فصل: تفسير الآيات رقم (51 - 56)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 56‏]‏

‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ ‏(‏51‏)‏ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏52‏)‏ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ ‏(‏53‏)‏ هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ ‏(‏54‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ ‏(‏55‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قوله عز وجل ‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بالغلبة والقهر‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ بالحجة، وفي الآخرة بالعذر‏.‏ وقيل‏:‏ بالانتقام من الأعداء في الدنيا والآخرة، وكل ذلك قد كان للأنبياء والمؤمنين، فهم منصورون بالحجة على من خالفهم، وقد نصرهم الله بالقهر على من ناوأهم وإهلاك أعدائهم، ونصرهم بعد أن قتلوا بالانتقام من أعدائهم، كما نصر يحيى بن زكريا لما قتل، قتل به سبعون ألفًا، فهم منصورون بأحد هذه الوجوه، ‏{‏وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة يقوم الحفظة من الملائكة يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب‏.‏

‏{‏يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ إن اعتذروا عن كفرهم لم يقبل منهم، وإن تابوا لم ينفعهم، ‏{‏وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ‏}‏ البعد من الرحمة، ‏{‏وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏ يعني جهنم‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى‏}‏ قال مقاتل‏:‏ الهدى من الضلالة، يعني التوراة، ‏{‏وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ‏}‏ ‏[‏التوراة‏]‏‏.‏

‏{‏هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ‏}‏‏.‏

‏{‏فَاصْبِر‏}‏ يا محمد على أذاهم، ‏{‏إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ‏}‏ في إظهار دينك وإهلاك أعدائك ‏{‏حَق‏}‏ قال الكلبي‏:‏ نسخت آية القتال آية الصبر، ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ هذا تعبد من الله ليزيده به درجة وليصير سنة لمن بعده، ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ‏}‏ صلِّ شاكرًا لربك ‏{‏بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ‏}‏ قال الحسن‏:‏ يعني صلاة العصر وصلاة الفجر‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ الصلوات الخمس‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ‏}‏ ما في قلوبهم، والصدر

موضع القلب، فكنى به عن القلب لقرب الجوار، ‏{‏إِلا كِبْرٌ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ما يحملهم على تكذيبك إلا ما في صدورهم من الكبر والعظمة، ‏{‏مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ ما هم ببالغي مقتضى ذلك الكبر، لأن الله عز وجل مذلهم‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ إن في صدورهم إلا تكبر على محمد صلى الله عليه وسلم وطمع في أن يغلبوه وما هم ببالغي ذلك‏.‏

قال أهل التفسير‏:‏ نزلت في اليهود، وذلك أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن صاحبنا المسيح بن داود - يعنون الدجال - يخرج في آخر الزمان، فيبلغ سلطانه في البر والبحر، ويرد الملك إلينا، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ‏}‏ من فتنة الدجال، ‏{‏إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ مع عظمهما، ‏{‏أَكْبَر‏}‏ أعظم في الصدور، ‏{‏مِنْ خَلْقِ النَّاسِ‏}‏ أي‏:‏ من إعادتهم بعد الموت، ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ‏}‏ يعني الكفار، ‏{‏لا يَعْلَمُونَ‏}‏ حيث لا يستدلون بذلك على توحيد خالقها‏.‏ وقال قوم‏:‏ ‏"‏أكبر‏"‏ ‏[‏أي‏:‏ أعظم‏]‏ من خلق الدجال، ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ يعني اليهود الذين يخاصمون في أمر الدجال‏.‏

وروي عن هشام بن عامر قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من خلق الدجال‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد عبد الله بن أحمد الطاهري، أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، ‏[‏أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، حدثنا عبد الرزاق‏]‏ حدثنا معمر عن قتادة عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد الأنصارية قالت‏:‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي فذكر الدجال، فقال‏:‏ ‏"‏إن بين يديه ثلاث سنين‏:‏ سنة تمسك السماء ثلث قطرها، والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء ثلثي قطرها، والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها كله، والأرض نباتها كله، فلا يبقى ذات ظلف ولا ذات ضرس من البهائم إلا هلك، وإن من أشد فتنته أنه يأتي الأعرابي فيقول‏:‏ أرأيت إن أحييت لك إبلك أليس تعلم أني ربك‏؟‏ قال‏:‏ فيقول‏:‏ بلى، فيتمثل له نحو إبله كأحسن ما يكون ضروعًا وأعظمه أسنمة، قال‏:‏ ويأتي الرجل قد مات أخوه ومات أبوه فيقول‏:‏ أرأيت إن أحييت لك أباك وأخاك ألست تعلم أني ربك‏؟‏ فيقول‏:‏ بلى، فيتمثل له الشيطان نحو أبيه ونحو أخيه‏"‏‏.‏ قالت‏:‏ ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته، ثم رجع والقوم في اهتمام وغم مما حدثهم، قالت‏:‏ فأخذ بلحمتي الباب فقال‏:‏ مهيم أسماء‏؟‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله لقد خلعت أفئدتنا بذكر الدجال، قال‏:‏ ‏"‏إن يخرج وأنا حي فأنا حجيجه، وإلا فإن ربي خليفتي على كل مؤمن‏"‏، قالت أسماء فقلت‏:‏ يا رسول الله والله إنا لنعجن عجينًا فما نخبزه حتى نجوع فكيف بالمؤمنين يومئذ‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يجزيهم ما يجزئ أهل السماء من التسبيح والتقديس‏"‏‏.‏

وبهذا الإسناد قال‏:‏ أخبرنا معمر، عن ابن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يمكث الدجال في الأرض أربعين سنة، السنة كالشهر، والشهر كالجمعة، والجمعة كاليوم، واليوم كاضطرام السعفة في النار‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الطاهري، أخبرنا جدي عبد الصمد بن عبد الرحمن البزار، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق الدبري، حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر قال‏:‏ قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال فقال‏:‏ ‏"‏إني لأنذركموه، وما من نبي إلا أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لقومه‏:‏ تعلمون أنه أعور وإن الله ليس بأعور‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا جويرية عن نافع عن عبد الله قال‏:‏ ذكر الدجال عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏إن الله لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور، وأشار بيده إلى عينه، وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية‏"‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني، أخبرنا عبد الغافر بن محمد الفارسي، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا علي بن حجر، حدثنا شعيب بن صفوان عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن حراش عن عقبة بن عمرو بن مسعود الأنصاري قال‏:‏ انطلقت معه إلى حذيفة بن اليمان فقال له عقبة‏:‏ حدثني ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدجال‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إن الدجال يخرج وإن معه ماء ونارًا، فأما الذي يراه الناس ماء فنار تحرق، وأما الذي يراه الناس نارًا فماء بارد عذب، فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه نارًا فإنه ماء عذب طيب‏"‏ فقال عقبة‏:‏ وأنا قد سمعته، تصديقًا لحذيفة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثني إبراهيم بن المنذر، حدثنا ابن الوليد، حدثنا ابن عمرو وهو الأوزاعي، حدثنا إسحاق، حدثني أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، ليس من نقابها إلا عليه الملائكة صافين يحرسونها، ‏[‏ثم‏]‏ ترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات، فيخرج إليه كل كافر ومنافق‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله محمد بن الفضل الخرقي، أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الطيسفوني، أخبرنا عبد الله بن عمر الجوهري، حدثنا أحمد بن علي الكشمهيني، حدثنا علي بن حجر، حدثنا إسماعيل بن جعفر عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يأتي المسيح من قبل المشرق وهمته المدينة، حتى ينزل دبر أحد، ثم تصرف الملائكة وجهه قبل الشام، وهناك يهلك‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الطاهري، أخبرنا جدي عبد الصمد البزار، أخبرنا محمد بن زكريا العذافري، أخبرنا إسحاق الدبري، ثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفًا عليهم السيجان ‏"‏ ويرويه أبو أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏مع الدجال يومئذ سبعون ألف يهودي كلهم ذو تاج وسيف محلى‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏58 - 60‏]‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ ‏(‏58‏)‏ إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ ‏(‏59‏)‏ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ قرأ أهل الكوفة ‏"‏تتذكرون‏"‏ بالتاء، وقرأ الآخرون بالياء، لأن أول الآيات وآخرها خبر عن قوم‏.‏

‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ‏}‏ أي‏:‏ القيامة ‏{‏لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وقال ربكم ادعوني استجب لكم‏}‏ أي‏:‏ اعبدوني دون غيري أجبكم وأثبكم وأغفر لكم، فلما عبر عن العبادة بالدعاء جعل الإنابة استجابة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان، حدثنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن منصور عن أبي ذر عن يسيع الكندي عن النعمان بن بشير قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر‏:‏ ‏"‏إن الدعاء هو العبادة‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏"‏ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن علي الدورقي، حدثنا أبو الحسن علي بن يوسف الشيرازي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى القرشي ببغداد، حدثنا محمد بن عبيد بن العلاء، حدثنا أحمد بن بديل، حدثنا وكيع، حدثنا أبو المليح قال‏:‏ سمعت أبا صالح يذكر عن أبي هريرة قال‏:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من لم يدع الله غضب الله عليه‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ الدعاء هو الذكر والسؤال، ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ‏}‏ قرأ ابن كثير وأبو جعفر وأبو بكر‏:‏ ‏"‏سيدخلون‏"‏ بضم الياء وفتح الخاء، وقرأ الآخرون بفتح الياء وضم الخاء، ‏"‏داخرين‏"‏ صاغرين ذليلين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61 - 65‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ ‏(‏61‏)‏ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏62‏)‏ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ‏(‏63‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏64‏)‏ هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏65‏)‏‏}‏

‏{‏كَذَلِك‏}‏ يعني كما أفكتم عن الحق مع قيام الدلائل كذلك، ‏{‏يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا‏}‏ فراشًا، ‏{‏وَالسَّمَاءَ بِنَاءً‏}‏ سقفًا كالقبة، ‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ خلقكم فأحسن خلقكم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ خلق ابن آدم قائمًا معتدلا يأكل ويتناول بيده، وغير ابن آدم يتناول بفيه‏.‏ ‏{‏وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ قيل‏:‏ من غير رزق الدواب ‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال الفراء‏:‏ هو خبر وفيه إضمار الأمر، مجازه‏:‏ فادعوه واحمدوه‏.‏

وروي عن مجاهد عن ابن عباس قال‏:‏ من قال لا إله إلا الله فليقل على إثرها الحمد لله رب العالمين، فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏66 - 71‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏66‏)‏ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏67‏)‏ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ‏(‏68‏)‏ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ ‏(‏69‏)‏ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ‏(‏70‏)‏ إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ ‏(‏71‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ وذلك حين دعي إلى الكفر‏.‏

‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا‏}‏ أي‏:‏ أطفالا ‏{‏ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل أن يصير شيخًا، ‏{‏وَلِتَبْلُغُوا‏}‏ جميعًا، ‏{‏أَجَلا مُسَمًّى‏}‏ وقتًا معلومًا محدودًا لا تجاوزونه، يريد أجل الحياة إلى الموت، ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ لكي تعقلوا توحيد ربكم وقدرته‏.‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، يقولون ليس من عند الله، ‏{‏أَنَّى يُصْرَفُونَ‏}‏ كيف يصرفون عن دين الحق‏.‏ قيل‏:‏ هم المشركون‏.‏ وعن محمد بن سيرين وجماعة‏:‏ أنها نزلت في القدرية‏.‏

‏{‏إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ‏}‏ ‏[‏يجرون‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏72 - 80‏]‏

‏{‏فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ‏(‏72‏)‏ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ‏(‏73‏)‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ‏(‏74‏)‏ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ‏(‏75‏)‏ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ‏(‏76‏)‏ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ ‏(‏77‏)‏ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ ‏(‏78‏)‏ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ‏(‏79‏)‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ‏(‏80‏)‏‏}‏

‏{‏فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ توقد بهم النار‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ يصيرون وقودًا للنار‏.‏ ‏{‏ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ يعني الأصنام، ‏{‏قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا‏}‏ فقدناهم فلا نراهم ‏{‏بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا‏}‏ قيل‏:‏ أنكروا‏.‏ وقيل‏:‏ معناه بل لم نكن ندعوا من قبل شيئًا ينفع ويضر‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ أي‏:‏ لم نكن نصنع من قبل شيئًا، أي‏:‏ ضاعت عبادتنا لها، كما يقول من ضاع عمله‏:‏ ما كنت أعمل شيئًا‏.‏ قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ كما أضل هؤلاء، ‏{‏يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏ذَلِكُم‏}‏ العذاب الذي نزل بكم، ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ‏}‏ تبطرون وتأشرون، ‏{‏فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ‏}‏ تفرحون وتختالون‏.‏

‏{‏ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ‏}‏ بنصرك، ‏{‏حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ‏}‏ من العذاب في حياتك، ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ‏}‏ قبل أن يحل ذلك بهم، ‏{‏فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ‏}‏ خبرهم في القرآن، ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ بأمر الله وإرادته، ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ‏}‏ قضاؤه بين الأنبياء والأمم، ‏{‏قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا‏}‏ بعضها، ‏{‏وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ‏}‏ في

أصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها ‏{‏وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ‏}‏ تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد ولتبلغوا عليها حاجاتكم، ‏{‏وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ على الإبل في البر وعلى السفن في البحر‏.‏ نظيره‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏"‏وحملناهم في البر والبحر‏"‏ ‏[‏الإسراء - 70‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏81 - 85‏]‏

‏{‏وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ ‏(‏81‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏82‏)‏ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏83‏)‏ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ‏(‏84‏)‏ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ‏(‏85‏)‏‏}‏

‏{‏وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ‏}‏ دلائل قدرته، ‏{‏فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ‏}‏ يعني‏:‏ مصانعهم وقصورهم، ‏{‏فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ‏}‏ لم ينفعهم، ‏{‏مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ وقيل‏:‏ هو بمعنى الاستفهام، ومجازه‏:‏ أي شيء أغنى عنهم كسبهم‏؟‏

‏{‏فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا‏}‏ رضوا ‏{‏بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ هو قولهم نحن أعلم، لن نبعث ولن نعذب، سمي ذلك علمًا على ما يدعونه ويزعمونه وهو في الحقيقة جهل‏.‏ ‏{‏وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ‏}‏ يعني‏:‏ تبرأنا مما كنا نعدل بالله‏.‏

‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا‏}‏ عذابنا، ‏{‏سُنَّةَ اللَّهِ‏}‏ قيل‏:‏ نصبها بنزع الخافض، أي‏:‏ كسنة الله‏.‏ وقيل‏:‏ على المصدر‏.‏ وقيل‏:‏ على الإغراء أي‏:‏ احذروا سنة الله ‏{‏الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ‏}‏ وتلك السنة أنهم إذا عاينوا عذاب الله آمنوا، ولا ينفعهم إيمانهم عند معاينة العذاب‏.‏ ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏ بذهاب الدارين، قال الزجاج‏:‏ الكافر خاسر في كل وقت، ولكنهم يتبين لهم خسرانهم إذا رأوا العذاب‏.‏

سورة فصلت

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 5‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏2‏)‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ ‏(‏4‏)‏ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏حم تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ قال الأخفش‏:‏ ‏"‏تنزيل‏"‏ مبتدأ، وخبره قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ‏}‏‏.‏ ‏{‏كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ‏}‏ بينت آياته، ‏{‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ اللسان العربي، ولو كان بغير لسانهم ما علموه ونصب قرآنًا بوقوع البيان عليه أي‏:‏ فصلناه قرآنًا‏.‏

