فصل: تفسير الآيات رقم (12 - 14)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 14‏]‏

‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا ‏(‏12‏)‏ وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا ‏(‏13‏)‏ وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ‏}‏ معتِّب بن قشير، وقيل‏:‏ عبد الله بن أُبيّ وأصحابه، ‏{‏وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ شك وضعف اعتقاد‏:‏ ‏{‏مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا‏}‏ وهو قول أهل النفاق‏:‏ يَعِدُنا محمد فتح قصور الشام وفارس وأحدنا لا يستطيع أن يجاوزَ رحله، هذا والله الغرور‏.‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ‏}‏ أي‏:‏ من المنافقين، وهم أوس بن قيظي وأصحابه، ‏{‏يَا أَهْلَ يَثْرِبَ‏}‏ يعني المدينة، قال أبو عبيدة‏:‏ ‏"‏يثرب‏"‏‏:‏ اسم أرضٍ، ومدينةُ الرسول صلى الله عليه وسلم في ناحيةٍ منها‏.‏

وفي بعض الأخبار أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تسمى المدينة يثرب، وقال‏:‏ ‏"‏هي طابة‏"‏، كأنه كره هذه اللفظة‏.‏

‏{‏لا مُقَامَ لَكُمْ‏}‏ قرأ العامة بفتح الميم، أي‏:‏ لا مكانه لكم تنزلون وتقيمون فيه، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، وحفص‏:‏ بضم الميم، أي‏:‏ لا إقامة لكم، ‏{‏فَارْجِعُوا‏}‏؛ إلى منازلكم عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ عن القتال إلى مساكنكم‏.‏

‏{‏وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ‏}‏ وهم بنو حارثة وبنو سلمة، ‏{‏يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ‏}‏ أي‏:‏ خالية ضائعة، وهو مما يلي العدو نخشى عليها السرّاق‏.‏ وقرأ أبو رجاء العطاردي ‏"‏عَورَة‏"‏ بكسر الواو، أي‏:‏ قصيرة الجدران يسهل دخول السراق عليها، فكذبهم الله فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا‏}‏ أي‏:‏ ما يريدون إلا الفرار‏.‏ ‏{‏وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ لو دَخَلَتْ عليهم المدينة، يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم، وهم الأحزاب، ‏{‏مِنْ أَقْطَارِهَا‏}‏ جوانبها ونواحيها جمع قطر، ‏{‏ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ‏}‏ أي‏:‏ الشرك‏.‏

‏{‏لآتَوْهَا‏}‏ لأعطوها، وقرأ أهل الحجاز لأتوها مقصورًا، أي‏:‏ لجاؤوها وفعلوها ورجعوا عن الإسلام، ‏{‏وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا‏}‏ أي‏:‏ ما احتبسوا عن الفتنة، ‏{‏إِلا يَسِيرًا‏}‏ ولأسرعوا الإجابة إلى الشرك طيبة به أنفسهم، هذا قول أكثر المفسرين‏.‏

وقال الحسن والفراء‏:‏ وما أقاموا بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 16‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل غزوة الخندق، ‏{‏لا يُوَلُّونَ الأدْبَارَ‏}‏ من عدوهم أي‏:‏ لا ينهزمون، قال يزيد بن رومان‏:‏ هم بنو حارثة، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هم ناس كانوا قد غابوا عن وقعة بدر ‏[‏ورأوا ما أعطى الله أهل بدر‏]‏ من الكرامة والفضيلة قالوا‏:‏ لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن، فساق الله إليهم ذلك‏.‏

وقال مقاتل والكلبي‏:‏ هم سبعون رجلا بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، وقالوا‏:‏ أشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم، قالوا‏:‏ فإذا فعلنا ذلك فما لنا يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قالوا‏:‏ قد فعلنا ذلك‏.‏ فذلك عهدهم‏.‏

وهذا القول ليس بمرضي، لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين نفرا، لم يكن فيهم شاك ولا من يقول مثل هذا القول، وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يفروا، فنقضوا العهد‏.‏

‏{‏وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا‏}‏ عنه‏.‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم، ‏{‏لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ‏}‏ الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أو قتل، ‏{‏وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا‏}‏ أي‏:‏ لا تمتعون بعد الفرار إلا مدة آجالكم وهي قليل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17 - 19‏]‏

‏{‏قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ‏(‏17‏)‏ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا ‏(‏18‏)‏ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ يمنعكم من عذابه، ‏{‏إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا‏}‏ هزيمة، ‏{‏أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً‏}‏ نصرة، ‏{‏وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا‏}‏ أي‏:‏ قريبا ينفعهم، ‏{‏وَلا نَصِيرًا‏}‏ أي‏:‏ ناصرا يمنعهم‏.‏ ‏{‏قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ المثبطين للناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَالْقَائِلِينَ لإخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ ارجعوا إلينا، ودعوا محمدا، فلا تشهدوا معه الحرب، فإنا نخاف عليكم الهلاك‏.‏

قال قتادة‏:‏ هؤلاء ناس من المنافقين، كانوا يثبطون أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، ويقولون لإخوانهم‏:‏ ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس، ولو كانوا لحما لالتهمهم، أي‏:‏ ابتلعهم أبو سفيان وأصحابه، دعوا الرجل فإنه هالك‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ نزلت في المنافقين، وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين، وقالوا‏:‏ ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا، وإنا نشفق عليكم، أنتم إخواننا وجيراننا هلموا إلينا، فأقبل عبد الله بن أبي وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه، وقالوا‏:‏ لئن قدروا عليكم لم يستبقوا منكم أحدا ما ترجون من محمد‏؟‏ ما عنده خير، ما هو إلا أن يقتلنا ها هنا، انطلقوا بنا إلى إخواننا، يعني اليهود، فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ‏}‏ الحرب ‏{‏إِلا قَلِيلا‏}‏ رياء وسمعة من غير احتساب، ولو كان ذلك القليل لله لكان كثيرا‏.‏ ‏{‏أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ‏}‏ بخلاء بالنفقة في سبيل الله والنصرة، وقال قتادة‏:‏ بخلاء عند الغنيمة، وصفهم الله بالبخل والجبن، فقال‏:‏ ‏{‏فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ‏}‏ في الرؤوس من الخوف والجبن ‏{‏كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ أي‏:‏ كدوران الذي يغشى عليه من الموت، وذلك أن من قرب من الموت غشيه أسبابه يذهب عقله ويشخص بصره، فلا يطرف، ‏{‏فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ‏}‏ آذوكم ورموكم في حال الأمن، ‏{‏بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ‏}‏ ذربة، جمع حديد‏.‏ يقال للخطيب الفصيح الذرب اللسان‏:‏ مسلق ومصلق وسلاق وصلاق‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ سلقوكم أي‏:‏ عضدوكم وتناولوكم بالنقص والغيبة‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، يقولون أعطونا فإنا قد شهدنا معكم القتال، فلستم أحق بالغنيمة منا فهم عند الغنيمة أشح قوم وعند البأس أجبن قوم، ‏{‏أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ‏}‏ أي‏:‏ عند الغنيمة يشاحون المؤمنين، ‏{‏أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أبطل الله جهادهم، ‏{‏وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20 - 21‏]‏

