‏ بضم التاء، خفيف، من القطع يدل عليه تفسير الضحاك وقتادة‏:‏ لا يزالون في شك منه إلى أن يموتوا فيستيقنوا‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ‏}‏ الآية‏.‏ قال محمد بن كعب القرظي‏:‏ لما بايعتِ الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة بمكة وهم سبعون نفسا، قال عبد الله بن رواحة‏:‏ يا رسول الله اشترط لربك ولنفسك ما شئت‏.‏

فقال‏:‏ أشترط لربي عز وجل‏:‏ أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي، أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم‏.‏

قالوا‏:‏ فإذا فعلنا ذلك فما لنا‏؟‏

قال‏:‏ الجنة، قالوا‏:‏ رَبِحَ البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ‏}‏‏.‏

وقرأ الأعمش‏:‏ ‏"‏ بالجنة ‏"‏‏.‏

‏{‏يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏فَيَقْتُلوُن‏"‏ بتقديم المفعول على الفاعل بمعنى يقتل بعضهم بعضا، ويقتل الباقون‏.‏ وقرأ الآخرون بتقديم الفاعل‏.‏ ‏{‏وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا‏}‏ أي‏:‏ ثواب الجنة لهم وعدٌ وحقٌ ‏{‏فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ‏}‏ يعني أن الله عز وجل وعدهم هذا الوعد، وبيَّنه في هذه الكتب‏.‏ وقيل‏:‏ فيه دليل على أن أهل الملل كلهم أُمروا بالجهاد على ثواب الجنة، ثم هَنَّأهم فقال‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا‏}‏ فافرحوا ‏{‏بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ‏}‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ إن الله عز وجل بايعك وجعل الصفقتين لك‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ثَامَنَهُمُ الله عز وجل فأغْلَى لهم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ اسمعوا إلى بيعة ربيحة بايع الله بها كل مؤمن‏.‏ وعنه أنه قال‏:‏ إن الله أعطاك الدنيا فاشتر الجنة ببعضها‏.‏

ثم وصفهم فقال‏:‏ ‏{‏التَّائِبُونَ‏}‏ قال الفراء‏:‏ استؤنفت بالرفع لتمام الآية وانقطاع الكلام‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ التائبون رفع للابتداء، وخبره مضمر‏.‏ المعنى‏:‏ التائبون- إلى آخر الآية- لهم الجنة أيضا‏.‏ أي‏:‏ من لم يجاهد غير معاند ولا قاصد لترك الجهاد، لأن بعض المسلمين يُجزي عن بعض في الجهاد، فمن كانت هذه صفته فله الجنة أيضا، وهذا أحسن، فكأنه وعد الجنة لجميع المؤمنين، كما قال‏:‏ ‏"‏وكلا وعد الله الحسنى‏"‏ ‏(‏النساء- 95‏)‏، فمن جعله تابعا للأول كان الوعد بالجنة خاصا للمجاهدين الموصوفين بهذه الصفة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏112‏]‏

‏{‏التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏112‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏التَّائِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ الذين تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق، ‏{‏الْعَابِدُونَ‏}‏ المطيعون الذين أخلصوا العبادة لله عز وجل ‏{‏الْحَامِدُونَ‏}‏ الذين يحمدون الله على كل حال في السراء والضراء‏.‏

وروينا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أول من يُدْعى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله في السراء والضراء‏"‏‏.‏ ‏{‏السَّائِحُونَ‏}‏ قال ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هم الصائمون‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ إنما سمي الصائم سائحا لتركه اللذات كلها من المطعم والمشرب والنكاح‏.‏

وقال عطاء‏:‏ السائحون الغزاة المجاهدون في سبيل الله‏.‏ روي عن عثمان بن مظعون، رضي الله عنه، أنه قال‏:‏ يا رسول الله ائذن لي في السياحة، فقال‏:‏ ‏"‏إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله‏"‏‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ السائحون هم طلبة العلم‏.‏

‏{‏الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ المصلين، ‏{‏الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ بالإيمان، ‏{‏وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ‏}‏ عن الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ المعروف‏:‏ السنة، والمنكر‏:‏ البدعة‏.‏ ‏{‏وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ‏}‏ القائمون بأوامر الله‏.‏ وقال الحسن‏:‏ أهل الوفاء ببيعة الله‏.‏ ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏113‏]‏

‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ‏(‏113‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ اختلفوا في سبب نزول هذه الآية‏.‏

