فصل: تفسير الآيات رقم (26 - 28)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏26 - 28‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ‏(‏26‏)‏ وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ‏(‏27‏)‏ فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ‏}‏ يعني فيما لم نمكنكم فيه من قوة الأبدان وطول العمر وكثرة المال‏.‏

قال المبرد‏:‏ ‏"‏ما‏"‏ في قوله ‏"‏فيما‏"‏ بمنزلة الذي، و‏"‏إن‏"‏ بمنزلة ما، وتقديره‏:‏ ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ‏}‏ يا أهل مكة، ‏{‏مِنَ الْقُرَى‏}‏ كحجر ثمود وأرض سدوم ونحوهما، ‏{‏وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ‏}‏ الحجج والبينات، ‏{‏لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ‏}‏ عن كفرهم فلم يرجعوا، فأهلكناهم، يخوف مشركي مكة‏.‏

‏{‏فَلَوْلا‏}‏ فهلا ‏{‏نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً‏}‏ يعني الأوثان، اتخذوها آلهة يتقربون بها إلى الله عز وجل، ‏"‏القربان‏"‏‏:‏ كل ما يتقرب به إلى الله عز وجل، وجمعه‏:‏ ‏"‏قرابين‏"‏، كالرهبان والرهابين‏.‏

‏{‏بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ بل ضلت الآلهة عنهم فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم، ‏{‏وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ‏}‏ أي كذبهم الذي كانوا يقولون إنها تقربهم إلى الله عز وجل وتشفع لهم، ‏{‏وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏ يكذبون أنها آلهة‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ‏}‏ الآية، قال المفسرون‏:‏ لما مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي قال‏:‏ لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف إلى نفر من ثقيف، وهم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة‏:‏ عبد ياليل، ومسعود، وحبيب بنو ‏[‏عمرو بن‏]‏ عمير، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه‏.‏

فقال له أحدهم‏:‏ هو يمرط ثياب الكعبة، إن كان الله أرسلك، وقال الآخر‏:‏ ما وجد الله أحدًا يرسله غيرك‏؟‏ وقال الثالث‏:‏ والله ما أكلمك كلمة أبدًا، لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرًا من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك‏.‏

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم، وقد يئس من خير ثقيف، وقال لهم‏:‏ إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عليّ ‏[‏سري‏]‏، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيزيدهم عليه ذلك، فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس، وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، وهما فيه فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه، فعمد إلى ظل حبلة من عنب، فجلس فيه، وابنا ربيعة ينظران إليه، ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف، ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي من بني جمح، فقال لها‏:‏ ماذا لقينا من أحمائك‏؟‏ فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني‏؟‏ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري‏؟‏، إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل عليّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك‏"‏‏.‏

فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلامًا لهما نصرانيًا يقال له‏:‏ عداس، فقالا له‏:‏ خذ قطفًا من العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل ذلك عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال‏:‏ بسم الله، ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه ثم قال‏:‏ والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من أي البلاد أنت يا عداس‏؟‏ وما دينك‏؟‏ قال‏:‏ أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى‏؟‏ قال له‏:‏ وما يدريك ما يونس بن متى‏؟‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ذاك أخي كان نبيًا وأنا نبي فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه وقدميه‏.‏

قال‏:‏ فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه‏:‏ أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهم عداس قالا له‏:‏ ويلك يا عداس مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه‏؟‏ قال‏:‏ يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، فقالا ويحك يا عداس لا يصرفك عن دينك فإن دينك خير من دينه‏.‏

ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا، فقص الله خبرهم عليه، فقال‏:‏ ‏"‏وإذ صرفنا إليك نفرًا من الجن ‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا مسدد، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال‏:‏ انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، فأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا‏:‏ ما لكم‏؟‏ قالوا‏:‏ حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا‏:‏ ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا‏:‏ هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا‏:‏ يا قومنا ‏"‏إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدًا‏"‏ ‏[‏الجن - 2‏]‏، فأنزل الله على نبيه‏:‏ ‏"‏قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن‏"‏، ‏[‏الجن - 1‏]‏ وإنما أوحى إليه قول الجن‏.‏

وروي‏:‏ أنهم لما رجعوا بالشهب بعث إبليس سراياه لتعرف الخبر، وكان أول بعثٍ بعثَ ركبًا من أهل نصيبين، وهم أشراف الجن وساداتهم، فبعثهم إلى تهامة‏.‏

وقال أبو حمزة ‏[‏الثمالي‏]‏‏:‏ بلغنا أنهم من الشيصبان وهم أكثر الجن عددًا، وهم عامة جنود إبليس، فلما رجعوا قالوا‏:‏ ‏"‏إنا سمعنا قرآنًا عجبًا‏"‏‏.‏

وقال جماعة‏:‏ بل أُمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف إليه نفرًا من الجن من أهل نينوى، وجمعهم له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة، فأيكم يتبعني‏؟‏ فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا، فاتَّبَعَهُ عبد الله بن مسعود، قال عبد الله‏:‏ ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا على مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعبًا يقال له‏:‏ شعب الحجون، وخط لي خطًا ثم أمرني أن أجلس فيه، وقال‏:‏ لا تخرج منه حتى أعود إليك، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي، وسمعت لغطًا شديدًا حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه، حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر، فانطلق إليَّ وقال‏:‏ أنمت‏؟‏ فقلت‏:‏ لا والله يا رسول الله، وقد هممت مرارًا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك، تقول‏:‏ اجلسوا، قال‏:‏ لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم، ثم قال‏:‏ هل رأيت شيئًا‏؟‏ قلت نعم يا رسول الله رأيت رجالا سودًا مستثفري ثياب بيض، قال‏:‏ أولئك جن نصيبين سألوني المتاع - والمتاع الزاد - فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة‏.‏

قال‏:‏ فقالوا‏:‏ يا رسول الله تقذرها الناس، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بالعظم والروث‏.‏

قال‏:‏ فقلت‏:‏ يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم‏؟‏ قال‏:‏ إنهم لا يجدون عظمًا إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت، قال فقلت‏:‏ يا رسول الله سمعت لغطًا شديدًا‏؟‏ فقال‏:‏ إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إليَّ فقضيت بينهم بالحق، قال‏:‏ ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاني، فقال‏:‏ هل معك ماء‏؟‏ قلت‏:‏ يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر، فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ وقال‏:‏ ‏"‏تمرة طيبة وماء طهور‏"‏‏.‏

قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخًا شمطًا من الزُّطِّ فأفزعوه حين رآهم، فقال‏:‏ اظهروا، فقيل له‏:‏ إن هؤلاء قوم من الزط، فقال‏:‏ ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد الجن‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغفار بن محمد، حدثنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا داود وهو ابن أبي هند، عن عامر قال‏:‏ سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن‏؟‏ قال فقال علقمة‏:‏ أنا سألت ابن مسعود فقلت‏:‏ هل شهد أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا‏:‏ استطير أو اغتيل، قال‏:‏ فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء، قال فقلنا‏:‏ يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال‏:‏ أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن‏.‏

قال‏:‏ فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم‏.‏

قال وسألوه الزاد، فقال‏:‏ لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن‏"‏‏.‏