‏{‏بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ نعتان للقرآن أي‏:‏ بشيرًا لأولياء الله، ونذيرًا لأعدائه، ‏{‏فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ‏}‏ لا يصغون إليه تكبرًا‏.‏

‏{‏وَقَالُوا‏}‏ يعني مشركي مكة، ‏{‏قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ‏}‏ في أغطية، ‏{‏مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ‏}‏ فلا نفقه ما تقول، ‏{‏وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ‏}‏ صمم فلا نسمع ما تقول، والمعنى‏:‏ إنا في ترك القبول عندك بمنزلة من لا يفهم ولا يسمع، ‏{‏وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ خلاف في الدين وحاجز في الملة فلا نوافقك على ما تقول، ‏{‏فَاعْمَلْ‏}‏ أنت على دينك، ‏{‏إِنَّنَا عَامِلُونَ‏}‏ على ديننا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 8‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ‏(‏7‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ‏}‏ يعني كواحد منكم ولولا الوحي ما دعوتكم، وهو قوله‏:‏ ‏{‏يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ قال الحسن‏:‏ علمه الله التواضع، ‏{‏فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ‏}‏ توجهوا إليه بالطاعة ولا تميلوا عن سبيله، ‏{‏وَاسْتَغْفِرُوهُ‏}‏ من ذنوبكم، ‏{‏وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الذين لا يقولون لا إله إلا الله وهي زكاة الأنفس، والمعنى‏:‏ لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد‏.‏ وقال الحسن وقتادة‏:‏ لا يقرون بالزكاة، ولا يرون إيتاءها واجبًا، وكان يقال‏:‏ الزكاة قنطرة الإسلام فمن قطعها نجا ومن تخلف عنها هلك‏.‏ وقال الضحاك ومقاتل‏:‏ لا ينفقون في الطاعة ولا يتصدقون‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا يزكون أعمالهم ‏{‏وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ غير مقطوع‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ غير منقوص، ومنه ‏"‏المنون‏"‏ لأنه ينقص مُنَّة الإنسان وقوته، وقيل‏:‏ غير ممنون عليهم به‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ غير محسوب‏.‏

وقال السدي‏:‏ نزلت هذه الآية في المرضى والزمنى والهرمى، إذا عجزوا عن الطاعة يكتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون فيه‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أخبرنا إسماعيل بن محمد الصفار، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر عن عاصم بن أبي النجود عن خيثمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة، ثم مرض قيل للملك الموكل به‏:‏ اكتب له مثل عمله إذا كان طليقًا حتى أطلقه أو أكفته إليّ‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 11‏]‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏9‏)‏ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ‏(‏10‏)‏ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ يوم الأحد والاثنين، ‏{‏وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا‏}‏ أي في الأرض، ‏{‏رَوَاسِيَ‏}‏ جبالا ثوابت، ‏{‏مِنْ فَوْقِهَا‏}‏ من فوق الأرض، ‏{‏وَبَارَكَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في الأرض، بما خلق فيها من البحار والأنهار والأشجار والثمار، ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا‏}‏ قال الحسن ومقاتل‏:‏ قسم في الأرض أرزاق العباد والبهائم‏.‏ وقال عكرمة والضحاك‏:‏ قدر في كل بلدة ما لم يجعله في الأخرى ليعيش بعضهم من بعض بالتجارة من بلد إلى بلد‏.‏ قال الكلبي‏:‏ قدر الخبز لأهل قطر، والتمر لأهل قطر، والذرة لأهل قطر، والسمك لأهل قطر، وكذلك أقواتها‏.‏ ‏{‏فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ‏}‏ يريد خلق ما في الأرض، وقدر الأقوات في يومين يوم الثلاثاء والأربعاء فهما مع الأحد والاثنين أربعة أيام، رد الآخر على الأول في الذكر، كما تقول‏:‏ تزوجت أمس امرأة واليوم ثنتين، وإحداهما هي التي تزوجتها بالأمس، ‏{‏سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ‏}‏ قرأ أبو جعفر ‏"‏سواء‏"‏ رفع على الابتداء، أي‏:‏ هي سواء ‏[‏وقرأ يعقوب بالجر على نعت قوله‏:‏ ‏"‏في أربعة أيام‏"‏، وقرأ الآخرون ‏"‏سواء‏"‏‏]‏ نصب على المصدر، أي‏:‏ استوت سواء أي‏:‏ استواء، ومعناه‏:‏ سواء للسائلين عن ذلك‏.‏ قال قتادة والسدي‏:‏ من سأل عنه فهكذا الأمر سواء لا زيادة ولا نقصان جوابًا لمن سأل‏:‏ في كم خلقت الأرض والأقوات‏؟‏

‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏}‏ أي‏:‏ عمد إلى خلق السماء، ‏{‏وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏ وكان ذلك الدخان بخار الماء، ‏{‏فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا‏}‏ أي‏:‏ ائتيا ما آمركما أي‏:‏ افعلاه، كما يقال‏:‏ ائت ما هو الأحسن، أي‏:‏ افعله‏.‏

وقال طاووس عن ابن عباس‏:‏ ائتيا‏:‏ أعطيا، يعني أخرجا ما خلقت فيكما من المنافع لمصالح العباد‏.‏

‏[‏قال ابن عباس‏]‏‏:‏ قال الله عز وجل‏:‏ أما أنت يا سماء فأطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وأنت يا أرض فشقي أنهارك وأخرجي ثمارك ونباتك، وقال لهما‏:‏ افعلا ما آمركما طوعًا وإلا ألجأتكما إلى ذلك ‏[‏حتى تفعلاه كرها‏]‏ فأجابتا بالطوع، و ‏{‏قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏ولم يقل طائعتين‏]‏، لأنه ذهب به إلى السموات والأرض ومن فيهن، مجازه‏:‏ أتينا بما فينا طائعين، فلما وصفهما بالقول أجراهما في الجمع مجرى من يعقل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 14‏]‏

‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ‏(‏12‏)‏ فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ‏(‏13‏)‏ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ أتمهن وفرغ من خلقهن، ‏{‏وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا‏}‏ قال عطاء عن ابن عباس‏:‏ خلق في كل سماء خلقها من الملائكة وما فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلمه إلا الله‏.‏

وقال قتادة والسدي‏:‏ يعني خلق فيها شمسها وقمرها ونجومها‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ وأوحى إلى كل سماء ما أراد من الأمر والنهي، وذلك يوم الخميس والجمعة‏.‏

‏{‏وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ‏}‏ كواكب، ‏{‏وَحِفْظًا‏}‏ لها ونصب ‏"‏حفظًا‏"‏ على المصدر، أي‏:‏ حفظناها بالكواكب حفظًا من الشياطين الذين يسترقون السمع، ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكر من صنعه، ‏{‏تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ‏}‏ في ملكه، ‏{‏الْعَلِيمِ‏}‏ بحفظه‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا‏}‏ يعني‏:‏ هؤلاء المشركين عن الإيمان بعد هذا البيان، ‏{‏فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ‏}‏ خوفتكم، ‏{‏صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ أي‏:‏ هلاكًا مثل هلاكهم، والصاعقة المهلكة من كل شيء‏.‏