قال قوم‏:‏ سبب نزولها‏:‏ ما أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو اليمان، أنبأنا شعيب، عن الزهري، حدَّثني سعيد بن المسيب عن أبيه‏.‏ قال‏:‏ لما حضرت أبا طالب الوفاة جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة‏:‏ فقال‏:‏ أي عمِّ قل‏:‏ لا إله إلا الله كلمة أحَاجّ لك بها عند الله‏.‏ فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية‏:‏ أترغب عن مِلّةِ عبد المطلب‏؟‏ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدان بتلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم‏:‏ على ملة عبد المطلب، وأبى أن يقول‏:‏ لا إله إلا الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏ وأنزل في أبي طالب‏:‏ ‏"‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء‏"‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنبأنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا يزيد بن كيسان، حدثني أبو حازم الأشجعي، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله لعمه‏:‏ ‏"‏قل لا إله إلا الله أشهدُ لك بها يوم القيامة‏"‏ فقال‏:‏ لولا أن تُعَيِّرني قريش، فيقولون‏:‏ إنما حمله على ذلك الْجَزَعُ، لأقررت بها عينك‏.‏ فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل ثنا عبد الله بن يوسف حدثني الليث حدثني يزيد بن الهاد عن عبد الله بن خباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر عنده عمه فقال‏:‏ ‏"‏لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضَحْضَاحٍ من النار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه‏"‏‏.‏

وقال أبو هريرة وبريدة‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أتى قبر أمه آمنة فوقف عليه حتى حميت الشمس رجاء أن يؤذن له فيستغفر لها فنزلت‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ الآية‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، حدثنا عبد الغافر بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أنبأنا محمد بن عبيد، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال‏:‏ زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله فقال‏:‏ ‏"‏استأذنت ربي عز وجل في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور، فإنها تذكر الموت‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏114‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ‏(‏114‏)‏‏}‏‏.‏

قال قتادة قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏‏:‏ ‏"‏لأستغفرن لأبي‏.‏ كما استغفر إبراهيم لأبيه‏"‏ فأنزل الله تعالى هذه الآية‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ‏}‏‏.‏

وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه‏:‏ لما أنزل الله عز وجل خبرا عن إبراهيم عليه السلام قال لأبيه‏:‏ ‏"‏سلام عليك سأستغفر لك ربي‏"‏ سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فقلت له‏:‏ تستغفر لهما وهما مشركان‏؟‏ فقال‏:‏ أو لم يستغفر إبراهيم لأبيه‏؟‏ فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم‏"‏، إلى قوله‏:‏ ‏"‏إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك‏"‏ ‏(‏الممتحنة- 4‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ‏}‏ قال بعضهم‏:‏ الهاء في إياه عائدة إلى إبراهيم عليه السلام‏.‏ والوعد كان من أبيه، وذلك أن أباه كان وعده أن يسلم، فقال له إبراهيم‏:‏ سأستغفر لك ربي يعني إذا أسلمتَ‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الهاء راجعة إلى الأب، وذلك أن إبراهيم وعد أباه أن يستغفر له رجاء إسلامه‏.‏ وهو قوله‏:‏ ‏"‏سأستغفر لك ربي‏"‏‏.‏ يدل عليه قراءة الحسن‏:‏ ‏"‏وعدها أباه‏"‏ بالباء الموحدة‏.‏

والدليل على أن الوعد من إبراهيم، وكان الاستغفار في حال شرك الأب، قوله تعالى‏:‏ ‏"‏قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم‏"‏، إلى أن قال‏:‏ ‏"‏إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك‏"‏ ‏(‏الممتحنة- 4‏)‏ فصرح أن إبراهيم ليس بقدوة في هذا الاستغفار، وإنما استغفر له وهو مشرك لمكان الوعد رجاء أن يسلم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ‏}‏ لموته على الكفر، ‏{‏تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏ وقيل‏:‏ فلما تبين له في الآخرة أنه عدو لله تبرأ منه أي‏:‏ يتبرأ منه وذلك ما‏:‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن عبد الله، حدثني أخي عبد الحميد عن ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يلقى إبراهيمُ أباه آزر يوم القيامة، وعلى وجه آزر قَتَرةٌ وغَبَرة، فيقول له إبراهيم‏:‏ ألم أقل لك لا تَعْصِني‏؟‏ ‏!‏ فيقول له أبوه‏:‏ فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم عليه السلام‏:‏ يا رب إنك وعدتني أن لا تُخْزِيَنِي يوم يُبْعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد‏؟‏ فيقول الله تعالى‏:‏ إني حرمت الجنة على الكافرين‏.‏ ثم يقال يا إبراهيم‏:‏ ما تحت رجليك‏؟‏ فينظر فإذا هو بِذِبْحٍ مُلْتَطِخٍ فيؤْخذ بقوائمه فيلقى في النار‏"‏ وفي رواية‏:‏ يتبرأ منه يومئذ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ‏}‏ اختلفوا في معنى الأواه، جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏إن الأواه الخاشع المتضرع‏"‏‏.‏

وقال عبد الله بن مسعود‏:‏ الأواه الدَّعَّاء‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ هو المؤمن التواب‏.‏

وقال الحسن وقتادة‏:‏ الأواه الرحيم بعباد الله‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ الأواه الموقن‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ هو المستيقن بلغة الحبشة‏.‏