ورواه مسلم عن عليّ بن حجر، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن داود بهذا الإسناد إلى قوله‏:‏ ‏"‏وآثار نيرانهم‏"‏‏.‏

قال الشعبي‏:‏ وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلا من حديث عبد الله‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ‏}‏ اختلفوا في عدد ذلك النفر، فقال ابن عباس‏:‏ كانوا سبعة من جن نصيبين، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم‏.‏ وقال آخرون‏:‏ كانوا تسعة‏.‏ وروى عاصم عن زر بن حبيش‏:‏ كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن‏.‏ ‏{‏فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا‏}‏ قالوا‏:‏ صه‏.‏

وروي في الحديث‏:‏ ‏"‏أن الجن ثلاثة أصناف‏:‏ صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء، وصنف حيات وكلاب، وصنف يحلون ويظعنون‏"‏‏.‏

فلما حضروه قال بعضهم لبعض‏:‏ أنصتوا واسكتوا لنستمع إلى قراءته، فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء، فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم‏.‏

‏{‏فَلَمَّا قُضِى‏}‏ فرغ من تلاوته، ‏{‏وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ‏}‏ انصرفوا إليهم، ‏{‏مُنْذِرِينَ‏}‏ مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30 - 31‏]‏

‏{‏قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏30‏)‏ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ قال عطاء‏:‏ كان دينهم اليهودية، لذلك قالوا‏:‏ إنا سمعنا كتابًا أنزل من بعد موسى‏.‏

‏{‏يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ‏}‏ يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ‏}‏‏"‏من‏"‏ صلة، أي ذنوبكم، ‏{‏وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ فاستجاب لهم من قومهم نحو من سبعين رجلا من الجن، فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوافقوه في البطحاء، فقرأ عليهم القرآن وأمرهم ونهاهم، وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثًا إلى الجن والإنس جميعًا‏.‏

قال مقاتل‏:‏ لم يبعث قبله نبي إلى الإنس والجن جميعًا‏.‏

واختلف العلماء في حكم مؤمني الجن فقال قوم‏:‏ ليس لهم ثواب إلا نجاتهم من النار، وتأولوا قوله‏:‏ ‏"‏يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم‏"‏، وإليه ذهب أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه‏.‏

وحكى سفيان عن ليث قال‏:‏ الجن ثوابهم أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم‏:‏ كونوا ترابًا، وهذا مثل البهائم‏.‏

وعن أبي الزناد قال‏:‏ إذا قضي بين الناس قيل لمؤمني الجن‏:‏ عودوا ترابًا، فيعودون ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر‏:‏ ‏"‏يا ليتني كنت ترابًا‏"‏ ‏[‏النبأ - 40‏]‏‏.‏

وقال الآخرون‏:‏ يكون لهم الثواب في الإحسان كما يكون عليهم العقاب في الإساءة كالإنس، وإليه ذهب مالك وابن أبي ليلى‏.‏

وقال جرير عن الضحاك‏:‏ الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون‏.‏

وذكر النقاش في ‏"‏تفسيره‏"‏ حديث أنهم يدخلون الجنة‏.‏ فقيل‏:‏ هل يصيبون من نعيمها‏؟‏ قال‏:‏ يلهمهم الله تسبيحه وذكره، فيصيبون من لذته ما يصيبه بنو آدم من نعيم الجنة‏.‏ وقال أرطاة بن المنذر‏:‏ سألت ضمرة بن حبيب‏:‏ هل للجن ثواب‏؟‏ قال‏:‏ نعم، وقرأ‏:‏ ‏"‏لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان‏"‏ ‏[‏الرحمن - 74‏]‏، قال‏:‏ فالإنسيات للإنس والجنيات للجن‏.‏

وقال عمر بن عبد العزيز‏:‏ إن مؤمني الجن حول الجنة، في ربض ورحاب، وليسوا فيها‏.‏

‏{‏وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ‏(‏32‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ‏}‏ لا يعجز الله فيفوته، ‏{‏وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ‏}‏ أنصار يمنعونه من الله، ‏{‏أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33 - 35‏]‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ‏(‏34‏)‏ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ‏}‏ لم يعجز عن إبداعهن، ‏{‏بِقَادِرٍ‏}‏ هكذا قراءة العامة، واختلفوا في وجه دخول الباء فيه، فقال أبو عبيدة والأخفش‏:‏ الباء زائدة للتأكيد، كقوله‏:‏ ‏"‏تنبت بالدهن‏"‏‏.‏

وقال الكسائي، والفراء‏:‏ العرب تدخل الباء في الاستفهام مع الجحد، فتقول‏:‏ ما أظنك بقائم‏.‏

وقرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏يقدر‏"‏ بالياء على الفعل، واختار أبو عبيدة قراءة العامة لأنها في قراءة عبد الله قادر بغير باء‏.‏ ‏{‏عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ‏}‏ فيقال لهم، ‏{‏أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ‏}‏ أي فيقال لهم‏:‏ ‏{‏فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ ذوو الحزم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ ذوو الجد والصبر‏.‏

واختلفوا فيهم، فقال ابن زيد‏:‏ كل الرسل كانوا أولي عزم، لم يبعث الله نبيًا إلا كان ذا عزم وحزم، ورأي وكمال عقل، وإنما أدخلت ‏"‏من‏"‏ للتجنيس لا للتبعيض، كما يقال‏:‏ اشتريت أكسية من الخز وأردية من البز‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ الأنبياء كلهم أولو عزم إلا يونس بن متى، لعجلة كانت منه، ألا ترى أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ولا تكن كصاحب الحوت‏"‏‏؟‏‏.‏

وقال قوم‏:‏ هم نجباء الرسل المذكورون في سورة الأنعام، وهم ثمانية عشر، لقوله تعالى بعد ذكرهم‏:‏ ‏"‏أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده‏"‏ ‏[‏الأنعام - 90‏]‏‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ هم الذين أمروا بالجهاد وأظهروا المكاشفة مع أعداء الدين‏.‏

وقيل‏:‏ هم ستة‏:‏ نوح، وهود، وصالح، ولوط، وشعيب، وموسى، عليهم السلام، وهم المذكورون على النسق في سورة الأعراف والشعراء‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ هم ستة‏:‏ نوح، صبر على أذى قومه، وإبراهيم، صبر على النار، وإسحاق صبر على الذبح، ويعقوب، صبر على فقد ولده وذهاب بصره، ويوسف، صبر على البئر والسجن، وأيوب، صبر على الضر‏.‏

وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ هم نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، أصحاب الشرائع، فهم مع محمد صلى الله عليه وسلم خمسة‏.‏

قلت‏:‏ ذكرهم الله على التخصيص في قوله‏:‏ ‏"‏وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم‏"‏ ‏[‏الأحزاب - 7‏]‏، وفي قوله تعالى‏:‏ ‏"‏شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا‏"‏ ‏[‏الشورى - 13‏]‏‏.‏