‏{‏إِذْ جَاءَتْهُمُ‏}‏ يعني‏:‏ عادا وثمودا، ‏{‏الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ أراد بقوله‏:‏ ‏{‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم من قبلهم، ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ ومن بعد الرسل الذين أرسلوا إلى آبائهم الذين أرسلوا إليهم، هود وصالح، فالكناية في قوله ‏"‏من بين أيديهم‏"‏ راجعة إلى ‏[‏عاد وثمود‏]‏ وفي قوله‏:‏ ‏[‏‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ راجعة إلى الرسل‏]‏ ‏{‏أَنْ لا‏}‏ بأن لا ‏{‏تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ‏}‏ بدل هؤلاء الرسل، ‏{‏مَلائِكَةً‏}‏ أي‏:‏ لو شاء ربنا دعوة ‏[‏الخلق‏]‏ لأنزل ملائكة، ‏{‏فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، حدثنا عبد الله بن حامد الأصفهاني، حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى العبيدي، أخبرنا أحمد بن مجدة بن العريان، حدثنا الحماني، حدثنا ابن فضيل، عن الأجلح، عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال الملأ من قريش وأبو جهل‏:‏ قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالمًا بالشعر والكهانة والسحر، فأتاه فكلمه، ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة‏:‏ والله لقد سمعت الشعر والكهانة والسحر، وعلمت من ذلك علمًا، وما يخفى عليّ أن كان كذلك أو لا فأتاه فلما خرج إليه قال‏:‏ يا محمد أنت خير أم هاشم‏؟‏ أنت خير أم عبد المطلب‏؟‏ أنت خير أم عبد الله‏؟‏ فبم تشتم آلهتنا‏؟‏ وتضلل آباءنا‏؟‏ فإن كنت تريد الرياسة عقدنا لك ألويتنا فكنت رأسًا ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي بنات قريش، وإن كان بك المال جمعنا لك ما تستغني أنت وعقبك من بعدك‏؟‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم، فلما فرغ، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم‏"‏ ‏"‏حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته‏"‏، إلى قوله‏:‏ ‏"‏ فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود‏"‏، الآية‏.‏ فأمسك عتبة على فيه وناشده بالرحم ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش فاحتبس عنهم فقال أبو جهل‏:‏ يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى دين محمد، وقد أعجبه طعامه وما ذاك إلا من حاجة أصابته، فانطلقوا بنا إليه، فانطلقوا إليه، فقال أبو جهل‏:‏ والله يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى دين محمد وأعجبك طعامه، قال‏:‏ فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمدًا أبدا، وقال‏:‏ والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه القصة فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله‏:‏ ‏"‏فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود‏"‏ الآية فأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدًا إذا قال شيئًا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ حدثت أن عتبة بن ربيعة كان سيدًا حليمًا، قال يومًا وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده في المسجد‏:‏ يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد وأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل منا بعضها، فنعطيه ويكف عنا، وذلك حين أسلم حمزة ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا‏:‏ بلى يا أبا الوليد فقم إليه فكلمه، فقام عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من البسطة في العشيرة والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت جماعتهم، وسفهت أحلامهم، وعبت آلهتهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ قل يا أبا الوليد، فقال‏:‏ يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد شرفًا سودناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئيًا تراه لا تستطيع رده طلبنا لك الطب، ولعل هذا شعر جاش به صدرك، فإنكم لعمري بني عبد المطلب يقدرون على ذلك على ما لا يقدر عليه غيركم، حتى إذا فرغ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أو قد فرغت يا أبا الوليد‏؟‏ قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فاستمع مني، قال‏:‏ أفعل، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنًا عربيًا‏"‏، ثم مضى فيها يقرأ، فلما سمعها عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يستمع منه، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة فسجد، ثم قال‏:‏ قد سمعت يا أبا الوليد فأنت وذاك، فقام عتبة إلى أصحابه فقال بعضهم لبعض‏:‏ نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا‏:‏ ما وراءك يا أبا الوليد‏؟‏ فقال‏:‏ ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت بمثله قط، ما هو بالشعر ولا السحر ولا الكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني، خلوا ما بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم وعزه عزكم، فأنتم أسعد الناس به، فقالوا‏:‏ سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال‏:‏ هذا رأيي لكم، فاصنعوا ما بدا لكم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏15‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً‏}‏ وذلك أن هودًا عليه السلام هددهم بالعذاب، فقالوا‏:‏ من أشد منا قوة‏؟‏ نحن نقدر على دفع العذاب عنا بفضل قوتنا، وكانوا ذوي أجسام طوال، قال الله تعالى ردًا عليهم‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 19‏]‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ ‏(‏16‏)‏ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ‏(‏17‏)‏ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ‏(‏18‏)‏ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ‏(‏19‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا‏}‏ عاصفة شديدة الصوت، من الصرة وهي الصيحة‏.‏ وقيل‏:‏ هي الباردة من الصر وهو البرد، ‏{‏فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ‏}‏ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب ‏"‏نحسات‏"‏ بسكون الحاء، وقرأ الآخرون بكسرها أي‏:‏ نكدات مشؤومات ذات نحوس‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين، ودامت الرياح عليهم من غير مطر، ‏{‏لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ‏}‏ أي‏:‏ عذاب الهون والذل، ‏{‏فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى‏}‏ أشد إهانة ‏{‏وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ‏}‏ دعوناهم، قاله مجاهد، وقال ابن عباس‏:‏ بينا لهم سبيل الهدى‏.‏ وقيل‏:‏ دللناهم على الخير والشر، كقوله‏:‏ ‏"‏هديناه السبيل‏"‏ ‏[‏الإنسان - 3‏]‏، ‏{‏فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ فاختاروا الكفر على الإيمان، ‏{‏فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ هلكة العذاب‏]‏، ‏{‏الْهُونِ‏}‏ أي‏:‏ ذي الهون، أي‏:‏ الهوان، وهو الذي يهينهم ويخزيهم، ‏{‏بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ‏}‏ قرأ نافع ويعقوب‏:‏ ‏"‏نحشر‏"‏ بالنون، ‏"‏أعداء‏"‏ نصب، وقرأ الآخرون بالياء ورفعها وفتح الشين ‏"‏أعداء‏"‏ رفع أي‏:‏ يجمع إلى النار، ‏{‏فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ يساقون ويدفعون إلى النار، وقال قتادة والسدي‏:‏ يحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20 -22‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏20‏)‏ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ‏(‏21‏)‏ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا‏}‏ جاؤوا النار، ‏{‏شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بشراتهم، ‏{‏بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ قال السدي وجماعة‏:‏ المراد بالجلود الفروج‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ تنطق جوارحهم بما كتمت الألسن من عملهم‏.‏

‏{‏وَقَالُوا‏}‏ يعني الكفار الذين يحشرون إلى النار، ‏{‏لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ‏}‏ تم الكلام هاهنا‏.‏ وقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ وليس هذا من جواب الجلود، ‏{‏وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ تستخفون ‏[‏عند أكثر أهل العلم‏]‏‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تتقون‏.‏ وقال قتادة‏:‏ تظنون‏.‏ ‏{‏أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا الحميدي، أخبرنا سفيان، أخبرنا منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله بن مسعود قال‏:‏ اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي، أو قرشيان وثقفي كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فقال أحدهم‏:‏ أترون أن الله يسمع ما نقول‏؟‏ قال الآخر‏:‏ يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا، وقال الآخر‏:‏ إن كان يسمع إذا جهرنا فإنه يسمع إذا أخفينا، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون‏"‏‏.‏ قيل‏:‏ الثقفي، عبد ياليل، وختناه القرشيان‏:‏ ربيعة، وصفوان بن أمية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23 - 27‏]‏

‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ‏(‏24‏)‏ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ ‏(‏25‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ‏(‏26‏)‏ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ‏}‏ أهلككم، أي‏:‏ ظنكم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون، أرداكم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ طرحكم في النار، ‏{‏فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏ ثم أخبر عن حالهم فقال‏:‏ ‏{‏فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ‏}‏ مسكن لهم، ‏{‏وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا‏}‏ يسترضوا ويطلبوا العتبى، ‏{‏فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ‏}‏ المرضين، والمعتب الذي قبل عتابه وأجيب إلى ما سأل، يقال‏:‏ أعتبني فلان، أي‏:‏ أرضاني بعد إسخاطه إياي، واستعتبته‏:‏ طلبت منه أن يعتب، أي‏:‏ يرضى‏.‏

‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ بعثنا ووكلنا، وقال مقاتل‏:‏ هيأنا‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ سببنا لهم‏.‏ ‏{‏قرناء‏}‏ نظراء من الشياطين حتى أضلوهم، ‏{‏فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من أمر الدنيا حتى آثروه على الآخرة، ‏{‏وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ من أمر الآخرة فدعوهم إلى التكذيب به وإنكار البعث، ‏{‏وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ‏}‏ ‏[‏مع أمم‏]‏‏.‏ ‏{‏قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ من مشركي قريش، ‏{‏لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني الغطوا فيه، وكان بعضهم يوصي إلى بعض إذا رأيتم محمدًا يقرأ فعارضوه بالرجز والشعر واللغو‏.‏ قال مجاهد‏:‏ والغوا فيه بالمكاء والصفير‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ أكثروا الكلام فيختلط عليه ما يقول‏.‏ وقال السدي‏:‏ صيحوا في وجهه‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ محمدًا على قراءته‏.‏

‏{‏فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي‏}‏ يعني بأسوأ الذي، أي‏:‏ بأقبح الذي، ‏{‏كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا وهو الشرك بالله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏28 - 30‏]‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏28‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ ‏(‏29‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكرت من العذاب الشديد، ‏{‏جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ‏}‏ ثم بين ذلك الجزاء فقال‏:‏ ‏{‏النَّارُ‏}‏ أي‏:‏ هو النار، ‏{‏لَهُمْ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في النار، ‏{‏دَارُ الْخُلْدِ‏}‏ دار الإقامة لا انتقال منها، ‏{‏جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي‏:‏ في النار يقولون‏.‏ ‏{‏رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ‏}‏ يعنون إبليس وقابيل بن آدم الذي قتل أخاه لأنهما سنا المعصية، ‏{‏نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا‏}‏ في النار، ‏{‏لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ‏}‏ ليكونا في الدرك الأسفل من النار‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ ليكونا أشد عذابًا منا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا‏}‏ سئل أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه عن الاستقامة فقال‏:‏ أن لا تشرك بالله شيئًا‏.‏ وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏الاستقامة‏"‏ أن تستقيم على الأمر والنهي، ولا تروغ روغان الثعلب‏.‏ وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه‏:‏ أخلصوا العمل لله‏.‏ وقال علي رضي الله عنه‏:‏ أدوا الفرائض‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ استقاموا على أداء الفرائض‏.‏

وقال الحسن‏:‏ استقاموا على أمر الله تعالى، فعملوا بطاعته، واجتنبوا معصيته‏.‏

وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ استقاموا على شهادة أن لا إله إلا الله حتى لحقوا بالله‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ استقاموا على المعرفة ولم يرتدوا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان الحسن إذا تلا هذه الآية قال‏:‏ اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تَتَنزلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ عند الموت‏.‏ وقال قتادة ومقاتل‏:‏ إذا قاموا من قبورهم‏.‏ قال وكيع بن الجراح‏:‏ البشرى تكون في ثلاث مواطن‏:‏ عند الموت وفي القبر وعند البعث‏.‏ ‏{‏أَلا تَخَافُوا‏}‏ من الموت‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا تخافوا على ما تقدمون عليه من أمر الآخرة‏.‏ ‏{‏وَلا تَحْزَنُوا‏}‏ على ما خلفتم من أهل وولد، فإنا نخلفكم في ذلك كله‏.‏ وقال عطاء بن أبي رباح‏:‏ لا تخافوا ولا تحزنوا على ذنوبكم فإني أغفرها لكم، ‏{‏وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 33‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ ‏(‏31‏)‏ نزلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ‏(‏32‏)‏ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ‏}‏ تقول لهم الملائكة الذين تنزل عليهم بالبشارة‏:‏ نحن أولياؤكم أنصاركم وأحباؤكم، ‏{‏فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ في الدنيا والآخرة‏.‏ وقال السدي‏:‏ تقول الملائكة نحن الحفظة الذين كنا معكم في الدنيا، ونحن أولياؤكم في الآخرة‏]‏ يقولون لا نفارقكم حتى تدخلوا الجنة‏.‏ ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ‏}‏ من الكرامات واللذات، ‏{‏وَلَكُمْ فِيهَا‏}‏ في الجنة، ‏{‏مَا تَدْعُونَ‏}‏ تتمنون‏.‏ ‏{‏نزلا‏}‏ رزقًا، ‏{‏مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ‏}‏ إلى طاعته، ‏{‏وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ قال ابن سيرين ‏[‏والسدي وابن عباس‏]‏‏:‏ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى شهادة أن لا إله إلا الله‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو المؤمن الذي أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه، وعمل صالحًا في إجابته، وقال‏:‏ إنني من المسلمين‏.‏

وقالت عائشة‏:‏ أرى هذه الآية نزلت في المؤذنين‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ هو المؤذن أبو إمامة الباهلي، ‏"‏وعمل صالحًا‏"‏‏:‏ صلى ركعتين بين الأذان والإقامة‏.‏

وقال قيس بن أبي حازم‏:‏ هو الصلاة بين الأذان والإقامة‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن أيوب الطوسي، حدثنا أبو يحيى بن أبي ميسرة، حدثنا عبد الله بن زيد المقري، حدثنا كهمس بن الحسن عن عبد الله بن بريدة عن عبد الله بن مغفل قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بين كل أذانين صلاة‏"‏، ثلاث مرات، ثم قال في الثالثة‏:‏ ‏"‏لمن شاء‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا محمد بن يوسف، حدثنا سفيان عن زيد العمي عن أبي إياس معاوية بن قرة عن أنس بن مالك قال سفيان‏:‏ لا أعلمه إلا وقد رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ‏(‏34‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ‏}‏ قال الفراء‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ هاهنا صلة، معناه‏:‏ ولا تستوي الحسنة والسيئة، يعني الصبر والغضب، والحلم والجهل، والعفو والإساءة‏.‏ ‏{‏ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أمر بالصبر عند الغضب، وبالحلم عند الجهل، وبالعفو عند الإساءة‏.‏ ‏{‏فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ‏}‏ يعني‏:‏ إذا فعلت ذلك خضع لك عدوك، وصار الذي بينك وبينه عداوة، ‏{‏كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ‏}‏ كالصديق والقريب‏.‏ قال مقاتل بن حيان‏:‏ نزلت في أبي سفيان بن حرب، وذلك أنه لان للمسلمين بعد شدة عداوته بالمصاهرة التي حصلت بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم فصار وليًا بالإسلام، حميمًا بالقرابة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35 - 40‏]‏

‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ‏(‏35‏)‏ وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ‏(‏36‏)‏ وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ‏(‏37‏)‏ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا‏}‏ ما يلقى هذه الخصلة وهي دفع السيئة بالحسنة، ‏{‏إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا‏}‏ على كظم الغيظ واحتمال المكروه، ‏{‏وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ‏}‏ في الخير والثواب، وقال قتادة‏:‏ ‏"‏الحظ العظيم‏"‏‏:‏ الجنة، أي‏:‏ ما يلقاها إلا من وجبت له الجنة‏.‏

‏{‏وَإِمَّا يَنزغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نزغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ‏}‏ لاستعاذتك وأقوالك، ‏{‏الْعَلِيمُ‏}‏ بأفعالك وأحوالك‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ‏}‏ إنما قال‏:‏ ‏"‏خلقهن‏"‏ بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير، ولم يجرها على طريق التغليب للمذكر على المؤنث، ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا‏}‏ عن السجود، ‏{‏فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ‏}‏ يعني الملائكة ‏{‏يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ‏}‏ لا يملون ولا يفترون‏.‏

‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ‏}‏ دلائل قدرته، ‏{‏أَنَّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً‏}‏ يابسة غبراء لا نبات فيها، ‏{‏فَإِذَا أَنزلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا‏}‏ يميلون عن الحق في أدلتنا، قال مجاهد‏:‏ يلحدون في آياتنا بالمكاء والتصدية واللغو واللغط‏.‏ قال قتادة‏:‏ يكذبون في آياتنا‏.‏ قال السدي‏:‏ يعاندون ويشاقون‏.‏