وقال كعب الأحبار‏:‏ هو الذي يكثر التأوّه، وكان إبراهيم عليه السلام يكثر أن يقول‏:‏ آهٍ من النار، قبل أن لا ينفع أهٍ‏.‏

وقيل‏:‏ هو الذي يتأوه من الذنوب‏.‏

وقال عقبة بن عامر‏:‏ الأواه الكثير الذكر لله تعالى‏.‏

وعن سعيد بن جبير قال‏:‏ الأواه المسبِّح‏.‏ وروي عنه‏:‏ الأواه‏:‏ المعلِّم للخير‏.‏

وقال النخعي‏:‏ هو الفقيه‏.‏

وقال عطاء‏:‏ هو الراجع عن كل ما يكره الله‏.‏ وقال أيضا‏:‏ هو الخائف من النار‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ هو المتأوه شَفَقًا وفَرَقا المتضرع يقينًا‏.‏ يريد أن يكون تضرعه يقينًا ولزوما للطاعة‏.‏

قال الزجاج‏:‏ قد انتظم في قول أبي عبيدة أكثر ما قيل في الأواه‏.‏

وأصله‏:‏ من التأوّهِ وهو أن يسمع للصدر صوت من تنفس الصعداء، والفعل منه أوه وتأوه، والحليم الصفوح عمن سبَّه أو ناله بالمكروه، كما قال لأبيه، عند وعيده، وقوله‏:‏ ‏"‏لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا سلام عليك سأستغفر لك ربي‏"‏ ‏{‏مريم- 46‏}‏‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ الحليم السيد

تفسير الآية رقم ‏[‏115‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏115‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم‏"‏ الآية‏.‏ معناه‏:‏ ما كان الله ليحكم عليكم بالضلالة بترك الأوامر باستغفاركم للمشركين، ‏{‏حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ‏}‏ يريد حتى يتقدم إليكم بالنهي، فإذا تبين ولم تأخذوا به فعند ذلك تستحقون الضلال‏.‏

قال مجاهد‏:‏ بيان الله للمؤمنين في ترك الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة، فافعلوا أو ذروا‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ما كان الله ليعذب قوما حتى يبين لهم ما يأتون وما يذرون‏.‏

وقال مقاتل والكلبي‏:‏ هذا في المنسوخ وذلك أن قوما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، ولم تكن الخمر حراما، ولا القبلة مصروفة إلى الكعبة، فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حُرمت الخمر وصرفت القبلة، ولا علم لهم بذلك، ثم قدموا بعد ذلك المدينة فوجدوا الخمر قد حرمت والقبلة قد صُرفت، فقالوا‏:‏ يا رسول الله قد كنت على دين ونحن على غيره فنحن ضُلال‏؟‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ما كان الله ليبطل عمل قوم قد علموا بالمنسوخ حتى يتبين لهم الناسخ‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏116- 117‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ‏(‏116‏)‏ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏117‏)‏‏}‏‏.‏

ثم عظم نفسه فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ يحكم بما يشاء، ‏{‏يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏ الآية، تاب الله أي‏:‏ تجاوز وصفح‏.‏ ومعنى توبته على النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه‏.‏ وقيل‏:‏ افتتح الكلام به لأنه كان سبب توبتهم، فذكره معهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأن لله خمسه وللرسول ‏"‏ ‏(‏الأنفال- 41‏)‏، ونحوه‏.‏ ‏{‏وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ‏}‏ أي‏:‏ في وقت العسرة، ولم يرد ساعة بعينها، وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة، والجيش يسمى جيش العسرة‏.‏ والعسرة‏:‏ الشدة، وكانت عليهم غزوة عسرة في الظَّهر والزاد والماء‏.‏

قال الحسن‏:‏ كان العشرة منهم يخرجون على بعير واحد يعتقبونه، يركب الرجل ساعة، ثم ينزل فيركب صاحبه كذلك، وكان زادهم التمر المسوس والشعير المتغير، وكان النفر منهم يخرجون ما معهم إلا التمرات بينهم، فإذا بلغ الجوع من أحدهما أخذ التمرة فلاكَها حتى يجد طعمها ثم يعطيها صاحبه فيمصها، ثم يشرب عليها جرعة من ماء كذلك حتى يأتي على آخرهم، ولا يبقى من التمرة إلا النواة، فمضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك على صدقهم ويقينهم‏.‏

