فصل: تفسير الآيات رقم (12- 13)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 13‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ‏(‏12‏)‏ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ‏(‏13‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا‏}‏ قيل‏:‏ خوفا من الصاعقة، طمعاً في نفع المطر‏.‏ وقيل‏:‏ الخوف للمسافر، يخاف منه الأذى والمشقة والطمع للمقيم يرجو منه البركة والمنفعة‏.‏

وقيل‏:‏ الخوف من المطر في غير مكانه وإبَّانه، والطمع إذا كان في مكانه وإبَّانه، ومن البلدان ما إذا أمطروا وقحطوا وإذا لم يمطروا أخصبوا‏.‏

‏{‏وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ‏}‏ بالمطر‏.‏ يقال‏:‏ أنشأ الله السحابة فنشأت أي‏:‏ أبداها فبدت، والسحاب جمع، واحدتها سحابة، قال علي رضي الله عنه‏:‏ السحاب غربال الماء‏.‏

‏{‏وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ‏}‏ أكثر المفسرين على أن الرعد اسم ملك يسوق السحاب، والصوت المسموع منه تسبيحه‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ من سمع صوت الرعد فقال‏:‏ سبحان الذي يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير، فإن أصابته صاعقة فعليَّ ديته‏.‏

وعن عبد الله بن الزبير‏:‏ أنه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث‏:‏ وقال‏"‏ سبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته، ويقول‏:‏ إن هذا الوعيد لأهل الأرض شديد‏.‏

وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل، ولأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد‏"‏

وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس‏:‏ الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر، وأن بحور الماء في نقرة إبهامه، وأنه يسبح الله تعالى، فإذا سبح لا يبقى مَلَكٌ في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل القطر‏.‏ ‏{‏وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ‏}‏ أي‏:‏ تسبح الملائكة من خيفة الله عز وجل وخشيته‏.‏ وقيل‏:‏ أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد، جعل الله تعالى له أعوانا، فهم خائفون خاضعون طائعون‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ‏}‏ جمع صاعقة، وهي‏:‏ العذاب المهلك، ينزل من البرق فيحرق من يصيبه، ‏{‏فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ‏}‏ كما أصاب أربد بن ربيعة‏.‏ وقال محمد بن علي الباقر‏:‏ الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر‏.‏

‏{‏وَهُمْ يُجَادِلُونَ‏}‏ يخاصمون، ‏{‏فِي اللَّهِ‏}‏ نزلت في شأن أربد بن ربيعة حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ممَّ ربك أمن دُرٍّ أم من ياقوت أم من ذهب‏؟‏ فنزلت صاعقة من السماء فأحرقته‏.‏

وسئل الحسن عن قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ‏}‏ الآية، قال‏:‏ كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم نفراً يدعونه إلى الله ورسوله‏.‏ فقال لهم‏:‏ أخبروني عن رب محمد هذا الذي تدعونني إليه ممَّ هو‏؟‏ من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس‏؟‏ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه‏؟‏ فقال‏:‏ ارجعوا إليه، فرجعواإليه فجعل لا يزيدهم على مثل مقالته الأولى، وقال‏:‏ أجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه‏.‏ فانصرفوا وقالوا‏:‏ يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى وأخبث‏.‏

فقال‏:‏ ارجعوا إليه، فرجعوا، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه، وهو يقول هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة، فكانت فوق رؤوسهم، فرعدت وبرقت، ورمت بصاعقة، فاحترق الكافر، وهم جلوس، فجاؤوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستقبلهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لهم‏:‏احترق صاحبكم‏.‏فقالوا‏:‏من أين علمتم فقالوا‏:‏ أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ‏}‏‏.‏

‏{‏وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ‏}‏ قال علي رضي الله عنه‏:‏ شديد الأخذ‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ شديد الحول‏.‏

وقال الحسن‏:‏ شديد الحقد‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ شديد القوة‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ شديد العقوبة‏.‏

وقيل‏:‏ شديد المكر‏.‏

والمِحال والمُمَاحلة‏:‏ المماكرة والمغالبة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ‏}‏ أي‏:‏ لله دعوة الصدق‏.‏

قال علي رضي الله عنه‏:‏ دعوة الحق التوحيد‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏

وقيل‏:‏ الدعاء بالإخلاص، والدعاء الخالص لا يكون إلا لله عز وجل‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ‏}‏ أي‏:‏ يعبدون الأصنام من دون الله تعالى‏.‏ ‏{‏لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ‏}‏ أي‏:‏ لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضر، ‏{‏إِلا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ‏}‏ أي‏:‏ إلا كباسط كفيه ليقبض على الماء والقابض على الماء لا يكون في يده شيء، ولا يبلغ إلى فيه منه شيء، كذلك الذي يدعو الأصنام، وهي لا تضر ولا تنفع، لا يكون بيده شيء‏.‏

وقيل‏:‏ معناه كالرجل العطشان الذي يرى الماء من بعيد، فهو يشير بكفه إلى الماء، ويدعوه بلسانه، فلا يأتيه أبدا، هذا معنى قول مجاهد‏.‏

ومثله عن علي وعطاء‏:‏ كالعطشان الجالس على شفير البئر، يمد يده إلى البئر فلا يبلغ قعر البئر إلى الماء، ولا يرتفع إليه الماء، فلا ينفعه بسط الكف إلى الماء ودعاؤه له، ولا هو يبلغ فاه، كذلك الذين يدعون الأصنام لا ينفعهم دعاؤها، وهي لا تقدر على شيء‏.‏

وعن ابن عباس‏:‏ كالعطشان إذا بسط كفيه في الماء لا ينفعه ذلك ما لم يغرف بهما الماء، ولا يبلغ الماء فاه ما دام باسطا كفيه‏.‏ وهو مثل ضربه لخيبة الكفار‏.‏

‏{‏وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ‏}‏ أصنامهم، ‏{‏إِلا فِي ضَلالٍ‏}‏ يضل عنهم إذا احتاجوا إليه، كما قال‏:‏ ‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏(‏الأنعام- 24 وغيرها‏)‏‏.‏

وقال الضحاك عن ابن عباس‏:‏ وما دعاء الكافرين ربهم إلا في ضلال لأن أصواتهم محجوبة عن الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ‏(‏15‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عزّ وجل‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا‏}‏ يعني‏:‏ الملائكة والمؤمنين، ‏{‏وَكَرْهًا‏}‏ يعني‏:‏ المنافقين والكافرين الذين أكرهوا على السجود بالسيف‏.‏

‏{‏وَظِلالُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ ظلال الساجدين طوعا وكرها تسجد لله عز وجل طوعا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ظل المؤمن يسجد طوعا وهو طائع، وظل الكافر يسجد طوعا وهو كاره‏.‏

‏{‏بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ‏}‏ يعني إذا سجد بالغدو أو العشي يسجد معه ظله‏.‏ و‏"‏الآصال‏"‏‏:‏ جمع ‏"‏الأصُل‏"‏، و‏"‏الأصُل‏"‏ جمع ‏"‏الأصيل‏"‏، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏لم تَسِقْهُ‏"‏ من وسقت الشيء أسق وسقا‏:‏ إذا حملته‏.‏

وقيل‏:‏ ظلالهم أي‏:‏ أشخاصُهم، بالغدو والآصال‏:‏ بالبُكَرِ والعَشَايا‏.‏ وقيل‏:‏ سجود الظل تذليله لما أُريدَ له‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏16‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏16‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ خالقُهما ومدبِّرهما فسيقولون الله لأنهم يقرُّون بأن الله خالقهم وخالق السموات والأرض، فإذا أجابوك فقل أنت أيضا يا محمد‏:‏ ‏"‏الله‏"‏‏.‏ وروي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا‏:‏ أجِِبْ أنت، فأمره الله عز وجل فقال‏:‏ ‏{‏قُلِ اللَّهُ‏}‏‏.‏

ثم قال الله لهم إلزاما للحجة‏:‏ ‏{‏قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ‏}‏ معناه‏:‏ إنكم مع إقراركم بأن الله خالق السموات والأرض اتخذتم من دونه أولياء فعبدتموها من دون الله، يعني‏:‏ الأصنام، وهم ‏{‏لا يَمْلِكُونَ لأنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلا ضَرًّا‏}‏ فكيف يملكون لكم‏؟‏

ثم ضرب لهم مثلا فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ‏}‏ كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن، ‏{‏أَمْ هَلْ تَسْتَوِي‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ‏"‏ يستوي ‏"‏ بالياء، وقرأ الآخرون بالتاء لأنه لا حائل بين الاسم والفعل المؤنث‏.‏ ‏{‏الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏}‏ أي‏:‏ كما لا يستوي الظلمات والنور لا يستوي الكفر والإيمان‏.‏

‏{‏أَمْ جَعَلُوا‏}‏ أي‏:‏ جعلوا، ‏{‏شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله تعالى فلا يدرون ما خلق الله وما خلق آلهتهم‏.‏

‏{‏قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ‏}‏ ثم ضرب الله تعالى مثلين للحق والباطل، فقال عز وجل‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ ‏(‏17‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أَنْزَلَ‏}‏ يعني‏:‏ الله عز وجل، ‏{‏مِنَ السَّمَاءِ مَاءً‏}‏ يعني‏:‏ المطر، ‏{‏فَسَالَتْ‏}‏ من ذلك الماء، ‏{‏أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا‏}‏ أي‏:‏ في الصغر والكبر، ‏{‏فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ‏}‏ الذي حدث من ذلك الماء، ‏{‏زَبَدًا رَابِيًا‏}‏ الزَّبَد‏:‏ الخَبَثُ الذي يظهر على وجه الماء، وكذلك على وجه القِدْر، ‏"‏رابياً‏"‏ أي عالياً مرتفعاً فوق الماء، فالماء الصافي الباقي هو الحق، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار وجوانب الأودية هو الباطل‏.‏