قال مقاتل‏:‏ نزلت في أبي جهل‏.‏

‏{‏لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ‏}‏ وهو أبو جهل، ‏{‏خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ قيل‏:‏ هو حمزة، وقيل‏:‏ عثمان‏.‏ وقيل‏:‏ عمار بن ياسر‏.‏ ‏{‏اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ‏}‏ أمر تهديد ووعيد، ‏{‏إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ عالم فيجازيكم به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41 - 44‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ‏(‏41‏)‏ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ‏(‏42‏)‏ مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏43‏)‏ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ‏}‏ بالقرآن، ‏{‏لَمَّا جَاءَهُمْ‏}‏ ثم أخذ في وصف الذكر وترك جواب‏:‏ ‏"‏إن الذين كفروا‏"‏، على تقدير‏:‏ الذين كفروا بالذكر يجازون بكفرهم‏.‏ وقيل‏:‏ خبره قوله من بعد‏:‏ ‏"‏أولئك ينادون من مكان بعيد‏"‏‏.‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ‏}‏ قال الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ كريم على الله‏.‏ قال قتادة‏:‏ أعزه الله عز وجل عزًا فلا يجد الباطل إليه سبيلا‏.‏

وهو قوله‏:‏ ‏{‏لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ‏}‏ قال قتادة والسدي‏:‏ الباطل‏:‏ هو الشيطان، لا يستطيع أن يغيره أو يزيد فيه أو ينقص منه‏.‏

قال الزجاج‏:‏ معناه أنه محفوظ من أن ينقص منه، فيأتيه الباطل من بين يديه أو يزاد فيه فيأتيه الباطل من خلفه، وعلى هذا معنى ‏"‏الباطل‏"‏‏:‏ الزيادة والنقصان‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ لا يأتيه التكذيب من الكتب التي قبله، ولا يجيء من بعده كتاب فيبطله‏.‏ ‏{‏تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏ ثم عزى نبيه صلى الله عليه وسلم على تكذيبهم‏.‏

فقال‏:‏ ‏{‏مَا يُقَالُ لَكَ‏}‏ من الأذى، ‏{‏إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ‏}‏ يقول‏:‏ إنه قد قيل للأنبياء والرسل قبلك‏:‏ ساحر، كما يقال لك وكذبوا كما كذبت، ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ‏}‏ لمن تاب وآمن بك ‏{‏وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ لمن أصر على التكذيب‏.‏

‏{‏وَلَوْ جَعَلْنَاهُ‏}‏ أي‏:‏ جعلنا هذا الكتاب الذي تقرؤه على الناس، ‏{‏قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا‏}‏ بغير لغة العرب، ‏{‏لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ‏}‏ هلا بينت آياته بالعربية حتى نفهمها، ‏{‏أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ‏}‏ يعني‏:‏ أكتاب أعجمي ورسول عربي‏؟‏ وهذا استفهام على وجه الإنكار، أي‏:‏ أنهم كانوا يقولون‏:‏ المنزل عليه عربي والمنزل أعجمي‏.‏

قال مقاتل‏:‏ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على يسار، غلام عامر بن الحضرمي، وكان يهوديًا أعجميًا، يكنى أبا فكيهة، فقال المشركون‏:‏ إنما يعلمه يسار فضربه سيده، وقال‏:‏ إنك تعلم محمدًا، فقال يسار‏:‏ هو يعلمني، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏:‏

‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد، ‏{‏هُوَ‏}‏ يعني القرآن، ‏{‏لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ‏}‏ هدى من الضلالة وشفاء لما في القلوب، وقيل‏:‏ شفاء من الأوجاع‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى‏}‏ قال قتادة‏:‏ عموا عن القرآن وصموا عنه فلا ينتفعون به، ‏{‏أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعي من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم، وهذا مثل لقلة انتفاعهم بما يوعظون به كأنهم ينادون من حيث لا يسمعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45 - 47‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏45‏)‏ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ ‏(‏46‏)‏ إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ‏}‏ فمصدق ومكذب كما اختلف قومك في كتابك، ‏{‏وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ في تأخير العذاب عن المكذبين بالقرآن، ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ لفرغ من عذابهم وعجل إهلاكهم، ‏{‏وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ‏}‏ من صدقك، ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ موقع لهم الريبة‏.‏

‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ‏}‏‏.‏

‏{‏إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ‏}‏ أي‏:‏ علمها إذا سئل عنها مردود إليه لا يعلمه غيره، ‏{‏وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام وحفص‏:‏ ‏"‏ثمرات‏"‏، على الجمع، وقرأ الآخرون

‏"‏ثمرة‏"‏ على التوحيد، ‏{‏مِنْ أَكْمَامِهَا‏}‏ أوعيتها، واحدها‏:‏ كم‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يعني الكفرى قبل أن تنشق‏.‏ ‏{‏وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ‏}‏ ‏[‏إلا بإذنه‏]‏، يقول‏:‏ يرد إليه علم الساعة كما يرد إليه علم الثمار والنتاج‏.‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ‏}‏ ينادي الله المشركين، ‏{‏أَيْنَ شُرَكَائِيَ‏}‏ الذين كنتم تزعمون أنها آلهة، ‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني المشركين، ‏{‏آذَنَّاكَ‏}‏ أعلمناك، ‏{‏مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ‏}‏ أي‏:‏ من شاهد بأن لك شريكًا لما عاينوا العذاب تبرأوا من الأصنام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏48 - 50‏]‏

‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ‏(‏48‏)‏ لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ‏(‏49‏)‏ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ‏}‏ يعبدون، ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏ في الدنيا ‏{‏وَظَنُّوا‏}‏ أيقنوا، ‏{‏مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ‏}‏ مهرب‏.‏

‏{‏لا يَسْأَمُ الإنْسَانُ‏}‏ لا يمل الكافر، ‏{‏مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ‏}‏ أي‏:‏ لا يزال يسأل ربه الخير، يعني المال والغنى والصحة، ‏{‏وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ‏}‏ الشدة والفقر، ‏{‏فَيَئُوسٌ‏}‏ من روح الله، ‏{‏قَنُوطٌ‏}‏ من رحمته‏.‏

‏{‏وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا‏}‏ آتيناه خيرًا وعافية وغنى، ‏{‏مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ‏}‏ من بعد شدة وبلاء أصابته، ‏{‏لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي‏}‏ أي‏:‏ بعملي وأنا محقوق بهذا، ‏{‏وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى‏}‏ يقول هذا الكافر‏:‏ لست على يقين من البعث، فإن كان الأمر على ذلك، ورددت إلى ربي إن لي عنده للحسنى، أي‏:‏ الجنة، أي‏:‏ كما أعطاني في الدنيا سيعطيني في الآخرة‏.‏ ‏{‏فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ لنقفنهم على مساوىء أعمالهم، ‏{‏وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏51 - 54‏]‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ ‏(‏51‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏53‏)‏ أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ‏}‏ كثير والعرب تستعمل الطول والعرض في الكثرة، فيقال‏:‏ أطال فلان الكلام والدعاء وأعرض، أي‏:‏ أكثر‏.‏ ‏{‏قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ‏}‏ هذا القرآن، ‏{‏مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ‏}‏ خلاف للحق بعيد عنه، أي‏:‏ فلا أحد أضل منكم‏.‏

‏{‏سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يعني منازل الأمم الخالية‏.‏ ‏{‏وَفِي أَنْفُسِهِمْ‏}‏ بالبلاء والأمراض‏.‏

وقال قتادة‏:‏ في الآفاق يعني‏:‏ وقائع الله في الأمم، وفي أنفسهم يوم بدر‏.‏

وقال مجاهد، والحسن، والسدي‏:‏ ‏"‏في الآفاق‏"‏‏:‏ ما يفتح من القرى على محمد صلى الله عليه وسلم والمسلمين، ‏"‏وفي أنفسهم‏"‏‏:‏ فتح مكة‏.‏ ‏{‏حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ‏}‏ يعني‏:‏ دين الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ القرآن يتبين لهم أنه من عند الله‏.‏ وقيل‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، يتبين لهم أنه مؤيد من قبل الله تعالى‏.‏