وقال عمر بن الخطاب‏:‏ خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، وحتى إن كان الرجل ليذهب فيلتمس الماء فلا يرجع حتى نظن أن رقبته ستنقطع، وحتى إن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر الصديق‏:‏ يا رسول الله إن الله قد عودك في الدعاء خيرا فادع الله لنا‏.‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏أتحب ذلك‏؟‏ ‏"‏ قل‏:‏ نعم، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى قالت السماءُ فأظلّتْ ثم سَكبت، فملؤوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جازت العسكر‏.‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ‏}‏ قرأ حمزة وحفص‏:‏ ‏"‏يزيغ‏"‏ بالياء لقوله‏:‏ ‏"‏كاد‏"‏ ولم يقل‏:‏ كادتْ‏.‏ وقرأ الآخرون بالتاء‏.‏ والزيغ‏:‏ الميلَ، أي‏:‏ من بعد ما كاد تميل، ‏{‏قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قلوب بعضهم، ولم يُردِ الميل عن الدين، بل أراد الميل إلى التخلُّف والانصراف للشدة التي عليهم‏.‏ قال الكلبي‏:‏ هَمّ ناسٌ بالتخلُّف ثم لحقوه‏.‏

‏{‏ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ‏}‏ فإن قيل‏:‏ كيف أعاد ذكر التوبة وقد قال في أول الآية‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏‏؟‏

قيل‏:‏ ذكر التوبة في أول الآية قبل ذكر الذنب، وهو محض الفضل من الله عز وجل، فلما ذكر الذنب أعاد ذكر التوبة، والمراد منه قبولها‏.‏

‏{‏إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من تاب الله عليه لم يعذبه أبدا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا‏}‏ أي خُلِّفوا عن غزوة تبوك‏.‏ وقيل‏:‏ خُلِّفوا أي‏:‏ أرجئ أمرهم، عن توبة أبي لبابة وأصحابه، وهؤلاء الثلاثة هم‏:‏ كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، كلهم من الأنصار‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا الليث عن عقيل، عن ابن شهاب، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك أن عبد الله بن كعب بن مالك- وكان قائد كعب من بنيه حين عَمِيَ- قال‏:‏ سمعتُ كعبَ بن مالك يحدِّث حين تخلّف عن غزوة تبوك، قال كعب‏:‏ لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أني كنت تخّلفت عن غزوة بدر، ولم يُعاتب أحدًا تخلّف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوِّهم على غير ميعاد، ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام، وما أحب أنّ لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذْكَرَ في الناس منها، وكان من خبري أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر حين تخلفت عنه في تلك الغزاة، والله ما اجتمعت عندي قبله راحلتان قط، حتى جمعتهما في تلك الغزوة، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا وَرّى بغيرها، حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا بعيدا ومفازا وعدوا كثيرا، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهْبَة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظ- يريد الديوان- قال كعب‏:‏ فما رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله، وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فطفقت أغْدُو لكي أتجهز معهم، فأرجع ولم أقض شيئا، وأقول في نفسي‏:‏ أنا قادر عليه إذا أردت، فلم يزل يتمادى بي الأمر حتى اشتد بالناس الجِدُّ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئا‏.‏ فقلت‏:‏ أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحقهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت ثم رجعت ولم أقضِ شيئًا فلم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفارط الغزو، وهممت أن أرتحل فأُدرِكهم، وليتني فعلت، فلم يُقَدّرْ لي ذلك، فكنت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم فطفتُ فيهم أحزنني أني لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عَذَرَ الله من الضعفاء، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك‏:‏ ‏"‏ما فعل كعب‏؟‏ ‏"‏ فقال رجل من بني سلمة‏:‏ يا رسول الله حبسه بُرْدَاه ونَظَرُهُ في عِطْفَيه، فقال معاذ بن جبل‏:‏ بئس ما قلت، والله يا رسول الله ما علمنا عليه إلا خيرًا‏.‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال كعب بن مالك‏:‏ فلما بلغني أنه توجه قافلا حضرني هَمّي، فطفقت أتذكر الكذب وأقول‏:‏ بماذا أخرج من سخطه غدا‏؟‏ واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني الباطل، وعرفت أني لن أخرج منه أبدا بشيء فيه كذب، فأجمعتُ صِدْقََهُ، وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادما، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك جاءه المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فَقَبِل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، وَوَكَل سرائرهم إلى الله، فجئته فلما سلمتُ عليه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ المُغْضَبِ، ثم قال‏:‏ تعال، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي‏:‏ ‏"‏ما خلَّفك ألم تكن قد ابتعت ظهرك‏؟‏ ‏"‏ فقلت‏:‏ بلى يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يُسْخِطَك علي، ولئن حدثتك حديث صدق تجد علي فيه، إني لأرجو فيه عفو الله، لا والله ما كان لي من عذر، والله ما كنت أقوى قط ولا أيسر مني حين تخلفت عنك‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمَّا هذا فقد صدق، فقم حتى يقضي الله فيك‏.‏

فقمت وثار رجال من بني سلمة فاتّبعوني فقالوا لي‏:‏ والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل هذا، ولقد عجزت في أن لا تكونَ اعتذرتَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر إليه المخلّفون، قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما زالوا يؤنبونني حتى أردت أن أرجع وأكذب نفسي، ثم قلت لهم‏:‏ هل لقي هذا معي أحد‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، رجلان قالا مثل ما قلت، فقيل لهما مثل ما قيل لك، فقلت‏:‏ من هما قالوا‏:‏ مرارة بن الربيع العمري، وهلال بن أمية الواقفي، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرا فيهما أسوة، فمضيت حين ذكروهما لي‏.‏