‏{‏يَحْسَبُونَ الأحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا ‏(‏20‏)‏ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏يَحْسَبُونَ‏}‏ يعني هؤلاء المنافقين، ‏{‏الأحْزَابَ‏}‏ يعني‏:‏ قريشا وغطفان واليهود، ‏{‏لَمْ يَذْهَبُوا‏}‏ لم ينصرفوا عن قتالهم جبنا وفرقا وقد انصرفوا، ‏{‏وَإِنْ يَأْتِ الأحْزَابُ‏}‏ أي‏:‏ يرجعوا إليه للقتال بعد الذهاب، ‏{‏يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعْرَابِ‏}‏ أي يتمنوا لو كانوا في بادية الأعراب من الخوف والجبن، يقال‏:‏ بدا يبدو بداوة، إذا خرج إلى البادية، ‏{‏يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ‏}‏ أخباركم وما آل إليه أمركم، وقرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏يساءلون‏"‏ مشددة ممدودة، أي‏:‏ يتساءلون، ‏{‏وَلَوْ كَانُوا‏}‏ يعني‏:‏ هؤلاء المنافقين، ‏{‏فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا‏}‏ تعذيرا، أي‏:‏ يقاتلون قليلا يقيمون به عذرهم، فيقولون قد قاتلنا‏.‏ قال الكلبي‏:‏ إلا قليلا أي‏:‏ رميا بالحجارة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ إلا رياء وسمعة من غير احتساب‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ قرأ عاصم‏:‏ ‏"‏أسوة‏"‏ حيث كان، بضم الهمزة، والباقون بكسرها، وهم لغتان، أي‏:‏ قدوة صالحة، ‏[‏وهي فعلة من الائتساء‏]‏ كالقدوة من الاقتداء، اسم وضع موضع المصدر، أي‏:‏ به اقتداء حسن إن تنصروا دين الله وتؤازروا الرسول ولا تتخلفوا عنه، وتصبروا على ما يصيبكم كما فعل هو إذ كسرت رباعيته وجرح وجهه، وقتل عمه وأوذي بضروب من الأذى، فواساكم مع ذلك بنفسه، فافعلوا أنتم كذلك أيضا واستنوا بسنته، ‏{‏لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏"‏لكم‏"‏ وهو تخصيص بعد تعميم للمؤمنين، يعني‏:‏ أن الأسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان يرجو الله، قال ابن عباس‏:‏ يرجو ثواب الله‏.‏ وقال مقال‏:‏ يخشى الله ‏{‏وَالْيَوْمِ الآخِرِ‏}‏ أي‏:‏ يخشى يوم البعث الذي فيه جزاء الأعمال، ‏{‏وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا‏}‏ في جميع المواطن على السراء والضراء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22 - 23‏]‏

‏{‏وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ‏(‏22‏)‏ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ‏(‏23‏)‏‏}‏

ثم وصف حال المؤمنين عند لقاء الأحزاب فقال‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأحْزَابَ قَالُوا‏}‏ تسليما لأمر الله وتصديقا لوعده‏:‏ ‏{‏هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ‏}‏ وعد الله إياهم ما ذكر في سورة البقرة‏:‏ ‏"‏أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏ألا إن نصر الله قريب‏"‏ ‏[‏البقرة – 214‏]‏ فالآية تتضمن أن المؤمنين يلحقهم مثل ذلك البلاء، فلما رأوا الأحزاب وما أصابهم من الشدة قالوا‏:‏ هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله، ‏{‏وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ تصديقا لله وتسليما لأمر الله‏]‏‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ قاموا بما عاهدوا الله عليه ووفوا به، ‏{‏فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ‏}‏ أي‏:‏ فرغ من نذره، ووفى بعهده، فصبر على الجهاد حتى استشهد، والنحب‏:‏ النذر، والنحب‏:‏ الموت أيضا، قال مقاتل‏:‏ ‏"‏قضى نحبه‏"‏، يعني‏:‏ أجله فقتل على الوفاء، ‏[‏يعني حمزة وأصحابه‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏قضى نحبه‏"‏ أي‏:‏ بذل جهده في الوفاء‏]‏ بالعهد من قول العرب‏:‏ نحب فلان في سيره يومه وليلته أجمع، إذا مد فلم ينزل، ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ‏}‏ الشهادة‏.‏

وقال محمد بن إسحاق‏:‏ ‏"‏فمنهم من قضى نحبه‏"‏ من استشهد يوم بدر وأحد ‏"‏ومنهم من ينتظر‏"‏ يعني‏:‏ من بقي بعد هؤلاء من المؤمنين ينتظرون أحد الأمرين؛ إما الشهادة أو النصر ‏{‏وَمَا بَدَّلُوا‏}‏ عهدهم ‏{‏تَبْدِيلا‏}‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا محمد بن سعيد الخزاعي، أخبرنا عبد الأعلى، عن حميد قال‏:‏ سألت أنسا \ح \ وحدثني عمرو بن زرارة، أخبرنا زياد، حدثني حميد الطويل، عن أنس قال‏:‏ غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال‏:‏ يا رسول الله غبت عن أول قتال قاتلت المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال‏:‏ اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني أصحابه - وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء - يعني المشركين - ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ، فقال‏:‏ يا سعد بن معاذ الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد‏:‏ فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس فوجدنا به بضعا وثمانين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس‏:‏ كنا نظن أو نرى أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه‏:‏ ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي، أخبرنا محمد بن حماد، أخبرنا معاوية، عن الأعمش، عن سفيان عن شقيق، عن خباب بن الأرت قال‏:‏ هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله نبتغي وجه الله فوجب أجرنا على الله، فمنا من مضى لم يأكل من أجره شيئا، منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم يوجد له شيء يكفن فيه إلا نمرة، فكنا إذا وضعناها على رأسه خرجت رجلاه، وإذا وضعناه على رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ضعوها مما يلي رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر، قال‏:‏ ومن أينعت له ثمرته فهو يهد بها‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو المظفر محمد بن أحمد التيمي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان المعروف بابن أبي نصر، أخبرنا خيثمة بن سليمان بن حيدرة الأطرابلسي، أخبرنا محمد بن سليمان الجوهري بأنطاكية، أخبرنا مسلم بن إبراهيم، أخبرنا الصلت بن دينار، عن أبي نصرة، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى طلحة بن عبد الله فقال‏:‏ ‏"‏من أحب أن ينظر إلى رجل يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه فلينظر إلى هذا‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبد الله بن أبي شيبة، أخبرنا وكيع بن إسماعيل، عن قيس قال‏:‏ رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 26‏]‏

‏{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏24‏)‏ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ‏(‏25‏)‏ وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا ‏(‏26‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ‏}‏ أي جزاء صدقهم، وصدقهم هو الوفاء بالعهد، ‏{‏وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ‏}‏ فيهديهم إلى الإيمان، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ من قريش وغطفان، ‏{‏بِغَيْظِهِمْ‏}‏ لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا، ‏{‏لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا‏}‏ ظفرا، ‏{‏وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ‏}‏ بالملائكة والريح، ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا‏}‏ ‏[‏قويا في ملكه عزيزا‏]‏ في انتقامه‏.‏ ‏{‏وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ عاونوا الأحزاب من قريش وغطفان على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وهم بنو قريظة، ‏{‏مِنْ صَيَاصِيهِمْ‏}‏ حصونهم ومعاقلهم، واحدها صيصية، ‏[‏ومنه قيل للقرن ولشوكة الديك والحاكة صيصية‏]‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصبح من الليلة التي انصرف الأحزاب فيها راجعين إلى بلادهم وانصرف النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون عن الخندق إلى المدينة، ووضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرا بعمامة من استبرق على بغلة عليها رحالة وعليها قطيفة من ديباج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند زينب بنت جحش وهي تغسل رأسه وقد غلست شقه، فقال‏:‏ قد وضعت السلاح يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فقال جبريل‏:‏ عفا الله عنك ما وضعت الملائكة السلاح منذ أربعين ليلة، وما رجعت الآن إلا من طلب القوم‏.‏

وروي أنه كان الغبار على وجه جبريل عليه السلام وفرسه فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجهه وعن فرسه، فقال‏:‏ إن الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة فانهد إليهم فإني قد قطعت أوتارهم، وفتحت أبوابهم وتركتهم في زلزال وبلبال، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا فأذن‏:‏ أن من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه برايته إليهم، وابتدرها الناس فسار علي رضي الله عنه حثى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع حتى لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالطريق، فقال‏:‏ يا رسول الله لا عليك أن تدنو من هؤلاء الأخابث، قال‏:‏ لم، أظنك سمعت لي منهم أذى‏؟‏ قال‏:‏ نعم يا رسول الله، قال‏:‏ لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا‏.‏