أخبرنا أبو طاهر المطهر بن علي بن عبيد الله الفارسي، حدثنا أبو ذر محمد بن إبراهيم سبط الصالحاني، أخبرنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان المعروف بأبي الشيخ الحافظ، أخبرنا عبدالرحمن بن أبي حاتم، أخبرنا محمد بن الحجاج، أخبرنا السري بن حيان، أخبرنا عباد بن عباد، حدثنا مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن مسروق قال‏:‏ قالت عائشة قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يا عائشة إن الدنيا لا تنبغي لمحمد ولا لآل محمد، يا عائشة إن الله لم يرض من أولي العزم إلا بالصبر على مكروهها، والصبر على مجهودها، ولم يرض إلا أن كلفني ما كلفهم، وقال‏:‏ ‏"‏فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل‏"‏ وإني والله لا بد لي من طاعته، والله لأصبرن كما صبروا، وأجهدن كما جهدوا، ولا قوة إلا بالله‏"‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ‏}‏ أي ولا تستعجل العذاب لهم، فإنه نازل بهم لا محالة، كأنه ضجر بعض الضجر فأحب أن ينزل العذاب بمن أبى منهم، فأمر بالصبر وترك الاستعجال‏.‏

ثم أخبر عن قرب العذاب فقال‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ‏}‏ من العذاب في الآخرة، ‏{‏لَمْ يَلْبَثُوا‏}‏ ‏[‏في الدنيا‏]‏ ‏{‏إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ‏}‏ أي إذا عاينوا العذاب صار طول لبثهم في الدنيا والبرزخ كأنه ساعة من نهار، لأن ما مضى وإن كان طويلا كأن لم يكن‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏بَلاغٌ‏}‏ أي هذا القرآن وما فيه من البيان بلاغ من الله إليكم، والبلاغ بمعنى التبليغ، ‏{‏فَهَلْ يُهْلَكُ‏}‏ بالعذاب إذا نزل ‏{‏إِلا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ‏}‏ الخارجون من أمر الله‏.‏

قال الزجاج‏:‏ تأويله‏:‏ لا يهلك مع رحمة الله وفضله إلا القوم الفاسقون، ولهذا قال قوم‏:‏ ما في الرجاء لرحمة الله آية أقوى من هذه الآية‏.‏

سورة محمد

مدنية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏1‏)‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ‏(‏2‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ أبطلها فلم يقبلها ‏[‏وأراد بالأعمال ما فعلوا من إطعام الطعام وصلة الأرحام‏]‏ قال الضحاك‏:‏ أبطل كيدهم ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل الدائرة عليهم‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نزلَ عَلَى مُحَمَّدٍ‏}‏ قال سفيان الثوري‏:‏ يعني لم يخالفوه في شيء ‏{‏وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ‏"‏الذين كفروا وصدوا‏"‏‏:‏ مشركو مكة، ‏"‏والذين آمنوا وعملوا الصالحات‏"‏‏:‏ الأنصار‏.‏ ‏{‏كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ‏}‏ حالهم، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ عصمهم أيام حياتهم، يعني أن هذا الإصلاح يعود إلى إصلاح أعمالهم حتى لا يعصوا‏.‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ‏}‏ الشيطان، ‏{‏وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ‏}‏ أشكالهم، قال الزجاج‏:‏ كذلك يبين الله أمثال حسنات المؤمنين، وإضلال أعمال الكافرين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏4‏]‏

‏{‏فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ‏}‏ نصب على الإغراء، أي فاضربوا رقابهم يعني أعناقهم‏.‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ‏}‏ بالغتم في القتل وقهرتموهم، ‏{‏فَشُدُّوا الْوَثَاقَ‏}‏ يعني في الأسر حتى لا يفلتوا منكم، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل، كما قال‏:‏ ‏"‏ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض‏"‏ ‏[‏الأنفال - 67‏]‏، ‏{‏فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً‏}‏ يعني‏:‏ بعد أن تأسروهم فإما أن تمنوا عليهم مَنًّا بإطلاقهم من غير عوض، وإما أن تفادوهم فداء‏.‏

واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال قوم‏:‏ هي منسوخة بقوله‏:‏ ‏"‏فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم‏"‏ ‏[‏الأنفال - 57‏]‏، وبقوله‏:‏ ‏"‏اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم‏"‏ ‏[‏التوبة - 5‏]‏‏.‏ وإلى هذا القول ذهب قتادة والضحاك والسدي وابن جريج، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي، قالوا‏:‏ لا يجوز المن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء‏.‏

وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم، فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال، أو بأسارى المسلمين، وإليه ذهب ابن عمر، وبه قال الحسن، وعطاء، وأكثر الصحابة والعلماء، وهو قول الثوري، والشافعي، وأحمد وإسحاق‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل في الأسارى‏:‏ ‏"‏فإما منا بعد وإما فداء‏"‏‏.‏

وهذا هو الأصح والاختيار، لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده‏:‏

أخبرنا عبدالواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، حدثنا محمد بن يوسف، ‏[‏حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبدالله بن يوسف‏]‏ حدثنا الليث، حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال‏:‏ بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له‏:‏ ثمامة بن أثال، فربطوه بسارية ‏[‏من سواري‏]‏‏.‏ المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ما عندك يا ثمامة‏؟‏ فقال‏:‏ عندي خير يا محمد إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، حتى كان الغد، فقال له‏:‏ ما عندك يا ثمامة‏؟‏ فقال‏:‏ عندي ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر، ‏[‏وإن تقتل تقتل ذا دم، وإن كنت تريد المال سل تعط‏]‏ فتركه حتى كان بعد الغد، فقال له‏:‏ ما عندك يا ثمامة‏؟‏ فقال‏:‏ عندي ما قلت لك، فقال‏:‏ ‏"‏أطلقوا ثمامة‏"‏، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل، ثم دخل المسجد، فقال‏:‏ أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إليّ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إليّ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى‏؟‏ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل‏:‏ أصبوت‏؟‏ فقال‏:‏ لا ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

أخبرنا عبدالوهاب بن محمد الخطيب، أخبرنا عبدالعزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبدالوهاب بن عبدالمجيد الثقفي، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن حصين قال‏:‏ أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عقيل فأوثقوه، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا‏}‏ أي أثقالها وأحمالها، يعني حتى تضع أهل الحرب السلاح، فيمسكوا عن الحرب‏.‏

وأصل ‏"‏الوزر‏"‏‏:‏ ما يحتمل الإنسان، فسمى الأسلحة أوزارًا لأنها تحمل‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏الحرب‏"‏ هم المحاربون، كالشرب والركب‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏الأوزار‏"‏ الآثام، ومعناه حتى يضع المحاربون آثامها، بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله‏.‏

وقيل‏:‏ حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا، ومعنى الآية‏:‏ أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام، ويكون الدين كله لله فلا يكون بعده جهاد ولا قتال، وذلك عند نزول عيسى بن مريم عليهما السلام، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال‏"‏‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ حتى يسلموا أو يسالموا‏.‏

وقال الفراء‏:‏ حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم‏.‏

‏{‏ذَلِك‏}‏ الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار، ‏{‏وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ‏}‏ فأهلكهم وكفاكم أمرهم بغير قتال، ‏{‏وَلَكِن‏}‏ أمركم بالقتال، ‏{‏لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ‏}‏ فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ومن قتل من الكافرين إلى العذاب، ‏{‏وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ قرأ أهل البصرة وحفص‏:‏ ‏"‏قتلوا‏"‏ بضم القاف وكسر التاء خفيف، يعني الشهداء، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏قاتلوا‏"‏ بالألف من المقاتلة، وهم المجاهدون، ‏{‏فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ قال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 6‏]‏