وقيل‏:‏ قوله ‏"‏أنزل من السماء ماء‏"‏‏:‏ هذا مَثَلٌ للقرآن، والأودية مَثَلٌ للقلوب، يريد‏:‏ ينزل القرآن، فتحمل منه القلوب على قدر اليقين والعقل والشك والجهل‏.‏ فهذا أحد المَثَلَين‏.‏ والمثل الآخر‏:‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ‏}‏‏.‏

قرأ حمزة والكسائي وحفص ‏{‏يُوقِدُونَ‏}‏ بالياء لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا يَنْفَعُ النَّاسَ‏}‏ ولا مخاطبة هاهنا‏.‏ وقرأ الآخرون بالتاء ‏"‏ ومما توقدون ‏"‏ أي‏:‏ ومن الذي توقدون عليه في النار‏.‏ والإيقاد‏:‏ جعل النار تحت الشيء ليذوب‏.‏

‏{‏ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ‏}‏ أي‏:‏ لطلب زينة، وأراد الذهبَ والفضةَ؛ لأن الحلية تُطلبُ منهما، ‏{‏أَوْ مَتَاعٍ‏}‏ أي‏:‏ طلب متاع وهو ما ينتفع به، وذلك مثل الحديد، والنحاس، والرصاص، والصُّفْرـ تذاب فيتخذ منها الأواني وغيرها مما ينتفع بها، ‏{‏زَبَدٌ مِثْلُهُ‏}‏‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ‏}‏ أي‏:‏ إذا أُذيبَ فله أيضاً زبد مثل زبد الماء، فالباقي الصافي من هذه الجواهر مثل الحق، والزبد الذي لا ينتفع به مثل الباطل‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الزَّبَدُ‏}‏ الذي علا السيل والفِلِزّ، ‏{‏فَيَذْهَبُ جُفَاءً‏}‏ أي‏:‏ ضائعا باطلا والجفاء ما رمى به الوادي من الزَّبَد، والقِدْرُ إلى جنباته‏.‏ يقال‏:‏ جفا الوادي وأَجْفَأ‏:‏ إذا ألقى غُثاءهُ، وأَجْفَأَتِ القِدْر وجَفَأَت‏:‏ إذا غَلت وألقَت زبدها، فإذا سكنت لم يبق فيها شيء‏.‏

معناه‏:‏ إن الباطل وإن علا في وقتٍ فإنه يضمَحِلُّ‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏جُفَاءً‏"‏ أي‏:‏ متفرقا‏.‏ يقال‏:‏ جفأتِ الريحُ الغيَم إذا فَرَّقَتْه وذهبَت به‏.‏

‏{‏وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ‏}‏ يعني‏:‏ الماء والفلز من الذهب والفضة والصفر والنحاس، ‏{‏فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ يبقى ولا يذهب‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ‏}‏ جعل الله تعالى هذا مثلا للحق والباطل، أي‏:‏ أَنَّ الباطل كالزبد يذهب ويضيع، والحقّ كالماء والفلز يبقى في القلوب‏.‏ وقيل‏:‏ هذا تسلية للمؤمنين، يعني‏:‏ أن أمر المشركين كالزبد يُرى في الصورة شيئاً وليس له حقيقة، وأمرُ المؤمنين كالماءِ المستقرِّ في مكانه له البقاءُ والثبات‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 19‏]‏

‏{‏لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏18‏)‏ أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ ‏(‏19‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لربهم‏}‏ أجابوا لِرَبِّهِمُ فأطاعوه، ‏{‏الْحُسْنَى‏}‏ الجنة، ‏{‏وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ‏}‏ أي‏:‏ لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار، ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ‏}‏ قال إبراهيم النخعي‏:‏ سُوء الحساب‏:‏ أن يحاسبَ الرجلُ بذنبه كلّه لا يغفر له من شيء ‏{‏وَمَأْوَاهُمْ‏}‏ في الآخرة ‏{‏جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ‏}‏ الفِراش، أي‏:‏ بئس ما مُهِِد لهم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ‏}‏ فيؤمن به ويعمل بما فيه، ‏{‏كَمَنْ هُوَ أَعْمَى‏}‏ عنه لا يعلمُه ولا يعملُ به‏.‏ قيل‏:‏ نزلت في حمزة وأبي جهل‏.‏ وقيل‏:‏ في عمار وأبي جهل‏.‏

فالأول حمزة أو عمار، والثاني أبو جهل، وهو الأعمى‏.‏ أي‏:‏ لا يستوي مَنْ يبصر الحق ويتبعُه ومَنْ لا يُبصرُه ولا يتبعُهُ‏.‏

‏{‏إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ‏}‏ يتعظ، ‏{‏أُولُو الألْبَابِ‏}‏ ذوو العقول‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 21‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ‏}‏ بما أمرهم الله تعالى به وفَرَضَهُ عليهم فلا يخُالفونه، ‏{‏وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ‏}‏ وقيل‏:‏ أراد العهدَ الذي أخذه على ذرية آدم عليه السلام حين أخرجهم من صُلبه‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ‏}‏ قيل‏:‏ أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل ولا يفرقون بينهما‏.‏ والأكثرون على أنه أراد به صلة الرحم‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرّياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا ابن أبي شيبة، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن أبي سلمة أنَّ عبد الرحمن بن عوف عادَ أبا الدرداء فقال- يعني عبد الرحمن-‏:‏ سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ فيما يحكي عن ربه عز وجل‏:‏ ‏"‏أنا الله، وأنا الرحمن، وهي الرَّحِمُ، شققت لها من اسمي اسما، فمن وصلها وصَلْتُه ومن قطعها بَتَتُّه‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرَّياني، حدثني حميد بن زنجويه، حدثنا ابن أبي أويس، قال‏:‏ حدثني سليمان بن بلال عن معاوية بن أبي مُزَرِّد، عن سعيد بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏خلق الله الخلق فلما فرغ منه قامت الرَّحِمُ فأخذت بِِحَقْوَيِ الرحمن، فقال‏:‏ مَهْ، قالت‏:‏ هذا مقامُ العائذ بك من القطيعة، قال‏:‏ ألا ترضين أن أصِلَ مَنْ وصلك وأقطعَ مَنْ قطعكِ‏؟‏ قالت‏:‏ بلى يا ربِّ، قال‏:‏ فذلك لك‏"‏، ثم قال أبو هريرة‏:‏ اقرؤوا إن شئتم ‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ‏}‏ ‏(‏محمد- 22‏)‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أبو منصور السمعاني، أنبأنا أبو جعفر الرَّياني، حدثنا حميد بن زنجوَيه، حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا كثير بن عبد الله اليشكري، حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ثلاثةٌ تحت العرشِ يوم القيامة‏:‏ القرآنُ يُحَاجُّ العباد، له ظهرٌ وبطنٌ، والأمانةُ، والرَّحِمُ تنادي أَلا مَنْ وصَلني وصله الله ومَنْ قطعني قطَعه الله‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرَّياني، أخبرنا حميد بن زنجويه، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، حدثني عُقيل عن ابن شهاب أخبرني أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من أحبَّ أن يُبْسَطَ له في رزقه ويُنْسَأَ له في أثره فليصلْ رحمه‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شُريح، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا علي بن الجعد، حدثنا شعبة، عن عُيينة بن عبد الرحمن قال‏:‏ سمعت أبي يحدِّث عن أبي بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما مِنْ ذَنْبٍ أحرى أن يُعَجِّل الله لصاحبه العقُوبَة في الدنيا مع ما يُدَّخرُ له في الآخرة من البغي وقطيعةِ الرّحِمِ‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين بن بشرَان، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، أخبرنا أحمد بن منصور الزيادي، حدثنا عبد الرزاق، حدثنا معمر، عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏لا يدخل الجنَّةَ قاطِعٌ‏"‏‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي، حدثنا أحمد بن إسحاق الصيدلاني، أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد بن نصر، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا عمرو بن عثمان قال سمعت موسى بن طلحة يذكر عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن أعرابياً عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مسير له فقال‏:‏ أخبرني بما يقربني من الجنة ويباعدني من النار، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏تعبد الله، لا تشرك به شيئا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه حدثنا أبو يعلى وأبو نُعيم قالا حدثنا قطر، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ليس الواصلُ بالمكافئ ولكنَّ الواصلَ الذي إذا قُطِعَتْ رَحِمُه وَصَلَها‏"‏ رواه محمد بن إسماعيل عن محمد بن كثير عن سفيان عن قطر وقال‏:‏ إذا قطعت رحمه وصلها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ صَبَرُوا‏}‏ على طاعة الله، وقال ابن عباس‏:‏ على أمر الله عز وجل‏.‏ وقال عطاء‏:‏ على المصائب والنوائب‏.‏ وقيل‏:‏ عن الشهوات‏.‏ وقيل‏:‏ عن المعاصي‏.‏

‏{‏ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ‏}‏ طلب تعظيمه أن يخالفوه‏.‏

‏{‏وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً‏}‏ يعني يؤدّون الزكاة‏.‏

‏{‏وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ‏}‏ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ يدفعون بالصالح من العمل السيئَ من العمل، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ‏}‏ ‏(‏هود- 114‏)‏‏.‏ وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا عملت سيئةً فاعمل بجنبها حسنةً تمحها، السِرُّ بالسر والعلانيةُ بالعلانية‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أنبأنا محمد بن أحمد بن الحارث، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنبأنا عبد الله بن محمود، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة، حدثني يزيد بن أبي حبيب، حدثنا أبو الخير، أنه سمع عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجلٍ كانت عليه درعٌ ضَيّقَةٌ قد خنقته، ثم عَمِل حسنة، فانفكَّت عنه حلقة، ثم عمل أخرى فانفكت أخرى، حتى يخرج إلى الأرض‏"‏‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ معنى الآية‏:‏ يدفعون الذنب بالتوبة‏.‏