فلما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصونهم قال‏:‏ يا إخوان القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته‏؟‏‏.‏ قالوا‏:‏ يل أبا القاسم ما كنت جهولا‏.‏

ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه بالصورين قبل أن يصل إلى بني قريظة فقال‏:‏ هل مر بكم أحد‏؟‏ فقالوا‏:‏ نعم يا رسول الله مر بنا دحية بن خليفة الكلبي على بغلة بيضاء عليها رحالة عليها قطيفة ديباج، فقال عليه السلام‏:‏ ذاك جبريل بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم‏.‏

فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة نزل على بئر من آبارها في ناحية من أموالهم، فتلاحق به الناس فأتاه رجال من بعد صلاة العشاء الآخرة ولم يصلوا العصر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة‏"‏، فصلوا العصر بها بعد العشاء الآخرة فما عابهم الله بذلك ولا عنفهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال وحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب‏.‏

وكان حيي بن أخطب دخل على بني قريظة في حصنهم حين رجعت عنهم قريش وغطفان وفاء لكعب بن أسد بما كان عاهده‏.‏

فلما أيقنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال كعب بن أسد‏:‏ يا معشر يهود إنه قد نزل بكم من الأمر ما ترون وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا فخذوا أيها شئتم، قالوا‏:‏ وما هن‏؟‏ قال‏:‏ نتابع هذا الرجل ونصدقه فوالله لقد تبين لكم أنه نبيّ مرسل وأنه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دياركم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم، قالوا‏:‏ لا نفارق حكم التوراة أبدا ولا نستبدل به غيره، قال‏:‏ فإذا أبيتم هذه فهلم فلنقتل أبناءنا ونساءنا ثم نخرج إلى محمد رجالا مصلتين بالسيوف ولم نترك وراءنا ثقلا يهمنا حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا شيئا نخشى عليه، وإن نظهر فلعمري لنتخذن النساء والأبناء، فقالوا‏:‏ نقتل هؤلاء المساكين فما خير في العيش بعدهم‏؟‏ قال‏:‏ فإن أبيتم هذه فإن الليلة ليلة السبت وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلنا أن نصيب من محمد وأصحابه غرة‏.‏ قالوا‏:‏ أنفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يكن أحدث فيه من كان قبلنا‏؟‏ أما من قد عملت فأصابهم من المسخ ما لم يخف عليك‏؟‏ فقال‏:‏ ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة في الدهر حازما‏؟‏ قال ثم إنهم بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر أخا بني عمرو بن عوف، وكانوا حلفاء الأوس نستشيره في أمرنا فأرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فلما رأوه قام إليه الرجال وهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم، فقالوا‏:‏ يا أبا لبابة أترى أن ننزل على حكم محمد‏؟‏ قال‏:‏ نعم، ‏[‏قالوا‏:‏ ماذا يفعل بنا إذا نزلنا‏]‏‏؟‏ فأشار بيده إلى حلقه أنه الذبح، قال أبو لبابة‏:‏ فوالله ما زالت قدماي حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله، ثم انطلق أبو لبابة على وجهه ولم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ارتبط في المسجد إلى عمود من عمده، وقال‏:‏ لا أبرح مكاني حتى يتوب الله علي مما صنعت، وعاهد الله أن لا يطأ أرض بني قريظة أبدا، ولا يراني الله في بلد خنت الله ورسوله فيه أبدا، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وأبطأ عليه قال‏:‏ أما لو جاءني لاستغفرت له، فأما إذا فعل ما فعل فما أنا بالذي أطلقه من مكانه حتى يتوب الله عليه، ثم إن الله تعالى أنزل توبة أبي لبابة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك فقلت مما تضحك يا رسول الله أضحك الله سنك‏؟‏ قال‏:‏ تيب على أبي لبابة، فقلت‏:‏ إلا أبشره بذلك يا رسول الله‏؟‏ فقال بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قال فثار الناس إليه ليطلقوه فقال‏:‏ لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده فلما مر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خارجا إلى الصبح أطلقه، ثم قال‏:‏ إن ثعلبة بن شعبة وأسيد بن شعبة، وأسيد بن عبيد وهم نفر من بني هذيل ليسوا من قريظة ولا النضير نسبهم فوق ذلك هم بنو عم القوم أسلموا تلك الليلة التي نزلت فيها بنو قريظة على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج في تلك الليلة عمرو بن سعدي القرظي فمر بحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها محمد بن مسلمة الأنصاري تلك الليلة، فلما رآه قال‏:‏ من هذا‏؟‏ قال‏:‏ عمرو بن سعدي، وكان عمرو قد أبى أن يدخل مع بني قريظة في غدرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ لا أغدر بمحمد أبدا، فقال محمد بن مسلمة حين عرفه‏:‏ اللهم لا تحرمني عثرات الكرام ثم خلى سبيله، فخرج على وجهه حتى بات في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة تلك الليلة ثم ذهب فلا يدري أين ذهب من أرض الله، فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم شأنه، فقال‏:‏ ذاك رجل قد نجاه الله بوفائه‏.‏ وبعض الناس يزعم أنه كان قد أوثق برمة فيمن أوثق من بني قريظة حين نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأصبحت رمته ملقاة لا يدري أين ذهب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه تلك المقالة، والله أعلم‏.‏ فلما أصبحوا نزلوا على حكم رسول الله فتواثبت الأوس فقالوا‏:‏ يا رسول الله إنهم موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي الخزرج، بالأمس ما قد علمت، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بني قريظة حاصر بني قنيقاع وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه فسألهم إياه عبد الله بن أبي بن سلول، فوهبهم له فلما كلمه الأوس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ألا ترضون يا معشر الأوس أن يحكم فيكم رجل منكم‏؟‏ ‏"‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ فذاك إلى سعد بن معاذ، وكان سعد بن معاذ قد جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في خيمة امرأة من المسلمين يقال لها رفيدة في مسجده، وكانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب، فلما حكمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بني قريظة أتاه قومه فاحتملوه على حمار قد وطأوا له بوسادة من أدم، وكان رجلا جسيما ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يقولون يا أبا عمرو أحسن في مواليك، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ولاك ذلك لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه قال‏:‏ قد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، فرجع بعض من كان معه من قومه إلى دار بني الأشهل فنعى لهم رجال بني قريظة قبل أن يصل إليهم سعد بن معاذ عن كلمته التي سمع منه فلما انتهى سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ قوموا إلى سيدكم فأنزلوه، فقاموا إليه فقالوا‏:‏ يا أبا عمرو إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولاك مواليك لتحكم فيهم، فقال سعد‏:‏ عليكم بذلك عهد الله وميثاقه أن الحكم فيها ما حكمت‏؟‏ قالوا‏:‏ نعم، قال‏:‏ وعلى من ها هنا في الناحية التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ‏[‏وهو معرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏ إجلالا له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ نعم، قال سعد‏:‏ فإني أحكم فيهم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري والنساء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد‏:‏ ‏"‏لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة‏"‏ ثم استنزلوا فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خندقا ثم بعث إليهم فضربت أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا وفيهم عدو الله حيي بن أخطب وكعب بن أسد رئيس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر لهم يقول كانوا بين ثمانمائة إلى تسعمائة، وقد قالوا لكعب بن أسد وهم يذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا يا كعب ما ترى ما يصنع بنا فقال كعب‏:‏ أفي كل موطن لا تعقلون ألا ترون الداعي لا ينزع وإن من يذهب به منكم لا يرجع، هو والله القتل، فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم النبي صلى الله عليه وسلم وأتى حيي بن أخطب عدو الله عليه حلة تفاحية قد شققها عليه من كل ناحية كموضع الأنملة أنملة أنملة لئلا يسلبها مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أما والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكنه من يخذل الله يخذل، ثم أقبل على الناس فقال أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله كتاب وقدر وملحمة كتبت على بني إسرائيل، ثم جلس فضربت عنقه‏.‏