وقال عطاء وابن زيد‏:‏ ‏"‏في الآفاق‏"‏ يعني‏:‏ أقطار السماء والأرض من الشمس والقمر والنجوم والنبات والأشجار والأنهار، ‏"‏وفي أنفسهم‏"‏ من لطيف الصنعة وبديع الحكمة، حتى يتبين لهم أنه الحق‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ أو لم يكف بربك شاهدًا أن القرآن من الله تعالى‏.‏ قال الزجاج‏:‏ معنى الكفاية هاهنا‏:‏ أن الله عز وجل قد بين من الدلائل ما فيه كفاية، يعني‏:‏ أو لم يكف بربك لأنه على كل شيء شهيد، شاهد لا يغيب عنه شيء‏.‏

‏{‏أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ‏}‏ في شك من البعث، ‏{‏أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ‏}‏ أحاط بكل شيء علمًا‏.‏

سورة الشورى

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏حم ‏(‏1‏)‏ عسق ‏(‏2‏)‏ كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏حم عسق‏}‏ سئل الحسين بن الفضل‏:‏ لم يقطع حم عسق ولم يقطع كهيعص‏؟‏ فقال‏:‏ لأنها سورة أوائلها حم، فجرت مجرى نظائرها، فكان ‏"‏حم‏"‏ مبتدأ و‏"‏عسق‏"‏ خبره، ولأنهما عُدَّا آيتين، وأخواتها مثل‏:‏ ‏"‏كهيعص‏"‏ و‏"‏المص‏"‏ و‏"‏المر‏"‏ عدت آية واحدة‏.‏

وقيل‏:‏ لأن أهل التأويل لم يختلفوا في ‏"‏كهيعص‏"‏ وأخواتها أنها حروف التهجي لا غير، واختلفوا في ‏"‏حم‏"‏ فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلها فعلا وقال‏:‏ معناها حُمَّ أي‏:‏ قضى ما هو كائن‏.‏

وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ ح حلمه، م مجده، ع علمه، س سناؤه، ق قدرته، أقسم الله بها‏.‏

وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبي رباح‏:‏ ح حرب يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز من قريش، م ملك يتحول من قوم إلى قوم، ع عدو لقريش يقصدهم، س سيء، يكون فيهم، ق قدرة الله النافذة في خلقه‏.‏

وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ ليس من نبي صاحب كتاب إلا وقد أوحيت إليه ‏"‏حم عسق‏"‏‏.‏ فلذلك قال‏:‏

‏{‏كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ‏}‏‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ‏}‏ قرأ ابن كثير ‏"‏يوحى‏"‏ بفتح الحاء وحجته قوله‏:‏ ‏"‏ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك‏"‏ ‏[‏الزمر - 65‏]‏، فعلى هذه القراءة قوله، ‏{‏اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏تبيين للفاعل كأنه قيل‏:‏ من يوحي‏؟‏ فقيل‏:‏ الله العزيز الحكيم‏]‏‏.‏

وقرأ الآخرون ‏"‏يوحي‏"‏ بكسر الحاء، إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم‏.‏

قال عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يريد أخبار الغيب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 7‏]‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ‏(‏4‏)‏ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ‏(‏5‏)‏ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ‏(‏6‏)‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ‏}‏ أي‏:‏ كل واحدة منها تتفطر فوق التي تليها من قول المشركين‏:‏ ‏"‏اتخذ الله ولدا‏"‏ نظيره في سورة مريم‏:‏ ‏"‏وقالوا اتخذ الرحمن ولدًا لقد جئتم شيئًا إدا تكاد السموات يتفطرن منه‏"‏ ‏[‏مريم 88 - 90‏]‏‏.‏ ‏{‏وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأرْضِ‏}‏ من المؤمنين، ‏{‏أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ يحفظ أعمالهم ويحصيها عليهم ليجازيهم بها، ‏{‏وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ‏}‏ لم يوكلك الله بهم حتى تؤخذ بهم‏.‏

‏{‏وَكَذَلِكَ‏}‏ مثل ما ذكرنا، ‏{‏أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى‏}‏ مكة، يعني‏:‏ أهلها، ‏{‏وَمَنْ حَوْلَهَا‏}‏ يعني قرى الأرض كلها، ‏{‏وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ‏}‏ أي‏:‏ تنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين وأهل السموات وأهل الأرضين ‏{‏لا رَيْبَ فِيهِ‏}‏ لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد الجمع يتفرقون‏.‏ ‏{‏فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، حدثنا أبو منصور الخشماذي، حدثنا أبو العباس الأصم، حدثنا أبو عثمان سعيد بن عثمان التنوخي، حدثنا بشر بن بكر، حدثني سعيد بن عثمان عن أبي الزاهر، حدثنا جرير بن كريب عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال الثعلبي‏:‏ وأخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا ليث، حدثني أبو قبيل المعافري عن شفي الأصبحي عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قابضًا على كفيه ومعه كتابان، فقال‏:‏ ‏"‏أتدرون ما هذان الكتابان‏؟‏ ‏"‏ قلنا‏:‏ لا يا رسول الله، فقال‏:‏ ‏"‏للذي في يده اليمنى‏:‏ هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفًا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفًا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون فليس بزائد فيهم ولا ناقص منهم، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة، ‏[‏ثم قال للذي في يساره‏:‏ هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وعشائرهم وعدتهم قبل أن يستقروا نطفًا في الأصلاب، وقبل أن يستقروا نطفًا في الأرحام إذ هم في الطينة منجدلون، فليس بزائد فيهم ولا بناقص منهم، إجمال من الله عليهم إلى يوم القيامة‏]‏، فقال عبد الله بن عمرو‏:‏ ففيم العمل إذًا يا رسول الله‏؟‏ فقال‏:‏ ‏"‏اعملوا وسددوا وقاربوا، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل، ثم قال‏:‏ ‏"‏فريق في الجنة‏"‏ فضل من الله، ‏"‏وفريق في السعير‏"‏، عدل من الله عز وجل‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏8‏]‏

‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ على دين واحد‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ على ملة الإسلام كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولو شاء الله لجمعهم على الهدى‏"‏ ‏[‏الأنعام - 35‏]‏، ‏{‏وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ‏}‏ في دين الإسلام، ‏{‏وَالظَّالِمُونَ‏}‏ الكافرون، ‏{‏مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ‏}‏ يدفع عنهم العذاب، ‏{‏وَلا نَصِيرٍ‏}‏ يمنعهم من النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 13‏]‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ‏(‏10‏)‏ فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ‏(‏11‏)‏ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏12‏)‏ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏أَمِ اتَّخَذُوا‏}‏ ‏[‏بل اتخذوا، أي‏:‏ الكافرون‏]‏، ‏{‏مِنْ دُونِهِ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ من دون الله‏]‏، ‏{‏أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ‏}‏ ‏[‏قال ابن عباس رضي الله عنهما‏]‏‏:‏ وليك يا محمد وولي من اتبعك، ‏{‏وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ من أمر الدين، ‏{‏فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ‏}‏ يقضي فيه ويحكم يوم القيامة بالفصل الذي يزيل الريب، ‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ‏}‏ الذي يحكم بين المختلفين هو، ‏{‏رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ‏}‏‏.‏