وقيل‏:‏ لا يكافئون الشَّر بالشِّر، ولكن يدفعون الشَّر بالخير‏.‏

وقال القتيبي‏:‏ معناه‏:‏ إذا سُفِهَ عليهم حَلِمُوا، فالسفَهُ‏:‏ السَّيِّئَةُ، والحلمُ‏:‏ الحسنة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ردُّوا عليهم معروفا، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا‏}‏ ‏(‏الفرقان- 63‏)‏‏.‏

وقال الحسن‏:‏ إذا حُرِمُوا أعطوا، وإذا ظُلِمُوا عَفَوْا، وإذا قُطِعُوا وصلوا‏.‏

قال عبد الله بن المبارك‏:‏ هذه ثمان خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنة‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏ يعني الجنة، أي‏:‏ عاقبتهم دار الثواب‏.‏ ثم بيّن ذلك فقال‏:‏ ‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ‏(‏23‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏جَنَّاتُ عَدْنٍ‏}‏ بساتين إقامة، ‏{‏يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ‏}‏‏.‏

قيل‏:‏ من أبواب الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ من أبواب القصور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏24‏)‏ وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏25‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏سَلامٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يقولون سلام عليكم‏.‏

وقيل‏:‏ يقولون‏:‏ سلَّمكم الله من الآفات التي كنتم تخافونَ منها‏.‏

قال مقاتل‏:‏ يدخلون عليهم في مقدار يوم وليلة من أيام الدنيا ثلاث كرَّات، معهم الهدايا والتحف من الله عز وجل، يقولون سلام عليكم، ‏{‏بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن بقية بن الوليد، حدثني أرطاة بن المنذر قال‏:‏ سمعت رجلا من مشيخة الجند يقال له أبو الحجاج يقول‏:‏ جلست إلى أبي أمامة فقال‏:‏ إن المؤمن ليكون متّكئًا على أريكته إذا أدخل الجنة، وعنده سِمَاطَان من خَدَمٍٍ، وعند طرف السِّماطين باب مبوَّبٌ‏.‏ فيُقْبِلُ مَلَك من ملائكة الله يستأذن، فيقوم أقصى الخدم إلى الباب، فإذا هو بالمَلك يستأذن، فيقول للذي يليه‏:‏ مَلَك يستأذن ويقول الذي يليه للذي يليه مَلَك يستأذن كذلك حتى يبلغ المؤمن، فيقول‏:‏ ائذنوا له، فيقول أقربهم إلى المؤمن‏:‏ ائذنوا له، ويقول الذي يليه للذي يليه‏:‏ ائذنوا له كذلك حتى يبلغ أقصاهم الذي عند الباب، فيفتح له فيدخل، فيسلم ثم ينصرف‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ‏}‏ هذا في الكفار‏.‏ ‏{‏وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ‏}‏ أي‏:‏ يؤمنون ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض‏.‏ وقيل‏:‏ يقطعون الرحم‏.‏

‏{‏وَيُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ يعملون بالمعاصي، ‏{‏أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏ يعني‏:‏ النار، وقيل‏:‏ سوء المنقلب لأن منقلب الناس دُورُهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26- 28‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ ‏(‏26‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ‏(‏28‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ‏}‏ أي‏:‏ يُوسِّع على من يشاء ويُضيقُ على من يشاء‏.‏

‏{‏وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ يعني‏:‏ مشركي مكة أَشروا وبَطَروا، والفرح‏:‏ لذة في القلب بِنَيْل المشتهى، وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام‏.‏

‏{‏وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ‏}‏ أي‏:‏ قليل ذاهب‏.‏ قال الكلبي‏:‏ كمثل السُكرجةِ والقَصعة والقدَح والقِدرِ ينتفع بها ثم تذهب‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ من أهل مكة، ‏{‏لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ‏}‏ أي‏:‏ يهدي إليه من يشاء بالإنابة‏.‏ وقيل‏:‏ يرشدُ إلى دينه من يرجع إليه بقلبه‏.‏

‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ في محل النصب، بدل من قوله‏:‏ ‏"‏من أَنَابَ‏"‏، ‏{‏وَتَطْمَئِنُّ‏}‏ تسكن، ‏{‏قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ بالقرآن، والسُّكون يكون باليقين، والاضطراب يكونُ بالشك، ‏{‏أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ‏}‏ تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيها اليقين‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هذا في الحَلِفِ، يقول‏:‏ إذا حلف المسلم بالله على شيء تسكن قلوبُ المؤمنينَ إليه‏.‏

فإن قيل‏:‏ أليس قد قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِر اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ ‏(‏الأنفال- 2‏)‏ فكيف تكونُ الطمأنينةُ والوَجَل في حالةٍ واحدةٍ‏؟‏

قيل‏:‏ الوَجَل عند ذكر الوعيد والعقاب، والطمأنينة عند ذكر الوعد والثواب، فالقلوب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وثوابه وكرمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ‏}‏ ابتداءٌ، ‏{‏طُوبَى لَهُمْ‏}‏ خبره‏.‏

واختلفوا في تفسير ‏{‏طُوبَى‏}‏‏.‏

روي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ فَرَحٌ لهم وقُرّةُ عين‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ نِعْمَ مالهم‏.‏

وقال قتادة‏:‏ حسنى لهم‏.‏

وقال معمر عن قتادة‏:‏ هذه كلمة عربية، يقول الرجل للرجل‏:‏ طوبى لك، أي‏:‏ أصبت خيرا‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ خير لهم وكرامة‏.‏

وقال الفراء‏:‏ أصله من الطيب، والواو فيه لضمة الطاء، وفيه لغتان، تقول العرب‏:‏ طوباك وطوبى لك أي‏:‏ لهم الطيب‏.‏

‏{‏وَحُسْنُ مَآبٍ‏}‏ أي‏:‏ حسن المنقلب‏.‏

قال سعيد بن جبير عن ابن عباس‏:‏ طوبى اسم الجنة بالحبشية‏.‏

قال الربيع‏:‏ هو البستان بلغة الهند‏.‏

وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرداء قالوا‏:‏ طوبى شجرة في الجنة تُظِلُّ الجنانَ كلها‏.‏ وقال عبيد بن عمير‏:‏ هي شجرة في جنة عدن أصلها في دار النبي صلى الله عليه وسلم، وفي كل دار وغرفةٍ غصن منها لم يخلق الله لوناً ولا زهرةً إلا وفيها منها إلا السواد، ولم يخلق الله تعالى فاكهةً ولا ثمرة إلا وفيها منها‏.‏ تنبع من أصلها عينان‏:‏ الكافور والسلسبيل‏.‏

قال مقاتل‏:‏ كل ورقة منها تُظِلُّ أمة عليها مَلَكٌ يُسبِّح الله عز وجل بأنواع التسبيح‏.‏

وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما طوبى‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏شجرةٌ في الجنة مسيرة مائة سنة، ثيابُ أهل الجنة تخرجُ من أكمَامِها‏"‏‏.‏

وعن معاوية بن قُرّة عن أبيه يرفعه‏:‏ ‏"‏طوبى شجرةٌ غرسها الله تعالى بيده، ونفخَ فيها من رُوحه، تنبت الْحُلِيَّ والحُلَل وإن أغصانها لَتُرى من وراء سُور الجنة‏"‏‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زيادٍ مولى بني مخزوم، أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول‏:‏ إنّ في الجنة لشجرةً يسير الراكب في ظلِّها مائة سنةٍ لا يقطعها اقرؤوا إن شئتم‏:‏ ‏{‏وَظِلٍّ مَمْدُودٍ‏}‏ ‏(‏الواقعة- 30‏)‏ فبلغ ذلك كعباً فقال‏:‏ صدق والذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام والقرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، لو أنّ رجلا ركب حقّةً أو جذعة ثم دار بأصل تلك الشجرة ما بلغها حتى يسقط هَرِماً، إن الله تعالى غرسها بيده ونفخ فيها من رُوحه، وإنّ أفنانها لمن وراءِ سور الجنة، ما في الجنة نهر إلا وهو يخرج من أصل تلك الشجرة‏.‏

وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن الأشعث بن عبد الله عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال‏:‏ في الجنة شجرة يقال لها طوبى، يقول الله عز وجل لها‏:‏ تفتَّقِي لعبدي عما شئت فتنفتق له عن فرس بسرجه ولجامه وهيئته كما شاء، يفتق له عن الراحلة برحلها وزمامها وهيئتها كما شاء وعن الثياب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ‏(‏30‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل ‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ‏}‏ كما أرسلنا الأنبياء إلى الأمم أرسلناك إلى هذه الأمة، ‏{‏قَدْ خَلَتْ‏}‏ مضت، ‏{‏مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ‏}‏ لتقرأ، ‏{‏عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏}‏‏.‏

قال قتادة، ومقاتل، وابن جريج‏:‏ الآية مدنية نزلت في صُلح الحديبية، وذلك أن سهيل بن عمرو لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه‏:‏ اكتب ‏"‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏، قالوا‏:‏ لا نعرف الرّحمن إلا صاحب اليمامة- يعنون مسيلمة الكذاب- اكتب كما كنتَ تكتب‏:‏ ‏"‏باسمك اللهم‏"‏، فهذا معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏}‏‏.‏

والمعروف أن الآية مكية، وسبب نزولها‏:‏ أن أبا جهل سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الحِجْر يدعُو يا الله يا رَحمن، فرجع إلى المشركين فقال‏:‏ إن محمداً يدعو إلهين؛ يدعو الله، ويدعو إلهاً آخر يسمى الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْمَاءُ الْحُسْنَى‏}‏ ‏(‏الإسراء- 110‏)‏‏.‏