وروى عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها قالت لم يقتل من نساء بني قريظة إلا امرأة واحدة قالت والله إنها لعندي تتحدث معي وتضحك ظهرا وبطنا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتل رجالهم بالسيوف إذ هتف هاتف باسمها‏:‏ أين فلانة قالت‏:‏ أنا والله قلت‏:‏ ويلك مالك‏؟‏ قالت‏:‏ أقتل، قلت‏:‏ ولم‏؟‏ قالت‏:‏ حدث أحدثته، قالت‏:‏ فانطلق بها فضرب عنقها، وكانت عائشة تقول‏:‏ ما أنسى عجبا منها طيب نفس وكثرة ضحك، وقد عرفت إنها تقتل‏.‏ قال الواقدي‏:‏ وكان اسم تلك المرأة شبابة، امرأة الحكم القرظي وكانت قتلت خلاد بن سويد، رمت عليه رحى فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فضرب عنقها بخلاد بن سويد قال‏:‏ وكان علي والزبير يضربان أعناق بني قريظة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس هنالك‏.‏

وروى محمد بن إسحاق عن الزهري أن الزبير بن باطا القرظي، وكان يكنى أبا عبد الرحمن، كان قد من على ثابت بن قيس بن شماس في الجاهلية يوم بعاث، أخذه فجز ناصيته، ثم خلى سبيله، فجاءه يوم قريظة وهو شيخ كبير فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني‏؟‏ قال‏:‏ وهل يجهل مثلي مثلك‏؟‏ قال‏:‏ إني أردت أن أجزيك بيدك عندي، قال‏:‏ إن الكريم يجزي الكريم، قال‏:‏ ثم أتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله قد كانت للزبير عندي يد وله علي منة، وقد أحببت أن أجزيه بها فهب لي دمه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏هو لك‏"‏ فأتاه فقال له إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك، قال شيخ كبير لا أهل له ولا ولد فما يصنع بالحياة، فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله أهله وماله‏؟‏ قال هم لك فأتاه فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني امرأتك وولدك فهم لك، قال‏:‏ أهل بيت بالحجاز لا مال لهم فما بقاؤهم على ذلك، فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ماله يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ هو لك، قال‏:‏ فأتاه فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطاني مالك فهو لك، فقال‏:‏ أي ثابت ما فعل الله بمن كان وجهه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي كعب بن أسد، قال‏:‏ قتل، قال‏:‏ فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب‏؟‏ قال‏:‏ قتل، قال‏:‏ فما فعل مقدمنا إذا شددنا وحامينا إذا كررنا عزال بن شموئيل‏؟‏ قال‏:‏ قتل، قال‏:‏ فما فعل المجلسان يعني بني كعب ابن قريظة وبني عمرو بن قريظة‏؟‏ قال‏:‏ ذهبوا وقتلوا، قال‏:‏ فإني أسألك بيدي عندك يا ثابت إلا ما ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء خير، فما أنا بصابر لله فترة دلو نضح حتى ألقى الأحبة فقدمه ثابت فضرب عنقه، فلما بلغ أبا بكر الصديق قوله ألقى الأحبة، قال‏:‏ يلقاهم والله في نار جهنم خالدا فيها مخلدا أبدا‏.‏

قالوا‏:‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم ثم قسم أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأعلم في ذلك اليوم سهمان الخيل وسهمان الرجال وأخرج منها الخمس، فكان للفارس ثلاثة أسهم للفرس سهمان ولفارسه سهم وللراجل ممن ليس له فرس سهم، وكانت الخيل ستة وثلاثين فرسا وكان أول فيء وقع فيه السهمان، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن زيد الأنصاري أخا بني عبد الاشهل بسبايا من سبايا بني قريظة إلى نجد فابتاع لهم بهم خيلا وسلاحا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اصطفى لنفسه من نسائهم ريحانة بنت عمرو بن خنانة إحدى نساء بني عمرو بن قريظة، فكانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توفي عنها وهي في ملكه، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص عليها أن يتزوجها ويضرب عليها الحجاب، فقالت‏:‏ يا رسول الله بل تتركني في ملكك فهو أخف علي وعليك فتركها وقد كانت حين سباها كرهت الإسلام وأبت إلا اليهودية، فعزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد في نفسه بذلك من أمرها، فبينا هو مع أصحابه إذ سمع وقع نعلين خلفه فقال إن هذا لثعلبة بن شعبة يبشرني بإسلام ريحانة فجاءه فقال‏:‏ يا رسول الله قد أسلمت ريحانة، فسره ذلك‏.‏

فلما انقضى شأن بني قريظة انفجر جرح سعد بن معاذ، وذلك أنه دعا بعد أن حكم في بني قريظة ما حكم فقال‏:‏ اللهم إنك قد علمت أنه لم يكن قوم أحب إلي أن أجاهدهم من قوم كذبوا رسولك، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش على رسولك شيئا فأبقني لها وإن كنت قد قطعت الحرب بينه وبينهم فاقبضني إليك، فانفجر كلمه فرجعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيمته التي ضربت عليه في المسجد، قالت عائشة‏:‏ فحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر فوالذي نفس محمد بيده إني لأعرف بكاء عمر من بكاء أبي بكر وإني لفي حجرتي، قالت‏:‏ وكانوا كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏حماء بينهم‏}‏‏[‏الفتح - 29‏]‏، وكان فتح بني قريظة في آخر ذي القعدة سنة خمس من الهجرة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عبد الله بن محمد، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا إسرائيل، سمعت أبا إسحاق يقول، سمعت سليمان بن صرد يقول، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول حين أجلى الأحزاب عنه‏:‏ ‏"‏الآن نغزوهم ولا يغزونا، نحن نسير إليهم‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد الميحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا قتيبة، أخبرنا الليث عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول‏:‏ ‏"‏لا اله إلا الله وحده، أعز جنده، ونصر عبده، وغلب الأحزاب وحده‏"‏ فلا شيء بعده‏"‏‏.‏

قال الله تعالى في قصة بني قريظة‏:‏ ‏{‏وَأَنزلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ‏}‏ وهم الرجال، يقال‏:‏ كانوا ستمائة، ‏{‏وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا‏}‏ وهم النساء والذراري، يقال‏:‏ كانوا سبعمائة وخمسين، ويقال‏:‏ تسعمائة

تفسير الآيات رقم ‏[‏27 - 29‏]‏

‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ‏(‏27‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا ‏(‏28‏)‏ وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا‏}‏ بعد، قال ابن زيد ومقاتل‏:‏ يعني خيبر، قال قتادة‏:‏ كنا نحدث أنها مكة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ فارس والروم‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ كل أرض تفتح إلى يوم القيامة‏.‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا‏}‏ قوله عز وجل ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ‏}‏ متعة الطلاق، ‏{‏وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا‏}‏ ‏{‏وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ سبب نزول هذه الآية أن نساء النبي صلى الله عليه وسلم سألنه شيئا من عرض الدنيا، وطلبن منه زيادة في النفقة، وآذينه بغيرة بعضهن على بعض، فهجرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآلى أن لا يقربهن شهرا ولم يخرج إلى أصحابه، فقالوا‏:‏ ما شأنه‏؟‏ وكانوا يقولون‏:‏ طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فقال عمر لأعلمنّ لكم شأنه، قال‏:‏ فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ يا رسول الله أطلقتهن‏؟‏ قال‏:‏ لا قلت‏:‏ يا رسول الله إني دخلت المسجد والمسلمون يقولون‏:‏ طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، أفأنزل فأخبرهم أنك لم تطلقهن‏؟‏ قال‏:‏ نعم إن شئت، فقمت على باب المسجد وناديت بأعلى صوتي لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، فنزلت هذه الآية‏:‏ ‏"‏وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم‏"‏ ‏[‏النساء - 83‏]‏، فكنت أنا استنبطت ذاك الأمر، وأنزل الله آية التخيير، وكانت تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ تسع نسوة خمس من قريش‏:‏ عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وأم سلمة بنت أبي أمية، وسودة بنت زمعة، وغير القرشيان‏:‏ زينب بنت جحش الأسدية، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، رضوان الله عليهن فلما نزلت آية التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة، وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعتها على ذلك‏.‏