‏{‏سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ‏(‏5‏)‏ وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَهْدِيهِم‏}‏ أيام حياتهم في الدنيا إلى أرشد الأمور، وفي الآخرة إلى الدرجات، ‏{‏وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ‏}‏ يرضي خصماءهم ويقبل أعمالهم‏.‏

‏{‏وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ‏}‏ أي بَيَّن لهم منازلهم في الجنة حتى يهتدوا إلى مساكنهم لا يخطؤون ولا يستدلون عليها أحدًا كأنهم سكانها منذ خلقوا، فيكون المؤمن أهدى إلى درجته، وزوجته وخدمه منه إلى منزله وأهله في الدنيا، هذا قول أكثر المفسرين‏.‏

وروى عطاء عن ابن عباس‏:‏ ‏"‏عرفها لهم‏"‏ أي طيبها لهم، من العَرْف، وهو الريح الطيبة، وطعام معرف أي‏:‏ مطيَّب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 12‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ‏(‏7‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏8‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏9‏)‏ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ‏(‏10‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ ‏(‏11‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ‏}‏ أي دينه ورسوله، ‏{‏يَنْصُرْكُمْ‏}‏ على عدوكم، ‏{‏وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ‏}‏ عند القتال‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بُعْدًا لهم‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ سقوطًا لهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ خيبة لهم‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ شقًاء لهم‏.‏ قال الفراء‏:‏ هو نصب على المصدر، على سبيل الدعاء‏.‏ وقيل‏:‏ في الدنيا العثرة، وفي الآخرة التردي في النار‏.‏ ويقال للعاثر‏:‏ تعسًا إذا لم يريدوا قيامه، وضده لعًا إذا أرادوا قيامه، ‏{‏وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ لأنها كانت في طاعة الشيطان‏.‏

‏{‏ذَلِكَ‏}‏ التعس والإضلال، ‏{‏بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏‏.‏

ثم خوف الكفار فقال‏:‏ ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي أهلكهم، ‏{‏وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا‏}‏ إن لم يؤمنوا، يتوعد مشركي مكة‏.‏

‏{‏ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكرت، ‏{‏بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ وليهم وناصرهم، ‏{‏وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ‏}‏1 لا ناصر لهم‏.‏ ثم ذكر مآل الفريقين فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ‏}‏ في الدنيا، ‏{‏وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنْعَامُ‏}‏ ليس لهم همة إلا بطونهم وفروجهم، وهم لاهون ساهون عما في غد، قيل‏:‏ المؤمن في الدنيا يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع، ‏{‏وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 15‏]‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ ‏(‏13‏)‏ أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏14‏)‏ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ‏}‏ أي أخرجك أهلها، قال ابن عباس‏:‏ كم رجال هم أشد من أهل مكة‏؟‏ يدل عليه قوله‏:‏ ‏{‏أَهْلَكْنَاهُمْ‏}‏ ولم يقل‏:‏ أهلكناها، ‏{‏فَلا نَاصِرَ لَهُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الغار التفت إلى مكة وقال‏:‏ ‏"‏أنت أحبُّ بلاد الله إلى الله وأحبُّ بلاد الله إليّ ولو أن المشركين لم يخرجوني لم أخرج منك‏"‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏

‏{‏أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ‏}‏ يقين من دينه، محمد والمؤمنون، ‏{‏كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ يعني عبادة الأوثان، وهم أبو جهل والمشركون‏.‏

‏{‏مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ‏}‏ أي صفتها، ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ‏}‏ آجن متغير منتن، قرأ ابن كثير ‏"‏آسن‏"‏ بالقصر، والآخرون بالمد، وهما لغتان يقال‏:‏ أسن الماء يأسن أسنًا، وأجن يأجن، أسونًا وأجونًا، إذا تَغَّير، ‏{‏وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ‏}‏ ‏[‏لذيذة‏]‏، ‏{‏لِلشَّارِبِينَ‏}‏ لم تدنسها الأرجل ولم تدنسها الأيدي، ‏{‏وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى‏}‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبدالقاهر، أخبرنا عبدالغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، أخبرنا أبو أسامة وعبدالله بن نمير وعلي بن مسهر، عن عبيدالله بن عمر، عن خبيب بن عبدالرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سيحان وجيحان والنيل والفرات كل من أنهار الجنة‏"‏‏.‏

قال كعب الأحبار‏:‏ نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار الأربعة تخرج من نهر الكوثر‏.‏

‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ‏}‏ أي من كان في هذا النعيم كمن هو خالد في النار، ‏{‏وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا‏}‏ شديد الحر تسعر عليهم جهنم منذ خلقت إذا أدني منهم شوى وجوههم ووقعت فروة رؤوسهم فإذا شربوه، ‏{‏فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ‏}‏ فخرجت من أدبارهم، والأمعاء جميع ما في البطن من الحوايا واحدها معي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 18‏]‏

‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ ‏(‏16‏)‏ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ‏(‏17‏)‏ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنْهُم‏}‏ يعني من هؤلاء الكفار، ‏{‏مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ‏}‏ وهم المنافقون، يستمعون قولك فلا يعونه ولا يفهمونه، تهاونًا به وتغافلا ‏{‏حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ‏}‏ يعني فإذا خرجوا من عندك، ‏{‏قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ‏}‏ من الصحابة‏:‏ ‏{‏مَاذَا قَالَ‏}‏ محمد، ‏{‏آنِفًا‏}‏‏؟‏ يعني الآن، هو من الائتناف ويقال‏:‏ ائتنفت الأمر أي ابتدأته وأنف الشيء أوله‏.‏

قال مقاتل‏:‏ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبدالله بن مسعود استهزاء‏:‏ ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏

قال ابن عباس‏:‏ وقد سئلت فيمن سئل‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ‏}‏ فلم يؤمنوا، ‏{‏وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ‏}‏ في الكفر والنفاق‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا‏}‏ يعني المؤمنين، ‏{‏زَادَهُم‏}‏ ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ‏{‏هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ‏}‏ وفقهم للعمل بما أمرهم به، وهو التقوى، قال سعيد بن جبير‏:‏ وآتاهم ثواب تقواهم‏.‏ ‏{‏فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً‏}‏

أخبرنا أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد الداودي، أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن موسى بن الصلت، حدثنا أبو إسحاق الهاشمي، حدثنا الحسين بن الحسن، حدثنا ابن المبارك، أخبرنا معمر بن راشد، عمن سمع المقبري يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غنى مطغيًا، أو فقرًا منسيًا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مُفَنِّدًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فالدجال شر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا‏}‏ أي أماراتها وعلاماتها، واحدها‏:‏ شرط، وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة‏.‏

أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا أحمد بن المقدام، حدثنا فضل بن سليمان، حدثنا أبو حازم، حدثنا سهل بن سعد قال‏:‏ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا، بالوسطى والتي تلي الإبهام‏:‏ ‏"‏بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين‏"‏‏.‏

أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا حفص بن عمر الحوضي، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أنس قال‏:‏ لأحدثنكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحدثنكم به أحد غيري، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد‏"‏‏.‏

أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبدالله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن سنان، حدثنا فليح، حدثني هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ بينما النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس يحدث القوم إذ جاءه أعرابي فقال‏:‏ متى الساعة‏؟‏ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث، فقال بعض القوم‏:‏ سمع ما قال فكره ما قال‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ بل لم يسمع، حتى إذا قضى حديثه، قال‏:‏ ‏"‏أين السائل عن الساعة‏؟‏ ‏"‏ قال‏:‏ ها أنا يا رسول الله، قال‏:‏ ‏"‏إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة‏"‏‏.‏ قال‏:‏ كيف إضاعتها‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏إذا وُسِدَ الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ‏}‏ فمن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة‏؟‏ نظيره‏:‏ ‏"‏يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى‏"‏ ‏[‏الفجر - 23‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ‏}‏ قيل‏:‏ الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد به غيره، وقيل‏:‏ معناه فاثبت عليه‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ فازدد علمًا على علمك‏.‏ وقال أبو العالية وابن عيينة‏:‏ هو متصل بما قبله معناه‏:‏ إذا جاءتهم الساعة فاعلم أنه لا ملجأ ولا مفزع عند قيامها إلا إلى الله‏.‏ وقيل‏:‏ فاعلم أنه لا إله إلا الله، أن الممالك تبطل عند قيامها، فلا ملك ولا حكم لأحد إلا لله، ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ أمر بالاستغفار مع أنه مغفور له لتستنَّ به أمته‏.‏

أخبرنا عبدالواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، أخبرنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن أبي بردة، عن الأغر المزني قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في كل يوم مائة مرة‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ هذا إكرام من الله تعالى لهذه الأمة حيث أمر نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يستغفر لذنوبهم وهو الشفيع المجاب فيهم، ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ‏}‏ قال ابن عباس والضحاك‏:‏ ‏"‏متقلبكم‏"‏ متصرفكم ‏[‏ومنتشركم في أعمالكم في الدنيا، ‏"‏ومثواكم‏"‏ مصيركم في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار‏.‏

وقال مقاتل وابن جرير‏:‏ ‏"‏متقلبكم‏"‏ منصرفكم‏]‏ لأشغالكم بالنهار، ‏"‏ومثواكم‏"‏ مأواكم إلى مضاجعكم بالليل‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ ‏"‏متقلبكم‏"‏ من أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات‏.‏ ‏"‏ومثواكم‏"‏ مقامكم في الأرض‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ ‏"‏متقلبكم‏"‏ من ظهر إلى بطن، ‏"‏ومثواكم‏"‏ مقامكم في القبور‏.‏

والمعنى‏:‏ أنه عالم بجميع أحوالكم فلا يخفى عليه شيء منها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20 - 21‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ‏(‏20‏)‏ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ حرصًا منهم على الجهاد‏:‏ ‏{‏لَوْلا نزلَتْ سُورَةٌ‏}‏ تأمرنا بالجهاد، ‏{‏فَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ‏}‏ قال قتادة‏:‏ كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين، ‏{‏رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ يعني المنافقين، ‏{‏يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ‏}‏ شزرًا بتحديق شديد، كراهية منهم للجهاد وجبنًا عن لقاء العدو، ‏{‏نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ‏}‏ كما ينظر الشاخص بصره عند الموت، ‏{‏فَأَوْلَى لَهُمْ‏}‏ وعيد وتهديد، ومعنى قولهم في التهديد‏:‏ ‏"‏أولى لك‏"‏ أي‏:‏ وَلِيَك وقاربك ما تكره‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ‏}‏ وهذا ابتداء محذوف الخبر، تقديره‏:‏ طاعة، وقول معروف أمثل، أي لو أطاعوا وقالوا قولا معروفًا كان أمثل وأحسن‏.‏

وقيل‏:‏ مجازه‏:‏ يقول هؤلاء المنافقون قبل نزول السورة المحكمة‏:‏ طاعة، رفع على الحكاية أي أمرنا طاعة أو منا طاعة، ‏"‏وقول معروف‏"‏‏:‏ حسن‏.‏

وقيل‏:‏ هو متصل بما قبله، واللام في قوله‏:‏ ‏"‏لهم‏"‏ بمعنى الباء، مجازه‏:‏ فأولى بهم طاعة الله ورسوله، وقول معروف بالإجابة، أي لو أطاعوا كانت الطاعة والإجابة أولى بهم، وهذا معنى قول ابن عباس في رواية عطاء‏.‏

‏{‏فَإِذَا عَزَمَ الأمْرُ‏}‏ أي جد الأمر ولزم فرض القتال وصار الأمر معزومًا، ‏{‏فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ‏}‏ في إظهار الإيمان والطاعة، ‏{‏لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ‏}‏ وقيل‏:‏ جواب ‏"‏إذا‏"‏ محذوف تقديره فإذا عزم الأمر نكلوا وكذبوا فيما وعدوا ولو صدقوا الله لكان خيرًا لهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22 - 25‏]‏

‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ ‏(‏22‏)‏ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ‏(‏23‏)‏ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ‏(‏24‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏فَهَلْ عَسَيْتُمْ‏}‏ فلعلكم، ‏{‏إِنْ تَوَلَّيْتُمْ‏}‏ أعرضتم عن القرآن وفارقتم أحكامه، ‏{‏أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ‏}‏ تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية فتفسدوا في الأرض بالمعصية والبغي وسفك الدماء، وترجعوا إلى الفرقة بعد ما جمعكم الله بالإسلام‏.‏ ‏{‏وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ‏}‏ قرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏وتقطعوا‏"‏ بفتح التاء خفيف، والآخرون بالتشديد و‏"‏تقطعوا‏"‏ من التقطيع، على التكثير، لأجل الأرحام، قال قتادة‏:‏ كيف رأيتم القوم حين تولوا عن كتاب الله ألم يسفكوا الدم الحرام، وقطعوا الأرحام، وعصوا الرحمن‏؟‏ وقال بعضهم‏:‏ هو من الولاية‏.‏ وقال المسيب بن شريك والفراء‏:‏ يقول فهل عسيتم إن وليتم أمر الناس أن تفسدوا في الأرض بالظلم، نزلت في بني أمية وبني هاشم، يدل عليه قراءة علي بن أبي طالب ‏"‏توليتم‏"‏ بضم التاء والواو وكسر اللام، يقول‏:‏ إن وليتكم ولاة جائرة خرجتم معهم في الفتنة وعاونتموهم‏.‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ‏}‏ عن الحق‏.‏

‏{‏أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا‏}‏ فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه، و‏"‏أم‏"‏ بمعنى ‏"‏بل‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أنبأني عقيل بن محمد، أخبرنا المعافى بن زكريا، أخبرنا محمد بن جرير، حدثنا بشر، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها‏"‏ فقال شاب من أهل اليمن‏:‏ بل على قلوب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عمر حتى ولي فاستعان به‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ‏}‏ رجعوا كفارًا، ‏{‏مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى‏}‏ قال قتادة‏:‏ هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد ما عرفوه ووجدوا نعته في كتابهم‏.‏