وروى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اسجدوا للرحمن، قالوا‏:‏ وما الرحمن‏؟‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم يا محمد إنَّ الرحمن الذي أنكرتم معرفته، ‏{‏هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ‏}‏ اعتمدتُ ‏{‏وَإِلَيْهِ مَتَابِ‏}‏ أي‏:‏ توبتي ومرجعي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏31‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في نفر من مشركي مكة؛ منهم أبو جهل بن هشام، وعبد الله بن أبي أمية؛ جلسوا خلف الكعبة وأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم، فقال له عبد الله بن أبي أمية‏:‏ إن سرَّك أن نتبعك فسيِّر جبال مكة بالقرآن فأذهبها عنا حتى تنفسح، فإنها أرض ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً، لنغرس فيها الأشجار ونزرع، ونتخذ البساتين، فلستَ كما زعمت بأهون على ربك من داود عليه السلام حيث سخَّر له الجبال تُسبح معه، أو سخِّر لنا الريحَ فنركبَها إلى الشام لميرتنا وحوائجنا ونرجع في يومنا، فقد سُخرت الريحُ لسليمان كما زعمتَ، ولستَ بأهون على ربك من سليمان، وأَحْيِ لنا جدَّك قُصَيّاً أو مَنْ شئت من آبائنا وموتانا لنسأله عن أمرك أحقٌّ ما تقول أم باطل‏؟‏ فإن عيسى كان يحيي الموتى، ولستَ بأهون على الله منه فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ‏}‏ فأذهبت عن وجه الأرض، ‏{‏أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ‏}‏ أي‏:‏ شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً ‏{‏أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى‏}‏ واختلفوا في جواب ‏"‏لو‏"‏‏:‏

فقال قوم جوابه محذوف، اكتفى بمعرفةِ السامعين مرادَه وتقديره‏:‏ لكان هذا القرآن، كقول الشاعر‏:‏‏.‏ فأقسم لو شيء أتانا رسوله سواك ولكن لم نجد لك مدفعا

أراد‏:‏ لرددناه، وهذا معنى قول قتادة قال‏:‏ لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ جواب لو مقدَّم‏.‏ وتقدير الكلام‏:‏ وهم يكفرون بالرحمن ‏"‏ولو أن قرآنا سيرت به الجبال‏"‏ كأنه قال‏:‏ لو سيرت به الجبال ‏"‏أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى‏"‏ لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا، لما سبقَ من علمنا فيهم، كما قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا‏}‏ ‏(‏الأنعام- 111‏)‏ ثم قال‏:‏

‏{‏بَلْ لِلَّهِ الأمْرُ جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ في هذه الأشياء إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ قال أكثر المفسرين‏:‏ معناه أفلم يعلم‏.‏ قال الكلبي‏:‏ هي لغة النَّخَع‏.‏

وقيل‏:‏ لغة هوازن، يدل عليه قراءة ابن عباس‏:‏ ‏"‏أفلم يتبين الذين آمنوا‏"‏‏.‏

وأنكر الفراء أن يكون ذلك بمعنى العلم، وزعم أنه لم يسمع أحدا من العرب يقول‏:‏ يئست، بمعنى‏:‏ علمت، ولكن معنى العلم فيه مضمر‏.‏

وذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمعوا هذا من المشركين طمعوا في أن يفعل الله ما سألوا فيؤمنوا فنزل‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ يعني‏:‏ الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من إيمان هؤلاء، أي لم ييئسوا علما، وكلُّ مَنْ علم شيئاً يئس من خلافه، يقول‏:‏ ألم ييئسهم العلمُ‏:‏ ‏{‏أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏‏.‏

‏{‏وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا‏}‏ من كفرهم وأعمالهم الخبيثة ‏{‏قَارِعَةٌ‏}‏ أي‏:‏ نازلة وداهية تقرعهم من أنواع البلاء، أحياناً بالجدب، وأحياناً بالسلب، وأحياناً بالقتل والأسر‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ أراد بالقارعة‏:‏ السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثهم إليهم‏.‏

‏{‏أَوْ تَحُلُّ‏}‏ يعني‏:‏ السرية والقارعة، ‏{‏قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ‏}‏ وقيل‏:‏ أو تحلُّ‏:‏ أي تنزل أنت يا محمد بنفسك قريبا من ديارهم، ‏{‏حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ‏}‏ قيل‏:‏ يوم القيامة‏.‏ وقيل‏:‏ الفتح والنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ‏}‏ وكان الكفار يسألون هذه الأشياء على سبيل الاستهزاء فأنزل الله تسليةً لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏32‏)‏ أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ كما استهزؤوا بك، ‏{‏فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أمهلتهم وأطلت لهم المدة، ومنه ‏"‏المَلَوانِ‏"‏، وهما‏:‏ الليل والنهار، ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ‏}‏ عاقبتهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار، ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ‏}‏ أي‏:‏ عقابي لهم‏.‏

‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ‏}‏ أي‏:‏ حافظها، ورازقها، وعالم بها، ومجازيها بما عملت‏.‏ وجوابه محذوف، تقديره‏:‏ كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه‏.‏

‏{‏وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ‏}‏ بينوا أسماءهم‏.‏

وقيل‏:‏ صِفُوهم ثم انظروا‏:‏ هل هي أَهْل لأن تُعبد‏؟‏

‏{‏أَمْ تُنَبِّئُونَهُ‏}‏ أي‏:‏ تُخبرون الله تعالى‏:‏ ‏{‏بِمَا لا يَعْلَمُ فِي الأرْضِ‏}‏ فإنه لا يعلم لنفسه شريكاً ولا في الأرض إلها غيره، ‏{‏أَمْ بِظَاهِرٍ‏}‏ يعني‏:‏ أم تتعلقون بظاهر، ‏{‏مِنَ الْقَوْلِ‏}‏ مسموعٍٍ، وهو في الحقيقة باطل لا أصل له‏.‏

وقيل‏:‏ بباطل من القول‏:‏ قال الشاعر‏:‏ وعَيَّرني الواشون أني أحبها وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عارُها

أي‏:‏ زائل‏.‏

‏{‏بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ‏}‏ كيدهم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ شركهم وكذبهم على الله‏.‏

‏{‏وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ‏}‏ أي‏:‏ صرفوا عن الدين‏.‏

قرأ أهل الكوفة ويعقوب ‏{‏وَصُدُّوا‏}‏ وفي حم المؤمن ‏{‏وَصُدَّ‏}‏ بضم الصاد فيهما، وقرأ الآخرون بالفتح لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏الحج- 25‏)‏، وقوله ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ ‏(‏النحل- 88 وغيرها‏)‏‏.‏

‏{‏وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ‏}‏ بخذلانه إياه، ‏{‏فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 36‏]‏

‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏34‏)‏ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ ‏(‏36‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ بالقتل والأسر، ‏{‏وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ‏}‏ أشد، ‏{‏وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ‏}‏ مانع يمنعهم من العذاب‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ‏}‏ أي‏:‏ صفة الجنة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى‏}‏ ‏(‏النحل- 60‏)‏ أي‏:‏ الصفة العليا، ‏{‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ‏}‏ أي‏:‏ صفة الجنة التي وعد المتقون أن الأنهار تجري من تحتها‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏مثل‏"‏ صلةٌ مجازُها ‏"‏الجنة التي وُعد المتقون تجري من تحتها الأنهار‏"‏‏.‏

‏{‏أُكُلُهَا دَائِمٌ‏}‏ أي‏:‏ لا ينقطع ثمرها ونعيمها، ‏{‏وَظِلُّهَا‏}‏ أي‏:‏ ظلها ظليل، لا يزول، وهو ردٌّ على الجهمية حيث قالوا إن نعيم الجنة يفنى‏.‏

‏{‏تِلْكَ عُقْبَى‏}‏ أي‏:‏ عاقبة ‏{‏الَّذِينَ اتَّقَوْا‏}‏ يعني‏:‏ الجنة، ‏{‏وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ من القرآن، ‏{‏وَمِنَ الأحْزَابِ‏}‏ يعني‏:‏ الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم اليهود والنصارى، ‏{‏مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ‏}‏ هذا قول مجاهد وقتادة‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ كان ذكر الرحمن قليلا في القرآن في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة، فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فأنزل الله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ‏}‏ يعني‏:‏ مشركي مكة حين كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلح‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، قالوا‏:‏ ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله عز وجل ‏{‏وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ‏}‏ ‏(‏الأنبياء- 36‏)‏ ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏}‏ ‏(‏الرعد- 30‏)‏‏.‏ وإنما قال ‏"‏بعضه‏"‏ لأنهم كانوا لا ينكرون ذكر الله وينكرون ذكر الرحمن‏.‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد، ‏{‏إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ‏}‏ أي‏:‏ مرجعي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37- 38‏]‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ‏(‏37‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ‏(‏38‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا‏}‏ يقول‏:‏ كما أنزلنا إليك الكتابَ يا محمد، فأنكره الأحزاب، كذلك أنزلنا الحكم والدين عربياً‏.‏ نُسِبَ إلى العرب لأنه نزل بلغتهم فكذب به الأحزاب‏.‏ وقيل‏:‏ نظم الآية‏:‏ كما أنزلتُ الكتبَ على الرسل بلغاتهم، فكذلك أنزلنا عليك الكتاب حكماً عربياً‏.‏

‏{‏وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ في الملة‏.‏ وقيل‏:‏ في القبلة، ‏{‏بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ‏}‏ يعني‏:‏ من ناصر ولا حافظ‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ روي أن اليهود،- وقيل‏:‏ إن المشركين- قالوا‏:‏ إنَّ هذا الرجل ليست له همة إلا في النساء فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً‏}‏ وما جعلناهم ملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون‏.‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ هذا جواب عبد الله بن أبي أمية‏.‏ ثم قال‏:‏