قال قتادة‏:‏ فلما اخترن الله ورسوله شكرهن الله على ذلك وقصره عليهن فقال‏:‏ ‏{‏لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ‏}‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغفار بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، أخبرنا زهير بن حرب، أخبرنا روح بن عبادة، أخبرنا زكريا بن إسحاق، أخبرنا أبو الزبير عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد الناس جلوسا ببابه ولم يؤذن لأحد منهم، قال‏:‏ فأذن لأبي بكر فدخل ثم أقبل عمر فاستأذن له فوجد النبي صلى الله عليه وسلم جالسا حوله نساؤه واجما ساكتا، فقال‏:‏ لأقولن شيئا أضحك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة سألتني النفقة، فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال‏:‏ هن حولي كما ترى يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة يجأ عنقها، وقام عمر إلى حفصه يجأ عنقها، كلاهما يقول‏:‏ لا تسألي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن شهرا أو تسعا وعشرين، ثم نزلت الآية‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ‏}‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ قال‏:‏ فبدأ بعائشة فقال‏:‏ يا عائشة إني أريد أن أعرض عليكِ أمرًا أحب أن لا تعجلي فيه حتى تستشيري أبويك، قالت‏:‏ وما هو يا رسول الله‏؟‏ فتلا عليها الآية، قالت‏:‏ أفيك يا رسول الله استشير أبوي‏؟‏ بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلت، قال‏:‏ ‏"‏ لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتا ولا متعنتا ولكن بعثني معلما ميسرا‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، أخبرنا أحمد بن منصور الرمادي، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يدخل على أزواجه شهرا، قال الزهري فأخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت‏:‏ فلما مضت تسع وعشرون أعدُّهن دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ بدأ بي فقلت‏:‏ يا رسول الله إنك أقسمت ألا تدخل علينا شهرا وإنك دخلت في تسع وعشرين أعدهن‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏إن الشهر تسع وعشرون‏"‏

واختلف العلماء في هذا الخيار أنه هل كان ذلك تفويض الطلاق إليهن حتى يقع بنفس الاختيار أم لا‏؟‏ فذهب الحسن، وقتادة، وأكثر أهل العلم‏:‏ إلى أنه لم يكن تفويض الطلاق، وإنما خيّرهن على أنّهن إذا اخترن الدنيا فارقهن، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا‏}‏ بدليل أنه لم يكن جوابهن على الفور فإنه قال لعائشة‏:‏ ‏"‏لا تعجلي حتى تستشيري أبويك‏"‏، وفي تفويض الطلاق يكون الجواب على الفور‏.‏

وذهب قوم إلى أنه كان تفويض الطلاق لو اخترن أنفسهن كان طلاقًا‏.‏

واختلف أهل العلم في حكم التخيير‏:‏ فقال عمر، وابن مسعود، وابن عباس‏:‏ إذا خيّر الرّجلُ امرأته فاختارت زوجَها لا يقع شيء، وإن اختارت نفسها يقع طلقة واحدة، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، وسفيان، والشافعي، وأصحاب الرأي، إلا عند أصحاب الرأي تقع طلقة بائنة إذا اختارت نفسها، وعند الآخرين رجعية‏.‏

وقال زيد بن ثابت‏:‏ إذا اختارت الزوج تقع طلقة واحدة، وإذا اختارت نفسها فثلاث، وهو قول الحسن وبه قال مالك‏.‏

وروي عن علي أيضًا أنها إذا اختارت زوجها تقع طلقة واحدة وإن اختارت نفسها فطلقة بائنة‏.‏

وأكثر العلماء على أنها إذا اختارت زوجها لا يقع شيء‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا عمر بن حفص، أخبرنا أبي، أخبرنا الأعمش، أخبرنا مسلم، عن مسروق، عن عائشة قالت‏:‏ خيّرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترنا الله ورسوله فلم يعدّ ذلك علينا شيئًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏30‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ‏}‏ بمعصية ظاهرة، قيل‏:‏ هي كقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏لئن أشركت ليحبطن عملك‏"‏ ‏[‏الزمر - 65‏]‏ لا أن منهن من أتت بفاحشة‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ المراد بالفاحشة النشوز وسوء الخلق‏.‏ ‏{‏يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ‏}‏ قرأ ابن كثير وابن عامر‏:‏ ‏"‏نضعف‏"‏ بالنون وكسر العين وتشديدها، ‏"‏العَذاب‏"‏ نصب، وقرأ الآخرون بالياء وفتح العين ‏"‏العذاب‏"‏ رفع ويشددها أبو جعفر وأهل البصرة، وشدد أبو عمرو هذه وحدها لقوله‏:‏ ‏"‏ضعفين‏"‏، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏يضاعَف‏"‏ بالألف وفتح العين، ‏"‏العذاب‏"‏ رفع، وهما لغتان مثل بعَّدَ وباعد، قال أبو عمرو وأبو عبيدة‏:‏ ضعفت الشيء إذا جعلته مثليه وضاعفته إذا جعلته أمثاله‏.‏ ‏{‏وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا‏}‏ قال مقاتل‏:‏ كان عذابها على الله هينًا وتضعيف عقوبتهن على المعصية لشرفهنّ كتضعيف عقوبة الحرة على الأمة وتضعيف ثوابهن لرفع منزلتهن؛ وفيه إشارة إلى أنهن أشرف نساء العالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 32‏]‏

‏{‏وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا ‏(‏31‏)‏ يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَنْ يَقْنُتْ‏}‏ يطع، ‏{‏مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ‏}‏ قرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏من تأت منكن، وتقنت‏"‏ بالتاء فيهما، وقرأ العامة بالياء لأن ‏"‏مَنْ‏"‏ أداةٌ تقوم مقام الإسم يعبر به عن الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ‏{‏وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ مثلي أجر غيرها، قال مقاتل‏:‏ مكان كل حسنة عشرين حسنة‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏يعمل، يؤتها‏"‏ بالياء فيهما نسقًا على قوله‏:‏ ‏"‏ومن يأت، ويقنت‏"‏ وقرأ الآخرون بالتاء، ‏{‏وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا‏}‏ حسنًا يعني الجنة‏.‏ ‏{‏يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد ليس قَدْرُكنّ عندي مثل قدر غيركنّ من النساء الصالحات، أنتن أكرم عليَّ، وثوابُكنّ أعظمُ لديَّ، ولم يقل‏:‏ كواحدة، لأن الأحد عام يصلح للواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏لا نفرق بين أحد من رسله‏"‏ ‏[‏البقرة – 285‏]‏، وقال‏:‏ ‏"‏فما منكم من أحد عنه حاجزين‏"‏ ‏[‏الحاقة - 47‏]‏‏.‏

‏{‏إِنِ اتَّقَيْتُنَّ‏}‏ الله فأطعتُنَّه، ‏{‏فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ‏}‏ لا تَلِنَّ بالقول للرجال ولا ترققن الكلام، ‏{‏فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ أي‏:‏ فجور وشهوة، وقيل نفاق، والمعنى‏:‏ لا تقلن قولا يجد منافق أو فاجر به سبيلا إلى الطمع فيكنّ‏.‏ والمرأة مندوبة إلى الغلظة في المقالة إذا خاطبت الأجانب لقطع الأطماع‏.‏