قال‏:‏ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة مِنْ بين مَنْ تخلف عنه، فاجتنبَنا

الناس وتغيّروا لنا حتى تنكرت في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا فكنت أشَبَّ القوم وأَجْلَدَهم، فكنت أخرج فأشهد الصلاة مع المسلمين، وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحد، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي‏:‏ هل حرَّك شفتيه بِرَدِّ السلام علي أم لا‏؟‏‏.‏ ثم أصلي قريبا منه وأسارقه النظر، فإذا أقبلت على صلاتي أقبل إلي وإذا التفتُ نحوه أعرض عني، حتى إذا طال علي ذلك من جفوة الناس مشيت حتى تسورت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمي وأحب الناس إلي، فسلمت عليه فوالله ما ردَّ علي السلام، فقلت له‏:‏ يا أبا قتادة أنشدك بالله هل تعلمني أحب الله ورسوله‏؟‏ فسكت، فعدت له فنشدته فسكت، فعدت فنشدته فقال‏:‏ الله ورسوله أعلم‏.‏ ففاضت عيناي، وتوليت حتى تسوَّرْتُ الجدار‏.‏

قال‏:‏ فبينا أنا أمشي بسوق المدينة إذا نبطي من أنباط الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول‏:‏ مَنْ يدلُّ على كعب بن مالك، فطفق الناس يشيرون له نحوي، حتى إذا جاءني دفع إلي كتابا من ملك غسان فقرأته فإذا فيه‏:‏ أما بعد‏:‏ فإنه قد بلغني أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مَضْيَعَةٍ، فالْحَقْ بنا نُواسِكَ، فقلت لما قرأته‏:‏ وهذا أيضا من البلاء، فتيممت به التنور فسجرته‏.‏

حتى إذا مضت أربعون ليلة من الخمسين إذا رسولٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، فقلت‏:‏ أطلقها أم ماذا أفعل‏؟‏ فقال‏:‏ لا بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك، فقلت لامرأتي الحقي بأهلك وكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر‏.‏

قال كعب‏:‏ فجاءت امرأة هلال بن أمية رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادم فهل تكره أن أخدمه‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا ولكن لا يقربك‏"‏، قالت‏:‏ إنه والله ما به حركة إلى شيء، والله ما زال يبكي منذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا‏.‏

قال كعب‏:‏ فقال لي بعض أهلي‏:‏ لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك كما أذن لامرأة هلال بن أمية أن تخدمه‏.‏ فقلت‏:‏ والله لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ما يقول لي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذنته فيها وأنا رجل شاب، فلبثتُ بعد ذلك عشر ليالٍ حتى كملت لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا، فلما صليت الفجر صبح خمسين ليلة، وأنا على ظهر بيت من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله قد ضاقتْ علي نفسي وضاقتْ علي الأرض بما رَحُبَتْ سمعتُ صوت صارخ أَوْفَى على جبلِ سَلْعٍ، يقول بأعلى صوته‏:‏ يا كعب بن مالك أبشر‏.‏ فخررت لله ساجدا وعرفت أنه قد جاء فرج، وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر فذهب الناس يبشروننا، وذهب قِبَلَ صاحبيّ مبشِّرون، وركض رجل إليّ فرسا وسعى ساع من أسلم، فَأوْفَى على الجبل فكان الصوتُ أسرع من الفرس، فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني نزعتُ له ثوبيَّ فكسوته إياهما

ببشراه، ووالله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرتُ ثوبين فلبستهما وانطلقتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بالتوبة ويقولون‏:‏ لِيَهنِكَ توبةُ الله عليك‏.‏ قال كعب‏:‏ حتى دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس، فقام إليَّ طلحة بن عبيد الله يُهَرْوِلُ حتى صافحني وهنأني، والله ما قام إليَّ رجل من المهاجرين غيره، ولا أنساها لطلحة‏.‏

قال كعب‏:‏ فلما سلمتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يَبرُقُ وجهه من السرور‏:‏ ‏"‏أَبْشِرْ بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك‏"‏‏!‏ قال قلت‏:‏ أمِنْ عندك يا رسول الله أم من عند الله‏؟‏ قال‏:‏ لا بل من عند الله، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه حتى كأنه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه، فلما جلست بين يديه قلت‏:‏ يا رسول الله إن من توبتي أن انخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك، قلت‏:‏ فإني أمسك سهمي الذي بخيبر‏.‏

فقلت‏:‏ يا رسول الله إنما نجاني الله بالصدق، وإن من توبتي ألا أحدث إلا صدقا ما بقيت، فوالله ما أعلم أحدا من المسلمين أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن مما أبلاني، ما تعمدت منذ ذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا كذبا، وإني لأرجو أن يحفظني الله فيما بقيت‏.‏ وأنزل الله على رسوله‏:‏ ‏{‏لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏‏.‏