وقال ابن عباس، والضحاك، والسدي‏:‏ هم المنافقون‏.‏

‏{‏الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ‏}‏ زين لهم القبيح، ‏{‏وَأَمْلَى لَهُمْ‏}‏ قرأ أهل البصرة بضم الألف وكسر اللام وفتح الياء على ما لم يسم فاعله، وقرأ مجاهد بإرسال الياء على وجه الخبر من الله عز وجل عن نفسه أنه يفعل ذلك، وتروى هذه القراءة عن يعقوب، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏وأملى لهم‏"‏ بفتح الألف، أي‏:‏ وأملى الشيطان لهم، مد لهم في الأمل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏26 - 30‏]‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ‏(‏26‏)‏ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ‏(‏27‏)‏ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏28‏)‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ ‏(‏29‏)‏ وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ‏}‏ يعني المنافقين أو اليهود، ‏{‏قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نزلَ اللَّهُ‏}‏ وهم المشركون، ‏{‏سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمْرِ‏}‏ في التعاون على عداوة محمد صلى الله عليه وسلم والقعود عن الجهاد، وكانوا يقولونه سرًا فأخبر الله تعالى عنهم، ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ‏}‏ قرأ أهل الكوفة غير أبي بكر‏:‏ بكسر الهمزة، على المصدر، والباقون بفتحها على جمع السر‏.‏

‏{‏فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ‏}‏ الضرب، ‏{‏بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بما كتموا من التوراة وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ‏}‏ كرهوا ما فيه رضوان الله، وهو الطاعة والإيمان‏.‏ ‏{‏فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ يعني المنافقين، ‏{‏أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ‏}‏ لن يظهر أحقادهم على المؤمنين فيبديها حتى يعرفوا نفاقهم، واحدها‏:‏ ‏"‏ضغن‏"‏، قال ابن عباس‏:‏ حسدهم‏.‏

‏{‏وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ‏}‏ أي لأعلمناكهم وعرفناكهم، ‏{‏فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ‏}‏ بعلامتهم، قال الزجاج‏:‏ المعنى‏:‏ لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها‏.‏

قال أنس‏:‏ ما خفي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم‏.‏

‏{‏وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ‏}‏ في معناه ومقصده‏.‏

‏"‏واللحن‏"‏‏:‏ وجهان صواب وخطأ، فالفعل من الصواب‏:‏ لَحِنَ يَلْحَنُ لَحْنًا فهو لَحِنٌ إذا فطن للشيء، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض‏"‏‏.‏

والفعل من الخطأ لَحَنَ يَلْحَنُ لَحْنًا فهو لاحِنٌ‏.‏ والأصل فيه‏:‏ إزالة الكلام عن جهته‏.‏

والمعنى‏:‏ إنك تعرفهم فيما يعرضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلى الله عليه وسلم إلا عرفه بقوله، ويستدل بفحوى كلامه على فساد دخيلته‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 32‏]‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ ‏(‏31‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ‏}‏ ولنعاملنكم معاملة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال، ‏{‏حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ علم الوجود، يريد‏:‏ حتى يتبين المجاهد والصابر على دينه من غيره، ‏{‏وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ أي نظهرها ونكشفها بإباء من يأبى القتال، ولا يصبر على الجهاد‏.‏

وقرأ أبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏"‏وليبلونكم حتى يعلم‏"‏، ويبلو بالياء فيهن، لقوله تعالى‏:‏ ‏"‏والله يعلم أعمالكم‏"‏، وقرأ الآخرون بالنون فيهن، لقوله تعالى ‏"‏ولو نشاء لأريناكهم‏"‏، وقرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏ونبلوا‏"‏ ساكنة الواو، ردًا على قوله‏:‏ ‏"‏ولنبلونكم‏"‏ وقرأ الآخرون بالفتح ردا على قوله‏:‏ ‏"‏حتى نعلم‏"‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا‏}‏ إنما يضرون أنفسهم، ‏{‏وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ فلا يرون لها ثوابًا في الآخرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ هم المطعمون يوم بدر، نظيرها قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله‏"‏ ‏[‏الأنفال - 36‏]‏ الآية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33 - 36‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ‏(‏33‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ‏(‏34‏)‏ فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ‏(‏35‏)‏ إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ‏}‏ قال عطاء‏:‏ بالشك والنفاق، وقال الكلبي‏:‏ بالرياء والسمعة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ بالمعاصي والكبائر‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع الإخلاص ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل، فنزلت هذه الآية فخافوا الكبائر بعده أن تحبط الأعمال‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ لا تمنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبطلوا أعمالكم، نزلت في بني أسد، وسنذكره في سورة الحجرات إن شاء الله تعالى‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ‏}‏ قيل‏:‏ هم أصحاب القليب‏.‏ وحكمها عام‏.‏

‏{‏فَلا تَهِنُوا‏}‏ لا تضعفوا ‏{‏وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ‏}‏ أي لا تدعوا إلى الصلح ابتداء، منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا، ‏{‏وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ‏}‏ الغالبون، قال الكلبي‏:‏ آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات، ‏{‏وَاللَّهُ مَعَكُمْ‏}‏ بالعون والنصرة، ‏{‏وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ‏}‏ لن ينقصكم شيئًا من ثواب أعمالكم، يقال‏:‏ وتره يتره وترًا وَتِرَةً‏:‏ إذا نقص حقه، قال ابن عباس، وقتادة، ومقاتل، والضحاك‏:‏ لن يظلمكم أعمالكم الصالحة بل يؤتيكم أجورها‏.‏ ثم حض على طلب الآخرة فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ‏}‏ باطل وغرور، ‏{‏وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا‏}‏ الفواحش، ‏{‏يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ‏}‏ جزاء أعمالكم في الآخرة، ‏{‏وَلا يَسْأَلْكُمْ‏}‏ ربكم، ‏{‏أَمْوَالَكُمْ‏}‏ لإيتاء الأجر بل يأمركم بالإيمان والطاعة ليثيبكم عليها الجنة، نظيره قوله‏:‏ ‏"‏ما أريد منهم من رزق‏"‏ ‏[‏الذاريات - 57‏]‏، وقيل‏:‏ لا يسألكم محمد أموالكم، نظيره‏:‏ ‏"‏قل ما أسألكم عليه من أجر‏"‏ ‏[‏الفرقان - 57‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ معنى الآية‏:‏ لا يسألكم الله ورسوله أموالكم كلها في الصدقات، إنما يسألانكم غيضًا من فيض، ربع العشر فطيبوا بها نفسًا‏.‏ وإلى هذا القول ذهب ابن عيينة، يدل عليه سياق الآية‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏37 - 38‏]‏

‏{‏إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ ‏(‏37‏)‏ هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ‏}‏ أي يجهدكم ويلحف عليكم بمسألة جميعها، يقال‏:‏ أحفى فلان فلانا إذا جهده، وألحف عليه بالمسألة‏.‏

‏{‏تَبْخَلُوا‏}‏ بها فلا تعطوها‏.‏

‏{‏وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ‏}‏ بغضكم وعداوتكم، قال قتادة‏:‏ علم الله أن في مسألة الأموال خروج الأضغان‏.‏ ‏{‏هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ يعني إخراج ما فرض الله عليكم، ‏{‏فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ‏}‏ بما فرض عليه من الزكاة، ‏{‏وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ‏}‏ عن صدقاتكم وطاعتكم، ‏{‏وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ‏}‏ إليه وإلى ما عنده من الخير‏.‏ ‏{‏وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ‏}‏ بل يكونوا أمثل منكم وأطوع لله منكم‏.‏

قال الكلبي‏:‏ هم كندة والنخع، وقال الحسن‏:‏ هم العجم، وقال عكرمة‏:‏ فارس والروم‏.‏