‏{‏وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا‏}‏ لوجه الدين والإسلام بتصريح وبيان من غير خضوع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ‏}‏ قرأ أهل المدينة وعاصم‏:‏ ‏"‏وقَرن‏"‏ بفتح القاف، وقرأ الآخرون بكسرها، فمن فتح القاف فمعناه، اقررن أي‏:‏ الزمن بيوتَكُن من قولهم‏:‏ قررت بالمكان أقرُّ قرارًا، يقال‏:‏ قررت أقر وقررت أقر، وهما لغتان، فحذفت الراء الأولى التي هي عين الفعل لثقل التضعيف ونقلت حركتها إلى القاف كقولهم‏:‏ في ظللت ظلت، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فظلتم تفكهون‏"‏ ‏[‏الواقعة - 65‏]‏، ‏"‏وظلت عليه عاكفا‏"‏ ‏[‏طه - 97‏]‏‏.‏

ومن كسر القاف فقد قيل‏:‏ هو من قررت أقر، معناه اقررن - بكسر الراء - فحذفت الأولى ونقلت حركتها إلى القاف كما ذكرنا وقيل‏:‏ - وهو الأصح - أنه أمر من الوقار، كقولهم من الوعد‏:‏ عدن، ومن الوصل‏:‏ صلن، أي‏:‏ كُنَّ أهل وقار وسكون، من قولهم وقر فلان يقر وقورًا إذا سكن واطمأن‏.‏

‏{‏وَلا تَبَرَّجْنَ‏}‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ التبرج هو التكسر والتغنج، وقال ابن أبي نجيح‏:‏ هو التبختر‏.‏ وقيل‏:‏ هو إظهار الزينة وإبراز المحاسن للرجال، ‏{‏تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأولَى‏}‏ ‏[‏اختلفوا في الجاهلية الأولى‏]‏‏.‏ قال الشعبي‏:‏ هي ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ هي في زمن داود وسليمان عليهما السلام، كانت المرأة تلبس قميصًا من الدر غير مخيط من الجانبين فيُرى خلقها فيه‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ كان ذلك في زمن نمرود الجبار، كانت المرأة تتخذ الدرع من اللؤلؤ فتلبسه وتمشي وسط الطريق ليس عليها شيء غيره وتعرض نفسها على الرجال‏.‏ وروى عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال‏:‏ الجاهلية الأولى فيما بين نوح وإدريس، وكانت ألف سنة، وأن بطنين من ولد آدم كان أحدهما يسكن السهل والآخر يسكن الجبل، وكان رجال الجبل صِبَاحًا وفي النساء دمامة، وكان نساء السهل صِباحًا وفي الرجال دمامة، وأن إبليس أتى رجلا من أهل السهل وأجَّر نفسه منه، فكان يخدمه واتخذ شيئًا مثل الذي يزمر به الرعاء فجاء بصوت لم يسمع الناس مثله، فبلغ ذلك من حولهم فانتابوهم يستمعون إليه، واتخذوا عيدًا يجتمعون إليه في السنة، فتتبرج النساء للرجال ويتزين الرجال لهن، وإن رجلا من أهل الجبل هجم عليهم في عيدهم ذلك فرأى النساء وصِباحتهن فأتى أصحابه فأخبرهم بذلك ‏[‏فتحولوا إليهم‏]‏ فنزلوا معهم فظهرت الفاحشة فيهم، فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى‏"‏‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هي ما قبل الإسلام‏.‏

وقيل‏:‏ الجاهلية الأولى‏:‏ ما ذكرنا، والجاهلية الأخرى‏:‏ قوم يفعلون مثل فعلهم في آخر الزمان‏.‏

وقيل‏:‏ قد تذكر الأولى وإن لم يكن لها أخرى، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وأنه أهلك عادا الأولى‏"‏ ‏[‏النجم - 50‏]‏، ولم يكن لها أخرى‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏ أراد بالرجس‏:‏ الإثم الذي نهى الله النساء عنه، قاله مقاتل‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ عمل الشيطان وما ليس لله فيه رضى، وقال قتادة‏:‏ يعني‏:‏ السوء‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الرجس الشك‏.‏

وأراد بأهل البيت‏:‏ نساء النبي صلى الله عليه وسلم لأنهن في بيته، وهو رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس، وتلا قوله‏:‏ ‏"‏ وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ ‏"‏، وهو قول عكرمة ومقاتل‏.‏

وذهب أبو سعيد الخدري، وجماعة من التابعين، منهم مجاهد، وقتادة، وغيرهما‏:‏ إلى أنهم عليّ وفاطمة والحسن والحسين‏.‏

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد الحنفي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن محمد الأنصاري، أخبرنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعدي، أخبرنا أبو همام الوليد بن شجاع، أخبرنا يحيى بن زكريا بن زائدة، أخبرنا أبي عن مصعب بن شيبة، عن صفية بنت شيبة الحجبية، عن عائشة أم المؤمنين قالت‏:‏ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود، فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ‏[‏ثم جاء عليّ فأدخله فيه‏]‏ ثم جاء حسن فأدخله فيه، ثم جاء حسين فأدخله فيه، ثم قال‏:‏ ‏"‏إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الحميدي، أخبرنا عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو العباس محمد بن يعقوب حدثنا الحسن بن مكرم، أخبرنا عثمان بن عمر، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أم سلمة قالت‏:‏ في بيتي أنزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏ قالت‏:‏ فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة وعلي والحسن والحسين، فقال ‏"‏هؤلاء أهل بيتي‏"‏، قالت‏:‏ فقلت يا رسول الله أَمَا أنا من أهل البيت‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏بلى إن شاء الله‏"‏‏.‏

قال زيد بن أرقم‏:‏ أهل بيته مَنْ حَرُمَ الصدقة عليه بعده، آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34 - 35‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا ‏(‏34‏)‏ إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏35‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏وَالْحِكْمَةِ‏}‏ قال قتادة‏:‏ يعني السنة وقال مقاتل‏:‏ أحكام القرآن ومواعظه‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا‏}‏ أي‏:‏ لطيفًا بأوليائه خبيرًا بجميع خلقه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ‏}‏ الآية‏.‏ وذلك أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن‏:‏ يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء بخير، فما فينا خير نذكر به، إنا نخاف أن لا يقبل الله منّا طاعةً، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

قال مقاتل‏:‏ قالت أم سلمة بنت أبي أمية ونيسة بنت كعب الأنصارية للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما بال ربّنا يذكر الرجال ولا يذكر النساء في شيء من كتابه، نخشى أن لا يكون فيهن خير‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وروي أن أسماء بنت عميس رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب فدخلت على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ هل نزل فينا شيء من القرآن‏؟‏ قلن‏:‏ لا‏.‏ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار، قال‏:‏ ومِمَّ ذاك‏؟‏ قالت‏:‏ لأنهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ‏}‏ المطيعين ‏{‏وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ‏}‏ في ايمانهم وفيما ساءهم وسرهم، ‏{‏وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ‏}‏ على ما أمر الله به، ‏{‏وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ‏}‏ المتواضعين، ‏{‏وَالْخَاشِعَاتِ‏}‏ وقيل‏:‏ أراد به الخشوع في الصلاة، ومن الخشوع أن لا يلتفت، ‏{‏وَالْمُتَصَدِّقِينَ‏}‏ ممّا رزقهم الله، ‏{‏وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ‏}‏ عمّا لا يحل، ‏{‏وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا حتى يذكر الله قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا‏.‏

وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏قد سبق المفردون‏"‏، قالوا‏:‏ وما المفرِّدون يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات‏"‏‏.‏

قال عطاء بن أبي رباح‏:‏ من فوض أمره إلى الله عز وجل فهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏إن المسلمين والمسلمات‏"‏، ومن أقر بأن الله ربُّه ومحمدًا رسولُه، ولم يخالف قلبه لسانه، فهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏والمؤمنين والمؤمنات‏"‏، ومن أطاع الله في الفرض، والرسول في السنة‏:‏ فهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏والقانتين والقانتات ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏والصادقين والصادقات‏"‏، ومن صبر على الطاعة، وعن المعصية، وعلى الرزية‏:‏ فهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏والصابرين والصابرات‏"‏، ومن صلى ولم يعرف من عن يمينه وعن يساره فهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏والخاشعين والخاشعات‏"‏، ومن تصدق في كل أسبوع بدرهم فهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏والمتصدقين والمتصدقات‏"‏، ومن صام في كل شهر أيام البيض‏:‏ الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، فهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏والصائمين والصائمات‏"‏، ومن حفظ فرجه عما لا يحل فهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏والحافظين فروجهم والحافظات‏"‏، ومن صلى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله‏:‏ ‏"‏والذاكرين الله كثيرا والذاكرات‏"‏‏.‏ ‏{‏أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا‏}‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا ‏(‏36‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏

نزلت الآية في زينب بنت جحش الأسدية وأخيها عبد الله بن جحش وأمهما أمية بنت عبد المطلب عمة النبي صلى الله عليه وسلم، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم لمولاه زيد بن حارثة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى زيدًا في الجاهلية بعكاظ فأعتقه وتبناه، فلما خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب رضيت وظنت أنه يخطبها لنفسه فلما علمت أنه يخطبها لزيد أبت وقالت‏:‏ أنا ابنة عمتك يا رسول الله فلا أرضاه لنفسي، وكانت بيضاء جميلة فيها حدة، وكذلك كره أخوها ذلك، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ‏}‏ يعني‏:‏ عبد الله بن جحش، ‏{‏وَلا مُؤْمِنَةٍ‏}‏ يعني‏:‏ أخته زينب، ‏{‏إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا‏}‏ أي إذا أراد الله ورسوله أمرًا وهو نكاح زينت لزيد، ‏{‏أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ‏}‏ قرأ أهل الكوفة‏:‏ ‏"‏أن يكون‏"‏ بالياء، للحائل بين التأنيث والفعل، وقرأ الآخرون بالتاء لتأنيث ‏"‏الخيرة‏"‏ من أمرهم، والخيرة‏:‏ الاختيار‏.‏

والمعنى أن يريد غير ما أراد الله أو يمتنع مما أمر الله ورسوله به‏.‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا‏}‏ أخطأ خطأ ظاهرًا، فلما سمعا ذلك رضيا بذلك وسلَّما، وجعلت أمرها بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك أخوها، فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا، فدخل بها وساق رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها عشرة دنانير، وستين درهمًا، وخمارًا، ودرعًا، وإزارًا وملحفة، وخمسين مدًا من طعام، وثلاثين صاعًا من تمر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا ‏(‏37‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ‏}‏ الآية، نزلت في زينت وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوج زينب من زيد مكثت عنده حينًا، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى زيدًا ذات يوم لحاجة، فأبصر زينب قائمة في درع وخمار وكانت بيضاء جميلة ذات خلق من أتم نساء قريش، فوقعت في نفسه وأعجبه حسنها، فقال‏:‏ سبحان الله مقلب القلوب وانصرف، فلما جاء زيد ذكرت ذلك له، ففطن زيد، فألقى في نفس زيد كراهيتها في الوقت فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏إني أريد أن أفارق صاحبتي‏"‏، قال‏:‏ ما لك أرَابَك منها شيء‏؟‏ قال‏:‏ لا والله يا رسول الله ما رأيت منها إلا خيرًا، ولكنها تتعظم عليّ لشرفها وتؤذيني بلسانها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أمسك عليك زوجك‏"‏، يعني‏:‏ زينب بنت جحش، ‏{‏وَاتَّقِ اللَّهَ‏}‏ في أمرها، ثم طلَّقها زيد فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ‏}‏ بالإسلام، ‏{‏وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ‏}‏ بالإعتاق، وهو زيد بن حارثة ‏{‏أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ‏}‏ فيها ولا تفارقها، ‏{‏وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ‏}‏ أي‏:‏ تسر في نفسك ما الله مظهره، أي‏:‏ كان في قلبه لو فارقها لتزوجها‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ حبها‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ود أنه طلقها‏.‏

‏{‏وَتَخْشَى النَّاسَ‏}‏ قال ابن عباس والحسن‏:‏ تستحييهم‏.‏

وقيل‏:‏ تخاف لائمة الناس أن يقولوا‏:‏ أمر رجلا بطلاق امرأته ثم نكحها‏.‏

‏{‏وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ‏}‏ قال عمر، وابن مسعود، وعائشة‏:‏ ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية هي أشد عليه من هذه الآية‏.‏

وروي عن مسروق قال‏:‏ قالت عائشة‏:‏ لو كتم النبي صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية‏:‏ ‏"‏وتخفي في نفسك ما الله مبديه‏"‏‏.‏

وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان قال‏:‏ سألني علي بن الحسين زين العابدين ما يقول الحسن في قوله‏:‏ ‏{‏وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ‏}‏‏؟‏ قلت‏:‏ يقول لما جاء زيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا نبي الله إني أريد أن أطلق زينب فأعجبه ذلك، فقال‏:‏ أمسك عليك زوجك واتق الله، فقال علي بن الحسين‏:‏ ليس كذلك، كان الله تعالى قد أعلمه أنها ستكون من أزواجه وأن زيدا سيطلقها، فلما جاء زيد وقال‏:‏ إني أريد أن أطلقها قال له‏:‏ أمسك عليك زوجك، فعاتبه الله وقال‏:‏ لم قلت‏:‏ أمسك عليك زوجك، وقد أعلمتك أنها ستكون من أزواجك‏؟‏ وهذا هو الأولى والأليق بحال الأنبياء وهو مطابق للتلاوة لأن الله علم انه يبدي ويظهر ما أخفاه ولم يظهر غير تزويجها منه فقال‏:‏ ‏"‏زوجناكها‏"‏ فلو كان الذي أضمره رسول الله صلى الله عليه وسلم محبتها أو إرادة طلاقها لكان يظهر ذلك لأنه لا يجوز أن يخبر أنه يظهره ثم يكتمه فلا يظهره، فدل على أنه إنما عوتب على إخفاء ما أعلمه الله إنها ستكون زوجة له، وإنما أخفاه استحياء أن يقول لزيد‏:‏ التي تحتك وفي نكاحك ستكون امرأتي، وهذا قول حسن مرض، وإن كان القول الآخر وهو أنه أخفى محبتها أو نكاحها لو طلقها لا يقدح في حال الأنبياء، لأن العبد غير ملوم على ما يقع في قلبه في مثل هذه الأشياء ما لم يقصد فيه المآثم، لأن الود وميل النفس من طبع البشر‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏أمسك عليك زوجك واتق الله‏"‏ أمر بالمعروف، وهو خشية لا إثم فيه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ‏}‏ لم يرد به أنه لم يكن يخشى الله فيما سبق فإنه عليه السلام قد قال‏:‏ ‏"‏أنا أخشاكم لله وأتقاكم له‏"‏، ولكنه لما ذكر الخشية من الناس ذكر أن الله تعالى أحق بالخشية في عموم الأحوال وفي جميع الأشياء‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا‏}‏ أي‏:‏ حاجة من نكاحها، ‏{‏زَوَّجْنَاكَهَا‏}‏ وذكر قضاء الوطر ليعلم أن زوجة المتبني تحل بعد الدخول بها‏.‏

قال أنس‏:‏ كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فتقول‏:‏ زوجكن أهاليكن وزوجني الله من فوق سبع سموات‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ كانت زينب تقول للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني لأدل عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدل بهن‏:‏ جدي وجدك واحد، أني أنكحنيك الله في السماء، وإن السفير لجبريل عليه السلام‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغفار بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، أخبرنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، أخبرنا مسلم بن الحجاج، حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، أخبرنا بهز، أخبرنا سليمان بن المغيرة، عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ لما انقضت عدة زينب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد‏:‏ ‏"‏فاذكرها علي‏"‏، قال‏:‏ فانطلق زيد حتى أتاها وهي تخمر عجينها، قال فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي، فقلت‏:‏ يا زينب أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك‏.‏

قالت‏:‏ ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي، فقامت إلى مسجدها، ونزل القرآن، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليها بغير إذن‏.‏