‏{‏فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا‏}‏ من مثل خلقكم حلائل، قيل‏:‏ إنما قال ‏"‏من أنفسكم‏"‏ لأنه خلق حواء من ضلع آدم‏.‏ ‏{‏وَمِنَ الأنْعَامِ أَزْوَاجًا‏}‏ أصنافًا ذكورًا وإناثًا، ‏{‏يَذْرَؤُكُمْ‏}‏ يخلقكم، ‏{‏فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ في الرحم‏.‏ وقيل‏:‏ في البطن‏.‏ وقيل‏:‏ على هذا الوجه من الخلقة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ نسلا بعد نسل من الناس والأنعام‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏في‏"‏، بمعنى الباء، أي‏:‏ يذرؤكم به‏.‏ وقيل‏:‏ معناه يكثركم بالتزويج‏.‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏}‏‏"‏مثل‏"‏ صلة، أي‏:‏ ليس هو كشيء، فأدخل المثل للتوكيد، كقوله‏:‏ ‏"‏فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به‏"‏ ‏[‏ البقرة - 137‏]‏، وقيل‏:‏ الكاف صلة، مجازه‏:‏ ليس مثله شيء‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ليس له نظير‏.‏ ‏{‏وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏‏.‏

‏{‏لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ‏}‏ مفاتيح الرزق في السموات والأرض‏.‏ قال الكلبي‏:‏ المطر والنبات‏.‏ ‏{‏يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ‏}‏ لأن مفاتيح الرزق بيده، ‏{‏إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ‏}‏ بَيَّن وسن لكم، ‏{‏مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا‏}‏ وهو أول أنبياء الشريعة‏.‏ قال مجاهد‏:‏ أوصيناك وإياه يا محمد دينًا واحدًا‏.‏ ‏{‏وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ‏}‏ من القرآن وشرائع الإسلام، ‏{‏وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى‏}‏ واختلفوا في وجه الآية‏:‏ فقال قتادة‏:‏ تحليل الحلال وتحريم الحرام‏.‏ وقال الحكم‏:‏ تحريم الأمهات والبنات والأخوات‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ لم يبعث الله نبيًا إلا وصاه بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والإقرار لله بالطاعة له، فذلك دينه الذي شرع لهم‏.‏

وقيل‏:‏ هو التوحيد والبراءة من الشرك‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما ذكر من بعد، وهو قوله‏:‏ ‏{‏أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ‏}‏ بعث الله الأنبياء كلهم بإقامة الدين والألفة والجماعة وترك الفرقة والمخالفة‏.‏

‏{‏كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ‏}‏ من التوحيد ورفض الأوثان ثم قال‏:‏ ‏{‏اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ يصطفي إليه من عباده من يشاء، ‏{‏وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ‏}‏ يقبل إلى طاعته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14 - 15‏]‏

‏{‏وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ‏(‏14‏)‏ فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا تَفَرَّقُوا‏}‏ يعني أهل الأديان المختلفة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يعني أهل الكتاب كما ذكر في سورة المنفكين‏.‏ ‏{‏إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ‏}‏ بأن الفرقة ضلالة ولكنهم فعلوا ذلك، ‏{‏بَغْيًا بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ للبغي، قال عطاء‏:‏ يعني بغيًا بينهم على محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ‏}‏ في تأخير العذاب عنهم، ‏{‏إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ وهو يوم القيامة، ‏{‏لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ‏}‏ بين من آمن وكفر، يعني أنزل العذاب بالمكذبين في الدنيا، ‏{‏وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ‏}‏ يعني اليهود والنصارى، ‏{‏مِنْ بَعْدِهِمْ‏}‏ من بعد أنبيائهم، وقيل‏:‏ من بعد الأمم الخالية‏.‏ وقال قتادة‏:‏ معناه من قبلهم أي‏:‏ من قبل مشركي مكة‏.‏ ‏{‏لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ‏}‏ أي‏:‏ من محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

‏{‏فَلِذَلِكَ فَادْعُ‏}‏ أي‏:‏ فإلى ذلك كما يقال دعوت إلى فلان ولفلان، وذلك إشارة إلى ما وصى به الأنبياء من التوحيد، ‏{‏وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ‏}‏ اثبت على الدين الذي أمرت به، ‏{‏وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ‏}‏ أي‏:‏ آمنت بكتب الله كلها، ‏{‏وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ‏}‏ ‏[‏أن أعدل بينكم‏]‏، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أمرت أن لا أحيف عليكم بأكثر مما افترض الله عليكم من الأحكام‏.‏ وقيل‏:‏ لأعدل بينكم في جميع الأحوال والأشياء، ‏{‏اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ‏}‏ يعني‏:‏ إلهنا واحد، وإن اختلفت أعمالنا، فكل يجازى بعمله، ‏{‏لا حُجَّةَ‏}‏ لا خصومة، ‏{‏بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ‏}‏ نسختها آية القتال، فإذا لم يؤمر بالقتال وأمر بالدعوة لم يكن بينه وبين من لا يجيب خصومة، ‏{‏اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا‏}‏ في المعاد لفصل القضاء، ‏{‏وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 18‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ‏(‏16‏)‏ اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ‏(‏17‏)‏ يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ‏}‏ يخاصمون في دين الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هم اليهود قالوا‏:‏ كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن خير منكم، فهذه خصومتهم‏.‏ ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ استجاب له‏]‏ الناس فأسلموا ودخلوا في دينه لظهور معجزته، ‏{‏حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ‏}‏ خصومتهم باطلة، ‏{‏عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ في الآخرة‏.‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي أَنزلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ‏}‏ قال قتادة، ومجاهد، ومقاتل‏:‏ سمي العدل ميزانًا لأن الميزان آلة الإنصاف والتسوية‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ أمر الله تعالى بالوفاء، ونهى عن البخس ‏{‏وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ‏}‏ ولم يقل قريبة لأن تأنيثها غير حقيقي، ومجازه‏:‏ الوقت‏.‏ وقال الكسائي‏:‏ إتيانها قريب‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الساعة وعنده قوم من المشركين، قالوا تكذيبًا‏:‏ متى تكون الساعة‏؟‏ فأنزل الله هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا‏}‏ ظنًا منهم أنها غير آتية، ‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ‏}‏ أي‏:‏ خائفون، ‏{‏مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ‏}‏ أنها آتية لا ريب فيها، ‏{‏أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ‏}‏ يخاصمون، وقيل‏:‏ تدخلهم المرية والشك، ‏{‏فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 20‏]‏

‏{‏اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ‏(‏19‏)‏ مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ ‏(‏20‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ حفي بهم‏.‏ قال عكرمة‏:‏ بار بهم‏.‏ قال السدي‏:‏ رفيق‏.‏ قال مقاتل‏:‏ لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعًا بمعاصيهم، يدل عليه‏:‏ قوله ‏"‏يرزق من يشاء‏"‏ ‏[‏البقرة - 212‏]‏، وكل من رزقه الله من مؤمن وكافر وذي روح فهو ممن يشاء الله أن يرزقه‏.‏ قال جعفر الصادق‏:‏ اللطف في الرزق من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه جعل رزقك من الطيبات، والثاني‏:‏ أنه لم يدفعه إليك بمرة واحدة‏.‏ ‏{‏وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ‏}‏‏.‏ ‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ‏}‏ الحرث في اللغة‏:‏ الكسب، يعني‏:‏ من كان يريد بعمله الآخرة، ‏{‏نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ‏}‏ بالتضعيف بالواحد عشرة إلى ما شاء الله من الزيادة، ‏{‏وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا‏}‏ يريد بعمله الدنيا، ‏{‏نُؤْتِهِ مِنْهَا‏}‏ قال قتادة‏:‏ أي‏:‏ نؤته بقدر ما قسم الله له، كما قال‏:‏ ‏"‏عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ‏[‏الإسراء - 18‏]‏‏.‏ ‏{‏وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ‏}‏ لأنه لم يعمل للآخرة‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا أبو حامد أحمد بن محمد بن يحيى بن بلال، حدثنا أبو الأزهر أحمد بن منيع العبدي، حدثنا محمد بن يوسف الفريابي، حدثنا سفيان عن المغيرة عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏بشرت هذه الأمة بالسنا والرفعة والنصر والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب‏"‏‏.‏