أخبرنا أبو بكر أحمد بن أبي نصر الكوفاني، أخبرنا أبو محمد عبدالرحمن بن عمر، حدثنا إسحاق النجيبي المصري المعروف بابن النحاس، أخبرنا أبو الطيب الحسن بن محمد الرياش، حدثنا يونس بن عبدالأعلى، حدثنا ابن وهب، حدثنا مسلم بن خالد، عن العلاء بن عبدالرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية‏:‏ ‏"‏وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏"‏، قالوا‏:‏ يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدلوا بنا ثم لا يكونوا أمثالنا‏؟‏ فضرب على فخذ سلمان الفارسي ثم قال‏:‏ ‏"‏هذا وقومه، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس‏"‏‏.‏

سورة الفتح

مدنية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ‏(‏1‏)‏‏}‏

بسم الله الرحمن الرحيم ‏{‏إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا‏}‏

أخبرنا أبو الحسن محمد بن محمد السرخسي، أخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد السرخسي، أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن أبيه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، ثم سأله فلم يجبه، فقال عمر‏:‏ ثكلتك أمك يا عمر نزرتَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، كل ذلك لا يجيبك، قال عمر‏:‏ فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس، وخشيت أن ينزل فيّ قرآن، فما لبثت أن سمعت صارخًا يصرخ بي، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، فقال‏:‏ ‏"‏لقد أنزلت عليّ الليلة سورة لهي أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ‏:‏ ‏"‏إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي، أخبرنا أبو عمر بكر بن محمد المزني، حدثنا أبو بكر محمد بن عبدالله حفيد العباس بن حمزة، حدثنا الحسين بن الفضل البجلي، حدثنا عفان، حدثنا همام، حدثنا قتادة، حدثنا أنس قال‏:‏ نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا‏"‏ إلى آخر الآية، مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطهم الحزن والكآبة، فقال‏:‏ ‏"‏نزلت عليّ آية هي أحب إلي من الدنيا جميعًا‏"‏، فلما تلاها نبي الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم‏:‏ هنيئًا مريئًا لك قد بَيَّن الله لك ما يفعل بك، فماذا يفعل بنا‏؟‏ فأنزل الله الآية التي بعدها‏:‏ ‏"‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار‏"‏، حتى ختم الآية‏.‏

اختلفوا في هذا الفتح‏:‏ روي عن أبي جعفر الرازي عن قتادة عن أنس‏:‏ أنه فتح مكة، وقال مجاهد‏:‏ فتح خيبر‏.‏ والأكثرون على أنه صلح الحديبية‏.‏

ومعنى الفتح فتح المنغلق، والصلح مع المشركين بالحديبية كان متعذرًا حتى فتحه الله عز وجل‏.‏ ورواه شعبة عن قتادة عن أنس‏:‏ ‏"‏إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا‏"‏، قال‏:‏ الحديبية‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبيدالله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال‏:‏ تعدون أنتم الفتح فتح مكة، وقد كان فتح مكة فتحًا، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان، يوم الحديبية كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة، والحديبية بئر، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاها فجلس على شفيرها، ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها فتركناها غير بعيد، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا‏.‏

وقال الشعبي في قوله‏:‏ ‏"‏إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا‏"‏، قال‏:‏ فتح الحديبية، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأُطْعِموا نخل خيبر، وبلغ الهدي محله، وظهرت الروم على فارس، ففرح المؤمنون بظهور أهل الكتاب على المجوس‏.‏

قال الزهري‏:‏ لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، وذلك أن المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم، أسلم في ثلاث سنين خلق كثير، وكثر بهم سواد الإسلام‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا‏"‏، أي قضينا لك قضاء بَيِّنًا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إنا فتحنالك فتحًا مبينًا بغير قتال، وكان الصلح من الفتح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏2‏)‏‏}‏

قيل‏:‏ اللام في قوله‏:‏ ‏{‏لِيَغْفِرَ‏}‏ لام كي، معناه‏:‏ إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا لكي يجتمع لك مع المغفرة تمام النعمة في الفتح‏.‏

وقال الحسين بن الفضل‏:‏ هو مردود إلى قوله‏:‏ ‏"‏واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات‏"‏ ‏[‏محمد - 19‏]‏ ‏"‏ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ‏"‏ و‏"‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات‏"‏ الآية‏.‏

وقال محمد بن جرير‏:‏ هو راجع إلى قوله‏:‏ ‏"‏إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجًا فسبح بحمد ربك واستغفره‏"‏ ‏[‏النصر‏:‏ - 3‏]‏ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة، وما تأخر إلى وقت نزول هذه السورة‏.‏

وقيل‏:‏ ‏{‏وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ مما يكون، وهذا على طريقة من يجوز الصغائر على الأنبياء‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ ‏{‏مَا تَقَدَّمَ‏}‏ مما عملت في الجاهلية، ‏{‏وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ كل شيء لم تعمله، ويذكر مثل ذلك على طريق التأكيد، كما يقال‏:‏ أعطى من رآه ومن لم يره، وضرب من لقيه ومن لم يلقه‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ ‏{‏مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ‏}‏ يعني ذنب أبويك آدم وحواء ببركتك، ‏{‏وَمَا تَأَخَّرَ‏}‏ ذنوب أمتك بدعوتك‏.‏

‏{‏وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ‏}‏ بالنبوة والحكمة، ‏{‏وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏}‏ أي يثبتك عليه، والمعنى ليجتمع لك مع الفتح تمام النعمة بالمغفرة والهداية إلى الصراط المستقيم وهو الإسلام‏.‏ وقيل‏:‏ ويهديك أي يهدي بك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏3 - 4‏]‏

‏{‏وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ‏(‏3‏)‏ هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا‏}‏ غالبًا‏.‏ وقيل‏:‏ معزًا‏.‏

‏{‏هُوَ الَّذِي أَنزلَ السَّكِينَةَ‏}‏ الطمأنينة والوقار، ‏{‏فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ لئلا تنزعج نفوسهم لما يرد عليهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كل سكينة في القرآن فهي طمأنينة إلا التي في سورة البقرة، ‏{‏لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ‏}‏‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ بعث الله رسوله بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوه زادهم الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الجهاد، حتى أكمل لهم دينهم، فكلما أمروا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقًا إلى تصديقهم‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ يقينًا مع يقينهم‏.‏

قال الكلبي‏:‏ هذا في أمر الحديبية حين صدق الله رسوله الرؤيا بالحق‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 10‏]‏

‏{‏لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏5‏)‏ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ‏(‏6‏)‏ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏7‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ‏(‏8‏)‏ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا ‏(‏9‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏10‏)‏‏}‏

‏{‏لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا‏}‏ وقد ذكرنا عن أنس أن الصحابة قالوا لما نزل ‏"‏ليغفر لك الله‏"‏‏:‏ هنيئًا مريئًا فما يفعل بنا فنزل‏:‏ ‏"‏ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات‏"‏ الآية‏.‏

‏{‏وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ‏}‏ أهل النفاق بالمدينة وأهل الشرك بمكة، ‏{‏الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ‏}‏ أن لن ينصر محمدًا والمؤمنين، ‏{‏عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ‏}‏ بالعذاب والهلاك، ‏{‏وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏‏.‏