قال‏:‏ ولقد رأيتنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطعمنا الخبز واللحم، حتى امتد النهار، ‏[‏فخرج الناس‏]‏ وبقي رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعته فجعل يتتبع حجز نسائه يسلم عليهن، ويقلن‏:‏ يا رسول الله كيف وجدت أهلك‏؟‏ قال‏:‏ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبرني‏.‏

قال‏:‏ فانطلق حتى دخل البيت فذهبتُ أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا سليمان بن حرب، أخبرنا حماد عن ثابت، عن أنس قال‏:‏ ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من نسائه ما أولم على زينب، أولم بشاة‏.‏

أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي، أخبرنا أبو العباس الأصم، أخبرنا محمد بن هشام بن ملاس النمري، أخبرنا مروان الفزاري، أخبرنا حميد عن أنس قال‏:‏ أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ابتنى بزينب بنت جحش فأشبع المسلمين خبزًا ولحمًا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ‏}‏ إثم، ‏{‏فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا‏}‏ و‏"‏الأدعياء‏"‏‏:‏ جمع الدَّعيِّ، وهو المتبنى، يقول‏:‏ زوجناك زينب، وهي امرأة زيد الذي تبنيته، ليعلم أن زوجة المتبنّى حلال للمتبني، ‏[‏وإن كان قد خل بها المُتَبَنَّى‏]‏ بخلاف امرأة ابن الصلب فإنها لا تحل للأب‏.‏

‏{‏وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا‏}‏ أي‏:‏ كان قضاء الله ماضيا وحكمه نافذا وقد قضى في زينب أن يتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ‏(‏38‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ‏}‏ أي‏:‏ فيما أحل الله له، ‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ كسنة الله نصب بنزع الخافض، وقيل‏:‏ نصب على الإغراء، أي‏:‏ الزموا سنة الله، ‏{‏فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ في الأنبياء الماضين أن لا يؤاخذهم بما أحل لهم‏.‏

قال الكلبي، ومقاتل‏:‏ أراد داودَ حين جمع بينه وبين المرأة التي هويها فكذلك جمع بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين زينب‏.‏

وقيل‏:‏ أشار بالسنة إلى النكاح فإنه من سنة الأنبياء عليهم السلام‏.‏

وقيل‏:‏ إلى كثرة الأزواج مثل داود وسليمان عليهما السلام‏.‏ ‏{‏وَكَانَ أَمْر، اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا‏}‏ قضاءً مقضيًا كائنًا ماضيًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏39 - 40‏]‏

‏{‏الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ‏(‏39‏)‏ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏يعني سنة الله في الأنبياء الذين يبلغون رسالات الله‏]‏ ‏{‏وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ‏}‏ لا يخشون قالة الناس ولائمتهم فيما أحلّ الله لهم وفرض عليهم، ‏{‏وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا‏}‏ حافظا لأعمال خلقه ومحاسبهم‏.‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب قال الناس‏:‏ إن محمدا تزوج امرأة ابنه فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ زيد بن حارثة، أي‏:‏ ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها‏.‏

فإن قيل‏:‏ أليس أنه كان له أبناء‏:‏ القاسم، والطيب، والطاهر، وإبراهيم، وكذلك‏:‏ الحسن والحسين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحسن‏:‏ إن ابني هذا سيد‏؟‏‏.‏

قيل‏:‏ هؤلاء كانوا صغارا لم يكونوا رجالا‏.‏

والصحيح ما قلنا‏:‏ إنه أراد أبا أحد من رجالكم‏.‏

‏{‏وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏}‏ ختم الله به النبوة، وقرأ عاصم‏:‏ ‏"‏خاتم‏"‏ بفتح التاء على الاسم، أي‏:‏ آخرهم، وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل، لأنه ختم به النبيين فهو خاتمهم‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابنا يكون بعده نبيا‏.‏

وروي عن عطاء عن ابن عباس‏:‏ أن الله تعالى لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولدا ذكرا يصير رجلا ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا‏}‏

أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني، أخبرنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد الخذاشاهي، أخبرنا عبد الله بن محمد بن مسلم، حدثنا أبكر الجوربذي، أخبرنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس عن يزيد، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة قال‏:‏ كان أبو هريرة يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه، ترك منه موضع لبنة فطاف به النُّظارُ يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة، ختم بي البنيان وختم بي الرسل‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني، أخبرنا علي بن أحمد الخزاعي، أخبرنا الهيثم بن كليب الشاشي، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، أخبرنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي، وغير واحد قالوا، أخبرنا سفيان عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن لي أسماء أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا ‏(‏41‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لم يفرض الله تعالى فريضة إلا جعل لها حدًا معلومًا، ثم عذر أهلها في حال العذر غير الذكر، فإنه لم يجعل له حدًا يُنتهى إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله وأمرهم به في كل الأحوال، فقال‏:‏ ‏"‏فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم‏"‏ ‏[‏النساء - 103‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا‏}‏ أي‏:‏ بالليل والنهار، في البر والبحر وفي الصحة والسقم، وفي السر والعلانية‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الذكر الكثير أن لا تنساه أبدًا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42 - 44‏]‏

‏{‏وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ‏(‏42‏)‏ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا ‏(‏43‏)‏ تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏وَسَبِّحُوهُ‏}‏ أي‏:‏ صلوا له، ‏{‏بُكْرَةً‏}‏ يعني‏:‏ صلاة الصبح، ‏{‏وَأَصِيلا‏}‏ يعني‏:‏ صلاة العصر‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ ‏"‏وأصيلا‏"‏ صلاة الظهر والعصر والعشاءين‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ يعني‏:‏ قولوا سبحان الله، والحمد لله، ولا اله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فعبر بالتسبيح عن أخواته‏.‏

وقيل‏:‏ المراد من قوله‏:‏ ‏"‏ذكرًا كثيرًا‏"‏ هذه الكلمات يقولها الطاهر والجنب والمحدث‏.‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ‏}‏ فالصلاة من الله‏:‏ الرحمة، ومن الملائكة‏:‏ الاستغفار للمؤمنين‏.‏

قال السدي قالت بنو إسرائيل لموسى‏:‏ أيصلي ربنا‏؟‏ فكبر هذا الكلام على موسى، فأوحى الله إليه‏:‏ أن قل لهم‏:‏ إني أصلي، وأن صلاتي رحمتي، وقد وسعت رحمتي كل شيء‏.‏

وقيل‏:‏ الصلاة من الله على العبد هي إشاعة الذكر الجميل له في عباده‏.‏ وقيل‏:‏ الثناء عليه‏.‏

قال أنس‏:‏ لما نزلت‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَه، يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ‏}‏ قال أبو بكر‏:‏ ما خصك الله يا رسول الله بشرف إلا وقد أشركنا فيه، فأنزل الله هذه الآية‏.‏

قوله‏:‏ ‏{‏لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ أي‏:‏ من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان يعني‏:‏ أنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم أخرجكم من ظلمة الكفر إلى النور، ‏{‏وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا‏}‏ ‏{‏تَحِيَّتُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ تحية المؤمنين، ‏{‏يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ‏}‏ أي‏:‏ يرون الله، ‏{‏سَلامٌ‏}‏ أي‏:‏ يسلم الله عليهم، ويسلمهم من جميع الآفات‏.‏

وروي عن البراء بن عازب قال‏:‏ ‏"‏تحيتهم يوم يلقونه‏"‏، يعني‏:‏ يلقون ملك الموت، لا يقبض روح مؤمن إلا يسلم عليه‏.‏

وعن ابن مسعود قال‏:‏ إذا جاء ملك الموت ليقبض روح المؤمن قال‏:‏ ربك يقرئك السلام‏.‏

وقيل‏:‏ تسلم عليهم الملائكة وتبشرهم حين يخرجون من قبورهم ‏{‏وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا‏}‏ يعني‏:‏ الجنة‏.‏