وروى إسحاق بن راشد عن الزهري بهذا الإسناد عن كعب، قال‏:‏ نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامي وكلام صاحبيَّ، فلبثت كذلك حتى طال عليّ الأمر، وما من شيء أهم إليَّ من أن أموت ولا يصلي عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكون من الناس بتلك المنزلة، فلا يكلمني أحد منهم ولا يصلي عليّ‏!‏ وأنزل الله توبتنا على نبيه صلى الله عليه وسلم حين بقي الثلث الأخير من الليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند أم سلمة وكانت أم سلمة محسنة في شأني، معينة في أمري، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا أم سلمة تِيْبَ على كعب‏"‏ قالت‏:‏ أفلا أرسل إليه فأبشره‏؟‏ قال‏:‏ إذًا يحطمكم الناس، فيمنعونكم النوم سائر الليلة، حتى إذا صلى صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر آذن بتوبة الله علينا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏118- 120‏]‏

‏{‏وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ‏(‏118‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ‏(‏119‏)‏ مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏120‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ‏}‏ اتسعت، ‏{‏وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ‏}‏ غما وهما، ‏{‏وَظَنُّوا‏}‏ أي‏:‏ تيقنوا، ‏{‏أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ‏}‏ لا مفزع من الله، ‏{‏إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا‏}‏ أي‏:‏ ليستقيموا على التوبة فإن توبتهم قد سبقت‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏ قال نافع‏:‏ مع محمد وأصحابه‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ مع المهاجرين، لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ للفقراء المهاجرين ‏"‏ إلى قوله ‏"‏ أولئك هم الصادقون ‏"‏ ‏(‏الحشر- 8‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ مع الذين صدقت نياتهم واستقامت قلوبهم وأعمالهم وخرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك بإخلاص نية‏.‏ وقيل‏:‏ مع الذين صدقوا في الاعتراف بالذنب ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة‏.‏

وكان ابن مسعود يقرأ‏:‏ ‏{‏وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ‏}‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إن الكذب لا يصلح في جِدٍّ ولا هزل، ولا أن يعد أحدكم صبيه شيئا ثم لا ينجز له، اقرؤوا إن شئتم وقرأ هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ‏}‏ ظاهره خبر، ومعناه نهي، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله‏"‏ ‏(‏الأحزاب- 53‏)‏‏{‏وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ‏}‏ سكان البوادي‏:‏ مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار‏.‏ ‏{‏أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ‏}‏ إذا غزا‏.‏ ‏{‏وَلا يَرْغَبُوا‏}‏ أي‏:‏ ولا أن يرغبوا، ‏{‏بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ‏}‏ في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه‏.‏ قال الحسن‏:‏ لا يرغبوا بأنفسهم أن يصيبهم من الشدائد فيختاروا الخفض والدعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في مشقة السفر ومقاساة التعب‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ‏}‏ في سفرهم، ‏{‏ظَمَأٌ‏}‏ عطش، ‏{‏وَلا نَصَبٌ‏}‏ تعب، ‏{‏وَلا مَخْمَصَةٌ‏}‏ مجاعة، ‏{‏فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا‏}‏ أرضا، ‏{‏يَغِيظُ الْكُفَّارَ‏}‏ وطؤهم إياه ‏{‏وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا‏}‏ أي‏:‏ لا يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو غنيمة أو هزيمة، ‏{‏إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا الوليد بن مسلم، حدثنا يزيد بن أبي مريم، حدثنا عباية بن رفاعة قال‏:‏ أدركني أبو عبس وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله على النار‏"‏‏.‏

واختلفوا في حكم هذه الآية، قال قتادة‏:‏ هذه خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا غزا بنفسه لم يكن لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر، فأما غيره من الأئمة والولاة فيجوز لمن شاء من المسلمين أن يتخلف عنه إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة‏.‏

وقال الوليد بن مسلم‏:‏ سمعت الأوزاعي، وابن المبارك، وابن جابر، وعمر بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية‏:‏ إنها لأول هذه الأمة وآخرها‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ هذا حين كان أهل الإسلام قليلا فلما كثروا نسخها الله تعالى وأباح التخلف لمن يشاء، فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏121‏]‏