‏{‏وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ‏}‏ أي تعينوه وتنصروه، ‏{‏وَتُوَقِّرُوهُ‏}‏ تعظموه وتفخموه هذه الكنايات راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وها هنا وقف، ‏{‏وَتُسَبِّحُوهُ‏}‏ أي تسبحوا الله يريد تصلوا له، ‏{‏بُكْرَةً وَأَصِيلا‏}‏ بالغداة والعشي، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو‏:‏ ‏"‏وليؤمنوا، ويعزروه، ويوقروه، ويسبحوه‏"‏ بالياء فيهن لقوله‏:‏ في ‏"‏قلوب المؤمنين‏"‏، وقرأ الآخرون بالتاء فيهن‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ‏}‏ يا محمد بالحديبية على أن لا يفروا، ‏{‏إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ‏}‏ لأنهم باعوا أنفسهم من الله بالجنة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن يزيد بن أبي عبيد قال‏:‏ قلت لسلمة بن الأكوع‏:‏ علي أي شيء بايعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية‏؟‏ قال‏:‏ على الموت‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، عن مسلم بن الحجاج، حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا يزيد بن زريع، عن خالد، عن الحكم بن عبد الله بن الأعرج، عن معقل بن يسار، قال‏:‏ لقد رأيتني يوم الشجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع الناس، وأنا رافع غصنًا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال‏:‏ لم نبايعه على الموت ولكن بايعناه على أن لا نفر‏.‏

قال أبو عيسى‏:‏ معنى الحديثين صحيح بايعه جماعة على الموت، أي لا نزال نقاتل بين يديك ما لم نقتل، وبايعه آخرون، وقالوا‏:‏ لا نفر‏.‏

‏{‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ يد الله بالوفاء بما وعدهم من الخير فوق أيديهم‏.‏

وقال السدي‏:‏ كانوا يأخذون بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبايعونه، ويد الله فوق أيديهم في المبايعة‏.‏

قال الكلبي‏:‏ نعمة الله عليهم في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة‏.‏

‏{‏فَمَنْ نَكَثَ‏}‏ نقض البيعة، ‏{‏فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ‏}‏ عليه وباله، ‏{‏وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ‏}‏ ثبت على البيعة، ‏{‏فَسَيُؤْتِيهِ‏}‏ قرأ أهل العراق ‏"‏فسيؤتيه‏"‏ بالياء، وقرأ الآخرون بالنون، ‏{‏أَجْرًا عَظِيمًا‏}‏ وهو الجنة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏11‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏11‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأعْرَابِ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد‏:‏ يعني أعراب غفار ومزينة وجهينة، وأشجع وأسلم، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمرًا استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ليخرجوا معه حذرًا من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت، فأحرم بالعمرة وساق معه الهدي ليعلم الناس أنه لا يريد حربًا، فتثاقل عنه كثير من الأعراب وتخلفوا واعتلوا بالشغل، فأنزل الله تعالى فيهم‏:‏ ‏"‏سيقول لك المخلفون من الأعراب‏"‏ يعني الذين خلفهم الله عز وجل عن صحبتك، إذا انصرفت إليهم فعاتبهم على التخلف‏.‏

‏{‏شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا‏}‏ يعني النساء والذراري، أي لم يكن لنا من يخلفنا فيهم ‏{‏فَاسْتَغْفِرْ لَنَا‏}‏ تخلفنا عنك، فكذبهم الله عز وجل في اعتذارهم، فقال‏:‏

‏{‏يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ‏}‏ من أمر الاستغفار، فإنهم لا يبالون استغفر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أو لا‏.‏

‏{‏قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا‏}‏ ‏[‏سوءًا‏]‏، ‏{‏أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏ضرا‏"‏ بضم الضاد، وقرأ الآخرون بفتحها لأنه قابله بالنفع والنفع ضد الضر، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع بالسلامة في أنفسهم وأموالهم، فأخبرهم أنه‏:‏ إن أراد بهم شيئًا من ذلك لم يقدر أحد على دفعه‏.‏ ‏{‏بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12 - 14‏]‏

‏{‏بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ‏(‏12‏)‏ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ‏(‏13‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا‏}‏ أي ظننتم أن العدو يستأصلهم فلا يرجعون، ‏{‏وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم، ‏{‏وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ‏}‏ وذلك أنهم قالوا‏:‏ إن محمدًا وأصحابه أكلة رأس، فلا يرجعون، فأين تذهبون معه، انتظروا ما يكون من أمرهم‏.‏ ‏{‏وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا‏}‏ هلكى لا تصلحون لخير‏.‏

‏{‏وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 16‏]‏

‏{‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلا قَلِيلا ‏(‏15‏)‏ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏16‏)‏‏}‏

‏{‏سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ‏}‏ يعني هؤلاء الذين تخلفوا عن الحديبية، ‏{‏إِذَا انْطَلَقْتُمْ‏}‏ سرتم وذهبتم ‏[‏أيها المؤمنون‏]‏، ‏{‏إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا‏}‏ يعني غنائم خيبر، ‏{‏ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ‏}‏ إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها، وذلك أنهم لما انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خيبر وجعل غنائمها لمن شهد الحديبية خاصة عوضًا عن غنائم أهل مكة إذا انصرفوا عنهم على صلح ولم يصيبوا منهم شيئًا‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏كلم الله‏"‏ بغير ألف جمع كلمة، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏كلام الله‏"‏، يريدون أن يغيروا مواعيد الله تعالى لأهل الحديبية بغنيمة خيبر خاصة‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ يعني أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن لا يسير منهم أحد‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ هو قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدًا‏"‏ ‏[‏التوبة - 83‏]‏، والأول أصوب، وعليه عامة أهل التأويل‏.‏

‏{‏قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا‏}‏ إلى خيبر، ‏{‏كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب، ‏{‏فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا‏}‏ أي يمنعكم الحسد من أن نصيب معكم الغنائم، ‏{‏بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ‏}‏ لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من الدين، ‏{‏إِلا قَلِيلا‏}‏ منهم وهو من صدق الله والرسول‏.‏

‏{‏قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ‏}‏ قال ابن عباس، ومجاهد، ‏[‏وعطاء‏]‏‏:‏ هم أهل فارس‏.‏ وقال كعب‏:‏ هم الروم، وقال الحسن‏:‏ فارس والروم‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ هوازن وثقيف‏.‏ وقال قتادة‏:‏ هوازن وغطفان يوم حنين‏.‏ وقال الزهري، ومقاتل، وجماعة‏:‏ هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب‏.‏

قال رافع بن خديج‏:‏ كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة، فعلمنا أنهم هم‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ دعاهم عمر رضي الله عنه إلى قتال فارس‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ لم تأت هذه الآية بعد‏.‏

‏{‏تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا‏}‏ يعني الجنة، ‏{‏وَإِنْ تَتَوَلَّوْا‏}‏ ‏[‏تعرضوا‏]‏ ‏(‏10‏)‏ ‏{‏كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ‏}‏ عام الحديبية، ‏{‏يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ وهو النار، فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة‏:‏ كيف بنا يا رسول الله‏؟‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏17‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ‏}‏ ‏[‏يعني في التخلف عن الجهاد‏]‏، ‏{‏وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام ‏"‏ندخله‏"‏ و ‏"‏نعذبه‏"‏ بالنون فيهما، وقرأ الآخرون بالياء لقوله‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ‏}‏‏.‏