‏{‏لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ‏}‏ يقول‏:‏ لكل أمر قضاهُ اللهُ كتابٌ قد كتبه فيه ووقت يقع فيه‏.‏

وقيل‏:‏ لكل آجل أجَّلَهُ الله كتاب أثبت فيه‏.‏ وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير، تقديره‏:‏ أي، لكل كتاب أجلٌ ومدة، أي‏:‏ الكتب المنزلة لكل واحدٍ منها وقت ينزل فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو عمرو، وعاصم ويعقوب ‏"‏ ويثبتُ ‏"‏ بالتخفيف وقرأ الآخرون بالتشديد‏.‏ واختلفوا في معنى الآية‏:‏

فقال سعيد بن جبير، وقتادة‏:‏ يمحو الله ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله، ويثبت ما يشاء منها فلا ينسخه‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ يمحو الله ما يشاء ويثبت إلا الرزق والأجل والسعادة والشقاوة‏.‏

وروينا عن حذيفة بن أُسَيْد عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يدخُلُ المَلَكُ على النُّطْفَةِ بعدما تستقرُّ في الرحم بأربعين، أو خمس وأربعين ليلة، فيقول‏:‏ يا رب أَشَقِي أم سعيد‏؟‏ فَيُكْتَبَانِ، فيقول‏:‏ إيْ ربِّ أذكرٌ أم أنثى‏؟‏ فَيُكْتَبَانِ، ويُكْتَبُ عملُه وأثرُه وأجلُه ورزقه، ثم تطوى الصحف فلا يُزاد فيها ولا يُنْقَصُ‏"‏‏.‏

وعن عمر وابن مسعود- رضي الله عنهما- أنهما قالا يمحو السعادةَ والشقاوةَ أيضاً، ويمحو الرِزق والأجلَ ويثبتُ ما يشاء‏.‏

وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يطوف بالبيت وهو يبكي ويقول‏:‏ اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كنت كتبت عليَّ الشقاوة فامحني، وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب‏.‏ ومثله عن ابن مسعود‏.‏

وفي بعض الآثار‏:‏ أن الرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثون سنة فيقطع رحمه فترد إلى ثلاثة أيام، والرجل يكون قد بقي من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيمد إلى ثلاثين سنة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدَّثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث بن سعد، حدثني زيادة بن محمد الأنصاري، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ينزل الله عز وجل في آخر ثلاث ساعات يَبْقَيْنَ من الليل، فينظر في الساعة الأولى منهن في أم الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ معنى الآية‏:‏ إنّ الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم، فيمحو الله من ديوان الحفظة ما ليس فيه ثوابٌ ولا عقاب، مثل قوله‏:‏ أكلت، شربت، دخلت، خرجت، ونحوها من كلام هو صادق فيه، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، هذا قول الضحاك والكلبي‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ يكتب القولَ كله، حتى إذا كان يوم الخميس طرح منه كل شيء ليس فيه ثواب ولا عقاب‏.‏

وقال عطية عن ابن عباس‏:‏ هو الرجل يعمل بطاعة الله عز وجل ثم يعود لمعصيةِ الله فيموت على ضلالة فهو الذي يمحو، والذي يثبت‏:‏ الرجل يعمل بطاعة الله، فيموت وهو في طاعةِ الله عز وجل فهو الذي يثبت‏.‏

وقال الحسن‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ أي من جاء أجلهُ يذهب به ويثبت مَنْ لم يجئ أجلُهُ إلى أجله‏.‏

وعن سعيد بن جبير قال‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ من ذنوب العباد فيغفرها ويثبت ما يشاء فلا يغفرها‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ‏}‏ ‏(‏الفرقان- 70‏)‏‏.‏ وقال السدي‏:‏ ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ يعني القمر ‏{‏وَيُثْبِتُ‏}‏ يعني الشمس، بيانه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً‏}‏ ‏(‏الإسراء- 12‏)‏‏.‏

وقال الربيع‏:‏ هذا في الأرواح يقبضها الله عند النوم، فمن أراد موتَه مَحاه فأمسكه، ومن أراد بقاءه أثبته وردَّه إلى صاحبه، بيانه قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا‏}‏ الآية ‏(‏الزمر- 42‏)‏‏.‏ ‏{‏وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ أصل الكتاب، وهو اللوح المحفوظ الذي لا يبدَّل ولا يغير‏.‏

وقال عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هما كتابان‏:‏ كتابٌ سوى أم الكتاب، يمحو منه ما يشاء ويثبتُ، وأم الكتاب الذي لا يُغيّر منه شيء‏.‏

وعن عطاء عن ابن عباس قال‏:‏ إن لله تعالى لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام، من درة بيضاء لها دفتان من ياقوت، لله في كل يوم ثلاثمائة وستون لحظة ‏{‏يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ‏}‏ وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب‏؟‏ فقال‏:‏ علم الله، ما هو خالق، وما خَلْقُه عاملون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 41‏]‏

‏{‏وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ‏(‏40‏)‏ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏41‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ‏}‏ من العذاب قبل وفاتك، ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ قبل ذلك، ‏{‏فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ‏}‏ ليس عليك إلا ذلك، ‏{‏وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ‏}‏ الجزاء يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا‏}‏ يعني‏:‏ أهل مكة، الذين يسألون محمداً صلى الله عليه وسلم الآيات، ‏{‏أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ أكثر المفسرين على أن المراد منه فتح ديار الشرك، فإن ما زاد في ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك، يقول‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا‏}‏ فنفتَحُها لمحمد أرضاً بعد أرض حوالي أرضهم، أفلا يعتبرون‏؟‏ هذا قول ابن عباس وقتادة وجماعة‏.‏

وقال قوم‏:‏ هو خراب الأرض، معناه‏:‏ أَو لَمْ يروا أنا نأتي الأرض فنخربها، ونُهلك أهلَها، أفلا يخافون أن نفعل بهم ذلك‏؟‏

وقال مجاهد‏:‏ هو خراب الأرض وقبض أهلها‏.‏

وعن عكرمة قال‏:‏ قبض الناس‏.‏ وعن الشعبي مثله‏.‏

وقال عطاء وجماعة‏:‏ نقصانها موت العلماء، وذهاب الفقهاء‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً اتَّخذ الناس رُؤساءَ جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضَلُّوا وأضَلُّوا‏"‏‏.‏

وقال الحسن‏:‏ قال عبد الله بن مسعود‏:‏ موتُ العالم ثلمةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار‏.‏

وقال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ عليكم بالعلم قبل أن يُقبض وقَبضُه ذهابُ أهله‏.‏

وقال علي رضي الله عنه‏:‏ إنما مثل الفقهاء كمثل الأكف إذا قطعت كفّ لم تَعُدْ‏.‏

وقال سليمان‏:‏ لا يزال الناس بخير ما بقي الأول حتى يتعلم الآخِرُ، فإذا هلك الأولُ قبل أن يتعلّم الآخر هَلكَ الناس‏.‏

وقيل لسعيد بن جبير‏:‏ ما علامة هلاك الناس‏؟‏ قال‏:‏ هلاك عُلمائهم‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ‏}‏ لا رادَّ لقضائه، ولا ناقض لحكمه، ‏{‏وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 43‏]‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏42‏)‏ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ‏(‏43‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ من قبل مشركي مكة، والمكر‏:‏ إيصالُ المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر‏.‏

‏{‏فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ عند الله جزاء مكرهم وقيل‏:‏ إن الله خالق مكرهم جميعا، بيده الخيرُ والشرُ، وإليه النفع والضر، فلا يضر مَكْرُ أحدٍ أحدا إلا بإذنه‏.‏

‏{‏يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ‏}‏ قرأ أهل الحجاز وأبو عمرو ‏"‏ الكافر ‏"‏ على التوحيد، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏{‏الْكُفَّارُ‏}‏ على الجمع‏.‏ ‏{‏لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ‏}‏ أي‏:‏ عاقبة الدار الآخرة حين يدخلون النار، ويدخل المؤمنون الجنة‏.‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ‏}‏ إني رسوله إليكم ‏{‏وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏}‏ يريد‏:‏ مؤمني أهل الكتاب يشهدون أيضاً على ذلك‏.‏

قال قتادة‏:‏ هو عبد الله بن سلام‏.‏

وأنكر الشعبي هذا وقال‏:‏ السورة مكية، وعبد الله بن سلام أسلم بالمدينة‏.‏

وقال أبو بشر‏:‏ قلت لسعيد بن جبير ‏{‏وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏}‏ أهو عبد الله بن سلام‏؟‏ فقال‏:‏ وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية‏؟‏

وقال الحسن ومجاهد‏:‏ ‏{‏وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ‏}‏ هو الله عز وجل يدل عليه‏:‏ قراءة عبد الله بن عباس، ‏{‏وَمِنْ عندِه‏}‏ بكسر الميم والدال، أي‏:‏ من عند الله عز وجل، وقرأ الحسن

وسعيد بن جبير‏:‏ ‏{‏وَمِنْ عِندِه‏}‏ بكسر الميم والدال ‏{‏عُلِم الْكِتَابِ‏}‏ على الفعل المجهول دليل هذه القراءة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا‏}‏ ‏(‏الكهف- 65‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآَنَ‏}‏ ‏(‏الرحمن- 1، 2‏)‏‏.‏

سورة إبراهيم

مكية وهي إحدى وخمسون آية إلا آيتين من قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏فإن مصيركم إلى النار‏"‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏1‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏الر كِتَابٌ‏}‏ أي‏:‏ هذا كتاب ‏{‏أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ‏}‏ يا محمد يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ أي‏:‏ لتدعوهم من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان‏.‏ ‏{‏بِإِذْنِ رَبِّهِمْ‏}‏ بأمر ربهم‏.‏

وقيل‏:‏ بعلم ربهم‏.‏

‏{‏إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ‏}‏ أي‏:‏ إلى دينه، و‏"‏العزيز‏"‏، هو الغالب، و‏"‏الحميد‏"‏‏:‏ هو المستحق للحمد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2- 3‏]‏