‏{‏وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏121‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً‏}‏ أي‏:‏ في سبيل الله، ‏{‏صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً‏}‏ ولو عِلاقَةَ سوط، ‏{‏وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا‏}‏ لا يجاوزون واديا في مسيرهم مقبلين أو مدبرين‏.‏ ‏{‏إِلا كُتِبَ لَهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ آثارهم وخطاهم، ‏{‏لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ روي عن خريم بن فاتك قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من أنفق نفقة في سبيل الله كتب له سبعمائة ضعف‏"‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا جرير عن الأعمش، عن أبي عمرو الشيباني، عن أبي مسعود الأنصاري قال‏:‏ جاء رجل بناقة مخطومة فقال‏:‏ هذه في سبيل الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لك بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو معمر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا الحسين حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو سلمة، حدثني بُسْر بن سعيد، حدثني زيد بن خالد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا، ومن خَلَفَ غازيا في سبيل الله بخير فقد غزا‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏122‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ‏(‏122‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً‏}‏ الآية‏.‏ قال ابن عباس في رواية الكلبي‏:‏ لما أنزل الله عز وجل عيوب المنافقين في غزوة تبوك كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعث السرايا فكان المسلمون ينفرون جميعا إلى الغزو ويتركون النبي صلى الله عليه وسلم وحده، فأنزل الله عز وجل هذه الآية وهذا نفي بمعنى النهي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ‏}‏ أي‏:‏ فهلا خرج إلى الغزو من كل قبيلة جماعة ويبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة ‏{‏لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ‏}‏ يعني الفرقة القاعدين، يتعلمون القرآن والسنن والفرائض والأحكام، فإذا رجعت السرايا أخبروهم بما أُنزل بعدهم، فتمكث السرايا يتعلمون ما نزل بعدهم، وتبعث سرايا أخر، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ‏}‏ وليعلموهم بالقرآن ويخوفوهم به، ‏{‏إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ‏}‏ لا يعملون بخلافه‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هذا التفقه والإنذار راجع إلى الفرقة النافرة، ومعناه‏:‏ هلا نفر فرقة ليتفقهوا، أي‏:‏ ليتبصروا بما يريهم الله من الظهور على المشركين ونصرة الدين، ولينذروا قومهم من الكفار إذا رجعوا إليهم من الجهاد فيخبروهم بنصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لعلهم يحذرون أن يعادوا النبي صلى الله عليه وسلم، فينزل بهم ما نزل بأصحابهم من الكفار‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ لها وجه آخر وهو أن أحياء من بني أسد من خزيمة أصابتهم سنة شديدة فأقبلوا بالذراري حتى نزلوا المدينة فأفسدوا طرقها بالعذرات وأغلوا أسعارها فنزل قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ‏}‏ أي‏:‏ لم يكن لهم أن ينفروا كافة ولكن من كل قبيلة طائفة ليتفقهوا في الدين‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ نزلت في ناس خرجوا في البوادي ابتغاء الخير من أهلها فأصابوا منهم معروفا، ودَعَوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم‏:‏ ما نراكم إلا وقد تركتم صاحبكم وجئتمونا، فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجًا، وأقبلوا كلهم من البادية حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله هذه الآية، أي‏:‏ هلا نَفَر من كل فرقة طائفةٌ ليتفقهوا في الدين ويستمعوا ما أنزل بعدهم ولينذروا قومهم، يعني‏:‏ الناس كلهم إذا رجعوا إليهم ويدعوهم إلى الله، لعلهم يحذرون بأس الله ونقمته، وقعدت طائفة يبتغون الخير‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنبأنا أبو الحسن الطيسفوني، حدثنا عبد الله بن عمر الجوهري، حدثنا أحمد بن علي الكشميهني حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا عبد الله بن أبي سعيد بن أبي هند عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مَنْ يرد الله به خيرا يُفَقِّهْهُ في الدين‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب، حدثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أنبأنا سفيان، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تجدون الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا‏"‏‏.‏

والفقه‏:‏ هو معرفة أحكام الدين، وهو ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية، ففرض العين مثل‏:‏ علم الطهارة والصلاة، والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏طلب العلم فريضة على كل مسلم‏"‏‏.‏ وكذلك كل عبادة أوجبها الشرع على كل واحد، يجب عليه معرفة علمها، مثل‏:‏ علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه‏.‏

وأما فرض الكفاية فهو‏:‏ أن يتعلم حتى يبلغ درجة الاجتهاد ورتبة الفتيا، فإذا قعد أهل بلد عن تعلمه عصوا جميعا، وإذا قام من كل بلد واحد فتعلَّمه سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث، روى أبو أمامة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم‏"‏‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد‏"‏‏.‏

قال الشافعي‏:‏ طلب العلم أفضل من صلاة النافلة‏.‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ‏}‏ الآية، أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ مثل بني قريظة والنضير وخيبر ونحوها‏.‏

وقيل‏:‏ أراد بهم الروم لأنهم كانوا سكان الشام وكان الشام أقرب إلى المدينة من العراق، ‏{‏وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً‏}‏ شِدَّةً وحمية‏.‏ قال الحسن‏:‏ صبرًا على جهادهم، ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ‏}‏ بالعون والنصرة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏124- 126‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ‏(‏124‏)‏ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ‏(‏125‏)‏ أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏126‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا‏}‏ يقينا‏.‏ كان المنافقون يقولون هذا استهزاء، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ يقينا وتصديقا، ‏{‏وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ‏}‏ يفرحون بنزول القرآن‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ شك ونفاق، ‏{‏فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ كفرا إلى كفرهم، فعند نزول كل سورة ينكرونها يزداد كفرهم بها‏.‏