‏{‏اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏2‏)‏ الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ‏(‏3‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏اللَّهِ الَّذِي‏}‏ قرأ أبو جعفر، وابن عامر‏:‏ ‏"‏ اللهُ ‏"‏ بالرفع على الاستئناف، وخبره فيما بعده‏.‏ وقرأ الآخرون بالخفض نعتًا للعزيز الحميد‏.‏ وكان يعقوب إذا وصل خفض‏.‏

وقال أبو عمرو‏:‏ الخفض على التقديم والتأخير، مجازه‏:‏ إلى صراط الله العزيز الحميد ‏{‏الَّذِي لَهُ ما فٍي السموات وَمَا فِي الأرضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ‏}‏ يختارون، ‏{‏الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يمنعون الناس عن قبول دين الله، ‏{‏وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ أي‏:‏ يطلبونها زيغا وميلا يريد‏:‏ يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد‏.‏

وقيل‏:‏ الهاء راجعة إلى الدنيا، معناه‏:‏ يطلبون الدنيا على طريق الميل عن الحق، أي‏:‏ لجهة الحرام‏.‏ ‏{‏أُولَئِكَ فِي ضَلال بَعِيدٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 5‏]‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏4‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏5‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ‏}‏ بلغتهم ليفهموا عنه‏.‏ فإن قيل‏:‏ كيف هذا وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كافة الخلق‏؟‏

قيل‏:‏ بُعِث من العرب بلسانهم، والناس تَبَعٌ لهم، ثم بثَّ الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله عز وجل ويترجمون لهم بألسنتهم‏.‏

‏{‏فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ أي‏:‏ من الكفر إلى الإيمان بالدعوة، ‏{‏وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ‏}‏ قال ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد وقتادة‏:‏ بنعم الله‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ بوقائع الله في الأمم السالفة‏.‏ يقال‏:‏ فلان عالم بأيام العرب، أي بوقائعهم، وإنما أراد بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة، فاجتزأ بذكر الأيام عنها لأنها كانت معلومة عندهم‏.‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ‏}‏ و‏"‏الصبار‏"‏‏:‏ الكثير الصبر، و‏"‏الشكور‏"‏‏:‏ الكثير الشكر، وأراد‏:‏ لكل مؤمن، لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 7‏]‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ‏(‏7‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ‏}‏ قال الفراء‏:‏ العلة الجالبة لهذه الواو أن الله تعالى أخبرهم أن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح، وبالتذبيح، وحيث طرح الواو في ‏"‏يذبِّحون‏"‏ و‏"‏يقتِّلون‏"‏ أراد تفسير العذاب الذي كانوا يسومونهم ‏{‏وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ‏}‏ يتركوهن أحياء ‏{‏وَفِي ذَلِكُمْ بَلاء مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أعلم، يقال‏:‏ أذَّن وتأذَّن بمعنى واحد، مثل أَوْعَدَ وتَوَعَّدَ، ‏{‏لَئِنْ شَكَرْتُمْ‏}‏ نعمتي فآمنتم وأطعتم ‏{‏لأزِيدَنَّكُمْ‏}‏ في النعمة‏.‏

وقيل‏:‏ الشكر‏:‏ قيد الموجود، وصيد المفقود‏.‏

وقيل‏:‏ لئن شكرتم بالطاعة لأزيدنكم في الثواب‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ‏}‏ نعمتي فجحدتموها ولم تشكروها، ‏{‏إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 9‏]‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ‏(‏9‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ‏}‏ أي‏:‏ غنيٌّ عن خلقه، حميدٌ‏:‏ محمود في أفعاله، لأنه فيها متفضِّل وعادل‏.‏

‏{‏أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ‏}‏ خبر الذين، ‏{‏مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ مَنْ كان بعد قوم نوح وعاد وثمود‏.‏

ورُوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ هذه الآية ثم قال‏:‏ كذب النسَّابُون‏.‏

وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ بين إبراهيم وبين عدنان ثلاثون قرنا لا يعلمهم إلا الله تعالى‏.‏

وكان مالك بن أنس يكره أن ينسِبَ الإنسان نفسه أبًا إلى آدم، وكذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لا يعلم أولئك الآباءَ أحدٌ إلا الله عز وجل‏.‏

‏{‏جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ‏}‏ بالدلالات الواضحات، ‏{‏فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ عضوا على أيديهم غيظا كما قال ‏{‏عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ‏}‏ ‏(‏آل عمران- 119‏)‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لما سمعوا كتاب الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم‏.‏

قال مجاهد وقتادة‏:‏ كذبوا الرسل وردوا ما جاؤوا به يقال‏:‏ رددت قول فلان في فيه أي كذبته‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ يعني أن الأمم ردُّوا أيديهم في أفواه أنفسهم، أي‏:‏ وضعوا الأيدي على الأفواه إشارة إلى الرسل أنِ اسكتوا‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ فردوا أيديهم على أفواه الرسل يسكتونهم بذلك‏.‏

وقيل‏:‏ الأيدي بمعنى النِّعم‏.‏ معناه‏:‏ ردوا ما لو قبلوا كانت أيادي ونعمًا في أفواههم، أي‏:‏ بأفواههم، يعني بألسنتهم‏.‏

‏{‏وَقَالُوا‏}‏ يعني الأمم للرسل، ‏{‏إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ‏}‏ موجب للريبة موقع للتهمة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏10‏]‏

‏{‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏10‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ‏}‏ هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه، ‏{‏فَاطِرِ السمواتِ وَالأرْضِ‏}‏ خالقهما ‏{‏يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ‏}‏ أي‏:‏ ذنوبكم و ‏"‏من‏"‏ صلة، ‏{‏وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ إلى حين استيفاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ للرسل‏:‏ ‏{‏إِنْ أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا‏}‏ في الصورة، ولستم ملائكة وإنما ‏{‏تُرِيدُونَ‏}‏ بقولكم، ‏{‏أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏ حجة بينة على صحة دعواكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 14‏]‏

‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ‏(‏11‏)‏ وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ‏(‏12‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ ‏(‏13‏)‏ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ‏(‏14‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ‏}‏ بالنبوة والحكمة، ‏{‏وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ‏}‏ وقد عرفنا أن لا نَنَالَ شيئا إلا بقضائه وقدره، ‏{‏وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا‏}‏ بيَّنَ لنا الرشد، وبصَّرنَا طريق النجاة‏.‏ ‏{‏وَلَنَصْبِرَنَّ‏}‏ اللام لام القسم، مجازه‏:‏ والله لنصبرَن، ‏{‏عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا‏}‏ يَعْنُون‏:‏ إلا أن ترجعوا، أو حتى ترجعوا إلى ديننا‏.‏

‏{‏فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ من بعد هلاكهم‏.‏

‏{‏ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي‏}‏ أي‏:‏ قيامه بين يدي كما قال‏:‏ ‏{‏وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ‏}‏ ‏(‏الرحمن- 46‏)‏، فأضاف قيام العَبدِ إلى نفسه، كما تقول‏:‏ نَدِمتُ على ضربك، أي‏:‏ على ضربي إياك، ‏{‏وَخَافَ وَعِيدِ‏}‏ أي عقابي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ‏(‏15‏)‏ مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاسْتَفْتَحُوا‏}‏ أي‏:‏ استنصروا‏.‏ قال ابن عباس ومقاتل‏:‏ يعني الأمم، وذلك أنهم قالوا‏:‏ اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذِّبْنا، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ‏}‏ ‏(‏الأنفال- 32‏)‏‏.‏

وقال مجاهد وقتادة‏:‏ واستفتحوا يعني الرسل، وذلك أنهم لما يئسوا من إيمان قومهم استنصروا الله ودعوا على قومهم بالعذاب كما قال نوح عليه السلام، ‏{‏رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا‏}‏ ‏(‏نوح- 26‏)‏ وقال موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهَمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏(‏يونس- 88‏)‏‏.‏، الآية

‏{‏وَخَابَ‏}‏ خسر‏.‏ وقيل‏:‏ هلك، ‏{‏كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ‏}‏ والجبَّار‏:‏ الذي لا يرى فوقه أحدا‏.‏ والجبرية‏:‏ طلب العلو بما لا غاية وراءه‏.‏ وهذا الوصف لا يكون إلا لله عز وجل‏.‏

وقيل‏:‏ الجبَّار‏:‏ الذي يجبر الخلق على مرادهِ، والعنيد‏:‏ المعاند للحق ومجانبه‏.‏ قاله مجاهد‏.‏

وعن ابن عباس- رضي الله عنهما-‏:‏ هو المُعْرض عن الحق‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ هو المتكبر‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ‏"‏العنيدُ‏"‏ الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله‏.‏

‏{‏مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ‏}‏ أي‏:‏ أمامه، كقوله تعالى ‏{‏وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ‏}‏ ‏(‏الكهف- 76‏)‏ أي‏:‏ أمامهم‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ هو من الأضداد‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ هو كما يقال هذا الأمر من ورائك يريد أنه سيأتيك، وأنا من وراء فلان يعني أصل إليه‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ ‏"‏من ورائه جهنم‏"‏ أي‏:‏ بعده‏.‏

‏{‏وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ من ماءٍ هو صديد، وهو ما يسيل من أبدان الكفار من القَيْح والدم‏.‏

وقال محمد بن كعب‏:‏ ما يسيل من فُروج الزُّناةِ، يُسْقَاه الكافر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ‏(‏17‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَتَجَرَّعُهُ‏}‏ أي‏:‏ يتحسَّاهُ ويشربه، لا بمرةٍ واحدة، بل جرعةً جرعةً، لمرارتِه وحرارته، ‏{‏ولا يَكَادُ يُسِيغُهُ‏}‏ و‏"‏يكاد‏"‏‏:‏ صلة، أي‏:‏ لا يسيغه، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا‏}‏ ‏(‏النور- 40‏)‏ أي‏:‏ لم يَرَهَا‏.‏

قال ابن عباس- رضي الله عنهما-‏:‏ لا يجيزه‏.‏

وقيل‏:‏ معناه يكاد لا يسيغه، ويسيغه فيغلي في جوفه‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا محمد بن أحمد بن الحارث، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمود، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن صفوان بن عمرو، عن عبد الله بن بسر عن أبي أمامة- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏"‏ويسقى من ماء صديد يتجرعه‏"‏، قال‏:‏ يقرب إلى فيه فيتكرهه، فإذا أُدني منه شوى وجهه، ووقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطَّع أمعاءه، حتى يخرج من دُبُره، يقول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ‏}‏ ‏(‏محمد- 15‏)‏، ويقول‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ‏}‏ ‏(‏الكهف- 29‏)‏‏.‏

وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ‏}‏ يعني‏:‏ يجد هَمَّ الموت وألمه من كل مكان من أعضائه‏.‏

قال إبراهيم التيمي‏:‏ حتى من تحت كل شعرة من جسده‏.‏

وقيل‏:‏ يأتيه الموت من قدامه ومن خلفه، ومن فوقه ومن تحته، وعن يمينه وعن شماله‏.‏

‏{‏وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ‏}‏ فيستريح، قال ابن جريج‏:‏ تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فتنفعه الحياة‏.‏ نظيرها ‏{‏ثم لا يموت فيها ولا يحيا‏}‏ ‏(‏الأعلى- 13‏)‏‏.‏

‏{‏وَمِنْ وَرَائِهِ‏}‏ أمامه، ‏{‏عَذَابٌ غَلِيظٌ‏}‏ شديد، وقيل‏:‏ العذاب الغليظ الخلود في النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ‏(‏18‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ‏}‏ يعني‏:‏ أعمال الذين كفروا بربهم- كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ‏}‏ ‏(‏الزمر- 60‏)‏- أي‏:‏ ترى وجوه الذين كذبوا على الله مسودة، ‏{‏كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ‏}‏ وصف اليومَ بالعصوف، والعصُوف من صفة الريح لأن الريح تكون فيها، كما يقال‏:‏ يوم حار ويوم بارد، لأن الحر والبرد فيه‏.‏

وقيل‏:‏ معناه‏:‏ في يوم عاصف الريح، فحذف الريح لأنها قد ذكرت من قبل‏.‏ وهذا مَثَلٌ ضربه الله لأعمال الكفار، يريد‏:‏ أنهم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها غير الله كالرماد الذي ذَرَتْه الريح لا ينتفع به، فذلك قوله تعالى‏:‏

‏{‏لا يَقْدِرُونَ‏}‏ يعني‏:‏ الكفار ‏{‏مِمَّا كَسَبُوا‏}‏ في الدنيا، ‏{‏عَلَى شَيْءٍ‏}‏ في الآخرة، ‏{‏ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 21‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏19‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏20‏)‏ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏21‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السموات وَالأرْضَ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي ‏"‏خالقُ السمواتِ والأرضَ‏"‏ وفي سورة النور ‏"‏خالق كل دابة‏"‏ مضافا‏.‏

وقرأ الآخرون ‏"‏ خلق ‏"‏ على الماضي ‏"‏ والأرض ‏"‏ وكلٍّ بالنصب‏.‏

و ‏"‏ بالحق ‏"‏ أي‏:‏ لم يخلقهما باطلا وإنما خلقهما لأمرٍ عظيم، ‏{‏إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ سواكم أَطْوَعَ لله منكم‏.‏

‏{‏وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ‏}‏ منيع شديد، يعني أن الأشياء تسهل في القدرة، لا يصعب على الله تعالى شيء وإن جلّ وعَظُم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا‏}‏ أي‏:‏ خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا جميعا ‏{‏فَقَالَ الضُّعَفَاءُ‏}‏ يعني‏:‏ الأتباع، ‏{‏لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا‏}‏ أي‏:‏ تكبَّروا على الناس وهم القادة والرؤساء‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا‏}‏ جمع تابع، مثل‏:‏ حَرَس وحارس، ‏{‏فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ‏}‏ دافعون، ‏{‏عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني القادة المتبوعين‏:‏ ‏{‏لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى، فلما أضلَّنا دعوناكم إلى الضلالة، ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ‏}‏ مهربٍ ولا منجاةٍ‏.‏

قال مقاتل‏:‏ يقولون في النار‏:‏ تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام، فلا ينفعهم الجزع، ثم يقولون‏:‏ تعالوا نصبر، فيصبرون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فحينئذ يقولون‏:‏ ‏{‏سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ‏}‏‏.‏

قال محمد بن كعب القرظي بلغني أن أهل النار استغاثوا بالخزنة‏.‏ فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏(‏غافر- 49‏)‏، فردت الخزنة عليهم‏:‏ ‏"‏أو لم تَكُ تأتيكم رسلكم بالبينات قالوا بلى‏"‏، فردت الخزنة عليهم‏:‏ ‏{‏ادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ‏}‏ ‏(‏غافر- 50‏)‏ فلما يئسوا مما عند الخزنة نادوا‏:‏ ‏{‏يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ‏}‏ ‏(‏الزخرف- 77‏)‏ سألوا الموت، فلا يجيبهم ثمانين سنة والسنة ستون وثلاثمائة يوما، واليوم كألف سنة مما تعدون، ثم لحظ إليهم بعد الثمانين إنكم ماكثون، فلما يئسوا مما قَبْله قال بعضهم لبعض‏:‏ إنه قد نزل بكم من البلاء ما ترون فهلموا فلنصبر، فلعل الصبر ينفعنا كما صبرَ أهل الدنيا على طاعة الله فنفعهم، فأجمعوا على الصبر، فطال صبرهم ثم جزعوا فنادوا‏:‏ ‏"‏سواءٌ علينا أجَزِعْنا أم صبرنا ما لنا من مَحيص‏"‏، أي‏:‏ من منجى‏.‏

قال‏:‏ فقام إبليس عند ذلك فخطبهم، فقال‏:‏ ‏"‏إن الله وعدكم وعد الحق‏"‏ الآية، فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم فنودُوا‏:‏ ‏{‏لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإيمَانِ فَتَكْفُرُونَ‏}‏ ‏(‏غافر- 10‏)‏ قالوا فنادوا الثانية‏:‏ ‏"‏فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون‏"‏، فردّ عليهم‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا‏}‏ الآيات ‏(‏السجدة- 12، 13‏)‏ فنادوا الثالثة‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ‏}‏ ‏(‏إبراهيم 44‏)‏، فردّ عليهم‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ‏}‏ الآيات ‏(‏إبراهيم- 44‏)‏، ثم نادوا الرابعة‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ فرد عليهم‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ‏}‏، الآية ‏(‏فاطر- 37‏)‏ قال‏:‏ فمكث عليهم ما شاء الله، ثم ناداهم‏:‏ ‏"‏ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون‏"‏، فلما سمعُوا ذلك قالوا‏:‏ الآن يرحمنا، فقالوا عند ذلك‏:‏ ‏"‏ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قومًا ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون‏"‏، قال عند ذلك‏:‏ ‏{‏اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ‏}‏ ‏(‏المؤمنون 105- 108‏)‏ فانقطع عند ذلك الرجاء والدعاء عنهم، فأقبل بعضهم على بعض ينبح بعضهم في وجوه بعض، وأطبقت عليهم النار‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الشَّيْطَانُ‏}‏ يعني‏:‏ إبليس، ‏{‏لَمَّا قُضِيَ الأمْرُ‏}‏ أي‏:‏ فرغ منه فأدخل أهل الجنةَ الجنة وأهلِ النار النار‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ يوضع له منبر في النار، فيرقاه فيجتمع عليه الكفار باللائمة فيقول لهم‏:‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ‏}‏ فوفى لكم به، ‏{‏وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ‏}‏ وقيل‏:‏ يقول لهم‏:‏ قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ‏}‏ ولاية‏.‏ وقيل‏:‏ لم آتكم بحجة فيما دعوتكم إليه، ‏{‏إلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ‏}‏ هذا استثناء منقطع معناه‏:‏ لكن ‏{‏دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ‏}‏ بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان ولا برهان، ‏{‏مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ‏}‏ بمُغِيثكم، ‏{‏وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ‏}‏ بمغيثيَّ‏.‏

قرأ الأعمش وحمزة ‏"‏ بمصرخيِّ ‏"‏ بكسر الياء، والآخرون بالنصب لأجل التضعيف، ومَنْ كسر فلالتقاءِ الساكنين، حرِّكت إلى الكسر، لأن الياء أخت الكسرة، وأهل النحو لم يرضوه، وقيل‏:‏ إنه لغة بني يربوع‏.‏ والأصل ‏(‏بمصرخيني‏)‏ فذهبت النون لأجل الإضافة، وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة‏.‏

‏{‏إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ كفرت بجعلكُم إياي شريكًا في عبادته وتبرأت من ذلك‏.‏

‏{‏إِنَّ الظَّالِمِينَ‏}‏ الكافرين، ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ‏}‏‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أنبأنا محمد بن أحمد الحارث، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي، أنبأنا عبد الله بن محمود، حَدَّثنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن رشدين بن سعد، أخبرني عبد الرحمن بن زياد، عن دخين الحجري، عن عقبة بن عامر- رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة ذكر الحديث ثم قال‏:‏ ‏"‏يقول عيسى عليه السلام ذلكم النبيُّ الأمي، فيأتوني فيأذن الله لي أن أقوم فيثور من مجلسي من أطيب ريح شمَّها أحدٌ، حتى آتي ربي عز وجل فيشفِّعني ويجعل لي نورًا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي، ثم يقول الكفار‏:‏ قد وجد المؤمنون مَنْ يشفع لهم فمن يشفع لنا‏؟‏ فيقولون‏:‏ ما هو غير إبليس، هو الذي أضلَّنا، فيأتونه فيقولون له‏:‏ قد وجد المؤمنون من يشفع لهم فقم أنت فاشفع لنا، فإنك أنت أضللتنا‏.‏ فيقوم فيثور من مجلسه أنتن ريح شمَّها أحدٌ، ثم تعظم جهنم ويقول عند ذلك‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ‏}‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 24‏]‏