قال مجاهد‏:‏ هذه الآية إشارة إلى الإيمان‏:‏ يزيد وينقص‏.‏

وكان عمر يأخذ بيد الرجل والرجلين من أصحابه فيقول‏:‏ تعالوا حتى نزداد إيمانا‏.‏

وقال علي بن أبي طالب‏:‏ إن الإيمان يبدو لُمْظَة بيضاء في القلب، فكلما ازداد الإيمان عظما ازداد ذلك البياض حتى يبيض القلب كله، وإن النفاق يبدو لمظة سوداء في القلب فكلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد حتى يسود القلب كله، وايم الله لو شققتم عن قلب مؤمن لوجدتموه أبيض ولو شققتم عن قلب منافق لوجدتموه أسود‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ‏}‏‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏أَوَلا يَرَوْنَ‏}‏ قرأ حمزة ويعقوب‏:‏ ‏"‏ترون‏"‏ بالتاء على خطاب النبي المؤمنين، وقرأ الآخرون بالياء، خبر عن المنافقين المذكورين‏.‏ ‏{‏أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ‏}‏ يُبتلون ‏{‏فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ‏}‏ بالأمراض والشدائد‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ بالقحط والشدة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بالغزو والجهاد‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ يفضحون بإظهار نفاقهم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ ينافقون ثم يؤمنون ثم ينافقون‏.‏ وقال يمان‏:‏ ينقضون عهدهم في السنة مرة أو مرتين‏.‏ ‏{‏ثُمَّ لا يَتُوبُونَ‏}‏ من نقض العهد ولا يرجعون إلى الله من النفاق، ‏{‏وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يتعظون بما يرون من تصديق وعد الله بالنصر والظفر للمسلمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏127- 129‏]‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ ‏(‏127‏)‏ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ‏(‏128‏)‏ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ‏(‏129‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ‏}‏ فيها عيب المنافقين وتوبيخهم، ‏{‏نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ‏}‏ يريدون الهرب يقول بعضهم لبعض إشارة، ‏{‏هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ‏}‏ أي‏:‏ أحد من المؤمنين، إن قمتم، فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد، وإن علموا أن أحدا يراهم أقاموا وثبتوا، ‏{‏ثُمَّ انْصَرَفُوا‏}‏ عن الإيمان بها‏.‏ وقيل‏:‏ انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها، ‏{‏صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ‏}‏ عن الإيمان‏.‏ قال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ أضلّهمُ الله مجازاة على فعلهم ذلك، ‏{‏بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ‏}‏ عن الله دينه‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏لا تقولوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا قد قضينا الصلاة‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ تعرفون نسبه وحسبه، قال السدي‏:‏ من العرب، من بني إسماعيل‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ليس من العرب قبيل إلا وقد ولدت النبي صلى الله عليه وسلم، وله فيهم نسب‏.‏

وقال جعفر بن محمد الصادق‏:‏ لم يصبه شيء من ولاد الجاهلية من زمان آدم عليه السلام‏.‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، أخبرنا عبد الله بن حامد، حدثنا حامد بن محمد، أخبرنا علي بن عبد العزيز، حدثنا محمد بن أبي نعيم، حدثنا هشيم، حدثني المدني- يعني‏:‏ أبا معشر- عن أبي الحويرث، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما وَلَدَني من سفاح أهل الجاهلية شيء، ما وَلَدَنِي إلا نِكَاحٌ كنكاح الإسلام‏"‏‏.‏

وقرأ ابن عباس والزهري وابن محيصن ‏"‏من أَنْفَسكم‏"‏ بفتح الفاء، أي‏:‏ من أشرفكم وأفضلكم‏.‏ ‏{‏عَزِيزٌ عَلَيْهِ‏}‏ شديد عليه، ‏{‏مَا عَنِتُّمْ‏}‏ قيل ‏"‏ما‏"‏ صلة أي‏:‏ عنتكم، وهو دخول المشقة والمضرة عليكم‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ ما أعنتكم وضركم‏.‏ وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ما ضللتم‏.‏

وقال الضحاك والكلبي‏:‏ ما أتممتم‏.‏

‏{‏حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ على إيمانكم وصلاحكم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حريص عليكم أي‏:‏ على ضالكم أن يهديه الله، ‏{‏بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ قيل‏:‏ رؤوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين‏.‏

‏{‏فَإِنْ تَوَلَّوْا‏}‏ إن أعرضوا عن الإيمان وناصبوك الحرب ‏{‏فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏}‏‏.‏

روي عن أبي بن كعب قال‏:‏ آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان ‏{‏لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏ وقال‏:‏ هما أحدث الآيات بالله عهدًا‏.‏