‏{‏وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ ‏(‏23‏)‏ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ‏(‏24‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ‏}‏ يسلِّم بعضهم على بعض، وتسلِّم الملائكة عليهم‏.‏

وقيل‏:‏ المحيِّي بالسلام هو الله عز وجل‏.‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مثلا‏}‏ ألم تعلم، والمَثَلُ‏:‏ قول سائر لتشبيه شيء بشيء‏.‏ ‏{‏كَلِمَةً طَيِّبَةً‏}‏ وهي قول‏:‏ لا إله إلا الله، ‏{‏كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ‏}‏ وهي النخلة يريد كشجرة طيبة الثمر‏.‏

وقال ظبيان عن ابن عباس هي شجرة في الجنة‏.‏

‏{‏أَصْلُهَا ثَابِتٌ‏}‏ في الأرض، ‏{‏وَفَرْعُهَا‏}‏ أعلاها، ‏{‏فِي السَّمَاءِ‏}‏ كذلك أصل هذه الكلمة‏:‏ راسخٌ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق، فإذا تكلم بها عرجت، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عز وجل‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏(‏فاطر- 10‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏تُؤْتِي أُكُلَهَا‏}‏ تعطي ثمرها، ‏{‏كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا‏}‏ والحين في اللغة هو الوقت‏.‏

وقد اختلفوا في معناه ها هنا فقال مجاهد وعكرمة‏:‏ الحين ها هنا‏:‏ سنة كاملة، لأن النخلة تثمر كل سنة‏.‏

وقال سعيد بن جبير وقتادة والحسن‏:‏ ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى صرامها‏.‏ ورُوي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏

وقيل‏:‏ أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها‏.‏

وقال سعيد بن المسيب‏:‏ شهران من حين تؤكل إلى حين الصرام‏.‏

وقال الربيع بن أنس‏:‏ ‏"‏كل حين‏"‏‏:‏ أي‏:‏ كل غدوة وعشية، لأن ثمر النخل يؤكل أبدا ليلا ونهارًا، صيفًا وشتاءً، إما تمرًا أو رُطَبًا أو بُسْرًا، كذلك عملُ المؤمن يصعدُ أول النهار وآخره وبَركةُ إيمانه لا تنقطع أبدًا، بل تصل إليه في كل وقت‏.‏

والحكمةُ في تمثيل الإيمان بالشجرة‏:‏ هي أن الشجرة لا تكون شجرة إلا بثلاثة أشياء‏:‏ عِرق راسخ، وأصل قائم، وفرع عال، كذلك الإيمان لا يتم إلا بثلاثة أشياء‏:‏ تصديق بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالأبدان‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أنبأنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أنبأنا عبد الله بن عمر الجوهري، أخبرنا أحمد بن علي الكشميهني، حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر، حدثنا عبد الله بن دينار أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنَّ من الشجر شجرةً لا يسقط ورقُها، وإنها مثل المسلم فحدِّثوني ما هي‏؟‏ قال عبد الله‏:‏ فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت، ثم قالوا‏:‏ حدِّثْنا ما هي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ هي النخلة‏.‏ قال عبد الله‏:‏ فذكرت ذلك لعمر، فقال‏:‏ لأنْ تكون قلتَ هي النخلة كان أحبَّ إلي من كذا وكذا‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ الحكمة في تشبيهها بالنخلة من بين سائر الأشجار‏:‏ أن النخلة شبه الأشجار بالإنسان من حيثُ إنها إذا قطع رأسها يبست، وسائر الأشجار تتشعب من جوانبها بعد قطع رؤوسها ولأنها تشبه الإنسان في أنها لا تحمل إلا بالتلقيح ولأنها خلقت من فضل طينة آدم عليه السلام، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أكرموا عمتكم‏"‏ قيل‏:‏ ومَنْ عمتنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏النخلة‏"‏ ‏{‏وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ‏}‏ وهي الشرك، ‏{‏كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ‏}‏ وهي الحنظل‏.‏

وقيل‏:‏ هي الثوم‏.‏

وقيل‏:‏ هي الكشوث وهي العَشَقَة ‏{‏اجْتُثَّتْ‏}‏ يعني انقلَعَتَ، ‏{‏مِنْ فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ‏}‏ ثبات‏.‏

معناه‏:‏ وليس لها أصل ثابت في الأرض، ولا فرع صاعد إلى السماء، كذلك الكافر لا خير فيه، ولا يصعدُ له قول طيب ولا عمل صالح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ‏(‏27‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ‏}‏ كلمة التوحيد، وهي قول‏:‏ لا إله إلا الله ‏{‏فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ يعني قبل الموت، ‏{‏وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ يعني في القبر‏.‏ هذا قول أكثر أهل التفسير‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏في الحياة الدنيا‏"‏‏:‏ عند السؤال في القبر، ‏"‏وفي الآخرة‏"‏‏:‏ عند البعث‏.‏

والأول أصح‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أبو الوليد، حدثنا شعبة، أخبرني علقمة بن مرثد قال‏:‏ سمعت سعيد بن عبيدة، عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فلذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏‏.‏

وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أنبأنا عبد الغافر بن محمد، أنبأنا محمد بن عيسى الجلودي، أنبأنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أنبأنا مسلم بن الحجاج، حَدَّثنا محمد بن بشار، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة بهذا الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ‏}‏ قال‏:‏ نزلت في عذاب القبر يقال له‏:‏ مَنْ ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي الله، ونبيي محمد، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ‏}‏ الآية‏.‏

وأخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدَّثنا عياش بن الوليد، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا سعيد، عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه حدثهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إنَّ العبدَ إذا وُضِع في قبره، وتولّى عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم، أتاه ملكان فَيُقْعِدانه، فيقولان‏:‏ ما كنت تقول في هذا الرجل، لمحمد صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فأما المؤمن، فيقول‏:‏ أشهد أنه عبد الله ورسوله‏.‏ فيقال له‏:‏ انظر إلى مقعدك من النار، قد أبدلك الله به مقعدًا من الجنة، فيراهما جميعا‏"‏ قال قتادة‏:‏ وذكر لنا أنه يُفْسَحُ له في قبره، ثم رجع إلى حديث أنس قال‏:‏

وأما المنافق والكافر، فيقال له‏:‏ ما كنتَ تقول في هذا الرجل‏؟‏ فيقول‏:‏ لا أدري، كنت أقول ما يقول الناس، فيقال له‏:‏ لا دَرَيْتَ ولا تلَيْتَ، ويُضْرَب بمطارقَ من حديدٍ ضربةً، فيصيح صيحة يسمعها مَنْ يليه غيرَ الثَّقَلَيْن‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الفرج المظفر بن إسماعيل التميمي، حدثنا أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي، أنبأنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، حدثنا عبد الله بن سعيد، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا عنبسة بن سعيد بن كثير، حدثني جدي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إن الميت يسمع حِسَّ النِّعال إذا ولَّى عنه الناس مُدْبِرين، ثم يُجْلَسُ ويُوضَعُ كفنُه في عُنُقِه ثم يُسأل‏"‏‏.‏

وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا قُبِر الميتُ أتاه مَلَكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما‏:‏ المنكر، وللآخر النَّكير، فيقولان‏:‏ ما كنتَ تقول في هذا الرجل‏؟‏ فيقول‏:‏ هو عبد الله ورسوله، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبد الله ورسوله، فيقولان له‏:‏ قد كنا نعلم أنك تقولُ هذا، ثم يُفْسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين، ثم ينَّور له فيه، ثم يقال‏:‏ نمْ كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحبُّ أهله إليه، حتى يبعثه الله تعالى، وإن كان منافقًا أو كافرا قال‏:‏ سمعت الناس يقولون قولا فقلت مثله، لا أدري، فيقولان‏:‏ قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه، فتختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذَّبًا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك‏"‏‏.‏

وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن وقال‏:‏ ‏"‏فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولان له مَنْ ربك‏؟‏ وما دينك‏؟‏ ومن نبيك‏؟‏ فيقول‏:‏ ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد فينتهرانه ويقولان له الثانية‏:‏ من ربك وما دينك ومن نبيك وهي آخر فتنة تعرض على المؤمن فيثبته الله عز وجل، فيقول‏:‏ ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم فينادي منادٍ من السماء‏:‏ أن صَدَق عبدي، قال‏:‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أنبأنا أبو العباس عبد الله بن محمد بن هارون الطيسفوني، أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد الترابي، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر بن بسطام، أنبأنا أبو الحسن أحمد بن سيار القرشي، حدثنا إبراهيم بن موسى الفراء أبو إسحاق حدثنا هشام بن يوسف حدثنا عبد الله بن يحيى عن هانئ مولى عثمان قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال‏:‏ ‏"‏استغفروا لأخيكم واسألوا الله له التثبيت، فإنه الآن يسأل‏"‏‏.‏

وقال عمرو بن العاص في سياق الموت وهو يبكي‏:‏ فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة ولا نار، فإذا دفنتموني فسنُّوا عليَّ التراب سنًا، ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ‏}‏ أي‏:‏ لا يهدي المشركين إلى الجواب بالصواب في القبر ‏{‏وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ‏}‏ من التوفيق والخذلان والتثبيت وترك التثبيت‏.‏